رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (103) مثنى محمد هبيان (وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ١٢٦)[ البقرة: 126 ] السؤال الأول: ما الفرق بين قوله تعالى: (رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا) [البقرة:126] وقوله تعالى: (رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا) [إبراهيم:35]؟ الجواب: الآية الأولى هي دعاء سيدنا إبراهيم قبل أنْ تكون مكة بلداً، فجاء بصيغة التنكير (بَلَدًا) [البقرة:126]، أمّا الآية الثانية فهي دعاء سيدنا إبراهيم بعد أنْ أصبحت مكة بلداً معروفاً فجاء بصيغة التعريف في قوله: (ٱلۡبَلَدَ) [إبراهيم:35]. في الآية الثانية المكان صار بلداً وصار فيه ناس، بل أكثر من ذلك جاء إليه من يعبد الأصنام، وقوله تعالى: (وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ) [إبراهيم:35] معناه: أنّ هناك في البلد من القبائل أو من الأعراب الذين سكنوا مع هاجر من كانوا يعبدون الأصنام، فلا يريد لذريته أنْ يتأثروا بهؤلاء فانصب الطلب على الأمن ودفع عبادة الأصنام. السؤال الثاني: قوله تعالى في البقرة قال: (ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ) [البقرة:126] بضمير المفرد وفي آية لقمان: 24 بالجمع (نُمَتِّعُهُمۡ قَلِيلٗا ثُمَّ نَضۡطَرُّهُمۡ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٖ) [لقمان:24] فما الفرق بينهما؟ الجواب: حتى نفهم المسألة نقرأ سياق آية البقرة؛ لأنّ السياق هو الذي يوضّح (وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ) [البقرة:126] إذن آية البقرة في مكة، وأمّا آية لقمان فهي عامة (نُمَتِّعُهُمۡ قَلِيلٗا) [لقمان:24] كلام عام، وليس في بلد معين ولا لأناس معيَّنين. 1ـ آية البقرة هي دعاء على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام لأهل مكة قبل أنْ توجد حيث ذكر (بَلَدًا)، وأمّا آية لقمان فهي عامة و ليست في بلد معين أو أناس معينين، لذلك نجد أنَّ: آ ـ في آية لقمان حيث توجد الكثرة النسبية جاء فيها بالجمع(نُمَتِّعُهُمۡ) [لقمان:24] (نَضۡطَرُّهُمۡ) [لقمان:24]. ب ـ وفي آية البقرة العدد أقل نسبياً، فجاء بضمير الإفراد (أَضۡطَرُّهُۥ) [البقرة:126] والله هو صاحب البيت (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ) [البقرة:125] وهو يتولى العذاب. 2ـ في آية البقرة جاء فيها قوله تعالى: (وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ) [البقرة:126] وهذا هوطلب الرزق كنوع من التمتيع، وهذا ليس في التبليغ؛ لذلك عندما قال: (وَمَن كَفَرَ) [البقرة:126] كان الجواب (فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا) [البقرة:126]. وأمّا في آية لقمان فقال: (وَمَن كَفَرَ) و(نُمَتِّعُهُمۡ قَلِيلٗا) و(نَضۡطَرُّهُمۡ) كلها بالجمع؛ لأنها تخص التبليغ والدعوة. 3ـ قال في آية لقمان: (إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٖ) وفي البقرة: (إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ ) [البقرة:126] والثانية فيها حرق فهي أشد من (إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٖ) فقد يكون بعصا غليظة مثلاً، والسبب في ذلك أنّ آية البقرة هي في أهل مكة، وفي مكة قد تتضاعف السيئات كما تتضاعف الحسنات، فالمعاصي فيها أكبر ذنباً والعذاب بسبب ذلك أشد؛ لأنّ من أساء في مكة ليس كمن أساء في غيرها، ولذلك شدّد العذاب فقال: (عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ) [البقرة:126]. والله أعلم. 4ـ وفي القرآن يراعي هذا الشيء، نحو قوله تعالى: (وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوۡ كَانُواْ لَا يَعۡقِلُونَ) [يونس:42] الذين يستمعون أكثر من الذين ينظرون، فقال: يستمعون، هذه تسمى مناسبة، وهذا ما جعل المفعول في لقمان بالجمع، وفي البقرة بالمفرد. السؤال الثالث: جاء في الآية لفظة النداء (رَبِّ) [البقرة:126] وفي آيات كثيرة (رَبَّنَا) فهل من معانٍ لهذا النداء؟ الجواب: 1ـ كلمة (رَبَّنَا) هي منادى بإسقاط حرف النداء، والمنادى هو طلب الإقبال، وهو اسم يقع بعد أداة من أدوات النداء، وأدوات النداء تختلف باختلاف المسافة بينك وبين المنادى. آ ـ فإذا كان المنادى بجوارك تقول: محمدٌ افعل كذا، أي:بدون أداة نداء. ب ـ فإنْ كان بعيداً قليلاً تقول: أمحمدُ، أي: باستعمال الهمزة. ج ـ فإنْ كان أبعد من سابقه تقول: يا محمد، أي: باستعمال الياء. د ـ فإنْ كان أبعد من سابقه تقول: أيا محمد، أي: باستعمال الهمزة والياء. 2ـ إذا أضيف المنادى إلى ياء المتكلم، جاز حذف الياء والاستغناء عنها بالكسرة، نحو قوله تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا) [طه:114]. 3ـ قد يأتي المنادى ويحذف حرف النداء، كقوله تعالى: (رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ) [الحشر:10]. وأنت أيها المؤمن حين تنادي ربك وإنْ لم تكن أنت قريباً من الله فالله قريب منك، ولذلك لا تستخدم أداة النداء لا للقريب ولا للبعيد، ويكفي في هذا القرب قول الله تعالى: (وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ) [ق:16]. وقد ورد في القرآن الكريم لفظ (رَبِّ) كمنادى في خمس وستين آية بدون أداة نداء، أولها في سورة البقرة في الآية [126] على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام (وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا) [البقرة:126] إلى قول نوح عليه السلام في سورة نوح: (رَّبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيۡتِيَ مُؤۡمِنٗا وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۖ) [نوح:28]. والله قريب منا بالفعل، وإنْ حدث بُعدٌ فمنك أنت أيها العبد، وأكثر ما يكون العبد قرباً من الله حين يكون مضطراً حتى إنْ كان بعيداً عن الله قبل الاضطرار. وفي آيتين فقط من كتاب الله نودي الربُّ تبارك وتعالى بأداة النداء، وهذان الموضعان حكاية عن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهما: (وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورٗا) [الفرقان:30]. (وَقِيلِهِۦ يَٰرَبِّ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمٞ لَّا يُؤۡمِنُونَ) [الزُّخرُف:88] والسؤال لماذا لم تأتِ أداة النداء إلا من سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نداء ربه؟ والجواب: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان شديد الحرص على هداية قومه ونصرة دعوته حتى خاطبه ربه بقوله: لَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ أَلَّا يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ [الشعراء:3]. وقد مرّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمواقف صعبة لدرجة جعلته يستبطىء نصر الله، كما قال سبحانه في سورة البقرة الآية [214]: وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ٢١٤ [البقرة: ٢١٤] فخاف صلى الله عليه وآله وسلم أنْ يكون بعُدَ عن ربه، وهذا البعد ما هو إلا مظنة من رسول الله أو اتهامٌ للنفس فلمّا ذهب صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ربه ويشتكي إليه أنّ قومه هجروا القرآن نادى ربه من منزلة البعيد، فقال:(يا رب)، وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم ظن في نفسه التقصير أو الفشل، ورأى أنّ ذلك يُبعده عن ربه، لكنّ الله تعالى أنصفه وأكد نداءه، بل وأقسم به فقال الحق عز وجل: (وَقِيلِهِۦ يَٰرَبِّ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمٞ لَّا يُؤۡمِنُونَ٨٨ فَٱصۡفَحۡ عَنۡهُمۡ وَقُلۡ سَلَٰمٞۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ) [الزُّخرُف:88-89]. أي: أقسم بقولك: (إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورٗا٣٠) [الفرقان:30] والله تعالى يقسم بما يشاء على ما يشاء، ولم يقسم بأحد من الخلق إلا برسول الله، في قوله: (لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ) [الحِجر:72] وأقسم الله كذلك بقول رسوله فقال سبحانه: (وَقِيلِهِۦ يَٰرَبِّ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمٞ لَّا يُؤۡمِنُونَ٨٨) [الزُّخرُف:88]. 4ـ بشكل عام يجوز حذف حرف النداء نحو قوله تعالى: (يُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَاۚ) [يوسف:29] و يلزم ذكر حرف النداء مع ( الله ) ومع اسم الجنس سواء كان نكرة مقصودة أم غير مقصودة واسم الإشارة فإذا ناديت ( الله ) قلت: يا الله وكذلك اسم الجنس نحو: ( يا رجل ) و ( يا هذا ) كما يلزم ذكر حرف النداء في الاستغاثة والتعجب والندبة نحو: يا لخالد ويا للهول. 5ـ من أغراض حذف حرف النداء: آ ـ الحذف للعجلة بقصد الفراغ من الكلام بسرعة نحو قولك:( خالد احذر ) ب ـ الحذف للإيجاز والاختصار وذلك كما في قوله تعالى: (قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي) [الأعراف:150] فحذف حرف النداء ( يا ) من المنادى (ابن أم ) في حين ذكرها في سورة طه: (قَالَ يَبۡنَؤُمَّ لَا تَأۡخُذۡ بِلِحۡيَتِي وَلَا بِرَأۡسِيٓۖ) [طه:94] والسبب ـ والله أعلم ـ أنّ السياق في سورة الأعراف سياق إيجاز واختصار بخلاف آيات طه وإليك كلاً من السياقين: قال الله في سورة الأعراف: { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ١٥٠ قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِأَخِي وَأَدۡخِلۡنَا فِي رَحۡمَتِكَۖ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ١٥١ } [الأعراف:150-151]. وقال في سورة طه: { فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَمۡ يَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ أَفَطَالَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن يَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِي٨٦ قَالُواْ مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا مِّن زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَٰهَا فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ}[طه:86-87]. ثم ذكر موقف هارون عليه السلام: ( وَلَقَدۡ قَالَ لَهُمۡ هَٰرُونُ مِن قَبۡلُ يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوٓاْ أَمۡرِي) [طه:90] ثم توجه باللوم إلى هارون: { قَالَ يَٰهَٰرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذۡ رَأَيۡتَهُمۡ ضَلُّوٓاْ٩٢ أَلَّا تَتَّبِعَنِۖ أَفَعَصَيۡتَ أَمۡرِي٩٣ ) [طه:92-93] فأجابه هارون عليه السلام: { قَالَ يَبۡنَؤُمَّ لَا تَأۡخُذۡ بِلِحۡيَتِي وَلَا بِرَأۡسِيٓۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَيۡنَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَلَمۡ تَرۡقُبۡ قَوۡلِي٩٤) [طه:94] ويستمر الكلام.. ولذلك نجد أنّ الكلام في سورة الأعراف كان مختصراً موجزاً وكان الموقف موقف عجلة وإسراع فحذف ( يا) النداء تمشياً مع هذا الحذف والاختصار وأمّا في سورة طه فالسياق سياق إطالة وسؤال ورد ولوم فجاء بـ ( يا ). ومن الحذف أيضاً قوله تعالى: (يُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَاۚ) [يوسف:29] فقد أرادوا ستر الموضوع والكف عن الخوض فيه فقالوا ذلك بأخصر طريق فحذف حرف النداء تمشياً مع هذا الاختصار والتستر. ج ـ قد يكون ذكر ( يا ) للزيادة في التنبيه والتقريع كما في قوله تعالى:{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ١ }[الحج:1] د ـ قد يكون الحذف لقرب المنادى من المنادي سواء كان قرباً حقيقياً مادياً أم معنوياً فكأنّ المنادى لقربه لا يحتاج إلى واسطة لندائه كأنْ تقول لمن هو قريب جداً منك: ( خالد أتدري ما حلّ بفلان؟) ونحو قوله تعالى: { رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ) [هود:73] وقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا٣٣ ) [الأحزاب:33]. والله أعلم. السؤال الرابع: ما أهم الدعوات التي جاءت على لسان إبراهيم عليه السلام في هذه الآية والآيات التي تليها وتتحدث عن البيت الحرام؟ الجواب: آ ـ ساق القرآن الكريم في هذه الآية والآيات التي تليها سبع دعوات من جوامع كلم النبوة: 1ـ دعا إبراهيمُ عليه السلام أن يجعل البلد الحرام بلداً آمناً حتى يستطيع الناس أداء الحج والعمرة. 2ـ ودعاه أن يرزق أهل مكة أنواع الثمرات في وقت كانت فيه مكة صحراء قاحلة. 3 ـ ودعاه وهو يرفع قواعد البيت مع ابنه إسماعيل أن يتقبّل منهما عملهما. 4 ـ ودعا ربه أن يثبتهما على الإسلام وهو التوحيد الخالص وأن يُخرج من ذريتهما أمة مسلمة موحدة لربها. 5ـ وسأل ربه أن يبصّره وذريته بمعالم الدين وطرق العبادة ومنها مناسك الحج. 6 ـ وسأل ربه التوبة والتجاوز عن الذنوب. 7 ـ وسأل ربه أخيراً أن يبعث من أهل مكة رسولاً منهم تنطلق رسالته من مكة إلى العالم أجمع ليعلّمهم القرآن والسنة ويطهرهم من الشرك وسوء الأخلاق. ب ـ قرأ ابن عامر ( فأُمْتِعه ) بسكون الميم وتخفيف التاء على أنه مضارع الفعل (أمتع ) المعدّى بالهمز وقرأ غيرُه(فَأُمَتِّعُهُۥ) بفتح الميم وتشديد التاء مضارع الفعل ( متّع ) المعدّى بالتضعيف.والله أعلم. |
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (104) مثنى محمد هبيان (وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ)[ البقرة: 127 ] السؤال الأول:ما فائدة الضمير (أَنتَ) في الآية؟ الجواب: جاء الخبر(ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ) معرفةً، ووقع بين (إِنَّكَ) والخبر (ٱلسَّمِيعُ) ضمير الفصل (أَنتَ) بقصد المبالغة في كمال الوصفين السميع والعليم له سبحانه وتعالى، ولينزَل سمع وعلم غيره منزلة العدم، ألا ترى أنك لو قلت لرجل: أنت سامع، إذا أردت أنه أحد السامعين، أما إذا عرّفت فقلت: أنت السامع، فهذا يعني أنه السامع لا غيره. السؤال الثاني: هل يُضمَرُ القول في القرآن الكريم؟ وما حالات إضمار القول؟ الجواب: 1ـ الأصل أنْ يُذكر فعل القول والمقول، كقوله تعالى: (قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ) [مريم:30] (قَالَ) هي فعل القول، و (إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ) هي المقول. 2ـ قد يُحذف فعل القول ويُذكر القول، كقوله تعالى في آية التوبة والبقرة: ـ (نَّظَرَ بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ هَلۡ يَرَىٰكُم مِّنۡ أَحَدٖ) [التوبة:127] أي: يقولون: (هَلۡ يَرَىٰكُم مِّنۡ أَحَدٖ) [التوبة:127] ولم يذكر فعل القول. ـ (وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ ) [البقرة:127] أي: يقولون: ربنا تقبل منا، بدون ذكر فعل القول. 3ـ قد يُذكر فعل القول ويُحذف المقول، كقوله تعالى في آية يونس: ـ (قَالَ مُوسَىٰٓ أَتَقُولُونَ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمۡۖ أَسِحۡرٌ هَٰذَا) [يونس:77] ؛ وبيان ذلك: آـ قال موسى: أتقولون للحق لمّا جاءكم، هنا فعل القول والمقول من موسى عليه السلام لقومه، بمعنى: أي ما تقولون في الحق الذي جئت به؟ ب ـ ثم بعد أنْ ذكر فعل القول لقوم موسى وهو (أَتَقُولُونَ) [يونس:77] حذف عنه المفعول به وهو مقولهم لدلالة الحال عليه. ج ـ ثم قال مرة أخرى: (أَسِحۡرٌ هَٰذَا) [يونس:77] وهذا استفهام على سبيل الإنكار، ثم احتج على أنه ليس بسحر في قوله: (وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّٰحِرُونَ) [يونس:77]. 4ـ قد يُذكر مقولان لقائلين مختلفين ويُحذف الفعل لواحد منهما، كقوله تعالى: ـ (ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡۖ فَأَلۡقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعۡمَلُ مِن سُوٓءِۢۚ بَلَىٰٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ) [النحل:28] ففي الآية مقولان: آـ (مَا كُنَّا نَعۡمَلُ مِن سُوٓءِۢۚ) [النحل:28] وهذا مقول الظالمي أنفسهم، وذكر فعل القول (ألقوا) أي: أسلموا وأقروا بالعبودية عند الموت، فقالوا: ما كنا نعمل من سوء، والمراد بالسوء هنا: الشرك. ب ـ (إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ) [النحل:28] وهذا مقول الملائكة رداً عليهم وتكذيباً، وأُدمج المقولان، وهو مفهوم من السياق. 5ـ أن يُذكر فعل القول ومقوله، ثم يدمجه مع مقول آخر. شواهد قرآنية: آية يوسف: [51ـ52]: ـ (قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ٥١ ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ) [يوسف: 51 - 52] وتفصيل ذلك: آ ـ (قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ) [يوسف:51] في الآية فعل القول: قالت، ومقولها: أنا راودته. ب ـ (ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ) [يوسف:52] هذا مقول يوسف عليه السلام عند أكثر المفسرين. آية النمل[34]: ـ (قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ) [النمل:34] وهذا كلام بلقيس، ثم إنه تعالى قال: (وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ) [النمل:34]. آية آل عمران [9]: ـ (رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ) [آل عمران:9] هذا كلام الداعي، ثم قال: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ) [آل عمران:9]. 6ـ أنْ يُذكر فعل القول ولا يُذكر المقول، بل يُذكر فحواه، كقوله تعالى: ـ (قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ) [إبراهيم:31] أي: أقيموا الصلاة، وهذا فحوى القول. ـ (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ) [الإسراء:53] أي: يقولوا القول الحسن. والله أعلم. |
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (105) مثنى محمد هبيان (رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ) [ البقرة:129 ] السؤال الأول:ما دلالة الفرق في الترتيب بين آية سورة البقرة (رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ١٢٩) [البقرة:129] وآية سورة الجمعة (هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ٢) [الجمعة:2]؟ الجواب: أولا: وردت في القرآن الكريم مثل هذه الآيات أربع مرات، ثلاثاً منها عن الله تعالى، ومرة على لسان إبراهيم عليه السلام، وهي الآيات التالية: 1. سورة البقرة: (كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ١٥١) [البقرة:151]. 2. آل عمران: (لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ١٦٤ ) [آل عمران:164]. 3. سورة الجمعة: (هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ٢) [الجمعة:2]. وعلى لسان إبراهيم عليه السلام: 4. سورة البقرة: (رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ١٢٩) [البقرة:129]. وهذا يعود إلى ترتيب الأولويات والأهمية في الخطابين، فعندما دعا إبراهيم عليه السلام ربه أنْ يرسل رسولاً أخَّرَ جانب تزكية الأخلاق إلى آخر مرحلة بعد تلاوة الآيات وتعليمهم الكتاب والحكمة. أمّا في آية سورة الجمعة وسورة البقرة:151 وسورة آل عمران: فالخطاب من الله تعالى بأنه بعث في الأميين رسولاً يتلو عليهم آياته ويزكيهم قبل مرحلة يعلمهم الكتاب والحكمة؛ لأنّ الجانب الخُلُقي يأتي قبل الجانب التعليمي، ولأنّ الإنسان إذا كان غير مزكّى في خلقه لن يتلقى الكتاب والحكمة على مُراد الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أهم صفاته أنه على خلق عظيم كما شهد له رب العزة بذلك في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ٤) [القلم:4]. والتزكية هي ربع المهمّة المحمدية (تلاوة الآيات، تعليم الكتاب، تعليم الحكمة، التزكية). ثانياً ـ هذا الترتيب في الآية؛ لأنّ آيات القرآن تعلمنا التفكير والمنطق ودقة اللفظ وترتيب الأفكار، والله سبحانه وتعالى رتب هذه الصفات على حسب ترتيب وجودها؛ لأنّ أول تبليغ الرسالة القرآن ثم يكون تعليم معانيه، كما في قوله في موضع آخر: (فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ١٩ ) [القيامة:18-19] فإذا ما حصلت على علم القرآن انتقلت إلى المرحلة الأخيرة وهي التزكية. السؤال الثاني: ما دلالة قوله تعالى: (رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ) [البقرة:129] في الآية؟ الجواب: كلمة (رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ) [البقرة:129] تَرُدُّ على اليهود الذين أحزنهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العرب، وأنّ الرسالة كان يجب أن تكون فيهم. ونحن نقول لهم: إنّ جدنا وجدكم إبراهيم، وأنتم من ذرية يعقوب بن إسحاق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم وأخ لأسحاق، ولا حجة لما تدّعونه من أن الله فضّلكم واختاركم على سائر الشعوب، إنما أراد الله أنْ يسلب منكم النبوة؛ لأنكم ظلمتم في الأرض وعهدُ الله لا يناله الظالمون. ثم قال الله: (وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَه ) [البقرة:130] فهو سفيه لا يملك عقلاً يميز بين الضار والنافع. ثم قال: (وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ١٣٠) [البقرة:130] فقد اصطفاه الله في الدنيا بالمنهج وبأنْ جعله إماماً وبالابتلاء، وهو في الآخرة من الصالحين، أي: من الفائزين. وقد يظن كثير من الناس أنّ مقامات الناس في الدنيا وزخرفها مبرر لأنْ يعتقدوا أنّ لهم منزله عالية في الآخرة. نقول: لا، فمنازل الدنيا لا علاقة لها بالآخرة، ولذلك قال الله: (وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ) وأضاف: (وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ) لنعلم أنّ إبراهيم عليه السلام له منزلة عالية في الدنيا والآخرة معاً. السؤال الثالث: قوله تعالى في هذه الآية [129] (رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ) ) بينما قال في آية آل عمران [164]: (مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ) وفي آية التوبة: 128 (مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ ) فلماذا؟ الجواب: آية البقرة في سياق دعاء إبراهيم عليه السلام وهو عام. أمّا في آل عمران والتوبة فهما في سياق ذكر المِنَّة على المؤمنين، فناسب ذكر (مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ) لمزيد الحنُوِّ والمنة، وكذلك{ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ١٢٨} [التوبة: ١٢٨] السؤال الرابع: ما الحكمة في ذكر إبراهيم عليه السلام مع محمد عليه الصلاة والسلام في في الصلوات الإبراهيمية في التشهد الأخير في كل صلاة؟ الجواب: 1ـ إنّ إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد عليه السلام حيث قال: (رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ١٢٩) [البقرة:129] فلمّا وجب للخليل على الحبيب حقّ دعاءه له قضى الله تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة. 2ـ إنّ إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله: {وَٱجۡعَل لِّي لِسَانَ صِدۡقٖ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ٨٤}[الشعراء: 84] يعني: أبق لي ثناء حسناً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأجابه الله تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته. 3ـ إبراهيم عليه السلام كان أب الملة: {مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ} [الحج: 78] ومحمد عليه السلام كان أب الرحمة: {بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ١٢٨} [التوبة: 128]. 4 ـ إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج: {وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ} [الحج: 27] وكان محمد عليه السلام منادي الدين: {سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ} [آل عمران: 193] فجمع الله بينهما في الذكر الجميل. وفي الحديث: ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبُشرى أخي عيسى ورؤيا أمي ) أخرجه الحاكم والبيهقي. والله أعلم. |
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (106) مثنى محمد هبيان (وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ١٣٠ إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ١٣١)[البقرة: 131] السؤال الأول:ورد الفعل (أَسۡلِمۡۖ) بالماضي في آية البقرة (131) وفي آية لقمان [22] ورد بالمضارع (وَمَن يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ) [لقمان:22] فما الفرق بينهما؟ الجواب: انظرالجواب في آية البقرة ( 112) أو انظر في الحلقة (93 ) على موقع رابطة العلماء السوريين. السؤال الثاني: قوله تعالى: (أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ) [البقرة:131] ما الفرق بين (عالم- عوالم- عالمين- علاّم) في الاستعمال؟ الجواب: 1ـ القاعدة اللغوية: صيغة الجمع ( فواعل ) هي جمع تكسير، وهي إمّا أنْ تكون: آ ـ جمعاً لمؤنث بصيغة فاعلة نحو: كافرة وكوافر ـ ساجدة وسواجد ـ نازلة ونوازل. ب ـ أو جمعاً لغير العاقل بصيغة فاعل، نحو: قارض وقوارض ـ زاحف وزواحف ـ ناقص ونواقص. 2ـ (عالمين): ومفردها (عالم) ولم تجمع على عوالم في القرآن الكريم حسب القاعدة اللغوية أعلاه والسبب في ذلك أنّ المقصود بها في السياقات القرآنية هو العاقلون، فأحياناً المقصود منها هو عالم الناس وأحياناً عالم الإنس والجن (الثقلان)، وأحياناً عالم الملائكة والشياطين، وأحياناً يتسع معناها فتشمل المخلوقات كافة العاقلين وغير العاقلين لذلك ينبغي أنْ تجمع كلمة (عالم) على (عالمين) إشارةً إلى العاقلين من الإنس والجن والملائكة والشياطين لتمييزها عن العوالم غير العاقلة. قال الفرّاء وأبو عبيدة: العالم عبارةٌ عما يعقل من (الإنس والجن والملائكة والشياطين) ولا يقال للبهائم: عالم. 3ـ علاّم: وردت في القرآن الكريم أربع مرات في آيات: ( المائدة 109و 116، التوبة 78، سبأ 48) وهي مبالغة من عالم وقد تكون علاّمة بزيادة تاء التأنيث للمبالغة لكنْ لا تستعمل مع الله تعالى ولم يقل القرآن: علاّمة، لأنّ علم الله لا يترقى بلاغة ولا كمية. والله أعلم. السؤال الثالث: ما أهم الدروس في هاتين الآيتين؟ الجواب: 1ـ الآية رقم ( 130 ) ذكرت المخالفة التاسعة والعشرين (29 ) لليهود التي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة من أصل (32 ) مخالفة وهي تحمل مضمون: عدول اليهود عن الإيمان بمحمد وهو ( دعوة إبراهيم).والله أعلم. 2 ـ لمّا ذكر الله تعالى في الآيات السابقة فضائل إبراهيم عليه السلام بيّن هنا أنه لا يَعدِلُ عن دين إبراهيم إلا من كان سفيه العقل خائر الرأي والسفاهة وخفة الرأي في مقابلة ما يُراد منه من المتانة والقوة. 3ـ لذلك يا أيها اليهود: إنْ كنتم تفتخرون بالانتساب إلى إبراهيم عليه السلام فإنه هو الذي دعا ربه أن يبعث في هذه الأمة رسولاً منهم فمن يكفر بمحمد فقد كفر بإبراهيم. ثم بيّن الله منزلته في الدنيا والآخرة فقال: (وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ} وأنه استجاب مسرعاً لوحي ربه حين أمره بالتوحيد فقال: (إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ١٣١}[البقرة:131]. 4ـ المذكور في الآية ( 131 ) هو المزية الخامسة المستحسنة التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام وأمّا المزايا الأربعة الأخرى فقد ذُكرت في الآيات السابقة. والله أعلم. |
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (107) مثنى محمد هبيان (وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ١٣٢) [البقرة:132] السؤال الأول:ما الفرق بين (وَصَّىٰ) و (أوصى )؟ الجواب: 1ـ الله تعالى يقول: (وَصَّىٰ) بالتشديد إذا كان أمر الوصية شديدا ومهماً، لذلك يستعمل وصّى في أمور الدين، وفي الأمور المعنوية: (وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ١٣٢) [البقرة:132] (وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ ) [النساء:131] . أمّا (أوصى) فيستعملها الله تعالى في الأمور المادية:( يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ) [النساء:11] . 2ـ لم ترد في القرآن (أوصى) في أمور الدين إلا في مكان واحد اقترنت بالأمور المادية، وهو قول السيد المسيح عليه السلام : (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا٣١) [مريم:31] ، وفي غير هذه الآية لم ترد (أوصى) في أمور الدين، أمّا في هذا الموضع الوحيد فقد اقترنت الصلاة بالأمور المادية، وقد قالها السيد المسيح في المهد وهو غير مكلف أصلاً، وجاء بعدها ذكر الزكاة. السؤال الثاني: ما أهم النقاط في الآية؟ الجواب: 1ـ ذكرت هذه الآية الأمر السادس المستحسن التي حكاها الله عن إبراهيم عليه السلام . 2 ـ الضمير ( بها ) في قوله تعالى : (وَوَصَّىٰ بِهَآ) يعود إلى : آ ـ الملة : (وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِۧمَ) وهو الأقوى والأولى . ب ـ أو إلى قوله تعالى : (أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ١٣١) . 3ـ قوله تعالى : (وَيَعۡقُوبُ) معطوف على إبراهيم ، والمعنى أنه وصّى كوصية إبراهيم . 4 ـ خصّص إبراهيمُ بنيه بالوصية وعمّمها على الجميع لبيان شدة الاهتمام بها وأهميتها ورعايتها، وللعلم فإنّ لفظ ( الوصية ) أوكد من ( الأمر ) لأنّ الوصية تكون عند الخوف من الموت، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم ، ومن مات على شيء بُعث عليه. 5 ـ وردت (يابَنيَّ) بفتح الباء ثلاث مرات في القرآن الكريم في سياق الأب الناصح، ووردت (يا بُنيَّ) بضم الباء ست مرات في سياقات مختلفة، لتمثل أعظم وصية من الأب لابنه للتمسك بالدين. 6 ـ قوله تعالى : (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ) أي : لا يأتيكم الموت إلا وأنتم على الإسلام, لأنّ من عاش على شيء مات عليه ، ومن مات على شيء بعث عليه , فالحياة على الإسلام نعمة ، والموت على الإسلام توفيق. والله أعلم . |
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (108) مثنى محمد هبيان ( أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ) [البقرة: 133] السؤال الأول:ما الفرق من الناحية البيانية بين فعل (حضر، وجاء) في القرآن الكريم مع الموت؟ الجواب: من الناحية اللغوية: فعل (حضر):الحضور في اللغة: يعني الوجود، وليس معناه بالضرورة المجيء إلى الشيء، يقال: كنت حاضراً إذ كلّمه فلان، بمعنى (شاهد وموجود)، وهو نقيض الغياب, ويقال: كنت حاضراً مجلسهم، وكنت حاضراً في السوق، أي: كنت موجوداً فيها. أما المجيء: فهو الانتقال من مكان إلى مكان، فالحضور إذن غير المجيء، ولهذا نقول: الله حاضر في كل مكان، وهو دليل وجوده في كل مكان. وفي القرآن يقول تعالى: (فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ) [الكهف:98] بمعنى: جاء الأمر، وكذلك قوله تعالى: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ) [هود:40]. إذن الحضور معناه الشهود، والمجيء معناه الانتقال من مكان إلى مكان. من الناحية البيانية: أمّا من الناحية البيانية ففى قوله تعالى في سورة البقرة: (أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ١٣٣) [البقرة:133] وفي المؤمنون: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ٩٩) [المؤمنون:99]. القرآن الكريم له خصوصيات في التعبير، وكلمتا (حضر) و(جاء) لكل منها خصوصية أيضاً، فأمّا التعبير (حضر الموت) فيستعمل للكلام عن أحكام ووصايا بوجود الموت حاضراً مع الشهود، وأمّا التعبير (جاء) فيستعمل مع فعل الموت إذا كان المراد الكلام عن الموت وأحوال الشخص في الموت. فحضور الموت يُستعمل في القرآن الكريم في الأحكام والوصايا كما في آية سورة البقرة، وكأنّ الموت هو من جملة الشهود، والقرآن هنا لا يتحدث عن الموت نفسه أو أحوال الناس في الموت، فالكلام هو في الأحكام والوصايا (إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ) [البقرة:180] ووصية يعقوب لأبنائه بعبادة الله الواحد. أمّا مجيء الموت في القرآن فيستعمل في الكلام عن الموت نفسه أو أحوال الناس في الموت كما في آية سورة المؤمنون، حيث يريد هذا الذي جاءه الموت أنْ يرجع ليعمل صالحاً في الدنيا، فالكلام إذن يتعلق بالموت نفسه وأحوال الشخص الذي يموت. ويستعمل الفعل (جاء) مع غير كلمة (الموت) أيضاً كالأجل (فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ) [الأعراف:34] وسكرة الموت (وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّ) [ق:19] ولا يستعمل هنا (حضر الموت)؛ لأنه كما أسلفنا (حضر الموت) تستعمل للكلام عن أحكام ووصايا بوجود الموت حاضراً مع الشهود، أمّا (جاء) فيستعمل مع فعل الموت إذا كان المراد الكلام عن الموت وأحوال الشخص في الموت. السؤال الثاني: ما دلالة تقديم المفعول به مع ذكر الموت (إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ ) [البقرة:133] وما الفرق بين (حضر) و(جاء) و(أدرك) و(أصاب)؟ الجواب: 1ـ جاء لفظ الموت فاعلاً في 11 موضعاً في القرآن الكريم كله، ويقول العلماء: إنّ تقديم المفعول به وإبعاد الفاعل، هو إمّا للاهتمام بالمقدَّم والتلهف لمعرفة الفاعل، أو لإبعاد شبح الموت، وهو شيء مكروه لكل البشر فالكل لا يحب قدومه. 2ـ انظر الجدول التالي للأفعال التي جاءت مع الموت في القرآن: https://islamsyria.com/ar/ckeditor/k...8%D9%84(5).jpg المجموع: 11 موضعاً الفعل (حَضَرَ) فعل (حضر) هو من الحضور وهو نقيض الغياب، وقولك: كنت حاضراً معهم، أي: موجوداً، ولهذا نقول: (الله حاضر في كل مكان)، ونلمس بالفعل (حضر) شدة القرب. واستعمل القرآن الكريم في الآيات حضور الموت للأحكام والوصايا، وكأنّ الموت من جملة الشهود، والقرآن لا يتحدث في آيات (حضر) عن الموت نفسه أو أحوال الناس في الموت، لكنّ الكلام هو في الأحكام والوصايا (إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ) [البقرة:180] ووصية يعقوب لأولاده. الفعل (جَآءَ) فيه معنى القرب الشديد وتحقق الوقوع، والفعل (جاء) معناه الانتقال من مكان إلى مكان، وفي القرآن (فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ) [الكهف:98] بمعنى( لم يكن موجوداً، وإنما جاء الأمر) وكذلك (فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ) [المؤمنون:27]. و مجيء الموت في القرآن يستعمل في الكلام عن الموت نفسه أو أحوال الناس في الموت كما في آية المؤمنون [99] وآية الأنعام [61]. وكذلك يستعمل فعل (جاء) مع غير كلمة الموت كالأجل (فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ) [الأعراف:34] وسكرة الموت (وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّۖ) [ق:19]. الفعل: (يُدۡرِكُ) أدرك: أي: لحق به وقبض عليه، وفيه صورة الملاحقة، كما في آية النساء( 78 )، حيث تصور الآية من ينتقل من مكان لآخر هرباً من الموت، والموت يسعى وراءه حتى يدركه ولو كان متحصناً في بروج مشيدة. (أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ) [النساء:78] الفعل: (يَأۡتِيَ) إتيان الموت: المراد به إتيان أسبابه من وسائل التعذيب و الكلام عن المعذَّب بنار جهنم، كما في آية إبراهيم: (وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ ) [إبراهيم:17]. الفعل: (يَتَوَفَّى ): كلمة (توفّى) تأتي في القرآن على ثلاثة ألوان: 1ـ (ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا) [الزُّمَر:42]. 2ـ (قُلۡ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ) [السجدة:11]. 3ـ (تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا) [الأنعام:61]. فهو سبحانه ينسب الموت له ولملك الموت ولرسله، فأخذ الأرواح وقبضها إلى الله أمراً، وإلى ملك الموت وسيلة وواسطة، وإلى الرسل تنفيذاً. السؤال الثالث: لماذا لا يُذكر سيدنا إسماعيل مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في القرآن؟ الجواب: انظر الجواب في السؤال الأول في الآية [125]. السؤال الرابع: ما الفرق في الاستعمال القرآني بين الوالد والأب؟ الجواب: يستعمل القرآن لفظة (الوالدان) للأب المباشر، أي: أبو الولد وأمه، بينما تأتي لفظة (الأب) بمعنى أشمل من الوالد، إذ يندرج في تضاعيفه معنى: الجد والعم والأب الوالد، كما في آية البقرة [133] (أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ١٣٣) [البقرة:133]. لذلك نجد أنّ الأبوة بمعناها الشامل تضمنت: الجد إبراهيم، والعم إسماعيل، والأب الوالد: إسحق. السؤال الخامس: في الآية متعاطفان (قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ) [البقرة:133] فما أهم أقسام العطف في اللغة ؟ الجواب: المتعاطفان يكونان على أقسام: 1ـ عطف الشيء على مغايره،وهو الأصل، نحو: رأيت محمداً وخالداً. 2ـ عطف الشيء على مرادفه، نحو:هذا كذب وافتراء. 3ـ عطف العام على الخاص، آية الحجر 87، ونحو: اشتريت رماناً وفاكهة. 4ـ عطف الخاص على العام: آية البقرة 98، ويأتي لبيان الأهمية، فإنّ جبريل وميكال هم رؤساء الملائكة وليسوا كعمومهم، ومثله آية البقرة 238، وآية الرحمن 68. 5ـ عطف الشيء على نفسه لزيادة الفائدة، كما في آية البقرة 133. 6ـ عطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد: سورة الأعلى الآيتان 1ـ4، ونحو: مررت برجل فقيه وشاعر وكاتب. 7ـ عطف الاسم على الفعل وبالعكس، والأصل أنْ يعطف الاسم على الاسم والفعل على الفعل. 8ـ قد يعطف الاسم المشبه بالفعل كاسم الفاعل على الفعل وبالعكس، كما في آية الملك 19، وآية الأنعام 95، حيث عطف اسم الفاعل ( وَمُخۡرِجُ) على الفعل ( يُخۡرِجۡ )، وكذلك في آيتي سورة العاديات (3 ـ4) ( فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحٗا٣ فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعٗا٤ ). السؤال السادس: ما أهم النقاط في هذه الآية ؟ الجواب: 1ـ لمّا حكى الله عن إبراهيم عليه السلام في الآية السابقة أنه بالغ في وصية بنيه في الدين والإسلام، ذكر في هذه الآية أنّ يعقوب وصّى بنيه بمثل ذلك تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى، وزيادة في البيان. 2ـ ( أمْ ) هي للاستفهام أو العطف، وتأتي متصلة بما قبلها، وتأتي منقطعة بمعنى ( بل ) على الأغلب. 3 ـ قوله تعالى: (إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ) (إذ ) الأولى وقت الشهادة و( إذ ) الثانية وقت الحضور. 4 ـ الآية دالة على اهتمام الأنبياء بأولادهم وشفقتهم عليهم: آ ـ فقد سألهم عن ميراث الدين لا الدنيا. ب ـ سكرات الموت لم تنس يعقوب عليه السلام الدعوة للتوحيد , فقد كان يطمئنُّ على أعظم اهتماماته: مستقبل التوحيد في قلوبهم. ج ـ ما ألطف جوابهم على أبيهم , أثنوا عليه بالتوحيد, و بروه بالثناء على آبائه أيضا, (قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ) وكان يمكن أن يقولوا: نعبد الله. د ـ من واجب الآباء تفقد سلامة العقيدة في نفوس أبنائهم , لتكون العقيدة حاجزاً بينهم وبين الانحرافات المختلفة وخاصة الفكرية , والأولاد هم يمثلون المشروع الذي تعيش من أجله وستظهر بصماته حتى في اللحظات الأخيرة من الحياة، ولله درالنفوس الكبيرةالتي تظل تعطي حتى آخر قطرة من اناء الحياة. 5 ـ قوله تعالى: (مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ) لفظ ( ما ) لغير العقلاء، فكيف أطلقه في المعبود الحق ؟ والجواب: لفظ ( ما ) عام في كل شيء , والمعنى: أي شيء تعبدون ؟ ولفظة ( ما ) يمكن أن تستعمل للسؤال عن ذات غير العاقل مثل: ما هذا؟ هذا حصان، ما تأكل؟ آكل كذا، وتستعمل أيضاً لصفات العقلاء مثل:من هذا؟ تقول: خالد، ما هو؟ تقول: تاجر، شاعر. وفي القرآن: ـ قوله تعالى: (فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ) هذا صفة عاقل، أي: انكحوا الطيّب من النساء. ونظير ذلك قوله تعالى: (وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا٧) [الشمس:7] والذي سواها هو الله، وقوله (وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ٣) [الليل:3] من الخالِق؟ الله هو الخالق. ـ و (ما) قد تكون للسؤال عن حقيقة الشيء (قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحۡمَٰنُ) [الفرقان:60] يسألون عن حقيقته، وفرعون قال: (قَالَ فِرۡعَوۡنُ وَمَا رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢٣ ) [الشعراء:23] يتساءل عن الحقيقة. ـ وقد يؤتى بها للتفخيم والتعظيم، والتعظيم قد يكون في الخير أو في السوء أو ما يصيبه من السوء. قال تعالى: (ٱلۡقَارِعَةُ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ٢ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ٣ ) [القارعة:1-2-3] وقال: (وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ٢٧ ) [الواقعة:27] وقال: (وَأَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ٤١) [الواقعة:41]. 6 ـ لمّا تقدّم ذكر ( الإله ) في إضافتين:( قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ) بينوا أنّ المُراد فيهما واحداً تحقيقاً للبراءة من الشرك فقالوا: (إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا) والله أعلم |
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن(109) مثنى محمد هبيان (تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسَۡٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ١٣٤)[البقرة: 134] السؤال الأول:ما الدروس المستفادة من الآية؟ الجواب: 1ـ المقصود بالآية الأمم التي ذكرهم الله في الآيات المتقدمة، والمعنى أنه ليس لكم نفع سيرتهم ولا أفعالهم. 2ـ الآية دالة على بطلان التقليد، ولو كان التقليد جائزاً لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع. 3ـ الآية دالة على ترغيبهم في الإيمان واتباع الرسول محمد ﷺ. 4ـ الآية دالة على أنّ الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء، بخلاف قول اليهود بأنّ صلاح آبائهم ينفعهم، قال تعالى: (وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ ) [الأنعام:164] وقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ) [الأنعام:164] وفي الحديث: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه». 5ـ الآية تدل على بطلان قول من يقول من اليهود: الأبناء يعذبون بكفر آبائهم. 6ـ الآية تدل على أنّ العبد مكتسِبٌ، وجعل كسبه شبيهاً بكسب الأموال. السؤال الثاني: لماذا كررت (تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ ) في الآيتين 134و 141، مع أنّ الآيتين متجاورتان؟ الجواب: 1ـ الآية الأولى وردت إثباتاً لما نفاه أهل الكتاب من دين الإسلام الذي وصّى به إبراهيم ويعقوب. 2ـ وأمّا الثانية فوردت نفياً لما ادَّعَوه من أنّ إبراهيم ومن ذُكر بعده كانوا هوداً أو نصارى. والمعنى العام: أنّ أولئك فازوا بما تدينوا به من دين الإسلام وعليكم إثم مخالفتهم وما اقترفتم عليهم من التهود والتنصر الذي هم براء منه. 3ـ الآيتان [133 و 134] تقول لليهود: إنّ نسبكم إلى إبراهيم وإسحاق لن يشفع لكم عند الله بما حرفتموه وغيرتموه في التوراة وبما تفعلونه خلاف ما شرّع الله، فاعلموا أنّ عملكم هو الذي ستحاسبون عليه وليس نسبكم. أما الآية: 141، فقد قالوا: إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق كانوا هوداً أو نصارى. والله تبارك وتعالى لا يجادلهم وإنما يقول لهم: لنفرض، وهذا فرض غير صحيح، أنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق كانوا هوداً أو نصارى، فهذا لن يكون عذراً لكم؛ لأنّ لهم ما كسبوا ولكم أنتم ما كسبتم، فلا تأخذوا ذلك حجة على الله يوم القيامة. لذلك فإنّ سياق الآية الأولى يقول: لا شفاعة لكم يوم القيامة في نسبكم إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، بينما سياق الآية الثانية يقول: لا حجة لكم يوم القيامة في قولكم: إنهم كانوا هوداً أو نصارى، فلن ينفعكم نسبكم إليهم ولن يقبل الله حجتكم.والله أعلم. 4 ـ جاء في كتاب كشف المعاني لابن جماعة: قوله تعالى: {تلكَ أمة قد خلت} [البقرة:134-141] كررها مع قرب العهد بالأولى فما فائدة ذلك؟ والجواب: أنّ الأولى: وردت تقريراً لإثبات ما نفوه من دين الإسلام الذي وصّى به إبراهيمُ ويعقوبُ، ومعناه أنّ أولئك أدوا ما عليهم من التبليغ والوصية فلهم أجر ذلك، ولكم من الوزر والإثم بما خالفتموهم ما يعود عليكم وباله. وأمّا الثانية: فوردت نفياً لما ادعوه من أنّ إبراهيم ومن ذكر بعده كانوا هوداً أو نصارى. ومعناه: أنّ أولئك فازوا بما تدينوا به من دين الإسلام، وعليكم إثم مخالفتهم، وما اقترفتم عليهم من التهود والتنصر الذي هم براء منه. والله أعلم. |
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن110 مثنى محمد هبيان (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰ تَهۡتَدُواْۗ قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِۧمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ١٣٥ )[البقرة: 135] السؤال الأول:قوله تعالى في الآية: (قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِۧمَ حَنِيفٗاۖ) [البقرة:135] ما معنى (حنيفاً)، وما دلالتها؟ الجواب: الحَنفُ: هو الميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحَنفُ: الميل في المشي عن الطريق المعتاد، وسُمِّيَ دينُ إبراهيم حنيفاً على سبيل المدح للمِلّة؛ لأنّ الناس يوم ظهور ملّة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء، فجاء دين إبراهيم مائلاً عنهم، فلُقّب بالحنيف لقب مدح. السؤال الثاني: ما الفرق بين الدين والملة والشريعة ؟ الجواب: 1ـ الملة: اسم لجملة الشريعة ، وأصل الملة في اللغة (الملُّ) وهو التكرار من قولك: طريق مليل، إذا تكرر سلوكه ، لذلك (الملة) تفيد استمرار أهلها عليها ، ويقول أحدنا : مللتُ من الأمر إذا كرره كثيراً . وقد وردت في القرآن الكريم ( 15 ) مرة بعدة صيغ ، منها : [ملتنا ـ ملتهم ـ ملتكم ] لكنها جاءت مفردة: ( ملة إبراهيم ـ ملة آبائي إبراهيم) (8) مرات . وجاءت الكلمة أيضاً بمعاني الإملاء من قبل الآخرين ، كما في الآيات : (وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ ) [البقرة:282]. ( فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا) [الفرقان:5]. ومن ذلك قولهم : أمليت على فلان ، وكذلك مادة الإملاء في المدارس .وجاء في لسان العرب : قوله تعالى : ( حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ ) [البقرة:120] أي : سنتهم وطريقتهم. فكلمة ( ملة ) تستعمل في معنيين : آ ـ طريق يسلكه الناس دائماً . ب ـ أوامر وضوابط يلتزمها الناس ، وقد تم تلقيها من أناس آخرين كالآباء والأجداد ، سواء بالحق أو الباطل، لذا هناك ملة حق وملة باطل . 2ـ الدين: اسم لما عليه كل واحد من أهله، لذلك يقال: فلان حسن الدِّين، ولا يقال: حسنُ المِلَّةِ. والدين فيه معنى الطاعة والخضوع والإلزام ، والدين ما تُدين به نفسك فتخضع وتطيع . وإذا أُطلق الدين فهو الطاعة العامة التي يجازى عليها بالثواب، قال تعالى: (إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ) [آل عمران:19] وإذا قُيد اختلفت دلالته، وقد يسمى الدين والملة باسم الآخر في بعض المواقع لتقارب معنييهما، والدين ما يُطاع فيه المعبود، ولكل واحد منا دين. 3ـ الشريعة: لغة : مورد الماء الذي يؤخذ منه، وهي الطريقة المأخوذ فيها إلى الشيء، وسمي الطريق إلى الماء (الشريعة)، وقيل: (الشارع ) لكثرة الأخذ فيه . ومن هنا جاءت كلمة ( الشريعة ) في الإسلام ، لأنّ الناس تنهل وتأخذ منها كما ينهل الناس من مورد الماء , فهي كالماء للبشر . 4 ـ الملة لا تضاف إلا إلى نبي : ( ملة إبراهيم ) ولا يقال : ملة الله ، بل دين الله . ويقال : فلان حسن الدين ، ولا يقال : حسنُ الملة . وقيل : كل ملة دين ، وليس كل دين ملة . والله أعلم . السؤال الثالث: ما أهم نقاط هذه الآية ؟ الجواب: 1ـ الآية رقم ( 135 ) ذكرت المخالفة الثلاثين (30 ) لليهود التي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة من أصل (32 ) مخالفة ، وهي تحمل مضمون : دعوى أهل الكتاب أنّ الهداية في اتباع دين كل واحد منهما. 2ـ قوله تعالى : (حَنِيفٗاۖ) نصب على الحال من إبراهيم . 3ـ قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام : (وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) فيه إشارة إلى أنّ كلا الفريقين من اليهود والنصارى مشرك بالله تعالى ، وفيه ثناء على ملة إبراهيم عليه السلام ، وأنها هي الحنيفية السمحة المائلة عن الشرك ، وفيه تعريض لليهود والنصارى بالذم ، وأنهم حرّفوا وبدلوا وأشركوا مع الله غيره . والله أعلم . |
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن111 مثنى محمد هبيان ( قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ١٣٦ ) [البقرة: 136] السؤال الأول:جاء في نفس الآية: (أُنزِلَ) و (أُوتِيَ) فما الفرق بينهما في الدلالة ؟ الجواب: الإنزال يأتي من السماء ويستعمل للكتب، أمّا الإيتاء فهو يستعمل للكتب وغيره مثل المعجزات؛ لذلك (الإيتاء ) أوسع من (الإنزال) . في سورة البقرة نجد أنّ حجج موسى عليه السلام لم تكن في الكتاب، وإنما جاءه الكتاب بعدما أُوتي المعجزات . وجدير بالذكر أنه لم ترد في القرآن كله كلمة ( أنزل ) مطلقاً لموسى عليه السلام، وإنما استعملت معه كلمة (أُوتِيَ) . أمّا بالنسبة للرسول ﷺ فقد جاء الفعلان : (وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ سَبۡعٗا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ٨٧ ) [الحِجر:87] وقوله : {وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ} [البقرة: ٤] . السؤال الثاني: قوله تعالى في آية البقرة [136] (وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ) وفي آية آل عمران [84] (وَٱلنَّبِيُّونَ) بدون الإيتاء، فلماذا ؟ الجواب: تقدّم آية آل عمران، قوله تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ) [آل عمران:81] فأغنى عن إعادة إيتائهم ثانياً، ولم يتقدم مثل ذلك في البقرة، فصرح به بإيتائهم ذلك . السؤال الثالث: ما الفرق بين (أُنزِلَ إِلَيۡنَا) و(أُنزِلَ عَلَيۡنَا) في آيتي البقرة [136] وآل عمران [84]؟ الجواب: أولاً : استعراض الآيات : (قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ١٣٦ ) [البقرة:136]. (قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ٨٤) [آل عمران:84]. ثانياً : البيان : 1ـ الحرف (إلى) يأتي للغاية أو الوصول، والحرف (على) فيه نوع من الاستعلاء، كما في قوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِي زِينَتِهِۦ) [القصص:79]. 2ـ آية البقرة [136] فيها دعوة مباشرة لغير المسلمين أنْ يأتوا إلى الإسلام، فهو حديث بشر لبشر فقال المسلمون: (وما أُنزل إلينا) أي: هذا القرآن قد وصل إلينا وتسلمناه وهو خير مما عندكم، فجاءت (إلينا) بمعنى الوصول، ثم عُطف ما بعده عليه، فقال: (وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ) [البقرة:136] . 3ـ آية آل عمران [84] هي في أخذ الميثاق على الأنبياء أنْ يوصوا أتباعهم باتباع النبي محمد ﷺ الذي سيأتي ، وميثاق الله تعالى فيه علو ورفعة، فناسب (وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا) [آل عمران:84] . 4ـ أعاد في آية البقرة كلمة: أوتي (وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ) [البقرة:136] ولم يعدها في آية آل عمران، والسبب أنّ إيتاء النبيين ورد في آل عمران في الآية 81 قوله (لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم) فلم يكررها، بينما هناك لم يذكرها فكررها . السؤال الرابع: هل من زيادة في التفصيل في جواب السؤال السابق ؟ الجواب: قال في آية البقرة: (وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا) وكرر (أُوتِيَ) مرتين. وفي آية آل عمران: (وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا) ولم يكرر (أُوتِيَ). أولاً : معنى الأحرف : (على) موضوعة لكون الشيء فوق الشيء أومجيئه من علو، ومن معاني (إلى) المنتهى أو الانتهاء، كما تقول: سرت من الدار إلى السوق. ثانياً : البيـــان : 1ـ آية البقرة مصدرةٌ بخطاب المسلمين: (قُولُوٓاْ) فوجب أنْ يختار لهم (إلى)؛ فالمؤمنون لم ينزل الوحي عليهم من السماء، وإنما أُنزل على الأنبياء ثم انتهى من عندهم إليهم، فلمّا كان (قُولُوٓاْ) خطاباً لغير الأنبياء، وكان لأممهم كان اختيار (إلى) أولى من اختيار (على). ولمّا كانت سورة آل عمران قد صدّرت بما هو خطاب للنبي ﷺ وهو قوله : (قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا) [آل عمران:84] كانت (على) أحق بهذا المكان؛ لأنّ الوحي أنزل عليه. 2ـ أنّ تكرار لفظ (أُوتِيَ) في البقرة يقتضيه التعبير لأكثر من سبب : آ ـ آية البقرة جاءت في سياق ذكر عدد من الأنبياء وأخبارهم، مثل إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وبنيه وغيرهم من الأنبياء، فلمّا جرى ذكر الأنبياء السابقين ناسب ذلك تكرار الإيتاء لهم، بخلاف آية آل عمران فإنها ليست في مثل هذا السياق . ب ـ آية البقرة وردت بعد قوله تعالى: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰ تَهۡتَدُواْۗ ) [البقرة:135] فلمّا جرى ذكر هاتين الملتين ناسب ذلك تخصيص نبيهما بالإيتاء. ج ـ آية آل عمران وردت بعد أخذ الميثاق من النبيين على الإيمان بسيدنا محمد ﷺ إنْ هم أدركوه، قال تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مُّصَدِّقٞ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ٨١) [آل عمران:81] . كما وردت في سياق التأكيد على الإسلام والإيمان به فقد قال قبلها : (أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ٨٣) [آل عمران:83] وقال بعدها :( وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ٨٥ ) [آل عمران:85] فناسب ذلك عدم تكرار الإيتاء للأنبياء فيها؛ وذلك لأنّ السياق فيما أوتي سيدنا محمد لا فيما أوتي الأنبياء الآخرون. لذلك لمّا كان السياق في البقرة في ذكر الأنبياء ذكر الإيتاء لهم، ولمّا كان السياق في آل عمران في الإيمان بمحمد ودينه وأخذ الميثاق من الأنبياء على الإيمان به ناسب عدم تكرار الإيتاء للأنبياء . د ـ إنّ مشتقات الإيتاء من نحو: آتى وآتينا وأوتي وغيرها، وردت في سورة البقرة في 34 موضعاً، وفي آل عمران 19 موضعاً، فاقتضى الجو التعبيري تكرار لفظ الإيتاء في البقرة دون آل عمران. والله أعلم . السؤال الخامس: في الآية الكثير من حرف العطف (الواو) فهل من فكرة عن حروف العطف في اللغة ؟ الجواب: حروف العطف تتوسط اسمين أو فعلين، ويكون للاسم أو الفعل الذي يليها نفس حكم الاسم أو الفعل الذي يسبقهما من حيث الإعراب، وهي تسعة أحرف : 1ـ حرف الواو : وهي لمطلق الجمع، وقد تأتي للترتيب كما في آية البقرة: 136، وآية الوضوء المائدة: 6، وقد تأتي بدون الترتيب، كما في آية البقرة: (قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ) [البقرة:136] فلا شك أنّ ما أنزل إلينا متأخر عما أنزل إلى باقي الآنبياء. والواو تستعمل مقرونة : بـ( إمّا ) و(لكن) و(لا)، وتستعمل في عطف الشيء على نفسه أو مرادفه أو لعطف العام على الخاص، كما في آية الحجر: 87، والبقرة: 136، ونوح: 28 . وأمّا عطف الخاص على العام، كما في آية البقرة: 98، والبقرة: 238 ، فلا تختص بها الواو بل قد يشاركها فيه غيرها نحو : مات الناس حتى الأنبياء . والتقديم والتأخير موضوع هام يرجى الرجوع إليه في باب التقديم والتأخير لبيان تفاصيله وأمثلته. 2ـ حرف الفاء : وتفيد الترتيب والتعقيب: وربما لا تفيد الترتيب، بل لعطف مفصّل على مجمل، نحو آية النساء: (فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ) [النساء:153] فقوله: (أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَة) هو تفصيل لقوله: (فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ). ويمكن للفاء في القرآن أنْ لا تفيد التعقيب كما في آيتي الأعلى: (وَٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ٤ فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ٥) [الأعلى: 4-:5] فالغثاء لا يعقب خروج المرعى بل يكون بعده بمدة، كما في آية الزمر: (أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ حُطَٰمًاۚ) [الزُّمَر:21] فعبّر عن جعله حطاماً بـ (ثم). لكنْ يمكن القول : إنّ الأصل في الفاء أنْ تكون للتعقيب، وهذا التعقيب قد يكون حقيقياً (ثُمَّ أَمَاتَهُۥ فَأَقۡبَرَهُۥ٢١ ) [عبس:21] وقد يكون مجازياً الهدف منه تقصير المدة حسب المقام، فقد تقول: الدنيا قصيرة، في مقام، وتقول : الدنيا طويلة، في مقام آخر. وقد تفيد الفاء الدلالة على السبب، كقوله تعالى: (فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ ) [القصص:15] وكذلك البقرة [22]، وربما لا تفيد السبب، كما في قوله تعالى: (فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجۡلٖ سَمِينٖ٢٦ فَقَرَّبَهُۥٓ إِلَيۡهِمۡ قَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ٢٧) [الذاريات:26-27]. 3ـ الحرف (ثُمَّ) : يفيد الترتيب والتراخي : والتراخي إمّا للزمان وهي المهلة، أو للتباين في الصفات وغيرها من غير قصد مهلة زمانية. 4 ـ الحرف (حتَّى) : حرف عطف يفيد الغاية، وحتى للعطف لا تفيد ترتيباً، بل هي كالواو. 5ـ الحرف (أَمْ) : وهي متصلة ومنفصلة ، والمتصلة تنحصر في نوعين : آـ أنْ تتقدم عليها همزة يطلب بها وأم للتعيين، نحو: أخالد عندك أم محمد ؟ ب ـ أنْ تتقدم عليها همزة التسوية، كقوله تعالى: (سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ٦) [البقرة:6]. والمنفصلة : تقع بين جملتين مستقلتين وتفيد الإضراب عن الكلام الأول، وقد يكون الاستفهام الذي تفيده إمّا حقيقياً أو غير حقيقي ويراد به الإنكار والتوبيخ، كقوله تعالى: (أَمۡ لَهُ ٱلۡبَنَٰتُ وَلَكُمُ ٱلۡبَنُونَ٣٩) [الطور:39] . 6ـ الحرف (أو) : وله عدة معان منها : آـ الشك: نحو قوله تعالى: (قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖ) [المؤمنون:113]. ب ـ الإبهام. ج ـ التخيير. د ـ الإباحة: إذا دخلت (لا) الناهية على التخيير أو الإباحة امتنع فعل الجميع، نحو قوله تعالى: {وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورٗا٢٤} [الإنسان: ٢٤]. هـ ـ الإضراب: نحو قوله تعالى: (وَأَرۡسَلۡنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلۡفٍ أَوۡ يَزِيدُونَ١٤٧ ) [الصافات:147] وقيل: (أو) هنا للإبهام أو للتخيير، حسب ما يراه الرائي. وـ التقسيم: نحو: الناس مسلم أو كافر . زـ بمعنى الواو: كقوله ﷺ : «اسكن أُحُد، فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد». 7 ـ الحرف (لكن) : تفيد الاستدراك، نحو: ما أقبل محمد لكنْ خالد، وتعطف بعد نفي أو نهي بشرط إفراد معطوفها. 8 ـ الحرف (بل) : حرف إضراب يدخل على المفردات والجمل ، فإنْ دخلت على جملة كان معنى الإضراب إمّا إبطالياً وإمّا إنتقالياً. الإضراب الابطالي : هو أنْ تأتي جملة تبطل معنى الجملة السابقة، كما في آية الأنبياء: (وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ٢٦) [الأنبياء:26] . الإضراب الانتقالي : فهو أنْ تنتقل من غرض إلى غرض آخر مع عدم إبطال الكلام الأول، نحو قوله تعالى في آية الأعلى: (قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ١٥ بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ١٧ ) [الأعلى:14-15-16-17] . وحرف : (لا بل) فتفيد توكيد الإضراب نحو : جاء محمد لا بل خالد . 9ـ الحرف (لا) : وتفيد النفي وتعطف بثلاثة شروط: آ ـ أنْ يسبقها إثبات: أقبل محمد لا خالد . ب ـ أنْ لا تقترن بعاطف، فإذا قلت: ما جاء محمد ولا خالد، كانت الواو عاطفة و(لا) زائدة تفيد التوكيد. ج ـ أنْ يتعاند متعاطفاها، نحو : أقبل رجل لا امرأة، بخلاف: أقبلت هند لا امرأة؛ لأنّ هند امرأة . السؤال السادس: قوله تعالى في الآية : (لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ) فكيف تمّ عطف ( لا ) النافية على ما قبلها ؟ الجواب: انظر الجواب في حرف العطف ( لا ) في نهاية السؤال السابق . السؤال السابع: في الآية ذكر للأسباط والأبناء، فما منظومة الأبناء والأحفاد والذرية في اللغة والقرآن ؟ الجواب: البنون : تُطلق على الأطفال الصغار سواء كانوا أبناءك المباشرين أو أبناء أبنائك فكلهم بنون، وأبناء الأبناء فريقان: آ ـ الحفيد هو ابن الابن الذي يعيش مع جده. ب ـ الذين يعيشون بعيداً عن أجدادهم فيسمون بنين إذا كانوا صغاراً، فإذا كبروا يسمون أبناء. شواهد قرآنية : (ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ) [الكهف:46] . حفــد : الحفد: جمع حافد، وهو الخادم المتطوع لخدمة المتقن لحرفته . الأحفاد هم أولاد الأولاد، ويقال لهم : بنون إذا كانوا صغاراً، وإذا كبروا صاروا أبناء . شواهد قرآنية : (وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ) [النحل:72]. الأسباط : السبط هو ولد البنت، مقابل الحفيد الذي هو ولد الابن ، فالأصل هم أبناء البنات، وتطلق أيضاً بشكل استثنائي على أحفاد الأنبياء سواء كانوا أبناء بنين أو أبناء بنات، أي: هم ذرية الأنبياء. والسبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب . شواهد قرآنية : (وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ) [البقرة:136]. الذرية: مشتقة من ذرأ، أي: الإيجاد بكثرة، أو من الذَّرِّ: وهو التفريق أي تتفرق الأسر من كثرتها. النسل: هو الولد لكونه ناسلاً، قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ٨ ) [السجدة:8] . السلالة : قيل: للوليد سليل؛ لأنه سلّ من أبيه وأمه. شواهد قرآنية: (وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ١٢) [المؤمنون:12] السؤال الثامن: ما أهم نقاط هذه الآية ؟ الجواب: 1 ـ هذه الآية ردٌ على اليهود والنصارى حيت آمنوا بانبيائهم وكفروا بما جاء بعدهم ، وفرّقوا بينهم في الأديان . وقد اشتملت الآية على ضرورة الإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب ، وأن لا يكون المؤمنون مثل اليهود والنصارى الذين قالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وقد أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا بهذه الكتب ويصدّقوها، ولا يعملوا بما فيها، لأنّ العمل فيها قد انتهى أمده ، وليس في وسع أحدٍ العمل بغير القرآن . عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : (لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا ) صحيح البخاري . 2ـ قوله تعالى : (وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ) أي خاضعون مستسلمون ذليلون منقادون لربكم .والله أعلم . |
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن112 مثنى محمد هبيان (فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ١٣٧ ) [البقرة: 137] السؤال الأول:قوله تعالى في الآية: (فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْ ) [البقرة:137] لم اختص تعالى أداة الشرط (إن) وليس (إذا)؟ الجواب: (إنْ) حرف شرط جازم، ولكنه يفيد الشك خلافاً لـ(إذا)، وقد جاء الشرط هنا في الآية بـ (إن) إيذاناً بأنّ إيمانهم غير مرجو وميؤوس منه. السؤال الثاني: ما إعراب الضمائر في قوله تعالى (فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ) [البقرة:137] ؟ الجواب: فسيكفيكهم الله: الكاف مفعول أول؛ لأنّ (كفى) تأخذ مفعولين، (هم) مفعول ثانٍ، (الله) لفظ الجلالة فاعل، أي: فسيكفيك الله إياهم . وفي قوله تعالى: ( فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ)وَعْدٌ منه سبحانه لعباده المؤمنين الصادقين بحفظهم من كيد أعدائهم ومكرهم . السؤال الثالث: لماذا قدّم الله السمع على العلم في الآية ؟ الجواب: حيث وقع في القرآن تقدم السمع على العلم ؛ وذلك لأنّ السمع يتعلق بما يقرب كالأصوات وهمس الحركات، فإنّ من سمع حسك وخَفِيَّ صوتك أقرَبُ إليك في العادة ممن يقال لك عنه : إنه يعلم، وإنْ كان علم الله متعلقاً بما ظهر وبطن وواقعاً على ما قرب وبعُد، فكان ذكر السمع أوقع في باب التخويف من ذكر العليم؛ فهو أولى بالتقديم .ويمكن أنْ يقال : إن السمع من وسائل العلم فهو يسبقه . السؤال الرابع: ما معنى (الشقاق) في الآية؟ الجواب: (الشقاق) مأخوذ من الشق، كأنه صار في غير شقٍ صاحبه بسبب العداوة، وقد شقّ عصا المسلمين إذا فرّق جماعتهم وفارقها، ونظيره (المحادّة) وهي أن يكون هذا في حد وذاك في حد آخر، و(التعادي) مثله، لأن يكون هذا في عدوة وذاك في عدوة أخرى، و(المجانبة) أن يكون هذا في جانب وذاك في جانب آخر . و(الشِقّ) بالكسر نصف الشيء وهو الناحية من الجبل، و(الشقيقة) وجعٌ يأخذ بنصف الرأس والوجه، والشِقّ أيضاً من المشقة ومنه قوله تعالى : (إلا بشق الأنفس)، والشقيق الأخ ، و(الشِقاق) الخلاف والعداوة . و(الشَقّ) بفتح الشين واحد (الشُقوق) .والله أعلم. |
الساعة الآن : 03:02 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour