رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ المجلد الرابع صـ 987 الى صـ 993 الحلقة (181) القول في تأويل قوله تعالى : [ 144 ] وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما محمد إلا رسول والرسل منهم من مات ، ومنهم من قتل ، فلا منافاة بين الرسالة والقتل والموت ، إذ : قد خلت من قبله الرسل فسيخلو كما خلوا : أفإن مات أي : أتؤمنون به في حال حياته ، فإن مات : أو قتل انقلبتم أي : ارتددتم : على أعقابكم أي : بعد علمكم بخلو الرسل قبله ، وبقاء دينهم ، متمسكا به : ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب : وسيجزي الله الشاكرين بالنصر والغلبة في الدنيا ، والثواب والرضوان في الآخرة ، وهم الذين لم ينقلبوا ، بل قاموا بطاعته ، وقاتلوا على دينه ، واتبعوا رسوله حيا وميتا . وسماهم شاكرين لأنهم شكروا [ ص: 987 ] نعمة الإسلام الذي هو أجل نعمة وأعز معروف . والمعنى : أن من كان على يقين من دينه ، وبصيرة من ربه ، لا يرتد بموت الرسول وقتله ، ولا يفتر عما كان عليه ، لأنه يجاهد لربه لا للرسول ، كأصحاب الأنبياء السالفين ، كما قال أنس ( عم أنس بن مالك ، يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله عليه السلام وشاع الخبر ، وانهزم المسلمون ، وبلغ إليه تقاول بعضهم : ليت فلانا يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ، وقول المنافقين : لو كان نبيا ما قتل ) : يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد حي لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء هؤلاء ، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل - أفاده القاشاني - . [ ص: 988 ] روى ابن أبي نجيح عن أبيه أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال له : يا فلان ! أشعرت أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم ، فنزل : وما محمد الآية . ورواه أبو بكر البيهقي في ( دلائل النبوة ) . قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : ومنها : - أي : من الغايات في هذه الغزوة - أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قتل . بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ، يموتوا عليه ويقتلوا ، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت . فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه ، وما جاء به ، فكل نفس ذائقة الموت ، وما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم ليخلد ، لا هو ولا هم ، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد ، فإن الموت لا بد منه ، فسواء مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بقي ، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان بأن محمدا قد قتل ، فقال : وما محمد إلا رسول الآية - والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة ، فثبتوا عليها حتى ماتوا وقتلوا ، فظهر أثر هذا العتاب ، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتد من ارتد على عقبيه ، وثبت الشاكرون على دينهم ، فنصرهم الله وأعزهم ، وأظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم - انتهى - . وثبت في الصحيح أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - تلا هذه الآية يوم موت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وتلاها منه الناس كلهم ، والحديث مشهور . ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل نفس أجلا ، لا بد أن تستوفيه وتلحق به ، فيرد الناس كلهم حوض المنايا موردا واحدا ، وإن تنوعت أسبابه ، ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، بقوله : [ ص: 989 ] القول في تأويل قوله تعالى : [ 145 ] وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله أي : بأمره وإرادته : كتابا مؤجلا مصدر مؤكد لمضمون ما قبله ، أي : كتب لكل نفس عمرها كتابا مؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر . وفي الآية تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال ، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه : ومن يرد أي : بعمله : ثواب الدنيا نؤته منها أي : ما نشاء أن نؤتيه ، ولم يكن له في الآخرة من نصيب ، وهو تعريض بمن حضر لطلب الغنائم : ومن يرد أي : بعمله : ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ونظير هذه الآية قوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نـزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب وقوله سبحانه : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا واعلم أن الآية ، وإن كان سياقها في الجهاد ولكنها عامة في جميع الأعمال ، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب أو العقاب هو النيات والدواعي ، لا ظواهر الأعمال . ثم نعى عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم في صدودهم عن سنن الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالية - عليهم السلام - بقوله : [ ص: 990 ] القول في تأويل قوله تعالى : [ 146 ] وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير أي : كم من الأنبياء قاتل معهم ، لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه جماعتهم الأتقياء العباد : فما وهنوا أي : ضعفوا : لما أصابهم في سبيل الله من الجراح وشهادة بعضهم ، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسوله : وما ضعفوا أي : عن الجهاد أو العدو أو الدين : وما استكانوا للأعداء بل صبروا على قتالهم : والله يحب الصابرين على قتال أعدائه . تنبيهات : الأول : ( كأين ) بمعنى : ( كم ) الخبرية ، وفيها لغات ، قرئ منها في السبع كائن ممدودا مهموزا لابن كثير . والباقون بالتشديد . وفيها كلام كثير في معناها ولغاتها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلا ووقفا ، وفي رسمها ، فانظر مواد ذلك . الثاني : قرئ في السبع : ( قتل ) بالبناء للمجهول ونائب الفاعل : ربيون قطعا . وأما احتمال أن يكون ضميرا لنبي ومعه ربيون حال ، أو يكون على معنى التقديم والتأخير ، أي : وكائن من نبي معه ربيون قتل ؛ فتكلف ينبو عن سليم الأفهام . وتعسف يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله . وإن نقله القفال ، ونصره السهيلي وبالغ فيه . فما كل سوداء تمرة . الثالث : ( الربيون ) بكسر الراء قراءة الجمهور ، وقرئ بضمها وفتحها ، فالفتح على القياس ، والكسر والضم من تغييرات النسب ، وهم الربانيون ، أي : الذين يعبدون الرب تعالى . ثم أخبر سبحانه ، بعد بيان محاسنهم الفعلية ، بمحاسنهم القولية ، وهو ما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم ، وأن ينصرهم على عدوهم ، فقال : [ ص: 991 ] القول في تأويل قوله تعالى : [ 147 ] وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين وما كان قولهم أي : هؤلاء الربانيين ، مثل قول المنافقين ولا المعجبين . و : ( قولهم ) بالنصب خبر لكان ، واسمها أن وما بعدها في قوله تعالى : إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين قال ابن القيم : لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها ، وأنها نوعان : تقصير في حق ، أو تجاوز لحد . وأن النصر منوط بالطاعة ، قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى ، وإن لم يثبت أقدامهم وينصرهم ، لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم ، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم ، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم ، لم يثبتوا ولم ينتصروا . فوفوا المقامين حقهما : مقام المقتضى ، وهو التوحيد ، والالتجاء إليه سبحانه . ومقام إزالة المانع من النصرة ، وهو الذنوب والإسراف - انتهى - . قال القاضي : وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن ، سواء كان في الجهاد أو غيره . القول في تأويل قوله تعالى : [ 148 ] فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين فآتاهم الله ثواب الدنيا من النصر والغنيمة ، وقهر العدو ، والثناء الجميل ، وانشراح الصدر بنور الإيمان ، وكفارة السيئات : وحسن ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم . وتخصيص وصف الحسن بثواب الآخرة للإيذان بفضله ومزيته ، وأنه المعتد به عنده تعالى ، بخلاف الدنيا ؛ لقلتها وامتزاجها بالمضار ، وكونها منقطعة زائلة : [ ص: 992 ] والله يحب المحسنين إشارة إلى أن ما حكى عنهم من الأفعال والأقوال من باب الإحسان . قال الرازي : فيه دقيقة لطيفة ، وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا : ربنا اغفر لنا الآية - سماهم الله محسنين ، كأن الله تعالى يقول لهم : إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيبا لنفسي حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز . ثم حذرهم سبحانه ، إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء المفضي لسعادة الدارين ، من طاعة عدوهم . وأخبر أنه إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة . وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد ، بقوله : القول في تأويل قوله تعالى : [ 149 ] يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم أي : إلى الشرك . والارتداد على العقب علم في انتكاس الأمر ، ومثل في الحور بعد الكور : فتنقلبوا خاسرين لدين الإسلام ولمحبة الله ورضوانه وثوابه الدنيوي والأخروي . فلا تعتقدوا أنهم يوالونكم كما توالونهم . قال بعض المفسرين : ثمرة الآية الدلالة على أن على المؤمنين أن لا ينزلوا على حكم الكفار ، ولا يطيعوهم ، ولا يقبلوا مشورتهم ؛ خشية أن يستنزلوهم عن دينهم . [ ص: 993 ] القول في تأويل قوله تعالى : [ 150 ] بل الله مولاكم وهو خير الناصرين بل الله مولاكم فأطيعوه : وهو خير الناصرين ينصركم خيرا من نصرهم لو نصروكم ، وكيف لا يكون خير الناصرين وهو ينصركم بغير قتال ، كما وعد بقوله : القول في تأويل قوله تعالى : [ 151 ] سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب أي : الذي يمنعهم من الهجوم عليكم والإقدام على حرمكم : بما أشركوا بالله ما لم ينـزل به أي : بكونه إلها أو متصفا بصفاته أو مستحقا للعبادة : سلطانا أي : حجة قاطعة ينبني عليها الاعتقادات : ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين هي . والمثوى : المقر والمأوى والمقام . من ثوى يثوي . لطائف : الأولى : أفادت الآية أن ذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله ، وعلى قدر الشرك يكون الرعب . قال القاشاني : جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس لتنورها بنور التوحيد ، فلا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده . وأما المشرك فلأنه محجوب عن منيع القدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة ، ولم ينزل الله بوجوده حجة ، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ المجلد الرابع صـ 1043 الى صـ 1049 الحلقة (189) القول في تأويل