ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 11-06-2022 10:44 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 857 الى صـ 862
الحلقة (161)

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 61 ] فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين

فمن حاجك أي : جادلك من النصارى بإيراد حجة : فيه أي : في شأن عيسى ، زعما منهم أنه ليس على الشأن المتلو : من بعد ما جاءك من العلم أي : الذي أنزلناه إليك ، وقصصناه عليك في أمره . وللفاضل المهايمي في هذه الآية أسلوب لطيف في التأويل حيث قال : الحق أي : الثابت الذي لا يقبل التأويل جاء : من ربك الذي رباك بالإطلاع على الحقائق : فلا تكن من الممترين بما ورد في الإنجيل من إطلاق لفظ الأب على الله ، فإنه إطلاق مجازي ؛ لأنه لما حدث منه كان كأبيه . وإذا ظهر لك الحق من ربك بالبيان التام : فمن حاجك أي : جادلك : فيه لإثبات أبنيته بظواهر الإنجيل : من بعد ما جاءك من العلم القطعي الموجب لتأويله فقل لم يبق بيننا وبينكم مناظرة ، ولكن نرفع عنادكم بطريق المباهلة : تعالوا أي : أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه علو الحق وسفول [ ص: 857 ] الباطل : ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم أي يدع كل منا ومنكم نفسه ، وأعزة أهله ، وألصقهم بقلبه ، ممن يخاطر الرجل بنفسه لهم ، ويحارب دونهم ، ويحملهم على المباهلة : ثم نبتهل أي : نتضرع إلى الله تعالى ونجتهد في دعاء اللعنة : فنجعل لعنت الله أي : إبعاده وطرده : على الكاذبين منا ومنكم ليهلكهم الله وينجي الصادقين ، فلا يبقى العناد الباقي عليكم بعد اتفاق الدلائل العقلية والنقلية .

تنبيهات :

الأول - قال القاشاني : إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما ، سببه : اتصال نفوسهم بروح القدس ، وتأييد الله إياهم به ، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري ، فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه ، كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم ، وانفعال النفوس البشرية منه ، كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا ، فإذا اتصل نفس قدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي بتأثير ما يتصل به ، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد ، ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف ، وأحجمت عن المباهلة ، وطلبت الموادعة بقبول الجزية ! .

الثاني : قال ابن كثير : وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة ، فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة ردا عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره ، وكانوا ستين راكبا ، منهم ثلاثة نفر ، إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم واسمه : عبد المسيح ، والسيد ثمالهم ، وصاحب رحلهم واسمه : الأيهم ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفي القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتاه الخبر من الله - عز وجل - والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم ، إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى المباهلة ، فقالوا : يا أبا القاسم [ ص: 858 ] دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم إن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط ، فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا أبا القاسم ! قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا . فلم يلاعنهم - صلى الله عليه وسلم - وأقرهم على خراج يؤدونه إليه .

وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن الشعبي عن جابر قال : قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا ، وأقرا له بالخراج ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « والذي بعثني بالحق ، لو قالا : لا ، لأمطر عليهم الوادي نارا » . قال جابر : وفيهم نزلت : ندع أبناءنا الآية . قال جابر : أنفسنا وأنفسكم : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب ، وأبناؤنا الحسن والحسين ، ونساؤنا : فاطمة ، وهكذا - رواه الحاكم في مستدركه بمعناه ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . هكذا قال .

وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا ، وهذا أصح .

وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك .

وروى البخاري عن حذيفة - رضي الله عنه - قال : جاء العاقب والسيد ، صاحبا نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا [ ص: 859 ] رجلا أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا . فقال : « لأبعثن معكم رجلا أمينا ، حق أمين » . فاستشرف لها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجراح ، فلما قام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « هذا أمين هذه الأمة » . ورواه مسلم والنسائي أيضا وغيرهم .

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال أبو جهل قبحه الله - : إن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لآتينهحتى أطأ على رقبته ، قال : فقال : لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا .

قال ابن كثير : وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي . وقد ساق قصة وفد نجران الإمام ابن القيم عليه الرحمة في ( زاد المعاد ) وأعقبها بفصل مهم في فقهها ، فليراجع .

الثالث : قال الزمخشري : فإذا قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه . فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك . ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلم ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة ، وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثمت كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب . ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها . وفيه دليل ، لا شيء أقوى منه ، على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام . وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك .

[ ص: 860 ] الرابع : استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين ، وأن من جادل وأنكر شيئا من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به - صلى الله عليه وسلم - . والمباهلة : الملاعنة .

قال الكازروني في تفسيره : وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار ، وكلام الأئمة ، وحاصل كلامه فيها : أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعا ، وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة ، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك ، ومساس الضرورة إليها .

قال الإمام صديق خان في تفسيره : وقد دعا الحافظ ابن القيم ، رحمه الله ، من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ، إلى المباهلة بين الركن والمقام ، فلم يجبه إلى ذلك ، وخاف سوء العاقبة . وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بـ ( النونية ) - انتهى - وقد ذكر في ( زاد المعاد ) في فصل فقه قصة وفد نجران ما نصه : ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا ، بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة ، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ، ولم يقل : إن ذلك ليس لأمتك من بعدك . ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ، ولم ينكر عليه الصحابة ، ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ، ولم ينكر عليه ذلك ، وهذا من تمام الحجة - انتهى - .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 62 ] إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم .

إن هذا أي : المتقدم من شأن عيسى عليه السلام : لهو القصص الحق الذي [ ص: 861 ] لا معدل عنه ، دون أقاصيص النصارى . والقصص تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئا بعد شيء على ترتيبها ، في معنى قص الأثر ، وهو اتباعه ، حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر - أفاده الحرالي - .

قال البقاعي : ولما بدأ سبحانه القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلا على ذلك بأنه الحي القيوم صريحا ، ختم ذلك إشارة وتلويحا فقال ، عاطفا على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى عبد الله ورسوله ، معمما للحكم : وما من إله إلا الله فصرح فيه بـ : من الاستغراقية ، تأكيدا للرد على النصارى في تثليثهم : وإن الله لهو العزيز الحكيم فلا يشاركه أحد في العزة والحكمة ، ليشاركه في الألوهية .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 63 ] فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين

فإن تولوا أي : أعرضوا عن قبول الحق الذي قص عليه بعدما عاينوا تلك الحجج النيرة : فإن الله عليم بالمفسدين أي : بهم ، فيجازيهم على إفسادهم . والتعبير عنهم بذلك إشارة إلى أنهم بتوليهم ، مفسدون اعتقادهم واعتقاد غيرهم في الله تعالى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 64 ] قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أي : إلى قول معتدل لا يميل إلى التعطيل ولا إلى الشرك ، متفق عليها لا يختلف فيها الرسل والكتب ، وهي : ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا أي : لا نرى غيره مستحقا للعبادة فنشركه معه ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له . وهذه دعوة جميع الرسل . قال الله تعالى : [ ص: 862 ] وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا أي : كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين كانوا يحلون لهم ويحرمون . كما روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : « إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه » .

قال الكيا الهراسي : فيه رد على من قال بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، وعلى من قال : يجب قبول قول الإمام في التحليل والتحريم ولو دون إبانة مستند شرعي .

قال البقاعي : ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية ، نبه على أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد والاجتراء على ما يختص به الله فقال : من دون الله الذي اختص بالكمال : فإن تولوا أي : عن هذه الكلمة السواء المتفق عليها : فقولوا أي : تبعا لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال : أسلمت لرب العالمين . وامتثالا لوصيته إذ قال : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون اشهدوا بأنا مسلمون أي : لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة . ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره . كذا قال ( الكشاف ) .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg


ابوالوليد المسلم 11-06-2022 10:44 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 863 الى صـ 868
الحلقة (162)


القول في تأويل قوله تعالى :

[ 65 ] يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنـزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون .

يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم أي : تجادلون فيه فيدعيه كل من فريقكم : وما أنـزلت التوراة والإنجيل أي : المقرر كل منهما لأصل دين منتحله منكم : إلا من بعده أفلا تعقلون حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدل المحال .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 66 ] ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون

ها أنتم هؤلاء أي : الأشخاص الحمقى : حاججتم فيما لكم به علم من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ له ذكر في كتابكم ، فأمكنكم تغييره لفظا ومعنى ، أو من أمر موسى وعيسى عليهما السلام ، أو مما نطق به التوراة والإنجيل : فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم من أمر إبراهيم لكونه لم يذكر في كتابكم بما حاججتم ، فلا يمكنكم فيه التغيير : والله يعلم فيبينه لنبيه : وأنتم لا تعلمون
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 67 ] ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين

ما كان إبراهيم يهوديا أي : كما ادعى اليهود : ولا نصرانيا كما ادعى النصارى : ولكن كان حنيفا مسلما سبق معنى الحنيف عند قوله تعالى : بل ملة إبراهيم حنيفا في البقرة : وما كان من المشركين تعريض بأنهم مشركون بقولهم : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، ورد لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام .

[ ص: 864 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 68 ] إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .

إن أولى الناس بإبراهيم أي : أخصهم به وأقربهم منه ، من ( الولي ) وهو القرب : للذين اتبعوه أي : في دينه من أمته وغيرهم : وهذا النبي يعني : خاتم الأنبياء محمدا - صلى الله عليه وسلم - : والذين آمنوا به فعملوا بشريعته الموافقة لشريعة إبراهيم : والله ولي المؤمنين بالنصر والمعونة والمحبة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 69 ] ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون

ودت أي : تمنت : طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم بالرجوع إلى دينهم حسدا وبغيا : وما يضلون إلا أنفسهم أي : وما يتخطاهم الإضلال ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، إذ يضاعف به عذابهم : وما يشعرون أي : أن وزره خاص بهم . ونظير هذه الآية قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم وقوله : ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء

[ ص: 865 ]

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 70 ] يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون

يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله أي : المنزلة على محمد - صلى الله عليه وسلم - : وأنتم تشهدون أي : تعلمون حقيقتها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 71 ] يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون

يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل أي : تسترون الحق المنزل بتمويهاتكم الباطلة : وتكتمون الحق أي : الذي لا يقبل تمويها ولا تحريفا : وأنتم تعلمون أي : عالمين بما تكتمونه من حقيته وقد كانوا يعلمون ما في التوراة والإنجيل من البشارة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونبوته ، ويلبسون على الناس في ذلك ، كدأبهم في غيره . وفي الآية دلالة على قبح كتمان الحق ، فيدخل في ذلك أصول الدين وفروعه والفتيا والشهادة . وعلى قبح التلبيس . فيجب حل الشبهة وإبطالها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 72 ] وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون

وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار أي : أوله : واكفروا آخره لعلهم يرجعون هذه الآية حكاية لنوع آخر [ ص: 866 ] من تلبيساتهم . وهي مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من المؤمنين أمر دينهم ، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم . فيظن الضعفاء أنه لا غرض لهم إلا الحق ، وأنه ما ردهم عن الدين بعد اتباعهم له وترك العناد ، وهم أولو علم وأهل كتاب ، إلا ظهور بطلانه لهم ، ولهذا قال : لعلهم يرجعون أي : عن الإسلام كما رجعتم .

لطيفة :

قال الرازي : الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من وجوه :

الأول : أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب ، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا .

الثاني : أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لها أثر في قلوب المؤمنين ، ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت في قلب بعض من في إيمانه ضعف .

الثالث : أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 73 ] ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم

ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم من تتمة كلامهم ، أي : ولا تصدقوا إلا نبيا تابعا لشريعتكم ، لا من جاء بغيرها ، أو : ولا تؤمنوا ذلك الإيمان المتقدم ، وهو إيمانهم وجه النهار ، إلا لأجل حفظ أتباعكم وأشياعكم وبقائهم على دينكم : قل إن الهدى هدى الله أي : الذي هو [ ص: 867 ] الإسلام وقد جئتكم به ، وما عداه ضلال ، فلا ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف ولا تقدرون على إضلال أحد منا بعد أن هدانا الله . ثم وصل به تقريعهم فقال : ( أن ) بمد الألف على الاستفهام ، في قراءة ابن كثير . وتقديرها في قراءة غيره ، أي : دعاكم الحسد والبغي حتى قلتم ما قلتم ودبرتموه الآن : يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الشرائع والعلم والكتاب : أو كراهة أن : يحاجوكم أي : الذين أوتوا مثل ما أوتيتم : عند ربكم أي : بالشهادة عليكم يوم القيامة أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحكم : قل إن الفضل أي : بإنزال الآيات وغيرها : بيد الله يؤتيه من يشاء فلا يمكنكم منعه : والله واسع كثير العطاء : عليم
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 74 ] يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم

يختص برحمته من يشاء فيزيده فضلا عليكم : والله ذو الفضل العظيم
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 75 ] ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون

ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما بالمطالبة والترافع وإقامة البينة ، فلا يبعد منه الخيانة مع الله بكتمان ما أمره بإظهاره طمعا في إبقاء الرئاسة والرشا عليه . ثم استأنف علة الخيانة بقوله : ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل أي : ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب عقاب ومؤاخذة [ ص: 868 ] فهم يخونون الخلق : ويقولون أي : في الاعتذار عنه : على الله الكذب بادعائهم ذلك وغيره ، فيخونونه أيضا : وهم يعلمون أنه كذب محض وافتراء لتحريم الغدر عليهم . كما هو في التوراة . وقد مضى نقله في البقرة في آية : إن الذين آمنوا والذين هادوا فارجع إليه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 76 ] بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين

بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين اعلم أن ( بلى ) إما لإثبات ما نفوه من السبيل عليهم في الأميين ، أي : بلى عليهم سبيل ، فالوقف حينئذ على ( بلى ) وقف التمام ، وقوله : من أوفى بعهده جملة مقررة للجملة التي سدت ( بلى ) مسدها . وإما لابتداء جملة بلا ملاحظة كونها جوابا للنفي السابق ، فإن كلمة ( بلى ) قد تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعدها - كما نقله الرازي - وهذا هو الذي أرتضيه . وإن اقتصر ( الكشاف ) ومقلدوه على الأول . وقد ذكروا في ( نعم ) أنها تأتي للتوكيد إذا وقعت صدرا . نحو : نعم هذه أطلالهم ، فلتكن ( بلى ) كذلك ، فإنهما أخوان ، وإن تخالفا في صور ، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على ( بلى ) . والضمير في : بعهده إما لاسم ( الله ) في قوله : ويقولون على الله الكذب على معنى : إن كل من أوفى بعهد الله واتقاه في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه . وإما لـ : من أوفى على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقاه فإنه يحبه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg


ابوالوليد المسلم 11-06-2022 10:45 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 869 الى صـ 874
الحلقة (163)



قال الزمخشري : فإن قلت فهذا عام ، يخيل أنه ولو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا [ ص: 869 ] الخيانة لكسبوا محبة الله . قلت : أجل لأنهم إذا وفوا بالعهود ، وفوا أول شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم ، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه . انتهى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 77 ] إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .

إن الذين يشترون أي : يستبدلون : بعهد الله أي : بما أخذهم عليه في كتابه ، أو بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم : وأيمانهم أي : التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل : ثمنا قليلا من الدنيا الزائلة الحقيرة التي لا نسبة لجميعها إلى أدنى ما فوتوه : أولئك لا خلاق أي : لا نصيب ثواب : لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة وذلك لحجبهم عن مقامات قربه كما قال تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ولا يزكيهم أي : ولا يثني عليهم كما يثني على أوليائه ، أو لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة : ولهم عذاب أليم أي : بالنار . واعلم أن في هذه الآية مسائل :

الأولى : قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أن من نقض عهدا لله لغرض دنيوي ، أو حلف كاذبا ، فإنه قد ارتكب كبيرة .

الثانية : في الجمع بين قوله تعالى هنا : ولا يكلمهم الله وقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين قال القفال : المقصود من هذه الآية بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره [ ص: 870 ] كلامه فإنما ذلك بسخط عليه ، وإذا سخط إنسان على آخر قال له : لا أكلمك . وقد يأمر بحجبه عنه ، ويقول : لا أرى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب ، نعوذ بالله منه . ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه . ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق ، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة . ومنهم من قال : معنى الآية لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم ، والكل حسن .

الثالثة : روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان » . قال عبد الله : ثم قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله - عز وجل - : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية . وفي رواية قال : « من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان » فأنزل الله تصديق ذلك : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية . فدخل الأشعث بن قيس الكندي فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ قلنا : كذا وكذا ، فقال : صدق ، في نزلت ، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « شاهداك أو يمينه » . قلت : إنه إذا يحلف ولا يبالي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان » ونزلت : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية .

وأخرجه الترمذي وأبو داود وقالا : إن الحكومة كانت بين الأشعث وبين رجل يهودي .

[ ص: 871 ] وروى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق ، فحلف بالله : لقد أعطى بها ما لم يعطه ، ليوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية . وقدمنا في مقدمة التفسير ، في بحث سبب النزول ، وفي سورة البقرة أيضا عند آية : من كان عدوا لجبريل ما يعلم به الجمع بين مثل هذه الروايات ، وأنه لا تنافي . فتذكر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 78 ] وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون

وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون قال الإمام ابن كثير : يخبر تعالى عن اليهود ، عليهم لعائن الله ، أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويبدلون كلام الله ، ويزيلونه عن المراد به ، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك ، وينسبونه إلى الله ، وهو كذب على الله ، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ، ولهذا قال تعالى : ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون قال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس : يلوون ألسنتهم [ ص: 872 ] بالكتاب ، ويحرفونه . وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيلون . وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله - عز وجل - ولكنهم يحرفونه : يتأولونه على غير تأويله .

وقال وهب بن منبه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ، ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل ، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله . فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول . رواه ابن أبي حاتم . قال ابن كثير : فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك ، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص . وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ، ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش . وهو من باب تفسير المعرب المعبر ، وفهم كثير منهم فاسد . وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه من عنده ، فتلك كما قال ، محفوظة لم يدخلها شيء - انتهى - وقد قدمنا الكلام على ذلك في مقدمة التفسير عند الكلام على الإسرائيليات ، وفي سورة البقرة أيضا عند قوله تعالى : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه

ولما بين تعالى كذبهم عليه - جل ذكره - بين افتراءهم على رسله إذ زعموا أن عيسى عليه السلام أمرهم أن يتخذوه ربا ، فرد سبحانه عليهم بقوله :

[ ص: 873 ]

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 79 ] ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون

ما كان لبشر أي : ما صح ولا استقام . وفي التعبير ببشر إشعار بعلة الحكم ، فإن البشرية منافية لما افتروه عليه : أن يؤتيه الله الكتاب والحكم أي : الفهم والعلم أو الحكمة : والنبوة وهي الخبر منه تعالى ليدعو الناس إلى الله بترك الأنداد : ثم يقول للناس أي : الذين بعثه الله إليهم ليدعوهم إلى عبادته وحده : كونوا عبادا لي أي : اتخذوني ربا : من دون الله ولكن يقول لهم : كونوا ربانيين أي : منسوبين إلى الرب لاستيلاء الربوبية عليهم وطمس البشرية ، بسبب كونهم عالمين عاملين معلمين تالين لكتب الله . أي : كونوا عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات ، حتى تصيروا ربانيين بغلبة النور على الظلمة - أفاده القاشاني - : بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون أي : بسبب مثابرتكم على تعليم الناس الكتاب ودراسته ، أي : قراءته . فإن ذلك يجركم إلى الله تعالى بالإخلاص في عبادته .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 80 ] ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون

ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر أي : بالعود إليه وقد بعث لمحو الشرك : بعد إذ أنتم مسلمون أي : بعد استقراركم على الإسلام .

[ ص: 874 ] تنبيهات :

الأول : إذا كان ما ذكر في الآية لا يصلح لنبي ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم ، بطريق الأولى والأحرى .

ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن ، أن يأمر الناس بعبادته ، قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا - يعني : أهل الكتاب - كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية ، وفي جامع الترمذي - كما سيأتي - أن عدي بن حاتم قال : يا رسول الله ما عبدوهم . قال : بلى ، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم . فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به وبلغتهم إياه الرسل الكرام ، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام - قاله ابن كثير - .

الثاني : في هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل ، وأن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه . والدراسة : مذاكرة العلم والفقه . فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا ، فمن اشتغل بها ، لا لهذا المقصود ، فقد ضاع سعيه وخاب عمله ، وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ، ولا منفعة بثمرها ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : « نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع » كذا في فتح البيان والرازي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg




ابوالوليد المسلم 11-06-2022 10:46 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 875 الى صـ 880
الحلقة (164)





[ ص: 875 ] الثالث : قرئ في السبع : ولا يأمركم بالرفع على الاستئناف أي : ولا يأمركم الله أو النبي ، وبالنصب عطفا على ثم يقول ، ( ولا ) مزيدة لتأكيد معنى النفي .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 81 ] وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين

[ لم يفسر العلامة رحمه الله هذه الآية ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 82 ] فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون

فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - . قطعا لعذرهم وإظهارا لعنادهم . ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية : وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم ، وإن كان ناسخا لبعض أحكامهم بما دلت [ ص: 876 ] الحكمة على اقتضاء الزمان ذلك ، آمنوا به ونصروه أيضا ، مبالغة في تشهير أمره . ولا يمنعهم ما هم فيه من العلم والنبوة واتباع شرعه ونصره . وأخبر أنهم قبلوا ذلك ، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين . وقد قرئ في السبع بفتح اللام من : لما آتيتكم وكسرها ، فعلى الأول هي موطئة للقسم ، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف ، و ( ما ) حينئذ تحتمل الشرطية ، و : لتؤمنن ساد مسد جواب القسموالشرط . وتحتمل الموصولة بمعنى ( للذي آتيتكموه لتؤمنن به ( وعلى الثاني ، أعني : كسر اللام فـ : ( ما ) إما مصدرية أي : لأجل إيتائي إياكم الكتاب ، ثم لمجيء رسول مصدق لكم غير مخالف ، أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه . وإما موصولة والمعنى : أخذه للذي آتيتكموه ، وجاءكم رسول مصدق له ، وقوله تعالى : فاشهدوا أي : يا أنبياء ، بعضكم على بعض ، بالإقرار . وفي قوله تعالى : وأنا معكم من الشاهدين توكيد عليهم ومن أمعن في نهج الآية علم أن هذا الميثاق قد بولغ في شأنه غاية المبالغة ، وإذا كان هذا الإيجاب مع الأنبياء ، فمع أممهم أولى . وقد روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بعث الله محمدا ، وهو حي ، ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته ، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه . قال ابن كثير : وهذا لا يضاد ما قاله طاوس والحسن وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا ، بل يستلزمه ويقتضيه ، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه مثل قول علي وابن عباس. - انتهى - .

ومن أثر علي عليه السلام هذا - فهم بعض العلماء اختصاص هذا الميثاق بنبينا - صلى الله عليه وسلم - كما نقل القاضي عياض في ( الشفاء ) عن أبي الحسن القابسي قال : استخص الله تعالى محمدا بفضل لم يؤته غيره أبانه به ، وهو ما ذكره في هذه الآية . انتهى . وقد علمت المراد .

بقي أن الإمام أبا مسلم الأصفهاني ذهب إلى أن في قوله تعالى : ميثاق النبيين حذف مضاف ، أي : أممهم ، وعبارته : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب [ ص: 877 ] عليهم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عند مبعثه ، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - من زمرة الأموات ، والميت لا يكون مكلفا ، فلما كان الذين أخذ عليهم الميثاق يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ، ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام ، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيين ، بل هم أمم النبيين . قال : ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق ، أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين ، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، وإنما يليق بالأمم ، أجاب القفال رحمه الله فقال : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية : أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ؟ ! ونظيره قوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض ، فكذا هنا . وقال : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين وقال في صفة الملائكة : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم : لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وبأنهم : يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير ، فكذا ههنا .

ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي ، فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك ، [ ص: 878 ] وقد ذكر تعالى على سبيل الفرض والتقدير في قوله : لئن أشركت ليحبطن عملك فكذا ههنا - نقله الرازي .

ولما بين تعالى أن الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شرع شرعه وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالبا دينا غير دين الله ، فلهذا قال :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 83 ] أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون

أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها أي : استسلم له من فيهما بالخضوع والانقياد لمراده ، والجري تحت قضائه ، كما قال تعالى : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون

فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله ، والكافر مستسلم له كرها ، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع . أفاده ابن كثير : وإليه يرجعون يوم القيامة فيجزي كلا بعمله ، والجملة سيقت للتهديد والوعيد .

[ ص: 879 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 84 ] قل آمنا بالله وما أنـزل علينا وما أنـزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون

قل آمنا بالله وما أنـزل علينا وما أنـزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط أي : أولاد يعقوب : وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض ، كدأب اليهود والنصارى : ونحن له مسلمون أي : منقادون فلا نتخذ أربابا من دونه .

لطيفة :

نكتة الجمع في قوله : ( آمنا ) بعد الإفراد في : ( قل ) كون الأمر عاما ، والإفراد لتشريفه عليه الصلاة والسلام ، والإيذان بأنه أصل في ذلك . أو الأمر خاص بالإخبار عن نفسه الزكية خاصة . والجمع لإظهار جلالة قدره ورفعة محله بأمره ، بأن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك .

ثانية :

عدى أنزل هنا بحرف الاستعلاء ، وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين ، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر ، وقال صاحب ( اللباب ) : الخطاب في البقرة للأمة لقوله : ( قولوا ) . فلم يصح إلا ( إلى ) لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعا . وهنا قال ( قل ) ، وهو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمته ، فكان اللائق به ( على ) لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيها .

وفيه نظر ، لقوله تعالى : آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا - أفاده النسفي - .

[ ص: 880 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 85 ] ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

ومن يبتغ أي : يطلب : غير الإسلام دينا أي : غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى . كدأب المشركين صريحا . والمدعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين : فلن يقبل منه لأنه لم ينقد لأمر الله . وفي الحديث الصحيح : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » : وهو في الآخرة من الخاسرين لضلاله وجوه الهداية في الدنيا .

قال العلامة أبو السعود : والمعنى : أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع ، واقع في الخسران ، بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها . وفي ترتيب الرد والخسران على مجرد الطلب دلالة على أن حال من تدين بغير الإسلام واطمأن بذلك - أفظع وأقبح - انتهى -
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg


ابوالوليد المسلم 11-06-2022 10:46 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 881 الى صـ 886
الحلقة (165)



.
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 86 ] كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين

كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين استبعاد لأن يرشدهم الله للصواب ويوفقهم . فإن الحائد عن الحق ، بعد ما وضح له ، منهمك في الضلال ، بعيد عن الرشاد . وقيل : نفي وإنكار له ، كما قال تعالى : ( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم [ ص: 881 ] طريقا إلا طريق جهنم والمعني بهذه الآية إما أهل الكتاب ، والمراد كفرهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين جاءهم ، بعد إيمانهم به قبل مجيئه ، إذ رأوه في كتبهم ، وكانوا يستفتحون به على المشركين وبعد شهادتهم بحقية رسالته لكونهم عرفوه كما يعرفون أبناءهم ، وجاءهم البينات على صدقه التي آمنوا لمثلها ولما دونها بموسى وعيسى عليهما السلام . فظلموا بحقه الثابت ببيناته وتصديقه الكتب السماوية ، وإما المعني بالآية من ارتد بعد إيمانه ، على ما روي في ذلك كما سنذكره .
ثم بين تعالى الوعيد على كل بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 87 ] أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

أولئك أي : الموصوفون بما تقدم : جزاؤهم أن عليهم لعنة الله أي : طرده وغضبه : والملائكة والناس أجمعين المراد بالناس إما المؤمنين أو العموم ، فإن الكافر أيضا يلعن منكر الحق والمرتد عنه ، فقد لعن نفسه .

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 88 ] خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون

خالدين فيها أي : في اللعنة أو العقوبة أو النار ، وإن لم يجر ذكرهما لدلالة الكلام عليهما . والتخليد في اللعنة على الأول بمعنى أنهم يوم القيامة لا يزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار ، فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء ، أو بمعنى الخلود في أثر اللعن ، لأن اللعن يوجب العقاب ، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن ، ونظيره قوله تعالى : من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه - أفاده الرازي - : لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون أي : لا يمهلون ، أو لا ينتظرون ليعتذروا ، أو لا ينظر نظر رحمة إليهم .

[ ص: 882 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 89 ] إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم

إلا الذين تابوا من بعد ذلك أي : الكفر بعد الإيمان : وأصلحوا أي : وضموا إلى التوبة الأعمال الصالحة . وفيه أن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح : فإن الله غفور رحيم فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم . وهذا من لطفه وبره ورأفته وعائدته على خلقه : أن من تاب إليه تاب عليه . وقد روى ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ، ولحق بالشرك ثم ندم ، فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل لي من توبة ؟ فنزلت : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله : فإن الله غفور رحيم فأرسل إليه قومه فأسلم . وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله : غفور رحيم قال : فحملها إليه رجل من قومه ، فقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ، ما علمت ، لصدوق ، وإن رسول الله لأصدق منك ، وإن الله لأصدق الثلاثة ، فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه .

قال ابن سلامة : فصارت فيه توبة ، وفي كل نادم إلى يوم القيامة .

تنبيه :

قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية جواز لعن الكفار ، وسواء كان الكافر معينا [ ص: 883 ] أو غير معين ، على ظاهر الأدلة . وقد قال النووي : ظاهر الأحاديث أنه ليس بحرام . وأشار الغزالي إلى تحريمه إلا في حق من أعلمنا الله أنه مات على الكفر . كأبي لهب وأبي جهل وفرعون وهامان وأشباههم . قال : لأنه لا يدرى بما يختم له . وأما الذين لعنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعيانهم يجوز أنه - صلى الله عليه وسلم - علم موتهم على الكفر . وأما ما ورد في الترمذي عنه - صلى الله عليه وسلم - : « ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذي » . فقيل : اللعان مثل الضراب للمبالغة . والمعنى : لا يعتاد اللعن حتى يكثر منه . ومن ثمرات الآية صحة التوبة من الكافر والعاصي بالردة وغيرها ، وذلك إجماع ، إلا توبة المرتد ، ففيها خلاف شاذ ، فعند أكثر العلماء أن توبته مقبولة لهذه الآية وغيرها ، وعند ابن حنبل لا تقبل توبته - رواه عنه في ( شرح الإبانة ) قيل : وهو غلط . ولهذه الآية ، ولقوله تعالى في سورة النساء : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا فأثبت إيمانا بعد كفر تقدمه إيمان . ولو تكررت منه الردة صحت توبته أيضا عند جمهور العلماء ، لقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال إسحاق بن راهويه : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته بعد ذلك . أي : لظاهر آية النساء - انتهى - قلت : وفي ( زاد المستقنع ) و ( شرحه ) : من فقه الحنابلة ما نصه : ولا تقبل توبة من تكررت ردته بل يقتل ؛ لأن ذلك يدل على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالإسلام - انتهى - وهو قريب من مذهب إسحاق ، وحكى في ( فتح الباري ) مثله عن الليث وعن أبي إسحاق المروزي من أئمة الشافعية .

[ ص: 884 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 90 ] إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون

إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون أي : الذين ضلوا سبيل الحق وأخطأوا منهاجه ، وقد أشكل على كثير قوله تعالى : لن تقبل توبتهم مع أن التوبة عند الجمهور مقبولة كما في الآية قبلها ، وقوله سبحانه : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وغير ذلك ، فأجابوا : بأن المراد عند حضور الموت . قال الواحدي في ( الوجيز ) : لن تقبل توبتهم لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت ، وتلك التوبة لا تقبل . - انتهى - . أي : كما قال تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت الآية . وقيل : عدم قبول توبتهم كناية عن عدم توبتهم ، أي : لا يتوبون . كقوله : أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وإنما كنى بذلك تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة ، وقيل : لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وازديادهم كفرا . وبقي للمفسرين وجوه أخرى ، هي في التأويل أبعد مما ذكر . [ ص: 885 ] ولا أرى هذه الآية إلا كآية النساء : إن الذين آمنوا ثم كفروا إلخ . وكلاهما مما يدل صراحة على أن من تكررت ردته لا تقبل توبته ، وإلى هذا ذهب إسحاق وأحمد كما قدمنا ، وذلك لرسوخه في الكفر . وقد أشار القاشاني إلى أن هذه الآية مع التي قبلها يستفاد منها أن الكفرة قسمان في باب العناد ، وعبارته عند قوله تعالى : كيف يهدي الله قوما أنكر تعالى هدايته لقوم قد هداهم أولا بالنور الاستعدادي إلى الإيمان ، ثم بالنور الإيماني إلى أن عاينوا حقية الرسول وأيقنوا بحيث لم يبق لهم ( كذا ) . وانضم إليه الاستدلال العقلي بالبينات ، ثم ظهرت نفسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق ، لشؤم ظلمهم وقوة استيلاء نفوسهم الأمارة عليهم الذي هو غاية الظلم فقال : والله لا يهدي القوم الظالمين لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق وقبول النور . وهم قسمان :

قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت ، وتناهوا في الغي والاستشراء ، وتمادوا في البعد والعناد ، حتى صار ذلك ملكة لا تزول . وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد ، ولم يصر على قلوبهم رينا ، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم ، عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق فيندموا ويستجيبوا بحكم غريزة العقول . فأشار إلى القسم الأول بقوله : إن الذين كفروا بعد إيمانهم إلى آخره ، وإلى الثاني بقوله : إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا بالمواظبة على الأعمال والرياضات ، ما أفسدوا - انتهى - .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 91 ] ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا [ ص: 886 ] ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين )

إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين هذه الآية نظير قوله تعالى في سورة المائدة : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم وقد روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول نعم ، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك » ! وفي رواية للإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم ! كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أي رب ! خير منزل ، فيقول : سل وتمن ، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات - لما يرى من فضل الشهادة - ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم ! كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أي رب ! شر منزل ، فيقول له : أتفتدي منه بطلاع الأرض ذهبا ؟ فيقول : أي رب ! نعم . فيقول : كذبت ! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل ، فيرد إلى النار » . ولهذا قال : أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين أي : من منقذ من عذاب الله ولا مجير من أليم عقابه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 11-06-2022 10:47 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 887 الى صـ 892
الحلقة (166)

لطيفة :

في قوله تعالى : ولو افتدى به قال صاحب ( الانتصاف ) : إن هذه الواو المصاحبة للشرط [ ص: 887 ] تستدعي شرطا آخر ، يعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة . والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى . مثاله : قولك : أكرم زيدا ولو أساء ، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره : أكرم زيدا ولو أساء ، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء ، على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى . ومنه : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم معناه - والله أعلم - : لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم ، فأوجبه تنبيها على ما هو أسهل وأولى بالوجوب ، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عمران هذه مخالفة لهذا النمط ظاهرا ، لأن قوله : ولو افتدى به يقتضي شرطا آخر محذوفا ، يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى . وهذه الحال المذكورة ، وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهبا ، هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية ، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها ، فلذلك قدر الزمخشري الكلام بمعنى : لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا . حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهبا هو أولى بالقبول منها ، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى ؛ فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور . وأما تنزيل الآية عليه فعسر جدا ، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله . فنقول : قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال :

منها : أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول .

[ ص: 888 ] ومنها : أن يقول المفتدي في التقدير : أفدي نفسي بكذا - وقد لا يفعل - .

ومنها : أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدي به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا ، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته .

وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهو أن يفتدي بملء الأرض ذهبا افتداء محققا ، بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا ، ومع ذلك لا يقبل منه . فمجرد قوله : أبذل المال وأقدر عليه ، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى ، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة . وقد ورد هذا المعنى مكشوفا في قوله تعالى : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم - والله أعلم - وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد ، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم . ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلي في يدي هذه . فتأمل هذا النظر فإنه من السهل الممتنع والله ولي التوفيق - انتهى - .

وثمة وجه ثان وهو أن المراد : ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في تلك الآية ، فالمعنى لا يقبل ملء الأرض فدية ، ولو زيد عليه مثله ، والمثل يحذف كثيرا في كلامهم ، كقولك : ضربته ضرب زيد ، تريد : مثل ضربه . وأبو يوسف أبو حنيفة ، تريد : مثله . وقضية ولا أبا حسن لها ، أي : ولا مثل أبي حسن . كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد : أنت . وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد ، وعلى هذا الوجه يجري الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهبا على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى .

[ ص: 889 ] ووجه ثالث : وهو أن لا يحمل ( ملء الأرض ) أولا على الافتداء بل على التصدق ، ولا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق ، بل يكون شرطا محذوف الجواب ، ويكون المعنى : لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا تصدق به ، ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه . وضمير به للمال من غير اعتبار وصف التصدق .

ووجه رابع : وهو أن الواو زيدت لتأكيد النفي . فتبصر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 92 ] لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم

لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون استئناف خطاب للمؤمنين سيق لبيان ما ينفعهم ويقبل منهم ، إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم ، أي : لن تبلغوا حقيقة البر ، وتلحقوا بزمرة الأبرار . بناء على أن تعريف البر للجنس . أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى وهو ثوابه وجنته ، إذا كان للعهد، حتى تنفقوا في سبيل الله تعالى مما تحبون ، أي : تهوونه ويعجبكم من كرائم أموالكم ، كما في قوله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم وقد روى الشيخان عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر أنصار المدينة مالا من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 890 ] يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال أنس : فلما أنزلت هذه الآية : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله - عز وجل - أرجو برها وذخرها عند الله . فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « بخ بخ، ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين » قال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه – ( وبيرحا يروى بكسر الباء وفتحها وفتح الراء وضمها والمد والقصر ، وهو اسم حديقة بالمدينة - وفي الفائق : إنها فيعـلى من البراح ، وهو الأرض الظاهرة . وبخ بخ : كلمة استحسان ومدح كررت للتأكيد ، ورابح بالموحدة : أي : ذو ربح ، وبالمثناة التحتية أي : يروح عليك نفعه وثوابه ) .

وفي الصحيحين أن عمر قال : يا رسول الله ! لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر ، فما تأمرني به ؟ قال : « حبس الأصل وسبل الثمرة » .

وروى الحافظ أبو بكر البزار أن عبد الله بن عمر قال : حضرتني هذه الآية : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئا أحب إلي من جارية لي رومية ، فقلت : هي حرة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله ، لنكحتها . يعني : تزوجتها .

تنبيه :

قال القاشاني : في هذه الآية : كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر ، ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبرؤ عما سواه ، فمن أحب شيئا فقد حجب عن الله تعالى به ، وأشرك شركا خفيا ، لتعلق محبته بغير الله ، كما قال تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم [ ص: 891 ] كحب الله ) وآثر نفسه به على الله ، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه : وهي محبة غير الحق ، والشرك ، وإيثار النفس على الحق ؛ فإن آثر الله به على نفسه وتصدق به وأخرجه من يده فقد زال البعد ، وحصل القرب ، وإلا بقي محجوبا ، وإن أنفق من غيره أضعافه ، فما نال برا لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره .

وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم أي : فمجازيكم عليه ، قليلا كان أو كثيرا ، جيدا أو غيره .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 93 ] كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين

كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قال الزمخشري : المعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة ، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه .

تنبيهات :

الأول : روي ، فيما حرمه إسرائيل على نفسه ، أنه لحوم الإبل وألبانها ، رواه الإمام أحمد في قصة ، والترمذي وقال : حسن غريب . وروي عن ابن عباس والضحاك والسدي وغيرهم موقوفا عليهم أنه العروق . قالوا : كان يعتريه عرق النسا بالليل فيزعجه ، فنذر لئن عوفي لا يأكل عرقا ، ولا يأكل ولده ما له عرق ، فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحم [ ص: 892 ] استنانا به ، واقتداء بطريقه ، قال الرازي : ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان ، بعث بردا إلى أخيه عيسو إلى أرض ساعير ، فانصرف الرسول إليه وقال : إن عيسو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل ، فذعر يعقوب وحزن جدا ، فصلى ودعا ، وقدم هدايا لأخيه ، وذكر القصة ، إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل ، فدنا ذلك الرجل ، ووضع إصبعه على موضع عرق النسا ، فخدرت تلك العصبة وجفت ، فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق - انتهى - قلت : والقصة مسوقة في سفر التكوين من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين .

الثاني : التحريم المذكور ، على الرواية الأولى ، أعني لحوم الإبل وألبانها ، فكان تبررا وتعبدا وتزهدا وقهرا للنفس ، طلبا لمرضاة الحق تعالى . وعلى الثانية : فإما وفاء بالنذر وإما تداويا ،وإما لكونه يجد نفسه تعافه - والله أعلم - فالتحريم بمعنى الامتناع .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 11-06-2022 10:48 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 893 الى صـ 898
الحلقة (167)


الثالث : قال الزمخشري : الآية رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلى قوله : ذلك جزيناهم ببغيهم وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه ، وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم . فقالوا : لسنا بأول من حرمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم ، كانت محرمة [ ص: 893 ] على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا . إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا . وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساوئهم - انتهى - .

قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أي : في دعواكم أنه تحريم قديم - وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به ، من أن تحريم ما حرم عليهم حادث لا قديم ، كما يدعونه - أعظم برهان على صدقه وكذبهم إذ لم يجسروا على إخراج التوراة . فبهتوا وانقلبوا صاغرين .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 94 ] فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون

فمن افترى أي : تعمد : على الله الكذب أي : في أمر المطاعم وغيرها : من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون لتعرضهم إلى أن يهتكهم تعالى ويعذبهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 95 ] قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

قل صدق الله تعريض بكذبهم ، أي : ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون : فاتبعوا ملة إبراهيم أي : ملة الإسلام التي عليها محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه ، والتي هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام ، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه : حنيفا أي : مائلا عن الأديان الزائفة : وما كان من المشركين تعريض بما في اليهودية والنصرانية من شرك إثبات الولد أو إلهية عيسى ، فكيف يزعمون أنهم على ملته ، وما كان يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وهو الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ ! .

[ ص: 894 ]

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 96 ] إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين

إن أول بيت وضع للناس أي : لنسكهم وعباداتهم : للذي ببكة أي : للبيت الذي ببكة ، أي : فيها . وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى . وبكة لغة في مكة ، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما في قولهم : ( ضربة لازب ولازم ) ، و( النميط والنبيط ) في اسم موضع بالدهناء ، وقولهم ( أمر راتب وراتم ) و ( أغبطت الحمى وأغمطت) . وقيل : مكة البلد ، وبكة موضع المسجد ، سميت بذلك : لدقها أعناق الجبابرة ، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى ، أو لازدحام الناس بها من بكه إذا فرقه ووضعه وإذا زاحمه ، كما أن مكة من مكه : أهلكه ونقصه ؛

لأنها تهلك من ظلم فيها وألحد ، وتنقص الذنوب أو تنفيها كما في القاموس - وقد ذهب بعضهم إلى أن مكة هي ( ميشا ) أو ( ماسا ) المذكورة في التوراة ، وآخر إلى أنه مأخوذ من اسم واحد من أولاد إسماعيل وهو ( مسا ) مباركا أي : كثير الخير ، لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف عنده وطاف حوله ، من الثواب وتكفير الذنوب : وهدى للعالمين لأنه قبلتهم ومتعبدهم .

تنبيه :

ذكر بعض المفسرين أن المراد بالأولية كونه أولا في الوضع والبناء ، ورووا في ذلك آثارا ، منها أنه تعالى خلق هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين ، ومنها : أنه تعالى بعث ملائكة لبناء بيت في الأرض على مثال البيت المعمور ، وذلك قبل خلق آدم ، ومنها : أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، وأنه خلق قبل الأرض بألفي عام . وليس في هذه الآثار خبر صحيح يعول عليه . والمتعين أن المراد : أول بيت وضع مسجدا ، كما بينته رواية ابن أبي حاتم عن علي - رضي الله عنه - في هذه الآية قال : كانت البيوت قبله ، ولكنه [ ص: 895 ] أول بيت وضع لعبادة الله تعالى . وفي الصحيحين عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قلت يا رسول الله : أي : مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : « المسجد الحرام » قلت : ثم أي : ؟ قال : « المسجد الأقصى » قلت : كم كان بينهما ؟ قال : « أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله ، فإن الفضل فيه » .

قال ابن القيم في ( زاد المعاد ) : وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به ، فقال : معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى . وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام . وهذا من جهل القائل ، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه ، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم ، بعد بناء إبراهيم عليه السلام بهذا المقدار . انتهى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 97 ] فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين

فيه آيات بينات مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت . قال ابن كثير : وقد كان ملتصقا بجدار البيت ، حتى أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في إمارته إلى ناحية الشرق ، بحيث يتمكن الطواف منه ، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف ، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده ، حيث قال : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة . قال المفسرون : ثمرة الآية : الترغيب [ ص: 896 ] في زيارة البعض الحرم وفعل الطاعات فيه ، لأنه تعالى وصفه بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات .

لطيفة :

مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ، وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كقوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة . قالوا : فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء ، وغوصه فيها إلى الكعبين ، وإلانة بعض الصخور دون بعض ، وإبقائه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام ، وحفظه ، مع كثرة الأعداء ، ألوف السنين ، آية مستقلة . ويؤيده قراءة ( آية بينة ) على التوحيد ، وإما بما يفهم من قوله - عز وجل - :

ومن دخله كان آمنا فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية ، لكنها في قوة أن يقال : ( وأمن من دخله ( فتكون بحسب المعنى والمآل ، معطوفة على مقام إبراهيم ، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك ، أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان ، وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها - أفاده أبو السعود - . قال المهايمي : فيه آيات بينات رمي الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل ، وتعجيل عقوبة من عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعا تحت ميزابه ، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر ، ومن أعظمها : النازل منزلة الكل ، مقام إبراهيم ، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت ، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء ، ثم لين ، فغرقت فيه قدماه ، كأنهما في طين ، فبقي أثره إلى يوم القيامة . ومن آياته : أن من دخله كان آمنا من نهب العرب وقتالهم ، وقد أمن صيده وأشجاره . - ا هـ - . [ ص: 897 ] قال أبو السعود : ومعنى أمن داخله : أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف [ ص: 901 ] الناس من حولهم ) وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام : رب اجعل هذا بلدا آمنا وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب . وعن عمر - رضي الله عنه - : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسـسته حتى يخرج عنه . ا هـ .

تنبيه :

ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعي الذي وردت به الآيات ، وأوضحته الأحاديث والآثار . ففي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة : « لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا » . وقال يوم فتح مكة : « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته ، إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها ». فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر ، فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : « إلا الإذخر » . ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه ؛ [ ص: 898 ] ولهما ، واللفظ لمسلم أيضا ، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي ، حين تكلم به ، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : « إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب » . فقيل لأبي شريح : ما قال لك ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح . إن الحرم لا يعيذ عاصيا ، ولا فارا بدم ، ولا فارا بخربة .

قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما ، هذا التحريم لسفك الدم المختص بها ، وهو الذي يباح في غيرها ، ويحرم فيها ، لكونها حرما ، كما أن تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلاها والتقاط لقطتها ، هو أمر مختص بها ، وهو مباح في غيرها ، إذ الجميع في كلام واحد ، ونظام واحد ، وإلا بطلت فائدة التخصيص ، وهذا أنواع :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 11-06-2022 10:49 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 899 الى صـ 904
الحلقة (168)

أحدها : وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله : أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل ، لا سيما إن كان لها تأويل. كما امتنع أهلمكة من مبايعة يزيد ، وبايعوا ابن الزبير . فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزا بالنص والإجماع ، وإنما خالف [ ص: 899 ] في ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته ، وعارض نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه وهواه فقال : إن الحرم لا يعيذ عاصيا . فيقال له : هو لا يعيذ عاصيا من عذاب الله ، ولو لم يعذه من سفك دمه لم يكن حرما بالنسبة إلى الآدميين ، وكان حرما بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم ، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، وقام الإسلام على ذلك ، وإنما لم يعد مقيس بن صبابة وابن خطل ومن سمي معهما ؛ لأنه في تلك الساعة لم يكن حرما بل حلا ، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السماوات والأرض . وكانت العرب في جاهليتها ، يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه ، وكان ذلك بينهم خاصة الحرم الذي صار بها حرما . ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه ، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل ، فقطع الإلحاق وقال لأصحابه : « فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك » ، وعلى هذا فمن أتى حدا أو قصاصا خارج الحرم يوجب القتل ، ثم لجأ إليه ، لم يجز إقامته عليه فيه . وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه . وذكر عن عبد الله بن عمر أنه قال : لو وجدت فيه قاتل عمر ما بدهته . وعن ابن عباس أنه قال : لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه ، وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم ، بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه . وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه من أهل العراق ، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث . وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفي منه في الحرم كما يستوفي منه في الحل ، وهو اختيار ابن المنذر ، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان ، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وبما يروى [ ص: 900 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا بخربة » . وبأنه لو كانت الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم ، ولم يمنعه من إقامته عليه ، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدا أو قصاصا لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته ، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه ، إذ كونه حرما بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين ، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده ، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئا إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه ، كالحية والحدأة والكلب العقور ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم » . فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة - وهي فسقهن - ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن ، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل . قال الأولون : ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ، ولا سيما قوله تعالى : ومن دخله كان آمنا وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى ، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه ، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وقوله تعالى : وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء

وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم : من دخله كان آمنا من النار ، وقول بعضهم : كان آمنا من الموت على غير الإسلام ، ونحو ذلك ، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم . وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه ، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه ، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام ، فلا يقول محصل إن قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليها ، أو بغير شهود ، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ، ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع ، لئلا يبطل موجبها ، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره ، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه ، والحال المحرمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أو الحر ، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وإن قلتم : ليس ذلك تخصيصا بل تقييدا لمطلقها كلنا لكم هذا الصاع [ ص: 902 ] سواء بسواء . وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع الإلحاق ، ونص على أن ذلك من خصائصه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « وإنما أحلت لي ساعة من نهار » ، صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة ، إذ لو كان حلالا في كل وقت ، لم يختص بتلك الساعة ، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها ، فيما عدا تلك الساعة . وأما قوله : الحرم لا يعيذ عاصيا ، فهو من كلام الفاسق عمرو بن سعيد الأشدق ، يرد به حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث ، كما جاء مبينا في الصحيح ، فكيف يقدم على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وأما قولكم : لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه ، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء : وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله ، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ، ومن فرق قال : سفك الدم إما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريمه تحريم ما دونه ، لأن حرمة النفس أعظم ، والانتهاك بالقتل أشد ، قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب ، فلم يمنع منه ، كتأديب السيد عبده . وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دونها في ذلك . قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل ، قال : والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه ، قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب ، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام ، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض ، فتحقق بطلانه على التقديرين . قالوا : وأما قولكم إن الحرم لا يعيذ من هتك فيه الحرمة إذ أتى بما يوجب الحد ، فكذلك اللاجئ إليه ، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما . فروى الإمام أحمد ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : من سرق أو قتل في الحد ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ، حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد . وإن سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم . وذكر الأثرم عن [ ص: 903 ] ابن عباس أيضا : من أحدث حدثا في الحرم ، أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ، وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم والفرق بين اللاجئ والمتهتك فيه من وجوه :

أحدها : أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه ، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه ، فقياس أحدهما على الآخر باطل .

الثاني : أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط الملك وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيرا .

الثالث : أن الجاني في الحرم قد هتك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه ، فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره .

الرابع : أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله ، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله .

والخامس : أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستاره ، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج ، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته .

فظهر سر الفرق ، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه . وأما قولكم : إنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس ، فإن الكلب العقور طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله . وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته [ ص: 904 ] عظيمة ، فإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات ، فإن الحرم يعصمها ، وأيضا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء ، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها . انتهى . ( من الجزء الثاني من صفحة 177 إلى صفحة 180 ) .

ولما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج فقال : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا اللام في البيت للعهد . وحجه : قصده للزيارة بالنسك المعروف . وكسر الحاء وفتحها لغتان ، وهما قراءتان سبعيتان ، وفي الآية مباحث :

الأول : في إعرابها قال أبو السعود في صدر الآية : جملة من مبتدأ هو : حج البيت وخبر هو : ( لله ) وقوله تعالى : على الناس متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه ذلك الاستقرار ، ويجوز أن يكون : ( على الناس ) هو الخبر ، و : ( لله ) متعلق بما تعلق به الخبر . ثم قال في قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا في محل الخبر على أنه بدل من : ( الناس ) بدل البعض من الكل مخصص لعمومه ، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف ، أي : من استطاع منهم ، وقيل : بدل الكل ، على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع ، فلا حاجة إلى الضمير . وقيل : في محل الرفع ، على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم من استطاع . وقيل : في حيز النصب بتقدير : أعني .

الثاني : هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور . وقيل : بل هي قوله : وأتموا الحج والعمرة لله والأول أظهر . وفي ( فتح البيان ) : اللام في قوله : ( لله ) هي التي يقال لها [ ص: 905 ] لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف : ( على ) فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب . كما إذا قال القائل : لفلان علي كذا ، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه ، وتعظيما لحرمته . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا .

الثالث : يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة ، بالنص والإجماع ، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا » . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت . حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم » . ثم قال : « ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه » . وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « يا أيها الناس ! إن الله كتب عليكم الحج » ، فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال : « لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة . فمن زاد فهو تطوع » .

[ ص: 906 ] الرابع : استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه . قال ابن المنذر : اختلف العلماء في قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا فقالت طائفة : الآية على العموم ، إذ لا نعلم خبرا ثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا إجماعا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضا ، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج - على ظاهر الآية - . قال : وروينا عن عكرمة أنه قال : الاستطاعة : الصحة . وقال الضحاك : إذا كان شابا صحيحا ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه . فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبوا ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت . وقال مالك : الاستطاعة على إطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي ، وآخر يقدر على المشي على رجليه . وقالت طائفة : الاستطاعة : الزاد والراحلة ، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل ، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رجلا قال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : « الزاد والراحلة » - رواه الترمذي - وفي إسناده الخوزي فيه مقال . قال ابن كثير : لكن قد تابعه غيره . وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قول الله - عز وجل - : من استطاع إليه سبيلا فقيل : ما السبيل ؟ قال : « الزاد والراحلة » ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه .

الخامس : قال الإمام ابن القيم الدمشقي - رضي الله عنه - في ( زاد المعاد ) في سياق هديه - صلى الله عليه وسلم - في حجته : لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة ، وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ، واختلف هل حج قبل الهجرة ؟ .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg


ابوالوليد المسلم 11-06-2022 10:49 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 905 الى صـ 910
الحلقة (169)



الثاني : هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور . وقيل : بل هي قوله : وأتموا الحج والعمرة لله والأول أظهر . وفي ( فتح البيان ) : اللام في قوله : ( لله ) هي التي يقال لها [ ص: 905 ] لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف : ( على ) فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب . كما إذا قال القائل : لفلان علي كذا ، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه ، وتعظيما لحرمته . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا .

الثالث : يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة ، بالنص والإجماع ، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا » . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت . حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم » . ثم قال : « ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه » . وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « يا أيها الناس ! إن الله كتب عليكم الحج » ، فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال : « لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة . فمن زاد فهو تطوع » .

[ ص: 906 ] الرابع : استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه . قال ابن المنذر : اختلف العلماء في قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا فقالت طائفة : الآية على العموم ، إذ لا نعلم خبرا ثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا إجماعا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضا ، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج - على ظاهر الآية - . قال : وروينا عن عكرمة أنه قال : الاستطاعة : الصحة . وقال الضحاك : إذا كان شابا صحيحا ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه . فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبوا ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت . وقال مالك : الاستطاعة على إطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي ، وآخر يقدر على المشي على رجليه . وقالت طائفة : الاستطاعة : الزاد والراحلة ، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل ، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رجلا قال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : « الزاد والراحلة » - رواه الترمذي - وفي إسناده الخوزي فيه مقال . قال ابن كثير : لكن قد تابعه غيره . وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قول الله - عز وجل - : من استطاع إليه سبيلا فقيل : ما السبيل ؟ قال : « الزاد والراحلة » ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه .

الخامس : قال الإمام ابن القيم الدمشقي - رضي الله عنه - في ( زاد المعاد ) في سياق هديه - صلى الله عليه وسلم - في حجته : لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة ، وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ، واختلف هل حج قبل الهجرة ؟ .


[ ص: 907 ] وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر ، وحجة بعد ما هاجر ، معها عمرة . قال الترمذي : هذا حديث غريب من حديث سفيان . قال : وسألت محمدا - يعني : البخاري - عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري . وفي رواية : لا يعد هذا الحديث محفوظا . ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج من غير تأخير ، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر . وأما قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فإنها ، وإن نزلت سنة ست عام الحديبية ، فليس فيها فريضة الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء . فإن قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحهم على أداء الجزية والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة . ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية . ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع . وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج ، وأردفه بعلي - رضي الله عنه - وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم . وقوله تعالى :

ومن كفر فإن الله غني عن العالمين إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى ، لا تعلق له بما قبله ، وإما أنه متعلق به ومنتظم معه ، وهو أظهر وأبلغ . والكفر - على هذا - إما بمعنى جحد فريضة الحج ، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به . ونظيره في السنة ما رواه [ ص: 908 ] النسائي والترمذي عن بريدة مرفوعا : « العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر » . وعن عبد الله بن شقيق قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة - أخرجه الترمذي - ولأبي داود عن جابر مرفوعا : « بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة » ولفظ مسلم : « بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة » . وروى الترمذي عن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . « من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ، وذلك أن الله تعالى يقول : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال . وقد روى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن عمر بن الخطاب قال : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا . قال ابن كثير : إسناده صحيح إلى عمر - رضي الله عنه - : وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لقد هممت أن أبعث رجلا إلى هذه الأمصار ، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين . قال السيوطي في ( الإكليل ) : وقد استدل بظاهر الآية ابن حبيب على أن من ترك الحج ، وإن لم ينكره ، كفر . ثم قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر : من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج ، كان سيماه بين عينيه كافر ، ثم تلا هذه الآية .

[ ص: 909 ] تنبيه :

هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه ، فمنها الإتيان باللام وعلى في قوله : ولله على الناس حج البيت يعني : أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ، ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه : من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد :

أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .

والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين .

ومنها : قوله : ومن كفر مكان من لم يحج تغليظا على تارك الحج .

ومنها : ذكر الاستغناء عنه . وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان .

ومنها : قوله : عن العالمين ولم يقل : عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه - أشار لذلك الزمخشري - ثم عنف تعالى كفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 98 ] قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون

قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله أي : الدالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقوله : والله شهيد على ما تعملون حال مفيدة لتشديد التوبيخ . وإظهار الجلالة في موضع الإضمار لتربية المهانة وتهويل الخطب . وصيغة المبالغة في ( شهيد ) لتأكيد الوعيد ، وكل ذلك موجب لعدم الاجتراء على ما يأتونه. ثم عقب تعالى الإنكار عليهم في ضلالهم توبيخهم في إضلالهم ، فقال :

[ ص: 910 ]

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 99 ] قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون

قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله أي : عن دينه . وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام : من آمن مفعول تصدون قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به : تبغونها على الحذف والإيصال ، أي : تبغون لها ، أي : لسبيل الله التي هي أقوم السبل : عوجا أي : اعوجاجا وزيغا وتحريفا . قال ابن الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب ، وأريد ههنا : تبغون لها عوجا ، ثم أسقطت اللام . كما قالوا : وهبتك درهما ، أي : وهبت لك درهما ، ومثله : صدتك ظبيا ، أي : صدت لك ظبيا ، وأنشد :


فتولى غلامهم ثم نادى أظليما أصيدكم أم حمارا


أراد : أصيد لكم .

قال الرازي : وفي الآية وجه آخر ، وهو أن يكون ( عوجا ) في موضع الحال . والمعنى : تبغونها ضالين ، وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله ، فقال تعالى : إنكم تبغون سبيل الله ضالين ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحذف والإيصال .

وذكر ناصر الدين في ( الانتصاف ) وجها آخر قال : هو أتم معنى ، وهو أن تجعل الهاء هي المفعول به ، و ( عوجا ) حال وقع فيها المصدر الذي هو ( عوجا ) موقع الاسم ، وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج ، على طريقة المبالغة في مثل رجل صوم ، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم - والله أعلم - .

وأنتم شهداء بأنها سبيل الله ، والصد عنها ضلال وإضلال : وما الله بغافل عما تعملون تهديد ووعيد .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 11-06-2022 10:50 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 911 الى صـ 916
الحلقة (170)

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 100 ] يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين

يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب أي : بحسن اعتقادكم فيهم لكونهم أهل الكتاب : يردوكم بعد إيمانكم أي : بالتوحيد والنبوة : كافرين لأنهم يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، كما قال تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم الآية .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 101 ] وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم .

وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب . والمعنى : من أين يتطرق لكم الكفر ؟ : وأنتم تتلى عليكم آيات الله وهي القرآن المعجز الذي هو أجل من الآيات المتلوة عليهم : وفيكم رسوله ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ، وقد هداكم من الضلالة ، وأنقذكم من الجهالة : ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم أي : من يتمسك بدينه الحق الذي بينه بآياته على لسان رسوله ، وهو الإسلام ، والتوحيد ، المعبر عنه بسبيل الله ، فهو على هدى لا يضل متبعه . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم - انتهى - فالجملة حينئذ [ ص: 912 ] تذييل لقوله : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا إلخ ، لأن مضمونه أنكم إن تطيعوهم لخوف شرورهم ومكايدهم ، فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله في دفع ذلك ، لأن من التجأ إليه كفاه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 102 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته أي : حق تقواه ، وذلك بدوام خشيته ظاهرا وباطنا والعمل بموجبها . وروى الحافظ ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى الآية : هو أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر . ورواه ابن مردويه والحاكم مرفوعا ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

قال ابن كثير : والأظهر أنه موقوف - والله أعلم - .

وروي عن أنس أنه قال : لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن لسانه . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية : أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم .

أقول : كل ما روي ، مما تشمله الآية بعمومها ، فلا تنافي .

تنبيه :

زعم بعضهم أن هذه الجملة من الآية منسوخة بآية : فاتقوا الله ما استطعتم متأولا حق تقاته بأن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه . قال : فهذا يعجز العبد عن الوفاء ، فتحصيله ممتنع . وهذا الزعم لم يصب المحز ، فإن كلا من الآيتين سيق في معنى خاص به ، [ ص: 913 ] فلا يتصور أن يكون في هذه الجملة طلب ما لا يستطاع من التقوى ، بل المراد منها دوام الإنابة له تعالى وخشيته وعرفان جلاله وعظمته قلبا وقالبا ، كما بينا . وهذا من المستطاع لكل منيب . وقوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم أمر بعبادته قدر الاستطاعة بلا تكليف لما لا يطاق ، إذ : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وظاهر أن من أتى بما يستطيعه من عبادته تعالى وأناب لجلاله ، وأخلص في أعماله ، وكان مشفقا في طاعاته ، فقد اتقى الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي : مخلصون نفوسكم لله تعالى ، لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلا ، كما في قوله تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : لا تموتن على حال من الأحوال ، إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه ، كما ينبئ عنه الجملة الاسمية . ولو قيل إلا مسلمين لم يفد فائدتها .

والعامل في الحال ما قبل إلا بعد النقض . وظاهر النظم الكريم ، وإن كان نهيا عن الموت المقيد بقيد ، هو الكون على أي : حال غير حال الإسلام ، لكن المقصود هو النهي عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذي هو الكون على حال الإسلام حينئذ . وحيث كان الخطاب للمؤمنين ، كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت . وتوجيه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور . فإن النهي عن المقيد في أمثاله ، نهي عن القيد ورفع له من أصله بالكلية ، مفيد لما لا يفيده النهي عن نفس القيد . فإن قولك : لا تصل إلا وأنت [ ص: 914 ] خاشع ، يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة ما لا يفيده قولك : لا تترك الخشوع في الصلاة ؛ لما أن هذا نهي عن ترك الخشوع فقط ، وذاك نهي عنه وعما يقارنه ، ومفيد لكون الخشوع هو العمدة في الصلاة ، وأن الصلاة بدونه حقها أن لا تفعل . وفيه نوع تحذير عما وراء الموت - أفاده أبو السعود - .

وقد مضى في سورة البقرة الكلام على لون آخر من سر البلاغة في هذه الجملة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 103 ] واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون

واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا الحبل : إما بمعنى العهد ، كما قال تعالى في الآية بعدها : ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس أي : بعهد وذمة ، وإما بمعنى القرآن ، كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ص: 915 ] « ألا وإني تارك فيكم ثقلين : أحدهما كتاب الله هو حبل الله ، من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة ...» الحديث ، والوجهان متقاربان ، فإن عهده أي : شرعه ودينه وكتابه حرز للمتمسك به من الضلالة ، كالحبل الذي يتمسك به خشية السقوط . وقوله : ولا تفرقوا أي : لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم . كما اختلف اليهود والنصارى ، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية ، متدابرين ، يعادي بعضكم بعضا ، ويحاربه . أو ولا تحدثوا [ ص: 916 ] ما يكون عنه التفرق ، ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم ، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام - أفاده الزمخشري - : واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا

قال الزمخشري : كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة ، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، وقذف فيها المحبة ، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخوانا متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد ، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف ، وهو الأخوة في الله : وكنتم على شفا أي : طرف : حفرة من النار بما كنتم فيه من الجاهلية : فأنقذكم منها أي : بالإسلام . قال ابن كثير : وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج ، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم ، والوقائع بينهم . فلما جاء الله بالإسلام ، فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى . قال الله تعالى : هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم الآية . وكانوا على شفا حفرة من النار ، بسبب كفرهم ، فأنقذهم الله منها ، إذ هداهم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم ، بما فضل عليهم في القسمة ، بما أراه الله ، فخطبهم فقال : « يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ؟ » فكلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن - انتهى - .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg





الساعة الآن : 08:07 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 207.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 206.54 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.24%)]