رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(112) - الرخصة من الله صدقة، فلا تردوا صدقته اليسر ورفع الحرج من أبرز معالم الإسلام وخصائصه العظام، وقد تجلت مظاهر التيسير في كل جوانب الشريعة الإسلامية، فمن ذلك قلة التكاليف مقارنة بالمباحات، وتشريع الرخص مراعاة للظروف الإنسانية والأعذار البشرية. وقد جاءت النصوص الشرعية تقرر مبدأ التيسير، وتحث على الأخذ بالرخص الشرعية؛ لما في ذلك من قبول نعمة الله تعالى على عباده وعدم الإعراض عنها، ولما في الأخذ بالرخص من الإعانة على طاعة الله -تعالى- وتخفيفها على النفوس، وتحبيبها إلى القلوب. فقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج: 78)، قال الطاهر بن عاشور: «جعله دينا لا حرج فيه؛ لأن ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل، فيسعد أهله بسهولة امتثاله، وقد امتن الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن، منها قوله تعالى {َيُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(البقرة: 185)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة».ولأن الرخص منة من الله تعالى ونعمة فالواجب قبولها وشكر الله عليها، فعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}(النساء: 101) وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ. فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ, فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ». وقال ابن عباس: «الرخصة من الله صدقة. فلا تردوا صدقته». والله -تعالى- يحب الأخذ بالرخص بشروطها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» أخرجه أحمد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» رواه أحمد قال الشوكاني: «والمراد بالرخصة التسهيل والتوسعة في ترك بعض الواجبات أوإباحة بعض المحرمات، وهي في لسان أهل الأصول الحكم الثابت على خلاف دليل الوجوب أو الحرمة لعذر، وفيه أن الله يحب إتيان ما شرعه من الرخص، وفي تشبيه تلك المحبة بكراهته لإتيان المعصية دليل على أن في ترك إتيان الرخصة ترك طاعة كالترك للطاعة الحاصل بإتيان المعصية». وغضب النبي صلى الله عليه وسلم حين أعرض الناس عن الرخص الشرعية، فعن عائشة قالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر فتنزه عنه ناس من الناس، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال: «ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه، فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية» أخرجه مسلم. قال القرطبي: «ويستفاد من هذا الحديث النهي عن التنطع في الدين، وعن الأخذ بالتشديد في جميع الأمور، فإن دين الله يسر، وهو الحنيفية السمحة، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه، وحاصل الأمر:أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فما شدد فيه التزمناه على شدته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله -تعالى- على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا فليس على سنته». والرخصة حكم شرعي له شروط وموانع، فلا يصح ترك الواجبات أو فعل المحرمات لأدنى عارض أو أقل مشقة، بل لابد من سؤال أهل العلم لمعرفة ضوابط الرخصة ليحقق المكلف مراد الشارع، ويجتنب الوقوع في اتباع الهوى بحجة الأخذ بالرخصة الشرعية. يوضح ابن القيم-رحمه الله- أن الرخصة نوعان وحكمهما مختلف؛ فأحدهما: الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع نصاً، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة، وإن قيل لها عزيمة باعتبار الأمر والوجوب، فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة، وكفطر المريض والمسافر، وقصر الصلاة في السفر، وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعداً، وفطر الحامل والمرضع خوفاً على ولديهما، فليس في تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته، ولا يرده إلى غثاثة، ولا ينقص طلبه وإرادته البتة؛ فإن منها: ما هو واجب،كأكل الميتة عند الضرورة. ومنها: ما هو راجح المصلحة، كفطر الصائم المريض، وقصر المسافر وفطره.ومنها: ما مصلحته للمترخص وغيره؛ ففيه مصلحتان: قاصرة ومتعدية، كفطر الحامل والمرضع.ففعل هذه الرخص أرجح، وأفضل من تركها. النوع الثاني: رخص التأويلات، واختلاف المذاهب، فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص. فإن من ترخص بقول أهل مكة في الصرف، وأهل العراق في الأشربة، وأهل المدينة في الأطعمة، وأصحاب الحيل في المعاملات، وأمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء، فهذا الذي تنقص برخصته رغبته، ويوهن طلبه، ويلقيه في غثاثة الرخص؛ فهذا لون والأول لون». ويؤكد الشاطبي أهمية تحقق شرط الرخصة قبل الأخذ بها ليسلم المكلف من اتباع الهوى فيقول: «فالمشقات التي هي مظان التخفيفات في نظر الناظر على ضربين: - أحدهما: أن تكون حقيقية، وهو معظم ما وقع فيه الترخص كوجود المشقة المرضية والسفرية، وشبه ذلك مما له سبب معين واقع. - والثاني: أن تكون توهمية مجردة؛ بحيث لم يوجد السبب المرخص لأجله، ولا وجدت حكمته وهي المشقة وإن وجد منها شيء، لكن غير خارج عن مجاري العادات. فأما الضرب الأول; فإما أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادا لا يطيقه طبعا أو شرعا، ويكون ذلك محققا لا مظنونا ولا متوهما أو لا ; فإن كان الأول ; فرجوعه إلى الرخصة مطلوب، ورجع إلى القسم الذي لم يقع الكلام فيه ; لأن الرخصة هنا حق لله. وإن كان الثاني وهو أن يكون مظنونا ; فالظنون تختلف، والأصل البقاء على أصل العزيمة، ومتى قوي الظن ضعف مقتضى العزيمة، ومتى ضعف الظن قوي. وأما الضرب الثاني، وهو أن تكون توهمية؛ بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة، نحو الظان أنه تأتيه الحمى غدا بناء على عادته في أدوارها فيفطر قبل مجيئها، وكذلك الطاهر إذا بنت على الفطر ظنا أن حيضتها ستأتي ذلك اليوم، وهذا كله أمر ضعيف جدا. والحاصل من هذا التقسيم أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات، وهي مختلفة، وكذلك أهواء النفوس; فإنها تقدر أشياء لا حقيقة لها». فبعض الناس للأسف يستدل بأن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه على ما يقوم به من مخالفات شرعية ظنا منه أن الشرع يرخص له في ذلك، والواجب عليه أن يتحقق من توافر شروط الرخصة وانتفاء موانعها، وإلا كان متبعا للهوى، والهوى مذموم في النصوص الشرعية، كما قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ}(الجاثية: 23)، وقال صلى الله عليه وسلم : «ثلاث مهلكات وثلاث منجيات؛ فالمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه»، وقال الشعبي: «إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار». وقال ابن عباس: «ما ذكر الله الهوى في القرآن إلا ذمه». نسأل الله -تعالى- السلامة والعافية. اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(113) - خالِص المؤمن وخالِق الفاجر للمسلم أخلاق كريمة، وآداب جميلة، تتجلى في تصرفاته وتعامله مع غيره؛ سواء أكان غيرة من المؤمنين الصالحين، أم من الفاسقين العاصين، أم كان من غير المسلمين، فالمسلم يلتزم حدود ما أنزل الله -تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ من العلم والعدل والرحمة الذي أرشدت إليه النصوص الشرعية، وأكدته القواعد الدينية. وقد نقل الشَّعْبِيِّ عن صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ أنه قال لابْنِ يَزِيدَ: «خَصْلَتَانِ أُوصِيكَ بِهِمَا فَاحْفَظْهُمَا مِنِّي، خَالِصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَالِقِ الْفَاجِرَ، فَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرْضَى مِنْكَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَأَنَّهُ يَحَقُّ عَلَيْنَا أَنْ نُخَالِصَ الْمُؤْمِنَ». فهذه الحكمة الموجزة دلت على الموقف المطلوب من المسلم حين يخالط ويتعامل مع صنفين من الناس؛ وهما المسلم الصالح، والآخر المسلم الفاجر.