قوله تعالى : [ 177 ] إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم إن الذين اشتروا أي : استبدلوا : الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا فيه تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم ، كأنه قيل : وإنما يضرون أنفسهم . فإن جعل الموصول عبارة عن المسارعين المعهودين بأن يراد باشتراء الكفر بالإيمان إيثاره عليه ، إما بأخذه بدلا من الإيمان الحاصل بالفعل ، كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة ، كما هو شأن اليهود ومنافقيهم . فالتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ، ببيان علته ، بتغيير عنوان الموضوع ، فإن ما ذكر في حيز الصلة من الاشتراء المذكور صريح في لحوق ضرره بأنفسهم ، وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا ، كيف وهو علم في الخسران الكلي ، والحرمان الأبدي ، دال على كمال سخافة عقولهم ، وركاكة آرائهم ، فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ، ورزانة الرأي ، ورصانة [ ص: 1043 ] التدبير ، من مضارة حزب الله تعالى ، وهي أعز من الأبلق الفرد ، وأمنع من عقاب الجو ، وإن أجري الموصول على عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكور القدر المشترك الشامل للمعنيين المذكورين ، ولأخذ الكفر بدلا مما نزل منزلة نفس الإيمان من الاستعداد القريب له ، الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق ، وملاحظة الدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس ، كما هو دأب جميع الكفرة ، فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقريرا للقواعد الكلية ، لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام - أفاده أبو السعود - . ثم قال : وقوله تعالى : ولهم عذاب أليم جملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم ، بذكر غاية إيلامه ، بعد ذكر نهاية عظمه ، قيل : لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه ، وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة ، وبتألمه عند كونها خاسرة ، وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك . انتهى . القول في تأويل قوله تعالى : [ 178 ] ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم أي : بتطويل أعمارهم وإمهالهم وتخليتهم وشأنهم دهرا طويلا : خير لأنفسهم بل هو سبب مزيد عذابهم ، لأنه : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما بكثرة المعاصي فيزدادوا عذابا : ولهم أي : في الآخرة : عذاب مهين ذو إهانة في أسفل دركات النار . لطائف : الأولى : في ( ما ) - من قوله تعالى : إنما نملي لهم الأولى - وجهان : أن تكون مصدرية أو موصولة ، حذف عائدها . أي : إملاؤنا لهم أو الذي نمليه لهم . [ ص: 1044 ] الثانية : كان حق ( ما ) في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ، ولكنها وقعت في مصحف الإمام متصلة ، فلا يخالف ، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف . الثالثة : ( ما ) الثانية في : إنما نملي إلخ متصلة ، لأنها كافة . الرابعة : في قوله تعالى : مهين سر لطيف ، وهو أنه لما تضمن الإملاء التمتيع بطيبات الدنيا وزينتها ، وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر ، وصف عذابهم بالإهانة ، ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا . ثم أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ، وهو أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب . فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر ، وطار لهم الصيت ، دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا ، فاقتضت حكمة الله - عز وجل - أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق ، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة ، وتكلموا بما كانوا يكتمونه ، وظهر مخبآتهم ، وعاد تلويحهم صريحا ، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا ، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم ، وهم معهم لا يفارقونهم ، فاستعدوا لهم ، وتحرزوا منهم فقال تعالى : القول في تأويل قوله تعالى : [ 179 ] ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ما كان الله ليذر أي : يترك : المؤمنين على ما أنتم عليه من الالتباس [ ص: 1045 ] بالمنافقين ، بل لا يزال يبتليكم : حتى يميز المنافق : الخبيث من المؤمن : ( الطيب و ) لا يميز إلا بهذا الابتلاء لأنه : ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) أي : الذي يميز به ما في قلوب الخلق من الإيمان والكفر : ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء بإطلاعه على الغيب ، كما أوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ظهر منهم من الأقوال والأفعال ، حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف ، فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ، ويخلصكم من سوء جوارهم . قال ابن القيم : هذا استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب ، كما قال : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة ، كما قال تعالى : فآمنوا بالله ورسله الذين اجتباهم للاقتداء بهم في الاعتقادات والأعمال : وإن تؤمنوا فتصححوا الاعتقادات : وتتقوا فتصلحوا الأعمال : فلكم أجر عظيم وههنا : لطائف : الأولى : في التعبير عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيل على كل منهما ، بما يليق به ، وإشعار بعلة الحكم . الثانية : إفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما ، أعني : المؤمنين بصيغة الجمع ، للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما ، كما في مثل قوله تعالى : ( ذلك أدنى [ ص: 1046 ] ألا تعولوا ) ونظيره قوله تعالى : تذهل كل مرضعة عما أرضعت حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم . الثالثة : تعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق ، مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين ، لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى ، مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان ، وإن ظهر مزيد إخلاصهم ، لا بالتصرف فيهم ، وتغييرهم ، من حال إلى حال أخرى ، مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار ، ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح الرابعة : إنما لم ينسب عدم الترك إليهم ، لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه ، فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة ، كما يشهد به الذوق السليم . [ ص: 1047 ] الخامسة : التعرض للاجتباء في قوله : يجتبي من رسله إلخ للإيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية ، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل ، تقاصرت عنه همم الأمم ، واصطفاه على الجماهير لإرشادهم ، وتعميم الاجتباء لسائر الرسل - عليهم السلام - للدلالة على أن شأنه - عليه الصلاة والسلام - في هذا الباب أمر متين ، له أصل أصيل ، جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل عليهم السلام . السادسة : تعميم الأمر في قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسله مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني ، والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل ، لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل ، وهم شهداء بصحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام ، فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا . هذا ما اقتبسناه من تفسير العلامة أبي السعود رحمه الله ، وقد استقرب حمل هذه الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم . فالمعنى : ما كان الله ليذر المخلصين على الاختلاط أبدا كما تركهم كذلك إلى الآن ، لسر يقتضيه ، بل يفرز عنهم المنافقين ، ولذلك فعله يومئذ ، حيث خلى الكفرة وشأنهم ، فأبرز لهم صورة الغلبة ، فأظهر من في قلوبهم مرض ، ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رؤوس الأشهاد . [ ص: 1048 ] القول في تأويل قوله تعالى : [ 180 ] ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة - شرع ههنا في التحريض على بذل المال في سـبيل الله ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه وإيراد ما بخلوا به بعنوان : ( إيتاء الله تعالى إياه من فضله ) للمبالغة في بيان سوء صنيعهم ، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله ، كما في قوله تعالى : وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه بل هو شر لهم لاستجلاب العقاب عليهم ، والتنصيص على شريته لهم ، مع انفهامها من نفي خيريته ، للمبالغة في ذلك ، والتنوين للتفخيم : سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة بيان لكيفية شـرية مآل ما بخلوا به . وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا الوعيد على طريق التمثيل أي : سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق ، وذهب آخرون إلى أنه على ظاهره ، وأنه نوع من العذاب الأخروي المحسوس ، وأيدوه بما روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته ، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني : شدقيه - ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك » ، ثم تلا هذه الآية : ولا يحسبن الذين يبخلون إلى آخرها . [ ص: 1049 ] وروى الإمام أحمد والنسائي ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله - عز وجل - له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، ثم يلزمه يطوقه ، يقول : أنا كنزك ، أنا كنزك » . وروى الإمام أحمد والترمزي والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه، يفر منه وهو يتبعه، فيقول : أنا كنزك » . ثم قرأعبد الله مصداقه في كتاب الله : سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة قال الترمذي : حسن صحيح . وروى الحافظ أبو يعلى عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من ترك بعده كنزا مثل له شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، يتبعه . فيقول : من أنت ويلك ؟ فيقول : أنا كنزك الذي خلفت بعدك ، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ، ثم يتبع سائر جسده » ، قال الحافظ ابن كثير : إسناده جيد قوي ، ولم يخرجوه ، وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي . ورواه ابن جرير والحافظ ابن مردويه عن حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده ، فيمنعه إياه ، إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع » . وروى ابن جرير مرفوعا : « ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه » . ورواه أيضا موقوفا ومرسلا . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
الساعة الآن : 07:55 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour