رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
دور الخطباء في المجتمع ظهرت في الآونة الأخيرة وجهات نظر في بعض عالمنا الإسلامي تؤيد فكرة إقامة دور للمسنين تقوم برعايتهم والعناية بهم، وجزء من هؤلاء المسنين ربما كان من الأمهات اللائي أنفقن ما أنفقن في سبيل رعاية وتربية الأولاد ذكورًا وإناثًا بقدر ما أوتين من القدرة على التربية والرعاية. ويقول البعض: إنه ليس من الضرورة أن تكون دور المسنين لأولئكم الذين رزقوا بالأولاد، وإنما هي دور ترعى هؤلاء الذين لم يبقَ لهم في المجتمع إلا اللجوء إلى مؤسسات اجتماعية يبحثون فيها عن الستر والصون، وأعلم أن هناك شيخًا ضريرًا مسنًّا تقطعت به الأسباب المادية، ولكنه كان قوي العلاقة مع الله سبحانه وتعالى فيرزقه تعالى من يقدم إليه من مكان بعيد ويحمله معه في منزله وبين أولاده ويتردد به على الأطباء والمستشفيات، ولسان حال هذا الشيخ يلهج بالدعاء لابن الحلال حتى توفاه الله، فما خسر صاحبنا شيئًا، بل لعله فاز فوزًا لا يقدر بالجهد الذي بذله في سبيل العناية بهذا الشيخ الكبير. وهذا هو منطلقنا في هذا المجتمع بخاصة وفي المجتمع المسلم عمومًا تجاه المسنين، ومنهم الأمهات، ومرة أخرى لن أعمد في هذا الحديث لأبين فضل الأم وما ورد في مقامها من آيات وأحاديث وأقوال للعلماء، فتلكم مهمة مؤكدة، فلقد درسنا في السنوات الأولى من الابتدائية: "كل ما في البيت عندي.. لا يفي أمي الجزاء".. ولا أدري هل لا تزال هذه القطعة في كتاب "المحفوظات" أم لا؟ ومرة أخرى كذلك أضع الأئمة والخطباء ورجال العلم مجالًا للحديث فيما يتعلق بموقف المجتمع عمومًا من الأم وموقف الأبناء - ذكورًا وإناثًا - منها، ولا بد من التأكيد هنا على هذا القانون العجيب في حياة الأمم الذي اختصر في عبارة جميلة: "اعمل ما شئت، كما تدين تدان"، وقد ذكره العامة بعبارة أخرى، مؤداها أن المرء إذا عمل للآخرين عملًا سيعمل له الآخرون كما هذا العمل، (ما سويت سوي بك)، وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الآخرون هم بأنفسهم مَن تلقوا المعاملة من الشخص، فالذي يعق والديه مثلًا يعقه أبناؤه، وتتردد قصص عربية وشعبية تؤيد هذا التعادل. والرجال عمومًا أكثر خوفًا من العقوق لأمهاتهم؛ نظرًا لارتباطهم بزوجاتهم، ونظرًا لما يحصل من عدم انسجام بين الأم التي تتوقع شيئًا من الانتباه الأكثر من ابنها فِلذة كبدها، وبين الزوجة التي تشعر أن أم زوجها تنافسها في حبه في كثير من الأحيان وفي كثير من المواقف، كل ذلكم يمكن أن يتطور ويصل إلى حدود غير مرغوب فيها، إن لم يكن للوازع الديني أثر في هذه العلاقة، ولم يكن للابن "الزوج" أثر في توضيح العلاقة بينه وبين والدته وبينه وبين زوجه. والأم حتمًا هي العامل المؤثر الأول في العلاقة، وتبقى مؤثرات أخرى تحدد العلاقة بين الأم وأبنائها، قد تكون علاقة الزوج بزوجته أو بأبنائه، أو بهما معًا، كما أن عامل الشباب لدى الأبناء له أثره على هذه العلاقة التي أوجبها الدين الحنيف حيال الأم حتى يتزوج الابن ويرزق بالأبناء، حينذاك يمكن أن يكون إدراكه أكثر واقعية، وقد يتجاهل البعض الآخر أن يكون هناك علاقة، ولعلنا سمعنا بما قيل من أن واجب الأم يتوقف عندما يصل الابن إلى درجة يستطيع فيها أن يعتمد على نفسه، ولنلاحظ أن هناك إيحاءً من قبل كثير من منظري علوم الاجتماع في الغرب وفي الشرق بأن ما تقوم به الأم إنما هو واجب عليها تجاه أبنائها، ولكننا قد لا نلحظ بالمقابل أي إيحاء بأن ما يجب أن يقوم به الأبناء تجاه أمهاتهم إنما هو من واجباتهم تجاه هذه الأمهات. كيف يستطيع الخطباء ورجال العلم أن يركزوا فكرة "البر" بالوالدين في المجتمع؟ هل العصر يفرض أسلوبًا آخر أو شكلًا آخر من أشكال ترسيخ فكرة البر؟ هل يكفي أن يقف الخطباء ورجال العلم من موقف الأبناء من أمهاتهم موقف المدافع؟ فيبينون فضل الأم وما يجب لها من حقوق على أبنائها مع التعرض من قريب أو بعيد للمجتمعات الأخرى التي كثرت فيها مؤسسات رعاية المسنين، فأصبح المسنون آلة أو أداة ووسيلة للرزق، بل وللتجربة، وأصبح المسنون مجالًا للإيحاء بالمنَّة عندما تربت على أكتافهم الممرضة أو الاختصاصية الاجتماعية أو تتبسط معهم مديرة الدار، إن أمثلة العقوق كثيرة جدًّا، صبغت بأصباغ مختلفة، ولكن الجوهر واحد ينصب في مفهوم العقوق، وللعقوق جزاؤه عاجلًا وآجلًا، ولعل من المطلوب تبيانه أن الحياة - المؤقتة - لا يمكن أن تصفو لشخص ما دام يمارس في حياته طرقًا تتنافى أو تتعارض مع سنة هذه الحياة ومع سنة الله في تسيير هذا الكون. ولا يريد أن يصل المرء إلى مقياس أن كثرة مؤسسات العناية بالمسنين إنما هي دليل صريح على كثرة العقوق في المجتمع، والذي يبدو أن المرء يكن أن يصل إلى هذا الافتراض وهو مطمئن، بل وربما ذهب إلى أكثر من هذا، بحيث يصل إلى مقياس أن كثرة مؤسسات العناية بالمسنين في بلاد الغرب والشرق إنما هي سبب في كثرة النوائب والنوازل التي تحل بتلك المجتمعات على مستوى الأفراد والجماعات، ولعل الخطباء ورجال العلم يستطيعون الربط بين هذا وذاك، كما استطاعوا الربط بين قلة المطر والإحجام عن دفع الزكاة، وكما استطاعوا الربط بين قدرة الخالق سبحانه وتعالى وبين النوازل الأخرى التي تحل بالعالم بالأمس واليوم وربما غدًا، بدلًا من التفسير المادي "العلمي" لهذه النوازل، وذلكم أيضًا مفهوم عام يحتاج إلى وقفة أخرى تناقش فيها فكرة "التفسير العلمي" عندما يراد به تفسيرًا ماديًّا للظواهر في مقابل التفسير الديني لها، وكأن هناك فصلًا قويًّا بين التفسير العلمي والتفسير الديني، بينما القدرة الإلهية هي الأساس المكين لكل مكتسبات الإنسان في هذا الكون، ولعقوق الوالدين أثر كبير في الوصول إلى تفسير النوازل. إن مسؤولية العلماء والخطباء لا تتوقف عند ذكر الدليل، ولكنها تتطلب من هؤلاء الذين رضُوا بحمل هذه الأمانة أن يدخلوا إلى العقول والقلوب، فيرسخوا المفاهيم الإسلامية التي شملت وتشمل كل شيء، ولهذا الهدف مقوماته التي تعين على الوصول إليه، منها: قدرة الخطيب على الإحاطة الكاملة بعلوم الدين ومستجدات الحياة، وكان الله في عون الجميع! ___________________________________________ الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
الوعظ والإرشاد هبة حلمي الجابري الوعظ لغة: النصح بالترغيب، أو الترهيب، أو بهما معًا؛ ليلين قلب الإنسان. وفي الاصطلاح: القول الحق الذي يلين القلوب، ويؤثر في النفوس، ويكبح جماح النفوس المتمردة، ويزيد النفوس المهذبة إيمانًا وهداية. والموعظة الحسنة مظهر من مظاهر الحكمة، وجزء منها، ولها شروط لا بد منها، وهي: 1- أن تكون صادرة عن إخلاص. 2- أن يكون لها مقتضى يقتضيها من حال المدعو؛ لا أن تكون مجرد حب للقول، وتظاهر بالفصاحة والحكمة دون داع . 3- أن يصاحبها إقناع المدعو بأنها صادرة عن روح الإخاء، وحب الخير له قبل كل شيء. 4- إذا كانت الدعوة خاصة بفرد أو أفراد معينين، فيحسُن أن تكون بعيدة عن التشهير والتجريح الذي يُثير الشر أكثر مما ينشر من الخير . 5- أن تكون القدوة بالداعي أحد عناصرها، فإن العظة بالقدوة من أنجح أساليب الوعظ. ومن هنا فالموعظة الحسنة هي الكلمة الطيبة، التي تخرج من فم الداعية بإخلاص لتصل إلى عقول الناس، فيجدون فيها الخير والسعادة، ويحسون من خلال كلمته أنه صادق وحريص على جلب الخير لهم، ودفع الشر عنهم . متى تكون الموعظة مؤثرة: حتى تكون الموعظة الحسنة مؤثرة في نفس المدعوين لا بد أن يكون فيها ما يلي: 1- أن تكون ذا موضوع؛ فتتحدث عن أمر معين، ويكون لها هدف يريد أن يصل الداعية إليه من خلالها. 2- أن يدعمها الواعظ بالحجة النقلية من القرآن والسنة، والحجة العقلية التي يقتنع بها السامع مع التلطُّف في القول، والرفق في المعاملة. 3- العلم بالكتاب والسنة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم والسلف الصالح، وبالقدر الكافي من الأحكام الشرعية، ثم العمل بذلك كله، فرُبَّ حالٍ أبلغ في التأثير من ألف مقال. 4- أن يتجمَّل الواعظ بالعِفَّة واليأس مما في أيدي الناس. 5- أن يعالج الواعظ بالموعظة واقعًا يعيش فيه الناس، وأن يجعل منها توجيهًا يُصلِح شأنهم جميعًا. 6- أن يحسن الواعظ عرض موعظته، بأن يُقسِّمها إلى أجزاء متصلة، ثم يصوغها بأسلوب جميل سهل. 7- أن يتخلَّق الواعظ بما يقول مظهرًا ومخبرًا، فبمقدار إخلاصه في القول والعمل ينتفع سامعوه . 8- أن يهتم بحسن مظهره. 9- أن يكون الواعظ مُلِمًّا بثروة كلامية يختار منها أفضل الأساليب التي يمتلك بها قلوب السامعين من جمال التصوير، وطرافة المعنى، وحداثة الموضوعات، مع ضرورة الإجادة في الإلقاء. 10- أن يعلم الواعظ أحوال الناس من حيث الطباع والتاريخ والأخلاق، مع الإلمام بقدر المستطاع ببعض الدراسات في علم النفس وعلم الاجتماع والتعرُّف على لغة القوم؛ قال عز وجل: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [إبراهيم: 4]. 11- أن يكون ذا فراسة، يتعرف حال سامعيه، ويعاملهم بما يناسبهم ويؤثر فيهم. ومع ما للوعظ والإرشاد من فائدة عظيمة، وأثر طيب ظاهر في تهذيب النفوس وسعادة البشرية؛ لكن أنكره جماعة من المتشائمين، وقالوا عن الوعظ: إنه عبث؛ لأن الأخلاق مبنية على غرائز لا تتحوَّل، وطِباع لا تتبدَّل! وقال بعض الفلاسفة عن الوعظ والإرشاد: إنه لا قيمة له؛ حيث إن الناس يولدون أخيارًا أو أشرارًا، وأن الحسن والقبيح شيء طبيعي في الإنسان، وأن الشعور بالمسؤولية ليس إلا نوعًا من الخداع . فهل كلامهم صحيح؟ بالطبع غير صحيح؛ وللرد على هذه الآراء: لو نظرنا نظرة فاحصة لهذه الآراء السابقة، لوجدنا أنها لا تقوم على أساس، وباطلة في دعواها ومنقوضة بالشرع والعقل والتجربة والملاحظة: أما الشرع: فإن الله عز وجل يقول: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]؛ أي: عرفناه طريق الخير والشر، ويقول تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]؛ أي: بينَّاه له، ووضَّحناه، وبصَّرناه به، ويقول عز من قائل: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾ [الشمس: 7]، قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 8]؛ أي: بيَّن لها طريق الخير والشر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولودٍ إلَّا يولَدُ على الفطرةِ، فأبواهُ يُهَوِّدانِهِ وينصِّرانِهِ ويمجِّسانِهِ، كما تُنتَجُ البَهيمةُ بَهيمةً جَمْعاءَ، هل تُحسُّونَ فيها من جدعاءَ؟))؛ رواه مسلم. [وجمعاء؛ يعني: سالمة من العيوب، وجدعاء: مقطوعة الأذن] . أما من ناحية العقل: فإن الله تبارك وتعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل من أجل إصلاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، ورسالة الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم كانت وعظًا وإرشادًا وتوجيهًا إلى طريق الهداية، كانوا بالوعظ ينبهون القلوب من غفلتها، ويضيئون النفوس بضياء الحق، ويبعدونها عن الرذائل، ويبصرون أتباعهم بما ينفعهم من أمور دينهم ودنياهم. فالإنسان خُلِق مستعدًّا للخير والشر، فإن تيسَّرت له التربية الصالحة والبيئة الصالحة نشأ على الإيمان الخالص والأخلاق الفاضلة، وحب الخير والفضيلة، وأما إذا كان العكس، فلم تتيسَّر له التربية الصالحة والبيئة الصالحة، فإنه ينشأ على الكفر والأخلاق المنحلَّة وحب الشرِّ والرذيلة. ومن هنا فالوعظ والإرشاد له أثر كبير في هداية النفس الإنسانية، والأخذ بها إلى الصراط المستقيم، وصيانة القلوب من المخاطر، وتهذيب النفوس، واستنارة البصائر بنور الطاعة. أما من ناحية التجربة والملاحظة: من الملاحظ في عالم الإنسان أن إنسانًا ما عاش طويلًا في بيئة الضلال والفساد، وبلغ فيه الإجرام والشقاء كل مبلغ، وقد أذاق المجتمع من وبال شروره وآثامه، وإذا برفيق صالح، أو مُربٍّ مؤثِّر، وداعية مخلص، نقله من الشقاء إلى السعادة، ومن بيئة الإجرام إلى عالم الكرام البررة، فيصبح بعد هذا الشقاء الطويل من كبار الأتقياء. والدليل على ذلك ما رواه أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: لا أُحَدِّثُكُمْ إِلا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ((إِنَّ عَبْدًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: بَعْدَ قَتْلِ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ! قَالَ: فَانْتَضَى سَيْفَهُ، فَقَتَلَهُ بِهِ، فَأَكْمَلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، اخْرُجْ مِنَ الْقَرْيَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، قَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا فَاعْبُدْ رَبَّكَ فِيهَا، قَالَ: فَخَرَجَ يُرِيدُ الْقَرْيَةَ الصَّالِحَةَ، فَعَرَضَ لَهُ أَجَلُهُ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ، قَالَ: فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا أَوْلَى بِهِ، إِنَّهُ لَمْ يَعْصِنِي سَاعَةً قَطُّ، قَالَ: فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: إِنَّهُ خَرَجَ تَائِبًا))؛ رواه مسلم. فالرجل عاش في بيئة كلها فساد، وإذا بهذا الواعظ يأخذ بيده من هذا الوباء الذي يعيش فيه، وينقله إلى بيئة العبادة والتقوى، وما ذلك إلا بالموعظة الحسنة التي قدمها له، وعرَّفَه بأن أرضه أرض سوء وفساد، فلا يرجع إليها مرة أخرى. ولننظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف كان قبل الإسلام؟! وكيف أصبح بعده؟! وما كان هذا إلا بعظة عابرة غير مقصودة وقعت في قلبه، فحوَّلته من الشدة إلى الرقة والرأفة والعطف. وإذا نظرنا إلى عالم الحيوان نجد أن الإنسان بخبرته غيَّرَ كثيرًا من طباع الحيوانات من النفور إلى الأُلفة، ومن الصعوبة إلى الانقياد، ومن الاعوجاج إلى الاعتدال، فما بالك بالإنسان وهو أسلس قيادة وأعظم مرونة؟ روى مسلمٌ عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت: يرحمك الله - وهو في الصلاة - قال: فرماني القوم بأبصارهم - جعل المصلون ينظرون إليه بطرف عيونهم - فقلت: وا ثكلَ أمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ - وهو في الصلاة - قال: فجعلوا يضربون أيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكنت - يعني: عجبتُ لماذا يصمتونني؟! هل هناك مشكلة في الصلاة؟ - فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنهى صلاته - فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا قبله، ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني؛ لكنه قال: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّا؛سِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)). وجاء في كتاب (العقد الفريد) قال رجل للرشيد: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أنصحك بعظةٍ فيها الغلظة فاحتملها - احتمل النصيحة؛ لأنني سأشدد عليك - فقال له الرشيد: كلا، لا تنصحني، إن الله أمر من هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌّ مني، فقال لنبيه موسى عليه السلام إذ أرسله إلى فرعون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]. فهل عرفت لماذا نجحت النصيحة الأولى، ولم تنجح الثانية؟ لماذا آتت النصيحة الأولى أُكلها، ولم تؤتِ النصيحة الثانية أُكلها؟ |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
الخلاف وآدابه الشيخ د. عبد الله بن محمد الجرفالي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد: فهذه مذكرة مختصرة تتحدث عن موضوع في غاية الأهمية وهو (الخلاف وآدابه). وقد جمعتها على عجل في قرابة سبع ساعات؛ ليتم تدارسها في دورة علمية أُقيمت في مكة المكرمة من 21/ 10/ 1439 - 22/ 10/ 1439هـ، ما بين صلاتي العصر والعشاء. أسأل الله أن يبارك فيها وينفع بها. أولًا: تعريف الخلاف، وفيمَ يكون؟ الخلاف والاختلاف والمخالفة في اللغة بمعنًى واحد. قال في المصباح المنير: "خالفته مخالفة وخلافًا، وتخالف القوم واختلفوا: إذا ذهب كل واحدٍ إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وهو ضد الاتفاق". ولا يختلف المعنى الشرعي للخلاف عن المعنى اللغوي، إلا أنه مقصور على الاختلاف في المسائل الشرعية، فالعلاقة بين المعنيين هي علاقة عموم وخصوص مطلق، ذلك أن علماء الشريعة يطلقون الخلاف على المسائل الشرعية التي لم يجمع عليها، فالخلاف ضد الإجماع[1]. ونعني بالخلاف هنا ما هو أشمل من الخلاف في المسائل الفقهية الاجتهادية، فيدخل في ذلك المخالفة في المسائل الاعتقادية؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [آل عمران: 105]. فمن أمثلة الخلاف في العقيدة: أ- ما يكون من المخالفة بين المسلمين والكافرين: فالكفار باختلاف مِللهم ونِحلهم واعتقاداتهم، يختلفون مع المسلمين في أصل الأصول، إما في وجود الله سبحانه، أو باعتقاد وجوده، لكنهم يشركون معه غيره. ب- ما يكون من خلاف أهل الأهواء والبدع لأهل السنة؛ كخلاف الخوارج، والمعتزلة، والرافضة، فهذان الخلافان ينظر لهما من جهتين: • من جهة خلاف المسلمين للكافرين، فهو خلاف سائغ مقبول، في أعلى درجات القبول، بل هو من الخلاف الواجب على المسلمين، وكذلك خلاف أهل السنة لأهل البدع فهو كذلك. • من جهة خلاف الكافرين للمسلمين، فهو خلاف غير سائغ مردود، في أقوى درجات الرد، بل يجب على الكافرين أن يوحِّدوا الله ويعبدوه، وأن يكونوا مع المسلمين، وكذلك الواجب على أهل الأهواء والبدع ترك ما هم عليه واتباع أهل السنة، وخلافهم لأهل السنة مردود غير مقبول ولا عذر لهم فيه. ثانيًا: أنواع الخلاف وأمثلة عليه: ينقسم الخلاف إلى قسمين رئيسين: الأول: الخلاف السائغ (المحمود). وهو الاختلاف في المسائل الظنية، وهذا كثير جدًّا، يظهر ذلك جليًّا لمن تتبع خلاف الفقهاء في مسائل الفقه من كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الإقرار، ومن أمثلته: الاختلاف في أقسام المياه، ونجاسة الكلب، ومدة المسح على الخفين، وأمد الحيض، والقنوت في صلاة الفجر، ورفع اليدين في الصلاة، وصلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي، وما يجب تغطيته من المرأة، ووقوع طلاق الثلاث واحدة... إلخ. فمثل هذه المسائل يسوغ فيها الخلاف إذا لم يكن عن تعصُّب وهوى، وإنما عن اجتهاد وتحرٍّ، لِما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد"، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم على اختلافهم في الاجتهاد في صلاة العصر في غزوة بني قريظة، والحديث في الصحيحين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما تنازعوا فيه مما أقروا عليه، وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك، كاجتهاد الصحابة في قطع اللينة وتركها، واجتهادهم في صلاة العصر لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وأمرهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فصلى قوم في الطريق في الوقت، وقالوا: إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة، وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها بعد الوقت؛ تمسكًا بظاهر لفظ العموم، فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين، وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم؛ كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث، والعطاء، والسياسة، وغير ذلك. وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي، وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم، وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية؛ كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلمربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ"[2]. الثاني: الخلاف غير السائغ (المذموم): وهو عكس الخلاف المحمود، وذكر بعض أهل العلم أنه يكون في حالات أربع رئيسة. الحالة الأولى: الاختلاف في مسائل العقيدة المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة، وهذا اختلاف مذموم؛ لأن العقيدة ثابتة بنصوص قطعية في الكتاب والسنة، وقد أجمع عليها الصحابة، فلا يصح أن يكون فيها اختلاف بين المسلمين. الحالة الثانية: الاختلاف في الأدلة القطعية: والمقصود بها المسائل التي تكون قطعية الثبوت وقطعية الدلالة؛ مثل: وجوب الصلاة والصيام والزكاة، وقطع يد السارق، ورجم الزاني، وتحريم الخمر...إلخ. فالاختلاف في هذه المسائل غير سائغ؛ لأنه لو قبل الخلاف فيها لما بقِي شيء من مسائل الدين إلا وأصبح قابلًا للأخذ والرد. الحالة الثالثة: الاختلاف الناشئ عن تعصبٍ أو هوى لا عن حجةٍ وبرهان: فقد ذم الله تعالى الذين يجادلون في آياته بغير حجة ولا برهان، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ﴾ [غافر: 56]. الحالة الرابعة: مخالفة ما أجمعت عليه الأمة[3]: ففي هذه الحالات الأربع يكون الاختلاف مذمومًا، وهو ما يطلق عليه الشارع الافتراق، كما في حديث الافتراق المشهور الذي رواه عوف بن مالك رضي الله عنه وغيره من الصحابة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وإحدى وسبعون فرقة في النار، والذي نفسي بيده لتفترقنَّ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: مَن هم يا رسول الله، قال: الجماعة"[4]، وفي رواية قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، وفي رواية قال: "هم السواد الأعظم". ثالثًا: أسباب الخلاف: أسباب الخلاف كثيرة جدًّا، منها ما يكون للهوى، ومنها ما يكون لأجل حظوظ النفس، ومنها ما يكون لأجل قلة العلم وعدم الاطلاع، ومن تلك الأسباب: 1 ــ اتباع الهوى: فصاحب الهوى يصعب إقناعه، واتباع الهوى على صنفين: الأول: الكفرة المردة الجحدة الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ﴾ [البقرة: 89]. وقال سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33]. والصنف الثاني: المبتدعة المنحرفة عن طريق السلف، وفَهمهم في تطبيق السنة, فهؤلاء ابتدعوا في دين الله تعالى ما لم يأذن به الله، ولم يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلاف مع هؤلاء خلاف صعب للغاية؛ لأنهم يرون أنهم على حق، وخلافهم مبني على الهوى. 2- أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف: وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومَن بعدهم. ومن أمثلة ما وقع بين الصحابة من هذا النوع: الأول: ما ثبت في صحيح البخاري وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، وفي أثناء الطريق ذُكر له أن فيها وباءً وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابة رضي الله عنهم، فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين. وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبدالرحمن بن عوف، وكان غائبًا في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك عِلمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًامنه"، فكان هذا الحكم خافيًا على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبدالرحمن فأخبرهم بهذا الحديث. مثال آخر: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما، يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتدُّ بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر، لم تنقض العدة عندهما، وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل، بقيت في عدتها حتى تضع الحمل؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4]، ويقول: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]. وبين الآيتين عموم وخصوص، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس رضي الله عنهما، ولكن السُّنَّة فوق ذلك، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال، فأذن لها رسول الله أن تتزوج، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق، وهي عموم قوله تعالى: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾. واليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعًا، ولم يذهبا إلى رأيهما. 3- أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله: ومن أمثلة ذلك ما ثبت في قصة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها عندما طلَّقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير، وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرها النبي أنه لا نفقة لها ولا سكنى؛ وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 6]. لكن عمر رضي الله عنه خفيت عليه هذه السُّنَّة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، وردَّ حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت، فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟! وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضًا لمَن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا، بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل. 4- أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه: من أمثلة ذلك ما ثبت في الصحيحين من قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسر رضي الله عنهما، حينما أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبا جميعًا عمار وعمر. أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلَّى، أما عمر رضي الله عنه فلم يصل، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار: "إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا"، وضرب بيديه الأرض مرة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه. وكان عمار رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وقبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة فأجنبنا، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا"، ولكن عمر لم يذكر ذلك، وقال: اتق الله يا عمار، فقال له عمار: إن شئت بما جعل الله عليَّمن طاعتك ألا أُحدِّث به فعلت، فقال له عمر: نوليك ما توليت؛ يعني فحدِّث به الناس. فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم في حال الجنابة، كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وحصل بينه وبين أبي موسى رضي الله عنهما مناظرة في هذا الأمر، فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار، فقال أبو موسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية؟ - يعني آية المائدة - فلم يقل ابن مسعود شيئًا، ولكن لا شك أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجُنُب يتيمم، كما أن المحدث حدثًا أصغر يتيمَّم. والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي، فيقول قولًا يكون به معذورًا، لكن مَن علِم الدليل فليس بمعذور. يتبع |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
5- أن يكون بلَغه وفهم منه خلاف المراد: ويُضرَب لذلك مثالان، الأول من الكتاب، والثاني من السُّنَّة: فمن القرآن قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]. حيث اختلف العلماء رحمهم الله في معنى: ﴿ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾، ففهم بعضٌ منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون أن المراد به اللمس المثير للشهوة، وفهم آخرون أن المراد به الجِماع. ومن تأمَّل الآية يجد أن الصواب مع مَن يرى أنه الجِماع؛ لأن الله تبارك وتعالى ذَكَرَ نوعين في طهارة الماء: طهارة الحدث الأصغر والأكبر، ففي الأصغر قوله: ﴿ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة: 6]، وأما الأكبر فقوله: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ﴾ [المائدة: 6]، وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يُذكر أيضًا موجبًا الطهارتين في طهارة التيمم، فقوله تعالى: ﴿ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِط ﴾ إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر، وقوله: ﴿ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر. ومن السُّنَّة: ما ثبت في الصحيحين عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب، ووضع عدَّة الحرب جاءه جبريل، فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرُج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج وقال: "لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة". وقد اختلف الصحابة في فَهم هذا الحديث، فمنهم مَن فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج؛ حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلمَّا حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها، ومنهم مَن فهم أن مراد رسول الله ألا يصلوا إلا إذا وصلوا إلى بني قريظة، فأخَّروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها، وإن كان الأقرب للصواب هم الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نص مشتبه، وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم. 6- أن يكون قد بلغه الدليل لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ: ومثال ذلك: قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [البقرة: 240]، نسختها الآية وهي قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]. وقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، نسختها الآية وهي قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]. ومن السنة: نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة، ونسخ التطبيق بين اليدين، ووضعهما بين الركبتين إلى وضعهما على الركبتين، وثبت في الصحيحين أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعلم بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلَّى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبتيهما، ولكنه رضي الله عنه نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق. 7- أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع: يمكن أن يمثل لذلك برأي ابن عباس رضي الله عنهما في رِبا الفضل؛ حيث ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الربا في النسيئة"، وثبت في صحيح مسلم من حديث عبادة بن الصامت وغيره: أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة، وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة، أما ابن عباس فبقي على رأيه بأن الربا يكون في النسيئة فقط، كما لو بعت صاعًا من القمح بصاعين يدًا بيد، فعند ابن عباس لا بأس بذلك؛ لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط، وإذا بعت دينارًا من الذهب بدينارين من الذهب يدًا بيد، فعنده ليس ربا، لكن إذا أخَّرت القبض ولم يعطك البدل، فقد وقع الربا، والصحيح أن الربا قسمان، فلا بد من المثلية والتقابض في المجلس إذا بادلت الشيء بجنسه، بشرط أن يكون مما يجري فيه الربا. 8- أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالًا ضعيفًا[5]: وهذا أمثلته كثيرة جدًّا؛ كاختلاف العلماء في الدعاء عند الفراغ من قضاء الحاجة: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني"، وكاختلافهم في جلد الميتة إذا دبغ، ومدة المسح على الخفين، وفي صلاة التسبيح، والرمي قبل الزوال...إلخ. رابعًا: آداب الخلاف: هناك عدة آداب ينبغي مراعاتها عند الخلاف؛ منها: 1- الإخلاص لله والتجرد من الأهواء: فأحيانًا ما تكون الخلافات بين الأفراد والفئات، ظاهرها أنها خلاف على مسائل علمية، أو قضايا فكرية، وباطنها حب الذات، واتباع للهوى. 2- التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف: فالتعصب يعمي البصر، ويطمس البصيرة. 3- الإنصاف والعدل: قال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8]. 4- الرجوع إلى الحق عند تبيُّن ذلك وثبوته: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: "ولا يمنعك قضاء قضيت فيه بالأمس، فراجعت فيه نفسك، فهُديت فيه إلى رشدك - أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل". وفي الحديث الصحيح عند أبي داود وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه". وعند أحمد، والترمذي، وابن ماجه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، ثم تلا: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58]. 5- إحسان الظن بالآخرين. 6- الحوار بالتي هي أحسن، واختيار أرق التعبيرات وألطفها. 7- التركيز على الأصول قبل الفروع ونقاط الالتقاء والخلاف. خامسًا: أمثلة على اختلاف السلف الصالح: من ذلك ما روي أن علي بن أبي طالب رأى طلحة ملقًى في بعض الأودية، فنزل فمسح التراب عن وجهه، ثم قال: "عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلًا في الأودية، وتحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري"[6]. وقد اختلفت عائشة رضي الله عنها مع ابن عباس رضي الله عنه في رؤية النبي لربه، وفي الرضاع فرأى ابن عباس أن الرضاع بعد السنتين لا يحرم، بينما رأت عائشة خلافه، ومع ذلك لم يمنعهما هذا الاختلاف من التواصل والتراحم، فقد روى البخاري عن القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت فجاء ابن عباس فقال: "يا أم المؤمنين، تقدمين على فَرَط صدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر"[7]. ♦ وقد تمثل السلف هذا الخُلق من بعدهم، فقد أخرج القاضي عياض قال الليث بن سعد: لقيت مالكًا في المدينة فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك، قال: عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري، ثم لقيت أبا حنيفة وقلت له: ما أحسن قول ذلك الرجل فيك، فقال أبو حنيفة: والله ما رأيت أسرع منه بجواب صادق، ونقد تام يعني مالكًا[8]. ♦ وعن الشَّافعي رضي الله عنه: "إذا جاءك الحديث عن مالك فَشُدَّ به يديك، وإذا جاء الأَثر فمالك النَّجْم، وعنه: مالك بن أنس معلمي وعنه أخذنا العلم"[9]. سادسًا: واجب العلماء والعامة عند ظهور الاختلاف: الواجب على العلماء عند وجود الخلاف: أن يردوا العوام إلى الكتاب والسنة، وأن يتمسكوا بالدليل متى ما صحَّ، وكان في موضع النزاع، فرد الناس إلى الأدلة الشرعية نجاة المفتي والمستفتي، ودليل على الرسوخ في العلم، ولا يجوز الخروج عن دلالة النص الواضحة إلا بدليل، كنص يخصص عامًّا، أو يقيد مطلقًا، أو ينسخ آخر، وأما مراعاة المصالح والمفاسد، فمرد ذلك إلى الراسخين في العلم. والواجب على عوام الناس: ألا يأخذوا دينَهم إلا عمن يُوثَق به ممَّن يدعو إلى الله على بصيرة، وليسمعوا لهم ويُطيعوا، إن أرادوا لأنفسهم الخيرَ والسعادة، وليعلموا أن العلماء في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، يهتدي بهم الحيران في الظَّلماء، وأن الحاجة إليهم أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب، وأن طاعة أمرهم واجب؛ لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]. سابعًا: كيفية التعامل مع المخالف: أولًا: المخالف خلافًا سائغًا. 1- لا يجوز الحط من قدره؛ لأنه مجتهد ينشد الحق فهو على خير. 2- لا تجعل المسائل المختلف فيها اختلافًا سائغًا سببًا للنزاع والفرقة، والولاء والبراء[10]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الاختلاف في الأحكام، فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة"[11]. ثانيًا: المخالف خلافًا غير سائغ، فهو على حالتين: الأولى: أن يكون من أهل العلم المشهود لهم بالخير، واتباعه للسنة، يناصح، ولا تنشر زلته، ولا يقلد فيها، ويحذر منها نصحًا للأمة، ولا يعتد بقوله ذلك في الخلاف بين العلماء[12]. الثانية: أن يكون من أهل الأهواء والبدع، أو المتجاسرين على الفتيا، فيناصح، ويُبين أمره للناس، ويهجر، ويحذر منه، ويعزر من قبل الحاكم بما يراه مناسبًا[13]. ثامنًا: من أهم الكتب التي صنفت في فن الخلاف: 1- التعليقة لأبي زيد الدبوسي الحنفي. 2- عيون الأدلة لأبي القصار المالكي. 3- المنهاج في ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي المالكي. 4- المآخذ للغزالي الشافعي. 5- رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي. 6- الخلاف بين العلماء لابن عثيمين. وهناك كتب معاصرة في غاية الأهمية، ككتابي العصيمي والشبيلي المشار إليهما أعلاه. [1] القاموس المحيط ص 1045، والمصباح المنير ص69، وأصول الفقه الإسلامي لوهبه الزحيلي ص 492، ومفردات ألفاظ القرآن ص294. [2] مجموع الفتاوى 19/ 122. [3] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 156 ــ 168، وفقه الخلاف وأثره، للشبيلي ص 4 ــ 12. [4] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أكثر من خمسة عشر صحابيًّا بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، ولذا عدَّه بعضهم من الأحاديث المتواترة. [5] ينظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية ص 11 ــ 52، والخلاف بين العلماء لابن عثيمين ص 9 ــ 27. [6] سير أعلام النبلاء (1/ 36)، والبداية والنهاية لابن كثير (7/ 258). [7] أخرجه البخاري برقم 3560. [8] الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء لابن عبدالبر (ص16). [9] عمدة القاري (1/ 149)، وترتيب المدارك (3/ 179). [10] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 107 ــ 108. [11] مجموع الفتاوى لابن تيمية (124/ 173 ــ 174). [12] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 214 ــ 2120. [13] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 177. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
الأمن الفكري.. واجب الخطباء يوسف سليمان الهاجري تتنوع معاني الأمن التي يحتاجها المجتمع، فهناك الأمن النفسي والاستقرار الأسري، وهناك ما يسمى بالأمن الغذائي وأمن الصحة الوقائي، وكذلك الأمن البيئي والزراعي؛ مما يوفر حياة سليمة من الأمراض المعدية، وعلى صعيد آخر هناك الأمن العقدي، والدعوي، والفكري، والعقلي، والعلمي، والاقتصادي، وكذلك الأمن العسكري، والسياسي. فالحاجة إلى الأمن بكافة صوره وأشكاله من أهم الحاجات الفطرية التي لا يمكن أن يكون سلوك الإنسان سويا بدونها، وكما أنه لا حياة للبدن إلاّ بإشباع حاجاته الفطرية، كذلك لا حياة ولا سرور ولا قرار ولا استقرار للقلب والنفس والروح إلا بهذا الأمن. نعمة الأمن بيد أن هذا الأمن نعمة وعد الله تعالى بها عباده الذين يعبدونه ويوحدونه ويذبون عن دينه ويحمون حماه؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، كما أن رسول الله [ حرص على بيان هذا المعنى فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله [: «من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا». قواعد الإيمان ولقد أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل وأنزل الكتب لإرساء قواعد الإيمان الصحيح الذي يقوم على سلامة الاعتقاد والقول والعمل، ولا يكون ذلك إلا بسلامة القلب الذي هو بيت الفكر والإرادات والمشاعر وسلطان الجوارح، ولن يكون القول سليماً مرضياً ولا العمل صحيحاً مقبولاً إلاّ إذا كان القلب سالماً لله عز وجل، سليماً من الآفات والعلل ورديء الهمم والعزائم؛ قال تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم} ورسول الله [ يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب». الأمن الفكري إن الأمن الفكري حالة تُشعر الفرد والمجتمع بالطمأنينة على ثقافته ومعتقداته وأعرافه ومكونات أصالته ومنظومته الفكرية المستمدة من الكتاب والسنة من أن يصيبها التشويه أو التشويش أو الاختراق أو الضبابية أو التعتيم، وإن الأمن الفكري هو السبيل الوحيد لبلوغ الأمة عزها ومجدها وإحرازها خيريتها واستخلافها وتمكينها أيما تمكين؛ فوحدة الفكر على عقيدة الإسلام تثمر وحدة الشعور بالمسؤولية والواجب، وتحيي الضمائر وتدفع إلى المعالي؛ فيتحقق للأمة سعادتها وفلاحها وعزها وكرامتها، وإذا كان الشباب هم عماد النهضة وأمل المستقبل فبالأمن الفكري نحميهم ونصونهم من الشبهات وضبابيات الأفكار المنحرفة. دور الخطيب وواجب تعزيز الأمن الفكري بالمجتمع على الجميع من علماء ودعاة وخطباء ومعلمين ومربين ومصلحين وأولياء الأمور...إلا أنني أخصص بحديثي هنا الخطيب ودوره في جانب تعزيز هذا الأمن الفكري؛ حيث يحظى الخطيب بمكانة كبيرة بين أوساط المجتمع المسلم، ويرتبط المسلمون معه كل أسبوع باستمرار ويستمعون إليه بإنصات بالغ؛ ولذلك كان لابد له من بذل جهد مضاعف في تحقيق هذا الهدف في المجتمع ولاسيما الشباب؛ فينبغي على الخطيب أن يختار بعناية فائقة موضوع خطبته وعناصرها مع كيفية توصيل هذا الموضوع إلى الناس في هذا الوقت الوجيز، ولا يغفل طريقة المعالجة بشكل صحيح؛ لكيلا يقع الناس في الفهم غير الصحيح أو الناقص. القيم الدينية كما ينبغي على الخطيب أن يحرص حرصا شديدا على غرس القيم الدينية والعقدية والفكرية والأخلاقية في نفوس الناس؛ لكي تكون لديهم مناعة ذاتية ضد أي انحراف أو لوثة تقابلهم أو تصادفهم، ولاسيما في هذا الزمن الذي انفتحت فيه وسائل الإعلام على الناس من كل صوب، ومن المهم مراعاة جميع الانحرافات من إفراط أو تفريط وغلو أو تساهل، ثم معرفة القيم التي تعالج هذه الانحرافات. ويجب أن يراعي الخطيب الظروف التي تمر بالمجتمع وتحتاج منه إلى وقفة تجاهها كالتفجيرات والأعمال التخريبية والمفسدة أو قضايا المخدرات والقتل وغيرها، فيعالجها مباشرة ولا يتأخر، ويبين للناس المنهج الصحيح في مثل هذه القضايا، مع ذكر الأدلة الصحيحة الشرعية، والخطيب الموفق هو الذي يأسر قلوب الناس بنصحه الصادق وكلماته الواضحة وأدلته القاطعة وبيانه الساطع وعلمه الواسع. أسأل الله أن يديم علينا نعمة الأمن والأمان، وأن يحفظ ولاة أمرنا ووطننا من كل سوء ومكروه، والله يرعاكم. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك محمد بن صالح العثيمين ♦ عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا))؛ رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامًا فصلا، يفهمه كل من يسمعه))؛ رواه أبو داود. قَالَ سَماحةُ العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: قال المؤلف - النووي رحمه الله تعالى-: (باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك)؛ والمعنى أنه ينبغي للإنسان إذا تكلم وخاطب الناس أن يكلمهم بكلام بيِّن لا يستعجل في إلقاء الكلمات، ولا يدغم شيئًا في شيءٍ ويكون حقه الإظهار، بل يكون كلامه فصلا بينا واضحًا حتى يفهم المخاطب بدون مشقة وبدون كلفةفبعض الناس تجده في الكلام ويأكل الكلام حتى إن الإنسان يحتاج إلى أن يقول له: ماذا تقول؟ فهذا خلاف السنة، فالسنة أن يكون الكلام بينًا واضحًا، يفهمه المخاطب وليس من الواجب أن يكون خطابك باللغة الفصحى. فعليك أن تخاطب الناس بلسانهم وليكن بينًا واضحًا كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه فقوله: (حتى تفهم عنه) يدل على أنها إذا فهمت بدون تكرار فإنه لا يكررها، وهذا هو الواقع فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نسمع عنه أحاديث كثيرة يقولها في خطبة وفي المجتمعات ولا يكرر ذلك، لكن إذا لم يفهم الإنسان بأن كان لا يعرف المعنى جيدًا فكرر عليه حتى يفهم أو كان سمعه ثقيلا لا يسمع أو كان هناك ضجة حوله لا يسمع فهنا يستحب أن تكرر حتى يفهم عنك. وكان صلى الله عليه وسلم إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا؛ معناه أنه كان لا يكرر أكثر من ثلاث، يسلم مرة فإذا لم يجب سلم الثانية فإذا لم يجب سلم الثالثة فإذا لم يجب تركه. وكذلك في الاستئذان كان صلى الله عليه وسلم يستأذن ثلاثًا؛ يعني إذا جاء للإنسان يستأذن في الدخول على بيته يدق عليه الباب ثلاث مرات فإذا لم يجب انصرف، فهذه سنته عليه الصلاة والسلام أن يكرر الأمور ثلاثًا ثم ينتهي. وهل مثل ذلك إذا دق جرس الهاتف ثلاث مرات؟ يحتمل أن يكون من هذا الباب، وأنك إذا اتصلت بإنسان ودق الجرس ثلاث مرات وأنت تسمعه وهو لم يجبك، فأنت في حل إذا وضعت سماعة الهاتف ويحتمل أن يقال: إن الهاتف له حكم آخر وأنك تبقى حتى تيأس من أهل البيت لأنهم ربما لا يكونون حول الهاتف عند اتصالك، فربما يكونون في طرف المكان ويحتاجون إلى خطوات كثيرة حتى يصلوا إلى الهاتف؛ فلذلك قلنا باحتمال الأمرين. ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلامه فصلًا؛ يعني مفصلًا، لا يدخل الحروف بعضها على بعض ولا الكلمات بعضها على بعض، حتى لو شاء العاد أن يحصيهلأحصاه من شدة تأنيه صلى الله عليه وسلم في الكلام، وهكذا ينبغي للإنسان أن لا يكون كلامه متداخلًا؛ بحيث يخفي على السامع لأن المقصود من الكلام هو إفهام المخاطب، وكلما كان أقرب إلى الإفهام كان أولى وأحسن ثم إنه ينبغي للإنسان إذا استعمل هذه الطريقة يعني إذا جعل كلامه فصلا بينًا واضحًا وكرره ثلاث مرات لمن لم يفهم، ينبغي أن يستشعر في هذا أنه متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحصل له بذلك الأجر وإفهام أخيه المسلم، وهكذا جميع السنن اجعل على بالك أنك متبع فيها لرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق لك الاتباع. المصدر: «شرح رياض الصالحين» (4/64-67) |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
مواصفات المقدمة الجيدة وأساليب الدخول إلى الموضوع الشيخ عبدالله محمد الطوالة الحمدُ للهِ كثيرًا كثيرًا، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا.. أمَّا بعدُ: فطالما تأملتُ الفرقَ بين افتِتاحِيَّةِ الكلامِ عندَ خطباءِ المسلمينَ وعند غيرِهِم، فإذا هيَ عندَ المسلمينَ حمدٌ وشكرٌ وثناءٌ على الله بما هو أهلهُ، مع توشِيحِيها بشيءٍ من آيات الذِّكرِ الحكيمِ، وأقوالِ سيِّدِ المرسلينِ عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ.. فهي إذن بدايةٌ ثابتةُ (الغرضِ)، متجددةٌ المعاني واللفظِ.. بينما هي عندَ غيرِ المسلمينَ بدايةٌ مُبهمةٌ وغيرُ محددةٍ، لا يدري المتكلمُ من أين يبدأُ، ولا بأيِّ شيءٍ يستفتِحُ.. ولذا فبدايةُ الكلامِ عندهم هي أصعبُ مراحِلهِ، حتى قال أحدُ خُطبائِهم المشهورين: «قبل دقيقتينِ من بِدء خطابي أُفضلُ لو أنَّني أُجلدُ على أن أبدأ، وبعد دقيقتينِ من البدءِ أُفضلُ أن أُقتلَ على أن أتوقف».. يقولُ ذلك لأنهُ يحمِلُ همًَّا خاصًا لافتتاحيَّةِ الكلامِ.. بينما الخطيبُ المسلمُ قد كُفيَ هذا الهمَّ تمامًا، بل وتحولت المقدِّمةُ عندهُ إلى نُقطةِ تميزٍ وقوةٍ، ومصدرِ اطمئنانٍ وثقةٍ، تجعلُهُ ينطلقُ بلا تردُدٍ ولا وجلٍ، خصوصًا إذا أَحسنَ إِعدادها، وبذلَ عنايةً خاصَّةً في تجهيزها.. يقول ديفيد بيبولز: «أنت مجهولٌ لمدة دقيقتين، ثمَّ سيُفَسرُ كلَّ ما ستقولهُ لاحقًا بناءً على الانطباع الذي تمَّ تكوينهُ عنك في هذه البداية».. إذن فالمقدِّمةُ الجيدةُ لها أثرٌ فعَّالٌ في جذب الانتباهِ لما بعدَها، وفي إثبات براعةِ المتكلمِ، وكسبِه لثقةِ السامعينَ منذُ البدايةِ، وجعلِهم يتفاعلونَ معهُ بشكلٍ أفضلَ.. بل هي مناطُ الحُكمِ على المتكلمِ، حيثُ أنَّ السامعَ في أول الخطبةِ مُتهيئٌ للنقدِ، مُتحفزٌ للحُكم على ما يسمع، حتى إذا ما بهرهُ الخطيبُ ببراعةِ استهلالهِ، وقوةِ بيانهِ، وكانت مُقدمتهُ مُحكَمةَ مؤثرة.. فإنَّ السامعَ حينها سيُرخِي لهُ عِنانهُ، وينجذبُ لسحرِ بيانه، ويتشوقُ لبقية الموضوع.. وبذلك يتمكَّنُ الخطيبُ من الاستمرارِ بكلِّ ثقةٍ وثباتٍ.. ولذلك فالخطيبُ اللبيبُ هو من يعرفُ للافتتاحيةِ أهميتَها الكبيرة، فيُعِدُّ لها إعدادً جيدًَا، ويبذلَ لها جُهدًا مضاعفًا.. وهذا ما لا يفعلهُ الكثيرون، بل إن البعضَ (وفقهم الله) غالبًا ما يَسْتفتحونِ خُطبَهُم بألفاظٍ مكْررَةً، يداومون عليها في كلِّ مرةٍ، حتى أصبحت مُقدِماتُهم عاديةً مألوفة، لا تُثِيرُ فُضُولًا، ولا تجذِبُ انتباهًا، بل رُبما سَببتِ مللًَا وسرحانًا.. والمقدمةُ المتكامِلةُ عادةً ما تبدأُ بالحمد والثناءِ على الله تعالى، ثمَّ شهادةُ التوحيدِ وشيءٌ من تعظيم الربِّ جلَّ وعلا، ثم الصلاةُ على رسولهِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليه، والترضي عن صحابتهِ الكرامِ، ثمَّ الوصيةُ بتقوى الله جلَّ وعلا، وشيءٌ من الحِكم والمواعظِ والتوجيهاتِ والرقائق، تُختتمُ بآيةٍ مُناسبةٍ.. ثم المدخلُ إلى الموضوع، وهو الجزءُ الأخيرُ من المقدمة، وغرضهُ الأساس التشويقُ واثارةُ الفضولِ وجذبُ الانتباهِ للموضوع.. وله أساليبَ متنوعةٍ، من أشهرها ما يلي: 1) أسلوبُ اللغز: وهو أن يبدأ الخطيب حديثهُ عن أمرٍ مُبهمٍ غامِضٍ كاللغزِ، يثيرُ الفضولَ وحبَّ الاستطلاع، ويجذبُ الانتباه.. مثاله: عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ ورَقُهَا، وهي مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي ما هي؟ فَوَقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ البَادِيَةِ، ووَقَعَ في نَفْسِي أنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أخْبِرْنَا بهَا؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هي النَّخْلَةُ.. الخ الحديث.. مثال آخر: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إن عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ.. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا.. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ.. 2) أسلوبُ العنوانِ الغامِض: وهو قريبٌ من الأسلوبِ الأولِ، وهو أن يقدمَ الخطيبُ لموضوعة بعنوانٍ غامضٍ مبهمٍ، يحارُ السامعُ في تفسيرهِ، ويتطلعُ لمعرفته، ثم يبدأُ هو في توضيح الحقيقةِ شيئًا فشيئًا.. مثالهُ: وبعد: فحديثنا اليوم عن القاتل رقم واحد.. إنه القاتلُ الأكثرُ ضحايًا على مستوى العالم ِكُلهِ، بل على مستوى التاريخِ اجمع.. لستُ أعني الحروبَ، فالحروبُ وإن فتكت بملايين البشرِ فليست هي القاتل رقم واحد.. ولست أعني الأمراضَ، فالأمراضُ على كثرةِ ضحاياها، فليست هي القاتل رقم واحد.. ولست أعني الحوادثَ، فحوادثُ السياراتِ والطائراتِ وجميعِ وسائلِ المواصلاتِ، ليست هي القاتل رقم واحد.. ولستُ أعني الجوعَ والفقرَ، ولستُ أعني الحرائقَ وحوادثَ البيوتِ، ولستُ أعنى الزلازلَ والبراكينَ، وجميعَ الكوارثِ الطبيعيةِ، فكلُ ذلك ليس هو القاتل رقم واحد.. أتدرونَ من هو القاتل رقم واحد على مستوى العالم كُلهِ: إنَّهُ التدخينُ يا عباد الله.. 3) أسلوبُ الأوصافِ العامةِ: وهو قريبٌ من الاسلوبين السابقينِ أيضًا، وهو أن يبدأَ الخطيبُ كلامهُ بتقديم أوصافٍ عامةً عما سيتحدثُ عنه، لدرجةٍ يحارُ معها السامِعُ في تحديدِ الموضوعِ بدقةٍ، حتى يكونَ الخطيبُ هو الذي يُفصِحُ عن ذلك، وفي هذا من جذبِ الانتباهِ، وشدّ المتابعينَ ما فيه.. مثالهُ: حديثنا اليوم عن خُلقٍ عظيمٍ من أخلاقِ الإسلامِ الراقيةِ؛ وصِفةٍ عظيمةٍ جامِعةٍ لمكارِم الأخلاقِ، ضابطةٍ لحسنِ السّلوكِ.. خلُقٌ جميلٌ، فيه سَلامةُ العِرضِ، وراحةُ الجسَدِ، واجتلابُ المحامدِ.. صفةٌ كريمةٌ، تدلُ على أصالةِ النفسِ، وطيبِ المعدنِ، وحُسنِ التربيةِ.. صِفةٌ طالما تحدَّثَ الناسُ عنها، ومدحوها واستحسنوها، ولكنّها السلوكُ الغائبُ، والخلُقُ المفقودُ لدى الكثيرين.. خُلقٌ يحبه الله ورسوله، ويقولُ عنه المصطفى ﷺ: "مَا كَانَ في شيءٍ إلا زَانَه، وَمَا نُزِعَ مِنْ شيءٍ إلا شَانَه".. أظنكم عرفتموه.. إنه الرّفقُ يا عباد الله.. 4) أسلوبُ طرحِ الأسئلةِ: من الافتتاحياتِ المميزةِ والجذابةِ، أن يبدأَ الخطيبُ حديثهُ بطرح سؤالٍ أو أكثر لاستدراجِ الجمهورِ إلى التفكيرِ في كنهِ موضوعهِ، وشدِّ انتباهِهم لمتابعتِه للإجابةِ على تلك الأسئلةِ، حتى وإن كانت إجاباتُ تلك الأسئلةِ معروفةً عند الكثيرين.. والسنةُ النبويةُ مليئةٌ بالأمثلةِ على هذه الافتتاحياتِ الجذابةِ.. أتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.. قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ.. أتدرونَ ما أكثرُ ما يُدخلُ النَّاسَ النارَ؟ قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلم، قال: فإنّ أكثرَ ما يُدخلُ النَّاسَ النارَ الأجوفانِ: الفرجُ والفمُ، أتدرونَ ما أكثرُ ما يُدخلُ الناسَ الجنّةَ؟ قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلمُ، قال: فإن أكثرَ ما يُدخلُ الناسَ الجنةَ تَقْوى اللهِ وحُسْنُ الخلقِ. أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ. 5) أسلوبً القصةِ المثيرةِ: الكلُّ يُحبُ سماعَ القصصِ ويتابعُ أحداثها بتلهُفٍ وشغفٍ، ولذا فلو بدأ الخطيبُ حديثهُ بقصةٍ مُشوقةٍ، تكونُ كالمدخلِ لما يُريدُ الحديثَ عنهُ، فسيضمنُ انجذابَ المتابعينَ لهُ وتفاعُلِهم معهُ.. اليكم المثال التالي: معاشر الإخوة الكرام: في غرفةٍ رثةٍ مُتهالِكة، ليس لها سقفٌ، وإن كان لها ما يشبهُ الباب، عاشت أرملةٌ فقيرةٌ مع طفلِها الصغير.. وفي ليلةٍ شتويةٍ مُلبدةٍ بالغيوم، هطلَت أمطارٌ غزيرةٌ، لا عهدَ لهم بمثلِها.. نظرَ الطفلُ إلى أُمهِ نظرةً حائِرةً، فقد تبللت ثيابُهُ وأخذَ ينتفِضُ كالعصفور العاجزِ.. أسرعت الأمُ إلى بابِ الغرفةِ فخلعتهُ، ثم وضعتهُ بشكلٍ مائلٍ على أحدِ الجدرانِ، واسرعت تختبئُ تحتهُ هي وطفلِها الصغيرِ.. وعندما ذهبت روعةُ الموقفِ، نظرَ الطفلُ إلى أمهُ وعلى محياهُ ضِحكةٌ صافيةٌ، وقال يا أمـاه: الحمدُ للهِ أنَّ عندنا باب.. تُرى ماذا سيفعلُ الفقراءُ الذين ليس عندهم باب، إذا نزل عليهم مثل هذا المطرِ الغزير.. أيها الأحبة الكرامُ: حدثنا اليومَ عن الرضا.... 6) أسلوبُ ضربِ الأمثالِ: ضربُ الأمثالِ ايضًا يثيرُ الأذهانَ، ويزيدُ من تفاعلِ المستمعين.. انظر إلى هذا المثالِ النبويِ الكريمِ: إنَّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، والْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ: إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإمَّا أنْ تَبْتاعَ منه، وإمَّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ: إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً.. وكذلك قوله عليه الصلاةُ والسلامُ: "أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكم، يغتسلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ، هل يبقى من درَنهِ شيءٌ. قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيءٌ. قال: فكذلك مثلُ الصلواتِ الخمسِ، يمحو اللهُ بهنَّ الخطايا".. 7) أسلوبُ (الإجمالِ قبل التفصيل): من المقدمات الناجحة أن يقدمَ المتحدثُ لمستمعيهِ عرضًا مُجملًا لعناصر الموضوع، فيه من الغموض ما فيه، ثم يشرعُ في التفاصيل، فتكون المقدمة تهيئةً وتحفيزًا لأذهان المستمعين، وإثارةً لفضولهم.. مثالهُ من القرآن الكريم: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.. ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.. |
تحضير الخطبة بطريقة سهلة وسريعة وفعالة..
