ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:11 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 987 الى صـ 993
الحلقة (181)

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 144 ] وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين

وما محمد إلا رسول والرسل منهم من مات ، ومنهم من قتل ، فلا منافاة بين الرسالة والقتل والموت ، إذ : قد خلت من قبله الرسل فسيخلو كما خلوا : أفإن مات أي : أتؤمنون به في حال حياته ، فإن مات : أو قتل انقلبتم أي : ارتددتم : على أعقابكم أي : بعد علمكم بخلو الرسل قبله ، وبقاء دينهم ، متمسكا به : ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب : وسيجزي الله الشاكرين بالنصر والغلبة في الدنيا ، والثواب والرضوان في الآخرة ، وهم الذين لم ينقلبوا ، بل قاموا بطاعته ، وقاتلوا على دينه ، واتبعوا رسوله حيا وميتا . وسماهم شاكرين لأنهم شكروا [ ص: 987 ] نعمة الإسلام الذي هو أجل نعمة وأعز معروف . والمعنى : أن من كان على يقين من دينه ، وبصيرة من ربه ، لا يرتد بموت الرسول وقتله ، ولا يفتر عما كان عليه ، لأنه يجاهد لربه لا للرسول ، كأصحاب الأنبياء السالفين ، كما قال أنس ( عم أنس بن مالك ، يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله عليه السلام وشاع الخبر ، وانهزم المسلمون ، وبلغ إليه تقاول بعضهم : ليت فلانا يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ، وقول المنافقين : لو كان نبيا ما قتل ) : يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد حي لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء هؤلاء ، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل - أفاده القاشاني - .

[ ص: 988 ] روى ابن أبي نجيح عن أبيه أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال له : يا فلان ! أشعرت أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم ، فنزل : وما محمد الآية . ورواه أبو بكر البيهقي في ( دلائل النبوة ) .

قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) :

ومنها : - أي : من الغايات في هذه الغزوة - أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قتل . بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ، يموتوا عليه ويقتلوا ، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت . فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه ، وما جاء به ، فكل نفس ذائقة الموت ، وما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم ليخلد ، لا هو ولا هم ، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد ، فإن الموت لا بد منه ، فسواء مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بقي ، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان بأن محمدا قد قتل ، فقال : وما محمد إلا رسول الآية - والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة ، فثبتوا عليها حتى ماتوا وقتلوا ، فظهر أثر هذا العتاب ، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتد من ارتد على عقبيه ، وثبت الشاكرون على دينهم ، فنصرهم الله وأعزهم ، وأظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم - انتهى - .

وثبت في الصحيح أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - تلا هذه الآية يوم موت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وتلاها منه الناس كلهم ، والحديث مشهور . ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل نفس أجلا ، لا بد أن تستوفيه وتلحق به ، فيرد الناس كلهم حوض المنايا موردا واحدا ، وإن تنوعت أسبابه ، ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، بقوله :

[ ص: 989 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 145 ] وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين

وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله أي : بأمره وإرادته : كتابا مؤجلا مصدر مؤكد لمضمون ما قبله ، أي : كتب لكل نفس عمرها كتابا مؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر . وفي الآية تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال ، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه : ومن يرد أي : بعمله : ثواب الدنيا نؤته منها أي : ما نشاء أن نؤتيه ، ولم يكن له في الآخرة من نصيب ، وهو تعريض بمن حضر لطلب الغنائم : ومن يرد أي : بعمله : ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ونظير هذه الآية قوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نـزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب وقوله سبحانه : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا

واعلم أن الآية ، وإن كان سياقها في الجهاد ولكنها عامة في جميع الأعمال ، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب أو العقاب هو النيات والدواعي ، لا ظواهر الأعمال . ثم نعى عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم في صدودهم عن سنن الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالية - عليهم السلام - بقوله :

[ ص: 990 ]

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 146 ] وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين

وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير أي : كم من الأنبياء قاتل معهم ، لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه جماعتهم الأتقياء العباد : فما وهنوا أي : ضعفوا : لما أصابهم في سبيل الله من الجراح وشهادة بعضهم ، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسوله : وما ضعفوا أي : عن الجهاد أو العدو أو الدين : وما استكانوا للأعداء بل صبروا على قتالهم : والله يحب الصابرين على قتال أعدائه .

تنبيهات :

الأول : ( كأين ) بمعنى : ( كم ) الخبرية ، وفيها لغات ، قرئ منها في السبع كائن ممدودا مهموزا لابن كثير . والباقون بالتشديد . وفيها كلام كثير في معناها ولغاتها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلا ووقفا ، وفي رسمها ، فانظر مواد ذلك .

الثاني : قرئ في السبع : ( قتل ) بالبناء للمجهول ونائب الفاعل : ربيون قطعا . وأما احتمال أن يكون ضميرا لنبي ومعه ربيون حال ، أو يكون على معنى التقديم والتأخير ، أي : وكائن من نبي معه ربيون قتل ؛ فتكلف ينبو عن سليم الأفهام . وتعسف يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله . وإن نقله القفال ، ونصره السهيلي وبالغ فيه . فما كل سوداء تمرة .

الثالث : ( الربيون ) بكسر الراء قراءة الجمهور ، وقرئ بضمها وفتحها ، فالفتح على القياس ، والكسر والضم من تغييرات النسب ، وهم الربانيون ، أي : الذين يعبدون الرب تعالى .

ثم أخبر سبحانه ، بعد بيان محاسنهم الفعلية ، بمحاسنهم القولية ، وهو ما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم ، وأن ينصرهم على عدوهم ، فقال :

[ ص: 991 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 147 ] وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين

وما كان قولهم أي : هؤلاء الربانيين ، مثل قول المنافقين ولا المعجبين . و : ( قولهم ) بالنصب خبر لكان ، واسمها أن وما بعدها في قوله تعالى : إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين

قال ابن القيم : لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها ، وأنها نوعان : تقصير في حق ، أو تجاوز لحد . وأن النصر منوط بالطاعة ، قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى ، وإن لم يثبت أقدامهم وينصرهم ، لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم ، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم ، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم ، لم يثبتوا ولم ينتصروا . فوفوا المقامين حقهما : مقام المقتضى ، وهو التوحيد ، والالتجاء إليه سبحانه . ومقام إزالة المانع من النصرة ، وهو الذنوب والإسراف - انتهى - .

قال القاضي : وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن ، سواء كان في الجهاد أو غيره .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 148 ] فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين

فآتاهم الله ثواب الدنيا من النصر والغنيمة ، وقهر العدو ، والثناء الجميل ، وانشراح الصدر بنور الإيمان ، وكفارة السيئات : وحسن ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم . وتخصيص وصف الحسن بثواب الآخرة للإيذان بفضله ومزيته ، وأنه المعتد به عنده تعالى ، بخلاف الدنيا ؛ لقلتها وامتزاجها بالمضار ، وكونها منقطعة زائلة : [ ص: 992 ] والله يحب المحسنين إشارة إلى أن ما حكى عنهم من الأفعال والأقوال من باب الإحسان .

قال الرازي : فيه دقيقة لطيفة ، وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا : ربنا اغفر لنا الآية - سماهم الله محسنين ، كأن الله تعالى يقول لهم : إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيبا لنفسي حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز .

ثم حذرهم سبحانه ، إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء المفضي لسعادة الدارين ، من طاعة عدوهم . وأخبر أنه إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة . وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 149 ] يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين

يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم أي : إلى الشرك . والارتداد على العقب علم في انتكاس الأمر ، ومثل في الحور بعد الكور : فتنقلبوا خاسرين لدين الإسلام ولمحبة الله ورضوانه وثوابه الدنيوي والأخروي . فلا تعتقدوا أنهم يوالونكم كما توالونهم . قال بعض المفسرين : ثمرة الآية الدلالة على أن على المؤمنين أن لا ينزلوا على حكم الكفار ، ولا يطيعوهم ، ولا يقبلوا مشورتهم ؛ خشية أن يستنزلوهم عن دينهم .

[ ص: 993 ]

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 150 ] بل الله مولاكم وهو خير الناصرين

بل الله مولاكم فأطيعوه : وهو خير الناصرين ينصركم خيرا من نصرهم لو نصروكم ، وكيف لا يكون خير الناصرين وهو ينصركم بغير قتال ، كما وعد بقوله : القول في تأويل قوله تعالى :

[ 151 ] سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين

سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب أي : الذي يمنعهم من الهجوم عليكم والإقدام على حرمكم : بما أشركوا بالله ما لم ينـزل به أي : بكونه إلها أو متصفا بصفاته أو مستحقا للعبادة : سلطانا أي : حجة قاطعة ينبني عليها الاعتقادات : ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين هي . والمثوى : المقر والمأوى والمقام . من ثوى يثوي .

لطائف :

الأولى : أفادت الآية أن ذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله ، وعلى قدر الشرك يكون الرعب . قال القاشاني : جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس لتنورها بنور التوحيد ، فلا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده . وأما المشرك فلأنه محجوب عن منيع القدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة ، ولم ينزل الله بوجوده حجة ، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:11 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 994 الى صـ 1000
الحلقة (182)



وقال القفال - رحمه الله - : كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد [ ص: 994 ] إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك ، في قلوب الكافرين ، حتى يقهر الكفار ، ويظهر دينكم على سائر الأديان . وقد فعل الله ذلك ، حتى صار دين الإسلام قاهرا لجميع الأديان والملل - انتهى - .

وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة ، وأعطيت الشفاعة » .

الثانية : في ذكر عدم تنزيل الحجة مع استحالة تحققها في نفسها - إشعار بنفيها ونفي نزولها جميعا ، لأن ما لم ينزل به سلطانا ، لا سلطان له .

الثالثة : قال أبو السعود : في الآية إيذان بأن المتبع في الباب هو البرهان السماوي ، دون الآراء والأهواء الباطلة .

وقد سبقه إلى ذلك الرازي حيث قال : هذه الآية دالة على فساد التقليد . وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه ، فوجب أن يكون القول به باطلا ، وهذا إنما صح إذا كان القول بإثبات ما لا دليل على ثبوته ، يكون باطلا ، فيلزم فساد القول بالتقليد - انتهى - ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في النصر على عدوه ، وهو الصادق الوعد ، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزموا أمر الرسول لاستمرت نصرتهم ، ولكن انخلعوا عن الطاعة ، وفارقوا مركزهم ففارقهم النصر ، فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفا لهم سوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة بقوله :

[ ص: 995 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 152 ] ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين

ولقد صدقكم الله وعده في قوله : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم إذ تحسونهم أي : تقتلونهم قتلا كثيرا . من ( حسه ) إذا أبطل حسه : بإذنه أي : بتيسيره وتوفيقه : حتى إذا فشلتم أي : ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة : وتنازعتم في الأمر أي : في الإقامة بالمركز ، فقال أصحاب عبد الله : الغنيمة . أي قوم ! الغنيمة . ظهر أصحابكم فما تنظرون ؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين - رواه الإمام أحمد - .

و ( الأمر ) إما بمعنى : الشأن والقصة ، وإما الذي يضاده ( النهي ) أي : فيهم أمرتم به من عدم البراح : وعصيتم أي : أمر الرسول أن لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا ، فلا تعينونا - رواه البخاري - : من بعد ما أراكم ما تحبون أي : من الظفر والغنيمة ، وانهزام العدو . روى البخاري عن البراء قال : لقينا المشركين [ ص: 996 ] يومئذ ، وأجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشا من الرماة ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال : لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم - بلفظ ما تقدم - ثم قال البراء : فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل ، رفعن عن سوقهن ، قد بدت خلاخلهن ، فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة ... الحديث منكم من يريد الدنيا أي : الغنيمة فترك المركز ومنكم من يريد الآخرة فثبت فيه ، وهم الذين نالوا شرف الشهادة ، ومنهم أنس بن النضر الأسد المقدام ، القائل وقتئذ : اللهم ! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني : المسلمين ، وأبرأ إليك مما جاء به [ ص: 997 ] المشركون ، فتقدم بسيفه ، فلقي سعد بن معاذ فقال : أين يا سعد ؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد ! فمضى فقتل ، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه ، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم - هذا لفظ البخاري - وأخرجه مسلم بنحوه ، فرضي الله عنه وأرضاه وقدس روحه الزكية : ثم صرفكم عنهم أي : كفكم عنهم حتى حالت الحال ، ودالت الدولة . وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى : ليبتليكم أي : ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله ، وترجعوا إليه ، وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره ، وملتم إلى الغنيمة . ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم بقوله : ولقد عفا عنكم أي : تفضلا عليكم لإيمانكم : والله ذو فضل على المؤمنين أي : في الأحوال كلها ، إما بالنصرة إما بالابتلاء ، فإن الابتلاء فضل ولطف خفي ، ليتمرنوا بالصبر على الشدائد ، والثبات في المواطن ، ويتمكنوا في اليقين ، ويجعلوه ملكة لهم ، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها ، ولا يذهلوا على الحق ، وليكون عقوبة عاجلة للبعض ، فيتمحصوا عن ذنوبهم ، وينالوا درجة الشهادة ، فيلقوا الله ظاهرين - أفاده القاشاني - .

لطائف :

الأولى : ( إذا ) في قوله تعالى : حتى إذا فشلتم إما شرط ، أو لا . وعلى الأول فجوابها إما محذوف أو مذكور . فتقديره على كونه محذوفا : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، منعكم الله نصره - لدلالة صدر الآية عليه - أو صرتم فريقين ، لأن قوله تعالى : منكم من يريد إلخ يفيد فائدته ويؤدي معناه ، وعلى كونه مذكورا فهو إما : وعصيتم والواو صلة ، وحكي هذا عن الكوفيين والفراء . قالوا : ونظيره قوله تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم والمعنى : ناديناه .

[ ص: 998 ] وبعض من نصر هذا الوجه زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب ( حتى إذا ) بدليل قوله تعالى : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها أي : فتحت . وأجابوا عما أورد عليهم من لزوم تعليل الشيء بنفسه - إذ الفشل والتنازع معصية فكيف يكونان علة لها - بأن المراد من العصيان خروجهم عن ذلك المكان . ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عنه ، فلا لزوم . وإما قوله تعالى : صرفكم عنهم وكلمة ثم صلة - قاله أبو مسلم - .

وعلى الثاني : أعني : كونها ليست شرطا فهي اسم و ( حتى ) حرف جر بمعنى إلى ، متعلقة بقوله تعالى : صدقكم باعتبار تضمنه لمعنى النصر ، كأنه قيل : لقد نصركم الله إلى وقت فشلكم وتنازعكم .

الثانية : فائدة قوله تعالى : من بعد ما أراكم ما تحبون التنبيه على عظم المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد ، كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها سلبوا ذلك الإكرام .

الثالثة : ظاهر قوله تعالى : ولقد عفا عنكم أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة، لأنها لم تذكر ، فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر .

الرابعة : في قوله تعالى : والله ذو فضل على المؤمنين دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن، فإن الذنب في الآية كان كبيرة - والله أعلم - .

ثم ذكرهم تعالى بحالهم وقت الفرار بقوله :

[ ص: 999 ]

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 153 ] إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون

إذ تصعدون متعلق بصرفكم أو بقوله ليبتليكم ، أو بمقدر . والإصعاد : الإبعاد في الأرض . أي : تبعدون في الفرار، وقرئ : تصعدون ، من الثلاثي، أي : في الجبل : ولا تلوون أي : لا تعطفون بالوقوف : على أحد أي : من قريب ولا بعيد، من الدهش والروعة : والرسول يدعوكم في أخراكم أي : ساقتكم وجماعتكم الأخرى، إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى العود والكرة عليهم . وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير وثوقا بوعد الله ومراقبة له .

قال السدي : لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد، فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها . فجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس : « إلي عباد الله ! إلي عباد الله ! » فذكر الله صعودهم إلى الجبل - ثم ذكر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم فقال : إذ تصعدون إلخ .

قال ابن كثير : وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد .

وفي حديث البراء - رضي الله عنه - في مسند الإمام أحمد أنهم لما انهزموا لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا . وروى مسلم عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من [ ص: 1000 ] الأنصار ورجلين من قريش : فأثابكم أي : جازاكم بهذا الهرب والفرار : غما بغم أي : غما متصلا بغم، يعني : غم الهزيمة والكسرة، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدا قتل . وقيل : الباء بمعنى مع ، وقيل : بمعنى على ، وهما قريبان من الأول . وقيل : الباء للمقابلة والعوض ، أي : أذاقكم غما بمقابلة غم أذقتموه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عصيانكم أمره . قاله الزجاج . وقال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين، وقيل : المعنى غما بعد غم أي : غما مضاعفا . ثم أشار إلى سر ذلك بقوله : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم أي : لتتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات فيها، وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة، وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم، فلا تحزنوا على ما فاتكم من الحظوظ والمنافع . وقوله : ولا ما أصابكم من الغموم والمضار .

قال العلامة ابن القيم في ( زاد المعاد ) : وقيل : جازاكم غما بما غممتم به رسوله بفراركم عنه، وأسلمتموه إلى عدوه . فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه . والقول الأول أظهر لوجوه :

أحدها : أن قوله : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر، وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح، فنسوا بذلك السلب، وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:12 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1001 الى صـ 1007
الحلقة (183)


الثاني : أنه مطابق للواقع، فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة، ثم أعقبه غم الهزيمة، ثم غم الجراح الذي أصابهم، ثم غم القتل ، ثم غم سماعهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم . وليس المراد غمين اثنين خاصة ، بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان .

الثالث : أن قوله ( بغم ) من تمام الثواب، لا أنه سبب جزاء الثواب . والمعنى : أثابكم غما متصلا بغم، جزاء على ما وقع منكم من الهرب، وإسلامكم نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وترك استجابتكم له وهو يدعوكم، ومخالفتكم له في لزوم مركزكم، وتنازعكم في الأمر وفشلكم . وكل واحد من هذه الأمور يوجب غما يخصه، فترادفت عليهم الغموم، كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها . ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر . ومن لطفه بهم، ورأفته ورحمته، أن هذه الأمور التي صدرت منهم كانت من أمور الطباع، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة، فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة إلى الفعل، فيترتب عليها آثارها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبة منها، والاحتراز من أمثالها، ودفعها بأضدادها، أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشد حذرا بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها . وربما صحت الأجسام بالعلل .

لطيفة :

لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، ويجوز أيضا استعماله في الشر، لأنه مأخوذ من قولهم : ثاب إليه عقله، أي : رجع إليه . قال تعالى : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس والمرأة تسمى ثـيبا لأن الواطئ عائد إليها . وأصل الثواب كل ما يعود إلى [ ص: 1002 ] الفاعل من جزاء فعله، سواء كان خيرا أو شرا، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير . فإن حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام ، وإن حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم، كما يقال : تحيته الضرب وعتابه السيف، أي : جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب على حد : فبشرهم بعذاب - قاله الرازي - .

تنبيه :

قال المفضل : لا ( زائدة) ، والمعنى : لتتأسفوا على ما فاتكم وعلى ما أصابكم عقوبة لكم، كقوله : ألا تسجد و : لئلا يعلم أي : أن تسجد وليعلم .

وعندي أنه بعيد، لا سيما مع تكرار لا في المعطوف، واستقامة المعنى الجيد على اعتبارها، فالوجه ما سلف .

والله خبير بما تعملون خيرا وشرا، قادر على مجازاتكم، وفيه أعظم زاجر عن [ ص: 1003 ] الإقدام على المعصية . ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته، وخفف عنهم ذلك الغم، وغيبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنا منه، كما قال : القول في تأويل قوله تعالى :

[ 154 ] ثم أنـزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور

ثم أنـزل عليكم من بعد الغم أمنة أي : أمنا . والأمنة ( بتحريك الميم ) مصدر، يقال : أمن أمنا وأمانا وأمنا وأمنة ( محركتين ) وفي حديث نزول عيسى عليه السلام، [ ص: 1004 ] وتقع الأمنة في الأرض، أي : الأمن . ومثله من المصادر العظمة والغلبة، وهو منصوب على المفعولية . وقوله تعالى : نعاسا بدل من : ( أمنة ) وقيل : هو المفعول، و : أمنة حال أو مفعول له : يغشى طائفة منكم وهم المخلصون، أهل اليقين والثبات والتوكل الصادق، والجازمون بأن الله - عز وجل - سينصر رسوله وينجز له مأموله . والنعاس في حال الحرب دليل على الأمان، كما قال في سورة الأنفال : إذ يغشيكم النعاس أمنة منه الآية .

وروى البخاري في التفسير عن أنس عن أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه . ورواه الترمذي والنسائي والحاكم . ولفظ الترمذي : قال أبو طلحة : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر ، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس . فذلك قوله تعالى : ثم أنـزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا وقد ساق الرازي لذلك النعاس فوائد :

منها : أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم . وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى - انتهى - . ثم أخبر تعالى أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه ، لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه ، بقوله : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم أي : ما بهم إلا هم أنفسهم وقد [ ص: 1005 ] قصد خلاصها ، فلم يغشهم النعاس من القلق والجزع والخوف : يظنون بالله غير الحق أي : غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه : ظن الجاهلية كما قال تعالى في الآية الأخرى : بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا الآية . وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة ، وأن الإسلام قد باد وأهله ، وهذا شأن أهل الريب والشك ، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة ، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة .

قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وأنه يسلمه للقتل . وفسر بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ، ولا حكمة له فيه . ففسر بإنكار الحكمة ، وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسوله ، ويظهره على الدين كله . وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح ، حيث يقول : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا وإنما كان هذا ظن السوء ، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل ، وظن غير الحق ، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وذاته المبرأة من كل سوء . بخلاف ما يليق بحكمته وحمده ، وتفرده بالربوبية والإلهية ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، وكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ، ولجنده بأنهم هم الغالبون . فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ، ولا يتم أمره ، ولا يؤيده ويؤيد جنده ، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ، ويظهرهم عليهم ، وأنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل [ ص: 1006 ] الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق ، إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا - فقد ظن بالله السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته . فإن عزته وحكمة إلهيته تأبى ذلك ، ويأبى أن يذل حزبه وجنده ، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به ، العادلين به - فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ، ولا عرف صفاته وكماله ، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته ، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة ، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها ، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها ، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب ، وإن كانت مكروهة له ، فما قدرها سدى ، ولا أنشأها عبثا ، ولا خلقها باطلا : ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ، ظن السوء ، فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم . ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته ، وعرف موجب حمده وحكمته . فمن قنط من رحمته ، وأيس من روحه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ، ويسوي بينهم وبين أعدائه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين من الأمر والنهي ولا يرسل إليهم رسله ، ولا ينزل عليهم كتبه ، بل يتركهم هملا كالأنعام فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله ، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد ، وأنه يعاقبه بما لا صنيع له فيه ، ولا اختيار له ، ولا قدرة ولا إرادة في حصوله ، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظن [ ص: 1007 ] أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ، يضلون بها عباده ، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته ، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين ، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين ، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق ، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل ، وترك الحق لم يخبر به ، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة ، وأشار إليه إشارات ملغزة ، لم يصرح به ، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل ، ، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه ، وتأويله على غير تأويله ، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة ، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان ، وأحالهم في معرفة أسمائه ، وصفاته على عقولهم وآرائهم ، لا على كتابه ، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم ، مع قدرته أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل ، فلم يفعل ، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان - فقد ظن به ظن السوء . فإنه إن قال إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه - فقد ظن بقدرته العجز . وإن قال : إنه قادر ولم يبين ، وعدل عن البيان ، وعن التصريح بالحق ، إلى ما يوهم ، بل يوقع في الباطل المحال ، والاعتقاد الفاسد - فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء . وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله ، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم . وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال ، وظاهر كلام المتهوكين الحيارى هو الهدى والحق ، وهذا من أسوأ الظن بالله .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:12 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1008 الى صـ 1014
الحلقة (184)




فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء . ومن الظانين به غير الحق ، ظن الجاهلية . ومن ظن به يكون في [ ص: 1008 ] ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه كان معطلا من الأزل إلى الأبد ، عن أن يفعل ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل ، ثم صار قادرا عليه بعد أن لم يكن قادرا - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه ، بائنا من خلقه ، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين ، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها ، وأنه أسفل كما أنه أعلى ، ومن قال سبحان ربي الأسفل ، كمن قال سبحان ربي الأعلى - فقد ظن به أقبح الظن .

ثم قال : وبالجملة فيمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ، ووصفه به ورسله ، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه ، ووصفته به رسله - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويتوسلون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه ، فيدعونهم ، ويخافونهم ، ويرجونهم - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .

ثم قال : ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه ، أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله - فقد ظن به ظن السوء . وظن به خلاف ما هو أهله .

ثم قال : ومن ظن به أنه إن عصاه أو أسخطه وأوضع في معاصيه ، ثم اتخذ من دونه وليا ، ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا ، يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ، ويخلصه من عذابه - فقد ظن به ظن السوء . وذلك زيادة في بعده من الله ، وفي عذابه . ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد أعداءه تسليطا مستقرا دائما في حياته وفي مماته ، وابتلاه بهم لا يفارقونه . فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيته ، وظلموا أهل بيته ، وسلبوهم حقهم ، وأذلوهم ، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائما من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق ، وهو يرى قهرهم لهم ، وغصبهم إياهم حقهم ، وتبديلهم دين نبيهم ، وهو يقدر على نصر أوليائه ، وحزبه وجنده ، ولا ينصرهم ولا يديلهم ، بل يديل أعداءهم [ ص: 1009 ] عليهم أبدا ، أو أنه لا يقدر على ذلك ، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته ، ثم جعل أعداءه الذين بدلوا دينه مضاجعيه في حضرته ، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت ( كما تظنه الرافضة ) - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه ، وسواء قالوا : إنه قادر على أن ينصرهم ويجعل لهم الدولة والظفر ، أو أنه غير قادر على ذلك - فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده ، وذلك من ظن السوء به . ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك ، غير محمود عندهم ، وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك ، لكن رفوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه ، واستجاروا من الرمضاء بالنار ، فقالوا : لم يكن هذا بمشيئة الله ، ولا له قدرة على دفعه ونصر أوليائه ، فإنه لا يقدر على أفعال عباده ، ولا يدخل تحت قدرته ، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم . وكل مبطل وكافر ومبتدع ومقهور مستذل - فهو يظن بربه هذا الظن ، وإنه أولى بالنصر والظفر والعلو من خصومه ، فأكثر الخلق ، بل كلهم ، إلا من شاء الله ، يظنون بالله غير الحق وظن السوء . فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ، ناقص الحظ ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ، ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ، ونفسه تشهد عليه بذلك ، وهو بلسانه ينكره ، ولا يتجاسر على التصريح به . ومن فتش نفسه ، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها - رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ، ولو فتشت من فتشـته ، لرأيت عنده تعتبا على القدر ، وملامة له ، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك :


فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيا


فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله ويستغفره كل وقت ، من ظنه بربه ظن السوء . وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ، ومنبع كل شر ، المركبة على الجهل والظلم ، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين ، [ ص: 1010 ] الغني الحميد ، الذي له الغنى التام ، والحمد التام ، والحكمة التامة ، المنزه عن كل سوء ، في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه . فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه ، وصفاته كذلك ، وأفعاله كذلك ، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل . وأسماؤه كلها حسنى . والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله تعالى : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية

ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل بقوله : يقولون هل لنا من الأمر من شيء أي : هل لنا من أمر التدبير والرأي من شيء ، استفهام على سبيل الإنكار . أي : ما لنا أمر يطاع . ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا : لو أطاعونا ما قتلوا وذلك أن عبد الله بن أبي لما شاوره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الواقعة ، أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يخرج إليهم - كما تقدم - . ولما رجع عبد الله بن أبي بمن معه ، وأخبر بكثرة القتلى من بني الخزرج ، قال : هل لنا من الأمر شيء ؟ يعني : أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل قولي حين أمرته بأن يبقى في المدينة ولا يخرج منها : قل إن الأمر كله لله أي : التدبير كله لله ، فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مرد له .

قال الإمام ابن القيم - قدس الله روحه - : ليس مقصودهم بقولهم : هل لنا من الأمر من شيء وقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا إثبات القدر ، ورد الأمر كله إلى الله . ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه ، ولما حسن الرد عليهم بقوله : إن الأمر كله لله ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية . ولهذا ، قال غير واحد من المفسرين : إن ظنهم الباطل ههنا هو التكذيب بالقدر ، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تبعا لهم ، ويسمعون منهم ؛ لما أصابهم القتل ، ويكون النصر والظفر [ ص: 1011 ] لهم . فأكذبهم الله - عز وجل - في هذا الظن الباطل ، الذي هو ظن الجاهلية ، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل ، الذين يزعمون ، بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه ، أنهم كانوا قادرين على دفعه ، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء ، فأكذبهم الله بقوله : قل إن الأمر كله لله فلا يكون إلا ما سبق قضاؤه وقدره ، وجرى به علمه وكتابه السابق ، وما شاء الله كان ولا بد ، شاء الناس أم أبوا . وما لم يشأ لم يكن ، شاء الناس أو لم يشاؤوه . وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل ، فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه ، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن ، وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم ، لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد . سواء أن يكون لهم من الأمر شيء أو لم يكن . وهذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة ، الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاؤه الله ، وأن يشاء ما لا يقع - انتهى - .

يخفون في أنفسهم أي : يضمرون فيها ، أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية : ما لا يبدون لك لكونه لا يرضاه الله تعالى . ثم بين ذلك بعد إجماله فقال : يقولون لو كان لنا من الأمر أي : المسموع . شيء ما قتلنا ها هنا أي : ما غلبنا ، أو ما قتل من قتل منا ، لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو . ولما أخبر تعالى بما أخفوه جهلا منهم ، ظنا أن الحذر يغني من القدر ، أمره تعالى بالرد عليهم بقوله : قل لو كنتم في بيوتكم أي : أجمع رأيكم على أن لا تبرحوا من منازلكم أنتم والمقتولون : لبرز أي : خرج : الذين كتب عليهم القتل في اللوح المحفوظ : إلى مضاجعهم أي : التي قدر الله قتلهم فيها ، ولم يثبتوا في ديارهم ، لأنه يوقع في قلوبهم الخروج إمضاء لقدره وحكمه المحتوم الذي لا يقع خلافه ولا يرد ، لقوله : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة ، حيث لم يقتصر على تحقيق [ ص: 1012 ] نفس القتل ، بل عين مكانه أيضا . وفي التعبير بـ (مضاجعهم ) من إجلالهم وتكريمهم ما لا يخفى على صاحب الذوق السليم وليبتلي الله ما في صدوركم أي : ليعاملكم معاملة الممتحن ، ليستخرج ما في صدوركم من الإخلاص والنفاق ، ليجعله حجة عليكم ، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانا وتسليما ، والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه ؛ وهو علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية ، للإيذان بكثرتها . كأنه قيل : فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلي ... إلخ ، أو لفعل مقدر بعدها ، أي : وللابتلاء المذكور فعل ما فعل ، لا لعدم العناية بأمر المؤمنين . وجعلها عللا لـ ( برز ( يأباه الذوق السليم . فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول ، لا بيان حكمة البروز المفروض - أفاده أبو السعود - ثم ذكر تعالى حكمة أخرى بقوله : وليمحص ما في قلوبكم أي : يخلصه وينقيه ويهذبه ، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع ، وميل النفوس ، وحكم العادة ، وتزيين الشيطان ، واستيلاء الغفلة - ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى . فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ، ولم تتمحص منه ، فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن يقضي لها من المحن والبلاء ، ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء ، إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده ، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك . فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة ، وقتل من قتل منهم ، تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم . فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا . أفاده ابن القيم .

وقال القاشاني : البلاء سوط من سياط الله ، يسوق به عباده إليهم بتصفيتهم عن صفات نفوسهم ، وإظهار ما فيهم من الكمالات ، وانقطاعهم من الخلق إلى الحق . ولهذا كان متوكلا بالأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانا لفضله : « ما أوذي نبي مثل ما أوذيت » . كأنه قال : ما صفي نبي مثل ما صفيت . ولقد أحسن من قال :

[ ص: 1013 ]
لله در النائبات فإنها صدأ اللئام وصيقل الأحرار


إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده .

والله عليم بذات الصدور أي : الضمائر الملازمة لها ، وعد ووعيد . ثم أخبر تعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم ، وأنه بسبب كسبهم بقوله : القول في تأويل قوله تعالى :

[ 155 ] إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم

إن الذين تولوا منكم أي : عن القتال ومقارعة الأبطال : يوم التقى الجمعان أي : جمع المسلمين وجمع المشركين : إنما استزلهم الشيطان أي : حملهم على الزلل بمكر منه . مع وعد الله بالنصر : ببعض ما كسبوا أي : بشؤم بعض ما اكتسبوه من الذنوب ، كترك المركز ، والميل إلى الغنيمة ، مع النهي عنه ، فمنعوا التأييد وقوة القلب . قال ابن القيم : كانت أعمالهم جندا عليهم ازداد بها عدوهم قوة . فإن الأعمال جند للعبد ، وجند عليه ، ولا بد للعبد في كل وقت من سرية من نفسه تهزمه أو تنصره . فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها ، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه . فأعمال العبد تسوقه قسرا إلى مقتضاه من الخير والشر . والعبد لا يشعر ، أو يشعر ويتعامى . ففرار الإنسان من عدوه ، وهو يطيقه ، إنما هو بجند من عمله ، بعثه له الشيطان واستزله به ، ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم بقوله : ولقد عفا الله عنهم أي : بالاعتذار والندم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ، ولا شك أنه كان عارضا عفا الله عنه ، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها : إن الله غفور حليم أي : يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ، ويتجاوز عنهم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:13 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1015 الى صـ 1021
الحلقة (185)


القول في تأويل قوله تعالى :

[ 156 ] يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير

يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وهم المنافقون القائلون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أي : سافروا فيها للتجارة فأصيبوا بغرق أو قتل : أو كانوا أي : إخوانهم : غزى جمع غاز فأصيبوا باصطدام أو قتل : لو كانوا عندنا أي : مقيمين : ما ماتوا وما قتلوا قال أبو السعود : ليس المقصود بالنهي عدم مماثلتهم في النطق بهذا القول ، بل في الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه .

أقول : بل الآية تفيد الأمرين . أعني : حفظ الاعتقاد المقصود أولا وبالذات ، وحفظ المنطق مما يوقع في إضلال الناس ، ويخل بالمقام الإلهي ، كما بينته السنة ، وسنذكره في التنبيه الآتي .

وقوله : ليجعل الله ذلك أي : القول : حسرة في قلوبهم متعلق بـ ( قالوا ) على أن اللام لام العاقبة ، مثلها في : ليكون لهم عدوا وحزنا أي : قالوا ذلك واعتقدوه ، ليكون حسرة في قلوبهم . والمراد بالتعليل المذكور : بيان عدم ترتب فائدة ما، على ذلك أصلا : والله يحيي ويميت رد لقولهم الباطل ، إثر بيان غائلته . أي : هو المؤثر في الحياة والممات وحده ، من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل في ذلك ، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الحتوف ، ويميت المقيم مع حيازته لأسباب السلامة . وعن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أنه قال عند موته : ما في موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء ! : والله بما تعملون بصير تهديد للمؤمنين في مماثلة من ذكر .

[ ص: 1015 ] قال بعض المفسرين : ثمرة الآية أنه لا يجوز التشبه بالكفار . قال الحاكم : وقد يكون منه ما يكون كفرا . وفيها أيضا دلالة على أنه لا يسقط وجوب الجهاد بخشية القتل .

تنبيه :

أشعرت الآية بوجوب حفظ المنطق مما يشاكل ألفاظ المشركين من الكلمات المنافية للعقيدة الإسلامية كما ذكرنا . وقد عقد الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) فصلا في هديه - صلى الله عليه وسلم - في حفظ النطق واختيار الألفاظ قال :

كان - صلى الله عليه وسلم - يتخير في خطابه ، ويختار لأمته أحسن ألفاظ وأجملها وألطفها ، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش . إلى أن قال : ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قول القائل بعد فوات الأمر : لو أني فعلت كذا وكذا . وقال : « إنها تفتح عمل الشيطان » . وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة ، وهو أن يقول : قدر الله وما شاء فعل ، وذلك لأن قوله : لو كنت فعلت كذا وكذا لم يفتني ما فاتني أو لم أقع فيما وقعت فيه - كلام لا يجدي عليه فائدة البتة . فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره ، وغير مستقيل عثرته بـ ( لو ) . وفي ضمن ( لو ) ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه ؛ فإن ما وقع مما يتمنى خلافه إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته . فإذا قال : لو أني فعلت كذا لكان خلاف ما وقع ، فهو محال ، إذ خلاف المقدر المقضي محال . فقد تضمن كلامه كذبا وجهلا ومحالا . وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله : لو أني فعلت لدفعت [ ص: 1016 ] ما قدر علي . فإن قيل : ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له ؛ إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضا من القدر ، فهو يقول : لو وفقت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر ، فإن القدر يدفع بعضه ببعض ، كما يدفع قدر المرض بالدواء ، وقدر الذنوب بالتوبة ، وقدر العدو بالجهاد ، فكلاهما من القدر . قيل : هذا حق ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه . وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه ، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قوله : لو كنت فعلته . بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف ، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه ، فإنه عجز محض ، والله يلوم على العجز ، ويحب الكيس ويأمر به . والكيس : هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده ، فهذه تفتح عمل الخير والأمر ، وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان . فإنه إذا عجز عما ينفعه وصار إلى الأماني الباطلة بقوله : لو كان كذا وكذا ، ولو فعلت كذا ، يفتح عمل الشيطان ، فإن بابه العجز والكسل . ولهذا استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - منهما . وهو مفتاح كل شر ، ويصدر عنهما الهم والحزن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال . فمصدرها كلها عن العجز والكسل ، وعنوانها ( لو ) ، فلذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان » ، فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم ، فإن المنى رأس أموال المفاليس ، والعجز مفتاح كل شر ، وأصل المعاصي كلها العجز ، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات ، وعن الأسباب التي تعرضه عن المعاصي ، وتحول بينها وبينه ، فيقع في المعاصي .

فجمع في هذا الحديث الشريف ، في استعاذته - صلى الله عليه وسلم - أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره . وهو مشتمل على ثمان خصال ، كل خصلتين منهما قرينتان فقال : « أعوذ بك من الهم والحزن » ، وهما قرينان . فإن المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين : فإنه إما أن يكون سببه أمرا ماضيا ، فهو يحدث الحزن ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل ، فهو يحدث الهم ، وكلاهما من العجز . فإن ما مضى لا يدفع بالحزن ، بل بالرضاء والحمد والصبر والإيمان بالقدر ، وقول العبد : [ ص: 1017 ] قدر الله وما شاء فعل . وما يستقبل لا يدفع أيضا بالهم . بل إما أن يكون له حيلة في دفعه فلا يعجز عنه ، وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه ، فلا يجزع منه ، ويلبس له لباسه ، ويأخذ له عدته ، ويتأهب له أهبته اللائقة ، ويستجن بجنة حصينة من التوحيد والتوكل والانطراح بين يدي الرب تعالى ، والاستسلام له ، والرضا به ربا في كل شيء ، ولا يرضى به ربا فيما يحب دون ما يكره . فإذا كان هكذا لم يرض به ربا على الإطلاق ، فلا يرضاه الرب له عبدا على الإطلاق . . فالهم والحزن لا ينفعان العبد ألبتة ، بل مضرتهما أكثر من منفعتهما ، فإنهما يضعفان العزم ، ويوهنان القلب ، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه ، ويقطعان عليه طريق السير ، أو ينكسانه إلى وراء ، أو يعوقانه ويقفانه ، أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه وجد في سيره ، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر ، بل إن عاقة الهم والحزن عن شهواته وإرادته التي تضره في معاشه ومعاده - انتفع به من هذا الوجه ، وهذا من حكمة العزيز الحكيم ، أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه ، الفارغة من محبته وخوفه ورجائه والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والأنس به ، والفرار إليه ، والانقطاع إليه ، ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم والأحزان ، والآلام القلبية ، عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية . وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار . وإن أريد بها الخير كان حظها من سجن الجحيم في معادها ، ولا تزال في هذا السجن ، حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله ، والأنس به ، وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه ، بحيث يكون ذكره تعالى وحبه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره ، هو المستولي على القلب الغالب عليه ، الذي متى فقده ، فقد قوته ، الذي لا قوام له إلا به ، ولا بقاء له بدونه ، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلام التي هي أعظم أمراضه وأفسدها له ، إلا بذلك ، ولا بلاغ إلا بالله وحده ، فإنه لا يوصل إليه إلا هو ، ولا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو ، ولا يدل عليه إلا هو ، وإذا أراد عبده لأمر هيأه له ، [ ص: 1018 ] فمنه الإيجاد ، ومنه الإعداد ، ومنه الإمداد . وإذا أقامه في مقام ، أي مقام كان فبحمده أقامه فيه ، وحكمته أقامته فيه ، ولا يليق به غيره ، ولا يصلح له سواه ، ولا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع ، ولا يمنع عبده حقا هو للعبد ، فيكون بمنعه ظالما ، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعطيه ، وليتضرع إليه ويتذلل بين يديه ويتملقه ويعطي فقره إليه حقه ، بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه ، على تعاقب الأنفاس . وهذا هو الواقع في نفس الأمر وإن لم يشهده ، فلم يمنع عبده ما العبد محتاج إليه بخلا منه ولا نقصان من خزائنه ولا اسـتئثارا عليه بما هو حق للعبد . بل منعه ليرده إليه وليعزه بالتذلل له ، وليغنيه بالافتقار إليه ، وليجبره بالانكسار بين يديه ، وليذيقه بمرارة المنع ، حلاوة الخضوع ولذة الفقر . وليلبسه خلعة العبودية ، وليوليه بعزله أشرف الولايات ، وليشهده حكمته في قدرته ، ورحمته في عزته ، وبره ولطفه في قهره . وأن منعه عطاء وعزله تولية ، وعقوبته تأديب وامتحانه محبة وعطية ، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه . وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه . وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ولا يحسن أن يتخطاه . انتهى .

ثم أشار تعالى إلى أن الموت في سبيل الله ليس مما يوجب الحسرة حتى يحذر منه . بل هو مما يوجب الفرح والسرور ، فقال : القول في تأويل قوله تعالى :

[ 157 ] ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون

ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم أي : فيه من غير قتال : لمغفرة من الله أي : لذنوبكم تنالكم : ورحمة خير مما يجمعون أي : الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها الفانية .

[ ص: 1019 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 158 ] ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون

ولئن متم أو قتلتم على أي : وجه كان حسب القضاء الأسبق : لإلى الله أي : الذي هو متوفيكم لا غيره : تحشرون فيجزيكم بأعمالكم .

لطائف :

الأولى : أطال نحاة المفسرين في قوله تعالى : وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا إلخ . من الوجوه النحوية في ( إذا ) هنا ، وإنه ربما يتبادر أن الموقع لـ : ( إذ ) لا لها ، حيث إن متعلقها وهو ( قالوا ) ماض . و ( إذا ) ظرف لما يستقبل . فمن قائل بأن ( إذا ) لحكاية الحال الماضية ، ومن قائل بأنها للاستمرار . وقيل : إن ( كفروا ) و ( قالوا ) مراد بهما المستقبل ، وفي كل مناقشات وتعسفات . والحق أنها تكون للمضي أيضا . قال المجد الفيروزآبادي : وتجيء ( إذا ) للماضي كقوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها فلا إشكال .

ونقل الرازي عن قطرب : أن كلمة ( إذ ) و ( إذا ) يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى . قال الرازي : وهذا الذي قال قطرب كلام حسن ، وذلك لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى . ثم قال : وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به ، وأنا شديد التعجب منهم . فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته ، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى . انتهى .

الثانية : المجهول على ضم الميم في قوله تعالى : أو متم وهو الأصل لأن الفعل منه يموت . ويقرأ بالكسر وهو لغة طائية . يقال مات يمات مثل خاف يخاف فكما تقول : خفت تقول : مت .

الثالثة : قدم القتل على الموت في الأولى لأنه أكثر ثوابا وأعظم عند الله . فترتيب المغفرة والحرمة عليه أقوى . وقدم الموت في الثانية لأنه أكثر . وهما مستويان في الحشر .

[ ص: 1020 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 159 ] فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين

فبما رحمة من الله لنت لهم أي : للذين تولوا عنك حين عادوا إليك بعد الانهزام ، وللمؤمنين عموما كما قال تعالى : بالمؤمنين رءوف رحيم وما مزيدة للتوكيد أو نكرة . ورحمة بدل منها مبين لإبهامها . والتنوين للتفخيم ، أي : ما لنت هذا اللين الخارق للعادة ، مع ما سبب فعلهم من الغضب الموجب للعنف والسطوة ، لا سيما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به - إلا بسبب رحمة عظيمة : ولو كنت فظا أي : سيئ الخلق خشن الكلام : غليظ القلب أي : قاسيه وشديده . تعاملهم بالعنف والجفا : لانفضوا أي : تفرقوا : من حولك فلم يسكنوا إليك فلا تتم دعوتك . ولكن الله جعلك سهلا سمحا طلقا لينا لطيفا بارا رؤوفا رحيما فاعف عنهم أي : فيما فرطوا في حقك كما عفا الله عنهم : واستغفر لهم إتماما للشفقة عليهم : وشاورهم في الأمر أي : أمر الحرب وغيره توددا إليهم وتطييبا لنفوسهم واستظهارا بآرائهم وتمهيدا لسـنة المشاورة في الأمة . وقد ساق العلامة الرازي وجوها أخرى في فائدة أمره تعالى له عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم ، منها : أنه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان أكمل الناس عقلا ، إلا أن علوم الخلق متناهية ، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله . لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال : أنتم أعرف [ ص: 1021 ] بأمور دنياكم . ومنها : أن الأمر بمشاورتهم لا لأجل أنه - صلى الله عليه وسلم - محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة ، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله . وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات ، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد . انتهى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:13 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1022 الى صـ 1028
الحلقة (186)


وقد ثبت مشاورته - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في عدة أمور منها : أنه شاورهم في يوم بدر في الذهاب [ ص: 1022 ] إلى العير . فقالوا : يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك ، وعن يمينك وشمالك مقاتلون . وشاورهم أيضا أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو . فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم . وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ . فأبى ذلك عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فترك ذلك . وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين ، فقال له الصديق : إنا لم نجئ لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قاله .

وقال - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإفك : « أشيروا علي ، معشر المسلمين ، في قوم أبنوا أهلي [ ص: 1023 ] ورموهم ، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء . وأبنوهم بمن – والله - ما علمت عليهم إلا خيرا » . واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة - رضي الله عنها - . فكان - صلى الله عليه وسلم - يشاورهم في الحروب ونحوها . أفاده الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - .

قال الخفاجي : في الآية إرشاد إلى الاجتهاد وجوازه بحضرته - صلى الله عليه وسلم - . وقال الرازي : دلت على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي . والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة ، فلهذا كان مأمورا بالمشاورة ، انتهى .

وقال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب التمسك بمكارم الأخلاق وخصوصا لمن يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف : فإذا عزمت أي : بعد المشاورة على أمر واطمأنت به نفسك : فتوكل على الله في الإعانة على إمضاء ما عزمت ، لا على المشورة وأصحابها . قال الرازي : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه ، كما يقول بعض الجهال ، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل ، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق : إن الله يحب المتوكلين
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 160 ] إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون

إن ينصركم الله كما نصركم يوم بدر : فلا غالب لكم وإن يخذلكم كما فعل يوم أحد : فمن ذا الذي ينصركم من بعده استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر ذاتا وصفة وبطريق المبالغة . وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله ، وترغيب في الطاعة ، وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد . وتحذير من المعصية ، ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان . كذا في ( الكشاف ) وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي : وليخص [ ص: 1024 ] المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه ، لعلمهم أنه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه - كذا في ( الكشاف ) - .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 161 ] وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون

وما كان لنبي أن يغل قرئ بالبناء للمعلوم ، أي : ما صح وما تأتى لنبي من الأنبياء أن يخون في المغنم ، بعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل ، وعن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم ؛ وبالبناء للمجهول ، أي : ما صح أن ينسـب إلى الغلول ويخون . روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : وما كان لنبي أن يغل في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعل رسول الله أخذها ، فأنزل الله : وما كان لنبي الآية . قال الترمذي : حسن غريب . ورواه ابن مردويه عن ابن عباس أيضا ، ولفظه : اتهم المنافقون رسول الله بشيء فقد ، فأنزل الله تعالى : وما كان لنبي الآية . وهذا تنزيه لمقامه - صلى الله عليه وسلم - الرفيع ، وتنبيه على عصمته . ثم أشار إلى وعيد الغلول بقوله : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة أي : بعينه ، حاملا له على ظهره ، ليفتضح في المحشر ، كما روى الشيخان عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره ، ثم قال : « لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، [ ص: 1025 ] لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك - لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك - لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت » . لفظ مسلم . وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : كان على ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل يقال له : ( كركرة ) فمات ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هو في النار ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها . وعن زيد بن خالد الجهني أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي يوم خيبر ، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « صلوا على صاحبكم » ، فتغيرت وجوه الناس لذلك ، فقال : إن صاحبكم غل في سبيل الله ، ففتشـنا متاعه ، فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين - أخرجه أبو داود والنسائي - وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم فيقول : « ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم منه . إياكم والغلول ، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة ، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر . فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . إنه لينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم ، وأقيموا حدود الله في [ ص: 1026 ] القريب والبعيد ، ولا تأخذكم في الله لومة لائم » . وروى ابن ماجة بعضه . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم خيبر ، أقبل نفر من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : فلان شهيد . فلان شهيد . حتى أتوا على رجل فقالوا : فلان شهيد . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كلا إني رأيته في النهار في بردة غلها أو عباءة » . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يا ابن الخطاب ! اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون » ، قال : فخرجت فناديت : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون . وكذا رواه مسلم والترمذي . وروى أبو داود عن سمرة بن جندب قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس ، فيجوزوا بغنائمهم فيخمسه ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة . فقال : « أسمعت بلالا ينادي ثلاثا ؟ » قال : نعم . قال : « فما منعك أن تجيء ؟ » فاعتذر . فقال : « كن أنت تجيء به يوم القيامة ، فلن أقبله منك » .

تنبيه :

من المفسرين من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجازا عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما غل عما لزمه من الإثم مجازا . قال أبو مسلم : المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية . وقال أبو القاسم الكعبي : المراد أنه يشتهر بذلك ، مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء . وناقشهما الرازي بأن هذا التأويل يحتمل ، إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة ، إلا إذا قام دليل يمنعه منه ، وههنا لا مانع من الظاهر ، فوجب إثباته - انتهى . ومما يؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - : « له رغاء ، له حمحمة ... » ... إلخ الظاهر في الحقيقة زيادة في النكال .

[ ص: 1027 ] ثم توفى كل نفس ما كسبت تعطى جزاء ما كسبت وافيا ، وإنما عمم الحكم ولم يقل : ثم يوفى ما كسب ، ليكون كالبرهان على المقصود ، والمبالغة فيه ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله ، فالغال ، مع عظم جرمه بذلك أولى : وهم أي : الناس المدلول عليهم بكل نفس : لا يظلمون فلا ينقص ثواب مطيعهم ، ولا يزاد في عقاب عاصيهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 162 ] أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .

أفمن اتبع رضوان الله بالطاعة : كمن باء رجع : بسخط من الله بسبب المعاصي كالغال ومن شاكله : ومأواه جهنم وبئس المصير
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 163 ] هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون

هم درجات عند الله أي : طبقات متفاوتة ، تشبيه بليغ ، ووجه ما بينهم من تباين الأحوال في الثواب والعقاب ، كالدرجات في تفاوتها علوا وسفلا .

قال القاشاني : أي : كل من أهل الرضا وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات ، أو هم مختلفون اختلاف الدرجات .

والله بصير بما يعملون أي : بأعمالهم ، فيجازيهم على حسبها .

[ ص: 1028 ]

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 164 ] لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين

لقد من الله أي : أنعم : على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم أي : من جنسهم ، عربيا مثلهم ، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته ، والانتفاع به ، ولما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام خصوا بالذكر ، وإلا فبعثته - صلى الله عليه وسلم - إحسان إلى العالمين ، كما قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين يتلو عليهم آياته يعني : القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية ، لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي : ويزكيهم أي : يطهرهم من الذنوب والشرك بدعوته : ويعلمهم الكتاب أي : القرآن : والحكمة أي : السـنة : وإن كانوا من قبل أي : من قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - وتزكيته : لفي ضلال مبين أي : ظاهر من عبادة الأوثان ، وأكل الخبائث ، وعدوان بعضهم على بعض ، وسواها ، فنقلوا ببعثته - صلى الله عليه وسلم - من الظلمات إلى النور ، وصاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة ، فعظمت المنة لله تعالى عليهم بذلك . قال الرازي : وفي قوله تعالى : من أنفسهم وجه آخر من المنة ، وذلك أنه صار شرفا للعرب ، وفخرا لهم ، كما قال سبحانه : وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب ، ثم إن الأولين كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل . فما كان للعرب ما يقابل ذلك . فلما بعث الله محمدا ، وأنزل عليه القرآن ، صار شرف العرب ذلك زائدا على شرف جميع الأمم . ا هـ .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:14 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1029 الى صـ 1035
الحلقة (187)


ثم كرر عليهم سبحانه أن هذا الذي أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال : القول في تأويل قوله تعالى :

[ 165 ] أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير

أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا الهمزة للتقريع والتقرير ، والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد ، أو على محذوف مثل : أفعلتم : كذا وقلتم . و ( لما ( ظرفه المضاف إلى أصابتكم ، أي : حين أصابتكم مصيبة ، وهي قتل سبعين منكم يوم أحد ، والحال أنكم نلتم ضعفيها يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين - : من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر : قل هو من عند أنفسكم أي : مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز ، فإن الوعد كان مشروطا بالثبات والمطاوعة .

قال ابن القيم : وذكر سبحانه هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السورة المكية فقال : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وقال : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فالحسنة والسيئة ههنا النعمة والمصيبة ، فالنعمة من الله من بها عليك ، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك ، فالأول فضله ، والثاني عدله ، والعبد يتقلب بين فضله وعدله ، جار عليه فضله ، ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضاؤه . وختم الآية الأولى بقوله : إن الله على كل شيء قدير بعد قوله : قل هو من عند أنفسكم إعلاما لهم بعموم قدرته مع عدله ، وأنه عادل قادر ، وفي ذلك إثبات القدر والسبب . فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم ، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه ، فالأول [ ص: 1030 ] ينفي الجبر ، والثاني ينفي القول بإبطال القدر ، فهو شاكل قوله : لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين وفي ذكر قدرته ههنا نكتة لطيفة ، وهي أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته ، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم ، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره ، ولا تتكلوا على سواه ، وكشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله : القول في تأويل قوله تعالى :

[ 166 ] وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين

وما أصابكم يوم التقى الجمعان جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد : فبإذن الله أي : فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار ، فالإذن هنا هو الإذن الكوني القدري ، لا الشرعي الديني ، كقوله في السحر : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير بقوله : وليعلم المؤمنين

[ ص: 1031 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 167 ] وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون

وليعلم الذين نافقوا أي : ليعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تميزا ظاهرا : وقيل لهم عطف على : ( نافقوا ) داخل معه في حيز الصلة . أو كلام مبتدأ : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا يعني : إن لم تقاتلوا لوجه الله تعالى فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأموالكم : قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم أي : لكنه ليس إلا إلقاء النفس في التهلكة : هم أي : بهذا القول : للكفر في الظاهر : يومئذ أقرب منهم للإيمان في الظاهر مع أنه لا إيمان لهم في الباطن أصلا .

فائدتان :

الأولى : قال ابن كثير : استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في حال أقرب إلى الكفر ، وفي حال أقرب إلى الإيمان .

الثانية : قال الواحدي : هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، ولم يطلق القول بتكفيره ؛ لأنه تعالى لم يطلق القول بكفرهم ، مع أنهم كانوا كافرين ، لإظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله . انتهى .

يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم أي : يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان ، وقوله : بأفواههم تأكيد على حد : ولا طائر يطير بجناحيه والله أعلم بما يكتمون

[ ص: 1032 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 168 ] الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين

الذين قالوا لإخوانهم أي : من أجل أقاربهم من قتلى أحد : وقعدوا أي : والحال قد قعدوا عنهم خذلانا لهم : لو أطاعونا أي : في الرجوع : ما قتلوا كما لم نقتل : قل كأنكم تزعمون ادعاء القدرة على دفع الموت : فادرءوا أي : ادفعوا : عن أنفسكم الموت أي : فإنها أقرب إليكم من أنفسهم : إن كنتم صادقين في أن الموت يغني منه حذر ، والمعنى : أن عدم قتلكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوبا عليكم ، لا بسبب أنكم دفعتموه بالقعود ، مع كتابته عليكم ، فإن ذلك مما لا سبيل إليه .

قال ابن القيم : وكان من الحكمة تقديره تعالى في هذه الواقعة تكلم المنافقين بما في نفوسهم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم ، وجوابه لهم ، وعرفوا مواد النفاق ، وما يؤول إليه ، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة . فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة . فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة ، ونعمة على المؤمنين سابغة ، وكم فيها من تحذير وتخويف ، وإرشاد وتنبيه ، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 169 ] ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون

ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا كلام مستأنف مسوق لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون الناس منه ، ليس مما يحذر ، بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون ، إثر بيان أن الحذر لا يجدي ولا يغني ، أي : لا تحسبنهم أمواتا تعطلت أرواحهم : بل هم : أحياء فوق أحياء الدنيا لأنهم مقربون : عند ربهم [ ص: 1033 ] إذ بذلوا له أرواحهم ، لا بمعنى بقاء أرواحهم ورجوعها إليه ، لمشاركة أرواح غيرهم في ذلك ، بل بمعنى أنهم : يرزقون رزق الأحياء ، لا رزقا معنويا ، بل حقيقيا . كما روى ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش . فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم ، وحسن منقلبهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب . فقال الله - عز وجل - : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات : ولا تحسبن » ... إلخ . هكذا رواه الإمام أحمد ؛ ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه . وأخرج مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : ولا تحسبن الذين قتلوا إلخ . فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة ، فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا .

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « الشهداء على بارق - نهر بباب الجنة - فيه قبة خضراء ، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية » - تفرد به أحمد - ورواه ابن جريج بإسناد جيد .

قال ابن كثير : وكأن الشهداء أقسام : منهم من تسرح أرواحهم في الجنة ، ومنهم [ ص: 1034 ] من يكون على هذا النهر بباب الجنة ، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر ، فيجتمعون هنالك ، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح - والله أعلم - ثم قال : وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن ، بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ، فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه الله - تبارك وتعالى - إلى جسده يوم يبعثه » . قوله : يعلق أي : يأكل . وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة ، وأما أرواح الشهداء ، فكما تقدم ، في حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين ، فإنها تطير بأنفسها . فنسأل الله الكريم المنان ، أن يميتنا على الإيمان - انتهى - .

تنبيه :

قال الواحدي : الأصح في حياة الشهداء ، ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أرواحهم في أجواف طير خضر ، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون .

وقال البيضاوي : الآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مدرك بذاته ، لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتأمله والتذاذه ، ويؤيد ذلك قوله سبحانه وتعالى : النار يعرضون عليها الآية . وحديث : « أرواح الشهداء في أجواف طير » ... إلخ .

[ ص: 1035 ] قال الشهاب : يعني : ليس الإنسان مجرد البدن بدون النفس المجردة ، بل هو في الحقيقة النفس المجردة ، وإطلاقه على البدن لشدة التعلق بها ، وهو جوهر مدرك لذاته ، أي : من غير احتياج إلى هذا البدن ، لوصفه بعد مفارقته بالتنعم ونحوه - انتهى .

وقال أبو السعود : في الآية دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف ، لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه . ومن قال بتجريد النفوس البشرية يقول : المراد أن نفوس الشهداء تتمثل طيورا خضرا أو تتعلق بها فتلتذ بما ذكر - انتهى .

وقد أسلفنا في سورة البقرة ، في مثل هذه الآية ، زيادة على ذلك . فتذكر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 170 ] فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون

فرحين بما آتاهم الله من فضله يعني : بما أعطاهم من الثواب والكرامة والإحسان الذين لا يغتم فيه بسلبه : ويستبشرون بالذين أي : بإخوانهم المجاهدين الذين : لم يلحقوا بهم لم يقتلوا فيلحقوا بهم : من خلفهم متعلق بيلحقوا والمعنى : أنهم بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم . أو لم يلحقوا بهم : لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم : ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون بدل من الذين ، بدل اشتمال مبين أن استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم ، والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين . وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة ، بشرهم الله بذلك ، فهم مستبشرون به . وفي ذلك حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على الجد في الجهد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:15 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1036 الى صـ 1042
الحلقة (188)


القول في تأويل قوله تعالى :

[ 171 ] يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين

يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين أي : يسرون بما أنعم الله عليهم ، وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة ، وتوفير أجرهم عليهم .

قال أبو السعود : كرر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن ، بل به وبما يقارنه ، من نعمة عظيمة ، لا يقادر قدرها ، وهي ثواب أعمالهم . ثم قال : والمراد بالمؤمنين : إما الشهداء ، والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رتبة الإيمان ، وكونه مناطا لما نالوه من السعادة . وإما كافة أهل الإيمان من الشهداء وغيرهم ، ذكرت توفية أجورهم على إيمانهم ، وعدت من جملة ما يستبشر به الشهداء بحكم الأخوة في الدين - انتهى - .

وقال ابن القيم : إن الله تعالى عزى نبيه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضا بما قضاه لهم بقوله : ولا تحسبن الآيات - فجمع لهم إلى الحياة الدائمة ، منزلة القرب منه ، وأنهم عنده ، وجريان الرزق المستمر عليهم ، وفرحهم بما آتاهم من فضله ، وهو فوق الرضا ، بل هو كمال الرضا ، واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم ، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته ، وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو أعظم منة ونعمة عليهم ، التي قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة ، ولم يبق لها أثر ألبتة ، وهي منته ، عليهم بإرسال رسول من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وينقذهم من الضلال ، الذي كانوا فيه قبل إرساله ، إلى الهدى ، ومن الشقاء إلى الفلاح ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن الجهل إلى العلم . فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخبر العظيم له - أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير . كما ينال الناس بأذى المطر ، في جنب ما يحصل لهم به من الخير . وأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ، ليحذروا ، وأنها بقضائه [ ص: 1037 ] وقدره ، ليوحدوه ويتكلوا عليه ، ولا يخافوا غيره ، وأخبرهم بما له فيها من الحكم لئلا يتهموا في قضائه وقدره ، وليتعرف إليهم بأنواع صفاته وأسمائه . وسلاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا وأعظم خطرا مما فاتهم من النصر والغنيمة ، وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته ، لينافسوا فيه ، ولا يحزنوا عليهم ، فله الحمد كما هو أهله ، وكما ينبغي لكرم وجهه ، وعز جلاله .

ثم قال ابن القيم : ولما انقضت الحرب ، انكفأ المشركون ، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال ، فشق ذلك عليهم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب : « اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون ، وماذا يريدون ، فإن هم جنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن كانوا ركبوا الخيل ، وساقوا الإبل ، فإنهم يريدون المدينة ، فوالذي نفسي بيده ! لئن أرادوها لأسيرن إليهم ، ثم لأناجزهم فيها » . قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، ووجهوا مكة . ولما عزموا على الرجوع إلى مكة ، أشرف على المسلمين أبو سفيان ، ثم ناداهم : موعدكم الموسم ببدر . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « قولوا : نعم قد فعلنا » . قال أبو سفيان : فذلكم الموعد . ثم انصرف هو وأصحابه ، فلما كان في بعض الطريق ، تلاوموا فيما بينهم ، وقال بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئا ! أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم ، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى في الناس ، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم ، وقال : « لا يخرج معنا إلا من شهد القتال » ، فقال له عبد الله بن أبي : أركب معك ، قال : لا . فاستجاب له المسلمون على ما بهم من القرح الشديد والخوف ، وقالوا : سمعا وطاعة ، واستأذنه جابر بن عبد الله وقال : يا رسول الله ! إني أحب أن لا تشهد مشهدا إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته ، فأذن لي أسير معك ، فأذن له ، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، وأقبل [ ص: 1038 ] معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم . فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله ، فلحقه بالروحاء - ولم يعلم بإسلامه - فقال : ما وراءك يا معبد ؟ فقال : محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم ، وخرجوا في جمع لم يخرجوا مثله ، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم . فقال : ما تقول ؟ فقال : ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة ، فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم ، قال : فلا تفعل ، فإني لك ناصح ، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة - انتهى - وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : القول في تأويل قوله تعالى :

[ 172 ] الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم

الذين استجابوا لله والرسول أي : دعوة الله ورسوله إلى الخروج في طلب أبي سفيان إرهابا له : من بعد ما أصابهم القرح بأحد : للذين أحسنوا منهم بطاعته : واتقوا مخالفته : أجر عظيم روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - في هذه الآية ، قالت لعروة : يا ابن أختي ! كان أبواك منهم : الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما . لما أصاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصابهم يوم أحد ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا فقال : من يذهب في أثرهم ؟ فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير ، قال أبو هشام : ولما ثنى معبد أبا سفيان ومن معه - كما تقدم - مر بأبي سفيان ركب من عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ [ ص: 1039 ] قالوا : نريد المدينة ، قال : ولم ؟ قالوا : نريد الميرة ، قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه ، وأحمل لكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتمونا ؟ قالا : نعم ، قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد جمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمر الركب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه ، فقالوا : حسـبنا الله ونعم الوكيل ، فأنزل الله تعالى في ذلك : القول في تأويل قوله تعالى :

[ 173 ] الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل

الذين قال لهم الناس أي : الركب المستقبل لهم : إن الناس أي : أبا سفيان وأصحابه : قد جمعوا لكم أي : الجموع ليستأصلوكم : فاخشوهم ولا تأتوهم : فزادهم أي : ذلك القول : إيمانا أي : تصديقا بالله ويقينا . والمعنى : أنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا ، بل ثبت به عزمهم على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يأمر به وينهى عنه . وفي الآية دليل على أن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا ، فإن ازدياد اليقين بتناصر الحجج ، وكثرة التأمل ، مما لا ريب فيه : وقالوا حسبنا الله أي : كافينا أمرهم من غير عدة لنا ولا عدد : ونعم الوكيل أي : الموكول إليه والمفوض إليه الأمر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 174 ] فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم

فانقلبوا أي : رجعوا من حمراء الأسد : بنعمة من الله وفضل يعني : العافية وكمال الشجاعة وزيادة الإيمان والتصلب في الدين : لم يمسسهم سوء أي : لم يصبهم قتل [ ص: 1040 ] ولا جراح : واتبعوا رضوان الله أي : في طاعة رسوله بخروجهم وجراءتهم : والله ذو فضل عظيم حيث تفضل عليهم بالعافية وما ذكر معها ، وبالحفظ عن كل ما يسوؤهم . وفيه تحسير للمتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به .

فائدة :

قال السيوطي في ( الإكليل ) : في قوله تعالى : وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة .

تنبيه :

حمل الآية على غزوة حمراء الأسد ، هو ما قاله الحسن وقتادة وعكرمة وغير واحد . وروي أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى . قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : في قوله تعالى : الذين قال لهم الناس الآية ، أن أبا سفيان قال - لما انصرف من أحد - : موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « عسى ! » فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لموعده حتى نزل بدرا ، فوافقوا السوق فيها ، فابتاعوا ، فذلك قوله تعالى : فانقلبوا بنعمة من الله وفضل الآية - قال : وهي غزوة بدر الصغرى - رواه ابن جرير - وأخرج أيضا عن ابن جريج قال : لما عمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لموعد أبي سفيان ، فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش ، فيقولون : قد جمعوا لكم ؛ يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرعبوهم ، فيقول المؤمنون : حسبنا الله ونعم الوكيل حتى قدموا بدرا ، فوجدوا أسواقها عافية ، لم ينازعهم فيها أحد .

وروى البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : فانقلبوا بنعمة من الله وفضل قال : النعمة أنهم سلموا ، والفضل أن عيرا مرت في أيام الموسم ، فاشتراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فربح فيها مالا ، فقسمه بين أصحابه .

قال ابن القيم في ( الهدي ) : إن أبا سفيان قال عند انصرافه من أحد : موعدكم وإيانا العام القابل ببدر ، فلما كان شعبان ، وقيل : ذو القعدة من العام القابل ، خرج رسول الله [ ص: 1041 ] صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة ، وكانت الخيل عشرة أفراس ، وحمل لواءه علي بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة ، فانتهى إلى بدر ، فأقام به ثمانية أيام ينتظر المشركين ، وخرج أبو سفيان بالمشركين من مكة ، وهم ألفان ، ومعهم خمسون فرسا ، فلما انتهوا إلى مر الظهران - مرحلة من مكة - قال لهم أبو سفيان : إن العام عام جدب ، وقد رأيت أن أرجع بكم ، فانصرفوا راجعين ، وأخلفوا الموعد ، فسميت هذه : بدر الموعد ، وتسمى : بدر الثانية - انتهى - .

قال ابن كثير : والصحيح أن الآية نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 175 ] إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين

إنما ذلكم الشيطان أي : قول الشيطان : يخوف أولياءه أي : يخوفكم بقوله ، أولياءه : الكفار ، وحينئذ فأولياءه ثاني مفعولي يخوف ، والأول محذوف ، أي : يخوفكم أولياءه ، كما قرئ كذلك ، وقيل : لا حذف فيه ، والمعنى يخوف من يتبعه ، فأما من توكل على الله فلا يخافه : فلا تخافوهم أي : أولياءه : وخافون في مخالفة أمري ورسولي : إن كنتم مؤمنين فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 176 ] ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم

ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر أي : لا تهتم ولا تبال بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومضرة أهله . وقرئ في السبع : ( يحزنك ) بضم الياء وكسر الزاي : [ ص: 1042 ] إنهم لن يضروا الله شيئا قال عطاء : يريد أولياء الله . نقله الرازي . قال أبو السعود : تعليل للنهي ، وتكميل للتسلية بتحقيق نفي ضررهم أبدا ، أي : لن يضروا بذلك أولياء الله البتة . وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم والإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه ، وفيه مزيد مبالغة في التسلية .

وقال المهايمي : أي : لن يضروا أولياء الله ، لأنهم يحميهم الله ، فلو أضروهم لأضروا الله بتعجيزهم إياه عن حمايتهم ، ولا يمكنهم أن يعجزوه شيئا بل : يريد الله أن يضرهم الضرر الكلي وهو : ألا يجعل لهم حظا في الآخرة أي : نصيبا من الثواب في الآخرة : ولهم عذاب عظيم قال بعض المفسرين : ثمرة هذه الآية أنه لا يجب الاغتمام من معصية العاصين .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:15 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1043 الى صـ 1049
الحلقة (189)


القول في تأويل قوله تعالى :

[ 177 ] إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم

إن الذين اشتروا أي : استبدلوا : الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا فيه تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم ، كأنه قيل : وإنما يضرون أنفسهم . فإن جعل الموصول عبارة عن المسارعين المعهودين بأن يراد باشتراء الكفر بالإيمان إيثاره عليه ، إما بأخذه بدلا من الإيمان الحاصل بالفعل ، كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة ، كما هو شأن اليهود ومنافقيهم . فالتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ، ببيان علته ، بتغيير عنوان الموضوع ، فإن ما ذكر في حيز الصلة من الاشتراء المذكور صريح في لحوق ضرره بأنفسهم ، وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا ، كيف وهو علم في الخسران الكلي ، والحرمان الأبدي ، دال على كمال سخافة عقولهم ، وركاكة آرائهم ، فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ، ورزانة الرأي ، ورصانة [ ص: 1043 ] التدبير ، من مضارة حزب الله تعالى ، وهي أعز من الأبلق الفرد ، وأمنع من عقاب الجو ، وإن أجري الموصول على عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكور القدر المشترك الشامل للمعنيين المذكورين ، ولأخذ الكفر بدلا مما نزل منزلة نفس الإيمان من الاستعداد القريب له ، الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق ، وملاحظة الدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس ، كما هو دأب جميع الكفرة ، فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقريرا للقواعد الكلية ، لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام - أفاده أبو السعود - . ثم قال : وقوله تعالى : ولهم عذاب أليم جملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم ، بذكر غاية إيلامه ، بعد ذكر نهاية عظمه ، قيل : لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه ، وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة ، وبتألمه عند كونها خاسرة ، وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك . انتهى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 178 ] ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين

ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم أي : بتطويل أعمارهم وإمهالهم وتخليتهم وشأنهم دهرا طويلا : خير لأنفسهم بل هو سبب مزيد عذابهم ، لأنه : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما بكثرة المعاصي فيزدادوا عذابا : ولهم أي : في الآخرة : عذاب مهين ذو إهانة في أسفل دركات النار .

لطائف :

الأولى : في ( ما ) - من قوله تعالى : إنما نملي لهم الأولى - وجهان : أن تكون مصدرية أو موصولة ، حذف عائدها . أي : إملاؤنا لهم أو الذي نمليه لهم .

[ ص: 1044 ] الثانية : كان حق ( ما ) في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ، ولكنها وقعت في مصحف الإمام متصلة ، فلا يخالف ، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف .

الثالثة : ( ما ) الثانية في : إنما نملي إلخ متصلة ، لأنها كافة .

الرابعة : في قوله تعالى : مهين سر لطيف ، وهو أنه لما تضمن الإملاء التمتيع بطيبات الدنيا وزينتها ، وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر ، وصف عذابهم بالإهانة ، ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا .

ثم أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ، وهو أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب . فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر ، وطار لهم الصيت ، دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا ، فاقتضت حكمة الله - عز وجل - أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق ، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة ، وتكلموا بما كانوا يكتمونه ، وظهر مخبآتهم ، وعاد تلويحهم صريحا ، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا ، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم ، وهم معهم لا يفارقونهم ، فاستعدوا لهم ، وتحرزوا منهم فقال تعالى : القول في تأويل قوله تعالى :

[ 179 ] ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم

ما كان الله ليذر أي : يترك : المؤمنين على ما أنتم عليه من الالتباس [ ص: 1045 ] بالمنافقين ، بل لا يزال يبتليكم : حتى يميز المنافق : الخبيث من المؤمن : ( الطيب و ) لا يميز إلا بهذا الابتلاء لأنه : ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) أي : الذي يميز به ما في قلوب الخلق من الإيمان والكفر : ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء بإطلاعه على الغيب ، كما أوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ظهر منهم من الأقوال والأفعال ، حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف ، فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ، ويخلصكم من سوء جوارهم .

قال ابن القيم : هذا استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب ، كما قال : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة ، كما قال تعالى : فآمنوا بالله ورسله الذين اجتباهم للاقتداء بهم في الاعتقادات والأعمال : وإن تؤمنوا فتصححوا الاعتقادات : وتتقوا فتصلحوا الأعمال : فلكم أجر عظيم وههنا :

لطائف :

الأولى : في التعبير عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيل على كل منهما ، بما يليق به ، وإشعار بعلة الحكم .

الثانية : إفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما ، أعني : المؤمنين بصيغة الجمع ، للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما ، كما في مثل قوله تعالى : ( ذلك أدنى [ ص: 1046 ] ألا تعولوا ) ونظيره قوله تعالى : تذهل كل مرضعة عما أرضعت حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم .

الثالثة : تعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق ، مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين ، لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى ، مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان ، وإن ظهر مزيد إخلاصهم ، لا بالتصرف فيهم ، وتغييرهم ، من حال إلى حال أخرى ، مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار ، ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح

الرابعة : إنما لم ينسب عدم الترك إليهم ، لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه ، فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة ، كما يشهد به الذوق السليم .

[ ص: 1047 ] الخامسة : التعرض للاجتباء في قوله : يجتبي من رسله إلخ للإيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية ، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل ، تقاصرت عنه همم الأمم ، واصطفاه على الجماهير لإرشادهم ، وتعميم الاجتباء لسائر الرسل - عليهم السلام - للدلالة على أن شأنه - عليه الصلاة والسلام - في هذا الباب أمر متين ، له أصل أصيل ، جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل عليهم السلام .

السادسة : تعميم الأمر في قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسله مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني ، والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل ، لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل ، وهم شهداء بصحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام ، فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا .

هذا ما اقتبسناه من تفسير العلامة أبي السعود رحمه الله ، وقد استقرب حمل هذه الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم . فالمعنى : ما كان الله ليذر المخلصين على الاختلاط أبدا كما تركهم كذلك إلى الآن ، لسر يقتضيه ، بل يفرز عنهم المنافقين ، ولذلك فعله يومئذ ، حيث خلى الكفرة وشأنهم ، فأبرز لهم صورة الغلبة ، فأظهر من في قلوبهم مرض ، ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رؤوس الأشهاد .

[ ص: 1048 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 180 ] ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير

ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة - شرع ههنا في التحريض على بذل المال في سـبيل الله ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه وإيراد ما بخلوا به بعنوان : ( إيتاء الله تعالى إياه من فضله ) للمبالغة في بيان سوء صنيعهم ، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله ، كما في قوله تعالى : وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه بل هو شر لهم لاستجلاب العقاب عليهم ، والتنصيص على شريته لهم ، مع انفهامها من نفي خيريته ، للمبالغة في ذلك ، والتنوين للتفخيم : سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة بيان لكيفية شـرية مآل ما بخلوا به . وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا الوعيد على طريق التمثيل أي : سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق ، وذهب آخرون إلى أنه على ظاهره ، وأنه نوع من العذاب الأخروي المحسوس ، وأيدوه بما روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته ، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني : شدقيه - ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك » ، ثم تلا هذه الآية : ولا يحسبن الذين يبخلون إلى آخرها .

[ ص: 1049 ] وروى الإمام أحمد والنسائي ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله - عز وجل - له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، ثم يلزمه يطوقه ، يقول : أنا كنزك ، أنا كنزك » .

وروى الإمام أحمد والترمزي والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه، يفر منه وهو يتبعه، فيقول : أنا كنزك » . ثم قرأعبد الله مصداقه في كتاب الله : سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة قال الترمذي : حسن صحيح .

وروى الحافظ أبو يعلى عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من ترك بعده كنزا مثل له شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، يتبعه . فيقول : من أنت ويلك ؟ فيقول : أنا كنزك الذي خلفت بعدك ، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ، ثم يتبع سائر جسده » ، قال الحافظ ابن كثير : إسناده جيد قوي ، ولم يخرجوه ، وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي . ورواه ابن جرير والحافظ ابن مردويه عن حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده ، فيمنعه إياه ، إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع » .

وروى ابن جرير مرفوعا : « ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه » . ورواه أيضا موقوفا ومرسلا .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:16 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1050 الى صـ 1056
الحلقة (190)


[ ص: 1050 ] والشجاع ( كغراب وكتاب ) : الحية مطلقا ، أو الذكر منها ، أو ضرب منها دقيق ، وهو أجرؤها - كذا في القاموس وشرحه - .

ثم أشار تعالى إلى أنهم ، وإن لم ينفقوا أموالهم في سبيله ، فهي راجعة إليه بقوله : ولله ميراث السماوات والأرض أي : ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما لهم يبخلون عليه بملكه ، ولا ينفقونه في سبيله . ونظيره قوله تعالى : وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالميراث على هذا على حقيقته ، أو المعنى : أنه يفني أهل السماوات والأرض ، ويصير أملاك أهلهما بعد فنائهم إلى خالص ملكه ، كما يصير مال المورث ملك الوارث ، فجرى ما هنا مجرى الوراثة ، إذ كان الخلق يدعون الأملاك ظاهرا ، وإلا فالكل له ، وعلى هذا فهو مجاز.

قال الزجاج رحمه الله : أي : أن الله تعالى يفني أهلهما ، فيفنيان بما فيهما ، فليس لأحد فيهما ملك ، فخوطبوا بما يعلمون ، لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان - ميراثا - ملكا له : والله بما تعملون خبير أي : فيجازيكم على المنع والبخل .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 181 ] لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق

لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء روى الحافظان ابن مردويه وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة قالت اليهود : يا محمد ! افتقر ربك ، فسأل عباده القرض ، فأنزل الله هذه الآية .

[ ص: 1051 ] وروى محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس ، فوجد من يهود ناسا كثيرة ، قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له : ( فنحاص ) ، وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له : ( أشيع ) ، فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص ! اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل . فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ، ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم . ينهاكم عن الربا ، ويعطينا ، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا . فغضب أبو بكر - رضي الله عنه - فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال : والذي نفسي بيده ! لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله . فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين . فذهب فنحاص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد ! أبصر ما صنع بي صاحبك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر ؟ » فقال : يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما . يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه ، فجحد فنحاص ذلك وقال : ما قلت ذلك . فأنزل الله فيما قال فنحاص : لقد سمع الله الآية . ولما كان مثل هذا القول ، سواء كان من اعتقاد ، أو استهزاء بالقرآن والرسول - وهو الظاهر - لا يصدر إلا عن تمرد [ ص: 1052 ] عظيم لكونه في غاية العظم والهول - أشار إلى وعيده الشديد بقوله : سنكتب ما قالوا أي : ما قالوه من هذه العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة : وقتلهم الأنبياء بغير حق إنما نظم مع ما قبله إيذانا بسوابقهم القبيحة ، وأنه ليس أول جريمة ارتكبوها ، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يسـتبعد منه هذا الكلام : ونقول ذوقوا عذاب الحريق
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 182 ] ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد

ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا ، بسبب هتكهم حرمة الله ، وحرمة كلامه وأنبيائه المبلغين له .

لطائف :

الأولى : إيراد صيغة الجمع في الآية مع كون القائل واحدا ، كما روي ، لرضا الباقين بذلك ، ونظائره في التنزيل كثيرة .

الثانية : إضافة عذاب الحريق بيانية ، أي : العذاب الذي هو الحريق .

الثالثة : الذوق إدراك الطعوم ، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات ، وذكره ههنا ؛ لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل ، والتهالك على المال ، وغالب حاجة الإنسان إليها لتحصيل المطاعم ، ومعظم بخله به للخوف من فقدانه ؛ ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال - أفاده البيضاوي - .

الرابعة : تقديم الأيدي عملها ، لأن من يعمل شيئا يقدمه ، والتعبير بالأيدي عن الأنفس من حيث [ ص: 1053 ] إن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهن ، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جل العمل عليه .

الخامسة : إن قيل : ( ظلام ( صيغة مبالغة من الظلم ، تفيد الكثير ، ولا يلزم من نفي الظلم الكثير نفي الظلم القليل ، فلو قيل : بظالم ، لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره ! . فالجواب عنه من أوجه :

أحدها : أن الصيغة للنسب من قبيل ( بزاز ) و ( عطار ) لا للمبالغة ، والمعنى : لا ينسب إلى الظلم .

الثاني : أن ( فعالا ) قد جاء . لا يراد به الكثرة ، كقول طرفة :


ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترفد القوم أرفد


لا يريد ههنا أنه قد يحل التلاع قليلا ، لأن ذلك يدفعه قوله : متى يسترفد القوم أرفد . وهذا يدل على نفي البخل في كل حال ، ولأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة .

والثالث : أن المبالغة لرعاية جمعية العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده ، وظلام لعبيده ، فالصيغة للمبالغة كما لا كيفا .

[ ص: 1054 ] الرابع : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة ، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان للظلم القليل المنفعة أترك .

الخامس : إن المبالغة لتأكيد معنى بديع، وذلك لأن جملة : وأن الله ليس بظلام للعبيد - اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، أي : والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم . والتعبير عن ذلك بنفي الظلم لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم، كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها . وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 183 ] الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين

الذين قالوا نصب بتقدير ( أعني ) أو رفع على الذم بتقدير ( هم الذين قالوا ) : إن الله عهد إلينا أي : أمرنا : ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل أي : تبكيتا لهم ، وإظهارا لكذبهم : قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات أي : المعجزات الواضحة : وبالذي قلتم بعينه من تشريع القربان الذي تأكله النار : فلم قتلتموهم أي : فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم : إن كنتم صادقين في أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل .

[ ص: 1055 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 184 ] فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير

فإن كذبوك أي : بعد بطلان عذرهم المذكور : فقد كذب أي : فلا تحزن ، وتسل ؛ فقد كذب: رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر جمع زبور أي : الكتب الموحاة منه تعالى : والكتاب المنير أي : الواضح الجلي . والزبور والكتاب : واحد في الأصل، وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين . فالزبور فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة .

فائدة :

في قربان أهل الكتاب وتشريعه عندهم

اعلم أن القربان ( بضم القاف ) معناه لغة : ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته . قال في "( مرشد الطالبين ) : ذبائح العبرانيين عديدة جدا ، وكان المستعمل لهذه الذبيحة، بتعيين الله، الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام . وكانت الذبائح نوعين عامين : إحداهما كانت تقرب لتكفير الخطايا، والأخرى شكرا لله على مراحمه وبركاته .

ثم قال : فالذبيحة اليومية كانت مشهورة جدا، وهي خروف بلا عيب، يقدم وقودا لله كفارة للخطايا، وذلك مرتان صباحا ومساء، طول مدة السنة، فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلا، والتي في المساء عن خطاياهم نهارا . وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم، وبهذا كان ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه، ثم يذبح ويقرب وقودا . وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار، وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية، ويقدمون الطلبات لله عن الشعب، وأما في يوم السبت، فكانت تتضاعف الذبيحة، ويقرب في كل دفعة خروفان .

[ ص: 1056 ] ثم قال : يوم الكفارة كان ممتازا بالذبيحة السنوية، وهي أنه بعد أن يقرب الكاهن ثورا كفارة لخطايا عائلته يقرب ماعزان كفارة لخطايا الشعب - انتهى - .

وقد أشير لكيفية ذبح القربان وحرقه في مواضع من التوراة . منها : سفر الخروج في الفصل التاسع والعشرين . ومنها : في الفصل الأول من سفر الأحبار المسمين باللاويين ونصه : ودعا الرب موسى وخاطبه من خباء المحضر قائلا : خاطب بني إسرائيل وقل لهم : أي إنسان منكم قرب قربانا للرب من البهائم فمن البقر والغنم يقربون قرابينهم إن كان قربانه محرقة من البقر، فذكرا صحيحا يقربه عند باب خباء المحضر يقربه للرضوان عنه، ويضع يده على رأس المحرقة ويترضى به ليغفر له، ثم يذبح الثور ويقرب الكهنة بنو هارون الدم وينضحون الدم على المذبح، وما أحاط به في باب قبة الشهادة - يعني : التابوت الذي كان فيه لوحا التوراة المسماة شهادة - ثم يسلخون المحرقة، ويقطعونها قطعا، ثم يوقدون نارا على المذبح، وينضدون الحطب على النار، ثم يجعلون الأعضاء المقطعة الرأس والشحم على الحطب الذي على النار على المذبح، ويغسلون أكارعه وجوفه بالماء، ثم يصعده الكاهن ويجعله على المذبح وقودا وقربانا لرضا الرب ... إلخ .

وفي الفصل السادس من سفر الأحبار : وكلم الرب موسى قائلا : مر هارون وبنيه، وقل لهم : هذه شريعة المحرقة ، تكون المحرقة على وقيدة المذبح طول الليل إلى الغداة، ونار المذبح متقدة عليه، ويلبس الكاهن قميصه من الكتان، وسراويلات من الكتان على بدنه، ويرفع الرماد الذي آلت إليه نار المحرقة على المذبح، ويجعله إلى جانب المذبح، ثم يخلع ثيابه ويلبس ثيابا أخر، ويخرج الرماد إلى خارج المحلة إلى موضع طاهر، وتبقى النار على المذبح متقدة لا تطفأ، ويضع عليها الكاهن حطبا في كل غداة ... إلخ .

قال بعضهم : زعم الربانيون أن النار التي كانت في هيكل سليمان ، والتي أمر اليهود بحفظها دون أن تطفأ البتة ، كان أصلها من النار التي نزلت من السماء بعد تقدمة هارون وأبنائه المحرقات ، وأنها بقيت إلى أيام خراب الهيكل على يد بختنصر ، إلا أنه ليس في التوراة ما يصرح بذلك - انتهى - .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg




الساعة الآن : 07:55 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 219.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 218.53 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.23%)]