أما المسلم الصالح فقد أمر الشرع بالنصح والإخلاص له، فعن تميم بن أوس الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة ثلاثا قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم. يبين النووي كيفية النصيحة لعامة المسلمين وذلك بإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط همهم إلى الطاعات. وقال الشيخ ابن سعدي: «وأما النصيحة لعامة المسلمين فبأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسعى في ذلك بحسب الإمكان، فإن من أحب شيئاً سعى له، واجتهد في تحقيقه وتكميله». أما الصنف الآخر ـ وهو المسلم الفاجر ـ الذي قد يبتلى به الإنسان في عمل أو جوار أو غير ذلك من أحوال الدنيا، ويتأذى من سوء خلقه أو سلاطة لسانه، فالمطلوب من المسلم أن يتحلى بالمداراة وحسن الخلق، وأن يقف حيث أوقفه الشرع، فلا يقبل مجاراة الآخرين في أخلاقهم وسوء أعمالهم. فعن عروة بن الزبير أنَّ عائشة أخبرته أنَّه استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقالصلى الله عليه وسلم : «ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة». فلما دخل ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلتَ ما قلتَ، ثم ألنتَ له في القول. فقال: «أي عائشة، إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله من تركه - أو ودعه - الناس اتقاء فحشه» رواه البخاري ومسلم. قال النووي: «وفي هذا الحديث مداراة من يتقى فحشه، وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه، ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه، ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه، ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام». والمداراة مصدر دارى، أي: لاطفه ولاينه، ومداراة الناس: أي ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم؛ لئلا ينفروا عنك . قال ابن بطال: «المدَاراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول»، وقال ابن حجر: «المراد به الدفع برفق»، وقال المناوي: «المدَاراة: الملاينة والملاطفة». وقال ابن القيم مبينا الفرق بين المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة: «المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، وأما المداهن فهو يتلطف به ليقره على باطله، ويتركه على هواه. فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق». وقال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين؛ وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لا يظهر ما هو فيه والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك» . وتأمل أدب إبراهيم عليه السلام مع أبيه الكافر كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا}(مريم: 41 - 45). قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذا من لطف الخطاب ولينه ما لا يخفى، فإنه لم يقل: يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل. أو:ليس عندك من العلم شيء، وإنما أتى بصيغة تقتضي أنَّ عندي وعندك علمًا، وأنَّ الذي وصل إليَّ لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها». وانظر توجيه الله -تعالى- لموسى وهارون عليهما السلام قال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولاَ لَهُ قَوْلا لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(طه: 43 - 44). قال ابن كثير: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين». قال الحسن البصري: «كانوا يقولون:المدَاراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كلُّه». وقال: «المؤمن يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله». وقال محمد بن السماك: «من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المدَاراة ترك المماراة». فالمسلم على بصيرة من دينه، وحكمة في تصرفه، يتخذ الموقف المناسب الذي يحقق المصالح ويدرأ المفاسد وفق الضوابط الشرعية، فعليه أن يكون حليما رفيقا في موضع الرفق، ويكون حازما صريحا في موقف الحزم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل الرفق والحزم كلا في موضعه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم مداهنا، ولا منفرا، بل كان حكيما رحيما صلى الله عليه وسلم . اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(114) - من أطال الأمـل أساء العمل فطر الإنسان على حب الدنيا، والتعلق بها، والرغبة في الازدياد منها، وهو ما يعرف بالأمل، قال القرطبي: «الأمل الحرص على الدنيا، والانكباب عليها، والحب لها، والإعراض عن الآخرة».وقال ابن حجر: «الأمل بفتحتين رجاء ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى، وهو قريب المعنى من التمني». ولاشك أن الأمل ضروري للإنسان ليقدم له الحافز للعمل والدافع للإنجاز، إلا أن المذموم هو الانشغال به عن الآخرة كما قال ابن حجر: «وفي الأمل سر لطيف؛ لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه، وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته له». وقد جاءت النصوص الشرعية تحذر من طول الأمل وتدعو إلى الاستعداد ليوم المعاد، فقد قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(الحجر :3)قال الطبري: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ذر يا محمد هؤلاء المشركين يأكلوا في هذه الدنيا ما هم آكلوه، ويتمتعوا من لذاتها وشهواتهم فيها إلى أجلهم الذي أجلت لهم، ويلههم الأمل عن الأخذ بحظهم من طاعة الله فيها، وتزودهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم، فسوف يعلمون غدا إذا وردوا عليه، وقد هلكوا على كفرهم بالله وشركهم حين يعاينون عذاب الله أنهم كانوا من تمتعهم بما كانوا يتمتعون فيها من اللذات والشهوات كانوا في خسار وتباب». وقال ابن حجر: «قال الجمهور: هي عامة، وقال جماعة: هي في الكفار خاصة، والأمر فيه للتهديد وفيه زجر عن الانهماك في ملاذ الدنيا». وقال ابن سعدي: «{وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} أي: يؤملون البقاء في الدنيا فيلهيهم عن الآخرة، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أن ما هم عليه باطل، وأن أعمالهم ذهبت خسرانا عليهم، ولا يغتروا بإمهال الله تعالى، فإن هذه سنته في الأمم». وقال صلى الله عليه وسلم : «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل». رواه الإمام أحمد وحسنه الشيخ الألباني. يوضح المناوي مناسبة صلاح أول الأمة بالزهد واليقين فيقول: «إذ بهما يصير العبد شاكرا مفوضا مسلما متوكلا، ويهلك آخرها بالبخل والأمل؛ فإنهما لا يكونان إلا ممن فقد يقينه، وساء ظنه بربه فبخل، وتلذذ بالشهوات، وطال أمله، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا». وطول الأمل شيء فطري في قلب الإنسان، يكبر معه ولا ينفك عنه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يزال قلب الكبير شابّاً في اثنتين: في حبّ الدّنيا وطول الأمل». رواه البخاري، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان؛ حب المال، وطول العمر» متفق عليه واللفظ للبخاري. قال ابن حجر: «قوله: «لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين في حب الدنيا وطول الأمل». المراد بالأمل هنا (محبة طول العمر) فسره حديث أنس الذي بعده، وسماه شابا إشارة إلى قوة استحكام حبه للمال أو هو من باب المشاكلة والمطابقة». قَالَ النَّوَوِيّ: «وَمَعْنَاه: أَنَّ قَلْب الشَّيْخ كَامِل الْحُبّ لِلْمَالِ مُتَحَكِّم فِي ذَلِكَ كَاحْتِكَامِ قُوَّة الشَّابّ فِي شَبَابه» . وَقَالَ غَيْره: الْحِكْمَة فِي التَّخْصِيص بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ أَحَبّ الْأَشْيَاء إِلَى اِبْن آدَم نَفْسه, فَهُوَ رَاغِب فِي بَقَائِهَا فَأَحَبَّ لِذَلِكَ طُول الْعُمْر, وَأَحَبَّ الْمَال؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَم الْأَسْبَاب فِي دَوَام الصِّحَّة الَّتِي يَنْشَأ عَنْهَا غَالِبًا طُول الْعُمْر, فَكُلَّمَا أَحَسَّ بِقُرْبِ نَفَاد ذَلِكَ اِشْتَدَّ حُبّه لَهُ وَرَغْبَته فِي دَوَامه . وفي كثير من الأحيان يكون أمل الإنسان طويلا، وأحلامه بعيدة دون أن يدري أن أجله أقصر من ذلك بكثير، فعن عبدالله رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: «هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار(الأعراض) فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا».أخرجه البخاري وفي الحديث إشارة إلى الحض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل . ولطول الأمل آثار خطيرة منها: قسوة القلب والغفلة كما قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد: 16). قال ابن عاشور: «والتحذير منصب إلى ما حدث لأهل الكتاب من قسوة القلوب بعد طول الأمد عليهم في مزاولة دينهم، أي: فليحذر الذين آمنوا من أن يكونوا مثلهم على حدثان عهدهم بالدين، وليس المقصود عذر الذين أوتوا الكتاب بطول الأمد عليهم؛ لأن طول الأمد لا يكون سببا في التفريط فيما أطال فيه الأمد بل الأمر بالعكس، ولا قصد تهوين حصوله للذين آمنوا بعد أن يطول الأمد؛ لأن ذلك لا يتعلق به الغرض قبل طول الأمد، وإنما المقصود النهي عن التشبيه بالذين أوتوا الكتاب في عدم خشوع قلوبهم، لكنه يفيد تحذير المؤمنين بعد أن يطول الزمان من أن يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب». وقال أبو موسى الأشعري: «لا يطولنَّ عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم». رواه مسلم وقال علي: «إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل؛ فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة». وقال أيضا: «من أطال الأمل أساء العمل». وقال ابن حجر: «ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب; لأن وقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى:{فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم}، وقيل: «من قصر أمله قل همه وتنور قلبه; لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة وقل همه ورضي بالقليل». ويبين الغزالي أن طول الأمل له سببان؛ أحدهما: الجهل، والآخر: حب الدنيا، وبين علاجهما فقال: «أما الجهل فيدفع بالفكر الصافي والحكمة البالغة، وأما حب الدنيا فلا علاج له إلا بالإيمان باليوم الآخر وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثواب، ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا». ونختم بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناءك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك». أخرجه الحاكم. اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(115) - المؤمن غِــرٌّ كريم جاء الإسلام ليهذب الأخلاق ويزكي النفوس، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة: 2). فالدين يريد من المسلم أن يكون محمود الشمائل، كريم الأخلاق، سليم الصدر، إلا إن ذلك لا يعني أن يكون غافلا أو مغفلا، بل عليه أن يكون -مع حسن خلقه- حصيفا، وافر اللب، مستحكم العقل، كيـّسا فطنا. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خبٌّ لئيم» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني. قال في الشرح: «(المؤمن غر): بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء (كريم): أي: موصوف بالوصفين أي له الاغترار لكرمه (والفاجر): أي الفاسق (خب): بفتح خاء معجمة وتكسر وتشديد موحدة أي يسعى بين الناس بالفساد، والتخبب إفساد زوجة الغير أو عبده (لئيم): أي بخيل لجوج سيئ الخلق». قال الخطابي موضحا معنى الحديث: «إن المؤمن المحمود هو من كان طبعه وشيمته الغرارة وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه، وأن ذلك ليس منه جهلا لكنه كرم وحسن خلق، وأن الفاجر هو من كانت عادته الخب والدهاء والوغول في معرفة الشر، وليس ذلك منه عقلا ولكنه خب ولؤم». وقال ابن الأثير: «المؤمن غر كريم أي ليس بذي مكر فهو ينخدع لانقياده ولينه، وهو ضد الخب، يقال فتى غر وفتاة غر». وقال المناوي: «(المؤمن غِرٌّ) أي: يغُرُّه كلُّ أحد، و يغُرُّه كلُّ شيء، ولا يعرف الشَّرَّ، وليس بذي مَكْر ولا فطنة للشَّرِّ، فهو يَنْخَدع لسَلَامة صَدْره، وحسن ظنِّه، وينخَدع لانقياده ولينه. (كريم) أي: شريف الأخلاق (والفاجر) أي: الفاسق (خبٌّ لئيم) أي: جريء، فيسعى في الأرض بالفساد، فالمؤمن المحمود: من كان طبعه الغَرَارة، وقلَّة الفِطْنة للشَّرِّ، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلًا، والفاجر من عادته الخُبث والدَّهاء والتَّوغل في معرفة الشَّرِّ، وليس ذا منه عقلًا». وقال الطاهر بن عاشور: «وفي الحديث: «المؤمن غر كريم» أي: من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله، فإن الإيمان يزيد الفطنة؛ لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة، ألا ترى إلى قوله: «والسعيد من وعظ بغيره» مع قوله: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله، وأما معنى: «المؤمن غر كريم» فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية». ومن الأحاديث التي تحث على سلامة الصدر وحسن النية وسلامة الدخيلة ما رواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «أي النَّاس أفضل؟ قال: «كلُّ مَخْموم القلب، صدوق اللِّسان». قالوا: صدوق اللِّسان نعرفه، فما مَخْموم القلب؟ قال: «هو النَّقيُّ التَّقيُّ، لا إثم عليه، ولا بَغْي ولا غلٌّ ولا حسد».أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني. فهذا الحديث يدل على فضل سلامة الصدر وحسن الظن وطيب القلب وصدق الحديث، وأن اشتمال النفس على الإثم والبغي والغل والحسد أمر مذموم ينبغي على المسلم التوقي منه والعمل على تزكية نفسه وتطهيرها منه. ولا بد من التفريق بين سلامة الصدر وبلادة الحس وقلة العقل وسوء التدبير، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فالقلب السَّليم المحمود، هو الذي يريد الخير لا الشَّر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشَّر، فأمَّا من لا يعرف الشَّر، فذاك نقص فيه لا يُمدح به». وقال ابن القيِّم: «والفرق بين سَلَامة القلب والـبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيَسْلَم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف الـبَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهذا لا يُحْمد؛ إذ هو نقص، وإنَّما يَحْمد النَّاس من هو كذلك؛ لسَلَامتهم منه، والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشَّرِّ، سليمًا من إرادته، قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه : «لست بِخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ». وكان عمر أعقل من أن يُخْدع، وأورع من أن يَخْدع، وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء: 88-89)، فهذا هو السَّليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشُّبهة التي توجب اتِّباع الظَّنِّ، ومرض الشَّهوة التي توجب اتِّباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السَّليم الذي سَلِم من هذا وهذا». وقد وصف الله تعالى المؤمنين بأنَّهم يقولون: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 10). قال ابن عاشور: «أي سألوا الله أن يطهر نفوسهم من الغل والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطوه من فضيلة صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فضل به بعضهم من الهجرة وبعضهم من النصرة، فبين الله للذين جاؤوا من بعدهم ما يكسبهم فضيلة ليست للمهاجرين والأنصار، وهي فضيلة الدعاء لهم بالمغفرة وانطواء ضمائرهم على محبتهم وانتفاء البغض لهم، والمراد أنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضون أنفسهم عليه. وقد دلت الآية على أن حقا على المسلمين أن يذكروا سلفهم بخير، وأن حقا عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعظيمهم». ولفضل سلامة الصدر ينعم الله تعالى به على أهل الجنة إذا دخلوها قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف: 43). وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} (الحجر: 47). قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وصف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد وغمر وعداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض، فجعلهم في الجنة إذا أدخلوها على سرر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم وفضله من كرامته عليه ، تجري من تحتهم أنهار الجنة». ففي هذا الزمن الذي كثر فيه الغش والخداع، وافتخر بعض الناس وجاهر بدهائه وقدرته على استغفال الناس وخداعهم، حتى صار سوء الظن هو الأصل، والخداع هو المتوقع، نحتاج إلى إحياء تلك القيم الجميلة، والمبادئ الرفيعة التي دعا إليها الدين وحث عليها، من سلامة الصدور وحسن الظن ونقاء القلوب ، وبالله التوفيق. اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (116) – {وقد خاب من افترى} النووي: «يقال: بهته بفتح الهاء مخففة: قلت فيه البهتان، وهو الباطل. و(الغيبة) ذكر الإنسان في غيبته بما يكره. أمرنا الشرع المطهر بصدق الحديث، ونهانا عن الكذب والبهتان، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}(التوبة: 119)، وقال صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» متفق عليه. والكذب أنواع كما قال الراغب: «الكذب إما أن يكون اختراع قصة لا أصل لها، أو زيادة في القصة أو نقصانا يغيران المعنى، أو تحريفا يغير عبارة، فما كان اختراعا يقال له: الافتراء والاختلاق، فإن كان بزيادة والنقص يقال له ذنب وكل من أراد كذبا على غيره فإما أن يقول بحضرة المقول فيه أو بغيبته، وأعظم الكذب ما كان اختراعا بحضرة المقول فيه وهو المعبر عنه بالبهتان».فبعض الناس يصوغ زورا، ويفتري كذبا، ويلفق الأحاديث، ويفتعل الأخبار، يتقول الأقاويل، ولا يبالي بما يترتب على ذلك من آثار خطيرة، ونتائج وخيمة على الأفراد أو المجتمع، لا سيما في وسائل الاتصال الحديثة، وشغف الناس بشبكات التواصل الاجتماعي، ومتابعة كل ما ينقل دون عناية بالتأكد من صحة الأخبار وصدق الوقائع، فصار نقل الأكاذيب، وترويج الإشاعات تسلية لمستخدمي تلك الخدمة، وشغلا لفراغ مرتادي تلك الشبكة. وقد حذرنا الشرع المطهر من الافتراء والبهتان فقال تعالى: {وقد خاب من افترى}(طه: 61). قال الطبري: «يقول: لم يظفر من يخلق كذبا». فالخيبة: فوت المطلوب، قال تعالى: { وخاب كل جبار عنيد}(إبراهيم: 15)، {وقد خاب من دساها} (الشمس: 10)، {وقد خاب من حمل ظلما}(طه: 111). وقال القرطبي: «وقد خاب من افترى أي خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به». وقال ابن سعدي: «فحين اجتمعوا من جميع البلدان، وعظهم موسى عليه السلام، وأقام عليهم الحجة، وقال لهم: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}(طه: 61) أي: لا تنصروا ما أنتم عليه من الباطل بسحركم، وتغالبوا الحق، وتفتروا على الله الكذب، فيستأصلكم بعذاب من عنده، ويخيب سعيكم وافتراءكم، فلا تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون، ولا تسلمون من عذاب الله، وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب.» ومن أعظم الافتراء (الافتراء على الله) كما قال تعالى: {فمن افترى على الله الكذب فأولئك هم الظالمون}(آل عمران: 94)، وقال عز وجل: {انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا}(النساء: 50)، وقال سبحانه: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون}(النحل: 105)، وقال سبحانه: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون}(يونس: 17). ومن الافتراء على الله تعالى نسبة الشريك والصاحبة والولد إليه سبحانه وتعالى، ومن زعم أنه يوحى إليه أو أنه يأتي بمثل كلام الله -عز وجل- ومن الافتراء على الله -تعالى- القول في الدين بغير علم، ومن الافتراء على الله تعالى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبة الأحاديث المكذوبة إليه وقد قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِي, فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار». متفق عليه. ومن الافتراء المحرم الافتراء على الآخرين فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته».أخرجه مسلم قال النووي: «يقال: بهته بفتح الهاء مخففة: قلت فيه البهتان، وهو الباطل. و(الغيبة) ذكر الإنسان في غيبته بما يكره. وأصل البهت: أن يقال له الباطل في وجهه، وهما حرامان». وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة من أصحابه على أمور منها ترك الافتراء والبهتان، فعن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثَمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عنه، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ». فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.متفق عليه قال ابن حجر: «قوله: (ولا تأتوا ببهتان) البهتان الكذب يبهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال تقع بهما؛ إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، وكذا يسمون الصنائع الأيادي. وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال: هذا بما كسبت يداك. ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحا وبعضكم يشاهد بعضا، كما يقال: قلت كذا بين يدي فلان. ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب; لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه، فلذلك نسب إليه الافتراء، كأن المعنى: لا ترموا أحدا بكذب تُزوِّرونَه في أنفسكم ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم». وكذلك بايع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابيات على ترك الافتراء، فعَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَةٍ نُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلامِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلُمَّ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَأْتِي بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَقَالَ: «فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ»، فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنَّا بِأَنْفُسِنَا، هَلُمَّ نُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي لا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لَمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِثْلُ قَوْلِي لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ».أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر ومن الافتراء تغيير الحقائق والعبث بالأنساب، فقد روى البخاري عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تر، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل».البخاري قال ابن حجر: «وفي الحديث تحريم الانتفاء من النسب المعروف والادعاء إلى غيره، وقيد في الحديث بالعلم ولا بد منه في الحالتين إثباتًا ونفيًا». فعلى المسلم تحري الصدق في كل أحواله، والتثبت في نقل الأخبار كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}(الحجرات: 6)، وبالله التوفيق. اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (117) {أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}(الشورى: 13) الدين في اللغة له معان منها: الطاعة كقولهم: دان له أي أطاعه وخضع له، ومنها الجزاء كما قال تعالى: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق}(النور: 25)، أي: يجازيهم على أعمالهم الجزاء الحق، ومن معاني الدين: الملة كقوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة: 3). أما الدين في الاصطلاح العام: فهو ما يعتنقه الإنسان ويعتقده ويدين به، ويشمل ذلك الدين الصحيح والأديان الباطلة. أما في الاصطلاح الشرعي فعرف المناوي الدين بأنه: «وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما عند الرسول»، وقال أيضا: «وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات».والدين الصحيح هو المنزل من عند الله تعالى؛ وهو الإسلام، والإسلام في اللغة: الانقياد والخضوع والإذعان والاستسلام.وأما في الاصطلاح فله معنيان: فالإسلام بالمعنى العام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. فالإسلام بهذا المعنى هو دين جميع الأنبياء كما قال تعالى عن نوح عليه السلام: {وأمرت أن أكون من المسلمين}(يونس: 72)، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}(البقرة: 131)، وقال تعالى عن ذرية يعقوب عليه السلام: {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون}(البقرة: 133)، وقال تعالى: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا}(المائدة: 44)، والآيات في هذا كثيرة. وأما الإسلام بالمعنى الخاص: فهو الدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الدين الإسلامي هو الدين المقبول عند الله قال الله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام}(آل عمران: 19)، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}(آل عمران: 85). وهذا الإسلام هو الذي امتن به على محمدصلى الله عليه وسلم وأمته فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}(المائدة: 3). وقد أمر الله تعالى نبيهصلى الله عليه وسلم بإقامة الدين فقال تعالى: {وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين}(يونس: 105). قال الطبري: «ويعني بقوله: {أقم وجهك للدين} أقم نفسك على دين الإسلام،{حنيفا} مستقيما عليه، غير معوج عنه إلى يهودية ولا نصرانية، ولا عبادة وثن{ولا تكونن من المشركين}(يونس: 105)، يقول: ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه الآلهة والأنداد، فتكون من الهالكين». وقال ابن كثير: «أي: أخلص العبادة لله وحده حنيفا، أي: منحرفا عن الشرك». وقال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(الروم: 30)، وقال سبحانه: {فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون}(الروم: 43). قال ابن كثير: «يقول تعالى: فسدد وجهك واستمر على الذي شرعه الله لك، من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره». وإقامة الدين مما أمرنا الله به كما أمر السابقين فقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب }(الشورى: 13). قال ابن العربي: «المعنى: ووصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا؛ يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي: التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال، والتزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، والزنا، والإذاية للخلق، كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان كيفما كان، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات. فهذا كله شرع دينا واحدا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذلك قوله تعالى: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} أي اجعلوه قائما، يريد دائما مستمرا، محفوظا مستقرا، من غير خلاف فيه، ولا اضطراب عليه، فمن الخلق من وفى بذلك، ومنهم من نكث به، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه. واختلفت الشرائع (يعني العملية) وراء هذا في معان حسبما أراده الله، مما اقتضته المصلحة، وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم ». وقال الطبري: «وعنى بقوله: {أن أقيموا الدين} أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض». وقال الطاهر: «فالمعنى أن إقامة الدين واجتماع الكلمة عليه أوصى الله بها كل رسول من الرسل الذين سماهم، وهذا الوجه يقتضي أن ما حكي شرعه في الأديان السابقة هو هذا المعنى وهو إقامة الدين المشروع كما هو، والإقامة مجملة يفسرها ما في كل دين من الفروع.وإقامة الشيء: جعله قائما، وهي استعارة للحرص على العمل به كقوله: ويقيمون الصلاة». وقال ابن سعدي: «أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونون على البر والتقوى، ولا تعاونون على الإثم والعدوان، {وَلا تَتَفَرَّقُوا} أي: ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على ألا تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزابا، وتكونوا شيعا، يعادي بعضكم يعضا، مع اتفاقكم على أصل دينكم». وقد أمر الله تعالى الأمم السابقة بإقامة الدين ووعدهم بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة فقال جل وعلا: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم.ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}(المائدة: 65 - 66). قال ابن كثير: «أي: لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه، من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ; فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتما لامحالة». وقال تعالى: {قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم }(المائدة: 68)، قال ابن كثير: «لستم على شيء حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها ومما فيها الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته». فإقامة الدين مطلب شرعي، وحقيقته التزام أحكام الدين العقدية والعملية والأخلاقية، والعمل بها ظاهرا وباطنا، وإظهارها، والدعوة إليها ونشرها بين الناس، وإحياؤها عند نسيانها واندراسها، فبذلك يحيى الدين، وتقام أركانه، ويعلو بنيانه كما أمرنا ربنا تعالى، وبالله التوفيق. اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (118) {ولا تسألون عما كانوا يعملون} من أركان الإيمان الواجب الإيمان بالبعث والنشور؛ حيث يبعث الله تعالى عباده بعد موتهم، ويحاسبهم على أعمالهم، ويجازيهم عليها، فكل الخلائق سيسألون عن أعمالهم، قال تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين}(الأعراف: 6)، وقال سبحانه {فوربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون}(الحجر: 92 - 93)، وقال عز وجل: {وقفوهم إنهم مسئولون}(الصافات: 24)، والآيات في هذا كثيرة. وجاء في الحديث أن الله تعالى يسأل العبد يوم القيامة فيقول: أَيْ فُلانُ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُسَوِّدْكَ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ؟ أَلَمْ أَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ قَالَ: بَلَى أَيْ رَبِّ؟ قَالَ فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لا، فَيَقُولُ إِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي». ولابد من العلم بأن الإنسان مسؤول عن أعماله مسؤولية فردية، فلا يسأل عن أعمال غيره ولا يجازى عليها، قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى}(النجم: 36 - 41)، وقال سبحانه: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}(الأنعام: 164). قال الطبري: «يقول: ولا تجترح نفس إثما إلا عليها، أي: لا يؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى وركبت من الخطيئة سواها، بل كل ذي إثم فهو المعاقب بإثمه والمأخوذ بذنبه، {ولا تزر وازرة وزر أخرى}(فاطر: 18)، يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها، ولكنها تأثم بإثمها، وعليه تعاقب، دون إثم أخرى غيرها». وقال ابن كثير: «إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله -تعالى- وحكمه وعدله، أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد، وهذا من عدله تعالى كما قال: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى}(فاطر: 18). ويتجلى مبدأ المسؤولية الفردية يوم القيامة كما قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. مَّنِ اهْتَدَى فإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(الإسراء: 13 - 15). ومبدأ المسؤولية الفردية يشمل الأفراد كما يشمل الأمم، فكل فرد يسأل عن عمله الذاتي قال تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُم مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ}(النور: 11)، وقال الله سبحانه: {كُلُّ امْرِئِ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}(الطور: 21). قال الطبري: «يقول: كل نفس بما كسبت وعملت من خير وشر مرتهنة، لا يؤاخذ أحد منهم بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه». قال ابن كثير: «لما أخبر عن مقام الفضل، وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد، بل {كل امرئ بما كسب رهين} أي: مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أبا أم ابنا». وقال الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(المدثر: 38)، عن ابن عباس: «مأخوذة بعملها». وقال ابن كثير: «معناه: كل نفس مرتهنة بعملها السيئ إلا أصحاب اليمين، فإنه قد تعود بركات أعمالهم الصالحة على ذراريهم». وقال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما}(طه: 112)، قال ابن عباس: «لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم فيزاد عليه في سيئاته، ولا يظلم فيهضم في حسناته». قال الطبري: «يقول: فلا يخاف من الله أن يظلمه، فيحمل عليه سيئات غيره، فيعاقبه عليها «ولا هضما» يقول: لا يخاف أن يهضمه حسناته، فينقصه ثوابها». وقال تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا}(الجن: 13)، فعن ابن عباس قال: «لا يخاف نقصا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته». وقال الطبري: «فمن يصدق بربه {فلا يخاف بخسا} يقول: لا يخاف أن ينقص من حسناته، فلا يجازى عليها; {ولا رهقا} ولا إثما يحمل عليه من سيئات غيره، أو سيئة (لم) يعملها». ويؤكد سبحانه هذا المبدأ ولو مع الكفار فيأمرنا أن نقول لهم: {قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون}(سبأ: 25)، يوضح الطاهربن عاشور أن هذا من باب التوسع في الاحتجاج فيقول: «إذا نحن أجرمنا فأنتم غير مؤاخذين بجرمنا، وإذا عملتم عملا فنحن غير مؤاخذين به، أي: أن كل فريق مؤاخذ وحده بعمله، فالأجدى بكلا الفريقين أن ينظر كل في أعماله وأعمال ضده ليعلم أي الفريقين أحق بالفوز والنجاة عند الله». وكذلك من آثار مبدأ المسؤولية الفردية ألا تسأل أمة عن أعمال أمة أخرى، قال تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} (البقرة: 134). قال ابن كثير: «وقوله تعالى: {تلك أمة قد خلت} أي: مضت، {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم، {ولا تسألون عما كانوا يعملون}(البقرة: 134). فالمطلوب من المسلم أن يعد لهذا السؤال الحتمي جوابا يخلصه من التبعة، ويدرأ عنه العذاب، وذلك بأن يعرف ما أرسل الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق في العقائد والأعمال والأخلاق أولا، ثم يعمل وفق طاقته بما يقدر عليه من ذلك الهدى، ويتوب إلى الله تعالى مما قصر فيه أو أذنب، كما قال تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}(الفرقان: 70)، ويحرص على ألا يضيع عمره ولا جهده في مراقبة الآخرين أو لومهم أو محاسبتهم وانتقادهم، بل عليه أن يشتغل بإنقاذ نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح والتوبة النصوح، فهذا من حسن إسلام المرء كما قال صلى الله عليه وسلم : «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيه» أخرجه الترمذي، وعن الحسن قال: «من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه». اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(119) - {إنما يستجيب الذين يسمعون} حقيقة الدين تقوم على الإيمان بالله تعالى والانقياد له خوفا وطمعا، رغبة ورهبة، وهذه الحقيقة واضحة في النصوص الشرعية التي تأمر العباد بطاعة لله تعالى، وتنهاهم عن الكفر به أو الإعراض عن أمره، أو التقصير في حقه سبحانه وتعالى. فالعبادة والإسلام والدين كلها مصطلحات تدور حول هذا الأصل، وتقرر هذا الحكم، وقد أمر الله تعالى عباده بالاستجابة له في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ }(الأنفال-24)، وقوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة- 186)، وقال سبحانه: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۚ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} (الشورى-47). قال الشيخ ابن سعدي: «يأمر تعالى عباده بالاستجابة له، بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، وبالمبادرة بذلك وعدم التسويف، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده واستدراك الفائت، وليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه، فيفوت ربه، ويهرب منه.وهذه الآية ونحوها، فيها ذم الأمل، والأمر بانتهاز الفرصة في كل عمل يعرض للعبد، فإن للتأخير آفات». وبين القرآن أن الناس قسمان: مستجيب لربه، وجزاؤه الحسنى، وغير مستجيب، فجزاؤه النار كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (الرعد-18). قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: أما الذين استجابوا لله فآمنوا به حين دعاهم إلى الإيمان به، وأطاعوه فاتبعوا رسوله وصدقوه فيما جاءهم به من عند الله، فإن لهم الحسنى، وهي الجنة، وأما الذين لم يستجيبوا لله حين دعاهم إلى توحيده والإقرار بربوبيته، ولم يطيعوه فيما أمرهم به، ولم يتبعوا رسوله فيصدقوه فيما جاءهم به من عند ربهم، فلو أن لهم ما في الأرض جميعا من شيء ومثله معه ملكا لهم، ثم قبل مثل ذلك منهم، وقبل منهم بدلا من العذاب الذي أعده الله لهم في نار جهنم وعوضا، لافتدوا به أنفسهم منه يقول الله:{أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} يقول: هؤلاء الذين لم يستجيبوا لله لهم سوء الحساب، يقول: لهم عند الله أن يأخذهم بذنوبهم كلها، فلا يغفر لهم منها شيئا، ولكن يعذبهم على جميعها ». والمستجيب لله تعالى هو الحي حقيقة، وأما المعرض عن دين الله فهو في حكم الميت الذي لا ينتفع بشيء كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (الأنعام-36). قال القرطبي: «يستمعون» أي: سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهم المؤمنون الذين يقبلون ما يسمعون فينتفعون به ويعملون; قال معناه الحسن ومجاهد. ثم قال: {والموتى يبعثهم الله } وهم الكفار; أي: هم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجة. وقيل: الموتى كل من مات يبعثهم الله أي: للحساب; وعلى الأول بعثهم هدايتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم . وعن الحسن: هو بعثهم من شركهم حتى يؤمنوا بك يا محمد - يعني عند حضور الموت - في حال الإلجاء في الدنيا». وأما قوله : {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} فقد قال الطبري: «ثم إلى الله يرجع المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول، والكفار الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئا، فيثيب هذا المؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الإيمان به من الثواب، ويعاقب هذا الكافر بما أوعد أهل الكفر به من العقاب، لا يظلم أحدا منهم مثقال ذرة». قال الشيخ ابن سعدي: «يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} لدعوتك، ويلبي رسالتك، وينقاد لأمرك ونهيك {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} بقلوبهم ما ينفعهم، وهم أولو الألباب والأسماع. والمراد بالسماع هنا: سماع القلب والاستجابة، وإلا فمجرد سماع الأذن، يشترك فيه البر والفاجر. فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة الله تعالى، باستماع آياته، فلم يبق لهم عذر، في عدم القبول. {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يحتمل أن المعنى، مقابل للمعنى المذكور. أي: إنما يستجيب لك أحياء القلوب، وأما أموات القلوب، الذين لا يشعرون بسعادتهم، ولا يحسون بما ينجيهم، فإنهم لا يستجيبون لك، ولا ينقادون، وموعدهم القيامة، يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، ويحتمل أن المراد بالآية، على ظاهرها، وأن الله تعالى يقرر المعاد، وأنه سيبعث الأموات يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون. ويكون هذا، متضمنا للترغيب في الاستجابة لله ورسوله، والترهيب من عدم ذلك». وقد يرد تساؤل عن المانع من الاستجابة لله تعالى، والجواب كما يبينه القرآن هو اتباع الهوى كما قال سبحانه:{فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوائهم } (القصص-50). قال الشيخ ابن سعدي: «دليل على أن كل من لم يستجب للرسول، وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول، فإنه لم يذهب إلى هدى، وإنما ذهب إلى هوى». وقال سبحانه: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص-50). قال ابن عاشور: «إن لم يستجيبوا لدعوتك، أي إلى الدين بعد قيام الحجة عليهم بهذا التحدي، فاعلم أن استمرارهم على الكفر بعد ذلك ما هو إلا إتباع للهوى ولا شبهة لهم في دينهم». ومن موانع الاستجابة أيضا طاعة الشيطان في وسوسته وتزيينه كما أخبر الله تعالى بأن الشيطان يتبرأ من أتباعه يوم القيامة قائلا: {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (إبراهيم-22). قال ابن سعدي: «أي: {وَقالَ الشَّيْطانُ} الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم، مخاطبا لأهل النار ومتبرئا منهم {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}(إبراهيم-22) على ألسنة رسله فلم تطيعوه، فلو أطعتموه لأدركتم الفوز العظيم، {وَوَعَدْتُكُمْ } الخير { فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي:لم يحصل ولن يحصل لكم ما منيتكم به من الأماني الباطلة. {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} أي: من حجة على تأييد قولي، {إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ} أي: هذا نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي وزينته لكم، فاستجبتم لي اتباعا لأهوائكم وشهواتكم، فإذا كانت الحال بهذه الصورة {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب، {ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي: بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها { وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } كل له قسط من العذاب. فحقيقة الإسلام والعبودية الحقة تقوم على الإيمان بالله تعالى والاستجابة لدينه وشرعه، وعلى قدر الاستجابة المخلصة لله -تعالى- تكون السعادة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُوْلَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِيْنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّيْنَ وَالصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِيِنَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيِقًا} (النساء:69)، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة-72). اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (120) - من حمل علينا السلاح فليس منا تطالعنا وسائل الإعلام يوميا بأخبار القتل وإراقة الدماء، سواء داخل الكويت أم فيما حولنا من بلاد المسلمين والعالم عموما، والمرء يعجب من تساهل بعض المسلمين بهذه الجريمة وجرأتهم عليها لأتفه الأسباب، بل أصبح حمل السلاح رمزا للرجولة، ومظهرا للقوة لدى بعض ناقصي العقول، وفاقدي الثقة، والمفلسين دينيا وأخلاقيا، ممن استرخص حرمة الدماء، وعرض نفسه لسخط الرب، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة. والإسلام جعل حفظ النفوس من أهم المقاصد الشرعية التي جاءت الشرائع لحفظها بعد حفظ الدين، كما دل على ذلك النصوص المتكاثرة في حرمة قتل المسلم بغير حق، وما يترتب عليه من عقوبات قاسية في الدنيا والآخرة.فأولاً نهى الله تعالى عن قتل النفس بغير حق فقال سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (الأنعام:151)، ووضع جزاء أخرويا شديدا كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } (النساء:93). وعدّ الشرع القتل من كبائر الذنوب فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» متفق عليه. ولشدة خطر القتل فإنه يخشى على القاتل في الآخرة من عدم المغفرة، فعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً, أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً». رواه أبو داود وصححه الألباني. والقتل من المهلكات الجسام عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لن يزال المؤمن في فسحةٍ من دينه ما لم يُصب دماً حراماً» رواه البخاري قال ابن حجر: وفي رواية «في فسحة من ذنبه»، فمفهوم الأول أن يضيق عليه دينه؛ ففيه إشعار بالوعيد على قتل المؤمن متعمدا بما يتوعد به الكافر، ومفهوم الثاني أنه يصير في ضيق بسبب ذنبه، ففيه إشارة إلى استبعاد العفو عنه لاستمراره في الضيق المذكور. وقال ابن العربي: «الفسحة في الدين: سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت؛ لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب: قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول». ولهذا فإن القتل من الذنوب الشديدة التي لا مخرج منها كما قال ابن عمر: «إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله». أخرجه البخاري قال ابن حجر: قوله: «ورطات» وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك، فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحة أنه ورط نفسه فأهلكها، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال لمن قتل عامدا بغير حق: «تزود من الماء البارد فإنك لا تدخل الجنة»، وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر: «زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم» قال الترمذي حديث حسن. وأخرجه النسائي بلفظ: «لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا»، قال ابن العربي: «ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالتقي الصالح ؟!». وقد حرصت الشريعة على سلامة الناس فضلا عن إيذائهم أو قتلهم فحرمت مجرد رفع السلاح في وجه المسلم ولو كان على سبيل المزاح، فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعها، وإن كان أخاه لأبيه وأمه». قال النووي: «فيه تأكيد حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه. وقوله صلى الله عليه وسلم : «وإن كان أخاه لأبيه وأمه» مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد، سواء من يتهم فيه، ومن لا يتهم، وسواء كان هذا هزلا ولعبا، أم لا; لأن ترويع المسلم حرام بكل حال، ولأنه قد يسبقه السلاح كما صرح به في الرواية الأخرى، ولعن الملائكة له يدل على أنه حرام». وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا». متفق عليه، وفي حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم: «من سل علينا السيف فليس منا». ويبين النووي المراد بالحديث منبها على أمر مهم وهو أن: « قاعدة مذهب أهل السنة والفقهاء وهي أن من حمل السلاح على المسلمين بغير حق ولا تأويل، ولم يستحله فهو عاص ولا يكفر بذلك. فإن استحله كفر. فأما تأويل الحديث فقيل: هو محمول على المستحل بغير تأويل فيكفر ويخرج من الملة، وقيل: معناه ليس على سيرتنا الكاملة وهدينا». وقال ابن حجر: «ومعنى الحديث (حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق) لما في ذلك من تخويفهم وإدخال الرعب عليهم، وكأنه كنى بالحمل عن المقاتلة أو القتل للملازمة الغالبة. ففيه دلالة على تحريم قتال المسلمين والتشديد فيه. ومعنى قوله: «فليس منا» أي: ليس على طريقتنا، أو ليس متبعا لطريقتنا ؛ لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله أو قتله ونظيره «من غشنا فليس منا» و«ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب». وهذا في حق من لا يستحل ذلك، فأما من يستحله فإنه يكفر باستحلال المحرم بشرطه لا مجرد حمل السلاح، والأولى عند كثير من السلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعرض لتأويله ليكون أبلغ في الزجر، وكان سفيان بن عيينة ينكر على من يصرفه عن ظاهره فيقول: معناه ليس على طريقتنا، ويرى أن الإمساك عن تأويله أولى لما ذكرناه، والوعيد المذكور لا يتناول من قاتل البغاة من أهل الحق فيحمل على البغاة وعلى من بدأ بالقتال ظالما». وكثرة القتل من علامات الساعة، وهي من المنكرات التي ستظهر وتكثر فعن أَبي مُوسَى قال:حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْجًا» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ», فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَقْتُلُ الْآنَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ, وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا, حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ, وَابْنَ عَمِّهِ, وَذَا قَرَابَتِهِ», فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَعَنَا عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «لَا، تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ, وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ لَا عُقُولَ لَهُمْ» أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني. فمعالجة هذا الأمر الخطير يحتاج إلى تكاتف جهود الدولة والمواطنين؛ كل في مجاله، فعلى الدولة الحزم بتطبيق القوانين، والجد في جمع السلاح، وتوعية الناس بخطر السلاح وما ينشأ عنه من حوادث وخيمة على الناس بسبب الغضب والتهور، أو بسبب الخطأ وسوء الاستعمال، وعلى المواطنين تربية النشء على سعة الصدر والتسامح، ومعالجة الخلافات بغير عنف كما أدبنا أسلافنا على العفو ودرء الشر، وتنبيه الصغار على خطر ما يشاهدونه في الأفلام والألعاب الإلكترونية من عنف وإراقة دماء، تطبع في نفوسهم سهولة القتل واستمراء إراقة الدماء، بل والفخر بذلك، ثم إن أحدهم ليعض أصبع الندم ويبكي الدم على ما قد يقوم به سفها بغير علم. والله خير الحافظين وهو نعم الوكيل. اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(121) {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }(الجاثية:18) تظهر على الساحة الإسلامية أحداث خطيرة، وتغيرات جسيمة، تؤثر على واقع الأفراد والمجتمعات مباشرة، ثم تجد من الناس من يتخذ مواقف معينة؛ مؤيدة أو معارضة، دون الرجوع إلى أهل العلم والحكمة والرزانة، وإنما يحتكم لعقله القاصر، وعلمه الناقص، أو ما يصل إلى هاتفه النقال من فتاوى عجيبة، أو أكاذيب مفتراة، قد تكون صادرة عن غير أهل العلم، أو قال بها أصحاب الأهواء والفتن، فيتبناها دون تمحيص بين الصواب والخطأ، أو تمييز بين الحق والباطل، ويبدأ ينقل تلك المزاعم على أنها حقائق أكيدة، وأحكام صائبة، وهو ليس من أهل العلم ولا من طلبته، بل هو معدود في معيار الفقه من المقلدين الذين يجب عليهم الرجوع إلى المؤهلين لسؤالهم عن أمر دينه. وقد أمرنا الله -تعالى- بطاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (النساء:59)، وأمرنا باتباع كتابه ودينه فقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } (الأعراف:3). وأمرنا أن نسأل أهل العلم الراسخين إذا تعذر علينا تحصيل العلم بأنفسناـ وهو حال الغالب من الناس ـ فقال سبحانه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (الأنبياء: 7)، وقال تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83). يقول الشيخ ابن سعدي: «هذا تأديب من الله لعباده، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة، ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم؛ أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها». ونهى الله تعالى عن القول بلا علم، وعن العمل بلا بصيرة ، ونهانا عن اتباع من لا يعلم، ومن اتبع هواه، ولاسيما أصحاب الفتنة الذين يتبعون الشهوات والمتشابهات. فقال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } (الإسراء:36). قال الشيخ ابن باز-رحمه الله-: «الله ينهى عن كون الإنسان يتكلم فيما لا يعلم، (ولا تقف) يعني لا تقل في شيء ليس لك به علم، بل تثبت، فالواجب عليه أن يتثبت وأن يعتني حتى لا يتكلم إلا عن علم، ولا يفعل إلا عن علم، ولا يعتقد إلا عن علم، ولهذا قال جل وعلا:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف:33). فجعل القول على الله بغير العلم فوق هذه الأشياء كلها، فالواجب على الإنسان يتعلم حتى يكون على علم». وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الجاثية:18). قال الطبري: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ثم جعلناك على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا، فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، يقول: ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون بالله، الذين لا يعرفون الحق من الباطل، فتعمل به، فتهلك إن عملت به» . ففي الآية أمر للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون، فلا يسمعوا لقولهم، ولا يعملوا بأمرهم، ولا يأمنوا لجانبهم، وإن زخرفوه بالفصاحة، وأيدوه بالشبهات المضلة التي تنطلي على السذج، ويعرفها العلماء وطلبة العلم. ويوضح الشيخ ابن سعدي المقصود بالذين لا يعلمون فقال: «الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه، وهم كل من خالف شريعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين لا يعلمون.» وقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام:{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }(يونس:89)، قال الشوكاني: «والمعنى: النهي لهما عن سلوك طريقة من لا يعلم بعادة الله سبحانه في إجراء الأمور على ما تقتضيه المصالح تعجيلا وتأجيلا». وقال ابن سعدي: «{فَاسْتَقِيمَا} على دينكما، واستمرا على دعوتكما، {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أي: لا تتبعان سبيل الجهال الضلال، المنحرفين عن الصراط المستقيم، المتبعين لطرق الجحيم». وقال تعالى:{ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف:28) قال ابن سعدي: «أي: صار تبعا لهواه؛ حيثما اشتهت نفسه فعله، وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه، فهذا قد نهى الله عن طاعته؛ لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به». قال: «ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماما للناس، من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماما» . وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من أصحاب الأهواء وآرائهم الشاذة ومذاهبهم الضالة فعن عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران:7) إلى قوله:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» أخرجه البخاري. قال ابن حجر: «وَالْمُرَاد التَّحْذِير مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِه مِنْ الْقُرْآن, وَأَوَّل مَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ الْيَهُود, ثُمَّ أَوَّل مَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَام مِنْ الْخَوَارِج حَتَّى جَاءَ عن اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِمْ الْآيَة». وأخرج الطبري بسنده أن قتادة كان إذا قرأ هذه الآية :{فأما الذين في قلوبهم زيغ} قال: إن لم يكونوا الحرورية الخوارج والسبائية ، فلا أدري من هم ؟! وجاء في السنة المطهرة ما يبين أن اتباع العلماء سبيل النجاة، وأن اتباع الجهال سبيل الضلال، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» متفق عليه قال النووي: «هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه أنه يموت حملته، ويتخذ الناس جهالا يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويضلون». فالواجب على المسلم أن يسأل قبل أن يعمل، وأن يتروى قبل أن يحكم، وأن يشاور من هو أعلم منه وأكثر حكمة وتجربة قبل أن يندم، ولاسيما في الأمور العامة التي جعلها الله -تعالى- لأولي الأمراء والعلماء ، وبالله التوفيق. اعداد: د.وليد خالد الربيع |
الساعة الآن : 12:53 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour