ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 26-03-2022 08:11 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 461 الى صـ 465
الحلقة (91)

[ ص: 461 ] ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غيره. فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضي اعتكافه. وقال الضحاك: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء. وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد: إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية. قال ابن أبي حاتم: روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وقتادة، والضحاك، والسدي، والربيع ابن أنس، ومقاتل قالوا: لا يقربها وهو معتكف.

قال ابن كثير: وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء: أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجده ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها ; فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك - من قضاء الغائط أو الأكل - وليس له أن يقبل امرأته، ولا أن يضمها إليه، ولا أن يشتغل بشيء سوى اعتكافه.

ثم قال ابن كثير: المراد بالمباشرة: الجماع ودواعيه: من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك. فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به. فقد ثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض. وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. وفي " الصحيحين " أيضا: أن صفية أم المؤمنين كانت تزور [ ص: 462 ] النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد. فتتحدث عنده ساعة ثم ترجع إلى منزلها. فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى يبلغها دارها، وذلك في الليل.

تنبيهان:

الأول: قال الراغب: ظاهر ذكر المساجد يقتضي جواز الاعتكاف في كل مسجد.

الثاني: في ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام. كما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده. ثم إن حقيقة الاعتكاف: هو المكث في بيت الله تقربا إليه. وهو من الشرائع القديمة.

وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف: لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا وعلى جمعيته على الله. ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى. فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى. وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام ; مما يزيده شعثا، ويشتته في كل واد، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه - اقتضت رحمة العزيز الرحيم لعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى. وشرعه بقدر [ ص: 463 ] المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه. ولا يضره ولا يقطعه من مصالحه العاجلة والآجلة. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه ; عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته. فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم به كله، والخطرات كلها بذكره. والفكرة في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيكون أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه. فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم. ولما كان المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرا قط. بل قد قالت عائشة: لا اعتكاف إلا بصوم. ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم. فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف، أن الصوم شرط في الاعتكاف. وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية. وأما الكلام: فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة. وأما فضول المنام: فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو أفضل من السهر وأحمد عاقبة: وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن، ولا يعوق عن مصلحة العبد. ومدار أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة. وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي، ولم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين. ثم قال:

كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل. وتركه مرة فقضاه في شوال. واعتكف مرة - في العشر الأول، ثم الأوسط، ثم العشر الأخير - يلتمس ليلة القدر، ثم تبين له أنها في العشر الأخير، فداوم على اعتكافه حتى [ ص: 464 ] لحق بربه عز وجل. وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل. وكان إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخله. فأمر به مرة فضرب. فأمر أزواجه بأخبيتهن فضربت. فلما صلى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية. فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال. وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام. فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما. وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنة مرة. فلما كان ذلك العام عارضه به مرتين، ولم يباشر امرأة من نسائه - وهو معتكف - لا بقبلة ولا بغيرها. وكان إذا اعتكف طرح له فراشه، ووضع له سريره في معتكفه. وكان إذا خرج لحاجته مر بالمريض، وهو على طريقه، فلا يعرج له إلا سأل عنه. واعتكف مرة في قبة تركية. وجعل على سدتها حصيرا. كل هذا تحصيلا لمقصود الاعتكاف وروحه.

تلك حدود الله فلا تقربوها يعني: تلك الأحكام التي ذكرت في الصيام والاعتكاف: من تحريم الأكل والشرب والجماع. وشبه تلك الأحكام بالحدود الحاجزة بين الأشياء لكونها حاجزة بين الحق والباطل. فإن من عمل بها كان في حيز الحق، ومن خالفها وقع في الباطل. ونهى عن قربها كيلا يداني الباطل، فضلا من أن يتخطى إليه. فالنهي عن مكان القرب من الحدود التي هي الأحكام، كناية عن النهي عن قرب الباطل ; لكون الأول لازما للثاني. وبذلك يحصل الجمع بين هذه الآية وآية: تلك حدود الله فلا تعتدوها [ ص: 465 ] ويندفع التنافي. وقوله: فلا تقربوها أبلغ من: {لا تعتدوها } لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق التصريح: كذلك يبين الله آياته للناس أي: كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه - في هذا الموضع - يبين للناس ما شرعه لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: لعلهم يتقون المحارم فيعرفون كيف يطيعون ويهتدون. كما قال تعالى: هو الذي ينـزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم

قال الرازي: والغرض من قوله تعالى: كذلك إلخ تعظيم حال البيان، وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان.

وفيه أيضا تقرير للأحكام السابقة، والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل التقوى.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 26-03-2022 08:11 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 466 الى صـ 470
الحلقة (92)

القول في تأويل قوله تعالى:

[188] ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون

ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل بذلك آكل مال أخيه بالباطل [ ص: 466 ] كالآكل مال نفسه بالباطل، ونظير ذلك قوله تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم وقوله: ولا تقتلوا أنفسكم بمعنى: لا يلمز بعضكم بعضا ولا يقتل بعضكم بعضا ; لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة. وكذلك تفعل العرب. تكني عن أنفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها ; لأن أخا الرجل عندها كنفسه. فتأويل الكلام: ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل. وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.اهـ.

وبينكم: إما ظرف لـ " تأكلوا " بمعنى: لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل، أو حال من الأموال أي: لا تأكلوها كائنة بينكم ودائرة بينكم. وبالباطل في موضع نصب بـ " تأكلوا " أي: لا تأخذوها بالسبب الباطل - أي: الوجه الذي لم يبحه الله تعالى - ويجوز أن يكون حالا من الأموال أي: لا تأكلوها متلبسة بالباطل. أو من الفاعل في تأكلوا أي: لا تأكلوها مبطلين، أي: متلبسين بالباطل: وتدلوا بها إلى الحكام أي: تخاصموا بها - أي: بأموالهم - إلى الحكام، مجزوم عطفا على النهي. ويؤيده قراءة أبي: {ولا وتدلوا } بإعادة لا الناهية والإدلاء: مأخوذ من إدلاء الدلو، وهو: إرسالها في البئر للاستقاء، ثم استعير لكل إلقاء قول أو فعل توصلا إلى شيء. ومنه يقال للمحتج: [ ص: 467 ] أدلى بحجته. كأنه يرسلها ليصير إلى مراده. كإدلاء المستقي للدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء. وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم: إذا كان منتسبا إليه، فيطلب الميراث بتلك النسبة. فالباء صفة الإدلاء تجوزا به عن الإلقاء كما ذكرنا. والمعنى: لا تلقوا أمرها - والحكومة فيها - إلى الحكام. أو لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش - وهو الواسطة الذي يمشي بينهما - رواه أهل السنن. وذلك لأن ولي الأمر إذا أكل هذا السحت - أعني الرشوة المسماة: بالبرطيل وتسمى أحيانا: بالهدية وغيرها - احتاج أن يسمع الكذب من الشهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان. وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا مقصود الولاية. وإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك. وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين. والحكام: جمع حاكم، وهو: منفذ الحكم بين الناس كالحكم، محركة لتأكلوا أي: بواسطة حكمهم الفاسد وبالتحاكم إليهم: فريقا - أي: طائفة وقطعة -: من أموال الناس بالإثم بما يوجب إثما - كشهادة الزور واليمين الفاجرة، وحكمهم الفاسد - فإنه لا يفيد الحل والظلم. فالباء للسببية. متعلقها لتأكلوا. وجوز كونها للمصاحبة. فالمجرور حال من فاعل لتأكلوا أي: متلبسين بالإثم: وأنتم تعلمون أي: أنكم على الباطل. وارتكاب المعصية - مع العلم بقبحها - أقبح، وصاحبه أحق بالتوبيخ، فالتقييد لكمال تقبيح حالهم.

قال الراغب: أي: إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم، تنبيها على أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه، وما علمتم منه لا بما يظهر.

[ ص: 468 ] وقال ابن كثير في " تفسيره ": قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذه الآية في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام. وهو يعرف أن الحق عليه. وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام. وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار. فليحملها أو ليذرها» . فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر. فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حلال، ولا يحرم باطلا هو حلال. وإنما هو ملزم في الظاهر. فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره، وعلى المحتال وزره. ولهذا قال تعالى في آخر الآية: وأنتم تعلمون أي: تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم. قال قتادة: اعلم يا بني آدم...! أن قضاء القاضي لا يحل حراما، ولا يحق لك باطلا، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب. واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة. فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا.
[ ص: 469 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[189] يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون .

يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت. وروى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم. قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو - أو يطلع - دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حال واحد؟ فنزلت.

ومعنى كونها: مواقيت للناس معالم لهم في حل دينهم، ولصومهم، ولفطرهم، وأوقات حجهم، وأجائرهم، وأوقات الحيض، وعدد نسائهم، والشروط التي إلى أجل، فكل هذا مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر زيادة ونقصا. ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة.

قال بعض المفسرين: ثمرة الآية: أن الأحكام الشرعية - كالزكاة والعدد للنساء والحمل تتعلق بشهور الأهلة لا بشهور الفرس. أما ما تعلق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف من حسابهم، بالأهلة أو بشهور الفرس. فهذا حكم، وذاك حكم آخر.

وقد ذكر تعالى هذا المعنى في آيات، كقوله سبحانه: وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب وقوله: فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب [ ص: 470 ] أي: من غير افتقار إلى مراجعة المنجم وحساب الحاسب ; رحمة منه تعالى وفضلا. وإفراد الحج بالذكر هنا تنويها بشأنه.

وقال القفال: نكتة إفراده: بيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه. وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر، كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء. والله أعلم.

والجمهور على فتح حاء الحج والحسن على كسرها في جميع القرآن. قال سيبويه: هما مصدران كالرد والذكر. وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم. والأهلة: جمع هلال. وجمعه باختلاف زمانه. وهو: غرة القمر إلى ثلاث ليال أو سبع، ثم يسمى قمرا، وليلة البدر لأربع عشرة.

قال أبو العباس: سمي الهلال هلالا: لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، وسمي بدرا: لمبادرته الشمس بالطلوع كأنه يجعلها المغيب. ويقال: سمي بدرا: لتمامه وامتلائه، وكل شيء تم فهو بدر.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 26-03-2022 08:12 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 471 الى صـ 475
الحلقة (93)

تنبيه:

الجواب على الرواية الثانية في سبب نزول الآية من الأسلوب الحكيم. وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب - بتنزيل سؤاله منزلة غيره ; تنبيها للسائل على أن ذلك الغير هو الأولى بحاله أو المهم له. فلما سألوا عن السبب الفاعلي للتشكلات النورية في الهلال، أجيبوا بما ترى من السبب الغائي ; تنبيها على أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم ; لأن درك الأسباب الفاعلية لتلك التشكلات مبني على أمور من علم الهيئة لا عناية للشرع بها. فلو [ ص: 471 ] أجيبوا: بأن اختلاف تشكلات الهلال، بقدر محاذاته للشمس، فإذا حاذاها طرف منه استنار ذلك الطرف. ثم تزداد المحاذاة والاستنارة، حتى إذا تمت بالمقابلة امتلأ. ثم تنقص المحاذاة والاستنارة حتى إذا حصل الاجتماع أظلم بالكلية ; لكان هذا الجواب اشتغالا بعلم الهيئة الذي لا ينتفع به في الدين، ولا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من اقتبس علما من النجوم اقتبس بابا من السحر، زاد ما زاد » . أخرجه الإمام أحمد. وأبو داود، وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال علي رضي الله عنه: من طلب علم النجوم تكهن. وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: « علم لا ينفع، وجهل لا يضر » . والمقصود أن الجواب، على الرواية الثانية من الأسلوب الحكيم ; إشعارا بأن الأولى السؤال عن الحكمة فيه.

قال السكاكي في " المفتاح ": ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفننة، إذ ما من مقتضى كلام ظاهري إلا ولهذا النوع مدخل فيه بجهة من جهات البلاغة. ترشد إليه تارة بالتصريح، وتارة بالفحوى. ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها، ولا كأسلوب الحكيم فيها، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب كما قال:

[ ص: 472 ]
أتت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي

فقلت كأني ما سمعت كلامها:
هم الضيف جدي في قراهم وعجلي


أو السائل بغير ما يتطلب كما قال تعالى: يسألونك عن الأهلة الآية، قالوا في السؤال: ما بال الهلال يبدو دقيقا...! إلخ؟ فأجيبوا بما ترى. وكما قال: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل سألوا عن بيان ما ينفقون، فأجيبوا ببيان المصرف. ينزل سؤال السائل منزلة سؤال غير سؤاله، لتوخي التنبيه له بألطف وجه على تعديه عن موضع سؤال هو أليق بحاله أن يسأل عنه، أو أهم له إذا تأمل، وأن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور، وأبرزه في معرض المسحور ; وهل ألان شكيمة الحجاج لذلك الخارجي، وسل سخيمته، حتى آثر أن يحسن، على أن يسيء ; غير أن سحره بهذا الأسلوب؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله: " لأحملنك على الأدهم! " فقال متغابيا: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب! مبرزا وعيده في معرض الوعد، متوصلا أن يريه بألطف وجه: أن امرأ مثله - في مسند الإمرة المطاعة - خليق بأن يصفد لا أن يصفد، وأن يعد لا أن يوعد.

وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون

قال الراغب في " تفسيره ": الباب معروف. وعنه استعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها. وقيل في العلم: باب كذا. وقد سئل عليه السلام عن زيادة القمر ونقصانه، فأنزل الله هذه الآية تنبيها على أظهر فائدته للحس، وأبينها له. ثم قال: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ ص: 473 ] أي: بأن تطلبوا الأمر من غير وجهه. وذلك أنه يقال: أتى فلان البيت من بابه - إذا طلب الشيء من وجهه. وقال الشاعر:


أتيت المروءة من بابها


وأتى البيت من ظهره: إذا طلب الأمر من غير وجهه. وجعل ذلك مثلا لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة. وإن ذلك عدول عن المنهج، وذلك أن العلوم ضربان:

دنيوي: يتعلق بأمر المعاش - كمعرفة الصنائع. ومعرفة حركات النجوم ومعرفة المعادن، والنبات، وطبائع الحيوانات، وقد جعل لنا سبيلا إلى معرفته على غير لسان نبيه عليه السلام.

وشريعة: وهو البر: ولا سبيل إلى أخذه إلا من جهته وهو أحكام التقوى...

فلما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم، عما أمكنهم معرفته من غير جهته، أجابهم، ثم بين لهم أنه ليس البر ترك المنهج في السؤال من النبي ما ليس مختصا بعلم نبوته. ولكن البر هو مجرد التقوى. وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين.

وقال أبو مسلم الأصفهاني: المراد من هذه الآية، ما كانوا يعملونه من النسيء. فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له. فيحرمون الحلال ويحللون الحرام. فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره.

وأما ما رواه البخاري وغيره عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا. كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك، فنزلت: وليس البر الآية، فالمراد من نزولها في ذلك، صدقها عليه حسبما رآه لا أن ذلك كان سبب نزولها. كما بينا مرارا معنى قولهم: نزلت الآية في كذا.

[ ص: 474 ] وقد أشار لهذا الراغب - بعد حكايته هذه الرواية، وما قاله أبو مسلم - بقوله: وكل ذلك لا يدفع أن تتناوله الآية، لكن الأليق أن تؤول الآية بما تقدم ذكره من أن معنى: وأتوا البيوت من أبوابها أي: تحروا في كل عمل إتيان الشيء من وجهه، تنبيها على أن ما يطلب من غير وجهه صعب تناوله. ثم قال: واتقوا الله حثا لنا أن نجعل تقوى الله شعارنا في كل ما نتحراه. وبين أن ذلك ذريعة إلى تحصيل الفلاح.
القول في تأويل قوله تعالى:

[190] وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .

وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم المقاتلة في سبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين. وفي قوله: الذين يقاتلونكم تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله. أي: كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم. كما قال: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ولا تعتدوا أي: بابتداء القتال. أو بقتال من نهيتم عن قتاله، من النساء، والشيوخ، والصبيان، وأصحاب الصوامع، والذين بينكم وبينهم عهد. أو بالمثلة، أو بالمفاجأة من غير دعوة إن الله لا يحب المعتدين أي: المتجاوزين حكمه في هذا وغيره.
[ ص: 475 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[191] واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين .

واقتلوهم أي: الذين يقاتلونكم: حيث ثقفتموهم أي: وجدتموهم: وأخرجوهم من حيث أخرجوكم أي: من مكة. فإن قريشا أخرجوا المسلمين منها. والمسلمون أخرجوا المشركين يوم الفتح والفتنة أشد من القتل أي: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل. أي: إن فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم - بالتعذيب، والإخراج من الوطن، والمصادرة في المال - أشد قبحا من القتل فيه. إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه. ورآه سعادة له في عاقبة أمره. فالجملة دفع لما قد يقع من استعظام قتلهم في مثل الحرم، وإعلام بأن القصاص منهم بالقتل دون جرمهم بفتنة المؤمنين، لأن الفتنة أشد من القتل: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه لأن حرمته لذاته. وحرمة سائر الحرم من أجله. وهذا بمثابة الاستثناء من قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم فإن قاتلوكم أي: فيه فلا تفتقرون إلى الفرار عن الحرم: فاقتلوهم فيه، إذ لا حرمة لهم لهتكهم حرمة المسجد الحرام: كذلك جزاء الكافرين لا يترك لهم حرمة كما لم يتركوا حرمة الله في آياته.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 26-03-2022 08:13 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 476 الى صـ 480
الحلقة (94)

تنبيه:

دلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم، إذا بدأوا بالقتال فيه، دفعا لصوتهم، [ ص: 476 ] كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألب عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ. ثم كف الله القتال بينهم فقال: وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وقال صلى الله عليه وسلم لخالد ومن معه يوم الفتح: « إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا » ... فما عرض لهم أحد إلا أناموه، وأصيب من المشركين نحو اثني عشر رجلا. كما في السيرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[192] فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم .

فإن انتهوا أي: عن القتال: فإن الله غفور رحيم أي: فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم تخلقا بصفتي الحق تعالى المذكورتين وهما: المغفرة والرحمة، هذا ظاهر المساق.

وقال بعضهم: فإن انتهوا أي: عن الشرك والقتال: فإن الله غفور لما سلف من طغيانهم: رحيم بقبول توبتهم وإيمانهم.
[ ص: 477 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[193] وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين

وقاتلوهم أي: هؤلاء الذين نسبناهم إلى قتالكم وإخراجكم وفتنكم: حتى لا تكون - أي: لا توجد في الحرم -: فتنة أي: تقو بسببه يفتنون الناس عن دينهم، ويمنعونهم من إظهاره والدعوة إليه: ويكون الدين لله خالصا أي: لا يعبد دونه شيء في الحرم، ولا يخشى فيه غيره، فلا يفتن أحد في دينه، ولا يؤذى لأجله.

وفي " الصحيحين " عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» .

فإن انتهوا عن قتالكم في الحرم: فلا عدوان فلا سبيل لكم بالقتل: إلا على الظالمين المبتدئين بالقتل.

وروى البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد ضيعوا، وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي..! قالا: ألم يقل الله: [ ص: 478 ] وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.

ثم ساق البخاري رواية أخرى وفيها: قال ابن عمر: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه وإما يعذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[194] الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين

.

وقوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام إيذان بأن مراعاة حرمة الشهر واجبة لمن راعى حرمته، وإن من هتكها اقتص منه، فهتك حرمته بهتكهم حرمته. فكما يقاتلون عند المسجد الحرام - إذا قاتلوا فيه - يقاتلون في الشهر الحرام إذا قاتلوا فيه.

وقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى - أو يغزوا - فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ. ولهذا لما سار صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، سنة ست معتمرا، وخيم بالحديبية، وبلغه أن عثمان قتل - وكان بعثه في رسالة إلى المشركين بايع أصحابه وكانوا ألفا وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين. فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان. وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصن فلهم بالطائف عدل إليها فحاصرها، ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق. واستمر عليها إلى كمال أربعين يوما. كما ثبت في " الصحيحين " عن أنس. فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها، [ ص: 479 ] ولم تفتح. ثم كر راجعا إلى مكة، واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضا عام ثمان.

والحرمات قصاص أي: متساوية، فلا يفضل شهر حرام على آخر، بحيث يمتنع هتك حرمته لهتكهم حرمة ما دونه، على أنا لا نهتك حرمة الشهر والمسجد الحرام والحرم، بل نهتك حرمة من هتك حرمة أحدها - قاله المهايمي.

والحرمات: جمع حرمة، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك. والقصاص: المساواة. والكلام على حذف المضاف. أي: ذوات قصاص، أو المصدر بمعنى المفعول، أي: مقاصة، أو الحمل بطريق المبالغة فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم أمر بالعدل حتى في المشركين، كما قال: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وقال: وجزاء سيئة سيئة مثلها واتقوا الله في هتك حرمة الشهر والمسجد والحرم بدون هتكهم، وفي زيادة الاعتداء: واعلموا أن الله مع المتقين أي: بالمعونة والنصر والحفظ والتأييد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[195] وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين

وأنفقوا في سبيل الله أمر بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات. ومن أهمها: صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم.

[ ص: 480 ] وقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أي: ما يؤدي إلى الهلاك أي: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، وذلك بالتعرض لما تستوخم عاقبته، جهلا به.

وقال الراغب: وللآية تأويلان بنظرين:

أحدهما: إنه نهي عن الإسراف في الإنفاق، وعن التهور في الإقدام.

والثاني: إنه نهي عن البخل بالمال، وعن القعود عن الجهاد. وكلا المعنيين يراد بها. فالإنسان، كما أنه منهي عن الإسراف في الإنفاق، والتهور في الإقدام، فهو منهي عن البخل والإحجام عن الجهاد، ولهذا قال تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية، وقال: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك الآية.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 26-03-2022 08:14 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 481 الى صـ 485
الحلقة (95)


ولما كان أمر الإنفاق أخص بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال، لتجرد المهاجرين عنها، وقد اشتهر في هذه الآية حديث أبي أيوب الأنصاري، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وغيرهم... ولفظ الترمذي: عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر. وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد. فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل عليهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعز الله [ ص: 481 ] الإسلام، وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو. فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم، هذا حديث حسن غريب صحيح.

أقول: إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إما لكونه لا يقول بعموم اللفظ بل بخصوص السبب، وإما لرد زعم أنها نزلت في القتال. أي: في حمل الواحد على جماعة العدو كما تأولوها. وهذا هو الظاهر. وإلا فاللفظ يقتضي العموم، ووروده على السبب لا يصلح قرينة لقصره على ذلك. ولا شبهة أن التعبد إنما هو باللفظ الوارد وهو عام.

وقد استشهد بعموم الآية عمرو بن العاص فيما رواه ابن أبي حاتم بسنده: أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروا دمشق. فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه عمرو فرده. وقال عمرو: قال الله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

وقد روي في سبب نزولها آثار ضعيفة ساقها ابن كثير وهي - والله أعلم - من باب صدق عمومها على ما رووه.

تنبيه:

قال الحاكم: تدل الآية على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خيف على النفس، وتدل على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف، لأن كل ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة. وتدل على جواز مصالحة الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين. كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. وكما فعله أمير المؤمنين علي عليه السلام بصفين. وكما فعله الحسن عليه السلام من مصالحة معاوية. وتدل أيضا على جواز مصالحة الإمام بشيء من أموال الناس إذا [ ص: 482 ] خشي التهلكة. ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يصالح يوم الأحزاب بثلث ثمار المدينة حتى شاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فأشارا بترك ذلك. وهو لا يعزم إلا على ما يجوز.

لطيفة:

الإلقاء لغة: طرح الشيء، عدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء، والباء مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي. والمراد بالأيدي: الأنفس، فذكر الجزء وإرادة الكل لمزيد اختصاص لها باليد. بناء على أن أكثر ظهور أفعال النفس بها. والتهلكة والهلاك والهلك واحد. فهي مصدر. أي: لا توقعوا أنفسكم في الهلاك.

والتهلكة بضم اللام. قال الخارزنجي: لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة - بضم العين - إلا هذا.

وقال اليزيدي: هو من نوادر المصادر. ولا يجري على القياس.

قال الزمخشري: ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما. على أنها مصدر من هلك. فأبدلت من الكسرة ضمة، كما جاء الجوار في الجوار هذا ما ذكروه.

قال الفخر الرازي - ولله دره - بعد نقله نحو ما سبق: وإني لأتعجب كثيرا من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا شعرا مجهولا يشهد لما أرادوه فرحوا به واتخذوه حجة قوية. فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة - أولى أن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها.

وأحسنوا أي: تحروا فعل الإحسان، أي: الإتيان بكل ما هو حسن، ومن أجله الإنفاق. وقوله: إن الله يحب المحسنين قال الراغب: نبه بإظهار المحبة للمحسنين على شرف منزلتهم وفضيلة أفعالهم.
[ ص: 483 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[196] وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب .

وأتموا الحج والعمرة لله أي: أدوهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله تعالى.

قال الراغب: قيل: أتموا خطاب لمن خرج حاجا أو معتمرا، فأمر أن لا يصرف وجهه حتى يتمهما. وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله، واحتج به في وجوب إتمام كل عبادة دخل فيها الإنسان متنفلا، وأنه متى أفسدها وجب قضاؤها. وقيل: إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة. وذكر لفظ الإتمام تنبيه على توفية حقها وإكمال شرائطها، وعلى هذا قوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله واحتج به في وجوب العمرة. وإنما قال في الحج والعمرة: لله ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة ; من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم، فخصهما بالذكر لله تعالى حثا على الإخلاص فيهما، ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور.

فإن أحصرتم أي: حبسكم عدو عن إتمام الحج أو العمرة وأردتم التحلل: فما استيسر من الهدي أي: فعليكم، أو فالواجب، أو فأهدوا ما استيسر ; يقال: يسر الأمر [ ص: 484 ] واستيسر، كما يقال: صعب واستصعب. والهدي بتخفيف الياء وتشديدها: جمع هدية وهدية، وهو: ما أهدي إلى مكة من النعم لينحر تقربا به إلى الله. قال ثعلب: الهدي بالتخفيف، لغة أهل الحجاز. والتثقيل على فعيل، لغة بني تميم، وسفلى قيس. وقد قرئ بالوجهين جميعا في الآية. وشاهد الهدي مثقلا من كلامهم قول الفرزدق:


حلفت برب مكة والمصلى وأعناق الهدي مقلدات


وشاهد الهدية كذلك، قول ساعدة بن جؤية:


إني وأيديهم وكل هدية مما تثج له ترائب تثعب.


وأعلى الهدي بدنة، وأدناه شاة. والمعنى: أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل، تحلل بذبح هدي تيسر عليه: من بدنة أو بقرة أو شاة.

تنبيه:

قال الراغب: ظاهر قوله تعالى: أحصرتم أنه لا فرق فيه بين أن يحصر بمكة أو بغيرها، وبعد عرفة أو قبلها. وكذلك لا فرق في الظاهر بين أن يحصره عدو مسلم أو غيره. وظاهره يقتضي أنه لا فصل بين إحصار العدو وإحصار المرض. لولا أن الآية نزلت في سبب العدو فلا يجوز أن تتعدى إلا بدلالة. ولأن قوله: فإذا أمنتم يدل على أن المراد بالإحصار هو بالعدو.

وقد يقال: العبرة في أمثاله بعمومه، كما ذهب إليه ثلة من السلف. فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود، وابن الزبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والنخعي، وعطاء، ومقاتل أنهم قالوا: الإحصار من عدو أو مرض أو كسر. وقال الثوري: الإحصار من كل شيء أذاه.

وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير [ ص: 485 ] ابن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية. فقال: « حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني» . ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله.

ومن دلالة الآية ما قاله الراغب: إن ظاهرها يقتضي أن لا قضاء على المحصر ; لأنه قال: فما استيسر من الهدي واقتصر عليه.

ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله أي: الموضع الذي يحل فيه نحره، وهو مكانه الذي يستقر فيه. يعني: موضع الإحصار. وبلوغه إياه كناية عن ذبحه فيه، واستعمال بلوغ الشيء محله في وصوله إلى ما يقصد منه - شائع. ولما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية، وحصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم بها ولم يبعثوا به إلى الحرم.

وقد ساق الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " بعض ما في قصة الحديبية من القواعد الفقهية في فصل قال فيه: ومنها أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر من الحل أو الحرم، وأنه لا يجب عليه أن يواعد من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه، وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله، بدليل قوله تعالى: هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ومنها: أن الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحل لا من الحرم، لأن الحرم كله محل الهدي.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 26-03-2022 08:14 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 486 الى صـ 490
الحلقة (96)


وقال الإمام مالك في " الموطأ ": من حبس بعدو فجال بينه وبين البيت، فإنه يحل [ ص: 486 ] من كل شيء وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء.

قال: فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو، كما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك أي: فمن كان منكم - معشر المحرمين - مريضا مرضا يتضرر معه بالشعر ويحوجه إلى الحلق، أو كان به أذى من رأسه - كجراحة وقمل - فعليه إن حلق، فدية من صيام أو صدقة أو نسك. وقد نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري رضي الله عنه قال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: « ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا..! أما تجد شاة؟ » قلت: لا! قال: « صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك » . فنزلت في خاصة وهي لكم عامة، رواه الشيخان وغيرهما، واللفظ للبخاري. وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي. فمر علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « أيؤذيك هوام رأسك؟ » قلت: نعم. فأمره أن يحلق. قال: ونزلت هذه الآية. قال ابن عباس: إذا كان " أو أو " فأية أخذت أجزأ عنك. وعامة العلماء: أنه يخير في هذا المقام: إن شاء صام وإن شاء تصدق بفرق - وهو ثلاثة آصع، لكل مسكين نصف صاع وهو مدان - وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء، أي: ذلك فعل أجزأه. ولما كان لفظ القرآن في بيان [ ص: 487 ] الرخصة، جاء بالأسهل فالأسهل. ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة، بذلك أرشده أولا إلى الأفضل، فقال: « أما تجد شاة؟ » فكل حسن في مقامه، ولله الحمد والمنة. أفاده ابن كثير.

تنبيه:

استفيد من الآية أحكام:

الأول: جواز الحلق من المحرم واللبس للمخيط للضرورة، ووجوب الفدية عليه، وذلك لبيان سبب النزول.

الثاني: تحريم الحلق ولبس المخيط لغير عذر، وهذا مأخوذ من المفهوم ; لأنه مصرح به، وذلك إجماع.

الثالث: أن الفدية الواجبة تكون من أجناس الثلاثة، وهي: الصيام أو الصدقة، أو النسك، وقد ورد بيانها في حديث كعب.

الرابع: أن الفدية واجبة على التخيير كما بينا.

قال الراغب: وظاهر الآية يقتضي أنه لا فرق بين قليل الشعر وكثيره، بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله، حيث لم يلزم إلا بحلق الثلث. وغيره لم يلزم إلا بحلق الربع.

لطيفة:

أصل النسك العبادة، وسميت ذبيحة الأنعام نسكا ; لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى.

قال أبو البقاء: والنسك - في الأصل - مصدر بمعنى المفعول ; لأنه من نسك ينسك، والمراد به ههنا المنسوك، ويجوز أن يكون اسما لا مصدرا، ويجوز تسكين السين. انتهى.

فإذا أمنتم أي: كنتم آمنين من أول الأمر، أو صرتم بعد الإحصار آمنين: فمن تمتع بالعمرة أي: بإحرامه بها في أشهر الحج ليستفيد الحل حين وصوله إلى البيت، ويستمر حلالا في سفره ذلك: إلى الحج أي: إلى وقت الإحرام بالحج: فما [ ص: 488 ] أي: فعليه ما: استيسر أي: تيسر: من الهدي من النعم، يكون هذا الهدي لأجل ما تمتع به بين النسكين من الحل.

وفي " النهاية " صورة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فإذا أحرم بالعمرة بعد إهلاله شوالا فقد صار متمتعا بالعمرة إلى الحج وسمي به ; لأنه إذا قدم مكة، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة. حل من عمرته وحلق رأسه، وذبح نسكه الواجب عليه لتمتعه، وحل له كل شيء كان حرم عليه في إحرامه من النساء والطيب، ثم ينشئ بعد ذلك إحراما جديدا للحج وقت نهوضه إلى منى، أو قبل ذلك، من غير أن يجب عليه الرجوع إلى الميقات الذي أنشأ منه عمرته، فذلك تمتعه بالعمرة إلى الحج، أي: انتفاعه وتبلغه بما انتفع به من حلق، وطيب، وتنظف، وقضاء تفث، وإلمام بأهله إن كانت معه.

قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد ": وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ذبح هدي العمرة عند المروة، وهدي القران بمنى. وكذلك كان ابن عمر يفعل. ولم ينحر صلى الله عليه وسلم قط إلا بعد أن حل، ولم ينحره قبل يوم النحر ولا أحد من الصحابة البتة.

فمن لم يجد الهدي: فصيام ثلاثة أيام في الحج أي: بعد الإحرام وقبل الفراغ من أعماله، والأولى سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه.

قال الراغب: إن قيل: كيف قال: في الحج ومتى أحرم يوم عرفة لا يمكنه صيام ثلاثة أيام في الحج لأنه منهي عنه في يوم النحر وأيام التشريق؟! قيل: الواجب على المتمتع أن يحرم بالحج على وجه يمكنه الإتيان بالصيام لثلاثة أيام. وذلك بتقديم الإحرام قبل يوم عرفة. وقد قال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام التشريق، ويحملان النهي على صوم أيام منى على غير المتمتع.

وسبعة إذا رجعتم أي: إلى أهليكم، أو إذا أخذتم في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج.

قال الراغب: وإطلاق اللفظ يحتمل الأمرين جميعا، فيصح حمله عليهما.

[ ص: 489 ] إلا أن الذي يرجح الوجه الأول ما روي في الصحيحين من حديث ابن عمر الطويل وفيه: « فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله » .

تلك عشرة فذلك حساب، أي: إجمال بعد تفصيل، وفائدتها: أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو وأن الكلام على التخيير. بل المجموع بدل الهدي..! وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا، فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، وفي المثل: علمان خير من علم. فإن أكثر العرب لا يعرف الحساب. فاللائق الخطاب الذي يفهمه الخاص والعام. وهو ما يكون بتكرار الكلام وزيادة الإفهام...

وفائدة ثالثة: وهو أن المراد بالسبعة: هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما...

وفائدة رابعة: أشار لها الراغب وهو:

إن قوله: تلك عشرة كاملة استطراد في الكلام، وتنبيه على فضيلة علم العدد، ولذا قيل: العدد أول العلوم وأشرفها. أما أنه أول، فلأن ما عداه معدول منه، وبه يفصل ويميز. وأما كونه أشرف، فلأنه لا اختلاف فيه ولا تغير، بل هو لازم طريقة واحدة، فذكر العشرة ووصفها بالكاملة ; إذ هي عدد كمل فيه خواص الأعداد، فإن الواحد مبدأ العدد، والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول عدد زوج محدود - أي: مجتمع من ضرب عدد في نفسه - والخمسة أول عدد دائر، والستة أول عدد تام - أي: إذا أخذ جميع أجزائه لم يزد عليه ولم ينقص منه - والسبعة أول عدد أول - أي: لا يتقدمه عدد بعده - والثمانية أول عدد زوج الزوج - والتسعة أول عدد مثلث، والعشرة أول عدد ينتهي إليه العدد ; لأن ما بعده يكون مكررا بما قبله، فإذن العشرة هي العدد الكامل...

[ ص: 490 ] كاملة صفة مؤكدة لـ (عشرة) تفيد المبالغة في المحافظة على العدد، ففيه زيادة توصية لصيامها، وأن لا يتهاون بها، ولا ينقص من عددها، كأنه قيل: تلك عشرة كاملة، فراعوا كمالها ولا تنقصوها ذلك أي: وجوب دم التمتع أو بدله لمن لم يجد: لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أي: بل كان أهله على مسافة الغيبة منه. وأما من كان أهله حاضريه - بأن يكون ساكنا في مكة - فهو في حكم القرب من الله، فالله تعالى يجبره بفضله.

هذا، وقال بعض المجتهدين: إن ذلك إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله: فمن تمتع وليست للهدي والصوم، فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عنده.

وروى ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة! لا متعة لكم أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا أو قال: يجعل بينه وبين الحرم واديا - ثم يهل بعمرة..!

وروى عبد الرزاق عن طاووس قال: المتعة للناس لا لأهل مكة. ثم قال وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاووس، والله أعلم.

والأهل: سكن المرء من زوج ومستوطن. والحضور: ملازمة الموطن.

واتقوا الله - في الجناية على إحرامه -: واعلموا أن الله شديد العقاب لمن جنى على إحرامه أكثر من شدة الملوك على من أساء الأدب بحضرته. وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif


ابوالوليد المسلم 26-03-2022 08:15 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 491 الى صـ 495
الحلقة (97)

تنبيهات:

الأول: في قوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة الآية، دليل على مشروعية التمتع، كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع [ ص: 491 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء.

وروى مالك في " الموطأ " عن عبد الله عن عمر أنه قال: والله! لأن أعتمر قبل الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة..!.

وفي الصحيحين: « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة » . يعني كما فعل أصحابه صلى الله عليه وسلم عن أمره.

الثاني: قال ابن القيم في " زاد المعاد ": قد ثبت أن التمتع أفضل من الإفراد لوجوه كثيرة:

منها: أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إليه، ومحال أن ينقلهم من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه.

ومنها: أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله: « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها متعة» .

ومنها: أنه أمر به كل من لم يسق الهدي.

ومنها: أن الحج الذي استقر عليه فعله وفعل أصحابه، القران ممن ساق الهدي، والتمتع لمن لم يسق الهدي. ولوجوه كثيرة غير هذه..!.

الثالث: قال الراغب لا يجب الدم أو بدله في التمتع إلا بأربع شرائط:

إيقاع العمرة في أشهر الحج والتحلل منها فيه.

والثاني: أن يثني الحج من سنته.

والثالث: أن لا يرجع إلى الميقات لإنشاء الحج.

الرابع: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام.
[ ص: 492 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[197] الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب .

الحج أي: أوقات أعماله أشهر وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة. أي: عشره الأول. نزل منزلة الكل لغاية فضله.

قال الثعالبي: وقد جاء في تفسير أشهر الحج وعشر ذي الحجة - وفي بعضها تسع - فمن عبر بالتسع أراد الأيام، ومن عبر بالعشر أراد الليالي، ولقوله صلى الله عليه وسلم: « الحج عرفة » . وقد تبينت أنه يفوت الوقوف بطلوع الفجر.

وقوله: معلومات أي: قبل نزول الشرع عند الناس، لا يشكلن عليهم. وآذن هذا أن الأمر بعد الشرع على ما كان عليه: فمن فرض أي: أوجب على نفسه: فيهن الحج بإحرامه: فلا رفث أي: فمقتضى إحرامه أن لا يوجد جماع ولا مقدماته ولا فحش من القول: ولا فسوق أي: خروج عن حدود الشريعة بارتكاب محظورات الإحرام، وغيرها كالسباب والتنابز بالألقاب: ولا جدال أي: مماراة أحد من الرفقة والخدم والمكارين: في الحج أي: في أيامه، بل ينبغي أن يوجد فيها كل خير من خيرات الحج، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه، والإشعار بعلة عدم الحكم ; فإن زيارة البيت المعظم، والتقرب بها إلى الله عز وجل، من موجبات ترك الأمور المذكورة، وإيثار النفي للمبالغة في النهي ; والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يكون، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه، ففي تضاعيف الحج أقبح: كلبس الحرير في الصلاة.

لطيفة:

قال بعضهم: النكتة في منع هذه الأشياء على أنها آداب لسانية: تعظيم شأن الحرم، [ ص: 493 ] وتغليظ أمر الإثم فيه، إذ الأعمال تختلف باختلاف الزمان والمكان، فللملأ آداب غير آداب الخلوة مع الأهل. ويقال في مجلس الإخوان ما لا يقال في مجلس السلطان. ويجب أن يكون المرء في أوقات العبادة والحضور مع الله تعالى على أكمل الآداب، وأفضل الأحوال، وناهيك بالحضور في البيت الذي نسبه الله سبحانه إليه..! وأما السر فيها على أنها محرمات الإحرام، فهو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى، قاصد له، فيتجرد عن عاداته ونعيمه، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره، بحيث يساوي الغني الفقير، ويماثل الصعلوك الأمير، فيكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات، وفي ذلك - من تصفية النفس، وتهذيبها، وإشعارها بحقيقة العبودية لله، والأخوة للناس - ما لا يقدر قدره، وإن كان لا يخفى أمره...

وما تفعلوا من خير يعلمه الله حث على الخير عقيب النهي عن الشر، وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البر والتقوى، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة..! وقد روي فيمن حج ولم يرفث ولم يفسق أنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه! وذلك، لأن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة، والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع، يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها. ويدخلها في حياة جديدة: لها فيها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت..!: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ ص: 494 ] روى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون! فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى

أي: وتزودوا ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم عن الناس، واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم: فإن خير الزاد التقوى أي: الاتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم..!.

وقال ابن عمر: إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر. وكان يشترط على من صحبه الجودة.. نقله ابن كثير.

ويقال: في معنى الآية: وتزودوا من التقوى للمعاد. فإن الإنسان لا بد له من سفر في الدنيا، ولا بد فيه من زاد، ويحتاج فيه إلى الطعام والشراب والمركب ; وسفر من الدنيا إلى الآخرة، ولا بد فيه من زاد أيضا وهو تقوى الله، والعمل بطاعته، واتقاء المحظورات..! وهذا الزاد أفضل من الزاد الأول، فإن زاد الدنيا يوصل إلى مراد النفس وشهواتها، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم في الآخرة..! وفي هذا المعنى قال الأعشى:


إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا..!


وثمة وجه آخر: وهو أن قوله تعالى: وتزودوا أمر باتخاذ الزاد، هو طعام السفر، وقوله: فإن خير الزاد التقوى إرشاد إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها بعد [ ص: 495 ] الأمر بالزاد للسفر في الدنيا، كما قال تعالى: وريشا ولباس التقوى ذلك خير لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدا إلى اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة، وذكر أنه خير من هذا وأنفع.

واتقون يا أولي الألباب أي: اتقوا عقابي وعذابي في مخالفتي وعصياني يا ذوي العقول والأفهام! فإن قضية اللب تقوى الله، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له..! كما قال تعالى: أولئك كالأنعام بل هم أضل

وقد قرئ بإثبات الياء في: {اتقون } على الأصل، وبحذفها للتخفيف ودلالة الكسرة عليه.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif


ابوالوليد المسلم 26-03-2022 08:15 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 496 الى صـ 500
الحلقة (98)


القول في تأويل قوله تعالى:

[198] ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين .

ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم قال الراغب: كانت العرب تتحاشى من التجارة في الحج، حتى إنهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر، وحتى سموا من تولى متجرا في الحج: الداج دون الحاج ; فأباح الله ذلك، وعلى إباحة ذلك، دل [ ص: 496 ] قوله: وأذن في الناس بالحج - إلى قوله -: ليشهدوا منافع لهم وقوله: وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله

وقد روى البخاري عن ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج.

ففي الآية الترخيص لمن حج في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق - وهو المراد بالفضل هنا - ومنه قوله تعالى: فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله أي: لا إثم عليكم في أن تبتغوا في مواسم الحج رزقا ونفعا وهو الربح في التجارة مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج..!: فإذا أفضتم من عرفات - أي: دفعتم منها -: فاذكروا الله عند المشعر الحرام أي: بالتلبية، والتهليل، والتكبير، والثناء والدعوات و " المشعر الحرام ": موضع بالمزدلفة. ميمه مفتوحة وقد تكسر، وقد وهم من ظنه جبيلا بها. سمي به لأنه معلم للعبادة وموضع لها - كذا في القاموس وشرحه.

ونقل الفخر عن الواحدي في " البسيط ": إن المشعر الحرام هو المزدلفة. سماها الله تعالى بذلك، لأن الصلاة والمقام والمبيت به، والدعاء عنده. واستقر به الفخر قال: لأن الفاء في قوله: فاذكروا الله إلخ تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة. انتهى.

[ ص: 497 ] قال البيضاوي: ويؤيد الأول ما روى جابر: أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة بغلس - ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام. أي: فإنه يدل على تغاير المزدلفة، والمشعر الحرام لمكان مسيره صلى الله عليه وسلم منها إلى المشعر الحرام! وإنما قال: يؤيد لأنه يجوز أن يؤول المشعر الحرام في الحديث بالجبل، إما بحذف المضاف، أو بتسمية الجزء باسم الكل - أفاده السيلكوتي.

قال ابن القيم في " زاد المعاد " في سياق حجته صلى الله عليه وسلم: فلما غربت الشمس واستحكم غروبها أفاض من عرفة بالسكينة من طريق المأزمين، ثم جعل يسير العنق - وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء - فإذا وجد فجوة - وهو المتسع - نص سيره - أي: رفعه فوق ذلك - وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية، حتى أتى المزدلفة فتوضأ، ثم أمر المؤذن بالأذان فأذن، ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال ; فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان، ولم يصل بينهما شيئا، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت، ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدا، وذلك قبل طلوع الشمس. انتهى المقصود منه.

قال بعض الأئمة: ما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا لأنه مع كونه مفعولا له صلى الله عليه وسلم، ومندرجا تحت قوله: « خذوا عني مناسككم » فيه أيضا النص القرآني بصيغة الأمر فاذكروا الله عند المشعر الحرام

واذكروه كما هداكم بدلائل الكتاب، أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة! فمفاد التشبيه: التسوية في الحسن والكمال، كما تقول: اخدمه كما أكرمك، [ ص: 498 ] يعني: لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه. وفيه تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج!: وإن كنتم من قبله أي: من قبل الهدي: لمن الضالين الجاهلين بالإيمان والطاعة. و " إن " هي المخففة، و " اللام " هي الفارقة.

القول في تأويل قوله تعالى:

[199] ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم .

ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي: من عرفة لا من المزدلفة. وفي الخطاب وجهان:

أحدهما: أنه لقريش وذلك لما كانوا عليه من الترفع على الناس والتعالي عليهم، وتعظمهم عن أن يساووهم في الموقف، وقولهم: نحن أهل الله، وقطان حرمه، فلا نخرج منه. فيقفون بجمع، وسائر الناس بعرفات.

وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنه قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات ; فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس

وثانيهما: أنه أمر لجميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس يعني: إبراهيم عليه السلام.

قال الراغب: وسماه الناس لأن " الناس " يستعمل على ضربين: أحدهما: للنوع من غير [ ص: 499 ] اعتبار مدح وذم، والثاني: المدح اعتبارا بوجود تمام الصورة المختصة بالإنسانية، وليس ذلك في هذه اللفظة، بل في اسم كل جنس ونوع - نحو: هذه فرس، وفلان رجل، وليس هذا بفرس ولا فلان برجل - أي: ليس فيه معناه المختص بنوعه، وبهذا النظر نفي السمع والبصر عن الكفار! فعلى هذا سمي إبراهيم " الناس " على سبيل المدح - وهو أن الواحد يسمى باسم الجماعة تنبيها على أنه يقوم مقامهم في الحكم - وعلى هذا قول الشاعر:


وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد


وعلى هذا قال: إن إبراهيم كان أمة اهـ.

فإن قيل: ما معنى كلمة ثم فإنها تستلزم تراخي الشيء عن نفسه، سواء عطف على مجموع الشرط والجزاء أو الجزاء فقط..؟

فالجواب: إن كلمة ثم ليست للتراخي، بل مستعارة للتفاوت بين الإفاضتين - أي: الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة- والبعد بينهما بأن أحدهما صواب والآخر خطأ.

قال التفتازاني: لما كان المقصود من قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس المعنى التعريضي، كان معناه: ثم لا تفيضوا من مزدلفة، والمقصود من إيراد كلمة ثم التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن أحدهما صواب والأخرى خطأ.

وأجاب بعضهم بأن ثم بمعنى الواو.

واستغفروا الله عما سلف من المعاصي: إن الله غفور رحيم

قال ابن كثير عليه الرحمة: كثيرا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات. ولهذا ثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا [ ص: 500 ] وثلاثين، وفي الصحيحين: أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين. وقد روى ابن جرير ههنا حديث عباس بن مرداس السلمي في استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 26-03-2022 08:16 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 501 الى صـ 505
الحلقة (99)

القول في تأويل قوله تعالى:

[200] فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق .

فإذا قضيتم مناسككم أي: فرغتم من أعمال الحج ونفرتم: فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا أي: فأكثروا ذكر الله، وابذلوا جهدكم في الثناء عليه، وشرح آلائه ونعمائه، كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم بعد قضاء مناسككم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات..! ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله هذه الآية. وفيها إشعار بتحويل القوم عما اعتادوه، وحث على إفراد ذكره جل شأنه.

ثم أرشد تعالى إلى دعائه - بعد كثرة ذكره - فإنه مظنة الإجابة، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض على أخراه، فقال: فمن الناس أي: الذين نسوا قدر الآخرة وكانت الدنيا أكبر همهم: من يقول أي: في ذكره: ربنا آتنا أي: مرغوباتنا: في الدنيا لا نطلب غيرها: وما له في الآخرة من خلاق أي: نصيب وحظ لأنه استوفى نصيبه في الدنيا بتخصيص دعائه به. فالجملة إخبار منه تعالى ببيان حاله في الآخرة ; أو المعنى: ما له في الآخرة من طلب خلاق. فهو بيان لحاله في الدنيا، وتصريح بما علم ضمنا من قوله: آتنا في الدنيا أو تأكيد لكون همه مقصورا على الدنيا. وقوله: في الآخرة حينئذ متعلق بـ: خلاق حال منه، وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك.

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم! اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن..! لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا. فنزل فيهم ذلك.

[ ص: 502 ] وهؤلاء الذين حكى الله عنهم - أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا - قال قوم: هم مشركو العرب. وكونهم لا خلاق لهم في الآخرة ظاهر ; إذ لا نصيب لهم فيها من كرامة ونعيم وثواب. وقال قوم: هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم لا لأخراهم، ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب، حيث سألوا الله تعالى - في أعظم المواقف وأشرف المشاهد - حطام الدنيا وعرضها الفاني، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة..! ومعنى كونهم لا خلاق لهم في الآخرة، أي: إلا أن يتوبوا، أو إلا أن يعفو الله عنه، أو لا خلاق له في الآخرة، كخلاق من سأل المولى لآخرته، والله أعلم. كذا يستفاد من
الرازي.

القول في تأويل قوله تعالى:

[201] ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا والآخرة، وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي - من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل... إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين - ولا منافاة بينها - فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة: فأعلى ذلك رضوان الله تعالى ودخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب... وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة. وأما النجاة من النار: فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام.

وقد ورد في السنة الترغيب في هذا الدعاء، فقد كان يقول صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري عن أنس.

[ ص: 503 ] وروى الإمام أحمد: يسأل قتادة أنسا: أي دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: « اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار » وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه! ورواه مسلم وهذا لفظه.

وروى الإمام الشافعي عن عبد الله بن السائب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود: «: ربنا آتنا في الدنيا حسنة » الآية.

القول في تأويل قوله تعالى:

[202] أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب .

أولئك إشارة إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة، وما فيه من معنى البعد ; لما مر مرارا من الإشارة إلى علو درجتهم، وبعد منزلتهم في الفضل: لهم نصيب مما كسبوا أي: من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. أو من أجل ما كسبوا كقوله: مما خطيئاتهم أغرقوا أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم منه في الدنيا والآخرة. وسمي الدعاء كسبا ; لأنه من الأعمال وهي موصوفة بالكسب: والله سريع الحساب إما بمعنى سريع في الحساب كسريع في السير، فالجملة تذييل لقوله: أولئك إلخ يعني: أنه يجازيهم على قدر أعمالهم وكسبهم ولا يشغله شأن عن شأن لأنه سريع في المحاسبة ; أو بمعنى: سريع حسابه كحسن الوجه. فالجملة [ ص: 504 ] تذييل لقوله: فاذكروا الله كذكركم آباءكم إلخ يعني: يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد. فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة باكتساب الطاعات والحسنات.

وقال الراغب: لما كان الحساب يكشف عن جمل الشيء وتفصيله، نبه بذلك على إحاطته بأفعال عباده ووقوفه على حقائقها. وذكر السريع تنبيها أن ذلك منه لا في زمان ولا بفكرة، وذلك أبلغ ما يمكن أن يتصور به الكافة سرعة فعل الله.

تنبيه:

قال الرازي: اعلم أن الله تعالى بين أولا تفصيل مناسك الحج، ثم أمر بعدها بالذكر فقال: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام إلخ، ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره وأن يقتصر على ذكره فقال: فاذكروا الله كذكركم آباءكم إلخ، ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال: فمن الناس من يقول إلخ، وما أحسن هذا الترتيب! فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها، ثم بعد العبادة لا بد من الاشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلي نور جلاله، ثم بعد ذلك الذكر، يشتغل الرجل بالدعاء، فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقا بالذكر....
القول في تأويل قوله تعالى:

[203] واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون .

واذكروا الله في أيام معدودات هي أيام التشريق، قاله ابن عباس رضي الله عنه. وروى الإمام مسلم عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيام التشريق [ ص: 505 ] أيام أكل وشرب وذكر الله » . وقال عكرمة: معنى هذه الآية: التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر! الله أكبر!.

وروى البخاري عن ابن عمر: أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه، وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا. وفي رواية: أنه كان يكبر في قبته، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى. أخرجه البخاري تعليقا.

ومن الذكر في هذه الأيام: التكبير مع كل حصاة من حصى الجمار كل يوم من أيام التشريق، فقد ورد في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر مع كل حصاة.

وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: « إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل » .

وروى مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر حين ارتفاع النهار شيئا، فكبر، فكبر الناس بتكبيره. ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبر، فكبر الناس بتكبيره. ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبر، فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت فيعلم أن عمر قد خرج يرمي.

ثم قال مالك: والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء - من كان في جماعة أو وحده بمنى أو بالآفاق كلها واجب.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 26-03-2022 08:17 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 506 الى صـ 510
الحلقة (100)


ثم قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق.

وفي القاموس وشرحه: التشريق تقديد اللحم، ومنه سميت أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي: تشرر في الشمس - حكاه يعقوب، وقيل: سميت بذلك لقولهم: أشرق ثبير كيما نغير ; أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس - قاله ابن الأعرابي. قال أبو عبيد: وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق إلى التكبير، ولم يذهب إليه غيره.

فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه أي: فمن تعجل النفر الأول من هذه الأيام الثلاثة، فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث. واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة، فلا يأثم بهذا لتعجيل. وإيضاحه: أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق. ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة. يرمي عند كل جمرة سبع حصيات. ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها، فذلك واسع له: ومن تأخر أي: حتى رمى في اليوم الثالث، وهو النفر الثاني: فلا إثم عليه في تأخره. واعلم: السنة هو التأخر فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة. ولا يقال هذا اللفظ - أعني: فلا إثم عليه إنما يقال في حق المقصر لا في حق من أتى بتمام العمل، لأنا نقول: أتى به لمشاكلة اللفظ الأول كقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة [ ص: 507 ] ولا عدوان. فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى ; فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى ; لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه - قاله الواحدي.

وقال الراغب: رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة - أي: كناية عنها - وقيل: رفع الإثم: أنه حط ذنوبهما بإقامتهما الحج - تعجل أو تأخر - بشرط أن يكون مقياسهما الاعتبار بالتقوى، وعلى ذلك دل حديث: « من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه » .

وقوله تعالى: لمن اتقى خبر لمبتدأ محذوف، أي: الذي ذكر - من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر، أو من الأحكام - لمن اتقى، لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به، على حد: ذلك خير للذين يريدون وجه الله وقوله: هدى للمتقين واتقوا الله في مجامع أموركم: واعلموا أنكم إليه تحشرون أي: للجزاء على أعمالكم، وهو تأكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار ; صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى. والحشر: اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف.
[ ص: 508 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[204] ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام .

ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا أي: يعظم في نفسك حلاوة حديثه وفصاحته في أمر الحياة الدنيا التي هي مبلغ علمه: ويشهد الله على ما في قلبه أي: يحلف بالله على الإيمان بك والمحبة لك، وأن الذي في قلبه موافق للسانه لئلا يتفرس فيه الكفر والعداوة، أو معناه: يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق - على نحو ما وصف به أهل النفاق حيث قالوا: نشهد إنك لرسول الله وكقوله تعالى: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله الآية: وهو ألد الخصام شديد الخصومة جدل بالباطل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[205] وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد

وإذا تولى انصرف عمن خدعه بكلامه: سعى - مشى -: في الأرض ليفسد فيها بإدخال الشبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا [ ص: 509 ] المعنى يسمى فسادا، كقوله تعالى حكاية عن قوم فرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض أي: يردوا قومك عن دينهم ويفسدوا عليهم شرعتهم. وسمي هذا المعنى فسادا لأنه يوقع الاختلاف بين الناس، ويفرق كلمتهم، ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام، وتنسفك الدماء. وهذا كثير في القرآن المجيد ويهلك الحرث أي: الزرع: والنسل أي: المواشي الناتجة.

قال بعض المحققين: وإن إهلاك الحرث والنسل كناية عن الإيذاء الشديد، وإن التعبير به عن ذلك صار من قبيل المثل ; فالمعنى: يؤذي مسترسلا في إفساده ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل.

والله لا يحب الفساد أي: لا يرضى فعله.

قال الراغب: إن قيل: كيف حكم تعالى بأنه لا يحب الفساد وهو مفسد للأشياء؟ قيل: الإفساد في الحقيقة: إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، ولا هو آمر به، ولا محب له، وما يرى من فعله، ويظهر بظاهره فسادا، فهو بالإضافة إلينا واعتبارنا له كذلك. فأما بالنظر الإلهي فكله صلاح، ولهذا قال بعض الحكماء: يا من إفساده إصلاح! أي: ما نظنه إفسادا ; لقصور نظرنا ومعرفتنا - فهو في الحقيقة إصلاح. وجملة الأمر: إن الإنسان هو زبدة هذا العالم وما سواه مخلوق لأجله، ولهذا قال تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض والمقصد من الإنسان سوقه إلى كماله [ ص: 510 ] الذي رسخ له. فإذن: إهلاك ما أمر بإهلاكه، لإصلاح الإنسان وما منه أسباب حياته الأبدية. ولشرح هذه الجملة موضع آخر....
القول في تأويل قوله تعالى:

[206] وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد .

وإذا قيل له على نهج العظة: اتق الله في النفاق، واحذر سوء عاقبته. أو في الإفساد والإهلاك وفي اللجاج بالباطل: أخذته العزة بالإثم أي: حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم وهو التكبر ; أو المعنى: أخذته الحمية للإثم الذي في قلبه فمنعته عن قبول قول الناصح: فحسبه أي: كافيه: جهنم إذا صار إليها واستقر فيها جزاء وعذابا: ولبئس المهاد أي: الفراش الذي يستقر عليه بدل فرش عزته.

قال الراغب: المهد معروف، وتصور منه التوطئة، فقيل لكل وطيء مهد. والمهاد يجعل تارة جمعا للمهد، وتارة للآلة نحو فراش. وجعل جهنم مهادا لهم كما جعل العذاب مبشرا به في قوله: فبشرهم بعذاب أليم

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




الساعة الآن : 09:28 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 138.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 138.20 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.36%)]