تحضير الخطبة بطريقة سهلة وسريعة وفعالة.. الشيخ عبدالله محمد الطوالة الحمدُ للهِ كثيرًا كثيرًا، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا، أما بعد: فلا شكَّ أنَّ الخطابةَ هي أهمُّ وأسرعُ وأقوى وسائلِ الدعوة، وأكثرها تأثيرًا في المدعوين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، ولقد اهتمَّ الإسلامُ بالجمعة وخُطبتِها غايةَ الاهتمام، فهيئَ لها مكانًا خاصًا، ورتَّبَ عليها من الثواب والعقاب، ما لم يُرتبهُ على غيرها من العبادات، فرغَّبَ كثيرًا في النظافةِ والتجمُّلِ والتطيُّبِ من أجلها، والتبكيرِ في الوقتِ عند الخروجِ لها، والدُّنوِ من الإمام، والإنصاتِ التَّام، وعدمِ مسِّ الحصى فضلًا عن الكلام.. وفي القرآن الكريمِ أمرٌ مؤكدٌ بالسعي إليها، وتركِ كلَّ ما يُشغِلُ عنها، ووعدٌ بالخير الوفيرِ لمن يحرِصُ عليها، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9]، وفي الحديث الصحيح: "كان له بكل خطوةٍ (يعني للجمعة) عملُ سنةٍ أجرُ صيامِها وقيامِها". والخطيبُ هو اللسانُ المعبرُ عن الدين والمجتمع، ولا يكادُ يُدانيهِ في ذلك أحد.. وخطبةُ الجمعةِ تُلامِسُ كُلَّ جوانبِ الحياةِ ومناشِطها، وتجولُ في أعماق الإنسانِ ووجدانهِ وعقلهِ، فتشكِّلُ قناعاتهِ، وتضبِطُ مشاعرهُ، وتهذِّبُ أخلاقهُ، وتصِلُهُ بالخالق العظيمِ.. كما أنَّها سلاحٌ فعَّالٌ في ردِّ كيدِ الأعداء، وتفنيدِ شُبهِ المظلين، قال تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18]. ألا أنَّ هناك ضعفًا ملحوظًا في الاداء الخطابي لدى كثيرٍ من الدعاةِ والوعاظِ والخطباءِ وفقهم الله.. بل إنَّ البعضَ فاقدٌ للكثير من المهاراتِ الأساسيةِ لفنونِ الإلقاءِ والتَّحضير.. وقد قدمتُ ما تيسرَ حولَ فنياتِ الإلقاءِ في مقال: (الصفاتِ الفنيةِ للإلقاء) وهو منشورٌ في جزئين.. وفي هذا المقالِ نفصِّلُ القولَ حولَ الإعداد والتَّحضير بإذن اللهِ.. ومنهُ تعالى نستمدُ العونَ والتَّسديد.. وقبلَ أن ندخلَ في التفاصيل لا بدَّ أن نُدركَ جيدًا: أهميةَ الإعدادِ والتَّحضير.. فعندما يستشعرُ الخطيبُ أنَّ أُناسًا فرَّغوا أنفسهُم من أجله، وجاؤهُ مُتطهرينَ مُتطيبين، مُنصتينَ مُتأدبين، فلا أقلَّ من أن يحترمَ حضورهم، ويُقدِّرَ سعيهم، وأن لا يُسمعهم من الكلام إلا الفائقَ الرَّصِين، والجيدَ المتين.. وما لم يكن الخطيبُ شديدَ القناعةِ بأهمية ما يفعل، قويٌّ الشُعورٌ بالمسؤولية، موطِنًا نفسهُ على الصبر وتحمُلِ الأذى، يملكُ رغبةً صادقةً في خِدمة دينهِ، وتبليغِ دعوته، حريصًا على هدايةِ الناسِ ونفعِهم، فيتفاعلَ بقوةٍ مع موضوعه، ويُلمَّ بكُلِّ جُزئياتهِ وفُروعهِ، ويُعطيهِ ما يلزم من جُهدٍ ووقتٍ وتركيز، حتى يفرغَ من إعداده وطباعتهِ، وإلَّا فلا يمكنُ لهُ أن ينجحَ بالشكل المأمول.. وأولُ خُطواتِ التَّحضِيرِ الجيَّد هي: حُسنُ اختيارِ الموضوع: فحُسنُ اختيارِ الخطيبِ لموضوعه، مظنَّةٌ من فقههِ، وعلامةٌ على خِبرتهِ وعلوِ كعبِه، ودليلٌ على عُمقِ معرفتهِ بما يُناسبُ المدعوين.. ولأنَّ بعضَ المواضيعِ أهمُّ من بعضها، بل إنَّ بعضَ المواضيعِ لا يصلحُ طرحهُ على المنبرِ أصلًا.. لذا فإنَّ اختيارَ الموضوعِ هو روحُ الخطبةِ وسِرُّ نجاحِها.. وبناءً عليهِ يزيدُ أو يقِلُ أثرها، ومدى الاستفادةِ منها، فعلى الخطيبِ أن يستعينَ بالله تبارك وتعالى، ويسأَلهُ التوفيقَ والسَّداد لحُسنِ اختيارِ الموضوعِ أولًا.. ثمَّ عليه أن يُراعي الأمورَ التالية:- 1- وحدةُ الموضوع: أي أن تكونَ جميعُ العناصرِ والأفكارِ تدورُ حولَ غرضٍ واحدٍ.. 2- أن يخدمَ الموضوعُ هدفًا مُهمًَّا من أهداف الدِّين، وأن يكونَ عامَّ النفعِ لجميع السامعين.. 3- أن يكونَ الموضوعُ مُشوقًا جذابًا.. يرتبطُ بحياة النَاس، ويحقِّقُ تطلُعاتهم، ويُعالجُ القضايا التي تهمُهم وتُلامِسُ احتياجاتهم.. وهذا يتطلبُ من الخطيب أن يكونَ مُلمًّا بأحوال المخاطبين، خبيرًا بواقِعهم، دارِسًا لبيئتهم.. 4- أن يكونَ الموضوعُ مُناسبًا لمستوى عُقولِ المخاطبين وثقافتِهم.. ففي صحيح مسلمٍ عن ابن مسعود t أنه قال: "ما أنتَ بمحدثٍ قومًا حديثًا لا تبلُغهُ عُقولُهم إلا كان لبعضِهم فتنة".. 5- أن يكونَ الموضوعُ محلَّ اتفاقٍ بين أهلِ العلم، فيتجنَّبُ مسائلَ النزاعِ ومواضيعَ الخلافِ، فإنَّ منبرَ الجمعةِ يجمعُ ولا يُفرق، ويُسكِّنُ ولا يُنفِر.. 6- أن يتوافقَ الموضوعُ مع أهدافِ الخطيب، فذلك أدعى لتفاعلِه مع الموضوعِ بشكلٍ أكبر.. 7- أن يتمَّ اختيارُ الموضوعِ قبلَ فترةٍ كافيةٍ من إلقاءه، (ليتسنى تحضيرهُ بشكلٍ جيد).. 8- أن تكونَ المعلوماتُ اللازمةُ للموضوع مُتوفرةً، ويمكنُ الحصولُ عليها.. 9- بعضُ المواضيعِ الطارئةِ تفرضُ نفسها، كحدثٍ خطيرٍ، أو خطبٍ عاجِل، وحينها فلا ينبغي تأخيرُ البيانِ عن وقته.. 10- أنَّ يتجنبَ التِّكرارَ الممِل، فيُجدِّدَ المواضِيعَ، ويُنوِّعَ في الطَّرح، وحتى إن اضطُرَ لتكرار موضوعٍ ما، فينبغي أن يُعالجهُ بطريقةٍ جديدة.. الخطوةُ الثانية: جمع المعلومات.. فبعدَ أن يستقرَ الخطيبُ على موضوعٍ معين، فإنَّ عليه أن يقومَ بجمع أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من المعلومات عن الموضوع.. وتعتبرُ محركاتُ البحثِ على الإنترنت هي أسهلُ وأفضلُ وأسرعُ وسيلةٍ لذلك.. إذ أنها تُوصِلُ الباحثَ لكلِّ ما يحتاجهُ من معلوماتٍ بشكلٍ دقيقٍ، وبكمياتٍ هائلةٍ، وفي غضونِ ثوانٍ معدودة، وبدونِ مقابل، كما أنها (في الغالب) توفرُ عليه عناء النَّسخِ والكتابة.. وحيثُ أنَّ هناك الكثيرَ والكثير من المواقع المتخصصةِ التي تحتوي على مئات الآلافِ من الكتب، وعشراتِ الآلافِ من الدروس العلميةِ والخطب، والتي سيجدُ الباحثُ فيها بُغيتهُ وزيادة.. فإنَّ على الخطباء وطلبةِ العلمِ أن يعرفوا قيمةَ هذه النِّعمةِ العظيمةِ، والوسيلةِ السَّهلةِ المتاحةِ للجميع، وأن يُحسنوا استثمارَ وتوظيفَ هذه الكنوزِ العلميةِ الهائلة، وأن يتعلموا (بإتقان) كيفيةَ الوصولِ إلى المعلومات المنشودةِ بكلِّ دقةٍ، وذلك من خلال اتقانِ مهارةِ بناءِ السؤالِ المناسبِ.. فكلَّما كان بناءُ السؤالِ مُتقنًا، فإنَّ نتائجَ البحثِ ستكونُ أكثرَ دِقةً وملائمةً.. إذا عُلم هذا، فإن هناك العديدَ من محركات البحثِ المتنوعة، لكن أفضلها وأقواها هو: google أخي الخطيب: لنفترض أنك تُعِدُ خطبةً عن الزكاة مثلًا.. فاكتب التالي في محرك البحث: خطبة عن الزكاة، وستخرج لك النتائج على شكل قائمةٍ طويلةٍ بالـ(روابط) وأسماءِ المواقعِ التي تطابقُ بحثك.. اختر الاسمَ الأوفقَ لموضوعِك، ثم قُم بالنقر عليهِ وفتحهِ، وأقرأ محتوياتهِ قراءةً سريعةً، فإن أعجبك شيءٌ من الفقرات فقم بتحديده وقصِّةِ، ثم قم بلصقة في وثيقة وورد (WORD) خاصةٍ، سمِّها مثلًا: سجل خطبة الزكاة.. وأجمع في هذه الوثيقةِ كُلَّ ما يُعجبُك من النَّصوص التي مررتَ عليها في بحثِك وقراءاتِك عن الزكاة.. ولا تنسَ أن تضعَ مع كُلِّ نصٍ تنقُله، شيئًا يُميزهُ، كاسم صاحبِ الموضوع، أو اسم الموقع، أو عنوانًا مناسبًا يدل عليه، (فربما تحتاجُ لأن تعودَ لمصدر المعلومة).. ولا تنسَ كذلك أن تفصِلَ بين كلِّ نصٍ وآخرَ بترك سطرينِ فارغين.. وإذا كان لديك موقعٌ مُعينٌ تُفضلُ أن تُكثِّفَ البحثَ فيه.. كموقع الألوكةِ، أو المنبِر، أو ملتقى الخطباءِ، أو صيدُ الفوائدِ... إلخ، فاكتب اسمَ الموقعِ بعد اسمِ الموضوع. هكذا مثلًا: خطبة عن الزكاة الألوكة. وللبحث بشكلٍ أدق، أكتب اسمَ الموضوعِ أو كلماتِ البحثِ بين قوسي اقتباس: هكذا: خطبة عن " الزكاة ".. وإذا كان لديك أكثرُ من كلمة بحثٍ مفتاحيةٍ فضع بينها علامة + هكذا مثلًا: خطبة عن "فضل الزكاة" + "حكم الزكاة" + "شروط الزكاة". كما يمكنك تحديدُ أسئلةِ بحثٍ أدق، باستخدام ما يناسبُ موضوعك من القائمة التالية: • ما تعريف الزكاة • ما أهداف... • ما أهمية... • ما حُكم... • ما خصائص... • آيات وأحاديث عن... • قصة عن... • أخبار عن... • إحصائيات عن... • فتاوى عن... وإذا كنت تُريدُ التَّأكدَ من صحة المعلومةِ، أو البحثِ في المواقع العلميةِ الموثوقة، ومراكزِ الابحاثِ المعتمدة، أو في الرسائل الأكاديميةِ والمقالاتِ الموثَّقةِ، فاستخدم (موقع الباحث العلمي) scholar.google.com أو أمثالهِ من محركات البحثِ المتخصصة.. استمرَ في عملية البحثِ والقراءةِ والقصِّ واللصقِ حتى يتكونَ لديك في (سجل خطبة الزكاة) ما لا يقلُ عن عشرين صفحةً A4 متنوعةً الأفكارِ والعناصرِ والمعلوماتِ كُلها عن الزكاة، (لكنها بالطبع غير مُرتبة).. وفيما يتعلقُ بالمقدمات والخواتيم، فاقترحُ عليك أن تُنشئَ لها وثيقةً خاصةً سمِّها مثلًا: مقدمات وخواتيم خطبة الزكاة.. وانقل فيها ما يروق لك من المقدمات والخواتيم: (صفحتين أو ثلاث من المقدمات المختلفة، ومثلها أو أقل للخواتيم).. وفيما يتعلقُ بالحِكم والأمثالِ والأشعارِ، وأقوالِ العلماءِ والخبراءِ، والأقوالِ الجميلةِ التي تمرُّ عليها وتُعجبك، ولها علاقةٌ بالموضوع، فإني اقترحُ عليك أن تضعها في وثيقةٍ خاصةٍ سمِّها مثلًا: أقوال وحكم خطبة الزكاة.. (سأخبرك لاحقًا متى تستخدِمها).. وللحصول على المزيد من الحِكمِ والأقوالِ الجميلةِ، عُد لمحرك البحثِ وأكتب مثلًا: حِكم عن الزكاة، أو أقوال جميلة عن الزكاة، أو أشعار عن الزكاة، أو أمثال عن الزكاة، ونحو ذلك من أسئلة البحث.. الخطوةُ الثالثةُ: الاختيار والتصفية: فبعد أن تشعرَ بالرضا عمَّ جمعتهُ من معلوماتٍ (للملفات الثلاثة)، عُد إلى وثيقتك الأولى: (سجل خطبة الزكاة)، واقرأهُ من البدايةِ قراءةً مُتأنية، بغرضِ اختيارِ أفضلِ وأنسبِ ما فيه من مقاطعَ وفقرات (الخلاصة)، وانقلِها إلى وثيقةٍ أخرى جديدةٍ سمِّها مثلًا: وثيقة خطبة الزكاة على ألا يزيدَ عددُ صفحاتِ هذه الوثيقةِ الجديدةِ عن عشرِ صفحاتٍ (A4 مقاس الخط 20).. وبعد ذلك قم بإغلاق الوثيقة الأولى: (سجل خطبة الزكاة) فقد انتهى دورها.. الخطوةُ الرابعةُ: الخلاصة المبدئية: وذلك بدمجِ واختصارِ وتصفيةِ نصوصِ وفقرات: (وثيقة خطبة الزكاة)، مع تنسيقِ وتعديلِ وإعادةِ صياغةِ ما يحتاجُ إلى أيٍّ من ذلك، للخروج بخلاصةٍ مبدئيةٍ للموضوع، وبحيثُ لا يزيدُ الطولُ النهائي للوثيقةِ عن خمسِ صفحات A4، وبحيث يكونُ كل عُنصرٍ من العناصر في مقطعٍ وحدَه، (يُفضلُ أن لا يزيدَ طولُ العنصر كاملًا عن صفحة).. الخطوةُ الخامسةُ: ترتيبُ العناصرِ: قم بترتيب العناصر المتبقية في (وثيقة خطبة الزكاة) ترتيبًا منطقيًّا مناسبًا، فهذا سيساعد السامع على فهم ومتابعة الموضوع بسهولة، (يمكنك أن تكتفي بوضع رقمٍ يدلُ على ترتيب العُنصرِ، ولا حاجةَ لنقله من مكانه).. الخطوةُ السادسةُ: بناءُ المقدمةٍ والخاتمة، فالمقدمةُ القويةُ مهمَّةٌ جدًا.. حيثُ أنَّ السامِعَ في أولِ الأمرِ مُتحفزٌ للنقد ومتهيئٌ للحُكم على ما يسمع، فإذا ما بهَرهُ الخطيبُ ببراعة استهلالهِ، وروعةِ بيانه، وكانت مُقدِمَتهُ قويةً مُحكَمةَ.. فإنَّ السامعَ سيتشوقُ لمتابعة بقيةِ الموضوع، ممَّا يمكنُ الخطيبَ من الاستمرار بكلِّ ثقةٍ وثبات.. وعادةً ما تشتملُ المقدمةُ على الأركان الشرعيةِ الأربعةِ للخطبة وهي: حمدُ اللهِ والثناءِ عليه، وشهادةُ التوحيد، والصلاةُ على النبي ﷺ، والوصيةُ بتقوى اللهِ جلَّ وعلا مع آيةٍ من كتاب الله تبارك وتعالى، ومن الأفضل أن يلي ذلك مدخلٌ تشويقيٌ للموضوع، (انظر مقال: مواصفات المقدمة الجيدة وأساليب الدخول للموضوع).. وامَّا (الخاتمة) وهي آخرُ ما يُسمعُ من كلام الخطيب، فميزتها أنَّ لها الأثرُ الباقي، وأنَّها تُعطي الخطيبَ فرصةً أخرى لتعزيز ما طرحهُ من أفكارٍ رئيسيةٍ طوالَ الخطبةِ، ولذلك يُنصحُ أن تكونَ الخاتمةُ بألفاظٍ جديدةٍ بليغةٍ، تُلخِصُ العناصرَ بإيجازٍ، مع إعادةٍ مُركزةٍ وقويةٍ للتوجيهات والتوصِيات، مع الحثُ والتَّحفيزُ على تبني هذه التوجيهاتِ والعملِ بها.. وأمَّا الجزءُ الأخيرُ من الخاتمة، فيشتمِلُ على ما يُوحي بقرب النهايةِ، من وصايا مُكرَّرةٍ، وأدعيةٍ جامِعةٍ، وثناءٍ على الله بما هو اهلُهُ، وصلاةٍ على المصطفى ﷺ.. إلخ. ولبناء المقدمة والخاتمة، فعليك أن تصنعَ بوثيقة: (مقدمات وخواتيم خطبة الزكاة) التي جمعتها، ما فعلته بـ(وثيقة خطبة الزكاة) من دمجٍ وتنسيقٍ وتعديلٍ وإعادةِ صياغةِ، بحيثُ تحصلُ في النهاية على مقدمتينِ وخاتمتينِ مُناسبتينِ للموضوع، المقدمةُ الأولى للخطبة الأولى (ليكن طولها نصفَ صحفةٍ تقريبًا)، والأخرى كمقدمةٍ للخطبة الثانية، (لتكن ربعَ صفحةٍ تقريبًا)، والخاتمةُ الأولى للخطبة الأولى (لتكن ربعَ صفحةٍ تقريبًا)، والخاتمةُ الثانيةُ مع الدعاء (لتكن نصفَ صفحةٍ تقريبًا). الخطوةُ السابعةُ: افتح وثيقةً ثالثةً سمِّها بالاسم النَّهائي للخطبة مثلًا: (خطبة الزكاة)، وقُمْ بنقل المقدمةِ الأولى، ثم أنقل ثلثي النَّصوصُ والفقرات (حسبَ الترتيب الذي حدَّدته ورقمته)، ثمَّ الخاتمةُ الأولى، ثمَّ المقدمةُ الثانية، ثمَّ بقيةُ الفقرات، ثم الخاتمةُ الثانيةُ مع الدعاءِ.. ما ستحصلُ عليه هي خطبةٌ ابتدائية.. لا تزالُ بحاجةٍ إلى الكثير من التعديلات.. مثلًا قد تحتاجُ إلى تفسير بعضِ الآياتِ، وقد تحتاجُ إلى معرفة درجةِ صحةِ بعضِ الأحاديثِ أو شرحِ معناها.. وهنا عليك الرجوعُ إلى محرك البحثِ، وكتابةُ كلمةِ: (تفسير) ثمَّ الآيةُ التي ترغبُ في الحصولِ على تفسيرها.. أو كلمة (تخريج) ثم الحديثُ الذي ترغبُ في معرفة درجةِ صحتهِ.. أو كلمة: (شرح) ثمَّ نصُّ الحديثِ المرادِ معرفةُ شرحهِ.. هكذا مثلًا: تفسير ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ أو هكذا مثلًا: تخريج (الزكاة قنطرة الإسلام)، أو هكذا مثلًا: شرح حديث (ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين). الخطوةُ الثامنةُ: الاستفادةُ من الحكم والأمثال والتي جمعتها، عُد لوثيقة: (أقوال وحِكم الزكاة).. واختر (قص) منها ما يروقك، وما يصلُحُ للاستشهاد وترى أنه سيُثري الموضوع، ويزيدهُ قوةً وتميزًا.. ثم ضعهُ (لصق) في الأماكن المناسبةِ من وثيقة الخطبةِ النهائية.. الخطوةُ التاسعةُ: المراجعةُ الشاملة.. حيثُ ينبغي لك أن تُعيدَ قراءةَ الموضوعِ كاملًا ما لا يقلُ عن خمسِ مراتٍ، وذلك لتصحيح الأخطاء، وتحسينُ صياغةِ الفقرات الركيكة، ونقلِ ما يحسُنُ نقلُهُ إلى مكانٍ أنسب، واختصارِ ما يمكنُ اختصارهُ ليكونَ الطولُ الكلي للخطبتين مناسبًا، والتأكدُ من أن الانتقالِ بين الفقرات والعناصرِ يتمُّ بشكلٍ سلسٍ ومُتناغِم.. وكذلك لوضع الفواصِلِ وعلاماتِ الترقيمِ المناسبة، وتشكِيلِ ما يحتاجُ إلى تشكيل.. الخ الخطوةُ العاشرة: التنسيقُ للطباعة.. إذا لم تكن متعودًا على طريقةٍ مُعينةٍ في تنسيق طباعةِ الخطبة، فإني اقترحُ عليك التالي: من الأنسب أن يكونَ ورقُ الخطبةِ صغيرًا قدر الإمكان (نصف ورقة A4 بالعرض).. ويمكنُ فعلُ ذلك من خلال الطباعةِ بالعرض (عمودين) ثم قطعِ كُلِّ ورقةٍ لنصفين.. وذلك على النحو التالي: • اختر نوعًا من الخطوط ترتاحُ لقراءتهِ.. واختر مقاسًا للخط يُسهِّلُ عليك القراءةَ بوضوحٍ.. مثلًا: خط (ترادشينال) مقاس 22.. • تحكَّم في حجم الهوامشِ واجعلهُ صغيرًا (توفيرًا للورق).. اذهب إلى (تخطيط الصفحة) ثم إلى (هوامش مخصصة) واجعل جميعَ الهوامشِ الأربعةِ بمقاس: 2 سم • للتأكد أنَّ حجم الورقةِ هو A4.. اذهب لـ (تخطيط الصفحة) ثم (الحجم) ثم A4.. • لجعل اتجاه الورقة بالعرض.. اذهب لـ (تخطيط الصفحة) ثمَّ اختر (الاتجاه) ثمَّ اختر الخيار الثاني • لجعل عمودين في الصفحة الواحدة.. اذهب لـ (تخطيط الصفحة) ثم اختر (الأعمدة) ثمَّ اختر الخيار الثاني (اثنان).. • لجعل المسافات بين الاسطر والفقرات متساوية.. اذهب لـ (تخطيط الصفحة) ثم (تباعد) ثم اجعلها كلها قبل: وبعد: ( 0 نقطة).. • أخيرًا تأكد من شكل الوثيقة وكيف ستبدو قبل طباعتها، من خلال خيار: (معاينة قبل الطباعة).. ثم اطبع على بركة الله.. اخواني الكرام: أتمنى أن أكونَ قد قدمت لكم تجربةً نافعةً، وطريقةً سهلةً فعَّالةً لتحضير الخطبة أو غيرها من المواضيع والمقالات، وبالله التوفيق.. ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
فن اختيار الوقت في الموعظة يُشكِّل اختيارُ الوقت ومناسبته للحال عاملاً مهمًّا في نجاح الواعِظ في دروسه مِن نواحٍ عدَّة، منها: 1- اختيار الوقت المناسِب للوعْظ والإرشاد، فليس كلُّ وقت يصلح لوعْظ الناس وإرشادهم. 2- ومِن ناحية الموضوع ومناسبته للحال، فليس كلُّ ما يُعلم يُقال، ولا كلُّ ما يُقال يناسِب الحال. 3- ومِن ناحية استعداد المدعُوِّين نفسيًّا لسماع ما يُلقَى عليهم مِن دروسٍ ومواعظَ، لا بدَّ مِن مراعاة ذلك، مِن خلال التفرُّس في وجوه مَن يَحضُرون الدرس. ولهذا سنبيِّن - أولاً - منهجَ الرسول الداعي الأوَّل - صلَّى الله عليه وسلَّم - في استغلاله لعامِل الوقْت في الدعْوة إلى الله في مناسبات عِدَّة، تتعلَّق بمعاش العِباد، وأمور حياتهم ومعادهم، وما كان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتَّبعه مِن أساليبَ في إيصال الحقِّ إلى الناس، ثم نبيِّن ما على الداعي إلى الحقِّ من أساليبَ ناجحة، تُمكِّنه من أن يؤثِّر فيمن يدعوهم ويعلِّمهم، ومِن الله التوفيق والسداد. منهج الرسول في اختياره للوقت في الدعوة: ويكمن ذلك المنهج السديد في نِقاط عدَّة، منها: 1- عدم إطالة الموعِظة؛ خشيةَ الملل والسآمة: وهو ممَّا كان يحرِص عليه الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد قال ابنُ مسعود - رضي الله عنه -: "إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانَ يَتخَوَّلُنا بالموْعِظَةِ في الأيَّامِ؛ كراهِيَةَ السَّآمةِ عليْنا"[1]، ولم يكن مِن هديه إعطاءُ دروسٍ في جميع الأيام؛ ذلك لأنَّ دعوته تأخذ أشكالاً مختلفة، تارةً بالقول، وأخْرى بالسلوك والقُدوة الحسنة. 2- استغلال الحَدَث والموقِف في التعليم والتربية: فقد جاء في الحديثِ عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: "خرجْنا مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جنازة رجلٍ من الأنصار، فانتهَيْنا إلى القبر، فجلَس رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجلسْنا حوله، كأنَّ على رؤوسنا الطيرَ، وفي يدِه عُودٌ ينكت به في الأرض، فرفَع رأسه فقال: «استعيذوا بالله مِن عذاب القبر..»[2]، والموعظة عندَ القبر كان يفعلُها - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحيانًا. وجاء في حديث قدوم تجَّار البحرين، حيث رأى مِن حرْصهم، فاستغلَّ الموقف في توجيه نصيحةٍ تربوية انطوتْ على تحذيرٍ من فِتنة الدنيا، وتبشير للأمَّة بالرخاء المادي، فقال: «فأبشِروا وأمِّلوا ما يَسرُّكم، فواللهِ لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدنيا، كما بُسطِت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أَهْلكتهم»[3]. 3- إطالة الموعظة أحيانًا لطارئٍ أو حادثٍ مهم: وممَّا يدلُّ على ذلك موعظتُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أمور جِسام ستَقع في الأمَّة، حتى طالتْ موعظتُه فوقَ العادة، ففي صحيح مسلم عن عمرِو بن أخطبَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: "صلَّى بنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الفجرَ، ثم صعِد المنبر فخطَبَنا حتى صلاة الظهر، ثم نزَل فصلَّى بنا الظهر، ثم صعِد المنبر فخطَبَنا حتى صلاةِ العصر، ثم نزَل فصلَّى العصر، ثم صعِد المنبر فخطبَنا حتى المغرب، فما ترَك شيئًا مما يكون إلاَّ أخْبر به أصحابَه، حفِظَه مَن حفِظه، ونسِيَه مَن نسيه، يقول: فأعْلَمُنا أحفَظُنا"[4]. 4- تحيُّن الموعظة عندَ إقبال السامِع وفراغِه ونشاطه، وتَرْكها عند انشغالهم، فهو أدْعَى إلى القَبول: ومِن ذلك: أمرُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدعوين بالانصراف إلى أهلِهم؛ لما رأى من تشوُّقهم إليهم؛ فعن أبي سليمان مالكِ بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: "أتَيْنا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونحن شبَبَةٌ متقاربون، فأقمْنا عندَه عشرين ليلة، وكان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رحيمًا رفيقًا، فظنَّ أنَّا قد اشتقْنا أهلنا؛ فسَألْنا عمَّن تركْنا من أهلنا، فأخبرْناه، فقال: «ارْجعوا إلى أهلكم، فأقيموا فيهم، وعلِّموهم وبرُّوهم، وَصَلُّوا كذا في حين كذا، وصلُّوا كذا في حين كذا؛ فإذا حضرتِ الصلاة فليؤذِّن فيكم أحدُكم، وليؤمَّكم أكبرُكم»[5] 5- مناسبة المقال لمقتضَى الحال: فقد كانت مواعِظُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - واختياره الأمثل لمقتضَى الحال، مما له أبلغُ الأثر في المدعوِّين في حالة الفَرَح أو الحزن وغيرها مِن الأحوال في عامَّة مواعظِه وإرْشاده - صلَّى الله عليه وسلَّم. 6- توجيه الأنظار للتدبُّر والتفكُّر: كان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستغلُّ عامِل الوقت والزمن؛ لأجْل صرْف العقول للتدبُّر في خلْق الله، وعجائب قدرته، مثْل وقت كسوف الشمس، وخسوف القمر وهبوب الرِّياح، فقد قال عندما وقَع الكسوف: «إنَّ الشمس والقمر آيتان مِن آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يُخوِّف بها عباده»[6]. 7- أوقات إقبال القلْب على ربِّه أدْعى لقَبول النُّصح والإرشاد، خاصَّة بعد صلاة الفجْر، وفي الحديث عن أبي نَجيح العِرْباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظَنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - موعظةً بليغة، وجلتْ منها القلوب، وذرفَتْ منها العيون، فقلنا: يا رسولَ الله، كأنَّها موعظة مودِّع، فأوصِنا، قال: «أُوصيكم بتقوى الله، والسَّمْع والطاعة، وإنْ تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي، وإنَّه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمور، فإنَّ كل بدعة ضلالة»[7]، وكان ذلك بعدَ صلاة الفجْر، وهو وقتٌ تكون فيه النفوس بعيدةً عن الشواغِل والملهيات. 8- الترغيب في العمل الصالِح في أوقات ومناسَبات معروفة؛ مثل: صيام يوم عاشوراء ورمضان، وشوَّال وذي الحجَّة، وصلاة الاستسقاء، وما يناسِب تلك الحال مِن موعظة وإرشاد. 9- الحثّ على التوبة في وقْت الاحتضار: وهي لحظةُ انتقال الإنسان إلى عالَم جديد، يتقرَّر فيه مصيرُه؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان غلامٌ يهوديٌّ يخدُم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمَرِض، فأتاه يعوده، فقعَد عند رأسه، فقال له: «أسْلِم»، فنَظَر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطِعْ أبا القاسم، فأسلَمَ، فخرج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يقول: «الحمد لله الذي أنْقذَه مِن النار»[8]. لقد حقَّقت دعوة الرسول الكريم انقلابًا عجيبًا في كيان الإنسان، بفضْل ما كان يمتلكه من وسائلَ فعَّالة ناجحة في الدعْوة إلى الله، فقد تحوَّل ذلك الإنسانُ مِن محبٍّ عاشِق للدنيا يموت ويحَيا مِن أجلها، لا يُفكِّر أبعد مِن شهوته وبطنه، إلى إنسانٍ يفكِّر ويجول نظره في الكون الفسيح، إلى ما وراء ذلك مِن الشوق إلى نعيمِ الآخِرة ولذَّتها، يحمل هَمَّ الدعوة والجهاد في سبيل الله، وإخراج مَن حوْله مِن البشر مِن ظُلم العباد إلى عدْل الإسلام ومساواته، ومِن عبادة الحجَرِ والبشر إلى عبادة الديَّان الذي لا يموت. وما في قصص الصحابة الأوائل مما عجَز التاريخُ عن تفسيره، إلا بفِعْل الإيمان والتربية الحقَّة التي تلقَّوْها من المربِّي الأول، والمعلِّم الكريم محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم. ما ينبغي على الداعي مراعاته: ينبغي على الداعي أن يُراعيَ عامِلَ الوقت؛ حتى يكونَ ناجحًا في مواعظه، وإلا ملَّتْه النفوسُ، وسَئِمت مِن سماعه، ومن ذلك: أولاً: ليس كلُّ وقت يصلُح لوعْظ الناس وإرشادهم، فليس مِن الحِكمة - مثلاً - موعظةُ الناس بعْد صلاة الظهر، وهو وقتُ انشغال الناس بأعمالهم وأمور معاشِهم، أو وقت انصرافِ الناس إلى نومِهم وراحتهم في اللَّيْل، وهو مِن أخطاء بعض الوعَّاظ، يُريد أن يُلْقي مواعظَه دون إعطاء أهميَّة لحالِ مَن يدعوهم، وكأنَّه لا يخاطِب بشَرًا، لهم مشاعِرُ وأحاسيس. ثانيًا: مناسبة الموعظة للحال، والبعض منهم يُلقي دروسًا في الصبر على البلاء، والفِتن الواقعة في الأمَّة، وتحمُّل المصائب والنكبات في يومِ فرَح الناس وأعراسهم، حتى يُحوِّل الفرح إلى عزاء ومصيبة، ومِن الحكمة استغلالُ تلك المناسبة في موعِظة عن الشُّكر، وبيان هَدْي الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الأعراس والمناسبات. ثالثًا: على الداعي أن يتفرَّسَ في وجوه الحاضرين، ومدَى استعدادهم لتلقِّي ما يُقال لهم، فالموعظةُ الغرضُ منها هو أن يستفيدَ الحاضرون، والبعضُ من الوعَّاظ يرى تملْمُلَ الناس من درْسه وترْكهم لمجلسه، ومع ذلك تراه يستمرُّ في درسه ووعْظه، ويطيل الكلام ويُكرِّر الموعظة، وكأنه يطلب إعادةَ الثقة به، وهذا له نتائجُ عكسية تمامًا، وقد كان مِن هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه يُحدِّث بالحديث لو عدَّه العادُّ لأحصاه؛ لذا فمِن الحكمة قطعُ الموعظة إن لم يكن فيها مرغِّب أو مشوق آخر. رابعًا: عدم توفُّر الوقت الملائم لإلْقاء الموعظة، وليس مِن الضروري إلْقاء الموعظة وكأنَّها حِمْل على كاهله يريد التخلُّص منه، بل الموعظة دُررٌ وفوائدُ أثمنُ مِن المال، لا بدَّ من تحيُّنِ فرصة مناسبة؛ ليُنتفعَ منها، وتقعَ موقعها في النفوس، فتدعوهم للعمل الصالح، وترْك ما أَلِفوه من المنكرات، ويحصُل ذلك عندما يتهيَّأ الداعي إلى إلْقاء موعظته، فيحدُث أمرٌ مفاجئ؛ لذا عليه أن يدَّخِر الموعظة لوقتٍ مناسب آخر. خامسًا: خيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ: إنَّ إطالة المواعِظ لتتعدَّى أحيانًا ساعة وأكثر، هي مشكلةُ بعض الوعَّاظ، وليعلمْ هؤلاء أنَّ طاقة ذهْن الإنسان محدودةٌ لا يمكن في العادة أن تتابعَ الكلام بتركيز وانتباه لأكثرَ مِن رُبع ساعة، وبعدَها يُصاب الذِّهن بالشرود والتعب؛ ولهذا مِن الأفْضل على الواعظ أن يتَّخذ بعضَ التدابير، مثل: تدوين رؤوس الدرس والخطوط العامَّة منه في ورقة صغيرة؛ لئلاَّ يتحرَّج فيخلط في الكلام، أو يستطرد في أمْر لا علاقة له بصُلب الموضوع، كما يُشاهَد على بعض القنوات الفضائية مِن مواعظَ تتجاوز مدتها الزمنية السَّاعة والساعتين. ومِن الأخطاء أيضًا في هذا الجانب أنَّ بعض الوعَّاظ يضع له مواعظَ مُقسَّمة على الأيام والشهور، وكأنَّها قوالِب لوضع المستمعين والمدعوين فيها، وهو خطأٌ منهجي في الدعوة، والمنهجُ السليم أن تكون الموعظةُ مما يتلاءَم مع حال المدعوين، فينظر الداعي أيَّ مرَض أو آفة اجتماعية تغلُب على قومِه أو مجتمعه، فيتحدَّث فيها، ويُحذِّر منها، وقد قيل في تعريف الحِكمة هي: فِعْل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.[9] إلقاء الدرس قبْلَ وبعْد صلاة الجمعة: سُئِل عن ذلك فضيلةُ العلاَّمة الألْباني، فأجاب - رحمه الله تعالى -: "الذي نعتقِده ونَدين الله به أنَّ هذه العادة التي سَرَت في بعض البلاد العربية، وهي: أن ينتصبَ أحدُ المدرِّسين أو الخُطباء ليلقيَ درسًا، أو كلمةً، أو موعظةً، قبل أذان الجمعة بنِصْف ساعة أو ساعة من الزَّمان، هذا لم يكن مِن عمل السلف الصالح - رضي الله عنهم - هذا مِن جهة. ومِن جهة أخرى، فمن المعلوم لدَى علماء المسلمين قاطبةً أنَّ هناك أحاديثَ صحيحةً تأمُر المسلمين بالتبكير للحضور إلى المسْجد الجامع يومَ الجمعة، كمثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: «مَن راح في الساعة الأولى فكأنَّما قرَّب بَدنةً، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنَّما قَرَّب بقَرةً...، وهكذا حتى ذكَر الكبش والدجاجة والبيضة»، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ حَضَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسلمين على التبكير في الرواح يومَ الجمعة إلى المسجد الجامع ليس هو لسماعِ الدَّرْس وإلْقائه، وإنَّما هو للتفرُّغِ في هذا اليوم لعبادة الله - عزَّ وجلَّ - ولذِكْـره، وتلاوة كتابه، وبخاصَّة منه سورة الكـهف، والجلوس للصـلاة على النبـيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تحقيقًا لقوله في الحديث الصحيح، والمروي في السُّنن وغيرها ألاَ وهو قوله - عليه السلام -: «أكْثِروا عليَّ مِن الصلاة يومَ الجمعة؛ فإنَّ صلاتَكم تبلُغني»، قالوا: كيف ذلك وقد أَرِمْت؟! قال: «إنَّ الله حَرَّم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء.....». أما بعْدَ الصلاة، فقد قال - رحمه الله تعالى -: "إنْ كان أحدٌ يريد أن يُدرِّس فبعْدَ الصلاة؛ حيث يتفرَّغ الناس لسماع مَن شاء منهم، ومَن شاء القضاء، أمَّا أن ينتصبَ المدرس قبلَ صلاة الجمعة فيَفْرِض نفسه على الناس فرضًا، وفيهم المصلِّي والتالي والذاكر، فهذا هو الإيذاءُ للمؤمنين، فلا يجوز"[10]. أمثلة على ما مَرَّ: الأمثلة في هذا الباب كثيرة، وعلى الداعي أنْ يتعود تدبر سيرة المصطفى والأحوال والظروف التي مر بها[11]، وهديه في موعظة الناس وإرشادهم؛ ليكون على بصيرة من دعوته. ثم الاستفادة من تجارب الآخرين؛ ليضيف إلى رصيده في الدعوة إلى الله، وهذه أمثلة عامة تناسب أحوال عامة: 1- في بداية شهر رمضان يناسب إلقاء موعظة عن أحكام الشهر الفضيل، وما يَجوز وما ينبغي تجنبه، وفي شهر ذي الحجة ما يتعلق بأحكام الحج وأركانه، والترغيب فيه، وفي ليلة العيد - الأضحى والفطر - ما ينبغي فعله للمسلم من سنن وأعمال صالحة من صِلَةِ رحم وغير ذلك، مع تقديم الدروس مقرونة بالترغيب والترهيب، وفي ليلة الجمعة ما ينبغي على المسلم عمله للحصول على أجر وثواب الجمعة. 2- يناسب في أيام الأفراح والأعراس التحدُّث عن الترغيب في الزواج، وبيان فضائله، وشكر نعمة الله على نعمة العِفَّة والإحصان، وفضل إدخال السُّرور على قلب المسلم، والصلح بين الإخوان. 3- في يوم العزاء وفَقْد الأحبة الحث على الصبر، وتحمُّل المصائب، وثواب الصابرين، وما يترتب عليه من أجر وأهمية الإيمان بالقدر والقضاء، وأن الموت يَجري على كل نفس، وبيان عظم الجزاء للصابرين، والحذر من الجزع والتسخط، وأنَّه لا يأتي بنتيجة، بل يستوجب غضب الله ومقته، وبيان أهمية مواساة المسلم في المصيبة. 4- في وقت حدوث نزاع أو قتال أهمية الصلح بين المسلمين، وأنَّه أفضل درجة من الصيام والقيام، وأن الساعي إليه من أفضل عباد الله، وأن المسلمين إخوة متحابون، وأن الساعي للفتنة من شر عباد الله، وخاصَّة الفتنة بين الزوجين والأحبة، والتفريق بينهما، وأنه من أقرب الناس للشيطان. 5- في وقت احتلال بلاد الإسلام، وانتهاك دياره وحرماته، وسلب خيراته - الحث على الجهاد - النفس والعدو - وأنَّه عز المسلمين وسبب لنصرهم، وأنَّ التخاذُل يوجب تسلط الأعداء، والواجب على كل مسلم إعانة المجاهدين، ولو بالكلمة، وأن من لم يحدث بالغزو مات ميتة جاهلية، ويتم ذلك وَفْقَ مشورة أهل العلم والرأي الصائب؛ كي تؤتي ثمارها. 6- في وقت انشغال الناس بالدنيا وملذاتها، وغفلتهم عن معاني الآخرة وأهوالها، والاستعداد لها - التذكير بأحوال الموتى، وما يلاقيه كل من المؤمن والكافر من نعيم أو عذاب في القبر، وربطه بمعاني التوحيد والعقيدة الإسلامية، وما بعد الموت من نعيم مقيم أو عذاب أليم، والحساب على الصغيرة والكبيرة وَفْقَ ميزانٍ دقيق لا يظلم فيه أحد من عباد الله، والاستشهاد الجيد بالآيات، والأحاديث، والتنوع ما بين حديث وآية وشعر، وقول مأثور، وحكمة جليلة. 7- في وقت وقوع الزلازل والكوارث، ووقوع القتل والفتن، وتكالب الأعداء - الحث على الاعتصام بحبل الله والتوبة، والخروج من المظالم، والتضرع إلى الله، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ما يقع هو بسبب ذنوب بني آدم وفسادهم، والواجب على كل مسلم التوبة والرُّجوع وعدم التسويف، بل المبادرة والإقلاع عن المعاصي. 8- في وقت الحاجة والفقر، وانتشار العوز في بلاد الإسلام - الحث على الإنفاق في سبيل الله، وأنَّ المال هو وديعة بيد المسلم، وأنَّ الواجب تقديمُ الدعم المادي لإخوة الإسلام في أيِّ مكان مهما اختلفت أشكالُهم وألوانهم، وكذا في وقت نشر الأفكار الهدَّامة ودعمها من قبل المؤسسات الغربية، وغيرها، الواجب تذكير الأمة بأهمية التصدي للباطل، إما بالكلمة أو بالمال؛ لئلا يستشري الباطل، وتضل الأمة عن الطريق القويم، وأنَّ من لم يقم بواجبه فلا يَلومَنَّ إلا نفسه. 9- في وقت خروج الفئات الباغية على شرع الله، ومنازعة أولي الأمر، وقيامهم بأعمال تضر بالمجتمع المسلم من قتل للأبرياء، وسَفْكٍ للدماء - الواجب التحذير منهم ومن أفعالهم، وبيان ما يعتقدونه من أفكار باطلة، وأنه الواجب طاعة أولي الأمر؛ لئلا ينفلت وتكون فوضى في بلاد الإسلام؛ مما يوجب العبث، وتسلُّط الكفرة على ديار المسلمين، ومثله التصدي لأفكار من ينتسب إلى الإسلام في الظاهر وهو يُخالفه في الاعتقاد كالرافضة، فالواجب بيان عقائدهم وضلالهم، وأنَّهم يستعملون التقيَّة في نشر الباطل، فالواجب الاعتصام بين المسلمين، والتصدي لترويج باطلهم وإفكهم. 10- في وقت يرى فيه الداعية أنَّ المسلمين قد هجروا كتاب ربهم، وتدبر آياته، والعمل به - لا بُدَّ من بيان فضل تلاوته، وأنَّه حبل الله المتين، ونجاة المسلم في الدنيا والآخرة، وأنَّه يشفع لقارئه، وأنَّ هجرانه يعني ظلام القلوب والبيوت، والبُعد عن رحمة الله، وبيان فضائله من الآيات والأحاديث، وهذا مِمَّا ينبغي التذكير به في كل مناسبة. جامع ينبغي التذكير به دومًا: ينبغي ربط كل موعظة وإرشاد بالأصل العظيم، وهو طاعة الله وطاعة رسوله، وأن نجاة المسلمين وسعادتهم في كل زمان ومكان تكمُن في تحقيق هذين الأمرين، وأي موعظة تخلو من التذكير بهذا الأصل القويم سيكون تأثيرها مؤقتًا، وتصل الموعظة إلى القلوب هامدة ميتة؛ ولهذا ينبغي التذكير بالهدف والغاية التي خلق من أجلها الخلق، ألاَ وهي عبادة الله وحدَه لا شريك له والعمل على مرضاته، وطاعة رسوله الكريم، والتطلع إلى ما عند الملك الكريم من الجزاء العاجل في الدنيا من الاطمئنان، والسعادة الحَقَّة وفي الأجل من الفوز بنعيم الجنة، وما أعَدَّ الله لأهلها من الكرامة والنعيم المقيم، وقد أخبر الله أنَّ أهلَ طاعة الله وطاعة الرسول هُم من أهل الرحمة؛ قال - تعالى -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، وفي الدار الآخرة أخبر بما أعده للمؤمنين والمؤمنات من الخيرات، والنعيم المقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدًا، فقال - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72]. وصَلَّى الله على محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين. ـــــــــــــــ [1] "صحيح البخاري"، (يتخول): يتعاهد، (السآمة): الملل والضجر. [2] أخرجه أبو داود وغيره مطوَّلاً ومختصرًا من حديث البراء - رضي الله عنه. وللأخ بلقسام عبدالدائم بحثٌ حول الموعظة عند القبر، وقد خلص إلى ما أشرْنا إليه، تجده على موقِع أهل الحديث. [3] حديث صحيح أخرجه الشيخان. [4] رواه مسلم ح (2892). [5] أخرجه البخاري (5661). [6] متفق عليه. [7] العرباض بن سارية في سنن الترمذي - رقم (2676)، وهو حسن صحيح. [8] الحديث رواه البخاري في صحيحه، وفي رواية للبيهقي: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)). [9] مدارج السالكين (2/479). [10] من كتاب "الأنباء بأخطاء الخطباء" (ص: 60 - 78) بقلم سعود بن ملوح سلطان العنزي، قدَّم له الشيخ سُلَيم بن عيد الهلالي. [11] كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد"، لابن القيم، وكتاب "الرحيق المختوم" بحث في السيرة النبوية من أفضل الكتب التي تفيد الواعظ، وتجعله مهتديًا مقتديًا بسنة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم. __________________________________________________ ____ الكاتب: مرشد الحيالي |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
مواصفات التعبير الخطابي الجيد.. الشيخ عبدالله محمد الطوالة يقصد بالتعبير الخطابي: طرق وأساليب الإنشاء والبيان التي يستخدمها الخطيب في بناء خطبته، فما مواصفات التعبير الخطابي الجيد؟ بداية، فالأسلوب الخطابي يعتمد في استمالة الجمهور على أمرين: الإقناع، والإثارة. فـ(الإقناع): مخاطبة العقل من خلال الشواهد والأدلة، والبراهين العقلية والمنطقية. و(الإثارة): هي تحريك العواطف والمشاعر وتحفيز الهمم، والنهوض بالعزائم، وذلك بالبيان القوي والأسلوب البليغ. والخطابة هي مزيج من النوعين، يستهدف إقناع العقل وإثارة العاطفة، لينفذ منهما إلى الإرادة؛ فيدفع بها نحو تغيير السلوك إلى الأفضل والأكمل (أخذًا أو تركًا). وفيما يتعلق بالمدخل الأول: الإقناع، فالمقصود به استخدام الأدلة والشواهد والبراهين الممكنة؛ لتغيير موقف السامعين تجاه أمر ما، وله طرق وأساليب متنوعة، كما أن هناك أنواعًا مختلفةً من الشواهد والأدلة والبراهين؛ ومنها: الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وآثار وأخبار السلف الصالح، والإجماع والقياس، والمقارنات، والعرف والعادات والذوق العام، والبراهين العقلية والمنطقية، والمصالح المرسلة، والقصص والحكم، والأمثال والأشعار، والإحصائيات، والأبحاث والدراسات، وأقوال المتخصصين والخبراء، وغيرها. وأما أساليب الإقناع والمنطق، فكثيرة؛ ومنها: الاستدلال المباشر (بالآية أو الحديث أو غيرهما)، وبيان الحكمة والعلة، والبرهان العقلي والمنطقي، والمقابلة والمقارنة، والقياس والتشبيه، والتفنيد وإزالة الشبهة، وغيرها من أساليب الإقناع. وعلى الخطيب أن يدعم عناصره ويؤيدها بما يكفي من الأدلة والشواهد والبراهين، ولْيحرِصْ أن تكون هذه الأدلة والشواهد هي: 1 - الأنسب للموضوع وأهدافه. 2- الأقوى من حيث الدلالة والصحة. 3 - الأقرب والأسهل للفهم والاستيعاب من قِبل السامعين. 4 - التنويع قدر الإمكان. وفيما يتعلق بأساليب الإثارة والبيان: فهي الأساليب البلاغية التي تجعل الكلام سهلًا واضحًا، وفي نفس الوقت قويًّا مؤثرًا، يهز الوجدان، ويحرك المشاعر، وإن من البيان لَسحرًا. والكلام البليغ: هو الكلام الذي بلغ الغاية والروعة في التعبير عن المراد، وجمع بين اللفظ الفصيح، والمعنى المليح. إنه مزيج من المعاني التصويرية الجامعة، والألفاظ الجميلة الرائعة، يُركَّب في قالب بياني محبوك من الأساليب البديعية الماتعة، بعيدًا عن التكلف والأخطاء اللغوية الشائعة. أما أهم مواصفات التعبير الخطابي الجيد، فكما يلي: 1- الوضوح: فيحرص الخطيب على أن يكون كلامه واضحًا سهلَ الفهم من أول مرة، فمستمع الخطبة ليس له إلا فرصة واحدة لسماع الكلام، ولا يمكنه طلب الإعادة ليفهم ما غمض عليه؛ ولذا فعلى الخطيب أن يختار الكلمات الواضحة، والتعابير السهلة المباشرة التي لا تحتمل إلا معنًى واحدًا، وإلا كان سببًا في أن يفقد المستمع تركيزه وانتباهه؛ بسبب غموض بعض كلامه. وليس المقصود أن يكون المعنى مبتذلًا سطحيًّا ركيكًا، بل المقصود ألَّا يكون المعنى صعبًا مبهمًا يَحارُ السامع في فهمه وتفسيره. 2- سهولة النطق: أي: كَون ألفاظ وتراكيب الخطبة سلسلة النطق، متناغمة الحروف، واضحة المخارج، مستعذبة في السمع، فبعض الكلمات قد يصعب نطقها، وذلك حين يتجاور حرفان لهما نفس المخرج، فقد تتداخل الحروف، وقد يتغير النطق الصحيح، مما قد يسبب حرجًا للخطيب أثناء الإلقاء، كما أن مثل هذه الكلمات والتعابير الصعبة يثقل وقعها على السامع، ولا تستسيغها أذنه، وتنفر منها نفسه؛ ولذا ينبغي على الخطيب أن يتجنبها. 3- قِصر الجمل والتراكيب: فالتعبير الخطابي يتميز بقصر الجمل والعبارات؛ حيث إنها أسهل في الفهم والاستيعاب من قِبل المستمعين، وهي كذلك أسهل على الخطيب في الإلقاء، كما أنها تعطيه الفرصة الكافية للتحكم في طريقة الإلقاء، وتطبيق ما يريد من مهارات التلوين الصوتي، وزيادة النبرة، دون أن يشعر بالإجهاد أو انقطاع النفس، بعكس الجمل الطويلة التي تستهلك نفسه وتجهده، ولا تمكنه من تلوين صوته بالشكل الفعَّال، كما أن الجمل القصيرة عادةً ما تكون أكثر بلاغةً، وأقوى تعبيرًا من الجمل الطويلة؛ ومن أقوال العرب المشهورة: البلاغة الإيجاز. 4- تناسب الألفاظ والتراكيب مع نوعية الموضوع: فاللغة العربية تمتاز بكثرة المترادفات، وهي الكلمات المختلفة حروفًا المتشابهة معنًى، فعلى الخطيب أن يحسن اختيار ألفاظه وتراكيبه اللغوية بما يتناسب مع نوعية موضوعه جزالةً وفخامةً، أو رقةً وعذوبةً، والمقصود أنه كما يعتني الخطيب باختيار المعنى والفكرة المناسبة، فكذلك عليه أن يعتني باللفظ والتركيب المناسب لنوعية الموضوع الذي يعالجه، فالمواضيع الحماسية كالمعارك والرد على الأعداء، وأهوال القيامة، ونحوها - ينتقي لها الألفاظ الفخمة الضخمة، القوية في معناها، الجزلة في مبناها، فلو كان الموضوع عن الجهاد مثلًا، فستكون الألفاظ على النحو الآتي: النقع، الوطيس، صلصلة، حمحمة، الكماة، القراع، الكر والفر؛ إلخ، وعند المواضيع الهادئة كالرحمة والمحبة، والجنة والتوبة، ونحوها يختار الألفاظ الشائقة الرائقة، ذات الإيقاع المشرق الرقيق، فلو كان الحديث عن الإيمان مثلًا، فستكون الكلمات على النحو الآتي: حلاوة، طلاوة، بُحْبُوحة، الأنس، نفحات، نسائم؛ إلخ، وهكذا، وعلى هذا يُقاس، فللفرح إيقاع، وللحزن إيقاع، وللترغيب إيقاع، وللترغيب إيقاع، والخلاصة أنَّ لاختيار الألفاظ المناسبة (حسب نوع السياق) دورًا مهمًّا في زيادة قوة المعنى، وروعة التأثير أثناء الإلقاء؛ فتأمل. 5- تنوع الأساليب البيانية والبلاغية: فالأساليب البيانية والبلاغية في اللغة العربية كثيرة ومتنوعة جدًّا، ومن سمات الخطبة الناجحة أن يتلون أسلوب بيانها، وأن تتنوع ضروب التعبير فيها، فمن آية إلى حديث، ومن أثر إلى خبر، ومن قصة إلى حوار، ومن نداء إلى تكرار، ومن قَسَم إلى استنكار، ومن أمر إلى نهي، ومن تعجب إلى استفهام، ومن تشبيه إلى كناية، ومن مجاز إلى استعارة، ومن جناس إلى طباق، ومن سجع إلى تورية، إلى غير ذلك من أساليب البلاغة والبيان، فعلى الخطيب أن يحسن توظيف هذه الأساليب ليجعل السامعين ينجذبون لسماعه، ويستمتعون بروعة بيانه. يقول الشيخ عايض القرني: "الخطيب الملهم يكتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير، ويرسم في العقول صورًا من براعة التعبير، ويبني في النفوس صروحًا من روائع التصوير"، إلى أن يقول: "لأن الخطيب يُقبِل ومعه الآية الآمرة، والموعظة الزاجرة، والقصة النادرة، والحجة الباهرة، والقافية الساحرة، فتعيش معه في دنيا من الصور والألوان، وفي عالم من المشاهد والبيان، كأنك في إيوان أو بستان أو ديوان"؛ [انتهى]. وإذا أراد الخطيب أن يرتقي بأسلوب بيانه، ويقوي تعبير خطابه، فعليه أن يهتم كثيرًا بالأساليب البيانية والبلاغية، والمحسنات البديعية، وذلك بإدمان المطالعة في كتب البلاغة والأدب، ومتابعة كل ما يمتُّ لذلك بصلة أو نسب، ككتب السير والقصص والخطب، وعليه بكثرة المران والتدرب الجاد، كتابةً وتأليفًا، وقراءةً وتحديثًا. نسأل الله أن يجعل كل أعمالنا صالحة، وأن يجعلها لوجهه الكريم خالصة، وألَّا يجعل لأحد غيره فيها شيئًا؛ ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182]. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
نصائح مهمة لتحسين الأسلوب الكتابي والخطابي الشيخ عبدالله محمد الطوالة الحمد لله كثيرًا، والصلاة والسلام على المبعوث بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا؛ أما بعد: فإن الكتابةَ هي فنُّ صياغةِ الأفكارِ في قالبٍ أدبيٍّ مُقنعٍ ومُمتع.. ويمكنُ تعريفُها على أنها: سلسلةٌ من الإجراءات والمراحلِ التي يتمُّ تنفِيذها لإنتاج نصٍّ أو مقالٍ يُلبي أهدافَ الكاتبِ ويحقِّقُ تطلعاته، ولتحقيق ذلك لا بدَّ للكاتب أن يمتلك مجموعةٍ من المهارات الخاصةِ بمجال الكتابة.. والمهاراتِ عمومًا أشبهُ بعضلات الجسم، تتحسنُ وتتطورُ كثيرًا إذا ما دُربت بشكلٍ صحيح. وفيما يلي مجموعةٌ من النَّصائح المُهمَّة في هذا المجال: 1- بدايةً فإنَّ مِشوارَ الكتابةِ طويلٌ، ويحتاجُ إلى الكثير من التَّدريب والممارسةِ، ولفتراتٍ طويلةٍ؛ فلا بدَّ من التَّحلِّي بالصبر والمجاهدةِ. أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومُدمِنُ القرعِ للأبواب أن يلجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif 2- تذكر أنَّ الأمورَ في بدايتها عادةً ما تكونُ صعبةً بعض الشيءِ، لكنها مع مرورِ الوقتِ تصبِحُ أسهلَ وأسهل. وتذكر أنَّ كل من جدَّ وجد، ومن ثبتَ نبت، ومن صبرَ ظفر، وأنَّ كلَّ من سارَ على الدربِ وصل. 3- النَّجاحُ في أي فنٍّ يرتكزُ على أمرين: (معلومات) لا بدَّ من تعلُّمِها وفهمِها، و(مهارات) لا بدَّ من التَّدرُّب الجادِّ والمنظَّم عليها. وكلَّما ازدادَ الكاتبُ أو الخطيبُ اطلاعًا وثقافةً، واجتهدَ في المران والتَّدرُّبِ على مهارات الصِّياغةِ والبلاغةِ، انعكسَ ذلك على موهبته فارتقت، وعلى بلاغته فتحسنت، وعلى سلوبه فتطور. 4- اصنع لنفسك جوًا خاصًا يُساعدك على الابداع في الكتابة؛ هيئ مكانًا خاصًا للكتابة، واحرص أن يكونَ مكانًا هادئًا مُريحًا للجسم والنَّفسِ، جيدَ الإضاءةِ والتَّهويةِ، خاليًا من عوامِلِ التَّشتُتِ وصرف التركيز.. واختر لنفسك أنسبَ الأوقات، حيثُ يكون الجسمُ نشيطًا، والذهنُ صافيًا، والشواغلُ قليلة. 5- أسس (عادةٍ يوميةٍ ثابتة) لممارسة مهارات (القراءة، الكتابة، الالقاء)، فهذا من أقوى الأساليب لتحقيق النجاحِ والتَّميز.. وحقيقةً لو أصبحَ عندك عادةٌ ثابتةٌ تمارسُ من خلالها هذه المهاراتِ، فقد قطعتَ بالفعل أكثرَ من نصف الطريق، وليس شرطًا أن تكتبَ كثيرًا، المهمُّ ألا تتوقفَ عن الكتابة؛ على سبيل المثال: أن تكتبَ كُلَّ يومٍ لمدة نصفِ ساعةٍ، هذا أفضلُ بكثير من أن تكتبَ لمدة 5 ساعاتٍ مرةً في الأسبوع.. فالقيامُ بأعمالٍ صغيرةٍ تتكررُ بشكلٍ مُستمرٍ (عادة) يؤدي إلى تراكُم النتائجِ بشكلٍ أفضل.. فإنَّما السيلُ اجتماعَ النُّقط. 6- إذا كانت أفضلَ طريقةٌ لتعلم السباحةِ هي أن تُلقى بنفسك وسطَ الماءِ وتسبح.. فقد يكونُ الأمرُ شبيهًا لمن يتعلمُ مهاراتِ الكتابةِ والخطابة.. فاكتسابُ الفصاحةِ والبلاغةِ وتحسينِ الأسلوبِ الكتابي إنما يكونُ بالتعلُّم والتَّكلُّفِ والممارسةِ العمليةِ لأساليبه وفنونهِ. وقد قالوا - عن أحد الشعراء المميزين -: ما زالَ يهذي حتى قالَ شعرًا. وقالوا في إتقان التَّجويد: وليسَ بين أخذهِ وتركهِ إلا رياضةُ أمرئٍ بفكه. 7- الكُتّابُ الجيّدون هم أيضًا قرّاءٌ جيّدون، والقراءةُ الكثيرةُ والمستمرةُ والمتنوعةُ، هي أهمُّ وأكبرُ نصيحةٍ أجمَعَ عليها خُبراءُ الكتابةِ؛ فعوِّد نفسك على القراءة بشكلٍ يومي، ووسِّع آفاقك من خلال القراءةِ المتنوعةِ، واطَّلع على مُختلفِ الأساليبِ الأدبية، سواءً تلك التي تُعجِبك، أو التي لا تُعجِبك، فذلك سيعملُ على تحفيز عقلِك لاستقبال مُختلفِ الكلماتِ الجديدة وبناءِ قاموسٍ لُغويٍ ثريٍ وقوي، مع ضرورةِ الاستمرارِ في الكتابة. 8- احرص على قراءة الكتبِ السهلةِ ذاتِ الأسلوبِ الواضحِ، فهذا سينعكسُ على أسلوبك ولا شك؛ ككتب الطنطاوي، والمنفلوطي، ومحمود شاكر.. الخ. 9- فتش عن الكنوز وابحث عن الدرر، وليكن برفقتك دائِمًا مُفكرة صغيرة (أو كروت تسجيل)، لتسجل بها ما يروقك من العبارات الحسنة، والأقوالِ الجميلة، والحِكمِ البليغة، والأبياتِ الرائعة، ثم قم بتصنيفها في ملفاتٍ مناسبة.. وليكن لك هدفٌ (مستقبلي) أن تصنعَ منها مرجعًا أدبيًا خاصًا تجمعهُ على مَهْلٍ، ثم تعودُ إليه المرةَ بعد المرة.. حتى توشك أن تحفظهُ من كثرةِ مُطالعتهِ. 10- تذكر أنَّ الكلامَ لا يستحقُ أن يكونَ بليغًا حتى يبلغَ الغايةَ والروعةَ في التعبير عن المراد، وحتى يجمَعَ بين اللفظِ الفصيحِ والمعنى المليح، وحتى يتناسقَ لفظهُ مع معناه، ومعناهُ مع لفظه، وينهضَ كُلٌّ منهما بالآخر. 11- عندما يستوقِفُكَ نصٌ ما لبلاغته، فحاول أن تُحلّلهُ لتعرِفَ مصدرَ روعتهِ.. ركِّز على أسلوب الصياغةِ، ونوعيةِ الكلماتِ، وتماسُكِ العِباراتِ، وجمالِ التَّصويرِ، وقوةِ التشبيهِ، وتناسُقِ الالفاظِ مع المعاني، وكميةِ المشاعِر، وحلاوةِ النَّبرةِ والجرْسِ.. ثمَّ حاول أن تُقلِّدهُ، وأن تُعيدُ صياغتهُ بطريقتك الخاصَّةِ، ثم قارن ما فعلتهُ مع الصِّيغةِ الأصليةِ. 12- عندما تبدأُ بكتابة موضوعٍ جديدٍ، فلا تُلزِم نفسكَ بأن تبدأ بشيءٍ ذا قيمةٍ، فهذا سوف يُقيدك ويجعلُك تأخذُ وقتًا طويلًا في التفكير، وإنما قم بتسجيل كُلّ ما يخطرُ على بالك من أفكارٍ ومعانٍ على الورقة.. ومع الوقت ستصبحُ أفكارك أكثرَ عمقًا، وعباراتُك أدق وصفًا، وصياغتك أبلغ أسلوبًا. 13- حاول أن تجعلَ أسلوبَ المحادثةِ هو الأسلوبُ الغالبُ على كتاباتك؛ فجمهورُ القراءِ يفضلونَ أن توجهِ لهم الحديثَ مُباشرةً وأن تتحاورَ معهم، وأن تجعلَ كلَّ فردٍ منهم يشعرُ أنَّ هذه الرسالةِ من أجله، وموجهةً خصيصًا له. 14- واظب على تمرين الكتابةِ الحرةِ لتدفق الأفكارِ؛ وطريقتهُ كالتالي: جهز ورقةً وقلمًا.. اختر موضوعًا مُعينًا (أي موضوع)، اضبط المؤقتَ لـ(10 د) ثم ابدأ الكتابة دون توقف.. اكتب كُلَّ ما يخطرُ على بالك حولَ الموضوعِ، ولا تهتمَ لأيِّ شيءٍ آخرَ.. فقط ركِّز على الكتابة بأكبر سُرعةٍ ممكنةٍ قبل أن ينقضي الوقت. 15- تقبّل الفشلَ ولو تكرَّر: وإن كُنتَ تعتقد أنَّ مشاهيرَ الكُتَّابِ لم يُعانوا من الفشل فغيِّر رأيك؛ فغالبًا ما تنتهي المحاولات الكتابية الأولى بفشلٍ ذريعٍ.. فلا داعيَ لأن تشعُرَ بالإحباط. 16- اتركَ فاصلًا زمنيًا بينك وبين النَّص.. فبمجرد أن تنتهي من كتابة المسودةِ الأولى أبعد نفسك عنه قليلًا بحيث تنسى بعض تفاصيله، وبالتالي تكون إعادتك لقراءته أشبَه بما يدورُ في عقل القارئ.. فتستطيعُ من خلال ذلك اكتشاف الكثيرِ من الأخطاء الواضحةِ، والتي قد تغيبُ عن نظرك في أثناء الكتابةِ الأولية. 17- البحثُ عن الكمال هو العدو الأولُ لأيِّ كاتبٍ، وهو العقبةُ الرئيسيةُ بينهُ وبين إتمامِ المسودةِ الأولى.. ولذا فتيقن أنهُ مهما أجدت الحبك والترتيبَ فسوفَ تحتاجُ إلى الكثير من التعديل والتصويبِ.. فلا تجعل البحثَ عن الكمال يُعطلك عن بناء الأفكارِ الرئيسةِ والعناصرِ الأساسية، بل اتركهُ للمراحل الأخيرة. 18- عندما تنتهي من كتابة جميعِ الأفكارِ والمعاني، يمكنك أن تبدأَ بإعادة الصياغةِ وتحسينِ الأسلوبِ الكتابي إلى أن ترضى عن النَّص بالدرجة الكافيةِ.. ولا تظن أنك ستصلُ للصياغة الأنسبِ من مرةٍ أو مرتين.. علمًا أنهُ لا يوجدُ عددٌ معينٌ من المرات.. ولكن سدِّد وقارب، واجتهد قدرَ الإمكان، وحسبَ الوقتِ المتاح. 19- استخدم قدرَ الإمكان: جملًا قصيرةً ذاتُ ألفاظٍ واضحةٍ وتسلسلٍ مُتناغم، وإذا صادفتك كلمةٌ صعبةُ النَّطقِ فاستبدلها بأخرى سهلةٍ ومفهومة.. وإذا وجدتَ كلمةً أو جملةً غير مُفيدةٍ فاحذفها، فإن لم يتأثرِ المعنى فلا حاجة لها. 20- اهتم بترتيب الأفكار والفقرات، وليكن ترتيبًا منطقيًا مناسبًا، فذلك مما يساعدُ على فهم المقالِ بسهولةٍ ويسر.. ولكي تعرفَ هل الترتيب الذي تتبعهُ مُناسبٌ أو لا.. حاول أن تقرأ الموضوعَ بسرعةٍ عالية، فإن توقفتَ لتفهمَ شيئًا ما فاعلم أنَّ ترتيبَ الفقراتِ يحتاجُ إلى تحسين. 21- قد تُصادِفك فقرةٌ ركيكة، فتحاولَ تحسينها فلا تصلُ إلى شيءٍ، فيكونُ الحلُّ الأخيرُ هو حذفُها بالكامِل وإعادةُ كتابتها من جديد.. أو تركِها كما هي، وكتابتها من جديد في مكان آخر، ثم مقارنةُ المحاولتين واختيارُ الأفضلِ منهما. 22- ضع نفسك مكان القارئ وتساءل: هل المعنى واضحٌ وسهل؟ هل الصياغةُ سلسلةٌ ومتناغمة؟ هل الموضوعُ مترابطٌ بشكلٍ جيد؟ هل هناك فقرةٌ طويلةٌ تستدعي تقسيمها إلى فقرتين؟ هل هناك جزئيةٌ تتطلبُ شرحًا أكثر؟... الخ. 23- ليس صحيحًا أن تكتبَ عن كلِّ ما جمعته من عناصر الموضوعِ.. اكتب ما هو مهمٌ فقط.. والقاعدةُ الذَّهبية هنا: ما قلَّ وكفى، خيرٌ مما كثرُ وألهى.. ولمعرفة درجةِ أهميةِ معلومةٍ ما، اسأل نفسك: هل هذه المعلومةُ تخدم الهدفَ الأساسَ للموضوع؟ فإن كانت لا تخدمهُ إلا بدرجةٍ ضعيفةٍ فالأفضلُ الاستغناءَ عنها. 24- اهتمَ بقواعد اللُّغةِ، وبالقدر الذي يضمنُ لك تقليلَ الأخطاءِ الشائعة، واستفد من الأدوات والقواميسِ الإلكترونيةِ الحديثةِ، ومن المدقق الإملائي، ومن برامج تشكيلِ النَّصوص، لضمان تقليلِ الأخطاءِ قدرَ الإمكان. 25- القرآنُ العظيمُ هو أساسُ الفصاحةِ، ومنبعُ البلاغةِ، ومصدرُ الحكمةِ.. فهو متانةُ بُنيان، وإشراقةُ بيان، وقوةُ بُرهان، وظهورُ سُلطان، ومعانٍ حِسان.. فليحرص الخطيبُ على حفظه وكثرةِ تلاوتهِ بالتَّجويد ليستقيمَ لسانهُ، ويتقوى بيانهُ، فإذا أضافَ لذلك الاهتمامَ بمعاني كلماتِ القرآن، فسيُثري ذلك قاموسهُ اللغوي ثراءً عظيمًا. وأمَّا كلامُ المصطفى ﷺ، فليس في كلامِ الناسِ قطُّ ما هو أعمُّ نفعًا، ولا أحسنَ موقعًا، ولا أفصح بيانًا، من كلامه ﷺ فقد أوتي جوامعَ الكلمِ، وملكَ زِمامَ الفصاحةِ، وفُجرت لهُ ينابيعُ الحِكمةِ، واختُصِر لهُ الكلامُ اختصارًا. وكثيرٌ ممن وفق لحفظ القرآنِ الكريمِ وقدرًا جيدًا من الحديث الشريفِ وآثارِ السلفِ الصالحِ وأقوالهم، تراهُ فصيحَ اللسانِ، قوي البيانِ، سليمًا من اللحن والركاكة، مع أنَّ نصيبهُ من بقية علومِ العربيةِ قد يكونُ قليلًا جدًا. 26- من التدريبات الـمُعينةِ على جودة الصياغةِ: تمرينُ الارتجال.. حضِّر موضوعًا مألوفًا، واجمع له من الأدلةِ والشواهدِ والمعلوماتِ ما يكفي، ورتب عناصره بصورةٍ مُناسبة.. واحفظ له ما يُناسبُ من أبيات الشعر، والأقوالِ البليغة، والأمثالِ والحكم، ولا بأسَ بحفظ بعضِ المقاطعِ الجيدةِ (من أقوال المميزين) حولَ الموضوع.. ثمَّ قف وألقهِ أمامَ المرآةِ لمدة عشرِ دقائق.. ثمَّ كرِّر نفس الموضوعِ يوميًا لمدة شهرٍ كامل. وإن صورت نفسك في أول الأمر وأوسطهِ وآخرهِ، لترصد مدى تقدمِك وتحسن أسلوبك.. فسيكونُ هذا دافِعًا قويًّا لك للاستمرار في التَّدريب. 27- إن أمكن أن تسجلَ في ورشة عملٍ مُتخصصةٍ في مهارات الكتابة، أو ليكن لك شريكٌ في الكتابة (ولو من خلال النت): فهذا سيتيحُ الفرصةَ للجميع أن يتبادلوا الآراء والملاحظات فيما يكتبهُ كُلٌّ منهم، ويُعطيهِ وجهاتِ نظرٍ مختلفةٍ قد لا تخطرُ بباله، ويمكِّنكم سويًا من الارتقاء بأساليبكم الكتابيةِ بصورةٍ أسرعَ وأقوى. 28- مما يُسهِمُ في إثراءِ قاموسِكَ اللُغَوي، وتطويرِ أسلوبك الكتابي والخطابي.. الاعتناءُ بتكوين مكتبةٍ خطابيةٍ وأدبيةٍ متكاملة، وما لم تجدهُ في المكتبات الورقية، فابحث عنه في شبكة المعلومات الإلكترونية. 29- بالاستعانة بأحد القواميسِ السهلة (أو النت) تعلَّم في كل يوم كلمةً جديدة أو أكثر.. واختر الكلمات الجزلةَ البليغةَ وأكثر من استخدمِها في كلامك وكتاباتك ولو لفترة من الزمن.. فهذا سيثري قاموسِكَ اللُغَوي، ويطورُ من أسلوبك الكتابي. 30- عليك باغتنام فرصةِ نشاطِ النَّفسِ، وصفاءِ الذهنِ، فإن استثمارَ القليلِ من تلك الساعاتِ أكرمُ جوهرًا، وأغزرُ إنتاجًا، وأجلبُ لكلِّ معنى بديعٍ، ولفظٍ جميلٍ، وخيرٌ من قضاء الساعاتِ بالكدِّ والمطاولةِ، ومجاهدةِ الذهنِ دونما فائدةٍ تذكرُ.. نسأل الله أن يكلل جهودك بالنجاح والتوفيق، وأن يبارك في علمك وعملك، وأن يتقبل منا ومنك، و﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
|
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
كيف يتعامل الخطيب المبتدئ مع الخوف والارتباك.. الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد: فإن سكون النفس، وطمأنينة القلب ثمرة لحسن الظن بالله، وقوة التوكل عليه، وتمام الثقة به جل وعلا، وكثرة ذكره: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، ومن أيقن يقينًا راسخًا أن الله تعالى معه، وأنه أرحم به من أمه، فسيحسن الظن بربه، ولن يتشاءم بالسوء أو يفكر في الفشل والإخفاق، ولن يحزن على العواقب مهما ساءت، لأنه راضٍ عن الله وما يأتي منه، ولا شك أن فقد هذه الأشياء أو نقصها سيثير الخوف والارتباك، وسيقود إلى الإخفاق، مما يعطل الطاقات، ويوقف الإنجازات، وأكثر الناس إنما يُؤْتَون من قِبل أنفسهم؛ وصدق من قال: "ما يبلغ الأعداء من جاهل، ما يبلغ الجاهل من نفسه". فكم من الإنجازات أحبطت! وكم من المشاريع تعطلت! وكم من الناس توقفت بسبب الخوف والانهزام النفسي، وعدم إدراك الشخص مقدارَ ما أودع الله فيه من طاقات وقدرات فائقة، وإمكانيات عالية متنوعة، ومهارات مذهلة رائعة، لو استعان بالله تعالى وأحسن توظيفها واستثمارها لحقق ما يريد، ولجاء بالمدهش العجيب! أما بعد: فإلى كلِّ من عزم على السير في هذا الطريق النوراني المبارك: اعلم - أخي الكريم - أن الخوف من خوض التجارب الجديدة أمر "طبيعي"، يشعر به الجميع؛ تأمل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]، وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، لكن هذا الخوف "الطبيعي" يتفاوت من شخص لآخر، فيبلغ عند البعض الحد الذي يبث فيه حماس التحدي، ويحفزه للاستعداد، وهذا هو الخوف الإيجابي النافع، ويبلغ بآخرين درجةً تجعله يؤثر الهروب والانسحاب، وهذا هو الخوف السلبي الضار، والذي عطل الكثيرين عن نفع أنفسهم وأمتهم. إذًا؛ فالخوف الذي يعتري الجميع قبيل لقاء الجماهير هو خوف طبيعي، وأمر إيجابي مفيد، إن كان سيولد في الإنسان طاقةً وحماسًا يدفعانه لأن يستعد جيدًا، وأن يبذل قصارى جهده لتطوير نفسه، وليؤدي المهمة على أحسن وجه، أما إذا تجاوز هذا الخوف حده (الطبيعي)، فسيتحول إلى قيد يكبل صاحبه، ويجعله يتراجع وينسحب، ثم اعلم - وفقك الله لكل خير - أن للخوف السلبي عدة مصادر: الأول: هو الخوف من تكرار تجارب أليمة حدثت في الماضي، تجعله يخاف وينسحب؛ لكيلا يتكرر معه نفس الألم، ومثاله: الخوف من أسلاك الكهرباء، ومن الأشياء الحارة والمواد الحادة، ومن المرتفعات والمنحدرات، وغيرها من الأشياء الخطرة. والثاني: هو الخوف من المجهول وخشية الوقوع فيما لا يستطيع الإنسان مواجهته، ومثاله: الخوف من الظلام والأمكنة المهجورة. وهناك مصدر ثالث للخوف: وهو الخوف من النقد وكلام الآخرين - وهذا أمر لا يسلم منه أحد - لكن الموفق هو من يستفيد من النقد الإيجابي، ويتغافل عن النقد السلبي. وعلى كل حال: فالخوف نعمة من الله وفضل، فبه ندافع عن أنفسنا، وبه نشعر بالخطر؛ فنحتاط ونسلم، إنه طاقة إيجابية تساعدنا على البقاء؛ وسببه إفراز أجسامنا لهرمون الأدرينالين بمجرد شعورنا بوضع غير آمن، فطب نفسًا أنك تمتلك مثل هذا الهرمون الرائع النافع. وإذا كان من الطبيعي كما ذكرنا أن يشعر الجميع بشيء من الخوف والتوتر خصوصًا في البدايات، فلا شك أن هناك وسائل وأساليب مجربة، يمكنها - بفضل الله تعالى - أن تقضي على الخوف والتوتر، أو أن تخفف منه بدرجة كبيرة، وذلك بحسب درجة الأخذ بهذه الأساليب والوسائل: الوسيلة الأولى: رسائل التفاؤل الإيجابية: فنحن نعلم من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجبه الفأل، وفي أثر جميل: "تفاءلوا بالخير تجدوه"، فعلى الخطيب المبتدئ أن يعطي نفسه دفعةً قوية من التفاؤل وحسن الظن، وأن ينظر نظرةً إيجابيةً كلها استبشار وأمل، وأن يبتعد كليًّا عن التشاؤم وزعزعة الثقة وسوء الظن، وأن يحذر من الرسائل السلبية المحبطة: "أنا لا أستطيع أن ألقي أمام الآخرين"، "أنا لا يمكنني أن أعتلي المنبر"، "أنا لن أجرؤ على النظر في وجوه الناس"، إلى آخر هذه الأوهام والمبالغات، بل عليه أن يتخيل نفسه وقد أتم الإلقاء بكل نجاح، ويتخيل وجوه الناس وقد ارتسمت عليها مشاعر الإعجاب، ويرى نظرات الرضا تملأ وجوههم، ويسمع كلمات الثناء والدعاء، ويشعر بأيديهم وهي تصافحه وتسلم عليه، وهو مبتسم، فرِح، مسرور؛ إلخ. وهكذا، فعلى كل مبتدئ بالذات، أن يعيش تلك المشاعر الإيجابية بخياله، وأن يترك عنه المشاعر السلبية المحطمة، فمن المعلوم أن الإنسان هو أول من يهزم نفسه. الوسيلة الثانية: التدرج في الحديث أمام الأعداد الكبيرة، فيبدأ وحده أمام المرآة، ثم أمام اثنين، ثم خمسة، ثم عشرة، ثم عشرين، وهكذا حتى يتمكن من الحديث أمام الجمهور الكبير. الوسيلة الثالثة: أن يختار الخطيب المبتدئ المواضيع السهلة (إعدادًا وإلقاءً)؛ كالحديث عن فضائل الأخلاق، ونعيم الجنة، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو المواضيع التي يحبها الخطيب ويسهل عليه التعامل معها، وعليه أن يكثر من القصص الهادفة، فهي محبوبة عند كل الناس، قوية التأثير، سهلة التذكر، سهلة الإلقاء. الوسيلة الرابعة: التغافل: فقد يخفى على البعض أن الخطيب المتوتر لا ينتبه له أحد، إلا إذا لفت هو الانتباه لنفسه، ولو استحضر الملقي حين إلقائه أن كل الحاضرين ينظرون له نظرةً أخويةً ودودة، وأنهم جميعًا يتمنون له التوفيق والنجاح، لسكنت نفسه، ولمرت الأمور بخير وسلام، دون أن يلاحظ أحد ما يعتلج في صدره من توتر وقلق. أمر آخر مهم جدًّا، وهو أن جزءًا كبيرًا من الخوف والتردد سببه نقص الخبرة والتجربة، وليس نقص المهارة والمقدرة؛ بمعنى: إننا نخاف من الإلقاء ليس لأننا لا نستطيع أن نلقي، بل لأننا لم نمارسه ولم نتعود عليه، وهذا هو السبب فيما يسمى بالخوف الوهمي؛ حيث تؤكد دراسات كثيرة أن 90% من مخاوفنا مجرد أوهام وتخيلات، لا وجود لها إلا في عقولنا فقط، ولولا خشية الإطالة لذكرت بعض هذه الدراسات العجيبة، وعليه فلن يهزم الخوف والإحجام، إلا الجرأة والإقدام. نعم أخي الفاضل، تأكد تمامًا أن السبيل الوحيد لتجاوز ما قد تشعر به من خوف طبيعي، هو أن تقتل وحش الخوف وهو صغير، وأن تحاول وتحاول، وأن تستمر وتواصل، وأن تكرر المحاولة حتى تنجح وتصل، ولا سبيل بغير ذلك. تأمل جيدًا فالأسد، ومثله بقية السباع المفترسة، التي تعتمد في غذائها على الصيد، فهم لا ينجحون إلا في ربع أو خمس محاولاتهم للصيد فقط، ويفشلون في بقية المحاولات، ومع ذلك فإنهم لا يتوقفون عن تكرار المحاولة؛ لأنه لا سبيل للبقاء إلا بذلك. ولو تأملت ما يجري في لعبة كرة القدم وما شابهها من الألعاب، فستجد أن نسبة الهجمات الناجحة؛ أي: التي تثمر أهدافًا، لا تتجاوز الثلاثة في المائة، بينما يمكن أن نطلق على بقية الهجمات بأنها فاشلة، ومع ذلك فإن طوفان الهجمات الفاشلة هذا، لا يتوقف أبدًا، لأنه لا سبيل للفوز إلا بذلك. وهكذا يكون المشاركون في كل المسابقات الأخرى (السباحة والجري وركوب الخيل وسباق السيارات وغيرها كثير)، كلها تتدنى فيها نسب النجاح إلى حد كبير، ومع ذلك فلم يتوقف أحد عن المشاركة فيها بحجة الخوف من الفشل؛ لأنه لا سبيل للفوز والنجاح إلا بذلك، فإذا أردت أن تفوز وتحقق هدفك، فهذا هو قانون اللعبة: (واصل حتى تصل، وكرر محاولاتك، حتى تنجح وتحقق هدفك). ذكر أن قائدًا عسكريًّا انهزم في إحدى الجولات الحربية، فانهارت معنوياته وقرر أن ينسحب ويلوذ بالفرار، ولكنه قبل أن يعلن انسحابه، شاهد من مكانه نملةً تحاول أن تحمل حبة طعام فتعجز، وكلما حملتها وسارت بها خطوةً أو خطوتين سقطت منها، ولكنها وبإصرار عجيب، كانت تعاود المحاولة من جديد، فتحمل الحبة ثانيةً وثالثةً ورابعةً، حتى أحصى لها أكثر من تسعين محاولةً، دون أن تستسلم أو تتوقف، وإلى أن تكللت مهمتها بالنجاح أخيرًا، وهنا التفت القائد المهزوم إلى نفسه قائلًا: وهل النملة أقوى مني إرادةً وعزيمةً؟ ثم عاد إلى جيشه المنهزم بنفسية أخرى، وأخذ يبث فيهم الحماس، والإصرار على الصمود، فكان يخسر جولةً ويكسب أخرى، وكلما خسر جولةً تذكر معلمته النملة وصمودها العجيب، ومحاولاتها المتكررة، فيحاول من جديد، ويكرر المحاولة مرةً بعد أخرى، حتى تحقق له النصر أخيرًا، وكسب الحرب كلها. فلا تنسَ - أخي الخطيب - هذه المعلمة الـملهمة، وتذكر أنه لا يوجد شيء اسمه (فشل)، إنما يوجد شيء اسمه استسلام أو انسحاب أو توقف؛ لأنك عندما تكرر المحاولة، فقد تخطئ وقد تصيب، أما عندما تنسحب وتتوقف عن المحاولة، فلا مجال لأن تصيب أبدًا، وهذا هو الفشل الحقيقي. ولأنك عندما تكرر المحاولة، فإما أن يتحقق لك النجاح والظفر، وإما أن تتعلم وتتطور، وتقترب من النجاح أكثر وأكثر، كرماة السهام، كلما صوبت أكثر، اقتربت من هدفك أكثر وأكثر. إذًا، فواصل واستمر، ولا تخشَ الفشل ولو تكرر، فالفشل هو مدرسة النجاح، وكل الناجحين تخرجوا من مدرسة الفشل، وما ثَمَّ معصوم إلا الرسل، فمن الذي ما أخطأ قط، ومن له الحسنى فقط. واصل واستمر، وكرر محاولاتك بلا يأس ولا استسلام، فكل النجاحات جاءت في المحاولة الأخيرة، ولو يعلم المنسحب، كم كان قريبًا من النجاح! لما استسلم ولما توقف. واصل واستمر، ولا تحتقر نفسك وقدراتك، فأنت جوهرة حقيقية، والجوهرة لا تفقد قيمتها مهما تكرر سقوطها على الأرض. واصل واستمر، وإن تعثرت فقُم، فإنما يتعثر الماشي فقط، أما الجالس فلا يتعثر، والماشي يوشك أن يصل إلى هدفه، أما الجالس فلن يبرح مكانه. واصل واستمر، وإن قال لك المثبطون: لن تستطيع، فقل لهم: سأحاول، وإن قالوا: صعب ومستحيل، فقل لهم: سأجرب، وإن قالوا: جربت وفشلت، فقل لهم: طالما أستطيع المحاولة، فسأكرر حتى أنجح. واصل واستمر، واعلم أن الوقت لم يفت بعد، لكي تكون ما ينبغي لك أن تكون، لكن ذلك يتطلب منك أن تبذل قصارى جهدك، وأن تبذل كل ما في طاقتك ووسعك، وأن تستثمر كل ما تمتلكه من إمكانيات، ومواهب وقدرات، فإذا فعلت ذلك فأبشر بعون الله وهدايته؛ فهو القائل سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. __________________________________________________ ___ الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
مقدمة في فن الإلقاء والخطابة الشيخ عبدالله محمد الطوالة الحمد لله كثيرًا، والصلاة والسلام على المبعوث بالحق بشيرًا ونذيرًا؛ أما بعد: فإن الإلقاء والخطابة هي أهم وأسرع وأقوى وسائل الدعوة، وأكثرها تأثيرًا، وهل بغير الكلمة الخطابية تلين القلوب، وتستقيم النفوس، وتصلح المجتمعات، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]. لذلك فقد اعتنى علماء الإسلام قديمًا وحديثًا بهذا الفن وأولوه عنايةً خاصة، كيف لا ومعجزة الإسلام الكبرى، إنما هي قرآن يتلى، وبيان يلقى؛ قال جل وعلا: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51]. ولا شك أن من يملك ناصية الكلمة، فهو يملك أقوى أدوات التأثير والتغيير، فقد كان للكلمة ولا يزال أثرها الكبير، ودورها الفعال في كل عمليات التطور الإنساني على مر العصور وتعاقب الأجيال، وعلى تغير الظروف وتنوع الأحوال، بل إن الكلمة إذا ما ركزت بعناية، واستثمرت بفعالية، فليس على وجه الأرض أقوى تأثيرًا منها، فهي القوة العجيبة المسؤولة عن كل حركات البناء والهدم في التاريخ، ولو تأملت مليًّا فستجد أن الكتب المنزلة كلمة، ورسالة الأنبياء والمرسلين كلمة، ونتاج المؤلفين كلمة، وخطب القادة والأئمة كلمة، ومواعظ الدعاة والمرشدين كلمة، وتوجيهات المصلحين والمربين كلمة، ودروس المعلمين والمحاضرين كلمة، وبيان الأدباء والشعراء كلمة، بل إن شهادة التوحيد كلمة، والنداء للصلاة كلمة، وحكم الولاة والقضاة كلمة، وشهادة الشهود كلمة، واستحلال الفروج بكلمة، والحرب مبدأها كلام؛ ولأمر ما قال موسى عليه السلام داعيًا: ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 27، 28]. والكلمة الطيبة صدقة جارية، تهدي العقول، وتنير القلوب، وتزكي النفوس، وتسمو بالأرواح، تأمل: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]. والكلمة الطيبة إذا أُحسن توظيفها جاءت بالمدهش العجيب: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [إبراهيم: 24، 25]. واهتمام العرب بالخطابة وتوظيفهم لها قديم قبل الإسلام، حتى إن كل قبيلة كانت تنتخب من أفذاذها شاعرًا وخطيبًا، يفاخرون باسمها، ويدافعون عن شرفها ومكانتها، ويقومون بمهام الإصلاح بين المتنازعين، والوفادة على الملوك والسلاطين، ومراسم التهنئة والتعزية، كما أن لهم عند الحروب والغارات صولات وجولات. فلا عجب أن يوظف الإسلام الكلمة الطيبة أحسن توظيف، وأن يهتم بها غاية الاهتمام، حتى إنه جعلها فريضةً أسبوعية، وعبادةً مرعية، ومعلمًا بارزًا من معالم الشريعة الإسلامية، ومظهرًا رائعًا من أجمل وأجل مظاهر توحد الأمة المحمدية، كما أن من دلائل اهتمام الإسلام بها، أنه رغب كثيرًا في النظافة والتجمل والتطيب من أجلها، وحث على التبكير في الوقت عند الخروج لها، وعلى الدنو من الإمام، والإنصات التام، وعدم مس الحصى فضلًا عن الكلام، ثم رتب عليها من الثواب والعقاب، ترغيبًا وترهيبًا، ما لم يرتبه على عبادة غيرها، فجعل الخطوة الواحدة إليها تعدل عمل سنة كاملة صيامها وقيامها، كما أن في القرآن الكريم أمر مؤكد بالسعي إليها، وترك كل ما يشغل عنها، ووعد بالخير الوفير لمن يحرص عليها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9]. كما أن رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، عرف قيمتها، واهتم بها، وأحسن توظيفها، واتخذ المنبر من أجلها، وأكثر من استخدامها، وكانت هي وظيفته الأولى هو ومن بعده من الخلفاء والعلماء والقادة والمصلحين، وكانت هي أقوى ما استخدموه لقيادة أممهم إلى حياة البر والكرامة، والتقوى والاستقامة. ومن ثم فقد قامت خطبة الجمعة بدور حيوي كبير في المسيرة الإسلامية الطويلة، فمن خلالها نشرت تعاليم الشريعة، ورسخت مبادئ العقيدة، وحُوربت البدع والمنكرات، وزُكيت الأخلاق والسلوكيات، ومن خلالها شُخصت أوضاع المجتمعات، وبُث الوعي الصحيح، وعُولجت المشكلات. وهكذا فقد كان الخطيب الفذ ولا يزال هو خير من يعبر عن الدين والدنيا، ويجول في كل شؤون الإنسان وشجونه، يقنع العقول، ويحرك المشاعر، ويشكل القناعات، ويرفع الهمم، ويربط الناس بخالقهم العظيم، ويدافع عن حقوق المظلومين، ويرد شبه الأعداء والمظلين، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18]. وها هي المساجد العامرة، ذات المنابر المؤثرة، لا تزال تستقبل أفواج التائبين، ومواكب العائدين، وما تزال أصوات الخطباء الأفذاذ تصدح عاليًا في كل جمعة، تنير الطريق للسائرين، وتروي عطش الظامئين. أما وقد وصلنا اليوم لما وصلنا إليه، وأصبح الواقع غير ما كنا عليه، وتراجع المسلمون إلى مؤخرة الركب، وأمسى العالم كله أسيرًا لتيار إعلامي عالمي موجه، ذي إمكانيات ضخمة هائلة، وقنوات متخصصة مؤثرة، وبرامج فاتنة آسرة، فيها من بهرج العرض، وجمال الإخراج، وزخرف القول، ما يجعل المتابعين يتناولون السم يحسبونه عسلًا، ويقتنون الخزف يظنونه ذهبًا، وبذلك استحوذوا على الكثير من أوقاتهم واهتماماتهم، وغيروا الكثير من قناعاتهم ومسلماتهم. إلا أنه وبالرغم من كل ذلك، فلا يزال الخطيب المسلم هو فرس الرهان، وفارس الميدان، خصوصًا إذا علمنا أن أعداد المنابر في عالمنا الإسلامي الكبير كثيرة جدًّا، وأن الذين يستمعون لها باهتمام وإنصات يتزايدون بشكل مضطرد، ولله الحمد والمنة، لكن الذي يضعف الكفة، أن أكثر خطبائنا الكرام - مع شديد الأسف - بعيدون عن القيام بأدوارهم الدعوية، مفتقدون للكثير من المهارات الأساسية، فالبعض يبالغ في هدوئه، فتأتي كلماته جافةً باردة، تموت قبل أن تصل، والبعض الآخر جامدون تقليديون، خطبهم مكررة، وكلماتهم مجملة، لا توقظ غافلًا، ولا تحرك ساكنًا. يقول الشيخ عائض القرني: "رأيت على المنابر من يقرأ علينا صحفًا اكتتبها فهي تلقى عليه بكرةً وأصيلًا، يسردها سردًا بلا تأثير ولا جاذبية، ولا أداء ولا حرارة، ورأيت من يغطي وجهه بأوراقه، فهو محجوب عن الناس طيلة الخطبة، وهناك من يخطب فيتلعثم ويرتبك من شدة الخوف، نعم، هناك من يحسن الإلقاء والأداء، ولكنه ضحل المادة، بخيل المحصول والعطاء، فكأنه ما قال شيئًا، وهناك صاحب الحجة والبرهان، الحافظ المطلع، لكنه بارد رتيب، في صوته خيوط النعاس، ومقدمات الكرى"[1]. فلا بد إذًا من تطوير وتحسين أساليب خطبائنا الكرام، لا بد من تميز الخطيب وقوته، وإتقانه لدوره ومهمته، لنضمن لهذه الدعوة المباركة مكانًا عليًّا، وقبولًا حسنًا، ونضمن لهذا المنبر الهام تأثيرًا قويًّا، وتفاعلًا مثمرًا مرضيًا، ولن يتأتى ذلك إلا بأمرين أساسين: الأول: دراسة وفهم أصول وقواعد فنون الخطابة نظريًّا. الثاني وهو الأهم: التدرب الجاد (المنظم) لاحتراف أساليبه وإتقان مهاراته عمليًّا. وحيث إن هذا المقال بمثابة مقدمة في فن الإلقاء والخطابة فسأكتفي بإيراد تعريف الخطابة مع شرح مختصر، ثم أذكر أهداف الخطابة في الإسلام ومميزاتها وأسباب رقيها، وسيأتي الحديث عن بقية فنون الخطابة ومهاراتها تباعًا في مقالات أخرى بإذن الله وتوفيقه. الخطابة إذًا: هي فن مشافهة الجمهور لاستمالته للمأمول. وحين نتأمل هذا التعريف المختصر يتبين أنه مكون من خمسة عناصر، يمكن شرحها على النحو التالي: الأول: أنه فن؛ أي: إنه علم له أصول وقواعد نظرية، لا بد من دراستها وتعلمها، وله مهارات عملية لا بد من مواصلة التدرب عليها قدرًا كافيًا حتى يتقنها. الثاني: المشافهة، وهو توجيه الكلام من شخص واحد لمجموعة من السامعين، مباشرةً وبدون حوائل. الثالث: الجمهور، ويشمل كافة قطاعات وشرائح المجتمع (العالم والجاهل، الكبير والصغير، الموافق والمخالف؛ إلخ). الرابع: الاستمالة، وهي استجابة المتلقي عمليًّا لتوجيهات الخطبة، من خلال اقتناع العقل بالأدلة والبراهين، وتأثر الوجدان بالبيان البليغ. الخامس: المأمول، وهي أهداف الخطيب الخاصة والعامة، التي يريد من السامعين أن يقتنعوا بها ويطبقوها عمليًّا. إذًا ففن الخطابة علم جليل، وفن جميل، ينير الطريق للراغبين، ويوضح السبيل للسالكين، ولكنه لا يضمن لمن أراد تعلمه أن يتقن مهاراته ما لم يتدرب على تلك المهارات ويطبقها بالقدر الكافي، تمامًا كفن التجويد الذي يبين لك كيف تقرأ القرآن الكريم بطريقة صحيحة، لكنه لا يضمن لك أن تتقن مهارة التلاوة ما لم تتدرب عليها بنفسك، وبدرجة كافية، كما قال الناظم: وليس بين أخذه وتركه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلا رياضة امرئ بفكه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإذا كان الشيء يستمد أهميته من أهدافه،فإن أهداف الخطابة في الإسلام عظيمة وجليلة؛ ومنها ما يلي: 1- تبليغ دعوة الله عز وجل، ونشر العلم الصحيح. 2- تربية المجتمع على الأخلاق والفضائل، ونهيه عن الشرور والرذائل. 3- رفع المستوى العلمي والثقافي والفكري والأدبي للسامع والخطيب. 4- تقوية وبناء الروابط الأخوية بين المسلمين. 5- رد شبهات الأعداء، والذب عن جناب الدين وأحكامه وعلمائه ورموزه. 6- ترقيق القلوب بالترغيب والترهيب، والتذكير بعظمة علام الغيوب. كما أن للخطابة في الإسلام مميزات عظيمة؛ من أبرزها ما يلي: 1- وجوب أداء خطبة وصلاة الجمعة في كل حي أو بلدة من بلاد الإسلام. 2- تكرارها دوريًّا (أسبوعيًّا أو سنويًّا). 3- تهيئة المكان والجو المناسب للإلقاء والإنصات (المسجد). 4- التفرغ التام لها من جميع الأشغال والأعمال. 5- الاستعداد الخاص لها بالنظافة والتجمل والتطيب. 6- كونها عبادة جليلة، وشعيرة عظيمة، ومعلمًا بارزًا من معالم الشريعة. 7- كونها من أنجح وسائل الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 8- نقل هموم وآلام الجسد الواحد من مكان لآخر للتلاحم والتعاون. 9- إثراء المكتبة الإسلامية، والمواقع المتخصصة بالعلوم النافعة والخطب المؤثرة، لنشرها على أوسع نطاق. أما أسباب رقي الخطابة في الإسلام: فيمكن إجمالها في النقاط التالية: 1- قوة الاستشهاد بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. 2- بروز كوكبة من الخطباء الأفذاذ، على رأسهم سيد الفصحاء وأخطب الخطباء عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. 3- كثرة المحافل الخطابية وتكررها دوريًّا (كالجمعة والأعياد والجهاد وغيرها). 4- ارتفاع شأن الخطيب وعلو منزلته في المجتمع المسلم. 5- استخدام الخطابة من قبل الخلفاء والأمراء والعلماء لقيادة الشعوب وتأليف القلوب وإصلاح الأوضاع. 6- وجود إرث كبير من الثروة الخطابية والكنوز البيانية مما يساعد المبتدئين على الانطلاق بقوة. 7- شمولية الخطب لكل مناحي الحياة وشؤونها. نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يبارك في الجهود وينفع بها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [1] إلى الخطباء، عائض القرني، ص 5. |
مقدمة في فن الإلقاء والخطابة
مقدمة في فن الإلقاء والخطابة الشيخ عبدالله محمد الطوالة الحمد لله كثيرًا، والصلاة والسلام على المبعوث بالحق بشيرًا ونذيرًا؛ أما بعد: فإن الإلقاء والخطابة هي أهم وأسرع وأقوى وسائل الدعوة، وأكثرها تأثيرًا، وهل بغير الكلمة الخطابية تلين القلوب، وتستقيم النفوس، وتصلح المجتمعات، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]. لذلك فقد اعتنى علماء الإسلام قديمًا وحديثًا بهذا الفن وأولوه عنايةً خاصة، كيف لا ومعجزة الإسلام الكبرى، إنما هي قرآن يتلى، وبيان يلقى؛ قال جل وعلا: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51]. ولا شك أن من يملك ناصية الكلمة، فهو يملك أقوى أدوات التأثير والتغيير، فقد كان للكلمة ولا يزال أثرها الكبير، ودورها الفعال في كل عمليات التطور الإنساني على مر العصور وتعاقب الأجيال، وعلى تغير الظروف وتنوع الأحوال، بل إن الكلمة إذا ما ركزت بعناية، واستثمرت بفعالية، فليس على وجه الأرض أقوى تأثيرًا منها، فهي القوة العجيبة المسؤولة عن كل حركات البناء والهدم في التاريخ، ولو تأملت مليًّا فستجد أن الكتب المنزلة كلمة، ورسالة الأنبياء والمرسلين كلمة، ونتاج المؤلفين كلمة، وخطب القادة والأئمة كلمة، ومواعظ الدعاة والمرشدين كلمة، وتوجيهات المصلحين والمربين كلمة، ودروس المعلمين والمحاضرين كلمة، وبيان الأدباء والشعراء كلمة، بل إن شهادة التوحيد كلمة، والنداء للصلاة كلمة، وحكم الولاة والقضاة كلمة، وشهادة الشهود كلمة، واستحلال الفروج بكلمة، والحرب مبدأها كلام؛ ولأمر ما قال موسى عليه السلام داعيًا: ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 27، 28]. والكلمة الطيبة صدقة جارية، تهدي العقول، وتنير القلوب، وتزكي النفوس، وتسمو بالأرواح، تأمل: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]. والكلمة الطيبة إذا أُحسن توظيفها جاءت بالمدهش العجيب: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [إبراهيم: 24، 25]. واهتمام العرب بالخطابة وتوظيفهم لها قديم قبل الإسلام، حتى إن كل قبيلة كانت تنتخب من أفذاذها شاعرًا وخطيبًا، يفاخرون باسمها، ويدافعون عن شرفها ومكانتها، ويقومون بمهام الإصلاح بين المتنازعين، والوفادة على الملوك والسلاطين، ومراسم التهنئة والتعزية، كما أن لهم عند الحروب والغارات صولات وجولات. فلا عجب أن يوظف الإسلام الكلمة الطيبة أحسن توظيف، وأن يهتم بها غاية الاهتمام، حتى إنه جعلها فريضةً أسبوعية، وعبادةً مرعية، ومعلمًا بارزًا من معالم الشريعة الإسلامية، ومظهرًا رائعًا من أجمل وأجل مظاهر توحد الأمة المحمدية، كما أن من دلائل اهتمام الإسلام بها، أنه رغب كثيرًا في النظافة والتجمل والتطيب من أجلها، وحث على التبكير في الوقت عند الخروج لها، وعلى الدنو من الإمام، والإنصات التام، وعدم مس الحصى فضلًا عن الكلام، ثم رتب عليها من الثواب والعقاب، ترغيبًا وترهيبًا، ما لم يرتبه على عبادة غيرها، فجعل الخطوة الواحدة إليها تعدل عمل سنة كاملة صيامها وقيامها، كما أن في القرآن الكريم أمر مؤكد بالسعي إليها، وترك كل ما يشغل عنها، ووعد بالخير الوفير لمن يحرص عليها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9]. كما أن رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، عرف قيمتها، واهتم بها، وأحسن توظيفها، واتخذ المنبر من أجلها، وأكثر من استخدامها، وكانت هي وظيفته الأولى هو ومن بعده من الخلفاء والعلماء والقادة والمصلحين، وكانت هي أقوى ما استخدموه لقيادة أممهم إلى حياة البر والكرامة، والتقوى والاستقامة. ومن ثم فقد قامت خطبة الجمعة بدور حيوي كبير في المسيرة الإسلامية الطويلة، فمن خلالها نشرت تعاليم الشريعة، ورسخت مبادئ العقيدة، وحُوربت البدع والمنكرات، وزُكيت الأخلاق والسلوكيات، ومن خلالها شُخصت أوضاع المجتمعات، وبُث الوعي الصحيح، وعُولجت المشكلات. وهكذا فقد كان الخطيب الفذ ولا يزال هو خير من يعبر عن الدين والدنيا، ويجول في كل شؤون الإنسان وشجونه، يقنع العقول، ويحرك المشاعر، ويشكل القناعات، ويرفع الهمم، ويربط الناس بخالقهم العظيم، ويدافع عن حقوق المظلومين، ويرد شبه الأعداء والمظلين، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18]. وها هي المساجد العامرة، ذات المنابر المؤثرة، لا تزال تستقبل أفواج التائبين، ومواكب العائدين، وما تزال أصوات الخطباء الأفذاذ تصدح عاليًا في كل جمعة، تنير الطريق للسائرين، وتروي عطش الظامئين. أما وقد وصلنا اليوم لما وصلنا إليه، وأصبح الواقع غير ما كنا عليه، وتراجع المسلمون إلى مؤخرة الركب، وأمسى العالم كله أسيرًا لتيار إعلامي عالمي موجه، ذي إمكانيات ضخمة هائلة، وقنوات متخصصة مؤثرة، وبرامج فاتنة آسرة، فيها من بهرج العرض، وجمال الإخراج، وزخرف القول، ما يجعل المتابعين يتناولون السم يحسبونه عسلًا، ويقتنون الخزف يظنونه ذهبًا، وبذلك استحوذوا على الكثير من أوقاتهم واهتماماتهم، وغيروا الكثير من قناعاتهم ومسلماتهم. إلا أنه وبالرغم من كل ذلك، فلا يزال الخطيب المسلم هو فرس الرهان، وفارس الميدان، خصوصًا إذا علمنا أن أعداد المنابر في عالمنا الإسلامي الكبير كثيرة جدًّا، وأن الذين يستمعون لها باهتمام وإنصات يتزايدون بشكل مضطرد، ولله الحمد والمنة، لكن الذي يضعف الكفة، أن أكثر خطبائنا الكرام - مع شديد الأسف - بعيدون عن القيام بأدوارهم الدعوية، مفتقدون للكثير من المهارات الأساسية، فالبعض يبالغ في هدوئه، فتأتي كلماته جافةً باردة، تموت قبل أن تصل، والبعض الآخر جامدون تقليديون، خطبهم مكررة، وكلماتهم مجملة، لا توقظ غافلًا، ولا تحرك ساكنًا. يقول الشيخ عائض القرني: "رأيت على المنابر من يقرأ علينا صحفًا اكتتبها فهي تلقى عليه بكرةً وأصيلًا، يسردها سردًا بلا تأثير ولا جاذبية، ولا أداء ولا حرارة، ورأيت من يغطي وجهه بأوراقه، فهو محجوب عن الناس طيلة الخطبة، وهناك من يخطب فيتلعثم ويرتبك من شدة الخوف، نعم، هناك من يحسن الإلقاء والأداء، ولكنه ضحل المادة، بخيل المحصول والعطاء، فكأنه ما قال شيئًا، وهناك صاحب الحجة والبرهان، الحافظ المطلع، لكنه بارد رتيب، في صوته خيوط النعاس، ومقدمات الكرى"[1]. فلا بد إذًا من تطوير وتحسين أساليب خطبائنا الكرام، لا بد من تميز الخطيب وقوته، وإتقانه لدوره ومهمته، لنضمن لهذه الدعوة المباركة مكانًا عليًّا، وقبولًا حسنًا، ونضمن لهذا المنبر الهام تأثيرًا قويًّا، وتفاعلًا مثمرًا مرضيًا، ولن يتأتى ذلك إلا بأمرين أساسين: الأول: دراسة وفهم أصول وقواعد فنون الخطابة نظريًّا. الثاني وهو الأهم: التدرب الجاد (المنظم) لاحتراف أساليبه وإتقان مهاراته عمليًّا. وحيث إن هذا المقال بمثابة مقدمة في فن الإلقاء والخطابة فسأكتفي بإيراد تعريف الخطابة مع شرح مختصر، ثم أذكر أهداف الخطابة في الإسلام ومميزاتها وأسباب رقيها، وسيأتي الحديث عن بقية فنون الخطابة ومهاراتها تباعًا في مقالات أخرى بإذن الله وتوفيقه. الخطابة إذًا: هي فن مشافهة الجمهور لاستمالته للمأمول. وحين نتأمل هذا التعريف المختصر يتبين أنه مكون من خمسة عناصر، يمكن شرحها على النحو التالي: الأول: أنه فن؛ أي: إنه علم له أصول وقواعد نظرية، لا بد من دراستها وتعلمها، وله مهارات عملية لا بد من مواصلة التدرب عليها قدرًا كافيًا حتى يتقنها. الثاني: المشافهة، وهو توجيه الكلام من شخص واحد لمجموعة من السامعين، مباشرةً وبدون حوائل. الثالث: الجمهور، ويشمل كافة قطاعات وشرائح المجتمع (العالم والجاهل، الكبير والصغير، الموافق والمخالف؛ إلخ). الرابع: الاستمالة، وهي استجابة المتلقي عمليًّا لتوجيهات الخطبة، من خلال اقتناع العقل بالأدلة والبراهين، وتأثر الوجدان بالبيان البليغ. الخامس: المأمول، وهي أهداف الخطيب الخاصة والعامة، التي يريد من السامعين أن يقتنعوا بها ويطبقوها عمليًّا. إذًا ففن الخطابة علم جليل، وفن جميل، ينير الطريق للراغبين، ويوضح السبيل للسالكين، ولكنه لا يضمن لمن أراد تعلمه أن يتقن مهاراته ما لم يتدرب على تلك المهارات ويطبقها بالقدر الكافي، تمامًا كفن التجويد الذي يبين لك كيف تقرأ القرآن الكريم بطريقة صحيحة، لكنه لا يضمن لك أن تتقن مهارة التلاوة ما لم تتدرب عليها بنفسك، وبدرجة كافية، كما قال الناظم: وليس بين أخذه وتركه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلا رياضة امرئ بفكه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإذا كان الشيء يستمد أهميته من أهدافه،فإن أهداف الخطابة في الإسلام عظيمة وجليلة؛ ومنها ما يلي: 1- تبليغ دعوة الله عز وجل، ونشر العلم الصحيح. 2- تربية المجتمع على الأخلاق والفضائل، ونهيه عن الشرور والرذائل. 3- رفع المستوى العلمي والثقافي والفكري والأدبي للسامع والخطيب. 4- تقوية وبناء الروابط الأخوية بين المسلمين. 5- رد شبهات الأعداء، والذب عن جناب الدين وأحكامه وعلمائه ورموزه. 6- ترقيق القلوب بالترغيب والترهيب، والتذكير بعظمة علام الغيوب. كما أن للخطابة في الإسلام مميزات عظيمة؛ من أبرزها ما يلي: 1- وجوب أداء خطبة وصلاة الجمعة في كل حي أو بلدة من بلاد الإسلام. 2- تكرارها دوريًّا (أسبوعيًّا أو سنويًّا). 3- تهيئة المكان والجو المناسب للإلقاء والإنصات (المسجد). 4- التفرغ التام لها من جميع الأشغال والأعمال. 5- الاستعداد الخاص لها بالنظافة والتجمل والتطيب. 6- كونها عبادة جليلة، وشعيرة عظيمة، ومعلمًا بارزًا من معالم الشريعة. 7- كونها من أنجح وسائل الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 8- نقل هموم وآلام الجسد الواحد من مكان لآخر للتلاحم والتعاون. 9- إثراء المكتبة الإسلامية، والمواقع المتخصصة بالعلوم النافعة والخطب المؤثرة، لنشرها على أوسع نطاق. أما أسباب رقي الخطابة في الإسلام: فيمكن إجمالها في النقاط التالية: 1- قوة الاستشهاد بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. 2- بروز كوكبة من الخطباء الأفذاذ، على رأسهم سيد الفصحاء وأخطب الخطباء عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. 3- كثرة المحافل الخطابية وتكررها دوريًّا (كالجمعة والأعياد والجهاد وغيرها). 4- ارتفاع شأن الخطيب وعلو منزلته في المجتمع المسلم. 5- استخدام الخطابة من قبل الخلفاء والأمراء والعلماء لقيادة الشعوب وتأليف القلوب وإصلاح الأوضاع. 6- وجود إرث كبير من الثروة الخطابية والكنوز البيانية مما يساعد المبتدئين على الانطلاق بقوة. 7- شمولية الخطب لكل مناحي الحياة وشؤونها. نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يبارك في الجهود وينفع بها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [1] إلى الخطباء، عائض القرني، ص 5. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
منغصات الواعظ في دروسه مرشد الحيالي يحدث للداعية أن تَعترضه بعضُ المُنغصات خلال إلقاء دروسه ومواعظه؛ مما يُفسد عليه أحيانًا ثمرة الموعظة، وما يصبو إليه من هداية المدعوين واستجابتهم له؛ ولذا وجَب عليه أن يكون على بيِّنة ومعرفة بتلك المُنغصات أو المُشغلات، ودفْع انعقاد أسبابها ومواردها؛ ولذا سنذكر في هذا البحث اللطيف بعضَ هذه المُنغصات على سبيل التمثيل لا الحصر[1]، والتدابير التي يمكن للواعظ أن يتَّخذها، مما يُعينه على إتمام مهامِّه في الدعوة على الوجه النافع المفيد، ويُحقق له ثمرة الدعوة، وبالله التوفيق: الغرض من الدرس: إن الغرض من إلقاء الدرس والهدف الأسمى منه، هو ربط حياة المدعوين بالمسجد، والعيش في ظلاله؛ حيث نزول السكينة، وغشيان الرحمة، والدرس يُعَد فرصة ثمينة للداعية في أن يوثِّق علاقته بمن يدعوهم، وأن يُعلمهم أحكام الإسلام وتعاليمه السَّمحة؛ كي يرتقيَ بهم إلى التقوى والاستقامة على الطاعة، والتحذير من الوقوع في مزالق الشيطان وحبائله ومكايده؛ ليكونوا بذلك أداةً صالحة لبناء المجتمع، وليس الغرض من الدرس والموعظة والغاية منه هو إظهار قدرة الواعظ البيانية والبلاغية، وبيان سَعة معرفته بالدين؛ بل لأجل هداية الناس وتبصيرهم بالإسلام وتعاليمه. منغصات ومشغلات: لا يتصوَّر الواعظ الصادق أن الدَّرب لتوجيه الناس وتعليمهم مفروشٌ بالورود واليَاسَمين، وأنه سيجد الثناء والشكر دومًا من الناس، بل عليه أن يعلم جيدًا أن هذا هو دربُ الأنبياء والمخلصين[2]، وأنه حتمًا ستَعترضه الكثير من المُنغصات المُلهيات؛ لتَشغله عن الدعوة، وتَصرفه عن تبصير الناس، وأن الشيطان لن يدَعه وشأنه، بل سيسعى إلى وضْع العراقيل والعَقبات؛ لأجل أن يَجعله ينقطع عن الهدف الذي يسعى إليه، وهو إنقاذ الناس من الحَيرة والضلال، ويُثبِّطه عن المُضي في إلقاء كلمة الحق، ومما يُعينه على التغلب على عدوه، والنصر على شيطانه من الإنس والجن، ما يلي: أوَّلاً: الإخلاص في الدعوة، وألا يبغي من دعوته شُهرة أو جاهًا، أو سلطانًا أو ثناءً، بل يقصد من دعوته هداية الخلق، والدعوة للحق، فإن فعَل ذلك، فسيجد تأييدًا ونصرًا، وحفظًا من الله، وسيجد راحة وانشراحًا، وأنسًا واطمئنانًا في دروسه، ويَفتح الله عليه من خزائن العلم والمعرفة ما لم يَخطر له ببالٍ. ثانيًا: دراسة مشغلات الدعوة بجِدٍّ، والعمل على تفاديها والوقاية منها على حد قول الشاعر: عرَفتُ الشرَّ لا لِلشْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ر لكِنْ لتوقيهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومَن لم يَعرِف الشرَّ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من النَّاس يَقعْ فِيهِ[3] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومن تلك المنغصات ما يلي: 1- خروج بعض المدعوين من درسه: في بداية الدرس أو خلاله؛ مما يحزُّ في نفس الواعظ، ويولِّد لديه شعورًا بالإحباط وسوء الظن، وهو في الغالب ينشأ من أمرين: أولاً: أن يعرف الناس عادته في الموعظة، وأنه ممن يُطيل الدرس دون أن يتخلَّله أي مُشوِّق أو مُرغِّب[4]. ثانيًا: أن يكون السبب ممن يدعوهم، وأنهم ليس لهم الرغبة؛ لانشغالهم بملذَّات الدنيا وزُخرفها، وعدم معرفتهم بالحاجة إلى الموعظة في صلاح نفوسهم، وقد يكون لارتباطهم بأعمال أُسرية ونحو ذلك. وفي جميع الأحوال ينبغي على الداعية المخلص لدينه، الحريص في دعوته - أن يوطِّن سيره في الدعوة على منهج الرسول، ويأخذ من مِشكاته؛ كي يكون موفَّقًا في قوله وعمله، فما من حالة يمرُّ بها الداعية، إلا ولها شبيه أو قريبٌ منها في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وليكن سلاحه ومِعْوَلُه الصبرَ ولو انفضَّ الجميع عنه، وعليه أن يَصبر في قطف الثمار؛ لأن المدعوين سيعودون في النهاية إلى الإصغاء والاستماع له، خاصة إذا علِموا منه الصدق في القول والفعل، وأنه حريص عليهم وعلى هدايتهم، وليَحذر من معادتهم وبُغضهم؛ لكونهم ترَكوا درسه ومواعظه - كما يفعله بعض الوُعَّاظ هداهم الله[5] - لأن ذلك سيزيد من الهُوَّة والشُّقة بينه وبينهم، وبدلاً من ذلك عليه مراجعة حساباته، ومحاسبة نفسه على تقصيره، وفي السيرة النبوية نماذجُ تضيء للداعية دَربَه، وتُبصره بأخطائه، وتجعله يمشي على علم وبصيرة، فمن ذلك ما جاء عن الملأ من قريش الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب وخبَّاب، وبلال وعمار، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء عن قومك؟ أفنحن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطرُدهم عن نفسك، فلعلك إن طرَدتهم، اتَّبعناك، فقال - عليه السلام -: ((ما أنا بطارد المؤمنين))، فقالوا: فأقْمهم عنَّا إذا جئنا، فإذا أقَمنا، فأقعِدهم معك إن شئتَ، فقال: ((نعم))؛ طمعًا في إيمانهم. ورُوِي أن عمر قال له: لو فعَلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون، ثم ألحُّوا، وقالوا للرسول - عليه السلام -: اكتُب لنا بذلك كتابًا، فدعا بالصحيفة وبعليٍّ ليكتب، فنزَلت هذه الآية، فرمى الصحيفة، واعتذر عمر عن مقالته، فقال سلمان وخباب: فينا نزَلت، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقعد معنا وندنو منه، حتى تمس رُكبتنا رُكبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الكهف: 28]. فترك القيام عنَّا إلى أن نقوم عنه، وقال: ((الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أمرني أن أصبرَ نفسي مع قوم من أُمتي، معكم المحيا ومعكم الممات))[6]. والشاهد من ذلك أن الرسول الكريم لم يَمنعه نفورُ أشراف قريش وزعمائها عن مجلسه من الانقطاع عن الدعوة. ثالثًا: الإحراج: وذلك لأن من يقوم الواعظ بتعليمهم، يُشكلون شرائحَ مختلفة من المجتمع، وألوانًا متعددة، وثقافات متباينة، وقد يتصرَّف البعض منهم بما ينافي الآداب والأخلاق السامية؛ من استفزازٍ، أو طرْح بعض الأسئلة المُحرجة، مما هو خارج عن إطار الموعظة، يُراد من ورائها التعجيز، أو إثارة بعض الشُّبهات من بعض المُشككين، أو يَحضُر درسه شخصيات مرموقة في المجتمع، وهذا ونحوه يُربك الداعية، ويُشوِّش عليه مما يكون قد أعدَّ له، وعليه؛ فينبغي أن يكون الداعية حذِرًا فطنًا، وأن يعدَّ لذلك جوابًا شافيًا، وبصدر رحبٍ، وأن يتسلَّح بالعلم والمعرفة، وكيفية تفنيد الشُّبهات، والرد على الأسئلة، وأن يتعامل وَفْق ذلك كله بالحكمة والموعظة، وعدم الانجرار إلى النقاش الذي لا طائل من ورائه، أو الوقوع في الطيش والعجَلة، وليعلم أن مَن حضَر لن يضروه أو ينفعوه، فلا داعي للرهبة منهم، أو الخجل منهم؛ فهم يحتاجون إلى التعليم والتوجيه مهما كان موقعهم في المجتمع، وللعلماء تدابيرُ في الوقاية من الإحراج مذكورة في كُتبهم، ومما يُستأنس به ما أورده ابن الجوزي - رحمه الله - عن محمد بن زكريا، قال: حضرتُ مجلسًا فيه عبيدالله بن محمد بن عائشة التميمي، وفيه جعفر بن القاسم الهاشمي، فقال لابن عائشة: ها هنا آية نزَلت في بني هاشم خاصة، قال: ما هي؟ قال: قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ [الزخرف: 44]. فقال ابن عائشة: قومه قريش، وهي لنا معكم، قال: بل هي لنا خصوصًا، قال: فخُذ معها ﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ [الأنعام: 66]، فسكت جعفر، فلم يجد جوابًا[7]. ومن ذلك أيضًا أن يهوديًّا ناظَر مسلمًا في مجلس المرتضى، فقال اليهودي: إيش أقول في قوم سماهم الله مدبرين؛ يعني: النبي وأصحابه يوم حُنين؟ فقال المسلم: فإذا كان موسى أدبَر منهم، قال كيف؟ قال: لأن الله قال: ﴿ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ [النمل: 10]، وهؤلاء ما قال فيهم: ولم يُعقبوا، فسكَت[8]. رابعًا: النسيان والذهول: إن ثقة بعض الوُعَّاظ بأنفسهم إلى حد الإفراط، تحملهم أحيانًا على عدم الإعداد للدرس، والتهيُّؤ له بشكل تام، والذاكرة قد تخون صاحبَها عند الحاجة إليها، فنسيان بعض مفردات الدرس يخلط على الواعظ الأوراق، فيُقدِّم ما حقُّه التأخير، ويؤخِّر ما حقه التقديم؛ ولذا من تمام التدبير ما يلي: 1- حفظ مادته وما يتضمَّنه من آياتٍ قرآنية وأحاديثَ نبوية، وفوائدَ مستنبطة من الدرس، وإن تطلَّب ذلك كتابة الدرس، فهو الأفضل؛ حتى يكون له مَلكة على حفظِ الدروس تلقائيًّا. 2- كتابة المحاور الرئيسة والخطوط العامَّة في ورقةٍ صغيرة إن خُشِي النسيان، والنظر إليها عند الحاجة، ولا يَنقص ذلك من قدره كما يظنُّ البعض [9]. ومن التدابير المؤقتة في حال النسيان، تَكرار تلاوة الآية، ريثما تَنقدح في نفس الواعظ فائدة، أو يتذكَّر ما نَسِيه؛ ليستمرَّ في وعظه. أمور شكلية ولكنها مهمة: مثل الحرص على ضبْط السمَّاعات الداخلية والخارجية؛ ليصل الصوت إلى الجميع - رجالاً ونساءً - خشية حدوث خللٍ يُنغص على الداعية استمراره في الإلقاء، ويتم ذلك بالتعاون مع إدارة المسجد من مؤذِّن ونحوه، وليكن الداعية ابن وقته، يؤدي دوره في التعليم والتوجيه في أصعب الظروف والأحوال، فإن بعض الوعاظ لا تَطيب نفسه إلا إذا كان كل شيء في المسجد على ما ينبغي ويُرام، فلو حدث أدنى خللٍ أو نشازٍ، لعكَّر من مزاجه، وجعله ينقطع عن الدرس والموعظة، وهذا خطأ واضح؛ لأن الداعية لا يُسَيِّر نفسه على نمطٍ معين، بل يتأقْلَم مع الوضع، ويكون هدفه توصيل كلمة الحق بالوسائل المتاحة المُتيسرة لديه في الوقت الراهن، وفي السيرة النبوية مواقف من دعوة رسولنا الكريم، ووسائل عدة يمكن للواعظ أن يَقيس نفسه على حال صاحب الدعوة، ففي السيرة أنه - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا كان يخطب على ناقته[10]، وأحيانًا يُراوح بين رِجليه من طول الوقوف[11]، والغالب هو دعوته في حال الجلوس، ومما يُذكر عن المُقرئ الشيخ محمد صديق المنشاوي - رحمه الله - قيام أحد الحسَّاد بعمل حيلةٍ في أحد المحافل، لَمَّا رأى من إقبال الجمهور للاستماع إلى تلاوته، وهذا الجمهور قد قارَب الـ10 آلاف مستمع، فأوصى صاحبَ الجهاز بتعطيل المايكروفون، والقصَّة معروفة في ترجمة الشيخ، فما كان من الشيخ إلاَّ أن قام من أجْل الهدف الذي يبغيه من إيصال صوت الحق إلى الناس كافَّة، فبدأ يقرأ وهو يَمشي بين الجمهور، حتَّى بَهَر الحضور بصوته العذب، وأدائه المتميِّز، فانصرف ذلك الحاسِد مغمومًا[12]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيِّه وصفوة خلقه سيدنا محمد، وعلى آله وصحْبه أجمعين. [1] من يُجند نفسه للدعوة والإصلاح، فسَيجد الكثير من المُنغصات، بل حربًا ضروسًا من مؤسسات غرَضها إفساد دعوة المصلحين العاملين، واقتَصرتُ في هذا البحث على مُنغصات الداعي في إطار درس المسجد، ومن أحبَّ مراجعة المزيد، فعليه قراءة كتاب "أصول الدعوة"؛ للأستاذ الدكتور عبدالكريم زيدان. [2] يُستحب قراءة كتاب: "الرحيق المختوم"؛ للشيخ صفي الرحمن المباركفوري من ص 64 (أدوار الدعوة) إلى هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 138، طُبِع في دار الأرقم للطباعة والنشر. [3] انظر: ديوان الأمير الشاعر أبي فراس الحمداني، وقد طُبِعَ في سوريا؛ تحقيق الدكتور سامي الدهان، انظر هذه الأبيات، ص 431. [4] وهو مما كان يحرِص عليه الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد قال ابنُ مسعود - رضي الله عنه -: "إن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يَتخَوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهية السآمة علينا"، ولم يكن مِن هديه إعطاءُ دروسٍ في جميع الأيام؛ ذلك لأنَّ دعوته تأخذ أشكالاً مختلفة، تارةً بالقول، وأخرى بالسلوك والقُدوة الحسنة، وبعض الوُعَّاظ يرى تملمُل الناس وضَجرهم من طول الموعظة، بل وخروجهم من المسجد، ويُصر على عادته، وكأنه يخاطب حجرًا لا بشرًا. [5] إن الجهل وقلة الخبرة، وعدم تطوير الذات - من عوامل عدة تَحول بين الداعية ومعرفة مجالات في التأثير وأساليبه ووسائله، وبدلاً من ذلك يلجأ هؤلاء إلى تصرُّفات تُسيء إلى الدعوة، بدلاً من خدمتها. [6] تفسير ابن كثير، ص 77، المجلد الثالث، طبْع المكتبة القيِّمة للطباعة والنشر، عام 1993؛ مراجعة دار البحوث بالأزهر. [7] أخبار الأذكياء؛ لابن الجوزي، ص 103، الباب العشرون، طُبِع بدار الوعي العربي، حلب - سوريا. [8] المصدر السابق، ص 108. [9] بعض الوُعَّاظ يتحرَّج من ذلك، ويظن أن ذلك يعد نقصًا، وهو خطأٌ واضح؛ لأن الغرض هو إيصال المعلومة الصحيحة، ومعرفة كيف يتسلَّل الواعظ إلى نفوس الحاضرين دون أن يشعروا بذلك. [10] رُوي عن عكرمة بن عمار، قال: أخبرني الهرماس بن زياد الباهلي، قال: أبصرتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس على ناقته العَضْباء بمنًى؛ رواه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب مَن قال: خطَب يوم النحر، رقْم (1954)، وحسَّنه الألباني - رحمه الله - في صحيح أبي داود (1/ 368)، رقْم (1721). [11] عن عثمان بن عبدالله بن أوس عن جده أوس بن حذيفة، قال: قدِمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف، فنزلوا الأحلاف على المغيرة بن شُعبة، وأنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني مالك في قبة له، فكان يأتينا كلَّ ليلة بعد العشاء، فيُحدثنا قائمًا على رِجليه؛ حتى يراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدِّثنا ما لَقِي من قومه من قريش، ويقول: ((ولا سواء، كنا مستضعفين مُستذلين، فلما خرجنا إلى المدينة، كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، نُدال عليهم ويُدالون علينا))، فلما كان ذات ليلة، أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلت: يا رسول الله، لقد أبطأت علينا الليلة، قال: ((إنه طرأ عليّ حزبي من القرآن، فكرِهت أن أخرج حتى أتمَّه))، قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تُحزِّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصَّل؛ رواه ابن ماجه في سننه، رقم 1345، باب في كم يُستحب يُختَم القرآن، وفي سنن أبي داود، الصفحة أو الرقْم 1393. [12] انظر: بحث تجويد المنشاوي، دراسة وتحليل، على موقع الألوكة. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
دواعي قوة الخطيب تنقسم دواعي قوة الخطيب إلى قسمين: أساسي، وفرعي. القسم الأساسي منها كالآتي: 1 - استعداده الفطري: ويمكن له أن يقوي هذا الاستعداد وينمِّيه بالتدريب، وكثرة مزاولة الخطابة. 2 - اللسَن والفصاحة: ومنه حسن المنطق، وصحة إظهار الحروف، ثم قوة التعبير، واختيار الألفاظ. 3 - التزود بالعلوم من شتى الفنون: وهذا يساعده على الذي قبله ويمده في كل موقف وعلاج كل موضوع. 4 - حضور البديهة: وهي الَّتي تعينه على مواجهة الطوارئ حسَب مقتضيات المواقف المختلفة. 5 - معرفة نفسيَّة السَّامعين: ليتجاوب معهم ما أمكن؛ ولهذا العنصر أهمية كبرى؛ لأنه آذان السامعين، والنافذة الَّتي ينفذ منها إلى القلوب. 6 - العواطف الجياشة بمعاني الموضوع الذي تتناوله الخطبة: وإيمان الخطيب بفكرته، وثقته بنجاحه. والعاطفة خاصة هي الطاقة الَّتي تحركه، والقوة الَّتي تدفعه، كما أن إيمان الخطيب بفكرته هو الأساس الذي يرتكز عليه، والدعامة الَّتي يقوم عليها بين الجماهير، وثقته بالنجاح هي الرابطة بين موضوعه وشعور الجماهير. أما العوامل الفرعية، فهي عوامل شكلية تكسب الخطيب هيبةً ووقارًا تدعم موقفه منها: 1 - حُسن سَمْتِه: مما يَلفِت الأنظار إليه ويُعلِي قدره قبل تحدثه. 2 - رَوعة إلقائه: وتكييف نبرات صوته، وحُسْن جَرسِه مما يستولي على أسماع الحاضرين. 3 - حسن إشارته: ومجيئها في مواضعها عند الحاجة. 4 - إخلاصه، وسمو أخلاقه، وحسن سيرته: وخاصَّة في الخطابة الدينية، وقد سمع الحسَن البصري رحمه الله خطيبًا، ولم يتأثر به فقال: "يا هذا، إن بقلبك لشرًّا أو بقلبي". وأخيرًا؛ مراعاة كل ما يلزم قبل الإقدام على الخطابة. عيوب الخطابة، وما ينبغي للخطيب تجنُّبه تنقسم العيوب في الخطابة إلى قسمين: 1 - قسم خَلْقي: في الخطيب يتعلق بالنطق، كاللثغ، والفأفاة، والتأتأة. أ - واللثغ: هو تغيير بعد الحروف كالراء ينطقها غينًا أو ياء أو بينهما، ويرى كبار العلماء أنه أخفها بل ويستعذبها بعض الناس ويعدها الجاحظ من (محاسن النبلاء والأشراف)، وواصل بن عطاء من كبار الخطباء وكان ألثغ في الراء، فكان يحاول مجانبتها باستعمال كلمات خالية من الراء بدلاً مما هي فيها. ومن طريف ما ينقل عنه في بشار بن برد يرد عليه قال: "أما لهذا الأعمى الملحد المشنَّف المكنَّى بأبي معاذ مَن يقتله، أما والله، لولا أن الغيلة سجيَّة من سجايا الغالية لبعثت إليه من يَبْعَج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله أو في حفله"، فتراه قد جانب الراء في (بشار)، وفي (المرعث)، وفي (ابن برد) واستبدلها بأوصافه المشنَّف، أبي معاذ، واستعمل (الملحد) بدلاً من (الكافر)، واستعمل (بعثت) بدلاً من (أرسلت)، و(يبعج) بدلاً من (يبقر)، و(مضجعه) بدلاً من (فراشه)، و(منزله) بدلاً من (داره). ومثل ذلك ما حُكِيَ من أن بعض الناس أراد إحراجه وهو يخطب فناوله ورقةً مكتوب فيها: "أمَرَ أمِيرُ المؤمِنِين بِحفر بئر على قارعة الطريق؛ ليرِدَه الجائي والرائح"، فتناولها وعلم المقصود منها لكثرة الراء فيها، فقال: "حكم الخليفة بشق جب على جانب السبيل ليتزود منه الجائي والغادي"، ومثل ذلك وإن كان لا يخلو من الصنعة إلاَّ أنه يعطي صورة لمحاولة تجنُّب اللثغة في الخطابة. ب - والفأفأة: كثرة ظهور الفاء في الكلام لثقل في اللسان، ومثلها التأتأة، وبعض الناس يظهر ذلك في نطقه العادي، فإذا أخذ في الخطابة، قل ظهوره في كلامه، إما لحماسة، أو لسرعة إلقائه، أو لشدة عنايته. 2 - وقسم عارض أثناء الخطابة: كالحصر، والإعياء، والاستعانة. أما الحصر: وهو احتباس اللسان عن الكلام، فقد يطرأ على الخطيب بسبب الدهشة مما يفجأ نظره أو سمعه، أو بالحيرة مما يواجهه أو يتوهمه، قال أبو هلال العسكري: "الحيرة والدهشة، يورثان الحبسة والحصر، وهذا من أخطر المواقف على الخطيب، سرعان ما تظهر آثاره على وجهه، فيشحب لونه، ويتصبَّب عرقه، ويجف ريقه، وربما دارت رأسه، وطنَّت أذنه، وخارت قواه، وقل أن يوجد لهذه الأزمة حلٌّ إلاَّ جَلَدَ الخطيب وقوة شخصيته، وخير وسيلة لتدارك موقفه، إما بالجلوس وتناول شيء من الماء، أو طلبه إن لم يكن موجودًا، ولو لم تكن لديه شدة حاجة، وإما بتناوله كتابًا أو جريدةً أو أوراقًا يقلب صفحاتها، أو قلما يتأمل فيه، أو أي شيء يتشاغل به نسبيًّا، حتى تذهب عنه الدهشة، وهو في أثناء ذلك يعالج بفكره افتتاح الكلام، ولو أن يقرأ فاتحة الكتاب، ومن هنا كانت قوة شخصية الخطيب وإعداده للخطبة أقوَى عدة لنجاح الخطابة. وقد يسعف الخطيب عبارة موجزة تغطي الموقف فيكتفي بها، وكأنه ما أراد إلاَّ هي فيحسن التخلُّص من المأزق بها. صور من ذلك: 1 - في أول خلافة عثمان رضي الله عنه صعد المنبر ليخطب الناس فأرتج، فقال: "أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن أَعِشْ تأتكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد العسر يسرًا"[1]، هكذا يروي علماء الأدب، وابن كثير يقول: "لم أجد ذلك بسند تسكن النفس إليه"[2]. 2 - ما ينقل عن ثابت بن قطنة على منبر سجستان يوم الجمعة، وقد أحصر، فقال: "سيجعل الله بعد عسر يسرًا، وبعد عِيٍّ بيانًا، وأنتم إلى أميرٍ فعالٍ أحوج منكم إلى أميرٍ قوَّال: فَإنْ لا أكُنْ فِيكُمْ خَطِيبًا فَإنَّنِي ♦♦♦ بِسَيْفِي إذَا جَدَّ الْوَغَي لَخَطِيبُ فكان اعتذاره أبلغ من خطابة غيره، حتى قال خالد بن صفوان لما بلغه خبره: "والله ما علا ذلك المنبر أخطب منه في كلماته هذه". 3 - وقال المبرد: حُدِّثْتُ أن أبا بكر رضي الله عنه ولَّى يزيد بن أبي سفيان رَبْعًا من أرباع الشام، فرقي المنبر فتكلم فأُرْتِجَ عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة، فقال: "سيجعل الله بعد عسر يسرًا، وبعد عي بيانًا، وأنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال"، فبلغ كلامه عمرو بن العاص، فقال: "هن مخرجاتي من الشام، استحسانًا لكلامه". 4 - وقد يسعف الخطيب نفسه بحسن تصرفه في مال أو نحوه، كما فعل عبدالله بن عامر بالبصرة، لما أرتج عليه يوم العيد، فقال: "والله، لا أجمع عليكم عيًّا ولؤمًا، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي". وعلى الخطيب أن يحتال ليخلص نفسه ولا يُرمَى بما يجري على لسانه بدونه أن يزنه، فقد يوقع نفسه في أسوأ مما هو فيه، كما وقع من مصعب بن حيان، دُعي ليخطب في نكاح فأرتج عليه، فقال: "لقنوا موتاكم (لا إله إلاَّ الله)"، فقالت أم الجارية: "عجل الله موتك، ألهذا دعوناك". وقريب منه ما وقع لعبدالله العشري لما أرتج عليه، وهو على المنبر، فقال: "أطعموني ماء"، فعُيِّر بذلك؛ لاستعماله أطعموني بدل اسقوني. أما الاستعانة، فهي: ما يتحيَّل به الخطيب لاستجداء فكره وكلامه، وقد يصبح عادة، وهو لا يدري. من ذلك أن يعبث بأصابعه أو مسبحته أو أنفه أو لحيته أو عمامته... إلخ، أو أن يأتي بعبارات ليست ذات معنى جديد: إما إعادة لعبارات مضت، أو قوله كمثل: "علمتم، أيها الناس، اسمعوا ما أقول، أفهمتم ما مضى؟" قال رجل للعتابي: ما البلاغة؟ فقال: كل ما أفهمك حاجته من غير إعادة، ولا حبسة ولا استعانة، فهو بليغ، قال: قد عرفت الإعادة والحبسة، فما الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع كلامه: يا هناه، ويا هذا، ويا هيه، واسمع مني، واستمع إلي. قال المبرد (1/ 19): أما ما ذكرناه من الاستعانة فهو: أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه؛ ليصحح به نظمًا أو وزنًا إن كان في شعر، أو ليتذكر به ما بعده إن كان في كلام منثور، كنحو ما تسمعه في كثير من كلام العامة، مثل قولهم: ألست تسمع؟ أفهمت؟ أين أنت؟ وما أشبه هذا، وربما تشاغل العيِيُّ بفتل أصابعه، ومس لحيته، وغير ذلك من بدنه، وربما تنحنح، وقد قال الشاعر يعيب بعض الخطباء: مَلِيءٌ بِبَهْرٍ وَالْتِفَاتٍ وَسَعْلَةٍ ♦♦♦ وَسَمْحَةِ عَثْنُونٍ وَفَتْلِ الأصَابِعِ وقال رجل من الخوارج يصف خطيبًا منهم بالجبن، وأنه مجيد لولا أن الرعب أذهله: نَحْنَحَ زَيْدٌ وَسَعَلْ *** لَمَّا رَأى وَقْعَ الأسَلْ وَيْلُمِّهِ إذَا ارْتَجَـلْ *** ثُمَّ أطَالَ وَاحْتَفَـلْ قوله (ويلمه)، أي: ويل لأمه، عبارةُ تعجب، أي: إذا ارتجل كان فصيحًا وأطال واحتفل، ولكنه نحنح وسعل لما رأى وقع السلاح. وقد يتعود الخطيب بعض تلك الأشياء، فتصبح ملازمة له بدون حاجة، فليحذر المتكلم التعود عليها، وأحسن طريق لتجنُّب هذه العيوب، هو حسن التحضير، والإيجاز في التعبير، والتمهُّل في الإلقاء، حتى يكون كلامه بقدر ما يسعفه تفكيره. [1] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 62)، وضعَّفه مشهور سلمان في كتابه (قصص لا تثبت 2/ 72) بأن في إسناده الواقدي وهو متروك. [2] البداية (7/ 148)، (حاشية في الأصل). __________________________________________________ الكاتب: الشيخ عطية محمد سالم المصدر: كتاب: "أصول الخطابة والإنشاء". |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
مميزات الخطيب الناجح (1/2) الخطابة فنٌّ قديم، نشأ قبل الإسلام، ولها من التأثير ما هو أقوى من تأثير الكلمة المقروءة، وقد كان النَّاس في الجاهليَّة يتجمَّعون في سوق عكاظ، ويتبارى الشعَراء والوعاظ في إلقاء ما عندهم من شعرٍ ونثرٍ، ولَمَّا جاء الإسلام زادَها جمالاً، واشترط لها شروطًا، وأوجب حضورها على كل مسلم مكلَّف، وألزم المسلمين بالإنصات لها، واشترط لها الوقت، إلى غير ذلك من أمور موجودة في كتب الفقه[1]. ولما كانت الخطابة بهذه المثابة والأهمية، فإن ثمَّة ملاحظاتٍ يجب على الواعظ ملاحظتُها في حال خطبتِه؛ ليصل إلى ما يصبو إليه، وهي ما يأتي: أولاً: الإكثار من الآيات القرآنية؛ ففيها الوعْظ والشِّفاء، ثم الاستدلال بالمأثور من الأحاديث الصحيحة، وتجنُّب الأحاديث المَوْضُوعة، ففي دواوين المسلمين مثل: "صحيح البخاري"، و"مسلم"، و"الترمذي"، و"النسائي"، وغيرهم، المرغِّبة في الجنة، والمخوِّفة من النار - ما يغني عن رواية الأحاديث الموضوعة، ولقول سيِّدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - : «مَن كذب علي متعمدًا، فلْيَتَبَوَّأ مقْعده من النار» [2]. ثانيًا: الاستعانة بالقصص الواردة في القرآن والسنَّة وربطها بالواقع؛ مثل: قصَّة إبراهيم الخليل مع أبيه، وقصَّة أصحاب الكهف وما فيها من العبر والعظات، وفي الحديث: مثل قصَّة الذي قَتَل مائة نفس في باب التوبة، وغيرها من القصص، ولا بأس من الاستعانة بضرْب الأمثال وتصوير المعاني بأشياء محسوسة من الواقع من أجل تقريب المعاني إلى الأذهان؛ مثل: تمثيل رحمة الله بالعبد، وأنه - سبحانه - أرْحَم منَ الوالدة على ولدها[3]؛ ولذلك دعاه للتوبة وقبلها منه، وأنه لو شاء أخذه بذنبه، وعجَّل له العقوبة في الدنيا، ولكنه - سبحانه - يمهل ولا يهمل. ثالثًا: عدم إطالة الخطبة؛ لأنها تورِث المَلَل والسآمَة، وإطالة الخطبة في الغالب تنشأ مِن أمرَيْن: الأول: إعجاب الخطيب بنفسه، وأنه قد أضاف شيئًا إلى معلوماتهم. والثاني: السهْو والنِّسيان، ولكن يجب أن نذكِّر بأنَّ الأمَّة الإسلامية قد طالتْ مِحنتها، وحاجتها إلى كلام قليل مؤثِّر أعظم من حاجتها إلى الكلام الطَّويل، وليس هناك أعظم مَوْعِظة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أوتيَ جوامع الكلم، ورغْم ذلك فقد ثبت عنْه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: «إنَّ طول صلاة الرَّجل وقصر خطبته مئنَّة من فقهه» [4]، وفي الحديث: "وعظنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا بعد صلاة الغداة موعِظة بليغة، ذرفت منها العُيون ووجلت منها القُلوب، فقال رجل: إنَّ هذه موعِظة مودِّع ......."[5]. والبلاغة - كما قال العُلماء -: هي التوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة وإيصالها إلى قلوب السَّامعين، بأحسن صورة من الألْفاظ الدالَّة عليْها، وأفصحها وأجلّها لدى الأسماع، وأوْقعها في القلوب، ولكن ترى ما هي الموْعظة البليغة القصيرة التي أثَّرت في قلوب الصَّحابة، فذرفت لها عيونُهم ووجلت لها قلوبهم؟ لقد قال لهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أُوصيكم بتقْوى الله والسَّمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنَّه مَن يعِش منكم بعدي فسيرى اختِلافًا، فعليْكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومحْدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة وكلَّ بدعة ضلالة» [6]. لقد دلَّت موْعِظة رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - على شيءٍ أقره العلم النفسي الحديث، وهي أنَّ الطَّاقة الذهنيَّة للإنسان محْدودة، لا يمكن في العادة أن تُتابع الكلام بانتباه طويل لأكثر من 15 دقيقة، وبعدها تُصاب بالشُّرود والتَّعب، ويتمنَّى المستمع حينئذٍ أن يستريح ذهنُه حتَّى يجد أمرًا، أو مشوقًا آخَر. فينبغي أن يكون كلام الخطيب جامعًا موجزًا، صادرًا من قلْب صادق، وتفكيرٍ هادئ، وألا يحول بيْنه وبين المستمِعين أي حائل نفسي سوى مراقبة الله والخوف منه؛ ولهذا ينبغي عليه قبل الشُّروع في الخطبة وارْتقاء المنبر تصفية نفسِه ممَّا علق بها من شوائب وأكْدار، وتَهذيبها من العلائق، والدُّعاء بصدقٍ أن يوفِّقه الله في وعْظِه، وأن يسدِّد كلامه، وأن يكون له وقْع طيب في الأسماع والقلوب. رابعًا: من المستحْسن أن تبدأ الخُطبة بما يجلب انتِباه السَّامعين، من حادثٍ مهمٍّ وخبر ذي فائدة، ثمَّ يرْبطه بمعاني القرآن والسُّنن الكونيَّة، ثمَّ على الخطيب بعد ذلك أن يَمضي مسترْسِلاً في وعْظه، ويقرن بين التَّبشير والإنذار، ويتخيَّر من الحوادث ما يكون محْور وعظِه، ومدار خطبته، ثمَّ يخرج بعد ذلك العرض بحلٍّ شرْعي ممَّا استجدَّ من حوادث، وما حلَّ بالمسلمين من ضِيقٍ وبلاء، ويذكِّرهم دائمًا بأنَّ المخرج من ذلك كلِّه هو طاعة الله وطاعة رسولِه وأولي الأمر، فهو سببٌ لسَعادة الدُّنيا والآخرة. خامسًا: من المهمِّ جدًّا أن يكون موضوعُ الخُطبة واضحًا في ذهن الخطيب، وأن تكون المادَّة العلميَّة التي يُراد طرْحها وتعْريف النَّاس بها حاضرةً في الذِّهن قبل الشُّروع في الخطبة، ويُمكن اتِّخاذ الوسائل والتَّدابير لذلك، مثل تدْوين رُؤوس المسائل والخطوط العامَّة في "ورقة صغيرة" يرْجع إليْها عند الحاجة؛ حتَّى لا يتحرَّج فيخْلط بعدها في كلامه، أو يستطْرِد في أمرٍ لا علاقةَ له بصلب الموضوع، فيفقد هيْبته في القلوب. سادسًا: على الخطيب أن يَحذر من ذِكْر ما يُساء فهمه من الآيات والأحاديث، دون أن يُلْقِي عليْها الضَّوء من شرْحٍ أو تعْليق ليزول[7] الإشْكال، مثْل ذِكْر الأحاديث الَّتي فيها أنَّ الله أدْخل الجنَّة مَن سقى الكلْب[8] - وكان صاحب معصية كبيرة - فغفر له، فيظن الظَّانُّ أنَّ مجرَّد هذا العمل يدخِل الجنة دون توبة أو رجوع إلى الله. سابعًا: هناك أمور ينبغي على الخطيب الانتِباه إليها، وهي إن كانت بسيطة لكنَّها هامَّة تجعل الخطيب يَملك زمام الأمور، ويأخُذ بناصية المواقف، وتَمنحه قوَّة الشَّخصية: مثل هندسة الصَّوت، فلا يرفع صوته لغير حاجه، ولا يكون بطيئًا فتملّه الأسْماع. ومنها أيضًا عدَم الإكثار من الإشارة بدون سببٍ، فيكون حالُه كالممثِّل على خشبة المسرح، بل يتمَّ توزيع ذلك باعتِدال تامٍّ أمام الحاضرين. ومنها الالتفات المعقول، فلا يشير إلى أحد بعينه أو طائفةٍ من النَّاس وهو يتكلَّم مثلاً عن المنافقين أو الكافرين؛ لئلاَّ يقع في سوء الظَّنّ. وهناك أمور تتعلَّق بالخطيب نفسه وما ينبغي أن يكون عليه من صفات وأخلاق، نشير إليها بإيجاز، ومنْها: • أن يدْعو بالحِكْمة والموعظة الحسنة، ويتسلَّل إلى قلوب الحاضرين، فيصِل إلى ما يُنْكِرون من حيث لا يشْعرون، فيشتدّ في مواضع الشدَّة، ويلين في مواضع اللين. • أن يكون الخطيب عالمًا بسائر الأحكام الشرعيَّة، ومسائل الخلاف ومدارك العلماء، ومن أين أخذوا؛ ليتمكَّن من الإجابة على أسئِلة النَّاس على بيِّنة، خاصَّة في مسائل العبادات والمعاملات. • أن تكون له مهابةٌ في القلوب، فيستعمل خلق الورَع والخوف من الله كما هو دأب أوْلياء الله الصَّالِحين، فلا يرتكِب كبيرةً أو يصرّ على صغيرة؛ حتَّى تعظِّمه النفوس وتنقاد إلى سماعِه الأبدان. • أن تكون له معرفة قويَّة باللُّغة العربيَّة، مثل علم الإعراب، وعلم الأساليب (المعاني والبيان والبديع)، وهذا يَحصُل بِممارسة الكلام البليغ ومزاولتِه؛ حتَّى تكون له ملَكة على تأليف الكلام وإنشائه، فيعبِّر عن المعاني العديدة بألْفاظ وجيزة. لقد كانت عمليَّة الخطابة عند فقهائِنا الأجلاَّء تسدُّ أكثر الثَّغرات في المجتمع المسلم، وتُعالج معظم الانحِرافات العقديَّة والاجتِماعيَّة، بفضل ما كان عليه علماؤُنا من خلُق ودين وورَع، ولما كان الخطيب نفسه يتمتَّع به من شخصيَّة مؤثِّرة في قلوب مَن يُخاطِبهم. مقترحات وتوصيات: في بلاد الإسلام - ولله المنُّ والفضل - آلافُ المساجد يَحضُرها كمٌّ هائل من المصلِّين، فلو فكَّرت وزارات الأوْقاف في تلك البلاد في تهْيئة كادر من الخُطباء والوعَّاظ، تتوفَّر فيهم الصِّفات المؤهّلة لشغل تلك الوظيفة الهامَّة، وبعد تفكيرٍ رأيتُ أنَّ أسلم طريق، وأنْجح وسيلة في تكوين الخُطَباء هي اتِّباع ما يلي: أوَّلاً: أن تقوم تلك الهيْئات الرَّسميَّة بتربية الخطيب، من خِلال حثِّ الخطباء على إتقان القرآن على يدِ مقْرئ متْقن، وبعد تحصيل العلوم الأوَّلية التي تنمِّي الموهبة، وتنشط العقل، وتفتق الذِّهن. ثانيًا: توجيه الخُطباء إلى قراءة ما يتعلَّق بكتُب الأدَب - وخاصَّةً الشعرَ والنثر - وإجادة الخط العربي؛ لما لذلك من أهمية في شخصيَّة الخطيب وتأثيره على المستمعين. ثالثًا: الاهتِمام بقواعد اللُّغة العربيَّة من النَّحو مع التَّطبيق العملي لآيات القرآن؛ إذْ لا يحسُن بالخطيب أن تظهَر منه أخطاء لغويَّة وهو يعتلي المنبر ويوجِّه النَّاس. رابعًا: أن يطلب من الخطيب أن يُكْثِر من تِلاوة القرآن، مع الاستِعانة بفهْم القرآن وتدبُّر معانيه، ومِن خلال قراءة كتُب التَّفسير المعتمَدة، ثمَّ يعوَّد على الاستقلالية في الفهْم والتَّصوُّر المبني على الكِتاب والسنَّة؛ من أجل تقْريب معاني القرآن إلى أذْهان النَّاس وبأسلوب العصر. خامسًا: على الخطيبِ أن يُضيف إلى رصيدِه المعرفة التَّامَّة بسيرة الرَّسول الأعظم وسنَّته القوليَّة والفعليَّة، وذلك من خِلال قراءة ما يتعلَّق بكتُب السِّيرة، ومِن أعظمِها نفعًا كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم - رحِمه الله تعالى - ودراسة ما يتعلَّق بمصطَلح الحديث؛ ليتمكَّن من معرفة صحَّة الحديث، مع دِراسة فقْه الحديث من كتاب "بلوغ المرام شرح أحاديث الأحكام"؛ ليتمكَّن من الإجابة على الأسئِلة التي تعرض عليه. سادسًا: دِراسة أحوال البشر، فقد بيَّن الله في كِتابه كثيرًا من أحْوال الخلق وطبائِعهم، والسُّنن الربَّانيَّة في البشَر وتقلُّبات الأحوال، يقول محمَّد رشيد رضا: "فلا بدَّ للنَّاظر في هذا الكتاب – أي: القرآن - من النَّظر في أحوال البشَر في أطوارهم وأدْوارهم، وما ينشأ من اختِلاف أحْوالهم من ضعف وقوَّة، وعزَّة وذُل، وعلم وجهْل، وإيمان وكفر"[9]، كلُّ ذلك من أجل أن يتمكَّن الخطيب من اقْتِلاع الأمراض القلبيَّة والاجتِماعية من نفوس المجتمع، ولا بأس مع ذلك من أن يتعلَّم بعض الظَّواهر الكونيَّة[10]، وذلك بدِراسة العلوم الَّتي تبصِّره بنظام الكوْن وسنته، فيستدلُّ بآيات القرآن على وحدانيَّة الله وربوبيَّته للخلق. سابعًا: إعداد خُطباء مهمَّتهم تذكير النَّاس في الميادين العامَّة والمتنزهات الجامعة؛ لأنَّ قصر الخطبة على أيَّام الجمع يكون قليلَ الفائدة، وقد كان من هدْي الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يخطب في غير أيَّام الجمع ما دعت إليْه الحاجة، أو حصول أمرٍ مهمّ يُحب التَّنبيه إليْه أو التَّحذير منْه. ثامنًا: أن تقومَ تلك الهيْئات بِمتابعة الخُطَباء في مساجِدِهم، والاستِماع إلى شكْواهم، والاستِماع إلى مواعظِهم والتنبُّه لأخطائهم، ويؤمروا ألاَّ يتكلَّموا بِما يعلو أذهان النَّاس، أو لا يناسب مستوياتِهم وواقعهم، فالخُطبة إنَّما شرعتْ لتذكير النَّاس بشؤون المعاد والآخِرة، ولا بأس من التطرُّق إلى مواضيع تخصُّ حياة النَّاس العمليَّة والمعيشيَّة، ومعالجتها على ضوْء القرآن والسنَّة. [1] انظر: "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" جزء 2 ص561، وما بعدها. [2] صحيح رواه البخاري (1291)، ومسلم (4)، وروي الحديث بغير هذا اللفظ، انظر رقم: 2142 في صحيح الجامع. [3] المصدر: "مجموع الفتاوى"، الصفحة أو الرقم: 16/ 299، والحديث: صحيح. [4] الحديث رواه عمار بن ياسر، المحدث: مسلم، المصدر: المسند الصحيح، الصفحة أو الرقم: 869. [5] الترمذي، المصدر: سنن الترمذي، الصفحة أو الرقم: 2676 والحديث: حسن صحيح. [6] المرجع السابق. [7] استفدت بعض الشيء من كتاب "أصول الدعوة" للدكتور عبدالكريم زيدان، ص471، في النقاط الأخيرة الخامسة والسادسة. [8] البخاري، المصدر: "الجامع الصحيح"، الصفحة أو الرقم: 3467 الحديث: [صحيح]. [9] تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا:ج 1-ص 23. [10] مثل قراءة كتاب توحيد الخالق للشيخ الزنداني بأجزائه الثَّلاثة. ______________________________________ الكاتب: مرشد الحيالي |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
كيف تحضر خطبة ؟ قبل البدء في تحضير الخطبة لا بد من اعتبارات تمهيدية: أولاً: اعرف مستمعيك: أول خطوة في التخطيط للخطبة هي معرفة جمهور المستمعين فعليك مثلاً أن تعي طبيعة المجموعة التي ستتحدث إليها والقضايا التي تهم الحاضرين، ومن تحدث إليهم قبلك، وما مواقف المستمعين تجاه موضوع الحديث كما ينبغي التعرف على أي عناصر مشاكسة موجودة بين الحاضرين والعناصر الصديقة أو المتعاطفة مع آراء المتحدث. ولتحقيق جو من الألفة والتواصل مع جمهور المستمعين، على المتحدث أن يصل مكان الاجتماع مبكراً، وأن يكون بين آخر المنصرفين هذا من شأنه أن يمكن المتحدث من التعرف على بعض الحاضرين واكتشاف العناصر الحليفة بينهم كما يوفر فرصة للتحدث إلى المعارضين والتعرف عليهم بصفة شخصية إذا دعت الحاجة إلى الإشارة إليهم بالاسم أثناء الحديث وإلى آرائهم كنوع من إبداء التقدير والاحترام لهم، ويمكن الاستفادة من ذلك لتعزيز وتقوية بعض النقاط التي سترد في الخطبة أو الحديث. ثانياً: أكد مصداقيتك: يستجيب الجمهور المستمع للمتحدث إذا اقتنع بمصداقيته ولتأكيد هذه المصداقية فإن على المتحدث أن يكون على دراية تامة بالموضوع الذي يتناوله، وأن يكون بإمكان مستمعيه أن يصدقوه فيما يطرح من أفكاره، وأن بكسبه تصرفاته حب الجمهور وإقباله عليه. فعندما آن الأوان لأن يجهر رسول الله _عليه السلام_ لأهل مكة ببعثته وأن يبلغهم رسالة ربه وقف على جبل الصفا ودعاهم للتجمع ليخطب فيهم بأن قال: «يا معشر قريش، لو أخبرتكم أن جيشاً يوشك أن يظهر عليكم من وراء هذا الجبل فهل كنتم مصدقي» ؟ فقالوا: نعم، وذلك لأنهم لم يعرفوا عليه الكذب طوال أربعين عاماً، وبعد أن أكّد مصداقيته لديهم قال لهم: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب يوم شديد». إعداد الخطبة: نقدم فيما يلي أنموذجاً عاماً للخطبة، وقد لا يكون مناسباً في جميع الحالات، إذ قد تملي مناسبة خاصة أو يفرض موضوع ذو ملامح معينة أنموذجاً مختلفاً، ولكن الهدف يجب أن يكون دائماً هو إعداد خطبة متكاملة تنقل أفكار المتحدث بوضوح مع العناية بجذب اهتمام المستمعين وحسن إنصاتهم وتركيزهم. 1 – اختر الموضوع المناسب لخطبتك: وحدِّد عنوانه وعناصره بدقة، وضع خطة شاملة له، مستحضراً الأسباب التي تجعلك تعتقد بأن هذه القضية هامة للمستمعين متيقناً ضرورة طرحها أمام الرأي العام، مع توضيح مرامي الخطبة. 2 – حلل الموضوع: اشرح الخلفية التاريخية واذكر دروس الماضي، وَضَعْ الموضوع في إطاره العملي والواقعي، إن من أنجع الوسائل ترتيب المادة حسب المواضيع وليس على أساس زمني أو تاريخي، كما أنه من المهم أن يعرف الجمهور بوضوح لماذا أصبحت هذه القضية هامة في هذا الوقت خاصة. 3 – عرض الأمثلة: اضرب أمثلة محددة إذا توافرت من الماضي الإسلامي وغير الإسلامي، أو قصصاً تصويرية أو لغزاً أو شعاراً، وناقش ما اقترح من حلول لوقائع تاريخية مشابهة وما حققته تلك الحلول من نجاح أو إخفاق أما إذا كانت القضية جديدة تماماً فناقش أوجه الشبه أو التباين بينها وبين حالات سابقة. 4 – شخص المشكلة واقترح الحلول: ابدأ بتشخيص المشكلة بشكل إبداعي مستشهداً بالآيات القرآنية التي تعين في التحدث عن الحل، وارجع إلى السنة الشريفة لمزيد من التوضيح، افحص إمكان تطبيق المبادئ القرآنية في واقع المسلمين اليوم، وخذ في حسابك ما طرح من اجتهادات في تفسيرها كمحاولة للتوصل إلى الحل، وقدم اقتراحات لحلول جديدة في إطار مقاصد الشريعة الغراء حين لا توجد النصوص المباشرة في القضية محل البحث. 5 – الخاتمة: هناك فرعان للخاتمة، أحدهما: علمي منهجي، والثاني: تربوي، يشتمل الأول على: - تلخيص أساسيات الموضوع في نقاط محددة لا تتجاوز الخمس كي يسهل استيعابها واستذكارها. - أهم النتائج العلمية والعملية التي تمخضت عنها الخطبة. - فتح آفاق جدية للبحث والتأمل. أما الثاني التربوي فهو أن تختتم حديثك بثلاث نقاط: - التواضع وهو تاج الحكمة والاعتراف بقصور العلم البشري مهما اتسع. - التفاؤل والتأكيد على أن الله _سبحانه وتعالى_ قد جعل لكل شيء سبباً ولكل داء دواء وأن الأمة قادرة على اكتشاف تلك الأسباب والأدوية وإقامة مجتمع أفضل. - التقدم بالشكر والتحية للمنظمين وللمستمعين. ________________________________________________ الكاتب: إسلام داود |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
فن الإلقاء نتناول في موضوعنا هذا فنَّ الإلقاء، ونُجمِل عناصره في نقاط ثلاث: 1-الثقة بالنفس: الثقة بالنفس لازمة في كل الميادين، إنما هي في فن الإلقاء أهم وألزم؛ لأنها هي التي تمنح مُلقي الخطاب راحة تامة، وتُشعره أنه مسيطر على موضوعه بشكل كامل، ويحس أنه قادر على المضي في موضوعه بثقة وثبات. 2-إجالة النظر:للإلقاء فنيَّات، أهمها إجالة النظر في الحاضرين، والنظر في أعينهم؛ لأن هذا يشعرهم أن لهم قيمة لدى مُلقي الخطاب، وأنه يتوجه إليهم بالكلام، وأنه يشعرهم أن فَهْمَ ما يقول أساسي وضروري إلى حدٍّ بعيد. 3-المادة العلمية:إن لم يملك مُلقي الخطاب مادة علمية محترمة، فإن لا قيمة لخطابه؛ لأن الحاضرين يلتمسون منه الحصول على معلومات، والخروج بالفائدة المرجوَّة من الجلسة، فالتحضير الجيِّد وتسجيل الملاحظات وترتيب الأفكار أساسي في إراحة مُلقي الخطاب، وتقديمه لمادته العلمية. لإلقاء الخطاب فنيَّات، تناولنا صورًا عنها، والأكيد أن تنمية جوانب الشخصية، ومن أهمِّها "الثقة بالنفس" حاسمٌة بشكل كبير فيها. ___________________________________________ الكاتب: أسامة طبش |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
|
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
فن الإلقاء أسامة طبش نتناول في موضوعنا هذا فنَّ الإلقاء، ونُجمِل عناصره في نقاط ثلاث: 1-الثقة بالنفس: الثقة بالنفس لازمة في كل الميادين، إنما هي في فن الإلقاء أهم وألزم؛ لأنها هي التي تمنح مُلقي الخطاب راحة تامة، وتُشعره أنه مسيطر على موضوعه بشكل كامل، ويحس أنه قادر على المضي في موضوعه بثقة وثبات. 2-إجالة النظر: للإلقاء فنيَّات، أهمها إجالة النظر في الحاضرين، والنظر في أعينهم؛ لأن هذا يشعرهم أن لهم قيمة لدى مُلقي الخطاب، وأنه يتوجه إليهم بالكلام، وأنه يشعرهم أن فَهْمَ ما يقول أساسي وضروري إلى حدٍّ بعيد. 3-المادة العلمية: إن لم يملك مُلقي الخطاب مادة علمية محترمة، فإن لا قيمة لخطابه؛ لأن الحاضرين يلتمسون منه الحصول على معلومات، والخروج بالفائدة المرجوَّة من الجلسة، فالتحضير الجيِّد وتسجيل الملاحظات وترتيب الأفكار أساسي في إراحة مُلقي الخطاب، وتقديمه لمادته العلمية. لإلقاء الخطاب فنيَّات، تناولنا صورًا عنها، والأكيد أن تنمية جوانب الشخصية، ومن أهمِّها "الثقة بالنفس" حاسمٌة بشكل كبير فيها. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
أخطاء الإلقاء د. نزار نبيل أبو منشار الكلام كثير، واللغة العربية ثرية بمفرداتها، ومع ذلك، ليس كل من جمع الكلمات خطيباً، ولا يقال عن كل قائل: مؤثر. المتحدثون من غير ذوي الخبرة، أو الذين يمارسون الخطابة فجأة، يقعون في مجموعة من الأخطاء يجدر التنبه لها. ١. عدم الاستعداد، فمن باب إنزال الناس منازلهم كما أمرنا بشريعتنا أن تستعد لكل لقاء، وأن تتعب في انتقاء مفردات كلامك أمام الناس والجمهور الذي يستعد لسماعك. على أقل تقدير كن مستعداً لمن جاء مستعداً لك. بادل الناس الاهتمام، لأنهم لو شعروا بإهمالك وعدم جاهزيتك فأنت تضع نفسك طوعاً في دائرة الشخصيات غير المرغوب بها في أذهان الناس، أو في إطار المتحدثين الذين يضيعون وقت الناس بما لا يجدي. ٢. العبوس: أنا لست مجبراً على الاستماع لشخص لا يبتسم في وجهي، أو أراه فأخاف من عبوسه، حتى بافتراض أن لسانه ينطق الحكم والدرر، فإن عبوسه يقول للجمهور: لا تكترث. والبسمة التي هي صدقة في ديننا، هي رسالة تآلف مع الجمهور أيضاً، وبها يتم طرق أبواب القلوب. ٣. عدم التعامل المنطقي مع حركات الجسد. كالتركيز على مكان دون آخر في مجال نظرك، وإكثار حركة اليدين بما لا يتطلبه المقام، وعدم الاهتمام بالزي الرسمي في جمهور يهمه ذلك. ونحو هذه الأمور مما يتصل بشخصية المتحدث والبعد النفسي عند المخاطبين. ٤. التركيز على أحد جناحي الطائر. وأعني بذلك التركيز على الصياغة اللفظية والبديع والجناس والطباق والمحسنات اللفظية على حساب القيم والمفاهيم المشمولة أو المقصودة في الخطاب، أو العكس تماماً؛ كالتركيز على القيم والمضامين الجامدة دون تقديمها للجمهور بقوالب مشجعة على الاستماع إليها وإعمال العقل فيها. الوسطية والاعتدال، والصياغة الاحترافية، تعتمد بالمطلق على التوازن الفعلي بين هذا الجناح وذاك الجناح ليحلق طائر الخطبة. ٥. الإطالة المملة.. فكثير من المتحدثين يتبارون في قدرتهم على خطاب الجماهير لساعات طويلة، ولكنهم يتناسون أن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضا، وخير الكلام ما قلّ ودلّ. وعلى المتحدث أن يعي بحق؛ أن أمامه شيخاً كبيراً، وامرأة لديها متطلبات في بيتها، وطفلاً يحب اللعب ولا يطيق الانتظار، ومريضاً لا يقوى على الجلوس كثيراً، وأناسا لديهم أعمالهم ومسؤولياتهم ولا يمكن أن ينشغلوا عنها كثيراً، فإذا اختصرت واختزلت مقولتك، فهموك وأحبوك، وإن أطلت عليهم سئموا منك ومن أفكارك. ٦. عدم التجديد، والاعتماد على الروتين. فهذا المتحدث قصصه معروفة والآيات التي يحفظها معلومة ومنذ خمس سنوات لم يخرج خارج هذه الأفكار، لماذا سيذهب إليه الناس؟ التجديد هنا؛ أن يقوم المتحدث بتجديد شخصيته ومقدرات خطابه ويحشد أفكاره الجديدة ويصوغ ذلك كله بمقدمة وعرض وخاتمة لم يسمعها الناس، حتى ولو من خلال تنميق وتغيير الصياغات، فالناس تمل التكرار، وتحب التغيير والتعرف على كل جديد.. ولذلك قيل: كن طازجاً تحفظ مكانك في السوق. ٧. عدم الخروج عن نطاقات الواقع المعروف. لنفترض أن خطيب جمعة أو سياسي ما يقف بين الناس ويخاطبهم منذ سنوات بقضايا الواقع ويطرح رأيه فيه، أيهما أجدى برأيك؛ أن يجلب لهم شواهد السابقين وحكايات التاريخ وآثار الأقوام الأخرى أم يبقى في دائرة خطاب محصورة، كل ما فيها هو وصف ما يعيشه المتحدث والمخاطبون على حد سواء. هذا لعمري كما قال أحدهم قديما: وفسر الماء بعد الجهد بالماء، فما تشاهده يشاهده غيرك، وما سمعته سمعوه هم أيضاً . ٨. عدم تلوين لهجة الخطاب. الناس تحب أن تستمع لما يفيدها، أو يلبي لديها حاجة داخلية أو ميولاً معيناً، وهم ينظرون إلى كل متحدث بنظرة تشخيصية ناقدة تماماً كما يتابع الناقد السينمائي أحداث الفيلم وتسلسلها ومنطقيتها وشخصيات الفيلم وتفاصيله الدقيقة. هنا، أنت مطالب بتجديد لسانك كل دقيقة، حدثهم عن فكرتك بآية، وادعمها بحديث، واروها ببيتين من الشعر، ودعّم أركانها بالأمثال والقصص، وداعب وجدان جمهورك بالحكمة، واقتنصهم بشواهد من التاريخ، وحدّق في عيونهم، فإذا شعرت بمللهم فاقذفهم بطرفة قصيرة. هكذا يتم جذب الجمهور إليك وإلى فكرتك، وهكذا يتم التأثير فيهم بقوة. ٩. طول الختام. كلنا يستمع للمتحدثين.. هناك بعض المتحدثين من يعلق الناس في نهاية خطابه كأن أعناقهم ملفوفة بحبل مشنقته حتى ينهي.. لن أطيل عليكم.. اعذروني للإطالة.. لا أريد ان أكون ثقيل الظل.. ويتحدث بعد ذلك لفترات طويلة والناس قد أعدت أذهاننا لوداعه، وبعد هذه العبارات لن تفهم منه شيئاً، فقد ودع الناس ذهنياً لا جسدياً. نحن نقول.. كلام مختزل وخاتمة قصيرة موجزة واستعداد جيد، فإذا وصلت الخاتمة فلا تعد العرض أبدًا.. عوّد جمهورك أنك رائع ملتزم صاحب تصور للخطابة، وعلم غيرك كيف يحترمون عقول الناس وحضورهم. ١٠. عدم الدقة وأخطاء اللغة القاتلة وعدم التثبت. عندما تقول: قال تعالى، كن كزين العابدين رضي الله عنه، فقد كان إذا سمع الأذان تغير لونه، يقول أتدرون من أقابل الآن؟؟.. وعندما تتحدث في حديث تذكر " فبلغه كما سمعه " واحمل الأمانة. نعم أنها الأمانة، أمانة العلم والمعلومة، أمانة الثقة الشعبية بك وثقة الجمهور الذي لم يضربك بالحجارة لمجرد رؤيتك، فأنت تعني له الكثير وقد منحك فرصة، فلا تهدرها بضعف إعدادك وأخطائك في كتاب الله وسنة نبيه، وجهلك لروي الشعر وقافيته. كن قوياً متجدداً، إذا قلت كلمة صدقك الناس لعلمهم أنك تتعب وتسأل وتتحرى عن معلوماتك، فإذا تغير الواقع تغيرت نظرتهم إليك، واحترامهم لك، وتفاعلهم معك ومع أفكارك. بالطبع هناك العديد من الأخطاء الأخرى ولكن حسن تفاعلك مع نفسك واستشعارك لمكانة المتحدث وثقتك بأنك قادر على إبلاغ المعلومة الموثقة وحسن استعدادك نفسياً سيؤثر في الناس بلا أدنى شك. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
التدرب على الإلقاء أ.د. إسماعيل علي محمد لا يغني الاستعداد الفطري والنفسي عن التعلم والمِران، بل إن المرء إذا كانت لديه موهبة طبيعية، ولم يتعهدها بالتعلم والتدريب، فلن تنمو وترقى، بل قد تتعرض إلى الموت البطيء، فمع أهمية الموهبة، لا غنى عن تعلم قواعد الخَطابة، وقوانينها، والتدرب عليها، فهذا أدعى إلى تربية الملكات، وتنمية الاستعدادات. قال أبو داود بن حريز: " رأس الخَطابة الطبع، وعمودها الدُّرْبة، وجناحها رواية الكلام، وحَلْيُها الإعراب، وبهاؤها تخير الألفاظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه " [1]. وقال خالد بن صفوان: " إنما اللسان عضو إن مرنته مَرَن، فهو كاليد تخشنها بالممارسة، وكالبدن تقويه برفع الحجر، والرِّجْل إذا عُوّدت المشي مشت " [2]. والتعلم يرشد الخطيب إلى المنهج الصحيح لمخاطبة الناس وإقناعهم والتأثير فيهم، والتدريب يكسبه ثقة بنفسه، وإِلْفا للخَطابة، كما يساعده في التخلص من عيوبه، وتفادي أخطائه. وقد يكون لدى شخص ما استعدادٌ فطري قوي للخَطابة لكنه يهمل التعلم والتدرب فيذبل هذا الاستعداد ولا يؤهله لإجادة الخَطابة، بينما قد يكون لدى شخص آخر استعداد فطري ضعيف لما يعتريه من بعض العيوب الخِلقية، لكنه يأخذ نفسه بالتدريب المتواصل، والتعلم المستنير، ويروض نفسه ويعودها التغلب على عيوبه، ويلح في التكرار والتمرين، فإذا به ينمو استعداده، وتتربى ملكاته، ليصبح فيما بعد خطيبًا لا يشق له غبار. وتاريخ الخَطابة ينبئنا عن أناس كانت لديهم بعض العيوب الخِلقية الكلامية التي تحول بينهم وبين النبوغ في الخَطابة، وتنقص من تقدير الناس لهم، لكنهم أصروا على التخلص منها ومعالجتها، وتوسلوا إلى بلوغ ذلك بكثرة الارتياض والممارسة والتدريب، حتى آل أمرهم إلى أن صاروا من الخطباء المشهورين، وأرباب الفصاحة والبيان المعدودين. ومن النماذج البارزة في هذا الصدد؛ واصل بن عطاء، حيث روّض نفسه على إسقاط الراء من حديثة، وتجنب إيراد هذا الحرف في كلامه تمامًا، ليتخلص من عيب يقدح في فصاحته، ويفتح ثغرة لنقده من قِبل خصومه، حتى تهيأ له ما أراد. وفي هذا يقول الجاحظ: ولما علم واصل بن عطاء أنه ألثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال ومن الخطب الطوال، وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآله وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق، وتكميل الحروف وإقامة الوزن، وأن حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة، كحاجته إلى الجزالة والفخامة، وأن ذلك من أكثر ما تُستمال به القلوب، وتثنَى به الأعناق، وتزيد به المعاني... إلى أن قال: ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان، وإعطاء الحروف حقها من الفصاحة، رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله، ويتأتى لستره والراحة من هُجْنته، حتى انتظم له ما حاول، واتسق له ما أمّل، ولولا استفاضة هذا الخبر، وظهور هذه الحال حتى صار لغرابته مثلًا، ولطرافته معلمًا، لما استجزنا الإقرار به، والتأكيد له، ولست أعني خطبه المحفوظة، ورسائله المخلدة، لأن ذلك يحتمل الصنعة، وإنما عَنَيْتُ محاجة الخصوم، ومناقلة الأكفاء، ومفاوضة الإخوان [3]. ومن الخطباء المشاهير الذين وصلوا إلى الإجادة بالتدريب، وكثرة التمرين؛ "ديموستنيس" اليوناني. فلقد " مالت نفسه إلى الخَطابة فأخذ يُعِد نفسه لها، رغم ما كان به من عيب خلقي يحول دون نبوغه فيها، فقد كان ألثغ ثقيل اللسان لا يكاد يبين حروفه، وكان الناس يضحكون منه ويسخرون من خطابته، ولكنه بذل جهدًا في تعويد لسانه على النطق والإبانة، ومن محاولاته أنه كان يحبس نفسه الأيام والساعات الطويلة، وهو يقرأ بصوت جهير، ولهجة خطابية تصحبها الإشارات والانفعالات كأنه يخاطب جمهورًا، وكان ديموستنيس يحلق نصف رأسه فلا يستطيع أن يبرز للناس في هذه الحالة. ومن محاولاته أيضًا أنه كان يذهب إلى البحر، ويضع في فمه حصاة ثم يقف ليخطب، محاولًا إبراز حروفه، وتجويد كلماتها رغم وجود الحصاة في فمه، وبهذا قاوم ما به من عيب خلقي، وكان يتخيل الأمواج جموعًا حاشدة تستمع إليه، فيظل يخاطبها ويهيب بها أن تفعل كذا أو كذا، وكل هذه المحاولات خلقت منه خطيبًا كبيرًا "[4]. هذا، ولا يظن طالب الخَطابة ومريدها أنه لا بد له من النجاح في تدريبه وارتياضه منذ البداية؛ نعم إن وُفِّق إلى هذا فهو خير، ولكن عليه أن يهيئ نفسه لتقبل عدم التوفيق، وشأنه شأن أي متعلم يتوقع النجاح والفشل، فإذا لم يحصل النجاح من البداية؛ فلا ييأس، وينصرف عن مواصلة تدريبه، بل يصبر ويصابر، ويواصل التدريب والإعداد، وفي كل مرة عليه أن يستفيد من أخطائه السابقة، وينمي ما اهتدى إليه من إيجابيات، وبالصبر - إن شاء الله - يبلغ ما يريد. [1] البيان والتبيين 1 /44، العقد الفريد 4 /139. [2] فن الخَطابة، الشيخ علي محفوظ. ص 18. [3] البيان والتبيين 1 /14- 15. [4] الخَطابة د / عبد الجليل شلبي ص 148- 149، الخَطابة، أبو زهرة ص 25- 26. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
|
طريقة إعداد خطبة الجمعة مع وصايا للخطباء
طريقة إعداد خطبة الجمعة مع وصايا للخطباء الشيخ صلاح نجيب الدق ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 1، 2]، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد: فإن إعداد خطبة الجمعة من الأمور المهمة للخطيب الذي يصعد المنابر في كل أسبوع؛ ولذلك اجتهدت في جمعِ بعضِ الوصايا والأمور المهمة التي ينبغي على الخطباء مراعاتها عند إعداد خطبة الجمعة، وإلقائها على الناس، فأقول وبالله سبحانه وتعالى التوفيق: الحكمة من خطبة الجمعة والعيدين الله سبحانه وتعالى شرع خطبة الجمعة والعيدين لحِكَمٍ عظيمة، ونستطيع أن نوجزها في الأمور الآتية:(1) تصحيح عقيدة الناس. (2) تذكير الناس بالـجنة والنار، ولقاء الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، ومحاسبته لهم على ما قدَّموا من أعمال. (3) تعليم المسلمين أمور دينهم ومعرفة الحلال والحرام. (4) ترغيب المسلمين فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم، وحثهم على الزهد في الدنيا والإكثار من ذكر الله سبحانه، لتكون القلوب حية دائمًا، وقريبة من خالقها ورازقها سبحانه وتعالى. (5) اجتماع المسلمين والتأليف بين قلوبهم، ومساعدة بعضهم لبعض في أمور الدين والدنيا. وصايا للخطباء الكِرام: تعتبر خطبة يوم الجمعة درسًا أسبوعيًّا لترسيخ العقيدة الصحيحة في قلوب المسلمين، وتهذيب أخلاقهم، وتحذيرهم من المنكرات؛ ولذلك ينبغي على الخطباء الكرام عند إعداد خطبة الجمعة وإلقائها مراعاة الأمور التالية: (1) إخلاص العمل لله سبحانه وتعالى. • قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]. • روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه))؛ [مسلم، حديث: 2985]. • روى الشيخانعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))؛ [البخاري، حديث: 1، مسلم، حديث: 1907]. (2) التوسل إلى الله تعالى بالدعاء للتوفيق في إعداد الخطبة. • قال سبحانه: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]. (3) الدعوة إلى الله تعالى شرف كبير، فيجب على الخطيب أن يشكر الله تعالى الذي جعله ينال هذا الشرف، وهذه المنزلة العالية. (4) معرفة فضل وثواب الدعوة إلى الله تعالى. • قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]. • روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا))؛ [مسلم، حديث: 2674]. • روى الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لعلي بن أبي طالب يوم خيبر: ((والله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خيرٌ لك من أن يكون لك حـُمْـرُ النَّعَم))؛ [البخاري، حديث: 4210، مسلم، حديث: 2406]. • قوله: ((حـمـر النعم))؛ أي: الإبل العظيمة، وهي أعزها وأنْفَسُها عند العرب؛ [مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 9، ص: 3934]. (5) يجب على الخطيب أن يتذكر أن الله سبحانه وتعالى سوف يسأله عن أقواله وأفعاله يوم القيامة. قال الله تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]؛ قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله: ﴿ مَا يَلْفِظُ ﴾؛ أي: ابن آدم، ﴿ مِنْ قَوْلٍ ﴾؛ أي: ما يتكلم بكلمة، ﴿ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾؛ أي: إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها، لا يترك كلمةً ولا حركةً؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]؛ [تفسير ابن كثير، ج: 7، ص: 398]. (6) ينبغي على الخطيب الكريم الاقتداءُ بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقدر استطاعته، ولا يكلف الله سبحانه وتعالى نفسًا إلا وسعها. • قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]. • وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]. • وقال سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]. • وقال جل شانه: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]. (7) ضرورة عدم مخالفة قول الخطيب لفعله؛ لأن ذلك له أثـــر كبير في قلوب الناس. • قال الله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]. • وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3]. • روى الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه))؛ [البخاري، حديث 3267، مسلم، حديث 2989]. • روى مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها))؛ [مسلم، حديث 2722]. • قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: "لا يرضين الناس قول عالم لا يعمل، ولا عامل لا يعلم"؛ [اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي، ص: 166]. • قال الإمام مالك بن دينار رحمه الله: "العالـم الذي لا يعمل بعلمه بمنزلة الصفا - الـحجر الأملس - إذا وقع عليه القَطْرُ زلِق عنه"؛ [اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي، ص: 192]. طريقة إعداد الخطبة: نستطيع أن نوجز خطوات إعداد خطبة الجمعة في الأمور الآتية: (1) حسن اختيار موضوع الـخطبة؛ بحيث يتناسب مع أحوال الناس، والقضايا المعاصرة التي تهمُّهم. (2) تقسيم الـخطبة إلى عناصر. (3) الاهتمام بذكر الأدلة على من القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وأقوال سلفنا الصالح، واجتناب الأحاديث الضعيفة والموضوعة. (4) الاهتمام باستخدام اللغة العربية السهلة التي تتناسب مع أفهام الناس. (5) كتابة مصادر إعداد الـخطبة وخاصة الأمور الفقهية، فربما يحتاج إليها. (6) يستطيع الخطيب كتابة عناصر الـخطبة بإيجاز في ورقة صغيرة، ويحملها معه؛ لكي يتذكرها إذا نسِيَ منها شيئًا. (7) ضرورة اهتمام الخطيب بمظهره الشخصي، مع حرصه على ارتداء أفضل ثيابه. (8) يحرص على الذهاب إلى المسجد مبكرًا، وخاصة إذا كان المسجد بعيدًا عنه، ولكي يتمكن من مراجعة الـخطبة مرة أخرى. (9) اختيار مقدمة قصيرة ومناسبة لموضوع الـخطبة؛ مراعاةً للوقت. (10) يبدأ الخطيب خطبته بالحديث عن العناصر المهمة، ويراعي إعطاء كل عنصر الوقت المناسب له. (11) استخدام الحكمة والموعظة الحسنة عند إرشاد الناس ونصحهم. • قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125]. • وقال سبحانه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]. • روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه))؛ [مسلم، حديث 2594]. (12) يجب أن يكون الخطيب متواضعًا مع الناس، ويعلم أنه قد يكون بين المستمعين لخطبته مَن هو أكثر منه علمًا. (13) الاهتمام برفع صوته، وخاصة عند الرغبة في تأكيد أمر معيـن، وتنبيه الناس له. (14) بيان معاني الكلمات الصعبة الموجود في الآيات أو الأحاديث النبوية الشريفة. (15) الاهتمام بنسبة الأقوال المأثورة إلى أصحابها؛ لأن هذا يؤدي إلى زيادة الثقة في كلام الخطيب. (16) الاهتمام بتصحيح أمور العقيدة أثناء إلقاء الـخطبة. (17) عدم إثارة الأمور الفقهية الخلافية على المنبر؛ حتى لا تحدث فتنة بين الناس. (18) عدم التكلف عند أداء الخطبة، واجتناب السرعة عند الكلام. • روى الترمذي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والـمتشدِّقون والـمُتَفَيْهِقُون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والـمتشدقون، فما الـمتفيهقون؟ قال: الـمتكبرون))؛ [حديث صحيح، صحيح الترمذي، للألباني، حديث 1642]. • قوله: (الثرثارون): الثرثار: هو الكثير الكلام بتكلُّفٍ. • قوله: (والـمتشدقون): الـمتشدق هو: الذي يتكلم بملء فمه تفاصحًا وتفخمًا وتعظيمًا لكلامه. • قوله: (الـمتفيهقون): الـمتفيهق: هو الإنسان الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه؛ تكثرًا وارتفاعًا، وتكبرًا وإظهارًا لفضله على غيره من الناس؛ [عون المعبود، محمد أشرف آبادي، ج: 13، ص: 91]. • قال الإمام النووي رحمه الله: "يكره التفاخر في الكلام بالتشدُّق، وتكلف السجع والفصاحة، والتصنع بالـمقدمات التي يعتادها الـمتفاصحون من زخارف القول، فكل ذلك من التكلف الـمذموم، وكذلك التحري في دقائق الإعراب، ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوام، بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته إياهم لفظًا يفهمونه فهمًا جليًّا، ولا يدخل في الذم تحسين القادر للخطب والمواعظ، إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب؛ لأن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر؛ [مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 7، ص: 3019]. (19) استخدام القصص الصحيحة من حياة الأنبياء والصالحين والدروس المستفادة منها؛ لأن الأسلوب القصصي في الخطبة له تأثير كبير على الناس. (20) الحرص على عدم ذكر أحدٍ بعينه من أصحاب المعاصي، وأن يجعل النصيحة عامة. • روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: لينتهنَّ عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم))؛ [البخاري، حديث: 750]. (21) عدم إطالة وقت الـخطبة؛ حتى لا يمل الناس. (22) إذا أراد الخطيب توضيح بعض الأمور بالتفصيل، فينبغي عليه أن يجعل ذلك بعد الصلاة مع مراعاة عدم إطالة الدرس؛ لأن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا. • روى مسلم عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّةٌ - علامة - من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الـخطبة، وإن من البيان سحرًا))؛ [مسلم، حديث: 896]. أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكـــــرام، وآخــر دعوانا أن الـحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
تجربة في الخطابة مضى على انتظامي في الخطابة أربعة عشر عاما، وهي فترة كافية لتسجيل ما لدي من خبرة في هذه التجربة. مهما تعلم المرء ودرس كيفية إعداد الخطبة، فلن يكون مثله مثل من نالها عن: خبرة، ومكابدة، ومعالجة طويلة. وليس المعنى غلق باب الاستفادة من السابقين، كلا، لكن الفائدة لا تكمل، ولا تحسن، ولا تتعمق إلا بالمكابدة، وحسب المستفيد من تجارب الآخرين أنه تقدم خطوات. كيف تعد خطبة؟. سؤال مهم لأمرين: الأول: كونه يتعلق بأمر شرعي، فقد أمر الله المؤمنين بإقامة خطبة الجمعة، وأوجبها وفرضها. الثاني: كونه يتعلق بعملية لها تأثير كبير في صياغة التوجهات والعقول. أولاً: مشروعية الخطبة. شرع الله سبحانه وتعالى للمسلمين عيدا كل أسبوع، يجتمعون فيه للصلاة وسماع الذكر، وهم في أحسن هيئة، متطهرين، متطيبين، خاشعين، كافين أيديهم وألسنتهم، سامعين، منصتين، كما جاء الأمر بذلك في نصوص معروفة، فاستماع الخطبة غاية، فإن الصلاة يجتمع لها كل يوم خمس مرات، لكن الجمعة امتازت بالخطبة، ومن هنا أمر الشارع وحث على حضور الخطبة، ورتب أجور كبيرة على التبكير، فقد روى أبو داود عن بسنده عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها» (في الطهارة، باب: الغسل يوم الجمعة). وحرم من تأخر، فأتى بعد الشروع في الخطبة، من أن يكتب في صحيفة المسارعين. فإذا تأملنا حرص الشارع على: تهيئة الناس، وإعدادهم لسماع الخطبة. أدركنا أهمية العناية بأمرها، وإتقانها، وأدائها على أحسن وجه ممكن. فقوم جاءوا متطهرين، متطيبين، خاشعين، في أدب وإنصات، لا يتحقق مثله في غير هذا الموطن، من حقهم أن يحترموا، ويقدروا، ولا يتحقق تقديرهم إلا بإسماعهم المفيد الجيد الحسن من الذكر والعلم. فقد أتوا طائعين، ولو شاءوا لكانوا من المتأخرين، فليس من المروءة والكرم مقابلتهم بكلام غير مفيد، أو كلام ممل، غير مرتب، لم يبذل فيه مجهود، وربما كتب قبل الجمعة بساعة !!..، فما أمر الله تعالى به يجب أن يتقن، فهو من القربات، وإتقان القربات يزيد في الحسنات. ثانيا: أثر الخطبة في تقويم الناس. أستطيع أن أقول وبثقة: إن المنابر هي المؤثر الأول في توجيه الناس. ربما كان هناك من يرى وسائل الإعلام أشد أثرا، وأنا أوافقه على ذلك، بقيد: - ما إذا كان ما يعرض فيها من جنس ما يطرح في المنابر. نعم حينذاك يكون لوسائل الإعلام أثرا كأثر المنابر، لكن إذا كان المعروض في وسائل الإعلام فاسد الفكر والخلق، فلا، بل الغلبة للمنابر بلا ريب، وذلك: أن كل باطل فمصيره إلى الزوال، ولا بد، ولا يبقى إلا الحق، قال تعالى: - "فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". - "قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب * قل جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد". "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق". فالمنابر ليس فيها إلا الحق والإيمان، وهو الباقي، وأما غيرها فما فيها من باطل فلن يبقى، ولو اتبعه الناس فإلى حين. أما ترى الناس إذا أرادوا الخير والنجاح والنجاة لأنفسهم، في: تفريج كربة، أو جواب سؤال، أو حل مشكلة. توجهوا إلى المساجد، وتركوا وسائل الإعلام وما فيها، إذا كان باطلا، وراءهم ظهريا؟. فهذا حال الناس، يبحثون عن اللهو واللعب في وسائل الإعلام، أما الجد والانطلاقة الصحيحة والإيمان، فإنهم إنما يبحثون عنها في بيوت الله تعالى، حيث: المحاريب، والمنابر، وكراسي العلم. وهذه حقيقة ساطعة يجب أن نلتفت إليها لندرك حقيقة: أثر المنبر. فإنه المؤثر الأشد على قلوب الناس. ولا أدل على هذه الحقيقة من: نجاح هذه المنابر في توعية الناس، واستنقاذ قطاع عريض منهم، من فساد كثير من وسائل الإعلام، حتى باتت مصدر قلق لكل من يعادي الإسلام، ولقد تمنى كبار النصارى أن يكون لهم منبر يجتمع الناس إليه كل أسبوع، كما للمسلمين. إن الأثر الكبير للمنبر ينبع من: كون ما يلقى فيه، ويتلى عليه، إنما هو كلام الله تعالى، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كلام يدور حول ذلك. ومعلوم أن خطاب الشارع يلمس الفطر مباشرة بلا واسطة، ومن دون حجاب، ويخاطب العقل بحجة واضحة، فإذا كان الكلام يمس الفطر مباشرة، ويحج العقل بأدلته، فلا ريب أنه سيكون المؤثر الأقوى على النفوس، وهذا سر تأثير الخطب أكثر من غيرها: - إن فيها الصدق، وليس فيها الكذب. - فيها الأمانة، وليس فيها خيانة. - فيها حرارة الإيمان، وليس برودة الكفر. - فيها المحبة، وليس فيها الكراهية. - فيها الإرشاد إلى الخير، والتحذير والتبصير بحقيقة الشر. - فيها الفضيلة، وليس فيها رذيلة. - وكل ذلك يخترق الآذان، ويصل القلوب، ويخاطب النفوس بحساسية وشفافية. * * * ها قد عرفنا طرفا من أهمية الخطبة، من حيث الشرع، ومن حيث أثرها، فإذا بان ذلك، فإن السؤال السابق يعود مرة أخرى ليطلب جوابه: كيف تعد خطبة؟. نعم كيف تعد خطبة؟.. طريقة إعداد الخطبة. أول ما يتبادر إلى الذهن عند طرح هذا السؤال: الطريقة التقليدية السائدة وهي: - تحديد الموضوع المراد، ثم حصر أدلته من الكتاب، ثم من السنة، ثم تتبع أقوال أهل العلم، ثم ترتيبه على هذا النحو، ثم بيان حقيقته، وصوره، وأهميته، وفوائد الامتثال لما جاء فيه، وسلبيات إهماله، مع مقدمة وخاتمة. لو ضربنا مثلا بموضوع الربا، فإن الطريقة المتبعة في الإعداد هي: إيراد أدلة تحريم الربا من القرآن، ثم من السنة، ثم أقوال أهل العلم، ثم بيان حقيقته وصوره، ثم الحكمة من تحريمه، وفائدة اجتنابه، وخطر التعامل به. وهكذا في كل موضوع.. قد تختلف بعض النقاط، وقد تزيد وقد تنقص، ويقدم هذا ويؤخر هذا، بحسب الموضوع، لكن البنية الأساسية في جميعها واحد. ووصف هذه الطريقة أنها تقليدية لا يعني بالضرورة ضعفها أو عدم جدواها، كلا، فقد تكون مفيدة، وقد لا يتيسر غيرها، وقد تكون في غاية التأثير، وذلك بحسب جودة الإعداد، ودقة العبارة، وحسن العرض، لكن هي على كل حال: طريقة منطقية، تقليدية، وترتيب سائد معروف عند أهل العلم وغيرهم. وهي أحسن الطرق في استيفاء نقاط الموضوع، وإعطاء كل نقطة حقها من الكلام والعرض. لكن: هل الخطبة مختصة بهذه الطريقة ضرورة؟.. وهل يجب أن يكون ما يطرح فيها مستوفى النقاط غير ناقص؟. الجواب: يبدو أن ذلك ليس واجبا. وليست الخطبة مختصة بتلك الطريقة، بل هي طريقة من الطرق، ومن الجائز اتخاذ طرق أخرى غيرها، ما دامت خالية من أي محذور شرعي، والعلة في ذلك: أن الخطبة لا يشترط فيها أن تكون درسا علميا، يجب فيه الشرح والتفصيل والاستيفاء، بل قد تكون موعظة وتذكرة لا يشترط فيها إلا صحة الكلمة، وتحريك القلوب، لا يلزم فيها الاستيفاء والشرح، كما هو معلوم، فبالكلمة الواحدة والجملة والجملتين، قد تتحقق الموعظة ذات الأثر البالغ، ويحصل المقصود، وهذا مجرب معروف، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظ في خطبه، كما كان يعلم، في كلمات معدودة، قصيرة لا تتجاوز بضعة دقائق، لكنها مؤثرة، محركة للقلوب، مقومة للسلوك، يلقيها النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مسموع مرتفع، يشتد، وتحمر عيناه، كأنه منذر جيش، يقول: (صبحكم، ومساكم). (مسلم، الجمعة، باب: تخفيف الصلاة) فنحن الآن بين نوعين من الخطب: الخطب العلمية، والخطب الوعظية. وكلاهما مهم، والناس بحاجة إليهما، الخطب العلمية لها طريقتها الموصوفة بالتقليدية، كما بينا آنفا، والوعظية لا يشترط فيها ما يشترط في العلمية.. وبكلا النوعين كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وكانت خطبه تمتاز بالقصر، والكلمة الجامعة، ولم يكن يحرص على استيفاء نقاط ما يريد الكلام فيه، ولا اتباع طريقة الشرح والتحليل، بل كلمات معدودة جامعة. إذن، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبع في خطبه طريقة الاستيفاء والشرح المفصل، فهذا دليل على عدم اشتراط تلك الطريقة، وهذا هو المطلوب. لكن ههنا سؤال وهو: - أليست تلك الخطب التقليدية خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه؟. - وأليس من السنة قصر الخطبة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «قصر خطبة الرجل، وطول صلاته: مئنة من فقهه» (رواه مسلم، في الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة)، ومعنى مئنة: أي دالة على فقهه؟. فالجواب: أولاً: قصر الخطبة من المستحبات، بمعنى أن التطويل ليس محرما، وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بسورة ق~. ثانياً: المقصود بالخطبة هو الذكر والموعظة والتعليم، فإن حصل ذلك بخطبة قصيرة، وبكلمات معدودة، جامعة، يفهمها الناس، فهو الأولى والأحرى والأفضل، لموافقة الهدي النبوي، لكن: ماذا لو أن الخطيب لا يملك الفصاحة والبلاغة، والقدرة على حصر المعاني واختصار ألفاظها؟. وماذا لو أن أذواق الناس وأفهامهم قد فسدت وتعطلت، حتى ما عادوا يفهمون إلا بالشرح والتبسيط؟.. يبدو أنه حينئذ لا مناص من الشرح والتفصيل والتبسيط، حيث إن المقصود من الخطبة هو حصول الموعظة والعلم، فإن كانت لا تحصل إلا بهذه الطريقة، فما حيلة المضطر إلا ركوبها، وعندئذ لا يبدو أن المطيل في خطبته، بالمقارنة بخطب النبي صلى الله عليه وسلم، مخالفا للهدي النبوي، وذلك لأن الغاية والمقصود لا يتحقق إلا بها، وقد كانت الوسيلة في عهد النبوة الاختصار والقصر، لكون الناس على فهم صحيح، وخطيبهم أوتي جوامع الكلم، أما وقد تغير ذلك، فامتنع حصول المقصود من الخطبة إلا بالشرح والتفصيل، فلا أظن من الصواب تخطئة هذه الطريقة، خاصة إذا عرفنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة ق~، والخطبة بها فيها شيء من الطول. وتسويغ تطويل الخطبة عن الحد النبوي لا يعني التوسع في ذلك، بل ينبغي على الخطيب أن يجتهد في الاختصار قدر ما يمكنه، ويتخلص من داء التكرار المزعج، والشرح الممل حتى لما هو واضح. ذلك من حيث قصر الخطبة وطولها، أما من حيث طريقتها، فإن الطريقة النبوية تقوم على طرح جزء من الموضوع والقضية المراد الحديث عنها، دون تقصٍ أو استيفاء، وهذا بخلاف الطريقة التقليدية القائمة على التقصي والاستيفاء. - فهل هذه الطريقة كذلك تعد مخالفة للسنة؟. الجواب أن يقال: الشارع لم يأمر باتخاذ طريقة معينة في إعداد الخطبة، لم يأمر بطريقة الاستيفاء، وكذا لم ينه عنه، ولم يأمر بطريقة طرح جزء من الموضوع، هو الأهم والمناسب للمقام والحال، ولم ينه عنه، بل أمر بإقامة الخطبة، وترك تحديد الطريقة، بحسب حال الخطيب، وحال السامعين، وقد كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم قصيرة، ومن ثم لم يكن من الممكن بحال استيفاء الموضوع، وقد عرفنا أنه أوتي جوامع الكلم، والسامعون على قدر كبير من الفهم والإيمان والعلم، لكن الحال اليوم مختلف، الناس في قلة من العلم والإيمان، والناس محتاجون إلى معرفة كل ما يتعلق بالموضوع المطروح، لجهالتهم بكثير من أساسيات الدين، والمنبر كما أنه للوعظ كذلك هو للتعليم، فما الذي يمنع حينئذ من اتخاذ طريقة الاستيفاء؟. يبدو أنه لا مانع، خاصة وأنه ليس ثمة دليل يمنع من ذلك، غاية الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، لظروف الحال في زمانه، حيث السلامة في الفهم والعلم والإيمان، فكان يكفيهم أن يذكرهم بأهم جزء في الموضوع بحسب المقام، لكن الناس اليوم بحاجة إلى طريقة الاستيفاء، كي يتعلموا ويتفقهوا، وبحاجة كذلك إلى طريقة العرض الجزئي لكيلا يملوا، فنحن إذن بحاجة إلى الطريقتين: طريقة الاستيفاء للتعلم، وطريقة العرض الجزئي للتذكرة ولفت الانتباه. إذن الأمر واسع، وليس من السنة التضييق في شيء وسعه الله على العباد، ولم يأمر فيه بشيء. * * * قد عرفنا بما سبق أن الإعداد إما أن يكون بطريقة الاستيفاء، وإما بطريقة العرض الجزئي، وكل ذلك باعتبار أن الخطبة ذات موضوع واحد، لكن كيف لو كانت الخطبة أكثر من موضوع؟.. ذلك جائز وممكن، ولا يمكن فيها توفية كل موضوع حقه، ولا نستطيع أن نفاضل بين الخطبة ذات الموضوع الواحد وذات الموضوعات المتعددة، فنحن نحتاج إلى النوعين جميعا، بحسب الأحوال والمقتضيات، فمرة قد يكون هذا أفضل، ومرة الآخر. * * * هذه الطريقة طريقة الإعداد: الاستيفاء، أو العرض جزئي. يحسن أن نسميها الطريقة العامة، وذلك لنفسح المجال لبيان الطريقة الخاصة للإعداد، وهي التي تصور شروط وأدوات إعداد الخطبة، كيف تكون؟. وأهم نقطة فيها هو: - أن نفهم أن الإعداد الصحيح الجيد المؤثر المثمر، لا بد له من دافع يدفع إليه، ويغري به، ويعين عليه، بدونه تفقد الخطبة أثرها وتأثيرها، وتكون جسدا بلا روح. هذا الدافع يقوم على فكرة: المعاناة. ويفسرها المثل القائل: "ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة". (مجمع الأمثال لأحمد الميداني النيسابوري 2/200، المستطرف في كل فن مستظرف 69) وأداتها: الملاحظة، والتأمل بعمق وتحليل، في الأخبار والحوادث والأحوال التي تمر بالخطيب، في كل مكان. وشرح هذه الفكرة ما يلي: إن الغرض من الخطبة هو: التأثير في القلوب والعقول، فمقصودها تحريك العاطفة وإعمال العقل. والخطيب لا يمكن له أن ينجح في ذلك، ما لم ينفعل قبل بالأمر الذي يريد الحديث عنه.. لذا كان من الواجب عليه ألا يخطب إلا في أمر يشغل : قلبه، وعقله، ونفسه. حتى إنه ليتمثله في كل شيء يمر به، فيكون حديث نفسه، ونطق لسانه، فإذا كان ذلك فقد وضع قدمه على الطريق، وسهل عليه ما بعده. قد يكون الخطيب مجيدا في اختيار الموضوع واستيفاء عناصره، لكن قد لا يكون لكلامه الأثر ما لم يعان موضوعه، ويعيش همومه وأحداثه، حتى ليمتنع لأجله من التمتع بالمباحات، لاشتغال الخاطر والذهن. - لم كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم ذات تأثير فريد على القلوب والعقل؟. لأنه كان على يقين بما يقول، وعلى قناعة تامة بالدعوة التي عليها، وهمّ دائم لتحقيق هدف معين. والإنسان إذا كان راسخ الإيمان بفكرة وعقيدة ما، فكل ما يصدر منه من كلام يشرح فيه فكرته وعقيدته، سيحمل معه سلطانه على القلوب، فيطرق أبوابها. لا، بل هي مفتحة تدخلها الكلمات بلا استئذان. إن كلمات الواثق تزلزل قلوب الغافلين.. فليست العبرة بتنميق العبارات، إنما العبرة بالصدق والثقة، وذلك لا يكون إلا من قلب جرحته الحقائق، حتى تركت أثرها فيه مدى الدهر.. إن الجرح الغائر إذا كان في البدن لم يمكن إخفاؤه، فإن قدر على ستره، لم يقدر على كتم ألمه، فيبدو في وجهه وفي عينيه.. وكذلك القلب إذا جرح لم يمكن التكتم على ما فيه، ويستوي في هذا العامي والعالم، فهي ميزة تميز بها الإنسان خاصة، دون النظر إلى موقعه، ومنزلته، وشأنه.. ويستوي في أصله المجروح بحقائق الدنيا والمجروح بحقائق الآخرة، إنما يتميز المجروح بحقائق الآخرة بشرف ما جرح به، كالفرق بين من قاتل للمغنم، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فكلاهما مسّه القرح، لكن فاز المخلص لله بالثواب، فلم يذهب ألمه سدى، بخلاف المبتغي للدنيا، فلا دنيا نالها، ولا آخرة حصل ثوابها، والخطيب بمنزلة من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وليس بمنزلة من قاتل للمغنم، فهو أولى بالمعاناة، لشرف ما يحمل، ولأنه يعلم من الحقائق ما لا يعلمه غيره من عامة الناس، روى الترمذي بسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع، إلا وملك واضع جبهته، ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله، لوددت أني كنت شجرة». (في الزهد، باب: لو تعلمون ما أعلم) كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل النوع من المعاناة، فقد تركت أثرها فيه، فبدت في كلماته، وحركاته، يقول الله تعالى يصف حاله مع المعاناة الإصلاحية: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون* ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين* وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين* إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون}. ليست النائحة الثكلى، كالنائحة المستأجرة، وليس الخطيب الثكلان، كالخطيب المستأجر.. فمن أراد لكلماته الأثر في قلوب الناس، فليكن في كل ما يتكلم به: - كالنائحة الثكلى.. - واليتيم الذي فقد أبويه.. - والمظلوم المهضوم.. - والمريض المتألم. كل هؤلاء يشكون بمرارة، ويصفون حالهم بحرارة، حتى يغرق السامع معهم، فيعيش مأساتهم بنفسه، ويراها رأي العين، فكذلك يراد من الخطيب أن يكون، حتى يعيش الناس كلماته وموضوعاته، كأنهم يرونها رأي العين. * * * - قد يقول القائل: علمنا أهمية المعاناة لنجاح الخطبة، فكيف نولدها في نفوسنا؟. وهذا سؤال مهم، وجوابه: مختصر، ومفصل: فأما المختصر فيقال فيه: إن الهم والمعاناة في القلب يتولد من اليقين بأمرين: الأول: اليقين بأمر الآخرة، من الموت، وما يتبعه من أهوال القيامة، والنعيم للمتقين، والجحيم للمجرمين. الثاني: اليقين بأمر الدعوة، بالعمل على استنقاذ الناس من عذاب الآخرة، شفقة، ورحمة، وخوفا عليهم. فإذا تمكنا من القلب حضر الهم، وتحرك القلب، فنطق اللسان، وكتب القلم، وحصل الأثر. وأما الجواب المفصل فيقال فيه: لا يخلو الإنسان من الهموم، والهم همان: هم الدنيا، وهم الآخرة. فمن سلم من أحدهما لم يسلم من الآخرة، والغافل من كانت همه الدنيا، أما العاقل فهو من كانت همه الآخرة، فالإنسان بين هذين الهمين ولا ثالث. فإذا ثبت حصول الهم ولزومه للإنسان كان من العقل والحكمة أن يكون للآخرة، إذ هو المطلوب وصاحبه محمود مثاب، روى الإمام أحمد وابن ماجة بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت همه الدنيا، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له». وعن همّ الآخرة يتولد ويتفرع هم الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الناس، إذ من شغلته آخرته بالرغبة في الجنة والرهبة من النار، وتعلم من دينه محبة الخير، وجد ميلا إلى وصية الناس ونصحهم، حيث إن يقينه بالآخرة يشخصه في صورة النذير العريان، وفي صورة منذر الجيش، يقول: (صبحكم، ومساكم). وحتما لا بد أن يجد من يهمل وصيته، ومن يعرض عنه، ومن يجادله، ومن يعاديه، بجهل، وهذا حال البشر، لكن عنه يتولد ألم وهمّ في القلب، كالألم والهمّ يكون في قلب الأب من ضلال ولده وغوايته، فإذا صار كذلك، تكبد القلب المعاناة والحرقة، فحصل الأثر. إذن، لمن أراد التأثير في الآخرين فعليه: أن يحمل هم دينه وآخرته، ويحمل كذلك تبعا هم إصلاح الناس وإرشادهم، فإذا حصل له ذلك، تفقت له آفاق الكلمة، واقتدر على الإبداع، بلا تكلف، فحصل التأثير المطلوب. * * * ذلك هو لب الموضوع، وأسّ الفكرة، ثم ما بعده إنما هي توجيهات يستكمل بها الموضوع، فمن ذلك: (1) دوام القراءة في القرآن، فإنه ينير القلب، ويزكي النفس، ويخرج الكلمات تحمل النور والزكاء. (2) متابعة أحوال المسلمين في العالم، ودوام الاطلاع على ما يستجد من الحوادث والأخبار، فهذه العناية لها أثر حسن على إعداد الخطبة، فمن المهم أن يكون الخطيب في دائرة الحدث…ومثله معرفته لأحوال المجتمع والحي الذي يقطن فيه، ومد الصلات بينه وبين السكان، والتعرف على مشكلاتهم، فإن هذا التعايش له أثر كبير في حسن إعداد الخطبة، خاصة إذا كانت تتعلق بمشكلة تتعلق بالحي، فليس الخبر كالمعاينة، ومن يتغلغل في أوساط الناس، فحديثه عنهم ليس كحديث المنعزل. (3) القراءة في تراجم الصالحين، من أنبياء وصحابة وتابعين ومن تبعهم بإحسان، فإن لها أثر كبير في خشوع النفس ورقة القلب وزيادة الإيمان، وهي قوت الأفكار والمعاني المؤثرة في القلوب. (4) ملك الخطيب أدوات الخطابة، من لغة سليمة، وعلم أصيل، فسلامة اللغة وصدق المعلومة أصل في إعداد الخطب، فاللغة السليمة لها جرس في الآذان، والمعلومة الصادقة تستقر في النفوس، وتزرع الثقة في القلوب. (5) القراءة في كتب الأدب القديمة والحديثة، القديمة مثل: عيون الأخبار وأدب الكاتب لابن قتيبة الدينوري، والبيان والتبيين للجاحظ، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والأمالي لأبي علي القالي، ومؤلفات الأدباء المعاصرين، كالرافعي والمنفلوطي والطنطاوي، وكذا الدعاة البارزين الذين لهم كلمات عميقة المعنى في باب الدعوة مثل: الأستاذ سيد قطب، والأستاذ محمد قطب، والشيخ محمد الغزالي، وغيرهم. (6) اجتناب الكتب الصعبة في ألفاظها وأسلوبها، فإن تعابير الإنسان بنات قراءاته، فإذا كانت قراءته في الكتب السهلة في أسلوبها، البليغة في عباراتها، كانت تعابيره كذلك، وإذا كانت قراءاته في الكتب الصعبة في أسلوبها، الغامضة في عباراتها، كانت تعابيره كذلك، والواجب أن تكون الخطبة سهلة العبارة، مفهومة قريبة المعنى. (7) أن تكون فكرة الخطبة واضحة كالنهار، وكذا التعبير عنها. (8) عرض الخطبة قبل إلقائها على المختصين للتأكد من سلامتها وسهولتها. (9) مراعاة التسلسل المنطقي للفكرة المطروحة، وميزانه: أن لا تنفذ فكرة إلى أخرى إلا بوساطة وجسر صحيح، ومن الخطأ القفز من فكرة إلى فكرة بدون تلك الوساطة، فإن ذلك مما يغمض الكلام، ويبهم المعنى. (10) عدم التكرار في الأفكار، فإن كان ولا بد فمرتان، وضبط الجمل والبحث عن أخصر التعابير، والبعد عن الشرح الممل الطويل. (11) الخطبة تتألف من مقدمة وموضوع وخاتمة، وللمقدمة أهمية كبرى، وكذا الخاتمة، إذ هي المفتاح للدخول إلى الموضوع، فإذا أحسن كان الموضوع محل عناية الحاضرين واهتمامهم، وهنا نحن بحاجة إلى الإثارة الإعلامية، التي تجذب السامع، وطرق الجذب متعددة، مثل البدء بقصة، أو سؤال، أو التقاط أهم جملة في الموضوع والبدء به، وربما يكون بآية أو حديث أو قول لعالم، كل ذلك بحسب الأحوال، وعلى الخطيب أن يحسن اختيار مادة البدء.. وكذا الخاتمة، فإنها مهمة، ولعله من المناسب أن تكون بإعادة ذكر أهم جملة أو فكرة في الموضوع، أو بذكر ملخص شديد لما ورد في الخطبة، يستخدم فيها الحكم والأمثال أو الجمل عميقة المعنى. * * * وللخطبة بعد كتابتها كتابة أولية عدة مراجعات: - فمراجعة أولى: ينظر في: جملها، وعباراتها، وصياغتها. فيعدل ويصلح ويحذف إن شاء، فهي لإعادة النظر في الصياغة.. وهي مراجعة لازمة، لكل كاتب. - ومراجعة ثانية: يكون فيها التصحيح الإملائي والنحوي، وينصح الخطيب بالتشكيل، كي يجتنب نسيان القاعدة النحوية، ومن ثم اللحن. - ومراجعة ثالثة: لوضع الفواصل والنقاط، ولمعرفة الوقفات، وعلامات الاستفهام والتعجب، وهذا الإعداد مهم في تيسير فهم الخطبة، فالإلقاء لا بد أن يكون محكوما بهذه القواعد، ليحصل بها الغرض، من: فهم الكلام، واستيعابه، وتصوره، ومن الخطأ إلقاء الخطب بدونها. - ومراجعة رابعة: يعد فيها الخطيب نفسه ويدربها على طريقة الإلقاء، يلقي الخطبة عدة مرات، والأفضل أن يحفظها، ويتدرب على إلقائها مرتجلا، ليس لأنه يلزم أن يلقيها من على المنبر كذلك، كلا، بل ليكون مدركا لما يأتي من الجمل التي يقرأها، فيفهم ما يقول قبل أن يقول، فذلك أدعى للتفاعل مع الخطبة. تلك هي طائفة من الوصايا لإنتاج خطبة ناجحة، ولا أزعم أني أحط بالموضوع، ولم يكن ذلك همي، وإنما همي فتح الطريق أمام راغب في: تعلم كيفية إعداد خطبة ناجحة.. والله الموفق. منقول |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خُطبته اختص النبي صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وتلألأت من ثنايا كلامه بدائع الحكم، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «بعثت بجوامع الكلم»، فكانت أحاديثه وخطبه تمتاز بسهولة الألفاظ، وجودة الأسلوب، وكانت تتفرد بالعبارات القليلة، التي تجمع المعاني العظيمة، بعيدة عن التكلف في الألفاظ، أو الإطناب في العبارات، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُحَدِّث حديثاً لو عدَّه العادُّ لأحصاه " (رواه البخاري). وبتتبع منهجه صلوات الله وسلامه عليه في خطبه، نجد أن خطبه كانت تتسم بالقصر دون الطول، بل كان صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة» (رواه مسلم). فقصر الخطبة علامة على فقه الرجل لكونه مطلعاً على جوامع الألفاظ، فيعبر باللفظ الموجز البليغ عن الألفاظ الكثيرة، فهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو الاعتدال في خطبته بين التطويل الممل والتقصير المخل، وفي هذا يقول جابر بن سمرة رضي الله عنه: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس ) (رواه أبو داوود)، ومعنى (قصداً): أي متوسطة بين الطول والقصر. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في إلقاء الخطبة، أنه إذا اعتلا المنبر استقبل الناس وسلم عليهم، ثم يجلس، وبعد أذان بلال ، يقوم ويفتتح خطبته بالحمد والثناء على الله سبحانه والتشهد، ثم يذكر الناس بنعم الله عليهم، ويصف جابر رضي الله عنه حال النبي أثناء الخطبة قائلاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (رواه مسلم). وكان ينتقي في خطبه جوامع الكلم، فيعلم أصحابه قواعد الإسلام وشرائعه العظام، وكان يوصيهم بما يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى وإلى ما أعده لهم من النعيم المقيم في جنته، وينهاهم عما يقربهم من سخطه وناره. وكانت خطبه عليه الصلاة والسلام لا تخلو من الآيات القرآنية، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ على المنبر {ونادوا يا مالك} [سورة الزخرف:77]، (رواه البخاري)، وكان دائماً يضمن خطبه آيات التقوى، وصح عنه أنه كان يخطب بالقرآن حتى قرأ ذات مرة سورة ق كاملة على المنبر. وكان صلى الله عليه وسلم يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم، فعن عمرو بن أخطب قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا " (رواه مسلم). وكان صلى الله عليه وسلم يراعي أحوال الناس في خطبته، فتارة يقصر في الخطبة وهو الغالب، وتارة أخرى يطيل الخطبة عند حاجة الناس، كما ورد عنه ذلك في خطبة الوادع، حيث أطال فيها لما كان فيه من المصلحة، واجتماع الناس وتلقيهم. وكان من كمال هديه صلى الله عليه وسلم أثناء الخطبة، أنه ربما قطعها لحاجة، كإرشاد لأمر معين، أو توجيه أو نصح لمخالف، فقطع خطبته ذات مرة تنبيهاً على ضرورة صلاة ركعتين فعن جابر رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، إذ جاء رجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أصليت يا فلان» ؟ ) قال: لا، قال: «قم فاركع ركعتين» (رواه البخاري و مسلم)، وربما قطع خطبته رعاية لشعور الأطفال كما حصل له صلى الله عليه وسلم حينما نزل من المنبر ليحمل الحسن والحسين. ثم إن من هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه أنه كان يخطب بخطبتين يجلس بينهما، ولا يتكلم في هذا الجلوس، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يقعد قعدة لا يتكلم، ثم يقوم فيخطب خطبة أخرى ) (رواه النسائي). وكان إذا انتهى من الخطبة دعا للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والرحمة، ثم ينهي خطبته بالاستغفار. وكان من هديه عليه الصلاة والسلام في ذلك أنه يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الأعلى والغاشية، وتارة يقرأ بسورة الجمعة والمنافقون. ومما يلحق بهذا الشأن أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يقتصر على إلقاء الخطبة في يوم الجمعة، بل كانت له خطب في يومي العيدين والاستسقاء، وربما خطب الناس في غير تلك المواطن بحسب الحاجة والمصلحة، والله أعلم. منقول |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
كيف تخاطب جمعا من الناس دون خوف؟ أسامة طبش لا بدَّ خلال مسيرة حياتنا أن نُوضع في مواقف نخاطب فيها غيرنا، فتكون الأعين مركزة علينا ونستأثر بالاهتمام، ما يُولِّد لدينا شعورًا بالقلق والتوجس، تزداد وتيرته باقتراب الموعد، فنرتبك لتَضيع فرص سانحة، كنا مؤهلين لاقتناصها لولا هذا العائق العارض، وسنَقترح عبر هذا الموضوع حلولًا جالبة للسكينة والطمأنينة، لأن الأمر يتعلق في جانبه الأكبر بالأحاسيس والمشاعر: ♦ تَمكَّن جيدًا من الموضوع الذي ستعرضه، وادرسه وتابع تفاصيله، وتَوقَّع الأسئلة التي ترِد بشأنه، حتى تكتسب سرعة البديهة، فتتعامل معها بالشكل الأمثل. ♦ رَدِّد بصوت جهوري النص الذي ستُلقيه، ودَرِّب نفسك على فترات التوقف، ثم واصل الكلام، وكأنك تُحاكي الموقف الحاسم الذي ستَعيشه. ♦ اختر مجموعة من الأشخاص الذين لك علاقة وطيدة بهم، وخُض هذه التجربة معهم، فلن تُحسَّ بالإحراج، فتكون قد خَطوتَ خُطوة في سبيل التحضير. ♦ تَكلَّم بحماس، وانقل هذا الإحساس إلى الآخرين، فأبرز وسيلة لإثارة اهتمامهم، طاقتك ورغبتك في تحفيزهم، ولذلك أَثَرٌ عليهم، ما سيُحرِّرك من قيود خوفك. ♦ خُذ بين الفينة والأخرى نفسًا عميقًا، وتَذكَّر الأشياء الإيجابية، والمواقف التي خُضتها فنجحت فيها، هذا ما سيُقلِّل منسوب التوجس لديك. ♦ اربط علاقات حبيَّة مع من تتواصل معهم، ولو بالمزاح والبسمة، وامنحهم الانطباع بأن يَتقبَّلوا هفواتك، فهم يعلمون أن الموقف الذي وُضعت فيه صعب على غالبيتهم. ♦ خاطبهم ونظرك يجول عبر أرجاء القاعة، واستعمل الإيماءات، أَتذكَّر موقفًا خَبرْتُه، حيث انتابني القلق في البداية، لكنني بادرت وبدأت بالحديث، وأنا أنظر إلى الحضور كيف هي آذانهم صاغية، فأحسست بالنشوة وازدادت ثقتي بنفسي، وفي آخر الكلمة، أُعجبوا بطريقة الإلقاء، حيث نجحت في احتوائهم. هذه المواقف غير سهلة على أغلبنا لأنها تُثير الحرج، والقلق بشأنها معقول، إنما يجب أن لا يكون عائقًا يحول دون الوصول إلى الأهداف، بالأخص وأنها مطلوبة في مجال العمل، والمقابلات التي تُجرى قبل التوظيف، فالتدرب على حلول التغلب على صعوباتها سبيلٌ إلى النجاح. |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
بعض الملاحظات في خطب الجمع في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه» وفي هذا الحديث دلالة على الأمر بتقصير الخطبة. يتململ بعض المصلين أثناء الخطبة ويفقد الكثير منهم التركيز وبالتالي تنصرف قلوبهم عن الخطبة ويفوّتون جلّها وربما لو سألت بعضهم بعد انقضاء الصلاة بساعات عن موضوعها وأهم نقاطها لما أفادك بشيء، ويكمن السبب في مقدمة الخطبة الطويلة جداً والمتكررة في كل خطبة جمعة، فتجد المصلي يسرح بخيالة بعيداً عن أجواء الخطبة ولا يعود إليها إلا وقد فات عليه جزء مهم منها وبعضهم قد لا يعود، ولتفادي ذلك يفضل اختصار المقدمة والاكتفاء بالحمد والثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله والشروع في موضوع الخطبة مباشرة، كذلك فإن قراءة الخطبة من ورقة أو من جهاز وعدم ارتجالها يجعلها تشبه السرد بدون تفاعل بين المُلقي والمتلقي، وأفضل من ذلك، ارتجال الخطبة بعد التحضير لها تحضيراً جيداً ولا يمنع ذلك من تسجيل نقاط في ورقة أو جهاز قد يعود لها الخطيب من حين لآخر، كذلك فإن عدم تفاعل الخطيب مع ما يحدث أحياناً في المسجد يفقده خاصية مهمة جداً كفلها له الشرع وهي إدارة شئون الجامع وتنظيمه، فمن حقة توجيه شخص أو مجموعة لعمل معين أو الامتناع عن فعل معين كالحديث أو الانشغال بالجوال أو شرب الماء أثناء الخطبة، اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام عندما وجه الصحابي لأداء سنة المسجد أو الجلوس وعدم تخطي الرقاب. ومن الثغرات ايضاً ميل بعض الخطباء لاستخدام الترهيب دون الترغيب وفي هذا جفاء للمصلين وعدم اقتداء بالنص القرآني الكريم الذي دائماً ما يردف الترهيب بالترغيب وآيات الوعيد بالعذاب بآيات البشرى بالمغفرة والرحمة. كذلك وقوع بعض الخطباء في مشكلة تشخيص مكمن الداء، ولكن بدون وصفٍ للدواء، فيخرج المصلي خالي الوفاض الا من الحسرة والندم على تلك المشكلة التي يراها في نفسه ولا يعرف لها حلاً ناجعاً. وحتى لا أقع في نفس المعضلة التي أتحدث عنها هنا، سأختم بقصة قرآنية فيها دروس وعبر وعظات وردت في سورة الكهف، وهي قصة نبي الله موسى مع الخضر، فقد أكتفى الله تبارك وتعالى بثلاثة أمثلة فقط في كامل القصة مع العلم بأن موسى قد واجه صعوبات ومشقة حتى وصل إلى العبد الصالح، فالثلاث أمثلة أعطت الدلالة الكاملة لمضمون الابتلاء الذي وقع فيه موسى عليه السلام والتعليم الذي تلقاه، ولو أراد الرب تبارك وتعالى ضرب مزيداً من الأمثلة لما أعياه ذلك، ولكنه مثال حي للاختصار ودرس لذوي الألباب، فما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا أرى ذلك العبد الصالح إلا القدر تجسّد على شكل بشر وجرت الأقدار على يديه ليكون ذلك أدعى للفهم من موسى عليه السلام ولمن خلفه، ثم إن الحق تبارك وتعالى شرح لموسى عليه السلام على يد العبد الصالح الأسباب التي دعت لوقوع تلك الأحداث التي رأى موسى عليه السلام في ظاهرها الظلم ولكن في حقيقة باطنها الرحمة والمصلحة لمن وقعت لهم تلك الأحداث. __________________________________________________ ____________ الكاتب: أبو عمرو حامد سعيد عابد |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
أدلة خطيب الجمعة لإقناع المصلين أصول الخطابة ثلاثة: الإيجاد، والتنسيق، والتعبير. والأول: هو إعمال الفكر في استنباط الوسائل الجديرة بإقناع السامع، والوسائل الأدلة، ولا بدَّ مع الأدلة من توافر الآداب الخطابية، والعلم بالأهواء والميول النفسانية، وذلك أن مقصود الخطيب: أولاً: إنارة العقول، وتنبيه الأذهان، وحملها على الإذعان، وذلك لا يتم إلا بالأدلة. ثانيًا: التأثير في الأرواح وجذب القلوب، وذلك يكون بتوافر الآداب في الخطيب. ثالثًا: استمالة النفوس إلى ما يطلب منها بإثارة عواطفها، وذلك يكون بمعرفة الأهواء والغرائز، وطرق تهييجها أو تسكينها، ولكل من هذه الثلاثة مبحث يخصه. في الأدلة: الدليل في اللغة: المرشد، وفي اصطلاح الحكماء: ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وهو قطعي وظني، فالقَطْعِي: ما أوجب التصديق اليقيني، ويسمى برهانًا، وهو ما تألف من اليقينيات السِّتِّ: 1 - أوليَّات: وهي القضايا التي يُدْرِكُها العقل بِمُجَرَّدِ تَصَوُّر الطرفين كقولك: الواحد نصف الاثنين، والكُلُّ أَعْظَمُ من الجزء. 2 - مشاهدات: وهي القضايا التي يدركها العقل بالحس الظاهر. 3 - مجرَّبات: وهي ما يُدْرِكُها العقل بواسطةِ تَكرارٍ يُفِيدُ اليقين؛ كقولنا: السقمونيا مسهلة للصفراء. 4 - حدسيَّات: وهي القضايا التي يُدْرِكُها العقل بواسطة حدس يفيد العلم؛ كقولك: نور القمر مستفاد من نور الشمس. 5 - متواترات: وهي ما يُدْرِكُها العقل بواسطة السماع عن جَمع يُؤْمَنُ تواطُؤُهُم على الكذب. 6 - قضايا قياساتُها هي القضايا التي قياساتُها معها: وهي ما يدركها العقل بواسطة لا تغيب عن الذهن عند تصوُّر الطَّرَفَيْنِ؛ كقولك: الأربعة زوج، فإن العقل يدرك ذلك بواسطة لا تَغيبُ عنِ الذِّهْنِ عند تصوُّر الطَّرفيْنِ، وهي أنَّ الأربعة تنقسم إلى متساويَيْنِ، وكلُّ مُنْقَسم إلى متساويين زوج. والبرهان لا يُستَعْمَل في الخطابة، قال في "المناهج الأدبيَّة": والأقوال الصادقة يقينًا لا تقع في الخطابة من حيثُ إنَّها خطابة، فإن ألَمَّ بِها الخطيبُ فقد عدل بالخطابة عن أصلها، والظني ما أفاد الظَّنَّ فقط، ويتألف من غير اليقينيات، وهي ست أيضًا مشهورات مسلمات، والمؤلَّف منها يُسمَّى جدلاً؛ كقولنا: الظلم قبيح، وكُلُّ قبيحٍ يَشِينُ، والإحْسَانُ خيرٌ وكُلُّ خَيْرٍ يَزين، وقولك: خبر زيد خبر عدل، وكل ما هو كذلك يعمل به، ومظنونات مَقبولات والمؤلف منها يُسمَّى خطابة، مخيلات والمؤلف منها يُسمَّى شِعرًا، ووهْمِيَّات والمؤلف منها يسمى سفسطة، كقولك في أمة شرقية: هذه أمة تُساسُ بِإِرادتِها؛ لأنَّ لها مَجلسًا نيابيًّا ينظر في شؤونها، فإنه استدلال خطابي مؤلف من أقوال مظنونة إذ الشأن في الأمم ذات المجالس النيابية أن تكون مسوسة بإرادتها، وليس هذا دليلاً قطعيًّا لجواز أن تتغلب عوامل الهوى عند الانتخاب، فلا يكون صحيحًا؛ كقولك لمن تأخذه العزَّة بالإثم حينما تنكر عليه قوله أو عمله: لا تستنكف أن ينكر عليك قولك أو عملك، فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما بويع بالخلافة: "فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فردُّونِي"، فإنَّه أيضًا استدلالٌ خِطابِي قام على أقوال مقبولة صَدَرَتْ من تقي يعتقد صدقه؛ وكقول أرسطو للإسكندر: إن الناس إذا قدروا أن يقولوا قدروا أن يفعلوا، فاحترس من أن يقولوا: تسلم من أن يفعلوا، فإنَّ مبناه غلبة الظن لجواز أن يكون القادر على القول عاجزًا عن الفعل، وأن يوجد الاحتراس ولا توجد السلامة من أفعال الناس، وباقي الأمثلة لا تخفى على بصير. وتؤخذ أدلَّةُ الخَطابة من التَّأمُّل في موضوعِ البَحْثِ وإمعان النظر في أحواله، وتسهيلاً لاستخراج هذه الأدِلَّة، قد وضع الأقْدَمون من اليونان جدولاً لما يُمكن استعماله منها، وأطلق العرب عليه اسم مواضع؛ قال ابن سينا: إن الحجج في الجدل والخطابة تؤخذ من المواضع، فمن طلب الإقناع وهو لا يَعلمُها كان كحاطب ليل يسعى على غير هداية لا لبخل في الموضوع؛ بل لنقصان في الاستعداد، فالمواضع مصادر الأدِلَّة العامَّة التي يمكن للخطيب استعمالها في كل مقام، إمَّا لإثبات قوله وتأييد رأيه، أو توسيع المعاني بحسن البيان، وهي نوعان ذاتية وعرضية: فالذَّاتيَّة ما تستفاد من ذات الموضوع وهي كثيرة: منها: تعريفه بِذِكْرِ خواصِّه اللازمة؛ أي البينة والثبوت له والانتفاء عن غيره؛ كقول الإمام علي - كرم الله وجهه - لكميل بن زياد النخعي: يا كميل، العلم خير من المال، العلم يَحرُسك وأنت تَحرس المال، والعلم حاكمٌ والمالُ مَحكومٌ عليْهِ، والمال تنقصه النفقة والعلم يَزكو على الإنفاق، مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، والعُلماءُ باقونَ ما بَقِيَ الدَّهْرُ، أعيانُهم مفقودة وأمثالُهم في القلوب موجودة. ومنها: شرح الأعراض التي تختصُّ جُملَتُها به؛ فإنَّه في معرفَتِها إعانةٌ على كمال معرفة ما هي له، فالتحلِّي بِها كَقَوْلِ الحسن البصري لعمر بن عبدالعزيز في وصف الإمام العادل: اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع المهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحرِّ والقرِّ، وكالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغارًا ويعلِّمُهم كِبارًا يَكْتَسِبُ لَهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته؛ وكالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها حملته كرهًا، ووضعته كرهًا، وربته طفلاً تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بِعافِيَتِه وتغتمُّ بِشكايَتِه، وكالقَلْبِ بَيْنَ الجوانح تصلح الجوانحُ بِصلاحِه وتَفْسُدُ بِفَسادِه. ومِنْهَا: تعريف الشيء بذكر آثاره، فإنَّ حقائق الأمور خفيَّة، وإنَّما تظهَرُ بِفَوائِدِها وآثارِها، فإذا أردتَ إثبات حكم لأمر أو نفيَه عنه فعدِّدْ آثارَهُ الحسنة أوِ السيِّئة التي يستدل منها على صلاح علتها أو فسادها، إذ حال المعلومات تابع لحالِ عِلَلِها، ثُمَّ ابْنِ حكمك على ذلك في مقام الترغيب فيها أو الترهيب منها، كقولك في الصوم مثلاً: إن للصوم آثارًا حسنة وفوائد عظيمة: 1 - إنه يضبط النفس ويطفئ شهوتَها، فإنَّها إذا شبِعَتْ تَمرَّدَتْ وطَلَبَتِ الشهوة، وإذا جاعت خضعتْ وامْتَنَعَتْ عمَّا تَهوى قال صلوات الله وسلامه عليه: «يا معشر الشباب منِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم الباءةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أغضُّ لِلبَصَرِ وأَحْصَنُ لِلفَرْجِ، ومَنْ لَم يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بالصوم فإنه له وجاء»؛ (متَّفق عليه)، فكان الصوم ذريعة إلى كف النفس عن المعاصي. 2 - إنه وسيلة إلى تربية النفوس وتَهذيبِها؛ لأنَّها إذا انقادت للامتناع عن الحلال الذي لا غنى لها عنه طلبًا لمرضاة الله تعالى، وخوفًا من أليم عذابه، فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام الغنية عنه فكان سببًا في اتقاء المحارم، وقوة العزيمة وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. 3 - إنَّه وسيلةٌ إلى شُكْرِ النِّعمةِ إذْ هُو كفُّ النَّفس عنِ الأكل والشرب، ومباشرة الحليلة، وهِيَ من جلائل النعم، والامتناع عنها زمانًا معتبرًا يعرف الإنسان قدرها، إذ لا يُعْرَفُ فَضْلُ النعمة إلا بعدَ فَقْدِها، فيبعثه ذلك على القيام بِشُكْرِها وشُكْرُ النِّعْمة واجبٌ وإلَيْهِ الإشارةُ بِقَوْلِه تعالى {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. 4 - إنه يبعث في الإنسان فضيلةَ الرَّحْمة بالفقراء، والعطف على المساكين، فإنَّهُ إذا ذاق أَلَمَ الجوع في بعض الأوقات تذكَّر به مَنْ هو ذائقُه في جَميع الأوقات، فيسارع إلى رحمته والإحسان إليه. 5 - إنَّهُ يُنَقِّي الجسم من الفضلات الرديئة، والرطوبات المعوية، ويشفي من اضطرابات الأمعاء المزمنة، والبول السكري، وزيادة الضغط الذاتي، والتهاب الكلى الحاد والمزمن، وأمراض القلب المصحوبة بورم، وما إلى ذلك منَ المَزايا الصِّحِّيَّة الَّتِي شهد بها العدو قبل الصديق. وقِسْ على ذلك آثار تناوُلِ المسكرات وتعاطي المخدرات ومضارها البدنية والعقلية والمالية والاجتماعية، واعلَمْ أنَّ التَّشْبِيهَ المعروفَ عند البيانيِّين، وإن كانت الغاية منه حسن البيان إلاَّ أنَّه يأْتِي أيْضًا للإقْناع، وكثيرًا ما يتوسَّلُ بِهِ الخُطباءُ إلى مقاصِدِهِمْ؛ لأنَّه يَزِيدُ المعنى وضوحًا، ويكسبه تأكيدًا، ولِهذا جاء كثيرًا في الكتب السماوية وأطبق عليه جميع المتكلمين من العرب والعجم، ولم يستغنِ أحدٌ مِنْهُم عنه، وقد جاءَ عن القُدَماء وأهل الجاهلية من كل جيل ما يستدل به على شرفه وفضله وموقعه من البلاغة بكل لسان؛ كقوله تعالى ترغيبًا في بذل الأموال في الجهاد لإعلاء كلمة الله، ووجوه الخير: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بِالحُمَّى والسَّهَرِ»؛ (رواه الجماعة)، وقول ابن المقفع: "الدنيا كالماء الملح كلما ازداد صاحبه شربًا ازداد عطشًا، وكالكأس من العسل في أسفله السم للذائق منه حلاوة عاجلة وفي آخره الموت الزعاف أي السريع وكأحلام النائم التي تفرحه في منامه فإذا استيقظ ذهب الفرح". أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَأَحْلاَمِ نَائِــــمِ ** وَمَا خَيْرُ عَيْشٍ لاَ يَكُونُ بِدَائِمِ تَأَمَّلْ إِذَا مَا نِلْتَ بِالأَمْسِ لَذَّةً ** فَأَفْنَيْتَهَا هَلْ أَنْتَ إِلاَّ كَحَالِـــمِ فإنَّه شبَّه الدنيا ولذَّاتِها في سرعة الانقضاء بالحلم، ومنها: المثل ولضرب الأمثال في الخطابة مزايا لا يستهان بها، فإنها ألطف ذريعة إلى القلوب الغبية، وأقوى وسيلة إلى تسخير العقول الأبية، ذلك لأنها تصوير للمعقول بصورة المحسوس، وإيراد لأوابد المعاني في هيئة المأنوس، وبذلك تبقى صور المعاني راسخة في الأذهان، لا تذهب بطول الزمان، ولا يأتي عليها النسيان، وهي أنواع مفترضة ممكنة، وهي ما نسب فيها النطق والعمل إلى عاقل كالأمثال النبوية، وتختلف عن الحكاية من وجهين: 1 - أن لها مغزى. 2 - كونها غير واقعية وإن كانت في حيز الإمكان، ومخترعة مستحيلة، وهي ما جاءت على ألسنة الحيوانات والجمادات، فيعزى لها النطق والعمل لإرشاد الإنسان؛ كأمثال كليلة ودمنة، ومختلطة وهي ما دار فيها الكلام والعمل بين الناطق وغيره، وكثيرًا ما يكون ضرب المثل على وجه التَّشابُه والحكم؛ كما قال ابن المقفع في "مودَّة الصالحين والأشرار": المودَّة بين الصالحين سريعٌ اتِّصالُها، بطيءٌ انْقِطاعُها كآنيةِ الذَّهَبِ، بطيئة الانكسار، هينة الإعادة، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعُها، بطيءٌ اتصالها كآنية الفخار، يكسرها أدنى شيء، ولا وصل لها أبدًا، وقوله: يبقى الصالح من الرجال صالحًا حتى يصاحب فاسدًا. فإذا صاحبه فسد؛ مثل مياه الأنهار تكون عذبة حتى تخالط ماء البحر، فإذا خالطته ملحت، وملح من بابَيْ دخل وسهل، ومن الصور الوهمية التي يخترعها الوهم، والأمور الفرضية التي يبتدعها الخطباء وسيلة إلى المقصود قول ابن المقفع: مخترعًا صورة حسية لتبيان قصر الحياة ولذاتها الزائلة، وعدم خلوها من المخاطر والمنغصات، التمست للإنسان مثلاً فإذا مثله مثل رجل لجأ من خوف فيل هائج إلى بئر فتدلى فيها، وتعلق بغصنين كانا على سمائها فوقعت رجلاه على شيء في طي البئر، فإذا حيات أربع قد أخرجن رؤوسهن من أجْحارِهِنَّ، ثُمَّ نظر في قاع البئر فإذا فيه تنِّينٌ فاتِحٌ فاهُ مُنْتَظِرٌ له لِيَقَعَ فيأخذه، فرفع بصرَهُ إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود وأبيض، وهما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران؛ فبَيْنَمَا هُو فِي النظر لأمره والاهتمامِ لِنَفْسِه إذْ أبْصَرَ قريبًا منه كوارة[1] فيها عسل نَحْلٍ فذاق العسل فَشَغَلَتْهُ حلاوتُه وألْهَتْهُ الفِكْرَةُ في شيء من أمره، وأن يلتمس الخلاص لنفسه، ولم يذكر أن تحت رجليه حيات أربع، لا يدري متى يقع عليها، ولم يذكر أن الجرذين دائبان في قطع الغصنين. ومتى انقطع وقع على التنين فلم يزل لاهيًا غافلاً مشغولاً بتلك الحلاوة حتى سقط في فم التنين فهلك، فشبهت بالبئر الدنيا المملوءة آفات وشرورًا، ومخافات وعاهات، وشبهت بالحيات الأربع الأخلاط الأربعة التي في البدن، فإنها متى هاجت أو أحدها كانت كحمة الأفاعي والسم المميت، وشبهت بالغصنين الأجل الذي لا بد من انقطاعه، وشبهت بالجرذين الأسود والأبيض الليل والنهار اللذين هما دائبان في إفناء الأجل، وشبهت بالتنين المصير الذي لا بد منه، وشبهت بالعسل هذه الحلاوة القليلة التي ينال منها الإنسان فيطعم وينظر، ويسمع ويشم، ويلمس ويتشاغل عن مآله، ويلهو عن شأنه، ويصد عن سبيل قصده ا هـ؛ أي إن الإنسان في الدنيا مشغول بلذاتها الحقيرة الفانية عن الاهتمام بمصير أمره وطلب النجاة لنفسه في تلك الحياة ليظفر بنعيمها العظيم الباقي. وعلى الجملة فلضرب الأمثال أحسن موقع في الخطابة قال ابن المقفع: إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث، وقال إبراهيم النظام وقد خص بقوله: الأمثال السائرة في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة؛ كقولهم "الصيف ضيعت اللبن" لمن يقصر في طلب الشيء في أوانه، ثم جاء يطلبه في غير أوانه. والأدلة العرضية ما تؤخذ من مصادر خارجة عن الموضوع يحتج بها الخطيب لإثبات قضيته، وتأييد رأيه، وتلك المصادر نوعان: إلهية وبشرية؛ فالإلهية ما كانت عن وحي كالكتب المنزلة، والبشرية سنن الأنبياء والرسل وأقوال مشاهير الأئمة، وحكم الفلاسفة، ومألوف عادات الأمم؛ كقوله تعالى في إثبات فضل العلم ترغيبًا فيه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [2]، فشهادته تعالى بتوحيده هي إعلامه على لسان رسله أو بيانه بنصب الأدلة القاطعة لذلك في الآفاق، وفي نفوس البشر وشهادة الملائكة وأولي العلم بالتوحيد هي إقرارهم به، خص تعالى أولي العلم بالذكر من بين الآدميين تنبيهًا على أنهم هم المعتبرون، وشهادتهم هي الموثوق بها، أما غيرهم فهمل لا اعتداد به، ولا وزن لشهادته، وكفى بذلك شاهدًا بفضل العلم وأهله، وهذا أحد الوجوه التي تشير إلى فضل العلم والعلماء مما تضمنه هذا التنزيل الحكيم. وثانيها: اقتران شهادتهم بشهادته تعالى، فإن من المقطوع به أن شهادته تعالى كافية: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79]، لأنها من عليم خبير بدقائق خلقه وأسرار كونه، فقرنه تعالى شهادة العلماء بشهادته إعلام منه تعالى بأنها حق ناشئة عن علم وخبرة، وكفى بذلك فضلاً للعمل والعلماء؛ وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»؛ (متفق عليه)، أي يجعله فقيهًا في الدين، والمراد العلم المستلزم للعمل، وفي حديث أبي الدرداء: «إن العلماء ورثة الأنبياء»؛ (أخرجه أبو داود)، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم، ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة العالية، وقال البيهقي: سمعت سعيد بن داود يقول: سألت ابن المبارك: من الناس؟ فقال العلماء، قلت: فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قلت: فمن السفلة؟ قال: الذين يعيشون بدينهم. والسفلة بكسر السين وسكون الفاء، ولم يجعل غير العالم من الناس؛ لما روي عن ابن مسعود: الناس رجلان: عالم ومتعلم، ولا خير فيما سواهما؛ لأن الخاصية التي بها يتميز الإنسان عن غيره هي العلم، فإذا فقدت فقد منه شرف الإنسان، والتحق بالبهائم، إذ لم يبق معه إلا القدر المشترك بينه وبين سائر الدواب، وهو الحيوانية المحضة؛ لأن نطقه حينئذ كلا نطق، فلم يبق فيه فضل على العجماوات؛ بل قد يكون شرًّا منها؛ كالجهال الذين استهوتهم الزخارف فارتكبوا المنكرات، وخالطوا الشهوات فسلبت عقولهم، وأفسدت حالهم، وقد ضرب الله لهم في كتابه مثلاً بقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [3]، وكانوا شر البهائم لإبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله. وكقول المسعودي مرغبًا في حب الوطن والمحافظة عليه، فأورد كثيرًا من الأدلة للوصول إلى غرضه: إن من علامة الرشد أن تكون النفس إلى ولدها مشتاقة، وإلى مسقط الرأس تواقة، وقد ذكر أن من علامة وفاء المرء ودوام عهده حنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه، وبكاءه على ما مضى من زمانه، قال ابن الزبير: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم، وقال بعض حكماء العرب: عمر الله البلدان بحب الأوطان، وقال بعض حكماء الهند: حرمة بلدتك عليك مثل حرمة والديك، لأنَّ غذاءَك منهما وغذاءهما منها، وقال بقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه؛ لأن الطبيعة تتضلَّعُ بِهوائِها وتنزع إلى غذائها، وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنفع أدويتها. [1] الكوارة والكوار: بيت يتخذ للنحل من قضبان ضيق المدخل تعسل فيه. [2] سورة آل عمران الآية: 18. [3] سورة الأنفال الآية 22. __________________________________________________ __ الكاتب: الشيخ علي محفوظ |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
طريقة إعداد خطبة الجمعة مع وصايا للخطباء إن إعداد خطبة الجمعة من الأمور المهمة للخطيب الذي يصعد المنابر في كل أسبوع؛ ولذلك اجتهدت في جمعِ بعضِ الوصايا والأمور المهمة التي ينبغي على الخطباء مراعاتها عند إعداد خطبة الجمعة، وإلقائها على الناس، فأقول وبالله سبحانه وتعالى التوفيق: الحكمة من خطبة الجمعة والعيدين الله سبحانه وتعالى شرع خطبة الجمعة والعيدين لحِكَمٍ عظيمة، ونستطيع أن نوجزها في الأمور الآتية: (1) تصحيح عقيدة الناس. (2) تذكير الناس بالـجنة والنار، ولقاء الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، ومحاسبته لهم على ما قدَّموا من أعمال. (3) تعليم المسلمين أمور دينهم ومعرفة الحلال والحرام. (4) ترغيب المسلمين فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم، وحثهم على الزهد في الدنيا والإكثار من ذكر الله سبحانه، لتكون القلوب حية دائمًا، وقريبة من خالقها ورازقها سبحانه وتعالى. (5) اجتماع المسلمين والتأليف بين قلوبهم، ومساعدة بعضهم لبعض في أمور الدين والدنيا. وصايا للخطباء الكِرام: تعتبر خطبة يوم الجمعة درسًا أسبوعيًّا لترسيخ العقيدة الصحيحة في قلوب المسلمين، وتهذيب أخلاقهم، وتحذيرهم من المنكرات؛ ولذلك ينبغي على الخطباء الكرام عند إعداد خطبة الجمعة وإلقائها مراعاة الأمور التالية: (1) إخلاص العمل لله سبحانه وتعالى. • قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. • روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه»؛ (مسلم، حديث: 2985). • روى الشيخانعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»؛ (البخاري، حديث: 1، مسلم، حديث: 1907). (2) التوسل إلى الله تعالى بالدعاء للتوفيق في إعداد الخطبة. • قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. (3) الدعوة إلى الله تعالى شرف كبير، فيجب على الخطيب أن يشكر الله تعالى الذي جعله ينال هذا الشرف، وهذه المنزلة العالية. (4) معرفة فضل وثواب الدعوة إلى الله تعالى. • قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. • روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا»؛ (مسلم، حديث: 2674). • روى الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لعلي بن أبي طالب يوم خيبر: «والله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خيرٌ لك من أن يكون لك حـُمْـرُ النَّعَم»؛ (البخاري، حديث: 4210، مسلم، حديث: 2406). • قوله: «حـمـر النعم»؛ أي: الإبل العظيمة، وهي أعزها وأنْفَسُها عند العرب؛ (مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 9، ص: 3934). (5) يجب على الخطيب أن يتذكر أن الله سبحانه وتعالى سوف يسأله عن أقواله وأفعاله يوم القيامة. قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]؛ قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله: {مَا يَلْفِظُ} ؛ أي: ابن آدم، {مِنْ قَوْلٍ} ؛ أي: ما يتكلم بكلمة، {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ؛ أي: إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها، لا يترك كلمةً ولا حركةً؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]؛ (تفسير ابن كثير، ج: 7، ص: 398). (6) ينبغي على الخطيب الكريم الاقتداءُ بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقدر استطاعته، ولا يكلف الله سبحانه وتعالى نفسًا إلا وسعها. • قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. • وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. • وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. • وقال جل شانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]. (7) ضرورة عدم مخالفة قول الخطيب لفعله؛ لأن ذلك له أثـــر كبير في قلوب الناس. • قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]. • وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]. • روى الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه»؛ (البخاري، حديث 3267، مسلم، حديث 2989). • روى مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها»؛ (مسلم، حديث 2722). • قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: "لا يرضين الناس قول عالم لا يعمل، ولا عامل لا يعلم"؛ (اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي، ص: 166). • قال الإمام مالك بن دينار رحمه الله: "العالـم الذي لا يعمل بعلمه بمنزلة الصفا - الـحجر الأملس - إذا وقع عليه القَطْرُ زلِق عنه"؛ (اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي، ص: 192). طريقة إعداد الخطبة: نستطيع أن نوجز خطوات إعداد خطبة الجمعة في الأمور الآتية: (1) حسن اختيار موضوع الـخطبة؛ بحيث يتناسب مع أحوال الناس، والقضايا المعاصرة التي تهمُّهم. (2) تقسيم الـخطبة إلى عناصر. (3) الاهتمام بذكر الأدلة على من القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وأقوال سلفنا الصالح، واجتناب الأحاديث الضعيفة والموضوعة. (4) الاهتمام باستخدام اللغة العربية السهلة التي تتناسب مع أفهام الناس. (5) كتابة مصادر إعداد الـخطبة وخاصة الأمور الفقهية، فربما يحتاج إليها. (6) يستطيع الخطيب كتابة عناصر الـخطبة بإيجاز في ورقة صغيرة، ويحملها معه؛ لكي يتذكرها إذا نسِيَ منها شيئًا. (7) ضرورة اهتمام الخطيب بمظهره الشخصي، مع حرصه على ارتداء أفضل ثيابه. (8) يحرص على الذهاب إلى المسجد مبكرًا، وخاصة إذا كان المسجد بعيدًا عنه، ولكي يتمكن من مراجعة الـخطبة مرة أخرى. (9) اختيار مقدمة قصيرة ومناسبة لموضوع الـخطبة؛ مراعاةً للوقت. (10) يبدأ الخطيب خطبته بالحديث عن العناصر المهمة، ويراعي إعطاء كل عنصر الوقت المناسب له. (11) استخدام الحكمة والموعظة الحسنة عند إرشاد الناس ونصحهم. • قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. • وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. • روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»؛ (مسلم، حديث 2594). (12) يجب أن يكون الخطيب متواضعًا مع الناس، ويعلم أنه قد يكون بين المستمعين لخطبته مَن هو أكثر منه علمًا. (13) الاهتمام برفع صوته، وخاصة عند الرغبة في تأكيد أمر معيـن، وتنبيه الناس له. (14) بيان معاني الكلمات الصعبة الموجود في الآيات أو الأحاديث النبوية الشريفة. (15) الاهتمام بنسبة الأقوال المأثورة إلى أصحابها؛ لأن هذا يؤدي إلى زيادة الثقة في كلام الخطيب. (16) الاهتمام بتصحيح أمور العقيدة أثناء إلقاء الـخطبة. (17) عدم إثارة الأمور الفقهية الخلافية على المنبر؛ حتى لا تحدث فتنة بين الناس. (18) عدم التكلف عند أداء الخطبة، واجتناب السرعة عند الكلام. • روى الترمذي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والـمتشدِّقون والـمُتَفَيْهِقُون»، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والـمتشدقون، فما الـمتفيهقون؟ قال: «الـمتكبرون»؛ (حديث صحيح، صحيح الترمذي، للألباني، حديث 1642). • قوله: (الثرثارون): الثرثار: هو الكثير الكلام بتكلُّفٍ. • قوله: (والـمتشدقون): الـمتشدق هو: الذي يتكلم بملء فمه تفاصحًا وتفخمًا وتعظيمًا لكلامه. • قوله: (الـمتفيهقون): الـمتفيهق: هو الإنسان الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه؛ تكثرًا وارتفاعًا، وتكبرًا وإظهارًا لفضله على غيره من الناس؛ (عون المعبود، محمد أشرف آبادي، ج: 13، ص: 91). • قال الإمام النووي رحمه الله: "يكره التفاخر في الكلام بالتشدُّق، وتكلف السجع والفصاحة، والتصنع بالـمقدمات التي يعتادها الـمتفاصحون من زخارف القول، فكل ذلك من التكلف الـمذموم، وكذلك التحري في دقائق الإعراب، ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوام، بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته إياهم لفظًا يفهمونه فهمًا جليًّا، ولا يدخل في الذم تحسين القادر للخطب والمواعظ، إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب؛ لأن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر؛ (مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 7، ص: 3019). (19) استخدام القصص الصحيحة من حياة الأنبياء والصالحين والدروس المستفادة منها؛ لأن الأسلوب القصصي في الخطبة له تأثير كبير على الناس. (20) الحرص على عدم ذكر أحدٍ بعينه من أصحاب المعاصي، وأن يجعل النصيحة عامة. • روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: لينتهنَّ عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم»؛ [البخاري، حديث: 750]. (21) عدم إطالة وقت الـخطبة؛ حتى لا يمل الناس. (22) إذا أراد الخطيب توضيح بعض الأمور بالتفصيل، فينبغي عليه أن يجعل ذلك بعد الصلاة مع مراعاة عدم إطالة الدرس؛ لأن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا. • روى مسلم عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّةٌ - علامة - من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الـخطبة، وإن من البيان سحرًا»؛ (مسلم، حديث: 896). أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكـــــرام، وآخــر دعوانا أن الـحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين. __________________________________________________ __ الكاتب: الشيخ صلاح نجيب الدق |
بنك الخطيب للموضوعات
بنك الخطيب للموضوعات مما يشكو منه كثيرٌ من الخطباء اليوم قلة المواضيع التي عليهم طرحها على الناس، فكلما فكر الخطيب في عنوان لخطبته يتذكر أنه قد تم طرحه على الناس وهكذا فيظل حائراً، ومن هنا يظهر أنّ مسألة اختيار موضوع الخطبة عقبة تواجه الخطيب، ذلك أنه لا يُطلب منه أن يختار موضوعاً واحداً في السنة وإنما عنده في كل أسبوع موضوعاً، وهذا يعني أنه يحتاج في العام تقريباً إلى اثنين وخمسين موضوعاً هي عدة الخطب في العام الواحد، وإذا استمر أكثر من ذلك ؛ فإنه يحتاج إلى المئات وأكثر من هذه الموضوعات، ولا شك أنه يحرص على أنه لا يكرر الموضوعات مرة بعد مرة، وإن كرر فإن التكرار لا يكون إلا في موضوعات المناسبات. أخي الخطيب: بين يديك مجالات ومواضيع تستطيع أن تختار منها موضوعاً لخطبتك لتعيش طوال الأسبوع باحثاً جامعاً حول هذا الموضع،مُجددا ً لخطبتك،مشوقاً لسامعيك،مراعيا واقع الناس ومشاكلهم ومناسباتهم. الخطيب الناجح : هو الذي يراعي ضرورة التنويع في الخطب فلا تأخذ الخطب نمطاً واحداً، بل يكون للخطيب القدرة على التنويع في افتتاح الخطبة وموضوعاتها واختتامها، لئلا يمل المصلون، ولأن في التنويع تشويقاً وحفزاً على الاستماع والإنصات. وقد تجد البعض من الخطباء يركز على جانب الوعظ دون سواه والآخر على الجانب السياسي والثالث على الجوانب الاجتماعية وهكذا. إن هناك فئة غير قليلة من المسلمين لا يتلقون العلم إلا من خلال خطبة الجمعة، وإن تحقيق التكامل والتنوع في موضوعات الخطبة يُهيئ لهؤلاء حداً أدنى من الثقافة الشرعية. ودعونا ندخل وإياكم إلى هذا البنك الذي لا بد لكل خطيب أن يكون له رصيد فيه: أول: القرآن الكريم: القرآن زادٌ عظيم مبارك للمواضع،يمكن أن يكون موضوع الخطبة آية قرآنية يجعل الموضوع يدور حولها وحول تفسيرها، وحول معانيها وما قال العلماء عنها، ويربطها بواقع الأمة وواقع الناس واحتياجاتهم اليومية،ومثال على ذلك قول الله تعالى: ( {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} ) [الإسراء9] وقوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد11 وغيرها من الآيات. و هناك آيات في القرآن تصلح أن تكون سلسلة طويلة من الموضوعات يحصل بها النفع والفائدة، كما يحصل بها استقرار نفسي لمدى معين بالنسبة للخطيب. من أمثلة المواضيع القرآنية 1 ـ الآيات التي تتكلم عن صفات عباد الرحمن ؛ فإنها يمكن أن تكون موضوعاً لسبعة أسابيع أو عشرة أسابيع ولأكثر من ذلك. 2 ـ آيات الوصايا مثل وصايا لقمان لابنه والوصايا العشر في سورة الأنعام، والوصايا في سورة الإسراء. 3 ـ القصص القرآني، فيمكن أن تأخذ قصة نوح - عليه السلام - وتأتي بأحداثها ودروسها وعبرها في أربعة خطب إلى غير ذلك. ثاني: السنة النبوية: قد يكون موضوع الخطبة زهرة واحدة من بستان النبوة،حديث يعيش الخطيب في ظلاله ويتأمل الدروس والعبر وأقوال العلماء فيه. ومن ذلك حديث ابن عباس "احفظ الله يحفظك"،حديث جبريل "مراتب الدين "،حديث أبي ذر"اتق الله حيثما كنت"وغيرها من الأحاديث. ثالث: العقائد والإيمان: 1. الإيمان بالله «الربوبية – الألوهية – الأسماء – الصفات » 2. أهمية الإيمان بالله: «وجوبه، ثماره في الفرد والمجتمع ». 3. حقيقة الإيمان وبيان أنه اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح وأنه يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان. 4. العلم طريق الإيمان: أهميته، فضله ثمرته. 5. التفكر في مخلوقات الله. 6. أدلة الإيمان وبراهينه من النفس والآفاق. 7. الإيمان بالملائكة : أ. وظيفتهم، وصفاتهم، حقيقتهم. ب. أثر الإيمان بالملائكة في حياة المسلم. ج. الفرق بين عالم الملائكة وعالم الجن. 8. الإيمان بالكتب : أ. الإيمان بالكتب السابقة وبيان ما طرأ عليها من تحريف. ب. القرآن المعجزة الخالدة والمهيمنة على الكتب السابقة وبيان معجزاته. 9. القرآن وواجب الأمة نحوه. 10.الإيمان بالرسل : أ. التعريف بهم وبيان صفاتهم ومعجزاتهم. ب. حاجة الناس إلى الرسل. ج. مكانة الرسل وعصمتهم. 11.دروس من حياة الرسل. 12.محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.«دروس من حياته» 13. مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته. 14.أهمية الإيمان باليوم الآخر في حياة المؤمن. 15. الموت « كفى بالموت واعظاً ». عذاب القبر ونعميه. 16. البعث والنشور والحساب وأهوال يوم القيامة. 17.الجنة ونعيمها والنار وعذابها. 18.الإيمان بالقدر خيره وشره وبيان مراتبه أ. حقيقته وأهميته وأثره في حياة الفرد والمجتمع. ب. الأخذ بالأسباب جزءاً من الإيمان بالقدر. 19. أمثلة من تقدير الله للمخلوقات: المقادير، الأرزاق، الأعمار ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾. شعب الإيمان وهي بضع وسبعون شعبة.يعني سبعة وسبعون موضوع. 20- الشرك وخطره وبيان أنواعه. 21- الولاء و البراء. 22- عالم الجن وأثر الإيمان بهم والوقاية من مكرهم. 23- النفاق والمنافقين. رابع: العبادات: 1- مفهوم العبادة في الإسلام وشموليتها : أ. بيان معنى العبادة وأنواعها وشموليتها لجميع نواحي الحياة. ب. التفريق بين العبادات والعادات. ج. بيان خطأ من يحصر العبادات على جوانب معينة. د. فهم السلف الصالح للعبادة. هـ عبادته صلى الله عليه وسلم ومنهج الشمول فيها. و. أثر العبادة في حياة الفرد وتنمية الروح. أنواع العبادات : قلبية مثل : الإيمان والحب والإخلاص والتوكل.. الخ وبدينه مثل: الصلاة والجهاد... ومالية مثل: الزكاة – الصدقات. 1- الطهارة: أ. طهارة الظاهر والباطن – طهارة البدن والمكان – طهارة القلوب والجوارح. ب. النظافة مظهر حضاري يدعونا الإسلام إليه. ج. سنن الفطرة مقرونة بالإعجاز العلمي. 2-الصلاة : أ. أهمية المحافظة على الصلاة جماعة في المسجد وعدم تأخيرها عن وقتها. ب. التحذير من تركها أو التكاسل عنها مع بيان حكم ذلك. ج. تربية الأهل والأولاد على أداء الصلاة ومحاسبتهم يومياً على ذلك ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾. د. دعوة الغافلين عنها إلى أدائها خاصة في الأسواق. هـ. حث الناس على الانتهاء عن الفحشاء والمنكر لأن ذلك من أهداف الصلاة. و. بيان أثر الصلاة في حياة الفرد والمجتمع والاستقرار النفسي عند المصلين. ز. الحث على الإخلاص في أدائها والخشوع فيها والالتزام بآدابها. ح. الحث على النوافل كقيام الليل والسنن الراتبة. ط. الحث على صلاة الجمعة والمسارعة إليها وبيان أحكامها والتحذير من تركها. ي. الحث على صلاة الجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وبيان فضل تكثير المصلين فيها والحديث عن حكمها وأحكامها. ك.أخطاء يقع فيها بعض المصلين. ل. صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وضرورة الإقتداء به : «« صلوا كما رأيتموني أصلي »» 3-الزكاة: أ. بيان أحكامها ومقاديرها ومصارفها وأنواعها. ب. بيان حكمتها وآثارها في تقوية الروابط الاجتماعية وإزالة الضغائن بين الفقراء والأغنياء. ج. التحذير من تركها أو صرفها في غير مصارفها أو أداء جزء منها فقط. د. الحث على الإخلاص في أدائها والرضا بأدائها عن طيب نفس. هـ. الحث على الصدقات مثل كفالة الأيتام والأعمال الخيرية المختلفة. و. بيان عقوبة مانع الزكاة. ز. فضل إخراج الزكاة. ح. تخصيص بند من بنود صرفها لدعوة إلى الله عز وجل ونشر العلم والدين فكل ذلك داخل في سبيل الله. 4-الصيام: أ. فوائد الصوم وأسراره وفضله وحكمه. ب. أهداف الصيام. ج. بيان أخلاقيات الصائم. د. الحث على قيام الليل في رمضان وتحري ليلة القدر وقراءة القرآن وخاصة في العشر الأواخر. هـ كيفية استقبال شهر رمضان. و. الآثار التربوية للصيام على الأفراد. ز. بيان كيف كان السلف الصالح يتعاملون مع رمضان. ح. الحث على صيام النوافل. ط. تدريب الأبناء على الصيام. ك. الجود والإنفاق والإكثار من أعمال الخير في رمضان. 5-الحج: أ. فضل الحج وحكمه وأسراره ودلالاته وكيف يستفيد المسلمون من اجتماعهم في الحج. ب. صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم. ت. الحث على سرعة أداء هذه الفريضة عند الاستطاعة والتحذير من التساهل في أدائها أو تركها. ث. الحث على العمرة والموازنة بين الصدقة وتكرار الحج أو العمرة بعد أداء الفريضة. ج. مفاهيم خاطئة عن الحج والعمرة كالذي يعمل الذنوب ويؤخر الحج حتى يكمل ما عنده. ح. دروس وعبر من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. خامساً : القصص والغزوات والمعارك : ومن ذلك : 1- الصحابة الكرام : ومنهم أبو هريرة،معاذ بن جبل، مصعب بن عمير،سلمان الفارسي غيرهم. 2- التابعين : ومنهم عطاء بن أبي رباح،سعيد بن المسيب،عبد الله بن المبارك،وغيرهم 3- القادة والفاتحين : خالد بن الوليد،سعد بن أبي وقاص،طارق بن زياد،عبد الرحمن الغافقي،صلاح الدين الأيوبي وغيرهم. 4- غزوات الرسول تصلح أن تكون سلسلة مباركة مع الدروس والعبر المباركة. 5- معركة القادسية،اليرموك،الجسر،حطين،عين جالوت وغيرها. سادس: واقع الأمة : الخطيب الناجح : يربط المنبر بواقع الناس، فهناك أحداثاً مستجدة، والمطلوب من الخطيب أن لا المنبر مكاناً لنشرة الأخبار أو لاستعراض الأحداث بذاتها، ولكن لاستخراج الدروس والعبر، وتوضيح بعض الحقائق المهمة من ضرورة الولاء لله ولأوليائه والبراءة من أعداء الله، وبيان تكالب الأعداء على أمَّة الإسلام، وغير ذلك. سابع: الآداب والأخلاق * الآداب : 1.الأدب مع الله سبحانه وتعالى. 2.الأدب مع القرآن الكريم. 3. الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم. 4. الأدب مع النفس. 5.الآداب مع الخلق وينقسم إلى: أ. الأدب مع الوالدين. ب. الأدب مع الناس وهم العلماء والحكام ج. الأدب مع الأولاد. د. الأدب مع بقية الخلق. هـ. الأدب مع الزوجات. و. آداب حسن الجوار. 1.آداب طالب العلم. 2.آداب التعارف والتآلف. 3.آداب الحديث والحوار. 4.آداب اللباس. 5.آداب الأكل والشرب. 6.آداب الاستئذان. * الأخلاق الفاضلة: 1.الأخلاق وأهميتها في الإسلام. 2.الأخلاق الفاضلة وتشمل : 1-أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مثل : الحلم، الصبر، الشجاعة، الكرم، البساطة، التواضع، التيسير، الزهد. 2-الحب في الله. 5-التواضع. 8- الإيثار. 3-الصدق. 6-الشجاعة. 9- الحلم الصبر. 4-الأمانة. 7-الكرم. 10- الغيرة الأخلاق الذميمة : 1- الكذب. 10-الخيانة. 18- الغضب. 2- القسوة والغلظة. 11-الطمع والجشع. 19- الفرقة 3-الحقد والحسد. 12-البخل. 20- سوء الجوار 4-الكبر 13-الظلم 21حب الذات 5-الجبن 14-الغدر 22- الغيبة 6-النميمة 15-سوء الظن 23-السخرية 7-الغش 16-الغرور 24- اتباع الهوى 8-السفور والتبرج 17- العصبية الجاهلية 25-النفاق 9-الجدال والمراء ثامن: الدعوة إلى الله تعالى : 1. وجوب الدعوة إلى الله. 2. فضل الدعوة إلى الله. 3. عالمية الدعوة إلى الله. 4. شمولية الدعوة إلى الله. 5. محمد صلى الله عليه وسلم الداعية الأول «صفات الداعية، أسس الدعوة » 6. أساليب الدعوة. 7. المسجد ودوره الدعوي والتعليمي. 8. وسائل الدعوة إلى الله : ميادين الدعوة «المسجد – البيت – المدرسة – الجامعة – المجتمع – النادي » فقة الحركة لهذا الدين : 1. مراحل الدعوة إلى الله 2. دخول الإسلام اليمن. 3. المستقبل لهذا الدين. 4. الإيجابية في حياة الفرد المسلم. تاسع: الجانب الإجتماعي : 1.إصلاح ذات البين. 2 الوحدة والإتحاد. 3 حقوق الآباء. 4 حقوق الأبناء 5حق للزوج على زوجته 6.حق الزوجة على زوجها. 7.حقوق الجار. 8.حق غير المسلم في المجتمع المسلم. 9.دور المرأة في المجتمع. 10.تيسير الزواج 11.إحياء رسالة المسجد وتفعيل دوره في الجانب الاجتماعي 12.معالجة الجريمة والتحذير منها. 13.الأسرة المسلمة والاهتمام بها. 14.الاهتمام بالشباب دورهم في رفعة الأمة. 15.أثر الذنوب والغفلة على الأفراد والشعوب. 16.التكافل ودوره في المجتمع. أ- دعوة للإطعام ودور الكفارات. ب- فضل الصدقات والإنفاق. ت- دعوة التجار والأغنياء إلى المساهمة في التكافل. ث- نماذج من التكافل في حياة ج- الآثار الطيبة التي نجنيها من القيام بالتكافل. ح- أمور تعامليه تحقق التكافل. عاشر: الجانب الاقتصادي: 1. تعريف الاقتصاد وأهميته : 2. الاقتصاد قبل الإسلام. 3. الاقتصاد الرأسمالي واستعباد الفرد. 4. الاقتصاد الاشتراكي وقتل الإبداع. 5. الاقتصاد الإسلامي «تعريفه – مميزاته – ضرورته لحل مشاكل العالم » وذلك في ضوء : أ. القرآن الكريم – السنة – الفقه الإسلامي. 6. الزكاة أهميتها وثمارها وأنواعها. 7. مصارف الزكاة ودورها في حل المشكلات الاقتصادية. 8. الكفارات والصدقات والنذور والوقف والهبات وأهميتها وأثرها في المجتمع. 9. الحث على الكسب الحلال وفوائده والنهي عن الأكل الحرام والسرقة والغش. 11.التوازن والاعتدال في الإنفاق والنهي عن الإسراف والتبذير والنهي عن البخل والتقتير. 12.التجارة في الإسلام وصفات التاجر المسلم والنهي عن الاحتكار. 13.التوكل في طلب الرزق والقناعة والرضا بما قسم الله. 14.خيرات الأرض أنواعها كيفية استغلالها. 15.الجهاد في سبيل الله من أوسع أبوب الرزق. 16.النهي عن البطالة والحث على العمل. 17.النهي عن الرشوة والتطفيف في الكيل والوزن. 18.النهي عن السؤال وتكفف الناس والتسول. 19.النهي عن الربا وأضراره وأنواعه وحكمه. 20.لبنوك الإسلامية والشركات الاستثمارية ودورها في بناء الاقتصاد. 21.بنوك الربوية وأثرها على الاقتصاد. 22الوقف ودورة في بناء الاقتصاد. 23.لعولمة وأثرها على الاقتصاد. الحادي عشر: الجانب السياسي : 1. الحاكمية في الإسلام وفيها : أ. أهمية الحكم ب. مواصفات الحاكم و. موقف الإسلام من التسلط الفردي.ج. واجبات الحاكم ز. حق الأمة في الحسبة على الحاكم. د. طرق الوصول إلى الحكم. 2. شمولية الإسلام. أ. علاقة الإنسان بالله والكون والحياة. ب. العلاقة الإنسانية مع المسلم ومع غير المسلم. ج. حقوق وواجبات المسلم. د. العدل وأثره في الأمة. ه. الحرية في الإسلام والمساواة. و. الشورى في الإسلام. الثاني عشر: الجانب الفكري والثقافي : 1. الحلول الاقتصادية في الإسلام. 2. كيف عالج الإسلام مشكلة الجنس. 3. الإسلام دين القوة. 4. العلم طريق الإيمان. 5. النظافة من الإيمان. 6. الإعلام وأثره في الهدم والبناء. 7. الغزو الفكري ماهيته وأضراره. 8. القنوات الفضائية وسبل المعالجة والإصلاح. 9. خطر السفور والإباحية. 10.يصوغ عقول أبنائنا. 11.سنن الله في حياة الأفراد والشعوب. 12.الصحوة الإسلامية ثمارها ومستقبلها. 13.واجب الأمة في حمل الدعوة. 14.المستقبل لهذا الدين. 15.الله المقيت الرزاق. 16.العلمانية وخطرها على الأمة. 17.فشل التيارات المخالفة للفطرة. 18.الإستشراق وتشويه الإسلام. 19.العولمة مفهومها وحقيقتها. 20.الحاكم العادل. 21.لماذا أفلحوا. 22.طريق النصر. وفي الأخير أسأل الله بمنه وكرمه ورحمته وعفوه أن يجعل هذا العمل صالحاً ولوجهه خالصاً،وان ينفع به،ويجعله ذخراً لنا يوم المعاد،إنه ولي ذلك والقادر عليه،وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم. __________________________________________________ __________ أخوكم/أمير بن محمد المدري |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
مكانة خطبة الجمعة في الإسلام خطبة الجمعة: تلك الخطبة التي تلقى على المنبر يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة، وهي شرط لصحة الجمعة، وبه قال الأئمة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - رحمهم الله تعالى -. ولخطبة الجمعة في الإسلام منزلة عظيمة، يتبين ذلك من خلال ما يأتي: أولاً: كان تشريع خطبة الجمعة في أعظم أيام الأسبوع، وجعلها أيضاً قرينة لصلاة الجمعة، وسابقة لها، بل ونسبتها إلى هذا اليوم الفضيل، وتسميتها بخطبة الجمعة من أول الدلائل التي تدل على مكانة هذه الشعيرة العظيمة، بل عد الإمام ابن القيم - رحمه الله - خطبة الجمعة من خصائص هذا اليوم الكريم، فلا خلاف بين العلماء أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، و أنه خير يوم طلعت فيه الشمس، فعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم عليه السلام، و فيه أدخل الجنة، و فيه أخرج منها،و لا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» (رواه مسلم). ثانياً: أن خطبة الجمعة شرط - على الصحيح - لصحة الجمعة كما قدمنا. ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى ندب لها، وذم من انشغل عنها بغيرها، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[9] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[10] وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [11]} [الجمعة / 9 - 11]، فقد رجح الإمام القرطبي وغيره أن المراد بذكر الله في الآية: خطبة الجمعة، حيث قال في تفسير قول الله سبحانه:إلى ذكر الله): أي الصلاة، وقيل الخطبة والمواعظ، قاله سعيد بن جبير، بن العربي والصحيح أنه واجب في الجميع، وأوله الخطبة، وبه قال علماؤنا.... رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أن يتولى خطبة الجمعة بنفسه، فالإمامة والخطابة مهام اختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاها بنفسه، وهذه مزية لخطبة الجمعة أيضاً، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم كما تفعلون) (رواه البخاري ومسلم). بل تعدت خطب النبي صلى الله عليه وسلم التي خطبها في أصحابها الألفي خطبة، وبذلك صرح الصحابي الجليل جابر بن سمرة رضي الله عنه فقد أخبر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً. فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة) (رواه مسلم). ثم إن من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يصل المدينة في هجرته المباركة، حيث أرسل صاحبه مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة ليعلمهم الدين، وهناك استقر عند أسعد بن زرارة رضي الله عنه وعنده أقيمت أول صلاة للجمعة في المدينة، فعندما بلغوا الأربعين شخصاً أمَهم مصعب رضي الله عنه، فقد روي أنه كتب له رسول الله صلى الله وسلم أن يجمع بهم. ثم بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم: ورثها من بعده خلفاؤه الراشدون، وهم أركان البلاغة، ودعائم البيان، وسادات الفصاحة، ثم من بعدهم ملوك بني أمية وعمالهم، ثم خلفاء بني العباس، ثم اتسعت حتى أصبحت في العلماء والمشايخ، إلى أن اتسع نطاقها لما هو أبعد من ذلك حتى أصبح في مصرٍ واحدٍ في هذا العصر أكثر من ألفي جامع، ولله الحمد والمنة. خامساً: إن المتتبع لمقاصد خطبة الجمعة يجد كثيراً من المقاصد السامية ومن ذلك: 1. أن خطبة الجمعة من الدعوة إلى الله، قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل / 125]. 2. وهي من البلاغ المأمور به، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عني ولو آية..» (الحديث رواه البخاري). 3. وخطبة الجمعة فيها تمثل لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران / 104]. 4. والتذكير مقصد آخر من مقاصد خطبة الجمعة، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات/ 55]. 5. التعليم والنصح مقصدان عظيمان من مقاصد خطبة الجمعة، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «إن الله و ملائكته، حتى النملة في جحرها، و حتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير». وغير ذلك من المقاصد العظيمة من الدلالة إلى الخير، والتحذير من الشر، والاجتماع، والتعاون على البر والتقوى، والإصلاح، والتربية، وغير ذلك كثير، فخطبة الجمعة محضن عظيم، تتضمن كل ما فيه صلاح المسلم في دينه ودنياه. سادساً: مكانة الخطبة الرفيعة من مكانة المسجد في الإسلام، فالخطب في المسجد الجامع، والمسجد له مكانته العظيمة في الإسلام، فالمساجد أفضل بقاع الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: «خير البقاع المساجد..» الحديث، ومنها انطلق نور الإسلام للبشرية، وكانت ومازالت لله الحمد دور العبادة، والطاعة، والعلم، والدعوة. سابعاً: وإن من مكانة خطبة الجمعة، أن نُدب المسلم للتبكير للاستماع لها، والتهيئة لذلك، فقد رتب الشارع الحكيم على التبكير للحضور يوم الجمعة أجراً عظيماً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر». كما أن الشارع الحكيم حث على الإنصات للخطبة، وحذر من التهاون في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا»، وقال صلى الله عليه وسلم «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» (رواه البخاري ومسلم). ثامناً: ومن المعاني التي تستشعر فيها مكانة خطبة الجمعة في الإسلام، أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم لها مكاناً محدداً، ومنبراً خاصاً، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ منبراً، وخطب عليه. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل، يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً، قال «إن شئتم»، فجعلوا له منبراً فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر...) (الحديث، رواه البخاري). وقد دلت أحاديث كثيرة على ذلك، حتى حكى الإمام النووي الإجماع على ذلك فقال رحمه الله: أجمع العلماء على أنه يستحب كون الخطبة على منبر؛ للأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها؛ ولأنه أبلغ في الإعلام؛ ولأن الناس إذا شاهدوا الخطيب كان أبلغ في وعظهم. __________________________________________________ ____ الكاتب: د.محمد بن عدنان السمان |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
دور الخطيب في مواجهة الانحرافات الفكرية الفرقان الخطابة في الإسلام من أهم أدوات البلاغ وبيان الدين وتذكير الناس بأمور دينهم وعقيدتهم؛ فالخطابة نافذة واسعة لعرض الإسلام بنصاعته الكاملة، وتوعية المسلمين بالمرحلة التي يعيشونها، وبالأخطار والتحديات التي تحيط بهم، وهي الوسيلة المهمة في توصيل الرسالة المحمدية، وهداية الناس، وتربية الأمة بعمومها، وتوعية المجتمع بشتى أطيافه، وصياغة الإنسان الإيجابي الصالح المصلح. وحتى يستثمر الخطيب منبر الجمعة الاستثمار الأكمل، عليه أن يطرح المواضيع التي تمس إليها الحاجة ضمن منهج متوازن شامل، يغطي المعاني والأفكار، ويترجم منهج الإسلام في صورة القيم النبيلة والمثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تصل من القلب إلى القلب، فتنتعش الروح، ويتجدد الإيمان، وتتسع المدارك، ويتعمق الوعي إزاء قضاياه المعاصرة.ترجمة للواقع ويوم أن يفقد الخطيب قدرته على ترجمة واقع الناس، وقراءة مشكلاتهم القراءة الصحيحة التي تمكنه من انتقاء المواضيع التي تهمهم، وتعرفهم رأي الإسلام فيها، عندها ينصرف الناس عن سماع هذا الخطيب، ويزهدون في بضاعته، وحتى لو حضروا خطبته حضروها كالأموات، أجساداً بلا أرواح ولا قلوب ولا عقول.رسالة الخطيب أساسيات نجاح الخطيب - الأولى: ضرورة المعرفة الصحيحة الشاملة للإسلام النقي دينا ومنهج حياة متكامل، ونظاما فكريا وعقائديا متفردا يمتلك الإجابة الشافية عن كل تساؤلات البشر القديمة والحديثة. - الثاني: ضرورة معرفة ظروف العصر ومتطلباته، والتفريق بين ما هو ناشئ عن التطور العلمي والصناعي، وبين ظواهر الانحراف وأسباب الفساد والانحطاط. ثقافة الخطيب سلاح الداعية والخطيب مقدمة في فقه النوازل النوازل والانحرافات الفكرية - مثال ذلك: الحداثة، الليبرالية، العلمانية، العصرانية، التغريب، الاستشراق، الإلحاد، النسوية، الجندرية، إلى آخر القائمة الطويلة من مستجدات العقل البشري البعيد عن نور الوحي. استراتيجية الخطيب في تناول النوازل الفكرية أولاً: القراءة المستفيضة عن هذه النازلة ويتم ذلك بالاحاطة الكاملة عن حقيقتها ونشأتها وبيئتها وواضعها وروافدها وأصولها ومبادئها وأهم أهدافها، وأهم رجالها ودعاتها في بلاد الإسلام، وعدد المتأثرين بها وشرائحهم، ومدى نفوذها، وتاريخ دخولها إلى بلاد الإسلام. وكل ذلك انطلاقاً من القاعدة الأصولية: «الحكم على شيء فرع عن تصوره»، وهذا التصور الصحيح يمكن الخطيب من تعريتها وكشف زيفها ونزع الهالات الراقة التي تصاحب الدعاية لها؛ فما من نازلة فكرية إلا كالسم المدسوس في العسل، لا يأتي إلا في أبهى هيئة وأشهى مذاق، فينخدع الكثيرون ويقعون في حبائلها.ثانياً: دراسة بيئة النازلة وواقعها فليس كل النوازل والانحرافات الفكرية على قدم السواء في الأثر والانتشار، فبعض النوازل الفكرية مثل النسوية والجندرية لا تلقى الرواج الذي تلقاه العلمانية والليبرالية والقومية والديمقراطية، ومن ثم فمعرفة بيئة النازلة وواقعها ومداها وأثرها تجعل الخطيب يحدد أولوياته، ويرسم استراتيجيته ويبني خططه. قال ابن القيم-رحمه الله-: «فإنه لا يمكن من الحكم في النازلة إلا بنوعين من الفهم:- أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. - والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر». ثالثاً: عرض النازلة على مصادر التشريع رابعاً: بيان نظرة الإسلام ورؤيته خامساً: عرض النازلة على مقاصد الشريعة |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
خطب الجمعة وعظ أم تعليم؟ لو أن خَطِيبينِ للجمعة خَطَبَا عن أوقات الصلاة، أحدهما عرض أحكامها عرضًا علميًّا، وآخر لم تكن خطبته علمية بحتة، بل كانت موعظة تخاطب القلب لا العقل، فمَنِ المصيب في ظنِّك؟ حتى يكون الجواب علميًّا؛ علينا أن نحتكم إلى تعريف الخطبة، وقد تعددت تعريفاتها، وهذا التعدد لم يضر كثيرًا بأساسها؛ من مشافهة، وجمهور، وإقناع، ومن هذه التعريفات ما جاء في التعريفات للشريف الجرجاني (ت: 816) يقول عنها: "قياس مركب من مقدمات مقبولة، أو مظنونة، من شخص معتقَد فيه، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم"[1]، ويقول الطاهر بن عاشور (ت: 1339) إنها: "كلام يحاوَل به إقناع أصناف السامعين بصحة غرض يقصِده المتكلم لفعله أو الانفعال به"[2]، ويقول حازم القرطاجني (ت: 684) وهو من أعلام النقد في القرن السابع في معرِض حديثه عن الشعر والخطابة، وبيان ما هو أصل فيهما: "وينبغي ألَّا يستكثر في كلتا الصناعتين مما ليس أصيلًا فيها؛ كالتخييل في الخطابة، والإقناع في الشعر، بل يؤتى في كلتيهما باليسير من ذلك على سبيل الإلماع"[3]. بقليل من التأمل تجد أن التأثير والإقناع ركنٌ أصيل في الخطبة، فثمة حديث عن انفعال، وأحاسيس، واستمالة، وهذه ألفاظٌ منطقةُ عملِها القلبُ لا العقل، أما الخطاب العلمي البحت، فليس هذا محله. وإذا رجعنا إلى الخطابة في العصر الجاهلي وما بعده، وجدنا أن من أغراضها الدعوة إلى الحرب أو السلم، والنصح والإرشاد والفخر، فالتأثير ملازم لها، والتعليم بعيد عنها، وانتماء الخطبة إلى الأدب وتاريخه عبر العصور حُجَّة ثابتة؛ فهي منتسبة إلى الأدب ذي الصبغة الأدبية، المبايِن للصبغة العلمية. ومما يَحسُن بيانه: سمات الأسلوب العلمي؛ ومنها: • نقل المعارف والأحكام وحشدها. • التراكيب التي تخاطب العقل والفكر، لا العاطفة والشعور. • البعد عن الإثارة والانفعال. • طول الجُمل، والبعد عن الجرس الصوتي[4]. ومما يُكوِّن هذه السمات العلمية بُعد الخطيب عن الأساليب الإنشائية، فتجد خطيبنا الأول، صاحب العرض العلمي سيقول: يدخل وقت صلاة الصبح بطلوع الفجر، ويخرج بطلوع الشمس، ولربما ناقش أفضل وقت لصلاة الصبح مع عرض لأقوال الأئمة في التغليس، أما خطيبنا الثاني سيقول: يا عبدالله، كيف تهنأ بنوم وقت صلاة الصبح، ومنادي الرحمن قد ناداك، والله أنعم عليك وآواك؟ فلا تكُنْ ممن آثر دنياه على آخرته، فلا يقوم إلا بعد طلوع الشمس تاركًا حقَّ ربه، حريصًا على دنياه، فالمسلم الحق يقدم الآخِرَةَ على الأُولى، والباقية على الفانية. فالأول اعتمد على الأخبار ومخاطبة العقل، والثاني لم يعتمد الأخبار في خطابه، بل مزج بين الخبر والإنشاء؛ فتجد النداء والاستفهام والنهي، وهي من الإنشاء الطلبي، الذي هو أقدر على إثارة السامع؛ فالنداء يطلب استجابة، والاستفهام يطلب جوابًا، والنهي يطلب الكَفَّ، فالجُمل الإنشائية تتناوب على المخاطب، وتتزاحم على الظَّفَرِ بقلبه وسمعه، أما سرد الأحكام والأخبار فيكون معه الغفلة؛ فالنفس تسكن عند توالي الأمر الواحد فتهدأ، وربما تهجَع. فمن حضر خطبة الأول أضاف إلى حصيلته المعرفية علمًا، والمفترض أن من حضر عند الثاني أن يتغيَّرَ سلوكه، وأن يبادر إلى الصلاة في وقتها، مع أنه قد لا يُحصِّل كثيرَ علمٍ، لكنه ذُكِّر فتذكر. ورحِم الله علماء البلاغة حين عرَّفوها بأنها: مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته[5]، فقضية المقام، ومطابقة الكلام له، هو فيصلٌ في الحكم بالبلاغة، وعليه فالمعوَّل عليه في الحكم ببلاغة موضوع خطبة الجمعة ما جاء في الشرع. وقد جاء عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين، ويَقْرِنُ بين إصبعيه السبابة والوسطى))[6]، وعن العرباض بن سارية، قال: ((وَعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرَفت منها العيون، ووجِلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظةُ مودِّعٍ، فماذا تعهَّد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشي، فإنه من يَعِشْ منكم يرى اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدَثات الأمور؛ فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ))[7]. تبدو سمات المخاطِب صلى الله عليه وسلم وتفاعله في الحديث الأول قاطعةً بأنه لم يكن خطابًا علميًّا، وفي الحديث الثاني تصريح بنوع الخطاب، وأنه وعظيٌّ، مع أن سمات تفاعل المخاطَبين قاطعة وشاهدة بأنه كان خطابًا وعظيًّا؛ فغرق العيون دمعًا، ووجل القلب خوفًا إنما هو أثر لِوَعْظٍ. وقد جاء عن بنتٍ لحارثة بن النعمان، قالت: ((ما حفظِتُ ﴿ ق ﴾ [ق: 1]، إلا مِن فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها كل جمعة))[8]، علَّق النووي (ت: 676) شارحًا؛ فقال: "قال العلماء سبب اختيار ﴿ ق ﴾ [ق: 1]، أنها مشتملة على البعث والموت، والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة، وهذا صريح أن موضوع الخطبة الوعظ والتأثير لا التعليم. وما دام الحديث عن موعظة وزواجر، فمما شاع أن الوعظ محصور بذكر الموت والقبر، وهو خطأ قديم؛ يقول ابن القيم (ت: 751): "كانت خطبته صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان؛ من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذِكْرِ الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق؛ وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت ..."[10] ، وهذا نص ثريٌّ في موضوع الخطب، وشاهِدُنا أنه أكَّد على موضوع خُطَبِهِ صلى الله عليه وسلم، وأنها في دائرة الموعظة، ومن المهم التنبيه على قوله: "فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا ..."؛ فهي خطاب تأثيري يخاطب القلب ويعالجه، وصلاح هذه الْمُضْغَة مقصد شرعي؛ فصلاحها صلاح للجوارح. ربما ظنَّ ظانٌّ أنه يتوجب على الخطيب نبذُ التعليم، وبيان الأحكام في الخطبة، والحق أنه لا يُعدَل إلى الترجيح ما أمكن الجمعُ، وما دام أنه يمكن أن يَعرِض الأحكام، ويُذكِّر بحق الله فيها، مع ترغيب وترهيب فهذا عين الصواب، وهو منهج قرآني؛ فأنت واجد الآيات من السورة في الأحكام الخالصة، ثم تجد الخطاب الوعظي يسري فيها؛ ففي قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، هذه الآية قبلها أكثر من عشر آيات كلها في بيان أحكام النكاح والطلاق؛ حيث سردت هذه الآيات أحكامًا متعددة، فهي أحكام بحتة إلا أنك تجد الوعظ ركنًا رئيسًا فيها، ولا يغيب بين تفاصيلها، كما هو جليٌّ في الشاهد السابق، فبعد أن بيَّن عز وجل حكمَ الزوجة غير المدخول بها، وأن لها نصف المهر، وَعَظَ الزوجين وحثَّهما على العفو، ورغَّب فيه بذكر المعروف، ثم خُتمت الآية ببيان كمال علمه عز وجل، وفيه حثٌّ لكلٍّ منهما على الخوف منه سبحانه وتعالى، فقد حضر الوعظ بعد بيان الحكم، ولم يكن ذلك خارجًا عن سياق الخطاب، وهذا ما فهِمه سلف هذه الأمة، أما الفصل الحاد بين التعليم والوعظ، فلم يكن في القرون الأولى، بل حادث؛ يقول ابن الجوزي (ت: 597): "كان الوُعَّاظ في قديم الزمان علماء فقهاء"[11]. ومن المسائل الفقهية التي تُناقَش: أركان خطبة الجمعة، وهو نقاش طويل أكتفي بنقل شيء من كلام الشوكاني (ت: 1250)، فقد بيَّن أن روح الخطبة الموعظة الحسنة من قرآن أو غيره، وأن المراد من الخطبة الوعظ، وهو آكَد من غيره وأدخل في المشروعية[12]. ومن الموعظة تبيين الأحكام والأوامر والنواهي؛ يقول محمد الأمين الشنقيطي (ت: 1393): "ضابط الوعظ: هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامرُ ربهم ونواهيه؛ فإنهم إذا سمِعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمِعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله ..."[13] ، فاذكر - أخي الخطيب - قول الشيخ ولا تُغفِل مطلعه؛ ففيه التأكيد على أن هذا الخطاب يُليِّن القلوب. هذا الحديث كله عن خطبة الجمعة وموضوعها، فكيف إذا أخبرتك أنِّي سبرتُ عشرات الخطب للصحابة رضي الله عنهم في موضوعات متباينة فوجدت الوعظ قرينها؟ حتى خطبهم السياسية لم تكن تخلو غالبًا من موعظة، فبُهداهُمُ اقْتدِهِ. [1] التعريفات: الشريف الجرجاني: 99، تحقيق: جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1403هـ. [2] أصول الإنشاء والخطابة: 33، محمد الطاهر بن عاشور، ت: ياسر بن محمد المطيري، دار المنهاج، الرياض، الطبعة الأولى، 1433ه. [3] منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 362، حازم القرطاجني، ت: محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثالثة، بيروت، 1986م. [4] انظر: علم الأسلوب في الدراسات الأدبية والنقدية: 15، عبدالعظيم المطعني، مكتبة وهبة، الطبة الأولى، 1422ه. [5] انظر: الإيضاح: 1/ 41، الخطيب القزويني، ت: محمد عبدالمنعم خفاجي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثالثة. [6] رواه مسلم، برقم: 867. [7] رواه الترمذي، برقم: 2676، وقال: حديث حسن صحيح. [8] رواه مسلم، برقم: 873. [9] شرح النووي على مسلم: 6/ 398، ت:خليل مأمون شيحا، دار المعرفة،، بيروت، الطبعة الثامنة عشرة، 1431ه. [10] زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/ 409، ابن القيم، مؤسسة الرسالة، بيروت، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون ، 1415هـ. [11] تلبيس إبليس: 111، أبو الفرج ابن الجوزي، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1421هـ. [12] انظر: السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: 1/ 299، محمد بن علي الشوكاني، ت: محمود إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405ه. [13] أضواء البيان: 2/ 438، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، لبنان، 1415ه. __________________________________________________ __ الكاتب: د. أحمد بن محمد عبيري |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
أسباب تراجع تأثير خطبة الجمعة خطبة الجمعة من أعظم شعائر الإسلام، فهي التي تعطي المسلم الدفعة الإيمانية التي يسير بها في حياته اليومية خلال الأسبوع حتى تأتي الجمعة التي تليها، وورد بالشرع الحنيف نصوص قرآنية وأحاديث نبوية ترغب المسلم وتحثه على المسارعة والسعي إلى ذكر الله والصلاة يوم الجمعة وترك البيع واللهو، فإذا انقضت الصلاة عاد المسلم ليمارس عمله المعتاد الذي أباحه الله له " {وابتغوا من فضل الله} ". لكن هذه الأيام التي نعيشها شهدت تراجعًا ملحوظًا في تأثير خطبة الجمعة، وكثير من المسلمين يشكوا من أساليب الوعاظ والخطباء، والخطباء بدورهم يرفضون أن يلقى عليهم وحدهم مسئولية هذا التراجع، إذ ثمة عوامل أخرى أوجدت هذه المشكلة. يحاول هذا التحقيق تشخيص المشكلة وأسبابها الحقيقية، لنحاول وضع أيدينا على حل لها... والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. - لا شك أن خطبة الجمعة فرصة يتلاقى فيها الدعاة مع أفراد المجتمع، ولهذه الخطبة تأثير وأيما تأثير - إذا أحسن استعمالها على الوجة الذي ينبغي أن يكون-، مما جعل العلمانيين يتحسرون لعدم وجود تلك الفرصة لهم، ويحسدون الخطباء عليها. وأضاف عفيفي: الناس يأتون مختارين مبكرين فينبغي لمن يتصدر للتحدث إليهم أن يحترم عقولهم وأوقاتهم وأن يقدم لهم النصيحة التي تعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، وأن يعد نفسه جيدًا. وللأسف الشديد فإن بعض من يتصدرون للخطبة أصبح يؤديها على أنها وظيفة وليست رسالة، وكأنه يملأ فراغ المنبر بالتالي سيقول أي كلام لا مضمون ولا لغة ولا أداء. وأردف الدكتور عفيفي: وأحيانا تتدخل بعض الجهات في منع أو إيقاف أي خطيب لمجرد اختلافه معهم وبالتالي يمنع الأكفاء، مما يفسح المجال لأناس غير مؤهلين، وهي أمانة عظيمة. -: إن رسالة المنبر تتكون من ثلاثة عناصر مرسل ومستقبل وموضوع، فإذا اكتملت هذه الثلاث أثمرت الخطبة وآتت أكلها، وأنتجت خيرًا عميمًا ينفع الله به الناس في حياتهم ومماتهم. ولكن الخلل يبدأ من المرسل –وهذا لا يعني تبرئة باقي عناصر الخطبة- إلا أن المرسل (الواعظ ، الملقي، الخطيب، أيا كان اسمه) هو العنصر الأول والأساس، فبقدر ملئه لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخلاصه في نيته، وثبات قدمه ورسوخه في العلم والفقه، وحسن الإلقاء، وجودة الكلمات وسلامتها، وحسن الصياغة، وفهمه لواقع الناس، ومعرفة ما يحتاجونه... إلخ بقدر ما يؤثر فيهم ويجذبهم ويعلمهم وينفع الله به العباد والبلاد ويكون بركة على أهله. -: يشعر الكثير من المسلمين ــ وأنا منهم ــ أن يوم الجمعة وخطبة الجمعة هي من أبرز سمات قوة هذه الأمة، وأنها فرصة نادرة للتأثير في المجتمع المسلم نحو الخير إن أحسن الاستفادة منها. لكن بعض خطباء الجمعة لا يجيدون الاستفادة من تلك الفرصة.. بل للأسف.. أصبح بعضهم سبباً لتنفير الناس ومللهم من السماع لخطيب الجمعة رغم حرصهم على الطاعة وتلبية النداء. ؤأي آخر- الطرف الثاني (المستقبل أو المستمع) قد يأتي للجمعة فقط لإسقاط الفرض، فلا يرغب في الاستماع وإذا أسهب الواعظ أحيانا؛ ضاق صدره ومل فربما خرج بذهنه خارج المسجد أو نام، والغالب على هؤلاء عدم التأثر فربما يتحدث الواعظ في موضوع التدخين وتجد بعض المصلين بعد الجمعة على أبواب المسجد يتسامرون ويضحكون والدخان في أيديهم وأفواههم، وربما نبه الواعظ لمصائب بعض الأفراح الحديثة وما فيها من اختلاط ومساوئ وتجد الشخص المصلي للجمعة يصنع نفس هذه الأفراح لأولاده من ثلاثين عامًا؛ لذلك فبعض الناس يحضرون الجمعة عادة تعودوا عليها لإسقاط الفرض ولكن ليس همّ أحدهم التعلم والعمل ومن ثم فلا يتأثرون. رأي آخر: أنا لا أجد الخطيب الذي يجذبني لأنتبه إلى الخطبة، وفي كثير من الأحيان أنام في أثناء الخطبة، علاوة على طول الخطبة التي قد تزيد على الساعة الكاملة، يعيد فيها الخطيب ويكرر ما قاله وكأن الناس لن يفهموا من أول مرة. يقول محمد سعيد –سائق شاحنة-: الخطيب في مسجد قريتنا لا يجيد غير أحاديث النار وينسى الجنة دائمًا، ويعتمد على التخويف ولا يرغبنا وكل حاجة عنده حرام!. وقد يكون "سعيد" مبالغًا في وصفه؛ لكن الأمر لا يسلم من وجود خلل في ميزان الترغيب والترهيب لدى كثير من الخطباء، إذ يعمد أحدهم إلى خطب يكثر فيها من أحاديث الوعد والترغيب ورفع الحرج ليصل إلى قلوب الناس –حسب تفسيره- بينما يذهب خطيب آخر للجهة المقابلة وإلى أحاديث الوعيد والتخويف وكما قال القائل: نفوس الناس بيوت مقفلة لا تفتح إلا لمن يطرقها بلطف. رأي آخر: ضرورة التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الجمعة، فهو الذي كان أفصح الناس لسانا وأبلغهم وأقواهم بيانا، وأوتي جوامع الكلم ؛ فكان مثالاً فريداً في الخطابة التي تنشرح لها القلوب وتتفتح العقول وتستجيب الجوارح. ويقول الشيخ: الخطبة مهما كانت فهي صناعة الخطيب وصياغته، في مضمونها وشكلها وطريقة تبليغها، وإن كان مطلوباً فيها صحة المضمون، وقوة تأثيره وإقناعه، ومناسبته للزمان والمكان والمخاطبين. ولاشك أن وضعية الناس وما يحيط بهم من ظروف وأجواء وعوامل التحفيز أو التثبيط، كل ذلك مؤثر إيجابا أو سلبا في علاقتهم بالمنبر والخطيب، ونسبة تجاوبهم مع الخطبة، خاصة في ظروف عصرنا الذي يعج بالفتن من جهة، وبوسائل الاتصال والإعلام المتطورة بتقنياتها وإمكاناتها الباهرة من جهة ثانية. وهذا مما يضاعف اليوم مسؤولية الخطيب ومأموريته، ويفرض العمل على تطوير آليات فنه الخطابي حتى يواكب متطلبات العصر. ويردف الشيخ السبيكي: من ثقافة الخطيب الضرورية فقه الواقع والحياة، ومواكبة تطورات العصر، ولابد أن يغذي خطبه الأسبوعية بما يقنع الناس بحيوية المنبر وتفاعله مع الواقع والحياة وإلا فقد حجة الواقع فيما يخاطب به الناس. رأي آخر: من أهم أسباب تراجع تأثير خطبة الجمعة تفادي أكثر الخطباء الموضوعات الحساسة المؤثرة في الواقع نظرا للضغوط الأمنية، إضافة إلى يأس أكثر المستمعين من جدوى أو نتائج الخطب لكثرة التجارب التي أخفقت في تغيير الواقع. رأي آخر: من الأسباب كذلك عدم وجود رؤية موحدة عند الخطباء يجيشون الأمة نحوها فصار المستمع معلقًا على وجهات نظر الخطباء فحسب وكأن هدف الخطيب أخذ موافقة على فكرة يروج لها، كما أن الرموز الكبيرة تراجع خطابها بحيث صار مجاملاً للأنظمة متبرمًا من الحركات الإسلامية فصار المستمعون لا يلوون على شيء. رأي آخر: لاشك أن خطبة الجمعة في الفترات الأخيرة لم تعد تتمتع بالتأثير القوي والفاعل في النفس مثلما كان عليه الحال في السابق، وذلك أنها تستهدف بشكل أساسي إحداث حالة من يقظة الوعي الإيماني فهي أشبه بجرس الإنذار الذي يعمل كل أسبوع على تذكير المؤمن بثوابته العقائدية ويحثه على تجديد العهد مع ربه. ومن الأسباب القوية التي تقف وراء تراجع تأثير خطبة الجمعة هو ميل العديد من الخطباء إلى تكرار المعاني والأطروحات وليت التكرار وقف عند حد طبيعة المضمون وإنما امتد إلى أسلوب وحرارة الأداء فأصبحت خطب الجمعة في غالب الأحيان تتسم بالرتابة وتؤدي إلى حالة من الملل لدى جمهور المصلين نظرًا لخلوها من العاطفة الجياشة التي يمكن في كثير من الأحيان أن تعوض ضعف المضمون. رأي آخر: من الأهمية بمكان تذكير خطباء الجمعة بأهمية الالتزام بتجديد المضامين التي يتم عرضها في الخطبة مع الحفاظ على جاذبية العرض وقوة الطرح مع تنويع الموضوعات هذا بالإضافة إلى عدم إغفال أهمية أن تكون الخطبة تذكيرًا حقيقيًا للمسلم بربه والدار الآخرة. منقول |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
فقـــه الوعــظ ما أحوجنا إلى الوعظ لانشغالنا بالدنيا، نسينا الآخرة فقست قلوبنا فأصابنا فتور وضعف في الإيمان، فالوعظ يحيي القلب ويحرره من الشيطان، قال تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله}. فالموعظة مزيج من الترغيب والترهيب والنصح وعلو الصوت والتذكرة بالآخرة والألوهية وحقيقة الإنسان، قال تعالى: {وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا}. - يحتاج المسلم إلى الموعظة بين الفينة والأخرى؛ لأنها شفاء للصدر، قال تعالى: {يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور}، فكان عبدالله بن مسعود ] يعظ في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبدالرحمن لوددت أنك ذكرتنا في كل يوم، فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله [ يتخولنا بها مخافة السآمة علينا. - فوائد الموعظة كثيرة منها: تذكير الغافل، تعريف الخلق بالخالق، وتبصير الناس بشرائع الإسلام وحدوده، وتجديد الإيمان وتحريكه، وزجر العاصي، وتثبيت المهتدي، وكشف مكائد ومصائد شياطين الإنس والجن. - وللواعظ آداب يتحلى بها: الإخلاص والعلم بما يعظ، والرفق على الناس والصبر على أذاهم، والعمل بما يأمر به الناس وينهاهم عنه، فصاحة اللسان وعذوبته، واتباع السنة وآثار السلف، الورع في مسائل الحلال والحرام. -على الواعظ الالتزام بالسلوكيات الآتية: اختيار أوقات مناسبة للناس، وعدم الإطالة في الكلمة، التركيز في الموضوع وتحديد معالمه عدم التوسع في القصص الغريبة والمبالغة في طرحها، وعدم الطعن في العلماء وغمز الولاة، وعدم تجريح السامعين والتهجم عليهم أو التهكم بهم، وعدم المبالغة في ضرب الأمثلة التافهة، والنزول إلى الأسلوب المفهوم وعدم التحدث بأسلوب التعالي أو غريب اللفظ، والحرص على جمع الكلمة وتأليف القلوب والإصلاح بين الراعي والرعية، ويرغبهم في التفقه في دين الله عز وجل. - إلقاء الموعظة ارتجالا يؤثر أكثر.. فالواعظ يرفع صوته ويحرك يده ويتفاعل مع الكلام: «كان النبي [ إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم» رواه مسلم عن جابر، وإذا نبع الكلام من القلب لامس شغاف القلوب وخالطها» . - تحفيز الأذهان من خلال طرح السؤال: فكان الرسول [ يطرح السؤال: «أتدرون من المفلس؟»، «أتدرون ما الغيبة» «أتدرون أي يوم هذا؟» وتحفيزهم بذكر معلومة أو خبر مثال ذلك: رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة» رواه مسلم. - لا تحرض الرجل على أهله أو خدمه.. كأن يقول: أين الرجولة عن المرأة التي تتبرج وباستطاعته القول: أيها الغيورون شجعوا المرأة على الحجاب وأثنوا عليها إن تحجبت.. وغيرها من العبارات، واصبروا على الخادم حتى يتعلم. - خاطبهم بأنهم إخوانك وارفق بهم ولا تتعالَ عليهم، وحرك ملكة الإبداع والاستنباط فيهم وأنزل الأحكام الشرعية على الواقع ولا تشعرهم باليأس والقنوط بل بالتفاؤل، وادفعهم ليقوم كل منهم نفسه ويحاسبها، واعمل تجربة عملية أمامهم، فقل نتوقف الآن وكل منا يستغفر الله مائة مرة فكان رسولنا [ يستغفر في اليوم مائة مرة رغم أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فمتى طبقنا هذا آخر مرة؟ وكم يأخذ تطبيق ذلك من الوقت؟. - الموعظة تجعل المستمع متقيا بالعلامات الآتية: صدق الحديث، ووفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق، وسعة الخلق فيما يقرب إلى الله. قالها الحسن البصري رحمه الله. اعداد: د.بسام خضر الشطي |
رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد
الصحيح من الأثر في خطب المنبر – الجزء الأول (PDF) أبو عبدالله فيصل بن عبده قائد الحاشدي لا اله الا الله |
الساعة الآن : 01:40 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour