رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (179) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الثامنة: قوله -تعالى-: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) دَلَّ على أن الشكر صفة خاصة النبيين كما وصف الله -عز وجل- نوحًا بقوله: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء: 3)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له في كثرة قيامة حتى تتشقق قدماه وقد غفر الله ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، قال: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)، فالشكر حياة القلب وأساس العبادة؛ قال الله -تعالى-: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل: 114). أمرنا الله أن نأكل من طيبات ما رزقنا، وأن نشكر نعمته؛ فإنما رزقنا لنشكره، وهذا من حكمة الله أن خلقنا في حاجه وأعطانا ما نسد به حاجتنا، وجعل ذلك سبيلًا إلى ما هو أعظم من تلك الحاجات. فحاجتنا إلى شكر نعمة الله أعظم من حاجتنا إلى الهواء والطعام والشراب، ونحن والله لا نحصي ثناءً على الله؛ فكل نَفَس، وكل طعام وشراب نعمة من الله عظيمة، وشكرك نعمة الله عليك، نعمة أعظم؛ فأنت تحتاج إلى ذلك لصلاح قلبك، وحياة قلبك أعظم من حاجتك إلى الهواء والطعام والشراب. فالشكر سبب حياة القلب؛ فلو مُنِع من البدن الهواء يموت، فكذلك لو منع من القلب الشكر يموت القلب، وأنت محتاج إلى حياة قلبك أعظم من حياة بدنك، وفي الأثر الإسرائيلي: أن داود -عليه السلام- قال: "يا رب! كيف أشكرك وشكرك نعمة تحتاج إلى شكر؟ فقال: يا داود الآن شكرتني!". جعل الله -عز وجل- النعم ليأخذ بها قلوبنا إلى ما هو أهم، وليأخذ قلوبنا إلى نعمة أتم؛ وهي: أن نشكره على نعمته فيعطينا المزيد؛ لأن الله -عز وجل- قال: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7). وما أنعم الله -عز وجل- به علينا من شكره هو نعمة جديدة؛ فإذا شهدنا ذلك شعرنا أننا لا نحصي ثناءً على الله، ويشعر العبد بعجزة عن إحصاء نعم الله وثنائه على الله؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اللهم لك الحمد كما تقول، وخيرًا مما نقول"، وقال الله -سبحانه وتعالى- في بيان نعمة النبوة والرسالة والدِّين على البشر: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144). وقد يتعجب المرء من ذكر الشكر في مقام موت النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قتله، وإنما يحتاج الناس إلى الصبر؛ فهو ابتلاء عظيم، ومقام نزول أعظم مصيبة بالمسلمين إذا مات النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من عبادة الله هو أعظم نعمة، والمحافظة عليها والاستمرار عليها هو شكر هذه النعمة بالثبات عليها؛ ولذا ذكر الله -عز وجل- في هذا المقام عبادة الشكر؛ لأنها أساس العبادة. ولذا قال أبو بكر -رضي الله تعالى- عنه بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فخطب الله وأثنى عليه ثم قال: "مَن كان يعبد محمدًا؛ فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)". فمن انقلب على عقبيه بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كفر هذه النعمة ولم يشكرها، ولم يكن محقًّا في اتباعه لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا المقام مقامٌ فيه صبر وشكر معًا؛ شكر نعمة الله بالدِّين، وشكر نعمة الله بالرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران: 164)، وأن نوحِّد الله في كل وقت وفي كل حال، ونثبت على عبادة الله؛ سواء أوجدنا من يعيننا أم لم نجد، وسواء أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا أم قد مات ورحل عن هذه الدنيا. وشكر نعمة الله -عز وجل-، يستجلب للعبد رضوان الله -سبحانه وتعالى-، وهذا أعظم نعيم يحصله أهل الجنة؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ! فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) (متفق عليه). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا) (رواه مسلم). فالله -تعالى- جعل الأرزاق سببًا للشكر، والله يرضى باليسير من العمل بأن يقول العبد بعد أن يأكل: "الحمد لله"، وإذا شرب الشربة أن يقول: "الحمد لله". فليتأمل الإنسان كيف وصلت له هذه الشربة؟ وكيف نزلت من السماء في وقت نحن لا نعلمه؛ فلنتفكر في قطرات الماء التي نشربها: من أين أتت؟ وفي أي يوم من الأيام نزلت من السماء؟ ومتى تخلَّقَت؟ الله -عز وجل- وحده يعلم؛ تخلقت في وقت معين ثم نزلت من السماء في وقت معين، ثم سارت مسافات طويلة، ثم احتجزت مدة عند العوائق والغابات والسدود، ثم بعد ذلك سارت مدة واحتجزت إلى أن وصلت إلينا عبر مراحل كثيرة، ثم وصلت إلى هذا الصنبور، ثم فُرِّغت في الكوب ثم شربناه، فماذا فعلنا نحن في هذا كله؟! وكل ما فعلناه نحن في هذه المراحل هو الخطوة الأخيرة؛ وهي: شرب هذا الماء؛ أما ما كان قبل ذلك فليس من تصرفنا، وكذا لو كان هذا الماء نابعًا من عيون الأرض فإنه أيضًا نزل من السماء، ثم بقي في الأرض آلاف السنين إلى أن أخرج من هذه العيون وجاء إلينا في هذه الزجاجات؛ قال الله -عز وجل-: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ . لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) (الواقعة: 68-70). فاللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه غير مكفي ولا مودَّع، ولا مستغنٍ عنه ربنا. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (180) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (9) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الثامنة: قوله -تعالى-: (اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يدل على أن الاجتباء والاصطفاء هو لله -سبحانه وتعالى-، وهذا جزء من الإيمان بالقدر؛ لأن اختيار الله -عز وجل- لأنبيائه وأوليائه هو مَنُّه وفضلُه -سبحانه وتعالى- عليهم بطاعته وبالإيمان به، وأما النبوة فاجتباء خاص. والله -سبحانه وتعالى- اختار أنبياءَه ورسله بعلمه وحكمته، وقد وضع الأشِياء في مواضعها، وهو محض فضله -سبحانه- عليهم؛ قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص: 68). والخيرة في هذا الموضوع ليست بمعنى الإرادة المجردة، بل اختيار التكريم والتفضل، والتخصيص بنعم الدِّين والإيمان والنبوة؛ قال -سبحانه- لموسى -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) (طه: 13)؛ أي: اختاره الرب -سبحانه وتعالى- للرسالة والتكريم والتكليم. وقال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ? وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113). وقال الله لعباده المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج: 77-78)؛ أي: هو -سبحانه- اجتبى عباده المؤمنين لدينه الذي لا حرج فيه عليهم، وهو ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- دون الأديان الأخرى: كاليهودية، والنصرانية، وغيرها، وإن انتسب أصحابها إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-. وإنما أولياء إبراهيم هم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون بعد أتباع إبراهيم في زمنه وعبر الزمان، كما قال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68)، وقوله -سبحانه وتعالى-: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ)؛ أي: الله سماكم المسلمين قبل وجودكم؛ كما ذكر صفتكم في الكتب السابقة، وسماكم كما قال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29). وقوله -سبحانه وتعالى-: (وَفِي هَذَا) أي: وفي هذا القرآن (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، وهذا بلا شك تكريم للإسلام على سائر الرسالات السماوية، وأما الأديان التي حرَّفها أصحابها؛ فليست داخلة في التفضيل أصلًا، بل مَن كذَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من اليهود والنصارى؛ فهو كافر مخلَّد في النار طالما قد بلغته رسالته؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم). وأما التفضيل في شمول رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وارتفاعها على غيرها؛ فأمر لا يشك فيه مسلم بالنسبة إلى رسالات الأنبياء من قبل، ويدل على ذلك: قوله -عز وجل- لموسى -صلى الله عليه وسلم- بعد أن دعى ربه -سبحانه- ألا يهلكهم بما فعل السفهاء منهم إلى آخر دعوته؛ قال: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 156-157)، وقال الله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3). وقد قال غير واحد من الفلاسفة -وغيرهم-: إنه بإجماع الحكماء لم يطرق العالم ناموس أعظم من الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-! فحتى هؤلاء الفلاسفة المنحرفين عن دين النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرون بأن رسالته أعظم الرسالات وتشريعه أعظم التشريعات. فتفضيل النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل الرسل مجمع عليه: كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (متفق عليه). والمفاضلة بين الأنبياء هي باجتباء الله -عز وجل- لمن شاء؛ ليست بأهواء الناس، وليس بتنقيص نبي على نبي، مع معرفة قدر جميع الأنبياء، وأنهم أفضل من جميع الأولياء، بل هم أفضل الخليقة؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة: 7). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام-) (رواه مسلم)، وكان هذا قبل أن يوحى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه سيد الناس، فقضية التفضيل بين الأنبياء إذا كانت بالأدلة الشرعية كتفضيل محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتفضيل إبراهيم بعده، أمرٌ لا نزاع فيه بين أهل العلم؛ دَلَّ القرآن عليه، قال الله -عز وجل-: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (البقرة: 253)، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-. فأفضل الخليقة على الإطلاق هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وكما يقول إبراهيم -عليه السلام- يوم القيامة في حديث الشفاعة: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)، وهذه إشارة إلى منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه أقرب في الخلة وبعده إبراهيم وبعده موسى -صلى الله عليهما وسلم-، كما دلت عليه أحاديث المعراج في لقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لموسى في السماء السادسة، وفي رواية في صحيح البخاري في السماء السابعة، والجمع بينهما ممكن؛ لأنه لقيه في السادسة وصعد معه -صلى الله عليه وسلم- إلى السابعة التي فيها إبراهيم. فالاجتباء للأنبياء خاصة محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وإبراهيم وموسى -صلى الله عليهما وسلم-، ثابت في الكتاب والسنة، ولا مجال لإنكاره ولا مجال لنفي ذلك بمثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ) (متفق عليه)؛ فإن المقصود لا تفضلوا تفضيلًا يتضمن تنقيص بعضهم؛ كما قال: (لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) (متفق عليه)، وإنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم- لما وجد بعض أصحابه يضربون مَن قال: "والذي اصطفى موسى على البشر"، وأما أن التفضيل حاصل؛ فلا نزاع في ذلك. وهذا من اجتباء الله -عز وجل-، وليس من عند أحدٍ دون الله، ولكل منهم فضائله الخاصة، ويشترك مع غيره في الفضائل العامة للأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وجمعنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (181) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (10) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة التاسعة: قوله -تعالى-: (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ): تضمَّن إثبات الهداية، ونسبتها إلى الله -سبحانه-؛ فالله وحده مالك القلوب، وهي كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وكان يقول -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). وهو -سبحانه- وحده الذي يخلق الهدى في قلب العبد، ويثبِّته عليه، والهداية أنواع؛ فمنها: الهداية العامة لجميع الكائنات بما يصلحها ويناسبها؛ قال -تعالى-: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى . قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى . قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) (طه: 49-51). وقال سبحانه و-تعالى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى: 1-3)، فهدى كلُّ مخلوق إلى ما يناسبه في طعامه وشرابه وقوته، وكيف يأتي الذَّكر أنثاه؛ لتحصيل التناسل والتكاثر، وحفظ النوع، وهدى كل خلية داخل الحيوان، بل والنبات لما فيه استمرار حياتها وحياة صاحبها، وهذه الهداية من أعظم أدلة وجود الرب -سبحانه وتعالى- لمن تأملها. وتأمل قطة عجماء، تشم سمكة سامة لو أكلها الإنسان لمات وليس في رائحتها إلا ما في رائحة السمك، وتجد القطة تتركها مع كونها تأكل غيرها! وغير ذلك أضعاف مضاعفه؛ ذكر ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "شفاء العليل" أنواعًا منها، وهي تنتشر في عالم البر والبحر، بل وعالم النبات كذلك، وعالم النجوم والفلك، فكلها تجري بتقديره وهدايته -سبحانه وبحمده- فتبًّا للجاحدين الملاحدة! والنوع الثاني من الهداية: هداية البيان والإرشاد؛ قال -تعالى-: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، وقال -تعالى-: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (فصلت: 17)، فهو -سبحانه وتعالى- هدى كل إنسان مكلَّف طريق الهدى، وطريق الضلالة، وهذا من خلال دعوة الرسل، وجعل في الفطرة والعهد السابق الذي أخذه والناس في ظهر أبيهم آدم ما يؤيد دعوة الرسل؛ قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) (الأعراف: 172)، أي: ذكرناكم بذلك على ألسنة الرسول؛ لكي لا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، وقال -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) (متفق عليه). وفي رواية في الصحيح: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْمِلَّةِ) (رواه مسلم)، فجعل الله -سبحانه- في العهد الأول، وفي الفطرة ما يؤيد دعوة الرسل، ويؤكد صحتها، فكأنها نسخة مركوزة في القلب، موافقة لدعوة الرسل إلى التوحيد والإقرار بالربوبية والألوهية، ثم بصحة دعوة الرسل الكرام، فإذا جاءت دعوة الرسل صادفت محلها، فمن قَبِلَها أيقن بصحتها، ومطابقتها لما في القلب، ومَن ردَّها تقطَّع قلبه، وشقي في الدنيا، وفسدت فطرته، وظن الحق باطلًا والباطل حقًّا بعد أن عَلِم الحق أول مرة: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام: 110)، فعند ذلك ظَنَّ الحقَّ باطلًا، والباطل حقًّا؛ فأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، وقامت عليه حجج الله كلها. ومن محبته -سبحانه وتعالى- للعذر: لم يجعل ميثاق الفطرة، والميثاق يوم أَخَذَه على البشرية -وهم في ظهر آدم بعد أن استخرجهم من ظهره-، لم يجعلهما حجة مستقلة، بل جعلهما حجة بعد أن تبلغهم دعوة الرسل؛ قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم: 4). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ) (متفق عليه). فيا خسارة مَن يكرهون العُذْر الذي يحبه الله، ويكفِّرون المسلمين دون قيام الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها، ثم يتجرؤون على سفك الدماء المعصومة بغير حقٍّ؛ خصوصًا الذين يكفِّرون المسلمين بالعموم، بشبهات هي أوهي من بيت العنكبوت! فأحبوا -يا عباد الله- العذر الذي يحبه الله، وجعله مرتبطًا ببلوغ دعوة الرسل، ومعرفة الكتب التي أنزلها؛ قال الله -تعالى-: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام: 19). فمَن بلغه القرآن فهو المنذر؛ وإلا فهو معذور؛ إجمالًا في الإجمال -أي: إذا لم يبلغه القرآن أصلًا، ولا دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهو معذور أَنْ لم يؤمن بها-، وتفصيلًا في التفصيل -أي: إذا لم يبلغه تفصيل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد آمن به مجملًا، لم يكفَّر حتى يبلغه التفصيل آية آية، وحديثًا حديثًا-. ولما كان هذا النوع من الهداية يتم من خلال الرسل، أثبته الله لهم؛ فقال -تعالى- لنبيه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52)، مع أنه -سبحانه- نَفَى عنه هداية التوفيق والإسعاد، وخَلْق الهدى في قلبِ مَن يحبُّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال له في شأن عمه أبي طالب -وقد مات على الكفر-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) (القصص: 56). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (182) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (11) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة العاشرة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فيه: بيان نوع آخر عظيم من أنواع الهداية؛ وهي: هداية التوفيق والإسعاد، وهي خلق الله الهدى في قلب مَن شاء مِن عبادة بدرجات الهدى المختلفة، وهي تشمل هداية معرفة الحق وقبوله ومحبته، وإرادته والعزم عليه وفعله والثبات والاستمرار على ذلك، والدعوة إليه والصبر على مشاق الطريق. فكم من أناس قامت عليهم الحجة الرسالية ثم يعرفوا الحق من الباطل، وكانوا صمًّا بكمًا عميًا؛ لا يعقلون ولا يفهمون؛ قال الله -عز وجل: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ) (الأنفال: 22، 23)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد: 16). ثم كم مِن الناس ممن عرف الحق وفهمه، لكنه أعرض عنه ولم يجبه ولم يقبله، بل أبغضه وعاداه؛ كما قال -سبحانه وتعالى-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146)، وقال -تعالى- عن المشركين: (إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: 33)، وقال -تعالى- عن آل فرعون: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل: 14). ثم كم ممَّن عرف الحق وأحبه وقبله، لكنه ضعيف الحب؛ فغلبته إرادة الشهوات والإخلاد إلى الأرض، واتباع الهوى! وكم من مبغض للباطل والمعصية والحرام، لكنه لا يستطيع أن يقاوم إرادته والرغبة فيه ولو كان محرمًا؛ فيكون كالطائر الذي نتف ريشه يحلم بالطيران، ولا يستطيع أن يطير! ثم كم من مريد للحق محبٍّ له، لكن عزمه ضعيف، فإرادته غير مستقرة لم تبلغ درجة العزم الذي يُثَاب صاحبه ثواب الفاعل؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن أتاه الله مالًا وعلمًا: (فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا، عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ؛ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). وقال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) (متفق عليه). فمِن الناس مَن عنده إرادة ومحبة لا يستمر عليها، حتى تصل إلى درجة العزم، ثم كم ممن عنده العزم ثم يحرم من الفعل لنقض العزائم، والعجز والكسل، وتأمل في قصة كعب بن مالك -رضي الله تعالى عنه- في قوله: "فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي" (رواه مسلم). ثم كم من عازم قد فعل الخير وترك الشر والحرام، ثم يثبته الله عليه؛ فبعد فعله لم يستمر على الخير فتركه، وعاد ففعل الحرام والمنكر، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الفساد بعد الصلاح؛ قال الله -تعالى-: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: 266). ثم كم من فاعل للخير مجتنب للشر ثابت على ذلك، لكنه لا يستشعر مسؤولية الدعوة إلى ذلك الخير وإبلاغ الحق للخلق، ثم تحمل الأذى والصبر عليه؛ فكم ممَّن يقول: آمنا بالله، فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله؛ ولذلك قال لقمان لابنه وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17)، فإن مشاق الطريق وصعوباته وتضحياته قد تدفع كثيرًا من الناس إلى الابتعاد بعد القيام بالعمل بعد العلم، وبالدعوة بعد العمل، ولكن الفتنة؛ نعوذ بالله منها. وقد جمع الله -عز وجل- لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كلَّ أنواع الهداية هذه، ومن بعده الأنبياء جميعًا؛ قال الله -عز وجل-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90). وقد جمع الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- من بعد إبراهيم في الزمان ما هو أكمل أنواع الهدايات التي لم يسبقه إليه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، والأنبياء جميعًا؛ فكان سيد الناس يوم القيامة ولا فخر؛ قال الله -عز وجل-: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113)، وقال: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا . لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) (الفتح: 1، 2). وكل هذه الهدايات يخلقها الله بمشئيته وقدرته في قلب مَن أراد مِن عباده ويوفِّق العبد لفعلها بقلبه ولسانه وبدنه، ثم خاتمة الهدايات: الهداية إلى منازل الجنة إذا دخلوها؛ قال الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد: 6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا) (متفق عليه). نسأل الله أن يجعلنا من أهل هدايته وتوفيقة وإسعاده. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (183) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (12) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الحادية عشرة: قوله -تعالى-: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ): دَلَّ على أن الله يجمع لعبده المؤمن سعادة الدنيا والآخرة، والإيمان سبب الحياة الطيبة، ومن ذلك الذكر الحسن الباقي بعد موته وحب الناس له عبر الزمان، بل إنه راحة في الدنيا والآخرة، والكفر شقاء وتعاسة في الدنيا والآخرة؛ قال -تعالى-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه: 123-127). وقال -تعالى-: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ . إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (فاطر: 19-23). فقوله -تعالى-: (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) فالظل حال المؤمن في الدنيا وفي القبر ويوم القيامة، والحرور حال الكافر في الدنيا والقبر ويوم القيامة، فالناس يقبلون على الشهوات المحرمة ويتبعون الشبهات المضلة طلبًا لسعادة وهمية؛ لذة عابرة كسحابة صيف، أو كطيف زار في المنام ثم تبيَّن أنه مجرد خيال لا حقيقة له؛ فأين هذا من الفرح الذي تحدثه العبادة للمؤمن؟! قال الله -تعالى-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58). فالله -عز وجل- فطر القلوب على الفرح والراحة والسعادة عند عبادته وذكره والتحنث له والميل إليه سبحانه ومحبته، بل لا تستغني عن محبته وقربه وعبادته طرفة عين؛ إلا عندما يغيب العقل في النوم لضرورة البشرية في هذه الدنيا، وإنما تكون المعاصي كالسكرة: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر: 72)، وهي كالمواد المخدرة كلها تشعل مخ الإنسان باكتفاء غير حقيقي باللذة الوهمية، وربما أدَّت إلى الموت البدني بالفعل بوهمٍ كاذبٍ لمركز التنفس بالمخ بوفرة الأكسجين في الدم، فلا يطلب تحريك عضلات التنفس، ويحدث الفشل التنفسي فيموت البدن، وقد مات القلب قبله بشهوة وهمية، ولذة وقتية غلبت على القلب؛ فألقت عنه إدراكه للهدى والنور، وألغت عنه رغبته الدفينة في غذائه وشفائه الذي يطلبه دائمًا أحياء القلوب من الوحي المنزَّل. فالشفاء للأمراض، والغذاء لحياة القلب بالحب والقرب، والرضا، والخوف والرجاء، والتوكل والإنابة، والتوبة، والافتقار، وغيرها من أعمال القلوب: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ? وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82). فإذا كان هذا يجده المؤمن: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ? وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)؛ فكيف بالخليل الذي امتلأ قلبه بالحب لله حتى تخلل شغاف قلبه؟! فاتخذه الله خليلًا؛ لعظيم محبته -سبحانه- له، وخصه بنوع خاص من محبته -عز وجل- هي الخلة؛ التي لم يسمِّ بها بعده إلا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، حتى قال إبراهيم -عليه السلام-: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم). وهناك قَدْر مشترك من حبِّ الله في قلب العبد المؤمن يعقبه حب الله للعبد، وذلك بكونه من الصالحين؛ قال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) (رواه البخاري). وليس هذا من الوحدة في شيء -كما يقوله الزنادقة المنافقون!-، بل هذا معناه: أن يكون سمع العبد وبصره ويده ورجله كلها لله إخلاصًا، وبه استعانة، كما روي: "فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي"؛ أي: بحول الله وقوته، وليس أنه يصير عين الله! والدليل على ذلك: قوله: (وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ) فهناك سائل ومسألة ومسؤول، (وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ): فهناك مستعيذ واستعاذة ومستعَاذ به؛ فأنى يسمَّى ذلك وحدة؟! نعوذ بالله. وإنه لمن أعظم الشرف للصالحين أن يخبر الله -عز وجل- عن إبراهيم أنه منهم، كما قال -تعالى-: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، وكذا شرف للمؤمنين والمحسنين قوله -تعالى- عن إبراهيم: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (الصافات: 109-111). فليحرص العبد على هذا القدر المشترك، وليزدد منه ما استطاع ليقترب بروحه من هؤلاء الأنبياء والمرسلين والصالحين؛ لينال حسنة الدنيا، ويكون في الآخرة من الصالحين. اللهم ألحقنا بالصالحين واجعلنا في الندي الأعلى. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (184) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (13) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الثانية عشرة: قوله -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) دَلَّ على أن مَن أحيا ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في الناس هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن قَلَّ تابعوها حتى كادت أن تندثر، وإنما كان عليها آحاد من الناس: كزيد بن عمرو بن نوفيل الذي كان يقول لقومه: لا أعلم أحدًا على ملة إبراهيم غيري. ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه زيد بن عمرو بن نوفيل -وساق سنده عن عبد الله بن عمر-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ، فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- سُفْرَةٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ. وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ. إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ. قَالَ مُوسَى: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا تُحُدِّثَ بِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي، فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا، حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللهِ، قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ! فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ. فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ. فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنهما- قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا، مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، وَاللهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي المَوْؤُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ، قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا" (انتهى ما ذكره البخاري). وذكر ابن كثير -رحمه الله- عن أسماء -رضي الله عنها- قالت: "سمعت زيد بن عمرو بن نوفيل وهو مسند ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، إياكم والزنا؛ فإنه يورث الفقر... وعن جابر قال: سُئِل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن زيد بن عمرو بن نوفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية، ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، ويسجد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يحشر ذاك أمة وحده، بيني وبين عيسى ابن مريم. إسناده جيد حسن، وروي من طرق متعددة أنه قال يبعث يوم القيامة أمة وحده" (البداية والنهاية). فهذه الآثار تدلك على حال التوحيد والحنيفية، وملة إبراهيم، وغربة الدِّين قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم ظهر الحق كالشمس وأجلى ببعثته -عليه الصلاة والسلام-، وظهر نور الله، وعادت الحنيفية إلى الانتشار في الناس وترك الشرك بحمد الله -تعالى-؛ حتى وصل إلينا كما أنزله الله. وتأمل أن اليهودية والنصرانية ليست ملة إبراهيم الحنيفية: قال الله -عز وجل-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67)، بعد أن بدَّلوا وغيَّروا ولم يبقَ منهم على التوحيد قبل البعثة النبوية إلا قِلَّة قليلة؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) (رواه مسلم). أما الآن فلم يعد أحد منهم موحِّدًا ولا حنيفًا؛ إذ بلغهم خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكذَّبوه وكذبوا القرآن؛ فلا تصح لهم نسبة إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، إضافة إلى ما أشركوا وعبدوا غير الله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: 30، 31). فأما تسميتهم ضلالهم الحالي بـ"الدين الإبراهيمي الجديد"؛ فهو زيادة في الكفر يُضَل به الذين كفروا، وكيف يكون دين إبراهيم فيه الإقرار بالشرك وملل الوثنية، وتكذيب الأنبياء، وتكذيب كلام الله القرآن العظيم؟! وقد أكَّد الله -عز وجل- براءة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من الشرك مرة ثانية، فقال: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ لنعرف أهمية البراءة من الشرك وأهله حتى يصح لنا ديننا؛ دين إبراهيم دين الإسلام، ولا يصح أبدًا مع الإقرار بالشرك وتصويب الملة؛ فالدعوة إلى دين واحد وملة واحدة تجتمع فيها اليهودية والنصرانية والإسلام، وأيضًا البوذية والهندوسية، وأنواع الشرك والضلالات؛ كما يقولونه في الطرق الصوفية العالمية، وغيرها، ممَّن يقول بمساواة الديان ووحدة الوجود؛ فهذا كله من الكفر الأكبر المستبين. فلا يصح لأحدٍ دين الإسلام إلا بالبراءة من هذه الملة الجديدة القديمة، برأنا الله -عز وجل- منها، ونجَّانا من شرِّها. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (185) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). إن الدعوة إلى الله -سبحانه- أشرف المهمات، وأعظم الوظائف، وهي وظيفة الرسل وأتباع الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وهي مبنية على حبِّ الخير للناس وكمال الشفقة عليهم، وتمام الحرص على هدايتهم، والخوف عليهم أن يصيبهم عذاب الله في الدنيا والآخرة. ولا شك أن قلب الداعي إلى الله الذي اتسع لحب الخير لجميع الناس وحب هدايتهم أولى بأن يكون أكثر اتساعًا لحب الخير لأهله وذويه الأقربين، وهي مسألة عظيمة الأهمية أن تكون دائرة تأثير الداعي تبدأ في عشيرته الأقربين، فإن إيمانهم من أعظم العون له على الحق؛ كما كانت خديجة -رضي الله عنها- أعظم معين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تحمل أعباء النبوة في بدايتها. وكذلك كان إسلام حمزة عم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من أعظم أسباب نصرة الإسلام، وقوة للرسول -عليه الصلاة والسلام-. وكذلك عدم إيمان الأهل طعنة في ظهر الداعي، وحاجز بين الناس وبين قبول دعوته، كما كان أشد شيء على الرسول -صلى الله عليه وسلم- عدم إيمان بعض قرابته كعمه أبي لهب، وابن عمه أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب؛ الذي كانت قصائد هجائه من أشد ما يؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وظل مُعْرِضًا عنه مدة بعد إسلامه من أجل هجائه له طيلة عشرين سنة، حين أسلم قبيل الفتح حتى أرشده علي -رضي الله عنه- أن يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- من قِبَل وجهه، ويقول له: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) (يوسف: 91)؛ فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن مردودًا منه، ففعل؛ فالتفت له النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 92)، وكان يقول: أرجو الله أن يجعل منه خَلَفًا لحمزة، وكان لا يحجبه بعد ذلك متى استأذن. ولذا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في كتابه بدعوة أهله فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214). وفي القرآن المنسوخ التلاوة: "ورهطك منهم المخلصين"، ووقف النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصفا تنفيذًا لهذا الأمر، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) دَعَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: (يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا). وقد قصَّ الله -عز وجل- علينا في قصة إبراهيم في سورة مريم، دعوته لأبيه إلى التوحيد، وترك الشرك وعبادة الأوثان، وبيَّن -سبحانه وتعالى- شدة تلطفه، وحرصه على هداية أبيه، وتنويع الخطاب له بأنواع الحجج الظاهرة البينة، وشدة خوفه عليه، وشفقته من أن يمسه شيء من العذاب، وأن يكون للشيطان وليًّا ثم دعا له رغم الأذى، واستغفر له؛ ليرجو له الرحمة، وهي لا تحصل إلا بالهداية إلى التوحيد وترك الشرك. فلما مات أبوه على الكفر عَلِم إبراهيم أنه عدو لله؛ فتبرأ منه، وترك الاستغفار له؛ قال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا). ولنبدأ أولًا بتفسير هذه الآيات الكريمات، ثم نذكر ما تيسر من فوائدها. والله المستعان. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
الساعة الآن : 02:32 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour