رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(41) تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول كان الناس – عربا وعجما – يعيشون حياة جاهلية ، يسجدون فيها لكل من خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم ، لا يثيب الطائع بجائزة ، ولا يعذب العاصي بعقوبة ولا يأمر ولا ينهي ، فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم ، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم ، ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم ، كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية، فأخذوا بأيديهم أزمة الأمر وتولوا إدارة المملكة وتدبير شؤونها وتوزيع أرزاقها، إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة ، فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية ، وكان إيمانهم بالله وإحالتهم خلق السماوات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ يقال له : من بني هذا القصر العتيق ؟ فيسمي ملكا من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه ويخضع له ، فكان دينهم عاريا عن الخشوع لله ودعائه ، وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم ؛ فكانت معرفتهم مبهمة غامضة ، قاصرة مجملة ، لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة . ثم انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح ، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع ، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها ، آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى ، آمنوا برب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، الخالق البارئ المصور ، العزيز الحكيم ، الغفور الودود ، الرؤوف الرحيم ، له الخلق والأمر ، بيده ملكوت كل شيء يجير ولا يجار عليه ، إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه ، يثيب بالجنة ويعذب بالنار ،ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، يعلم الخبء في السماوات والأرض ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه. فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلابا عجيبا، فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهرا لبطن ؛ تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره ،وجرى منه مجرى الروح والدم ، واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها؛ وغمر العقل والقلب بفيضانه، وجعل منه رجلا غير الرجل ، وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة ، ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق ، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد ، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(42) وخز الضمير وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة ، وقوة نفس ومحاسبتها ، والإنصاف منها ، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية ، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون – تحول هذا الإيمان نفسا لوامة عنيفة ووخزا لاذعا للضمير وخيالا مروعا ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئنا مرتاحا ، تفاديا من سخط الله وعقوبة الآخرة. وقد حدثنا المؤرخون الثقات في ذلك بطرائف لم يحدث نظيرها إلا في التاريخ الإسلامي الديني . روى مسلم بسنده عن عبدالله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله إني ظلمت نفسي وزنيت ، وإني أريد أن تطهرني ، فرده ، فلما كان من الغد أتاه فقال : يا رسول الله إني قد زنيت ، فرده الثانية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال :" أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا "؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه ، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم . قال فجاءت الغامدية فقالت : ( يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني ، وأنه ردها ، فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، فوالله إني لحبلى ، قال :" إما لا فاذهبي حتى تلدي" ، قال : فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت : هذا قد ولدته ، قال : "فاذهبي فأرضعيه حتى تطعميه" ، فلما فطمته أتته بالصبي ، في يده كسرة خبز ،فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فاستقبلها خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله سبه إياها فقال : " مهلاً يا خالد ، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت (1). الثبات أمام المطامع والشهوات: وكان هذا الإيمان حارسا لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه من النزوع أمام المطامع والشهوات الجارفة ، وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراها أحد ، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحدا ، وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم وأداء الأمانات إلى أهلها والإخلاص لله ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان. حدث الطبري قال : لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله عندنا ولا يقاربه ، فقالوا : هل أخذت منه شيئا ؟ فقال : أما والله لولا الله ما أتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأنا . فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني ، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه ، فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس (2). الأنفة وكبر النفس: وكأن هذا الإيمان بالله رفع رأسهم عاليا وأقام صفحة عنقهم فلن تحنى لغير الله أبداً، لا لملك جبار ولا لحبر من الأحبار ولا لرئيس ديني ولا دنيوي ،وملأ قلوبهم وعيونهم بكبرياء الله تعالى وعظمته ، فهانت وجوه الخلق وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة والفخفخة؛ فإذا نظروا إلى الملوك وحشمتهم وما هم فيه من ترف ونعيم وزينة وزخرف، فكأنهم ينظرون إلى صور ودمى قد كسيت ملابس الإنسان . عن أبي موسى قال : انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره ، والقسيسون جلوس سماطين ، وقد قال له عمرو وعمارة : إنهم لا يسجدون لك ، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان : اسجدوا للملك . فقال جعفر : لا نسجد إلا لله (3). وأرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير ، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة ، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب . ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة ، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد ، وأقبل عليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه ، فقالوا له : ضع سلاحك ،فقال : إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق ، فخرق عامتها ، فقال له : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام (4). (1) - صحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنا ، رقم ( 4432 ) . (2) - تاريخ الطبري : 4/16. (3) - أخرجه الحاكم في المستدرك ( 309-310 ) وصححه ، ووافقه الذهبي ، والبيهقي في دلائل النبوة ( 2/299-300 ) وقال : إسناده صحيح . (4) - حياة الصحابة للكاند هلوي ( 1/203 ) . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(43) الشجاعة النادرة والاستهانة بالحياة ولقد بعث الإيمان بالآخرة في قلوب المسلمين شجاعة خارقة للعادة ، وحنينا غريبا إلى الجنة ، واستهانة نادرة بالحياة ، تمثلوا الآخرة وتجلت لهم الجنة بنعمائها كأنهم يرونها رأي عين ، فطاروا إليها طيران حمام الزاجل لا يلوي على شيء . تقدم أنس بن النضر يوم أحد وانكشف المسلمون ، فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا سعد بن معاذ، الجنة ورب الكعبة ، إني أجد ريحها من دون أحد ، قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه(1) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : ( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض )! فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله ، جنة عرضها السماوات والأرض ؟! . قال :( نعم )، قال : بخ بخ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما يحملك على قولك بخ بخ )؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال :( فإنك من أهلها )، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ، ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل (2). وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال : سمعت أبي رضي الله عنه وهو بحضرة العدو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ) ، فقام رجل رث الهيئة فقال : يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال : نعم . فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام ، ثم كسر جفن سيفه فألقاه ، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل (3). وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج ،وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا ، فلما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد أراد أن يتوجه معه ، فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة ، فلو قعدت ونحن نكفيك ، وقد وضع الله عنك الجهاد ، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ، ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد )، وقال لبنيه :( وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة )، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدا(4) . وقال شداد بن الهاد : جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه فقال : أهاجر معك ، فأوصى به بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقسمه ، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا يا رسول الله ؟ قال :( قسم قسمته لك )، قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمي ها هنا – وأشار إلى حلقه – بسهم ، فأموت فأدخل الجنة ، فقال :( إن تصدق الله يصدقك )، ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال :( أهو هو )؟ قالوا : نعم ، قال :( صدق الله فصدقه )(5) . من الأنانية إلى العبودية : وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع ، لا يخضعون لسلطان، ولا يقرون بنظام ،ولا ينخرطون في سلك ، يسيرون على الأهواء ويركبون العمياء ويخبطون خبط عشواء ، فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها ، واعترفوا لله بالملك والسلطان والأمر والنهي ، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة ، وأعطوا من أنفسهم المقادة واستسلموا للحكم الإلهي استسلاماً كاملاً ، ووضعوا أوزارهم ، وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم ، وأصبحوا عبيدا لا يملكون مالا ولا نفسا ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به، لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله ، ولا يرضون ولا يسخطون ولا يعطون ولا يمنعون ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره . ولما كان القوم يحسنون اللغة التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفوا الجاهلية ونشؤوا عليها ، وعرفوا معنى الإسلام معرفة صحيحة ، وعرفوا أنه خروج من حياة إلى حياة ، ومن مملكة إلى مملكة ، ومن حكم إلى حكم ، أو من فوضوية إلى سلطة ، أو من حرب إلى استسلام وخضوع ، ومن الأنانية إلى العبودية ، وإذا دخلوا في الإسلام فلا افتيات في الرأي، ولا نزاع مع القانون الإلهي ، ولا خيرة بعد الأمر ولا مشاقة للرسول ، ولا تحاكم إلى غير الله ولا إصدار عن الرأي ، ولا تمسك بتقاليد وعادات ، ولا ائتمار بالنفس ، فكانوا إذا أسلموا انتقلوا من الحياة الجاهلية بخصائصها وعاداتها وتقاليدها إلى الإسلام بخصائصه وعاداته وأوضاعه ، وكان هذا الانقلاب العظيم يحدث على أثر قبول الإسلام من غير تأن . همّ فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يطوف بالبيت . فلما دنا منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أفضالة )؟ قال : نعم ، فضالة يا رسول الله ! قال :( ماذا كنت تحدث به نفسك )؟ قال : لا شيء ، كنت أذكر الله ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال :( استغفر الله )، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه ؛ وكان فضالة يقول : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه ، قال فضالة : فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها ، فقالت : هلّم إلى الحديث ، فقلت : يأبي الله عليك والإسلام(6). إن هذا الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر والإسلام لله ولدينه أقام عوج الحياة ، ورد كل فرد في المجتمع البشري إلى موضعه ، لا يقصر عنه ولا يتعداه ، وأصبحت الهيئة البشرية طاقة زهر لا شوك فيها ، أصبح الناس أسرة واحدة ، أبوهم آدم ، وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى . وأصبحت الطبقات والأجناس في المجتمع الإسلامي متعاونة متعاضدة لا يبغي بعضها على بعض ، فالرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ، والنساء صالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ، لهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وأصبح كل واحد في المجتمع راعيا ومسؤولا عن رعيته ، الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته (7). وهكذا كان المجتمع الإسلامي مجتمعا رشيداً عاقلاً مسؤولا ًعن أعماله (8). (1) - أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ،باب قول الله ( من المؤمنين رجال ... ) ( 2805 ) ،ومسلم ، كتاب الإمارة ( 1903 ) . (2) - أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة ، باب ثبوت الجنة للشهيد ، ( 4915 ) . (3) - أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة ، باب ثبوت الجنة للشهيد ، ( 4916 ) . (4) - أخرجه ابن هشام في السيرة ( 2/90، 91 ) والبيهقي في الدلائل ( 3/ 246 ) . (5) - أخرجه النسائي ، كتاب الجنائز ، باب الصلاة على الشهداء ( 1955 ) ، والحاكم في المستدرك ( 3/595-596 ) وسكت عليه ، ووافقه الذهبي ، قلت : إسناده صحيح . (6) - زاد المعاد : 2/332. (7) - هذا حديث أخرجه البخاري ، كتاب الجمعة ، باب الجمعة في القرى والمدن ، رقم ( 893 ) . (8) - انظر : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 101-111 ، 113-114. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(44) الاطلاع على منهج إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله إن من أبرز سمات هذا الدين الحنيف عالميته ، وكل فهم للإسلام بعيد عن هذه السمة فهم خاطئ . إن ديننا أعظم من أن يكون عبادات وشعائر ، إنه دين الخير والعطاء والحب والسلام للإنسانية جمعاء ، وهو لا يقبل من أتباعه أبداً الصوم والصلاة وشهادة الحق فقط ، وإنما يريد منهم أن يكونوا حملة لراية الإسلام وأن يوصلوا كلمته إلى أقاصي الأرض ، فذلك حق الشكر لله على نعمة الإسلام ، ومن ثم جعل الله سبحانه الدعوة إلى الإسلام فريضة من فرائضه . والدعوة إلى الإسلام لابد أن تنتهج منهج إمام الدعاة الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره الأسوة الحسنة المختارة من قبل الله عز وجل ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) .[ سورة الحشر / 7 ] .وهو منهج نراه في السيرة واضح الملامح والقسمات بكل أركانه ومراحله ، حتى إن كل من كتب من العلماء في الدعوة والدعاة إنما استقى من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ففي السيرة يجد المسلم الداعية العظيم محمداً صلى الله عليه وسلم كيف اختاره الله من بين الناس أجمعين وصنعه على عينه وأعده إعداداً عظيما عظم رسالة الإسلام نفسها ، خرج بعده صلى الله عليه وسلم مثال الجمال والكمال في الفكر والقلب والسلوك ليبلغ الإنسانية جمعاء خطاب الله الأخير إليها . وفي مسيرنا مع الخط البياني للدعوة الإسلامية ، نلاحظ كيف كانت تنتشر ضمن امكانيات البشر وفي حدود قدرتهم ، وليس بالمعجزات والطلاسم والمغيبات ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن جالسا والدعوة في انتشار ، بل كان يأخذ للأمر عدته ، ويعيش الدعوة الإسلامية بشرا ، وليس ملاكا ، ففي اليوم الأول خاف أن يواجه الناس بغير ما يعهدونه وأتهم نفسه ورأيه ، يتجلى ذلك في قوله للسيدة الفاضلة أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنه – " لقد خشيت على نفسي " ثم سلك طريق السرية ، ثم من دعوة السر إلى الجهر ، في إطار من السلم ، ثم ينتقل إلى المدينة فتكون المغازي دفاعا ثم هجوماً ، كل ذلك في النطاق المحلي للجزيرة العربية ، ثم ترسم السيرة ملامح المرحلة العالمية في سني حياته الأخيرة ، صلوات الله عليه وسلامه ، حين يرسل بالكتب إلى الملوك والزعماء خارج الجزيرة يدعوهم فيها إلى الإسلام ، ويجمع لأسامة ، رضي الله عنه ، قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم جيشاً يأمره أن يطأ به البلقاء والداروم من أرض فلسطين . مسلماً بذلك المسلمين زمام المرحلة العالمية للدعوة ، ليتابعوا تلك المرحلة حتى آخر الدهر ، ثم ينتقل إلى رحمة ربه راضيا مرضيا صلوات الله وسلامه عليه . وهكذا يطلع دارس السيرة على الإسلام في صورته العالمية متجسدة في شخص إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم. كما نتعرف من خلال تاريخ الدعوة الإسلامية على موقف صاحبها عليه الصلاة والسلام من الأحداث والقضايا التي كانت تواجهه ، ولا زالت وستبقى تواجهنا ، فقد واجهه مثلا حصار وتشريد ، ونفى ، وواجهته ضغوط نفسية واجتماعية وحروب ومعارك ،وواجهته مؤامرات وخيانات ومساومات سياسية وعقد مصالحات !! واجهته مشكلة بناء أمة ومجتمع على أسس متينة في بلاد لم تعرف التنظيمات والدولة الواحدة من زمن سحيق، وهذا كله يتطلب تحديد المواقف صريحة وإظهار السياسة واضحة . ودراسة السيرة تحدد لنا موقف النبي صلى الله عليه وسلم من كل هذه الأمور لنطمئن إلى الحكمة والعدل والاستقامة والدقة في كل أحواله . وهكذا يقف الداعية على الأساليب التي يجب أن ينتهجها في معاملة الناس بكل ألوانهم وصنوفهم بدءاً من الأحباب والأصحاب والأهل إلى كل جبهة معادية يواجهها في مسيرته إلى الله (1). (1) - انظر مختصر الجامع في السيرة النبوية ص 18-19، مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص 17-18. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(45) التمكين لمحبة صحابته صلى الله عليه وسلم في قلب المسلم والسعادة بصحبتهم والتأسي بحياتهم فالسيرة تكسب المسلم أيضا محبة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب محبته صلى الله عليه وسلم ، ومحبتهم مطلوبة لذاتها ، فقد أثنى الله عليهم مهاجرين وأنصاراً في كتابه الكريم ، فقال عز من قائل ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) [ سورة التوبة / 100 ] ، ونبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجوب محبتهم فقال : " الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ،ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " (1). وسيجد المسلم في صحبتهم ، رضي الله عنهم ، حافزا على العمل ، وهو يقرأ صنيعهم وكيف كانوا يتخطون العقبات، سواء ما قام منها في نفوسهم أو ما يلقونه من أعدائهم . إن الفاضل منا اليوم ليعجب بنفسه وعبادته ويتحدث عن قيامه بالليل الساعة والساعتين ، فهل قرأ عن قيام عباد بن بشر ، رضي الله عنه ، في غزوة ذات الرقاع ؟ ويتحدث أحيانا عن الصدقة والصدقتين ، فهل قرأ عن صدقات أبي بكر وعثمان وأبي الدحداح رضي الله عنهم جميعاً ؟ ويتحدث عن جهاده في سبيل الله واحتسابه الولد أو الأخ ،فهل قرأ عن احتساب المرأة الدينارية أولادها وزوجها ؟ وهل قرأ ما فعل عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، بخاله يوم بدر ؟ وكيف احتسب حذيفة أباه اليمان ، رضي الله عنهما ، في أحد ؟ ويتحدث عن زهده وخدمته الإسلام ، فهل قرأ كيف أغلق الصحابة الكرام أبواب الدنيا ، واستحالت حياتهم جهاداً في سبيل الله ؛ غزواً في النهار ، وعبادة بالليل ؟ وكانوا مثلما وصفهم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : " أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة " (2). ومن هنا كان الحديث الشريف : ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم .. ) بيانا للواقع ، فهو ذروة الخط البياني في تاريخ البشرية كلها ... أما بالنسبة للأجيال بعده فذلك بنص الحديث الشريف ( ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ، وأما بالنسبة للأجيال السابقة فذلك ما دونه القرآن الكريم وهو يتحدث عن أقوام الرسل السابقين . فقد قال قوم موسى لموسى : ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) [ سورة المائدة / 24 ] ، وقال الصحابة لرسولهم الكريم : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون )([3]) ، ولم يقولوا كما قال الحواريون : ( يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ) [ سورة المائدة / 112 ] ، فقد كانوا أكثر أدبا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن أدبهم أمامه سبحانه وتعالى . أليس من سعادة المرء النفسية والفكرية والإيمانية أن يعيش مع هذا الجيل بفكره يتخيله وقد كان واقعا في الحياة في يوم مضى .. فيعرف له فضله ، ويعرف له حقه ... ويتعلم كيف يكون الإيمان وكيف يكون الحب ، وكيف تكون الطاعة ... ؟ . حقا إن المسافة شاسعة بيننا وبين أولئك الصحابة الذين ضحوا بكل شيء من أجل الله ورسوله ، بينما وقفنا نحن عند حدود القراءة لأخبار تلك التضحيات الجليلة ، فلئن كان حظنا القراءة وحظهم التضحيات لقد باينونا بونا عظيما . إن المسلم ليسعد بصحبة الصحابة الكرام في السيرة ، يرى فيهم نماذج إنسانية ممتازة لم يعرف مثلها التاريخ تحليقا روحانيا ، ولا ارتفاعا على شهوات الأرض ، وانتصارا على النفس، وقوة ذكاء ،وسرعة بديهة ،وسمو أدب ... كل واحد منهم قصة مع الله تهز الضمير وتوقظ القلب ، لقد تفاعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلوا نسمات الهدى ،وأغلقوا أبواب الماضي ،وتفتحوا للحياة الجديدة بملء القلوب ، لا يختزنون من مواهبهم شيئا ،ولا يحتجزون عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بعد أن أكرمهم الله بصحبته عليه الصلاة والسلام... كانوا يستشعرون نعمة الله عليهم ليلهم ونهارهم ، لا يغيب عنهم ذلك الشعور ، كان دائما في أعماقهم حياً يقظا يحرم عليهم النوم ويقض عليهم مضاجع الراحة ، ويجعلهم في توتر مستمر لا ينسون فيه الإسلام ولا يستطيعون أن يغفلوا عن معركته لحظة ، هم في المعركة دائما مع النبي صلى الله عليه وسلم يشاركونه وهج الكفاح ويحملون معه هموم الإسلام . هنالك لا يجد المسلم مناصا من أن يقارن نفسه بهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم ،فتصغر في عينه نفسه ، ويدرك أنه ليس من أهل الحب ولا التضحية ولا الفداء .. وأنه مقصر جداً في حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيراجع نفسه وأوراقه ويسعى إلى حياة جديدة فيها الحب الحقيقي لله والانتماء الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وإن المسلم لتأخذه الدهشة من صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف استطاع صلى الله عليه وسلم أن يحول هؤلاء الذين كانوا حفاة عراة متخلفين تجاوزتهم حضارة الفرس والرومان فيجعلهم بتربيته الربانية أقطاب الأرض ، وجهابذة الدنيا وأساتذة العالم وأطباء الإنسانية ومنقذي الغرقى من البشر . هنالك تزداد ثقة المسلم بمدرسة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يرضي عنها بديلاً، ويراجع أسلوب تربيته الخاص وتربية أبنائه موقنا أن الإسلام لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا أمر به وأرشد إليه(4). (2) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء / الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : ( ج 1/ 136 ) . (3) - كان ذلك قول المقداد بن عمرو في يوم بدر . (4) - مختصر الجامع في السيرة النبوية ص 19-20. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(46) توثيق علاقة المسلم بمربيه وإخوته وإضاءة طريقه إلى الله إن دراسة السيرة النبوية تمتن صلة المسلم بجماعته ، ففي السيرة يجد المسلم الجماعة الربانية الرائدة فيرى فيها جماعته ويرى شيخه في شخص المصطفى صلى الله عليه وسلم فـ ( العلماء ورثة الأنبياء) (1)، ويرى أحبته وإخوته في الله ، ويجد أحباب الإسلام وأعداءه ، ويرى فيهم جميعا إيجابياته وسلبياته ، ويتعرف مسارب الإيمان ومسارب الكفر والنفاق في النفوس، وكيف تكون تزكية النفس واستصغار عطائها وإرشادها إلى دروب الفلاح . من الصحابة الكرام يتعلم المسلم كيف يكون حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يترجم الحب أدباً وتضحية وفداء وتجرداً لنصرة الإسلام ... يتعلم منهم كيف يكون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع العلماء ورثة الأنبياء، مع الدعاة الكبار الذين ساروا على قدم النبوة، مع كل من خدم هذا الدين ... يتعلم منهم الأدب الرفيع مع الشيخ ، والحب لإخوته في الله. ولسوف يجد في سلوك الصحابة إضاءة لسلوكه إلى الله، ولسوف يرى حلاً لكثير من مشكلاته النفسية وهو يراهم كيف كانوا يتجاوزون نفوسهم ويتغلبون على آلامها وينتصرون في كل مرة ويقدمون رضا الله على رضا أنفسهم . لقد شاء الله أن يكونوا رواداً لنا في مسيرة الإيمان، فشقوا لنا الطريق وعبدوه، وضربوا لنا نماذج لا تنال في خدمة الإسلام ، وفي التغلب على النفس، وفي الانتصار لصوت الحق، وفي التنازل عن كل شيء من أجل الله والرسول والإسلام ... كانوا يتغلبون على عقبات الطريق، وكان نصوع الهدف ووضوحه هو الذي يقيلهم من عثراتهم كلما كبوا ... كانوا يذنبون كما نذنب ولكنهم كانوا يتوبون إلى الله لا كما نتوب، وإن مشاهد التوبة في حياتهم مشاهد تهز الضمير حقا ... فمن ينسى توبة أبي لبابة ، أو توبة كعب بن مالك، أو توبة أبي حذيفة بن عتبة، أو توبة عمر بن الخطاب وعظم شعوره بالذنب يوم جادل النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ... إلى غير ذلك من الأمثلة التي تذخر بها السيرة وتعلن عن عظمة هؤلاء الرجال وعظمة توبتهم ورقيهم الإيماني ومنزلتهم عند الله سبحانه وتعالى (2). (1) - سنن الترمذي : كتاب العلم ، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة ج 2682 . (2) - انظر : مختصر الجامع في السيرة النبوية ( 1/20-21 ) . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(47) غرس الوعي في نفس المسلم وتمكينه من النهوض بأمته فدراسة السيرة كفيلة بأن تزرع الوعي في نفس صاحبها ، وتمكنه من النهوض بأمته والعودة بها إلى المرتقي الذي ارتقته أيام التنزيل على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي عاشت فيه قرونا حتى تغافلت عن منابع النبوة وإرشاد التنزيل المبارك فهبطت الهبوط الطويل وغابت عن مسرح الحياة . ونحن نفهم هذا في ضوء القيمتين العظيمتين اللتين يذكرهما المؤرخون لدراسة التاريخ ، فهم يذكرون أن لدراسة التاريخ قيمتين : قيمة نفعية وقيمة تربوية . أما القيمة النفعية فتتمثل في أن كل إنسان مسؤول عن مسيرة أمته حضارياً ، وهو لا يستطيع أن يقوم بهذا الدور ما لم يتعرف تلك الحضارة، مكوناتها وظروفها والشخصيات التي أثرت فيها والتي رسمت المنعطفات الكبيرة فيها ، والمسلم مسؤول عن ذلك مرتين : مرة أمام الله سبحانه الذي أراد لحضارة المسلم أن تظل الإنسانية براية التوحيد والعبودية لله حين خاطبه سبحانه وتعالى بقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) [ سورة آل عمران / 110 ] ، ومرة أمام الإنسانية التي تعاني اليوم أقسى ألوان الضياع والشرود عن الله سبحانه وهي تمد يد الاستغاثة ، ولن تكون اليد المنقذة إلا يد المسلم الذي خصه الله دون سواه بذلك الخطاب الكريم ، يقول أحد العارفين بما معناه : إن الإنسانية لتحتج لدى الله تبارك وتعالى ضد المسلم يوم القيامة ، لأنه لم يبلغها نعمة الإسلام. إن على المسلم ، إذن ، أن يعرف قيمته وأن يعرف أنه ليس كأحد من الناس أبداً، إن الله اختاره منقذا للإنسانية ومرشدا هاديا ، ولا يجوز له أبداً أن يتنازل عن هذا المقام الرفيع لا رغبة بالزعامة ولا استعلاء ، بل لأن ما يعرفه ويقدر عليه من مداواة الإنسانية المريضة لا يقدر عليه غيره ولا يعرفه ، ومن ثم فإن تخليه عن تلك المرتبة وذلك المقام لا يقل جريمة أبدا عن تخلي الطبيب عن عمله في قرية مرض أهلها جميعاً وليس فيها طبيب غيره . هكذا لا يجوز للمسلم أن يضّيع حياته سدى متثاقلاً إلى الأرض في مشكلات تافهة أو عمل هزيل ، ولن يسامحه الله سبحانه أن يبذل في خدمة الإسلام التسع والتسعين من وقته وطاقته وهو قادر على بذل المائة ، ويجب أن يعلم المسلم مع ذلك أن هذا أشرف موقع في الحياة وأرفع مقام؛ إنها خلافة النبوة فينبغي أن يعد لها نفسه إعداداً هائلاً : عقديا وثقافيا وروحياً ونفسياً وسلوكياً . من هذه الوجهة تبدو دراسة السيرة – وهي جزء من التاريخ العربي والعالمي، بل هي أرقى حلقة فيه باعتبارها أكبر حدث غير وجه التاريخ – قادرة على تحقيق تلك القيمة النفعية للمسلم ، إذ تعينه على النهوض بأمته ودفع مسيرتها نحو الخير والارتقاء. وأما القيمة الثانية لدراسة التاريخ فهي قيمة تربوية، إذ تكسب صاحبها العادة التاريخية في تناول الحقائق والأسلوب التاريخي في التفكير فيها ، وذلك لأن حقيقة التاريخ ومهمة المؤرخ لا تقف عند جمع الأحداث بل تتعداه إلى دراستها ومقابلتها وموازنتها، ثم فرزها إلى صحيح وزائف ، ثم تصنيفها من حيث كونها سببا أو نتيجة ، وتعين هذه التجربة المتكررة المؤرخ أن يستنبئ من ورائها ما سيقع من أحداث . والمسلم بهذا الاعتبار أولى الناس طراً بأن تكون لديه هذه العادة التاريخية في مقابلة الأحداث ، فلا يجوز له – وأمته الإسلامية تمر بهذه الظروف الصعبة – أن يقابل الأحداث مقابلة فاترة أو غير مسؤولة فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم (1)، كما لا يجوز له أن يكون ضعيف الوعي غريرا يصدق كل ما يقال وكل ما يلقى إليه من أخبار . وطالما أن المسلم مسؤول عن أمته وعليه الإسهام في تصحيح مسيرتها ، فأني له أن يفعل ذلك وهو لا يستطيع تقويم ما يجري حوله من أحداث ، ولا يملك قدرة على الاستنتاج أو الاستكشاف لفقدانه الحس التاريخي ، وبالتالي فهو غير قادر على خدمة هذه الأمة ولا على أن يرسم لها طريق الخلاص والنهوض ؟! . لقد طال الزمان على المسلم المعاصر وهو يضلل عن الإسلام وأمته ، فقد صار ضعيف الذهن فاسد المحاكمة ، يتقبل للأسف كل ما يقال له ، يستخفه الكبراء فيطيعهم ويضل عن الطريق لأنه جاهل حقيقة الإسلام ، جاهل أبعاد المؤامرة التي تدبر له والتي امتد تدبيرها قروناً من الزمان من أجل إبعاده عن ساحة الحياة ، وهو غافل لا يعرف ماذا تعني تلك الأخبار التي تلقي إليه أو يعرض عليه سماعها ، غير قادر على فرزها ولا على فهمها أو معرفة أصحابها أو دوافعهم إليها ، ومن ثم فهو غير قادر على الاستنتاج والتنبؤ ولا على الخروج بقرار يخدم أمته . إن مشكلة المسلمين اليوم عميقة الجذور ، متعددة الجوانب ، ولابد لحلها من صياغة المسلم صياغة جديدة واضحة الملامح ، واضحة الهدف ،صافية المشارب ، ناصعة الوعي ، على نسق الصورة التي صاغ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام صياغة موافقة لوحي السماء فإذا هم يتدفقون إيمانا ووعيا للقضية ، بني لهم دولة الإسلام ثم سلمهم راية الفتح العالمي ومضي إلى ربه راضيا مرضيا (2). (1) - الحديث أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ( ج 1/248 ) . (2) - مختصر الجامع في السيرة النبوية ص 21-22 . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(48) دراسة السيرة حصانة من سموم المستشرقين (1-2) أن دراسة السيرة النبوية حصانة ووقاية من سموم المستشرقين وتلامذتهم، فهم جميعا إلا أقل القليل منهم محترفو تزييف وتحريف ، وهواة تشكيك وتضليل، لذلك كثرت كتاباتهم وتحقيقاتهم في التاريخ والسيرة ، حتى إن مجلة المقتبس الدمشقية نشرت منذ أكثر من قرن ( 1304هـ ) : إحصاء لما صنف في السيرة النبوية بمختلف اللغات الأوربية فبلغ نحو ( 1300 ) كتاب ، ولو أضفنا إلى هذا العدد ما صدر من المطابع الأوربية في السيرة النبوية خلال قرن وربع القرن بعد ذلك الإحصاء الذي نشرته مجلة المقتبس لأربى على ذلك كثيرا . إن من أعظم الحقائق التي يجب أن يمتلكها المسلم اليوم حقيقة النبوة وارتباطها بحقيقة الوحي ،هذه الحقيقة التي يمتاز بها الرسل والأنبياء عن سائر الشخصيات الممتازة في الحياة ، من العباقرة والفلاسفة والأبطال والمفكرين والمصلحين، والتي كادت أن تختفي في حياة الجيل المعاصر وراء ستائر البدائل الكثيرة التي طرحها أعداء الإسلام في ساحة فكر المسلم وقلبه في غمرة من الغزو الفكري الذي لا يزال يتعرض له العالم الإسلامي منذ عقود كثيرة من الزمان وفي غفلة من الدعاة المسلمين . فلقد سلطت الأضواء على بدائل كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأطلقت في مقابل ذلك ألقاب معينة عليه صلى الله عليه وسلم توهم بالتعظيم ، ولكن المراد منها في الحقيقة إبعاد معنى النبوة عنه صلى الله عليه وسلم وطمس معالمها في شخصيته ، فمرة البطل ، ومرة العبقري ... حتى أصبح المسلم اليوم لا يفقه ماذا تعني النبوة ، ولا أين يجب أن تكون من حياته ، ولا كيف يجب أن تحكم سلوكه وعقيدته وشعوره ،ولا كيف يجب أن يربط مصيره بها . إن المستشرقين الذين يمكرون بالليل والنهار لفصل هذا الجيل عن دينه وإقصاء الإسلام عن واقع الحياة يحاولون الدخول على عقيدة المسلم من كل باب ، وأخطر تلك الأبواب طراً شخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهم يأبون أن يدرسوا الإسلام ورسوله دراسة موضوعية منهجية سليمة ، بالرغم من كل ما يتشدقون به على الدارسين في ديارهم وما يزعمون لأنفسهم من السبق في المنهجية . إنهم لا يدخلون رحاب تاريخنا العظيم والسيرة بصورة خاصة إلا بسبق ذهني ولده الكره للإسلام ، يركبون للبرهان على صحته كل مركب باطل من الخبر الضعيف والشاذ، ولي أعناق النصوص وتحميلها من الدلالات ما ليس فيها ، وربط الأحداث ربطا خاطئا أو بتر بعض أجزاء الحدث (1). إن السبب في اهتمام المستشرقين بالتاريخ والسيرة : أن التاريخ يمنح الأمة القدرة على التصور الصحيح لمسار الحركة الإسلامية ، ويوقفنا على أسباب المد والجزر في محيط الفتح الإسلامي ، فمن كان مؤمنا استطاع أن ينتفع بالتاريخ في ربط حاضره بماضيه متجنبا العوائق ، ولله در من قال : إذا علم الإنسان أخبار من مضى توهمته قد عاش من أول الدهــر وتحسبه قد عاش آخر عمــره إذا كان قد أبقى الجميل من الذكر ومن كان خصماً للإسلام عرف بدراسته للتاريخ الإسلامي من أين تؤكل الكتف في غزوه للعالم الإسلامي ومواجهته لدين الإسلام ، وأكثر المستشرقين يكن بغضا للإسلام ونبيه ، حتى إن ليوبولد فايس ( محمد أسد ) ليقرر هذه الحقيقة فيقول : " إن احتقار الإسلام أصبح جزءاً أساسياً من التفكير الأوربي "(2) . وجاء في مجلة العالم الإسلامي ( عدد حزيران سنة 1930 ) : " إن شيئا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي ، ولهذا الخوف أسباب منها : أن الإسلام منذ أن ظهر في مكة لم يضعف عددياً بل كان دائما في ازدياد واتساع ، ثم إن الإسلام ليس دنيا فحسب ، بل إن من أركانه الجهاد ، ولم يتفق قط أن شعبا دخل في الإسلام ثم عاد نصرانيا " . ولذلك جاءت كتاباتهم في السيرة جهلا بها ، وتعصبا في التعامل معها ، وتحليلات واستنتاجات ما أنزل الله بها من سلطان ، ويؤكدها الواحد منهم المرة تلو المرة ، ويجمع القوم عليها حتى لتكاد تغدو عندهم يقينا من اليقين . (1) - انظر : مختصر الجامع في السيرة النبوية ( 1/15 ) . (2) - الإسلام على مفترق الطرق ص 60 . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(49) دراسة السيرة حصانة من سموم المستشرقين (2-2) والفهم الجاد للسيرة يقتضي منهجاً يقوم على طبقات أو أدوار أو شروط ثلاثة ، وأن افتقاد أو تهديم أي واحد منها يلحق ضرراً فادحاً في مهمة الفهم هذه . فأما الطبقة الأولى الأساسية : فهي الإيمان ، أو على الأقل احترام المصدر الغيبي لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وحقيقة الوحي الذي تقوم عليه . وأما الطبقة الثانية : فهي اعتماد موقف موضوعي بغير حكم مسبق ، يتجاوز كل الإسقاطات التي من شأنها أن تعرقل عملية الفهم . وأما الطبقة الثالثة : فهي ( تقنية ) صرفة تقوم على ضرورة الإحاطة الجيدة بأدوات البحث التاريخي ، بدءاً باللغة وجمع المادة الأولية ، وانتهاء بطرائق المقارنة والموازنة والنقد والتركيب ... إلى آخره . وإذا كان الغربيون قد بلغوا حد التمكن والإبداع في هذه الدائرة الأخيرة فإنهم في نهاية الأمر لم يستطيعوا أن يقدموا أعمالاً عملية بمعنى الكلمة لواقعة السيرة ، ولا قدروا حتى على الاقتراب من حافة الفهم ، بسبب أنهم كان يعوزهم التعامل الأكثر علمية مع الدائرتين الأولين : احترام المصدر الغيبي ، واعتماد الموقف الموضوعي . إن بحث المستشرقين – بصفة عامة – في السيرة لا يحمل عناصر اكتماله منذ البداية ، بل إنه ليشبه الاستحالة الحسابية المعروفة بجمع خمس برتقالات – مثلاً – مع ثلاثة أقلام .... إذ لا يمكن أن يكون الحاصل ثمانية .... إن هناك خلافا نوعيا لا يمكن الأرقام من أن تتجمع لكي تشكل مقداراً موحداً . إن المستشرق– بعامة – يريدون أن يدرسوا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق حالتين تجعلان من المستحيل تحقيق فهم صحيح لنسيج السيرة ونتائجها وأهدافها التي تحركت صوبها ، والغاية الأساسية التي تمحورت حولها . فالمستشرقين بين أن يكون علمانياً ماديا لا يؤمن بالغيب، وبين أن يكون يهوديا أو نصرانيا لا يؤمن بصدق الرسالة التي أعقبت النصرانية ... وإذا كانت السيرة في تفاصيلها وجزئياتها، تنفيذاً تاريخياً لعقيدة الإسلام ذات المرتكزات الغيبية، بل ذات التداخل بين المغيب والمنظور في السدى واللحمة، وإذا كانت بمثابة دعوة سماوية أخيرة جاءت لكي توقف النصرانية المحرفة عن العمل ، وتحل محلها ، بما تتضمنه من عناصر الديمومة والحركية والانتقال ... فإن ثمة جداراً فاصلاً يقف بين المستشرق – سواء أكان من الصنف الأول أم من الصنف الثاني – وبين فهم السيرة . ولذلك نرى المستشرق من خلال رؤيته الخارجية ، وتغربه ، يمارس نوعا من التكسير والتجريح في السيرة ونسيجها . يقول المونيسنيور كولي في كتابه ( البحث عن الدين الحق ) : " برز في الشرق عدو جديد هو الإسلام الذي أسس على القوة ، وقام على أشد أنواع التعصب ، ولقد وضع محمد السيف في أيد الذين تبعوه ، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق ، ثم سمح لاتباعه ، بالفجور والسلب ، ووعد الذين يهلكون في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات في الجنة ، وبعد قليل أصبحت آسيا الصغرى وأفريقيا وأسبانيا فريسة له ، حتى إيطاليا هددها الخطر وتناول الاجتياح نصف فرنسا ولقد أصيبت المدينة ... ولكن انظر !! ها هي النصرانية تضع بسيف شارل مارتل سداً في وجه سير الإسلام المنتصر عند بواتيه ( 752م ) ثم تعمل الحروب الصليبية في مدى قرنين تقريبا ( 1099-1254م ) في سبيل الدين ، فتدجج أوربا بالسلاح وتنجي النصرانية ، وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب ، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة " . ويقول المسيوكيمون في كتابه " ميثولوجيا الإسلام " إن الديانة المحمدية جذام فشى بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا ، بل هو مرض مروع وشلل عام وجنون ذهني يبعث الإنسان على الخمول والكسل ، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن معاقرة الخمور !! ويجمح في القبائح ، وما قبر محمد في مكة ( ؟ ) إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجؤهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع ( الهستيريا ) ، والذهول العقلي ، وتكرار لفظة ( الله . الله ) إلى ما لا نهاية ، وتعود عادات تنقلب إلى طباع أصلية ككراهية لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في الملذات " . وهكذا كانت النتيجة أبحاثاً تحمل اسم السيرة وتتحدث عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحلل حقائق الرسالة ولكنها – يقينا – تحمل وجها وملامح وقسمات مستمدة من عجينة أخرى غير مادة السيرة ، وروحا أخرى غير روح النبوة .. ومواصفات أخرى غير مواصفات الرسالة . إن نتائجها تنحرف عن العلم لأنها تصدر عن الهوى ، وتفقد القدرة على مسامتة عصر الرسالة وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل تأثيراتهما الجمالية بالمستوى العالي نفسه من التحقق التاريخي ... لأنها تسعى لأن تخضع حقائق السيرة لمقاييس عصر ينسخ كل ما هو جميل ، ويزيف كل ما هو أصيل ، ويميل بالقيم المشعة إلى أن تفقد إشعاعها وترتمي في الظلمة ، أو تؤول إلى البشاعة (1) . (1) - انظر : بحث المستشرقين والسيرة النبوية للدكتور عماد الدين خليل ، بكتاب : مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية 1/117- 119. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(50) فتح كنوز معرفية للمسلم فالسيرة نبع لا يغيض من الثقافة والمعارف المتنوعة التي تنفع المسلم في دنياه وآخرته ، ففيها معارف جغرافية وتاريخية ، وفيها معرفة واسعة عن أنساب العرب وقبائلهم ومنازلهم وأيامهم ووقائعهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، ومعارف هامة حول التنزيل؛ فإن السيرة هي التفسير العملي لكتاب الله وهي بيان واقعي لمبادئ الدين الإسلامي وأحكامه وتشريعاته ، وفيها معارف حول كثير من أمور العقيدة والأخلاق ، وهي رفد لرجال السياسة والتربية والحرب ورجال الأدب الذين يجدون فيها مادة للأدب الإسلامي ، فاللغة في السيرة هي اللغة التي يحتج بها لأنها لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعين الذين توفوا قبل ( 150 هـ ) . واللغة في السيرة عموما لغة مشرقة سهلة ميسرة غير متكلفة لها نور وجمال ، وهي لغة بليغة مؤثرة في القلب ، وكثير مما ورد في السيرة من عيون الأدب العربي وقد جعله البلغاء في مختاراتهم كحديث توبة كعب بن مالك ، رضي الله عنه ، وقصيدة كعب بن زهير اللامية التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشفعاً عنده ... وما من شك في أن نصوص السيرة لو جعلت نصوصاً لمادة الأدب في المراحل المدرسية بل والجامعية لكانت جديرة بأن تعلم الطلاب التعبير الجميل ولغة العرب المشرقة ، وأن تجعلهم إلى جانب ذلك أناساً ذوي نفوس راقية مشرقة وذوي عزيمة فذة . وكذلك الأمر في الفن والإعلام الإسلاميين ، فالسيرة نبع فياض يصلح أن يستقي منه القصاصون والشعراء الذين يريدون أن يجعلوا ذلك كله في خدمة الدين ووسيلة من وسائل الدعوة إلى الله . يقول أحد الكتاب المعاصرين في هذا الصدد : نحن في عصر سكت فيه صوت الأسلحة بسبب من التوازن الدولي ، وأخذت ساحات المواجهة والصراع والحوار الحضاري والثقافي ألواناً جديدة ، إنها الحروب الحديثة ، حروب المعلومات والإعلام ، وصراع المبادئ والعقائد والمذاهب المعاصرة والدعايات السياسية والمذهبية التي تغرق العالم بسيلها الجارف وتحاول إعادة تشكيل عقله وزرع عواطفه وتحديد استجاباته والتحكم بذوقه وسلوكه ابتداء ، إلى درجة أصبحت معها الدول والشعوب المتخلفة في هذا الميدان تعيش وكأنها في معسكرات من الأسر والاعتقال الفكري ، إنه عصر الجبر والتسيير الإعلامي والتحكم الثقافي والسياسي الذي أصبح يملكنا ويقتحم علينا بيوتنا ويطاردنا في أخص خصائصنا ويخطف منا أبناءنا ونساءنا . ولا يجوز للمسلم والحالة هذه أن يستهتر بإحدى وسائل الإعلام والنشر ويتركها لعدو الإسلام يغتال بها قلوب أجيالنا المسلمة وعقولها وعقائدها ، وإن وسائل الدعوة إلى الله وأساليبها وميادين العمل الإسلامي ومواقعه المؤثرة والفاعلة أوسع من أن تحصر بعصر ، أو تجمد على شكل، أو تحاصر من قبل عدو ، إذا استشعر المسلم مسؤوليته واستعاد فاعليته وأخلص النية وتلمس الصواب والتزم الحكمة والبصيرة التي أمر الله بها في البلاغ المبين(1) . (1) - انظر : مختصر الجامع في السيرة ص 22. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(51) في دراسة السيرة خير الدنيا والآخرة إن في دراسة المغازي والسير خير الدنيا والآخرة ، ولذلك فخير ما يتدارسه المسلمون – لاسيما الناشئة وطلاب العلم – ويعني به الباحثون والكاتبون دراسة السيرة المحمدية ، إذ هي خير معلم ومثقف ، ومهذب ومؤدب ، فيها ما ينشده المسلم ، وطالب الكمال من دين ودنيا ، وإيمان واعتقاد ، وعلم وعمل ، وآداب وأخلاق ، وسياسة وكتابة ، وإمامة وقيادة ، وعدل ورحمة ، وبطولة وكفاح ، وجهاد واستشهاد في سبيل العقيدة والشريعة ، والمثل الإنسانية الرفيعة ، والقيم الخلقية الفاضلة . وكان السلف الصالح من هذه الأمة الإسلامية يدركون ما لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه النبلاء ، من آثار حسنة في تربية النشء ، وتنشئة جيل صالح لحمل رسالة الإسلام والتضحية في سبيل تبليغها بالنفس والمال ، ومن ثم كانوا يتدارسون السيرة ويحفظونها ، ويلقنونها للغلمان ،كما يلقنونهم السور من القرآن . قال زين العابدين على بن الحسين بن علي : " كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن ". وقال الزهري: " في علم المغازي خير الدنيا والآخرة " . وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص : " كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ، ويقول : يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها "(1) . نعم ... والله إنها لشرف الآباء ، والمدرسة التي يربي فيها الأبناء !!! فما أجدر المسلمين في حاضرهم : رجالا ًونساءً ، وشباباً وشيباً أن يتعلموها ويعلموها غيرهم ، ويتخذوا منها نبراسا يسيرون على ضوئه في تربية الأبناء والبنات ، وتنشئة جيل يؤمن بالله ورسوله ، ويؤمن بالإسلام ، وصلاحيته لكل زمان ومكان ، والتضحية بكل شيء في سبيل سيادته وانتشاره ، لا يثنيهم عن هذه الغاية الشريفة بلاء وإيذاء ، أو إطماع وإغراء . لسنا نريد من دراسة السيرة العطرة : سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيرة الرعيل الأول وهم الصحابة الكرام ، أن تكون مادة علمية يجوز بها طلاب العلم في المعاهد ، والمدارس ، والجامعات الامتحان أو الحصول على الإجازات العلمية ، أو أن تكون حصيلة علمية نتفيهق بها ، ونتشدق في المحافل والنوادي ،وقاعات البحث والدرس ، وفي المساجد ، والمجامع ، كي نحظى بالذكر والثناء ، وننتزع من السامعين مظاهر الرضا والإعجاب . ولكنا نريد من هذه الدراسة أن تكون مدرسة نتخرج فيها ، كما تخرج السادة الأولون ، وأن تكون مثلاً صادقة لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام – عليهم الرضوان – في إيمانهم وعقيدتهم ، وفي علمهم وعملهم ، وأخلاقهم وسلوكهم ، وسياستهم وقيادتهم حتى يعتز بنا الإسلام ، كما اعتز بهم ، ونكون في حاضرنا – كما كانوا – خير أمة أخرجت للناس . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(52) حالة العالم قبل الإسلام ( 1 - 6 ) تمهيد : ذهب جملة من الباحثين إلى أن صدق أي رسالة من الرسالات ثابت ومؤكد إذا هي أجابت على مجموعة من الأسئلة على النحو التالي : 1ـ هل البيئة التي جاءت فيها تلك الرسالة كانت في احتياج إلى هذه الرسالة ؟. 2ـ وهل جاءت تلك الرسالة بالشرائع والمناهج التي تفي بهذه الاحتياجات حتى يصلح شأنها، ويستقيم حالها؟. 3ـ وهل هذه الشرائع والمناهج من السهولة واليسر بحيث يمكن تطبيقها على جميع الأفراد وفي كل الأمكنة والأزمان، وخاصة في رسالة من شأنها أنها جاءت لكل البشر في كل مكان وزمان، أم أنها مغرقة في المثالية والخيال ـ أو الجمود ـ بحيث يتعذر ـ أو يستحيل ـ على بعض البيئات أو بعض الأشخاص تطبيقها؟. 4ـ وهل تجسدت تلك التعاليم وهذه المناهج في شخص صاحب الدعوة نفسه، بحيث لا يتعارض القول مع الفعل، والنظرية مع التطبيق ، وتصبح القدوة العملية حينئذ هي الداعي الأول لاعتناق مبادئ تلك الرسالة. وممن ذهب إلى ذلك أو بعضه الأستاذ المرحوم عباس العقاد حيث قال في ( عبقرية محمد ) وأكده أيضا في (مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية):" علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة ، وهي أسباب تتمهد لظهورها ، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أدائها"، ولا شك أن هذا الذي ذهب إليه المفكرون يلتقي مع المنهج النقلي والمنهج العقلي . فقد جاءت الآيات القرآنية التي تدلنا على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط الله المستقيم. قال الله تعالى : (( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ))(1). ومعنى ذلك أن البشرية كانت في ظلمات، وتحتاج إلى من يأخذ بيدها إلى النور، كما أنها قد تباعدت عن الصراط المستقيم ، وقد قال الإمام ابن كثير في ختام تفسيره لهاتين الآيتين ( أي ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أين المسالك، فيصرف عنهم المحذور ، ويحصل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويرشدهم إلى أقوم حالة )(2) ويتأكد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى: (( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ))(3). ومعنى هذا أيضا أن البشرية كانت في حاجة إلى من يهديها إلى الصراط المستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. ويتضح هذا المعنى جليا في قول الله تعالى: (( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) إن البشرية كانت في ضلال تحتاج إلى من يهديها ويعلمها ويطهرها مما انحدرت إليه من الشرك وسوء الأخلاق . ويكفي في ذلك قول الله تعالى (( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .....إلخ )(4). وقول الله تعالى (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) . فالإنسانية كانت في حاجة ماسة إلى الشاهد، والمبشر، والمنذر، والداعي إلى الله بإذنه، والسراج المنير الذي يوضح لها معالم الطريق ، كما أنها كانت ـ ولا تزال ـ في أشد الحاجة إلى الرحمة المهداة التي عمت رحمته كل العالمين وليس عالم الإنسان فقط ـ كما كانت في حاجة إلى من يأخذ بحجزها عن النار كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- قال: ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي ) (5). (1) - الآيتان 15 ، 16 من سورة المائدة . (2) - تفسير ابن كثير جـ2 ص34 . (3) - الآية 52 من سورة الشورى . (4) - الآيتان 45 ، 46 من سورة الأحزاب . (5) - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المناقب، شفقته صلى الله عليه وسلم ( 2285 ). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(53) حالة العالم قبل الإسلام ( 2 - 6 ) وسوف نعود بشيء من التفصيل إلى دراسة أحوال البشرية عامة والجزيرة العربية خاصة لنتأكد من الاحتياج إلى رسالة . وإن كنا قد تأكدنا من خلال الآيات السابقة على أن البشرية كانت في حاجة إلى رسالة تخرجها من الظلمات إلى النور . وأما عن وفاء تلك الرسالة باحتياجات البشرية فإن ذلك يعرفه كل من حاول دراسة الإسلام وفهم تعاليمه ، وإن دينا يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وليس كمثله شيء ومتصف بصفات الجلال والكمال . ويدعو إلى مكارم الأخلاق ويأمر بالإحسان وإيتاء ذي القربى كما يأمر بأخذ العدل والحكم به وأداء الأمانات إلى أهلها كما ينظر إلى الناس على أنهم سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحدهم على الآخرين إلا بالتقوى والعمل الصالح كما يدعو إلى صلة الأرحام وإفشاء السلام وإطعام الطعام كما ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وعن إراقة الدماء وأن نعتدي على الدماء والأموال والأعراض وينهى عن الإثم والعدوان . أقول إن الدين يأمر بتلك الأخلاق وينهى عن كل هذه المفاسد لحري أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور وأن يقيم على الأرض مجتمع الإيمان والأخلاق الفاضلة والتعاون والتآزر إلى ما فيه صلاح البشرية وخيرها . وغنى عن البيان أن أنبه إلى تلك المعاني السابقة وأعظم منها التي أفاضت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ذكرها وبيانها ولولا خشية التطويل لتعرضنا إلى ذكرها ــ كما أنها ليست مما نعرض له الآن ــ إلا بالقدر الذي يجيب على ذلك السؤال الذي أثاره المفكرون عن وفاء رسالة الإسلام بحاجة البشرية ، ثم إن التعرض لذكر ذلك بالتفصيل هو شرح للإسلام وتعاليمه بتفصيل يحتاج إلى مجلدات ــ وإنما نعرف فضل إسلامنا ونزداد تمسكا به ونعض عليه بنواجذنا كما نقف على فضل رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي أتى الله على يديه بذلك الخير العميم فجزاه الله الإسلام وأهله خير ما جزى به نبينا عن أمته . أما عن سهولة تعاليم الإسلام ويسرها فيكفي أن نورد في هذا المقام طائفة من الآيات القرآنية وبعض الأحاديث الواردة في هذا الصدد . قال تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " (1) ومعنى ذلك أن الله تعالى لا يتكلف عباده ي إلا بما يطيقون ولا يأمرهم إلا بما يسعه جهدهم ولذلك فإن تطبيق أمور الدين في كل فرد إذا أراد أن يكون له من الخير نصيب وقال سبحانه " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (2) وقال عز من قائل " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " (3)وقال تعالى " وما جعل عليكم في الدين من حرج " (4) . وقد روى البخاري بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه قال : ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبة فسددوا وقاربوا ). (1) - الآية الأخيرة من سورة البقرة . (2) - البقرة 185 . (3) - المائدة آية 6 . (4) - الآية الأخيرة من سورة الحج . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(54) حالة العالم قبل الإسلام (3-6) وروى البخاري بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أنها قالت ( ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها ) (1) وروى البخاري في كتاب العلم باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره بسنده إلى أبي مسعود الأنصاري قال : قال رجل : يا رسول الله . لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان . فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشد غضبا من يومئذ فقال : أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة ) . إن هذه الآيات والأحاديث النبوية توضح بجلاء منهج الإسلام في السهولة واليسر وأن تكاليفه لا تستعصي على أحد ما دام يخلص نيته لله رب العالمين بل إننا نستطيع أن نستنتج من الحديث الأخير أن تعاليم الإسلام في مستوى المريض والضعيف وذي الحاجة وإنها تراعي قدرات الناس وظروفهم وأحوالهم . والمتتبع لمنهج الإسلام في رخصه ـ مثل قصر الصلاة وجمعها للمسافر ومثل الإعفاء من حضور صلاة الجماعة لأصحاب الأعذار ومثل إباحة الإفطار للمسافر والمريض والمرضع والحامل يتضح له مدى سماحة الإسلام ويسر تعاليمه ومراعاته لأحوال الناس تحت كل الظروف التي قد يتعرضون لها . وأما عن تجسد تعاليم الإسلام في شخص صاحب الدعوة فإن قول الله تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) كفيل ببيان هذا التجسيد العملي لتلك التعاليم الكريمة . وقد روى الإمام مسلم بسنده إلى سعد بن هشام أنه قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : ( يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : ألست تقرأ القرآن? . قلت : بلى قالت فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ) صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، لقد ائتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر القرآن وانتهى بنهيه ، وبعبارة أخرى فإنه لم يأمر بشيء إلا وفعله ولم ينه عن شيء إلا وكان أول المنتهين عنه بل إنه كان يشتد على نفسه صلى الله عليه وسلم ـ وييسر على أمته ويدلن قد على ذلك وصاله في الصيام وغير ذلك مما فاضت به كتب السنة . إن الفجوة بين النظرية والتطبيق قضية يعاني منها الإنسان في العصر الحاضر من أصحاب النظريات المختلفة من شيوعيين وغيرهم ــ بل أنهم يحملون رعاياهم على غير ما يلزمون به أنفسهم و قد أوجد ذلك في مجتمعاتهم صفات قذرة مثل النفعية والوصولية وانتهاز الفرص والنفاق والخداع وغيرها من أقبح الصفات ، أما نحن الذين شرفهم الله تعالى بالإسلام فقد تتلمذنا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا المثل والقدوة من نفسه فكان خير عنوان لرسالة الإسلام بكل ما تحمله تلك الرسالة المباركة من معاني الخير والنور والهداية تبني البشر جميعا . ولقد قدمنا هذا المبحث بين يدي حديثنا عن موضوعات السيرة العطرة ليتبين لنا عن أي رسالة نتحدث ـــ وعن أي رسول نتكلم، إنه رسول يعلو فوق كل تعبير ويسموا عن أي بيان . ورسالة الإسلام ـ صادقة وثابتة ـ وفق هذا المنهج الذي ارتضاه هؤلاء المفكرون ـ ووفق أي منهج يرتضيه أصحاب العقول المستقيمة والفطر السليمة بل هي تحمل دلائل صدقها بين طياتها بصرف النظر عن تلك المناهج أو غيرها وما ذكرنا هذا المنهج لكي تحتم إليه ــ في صدق رسالة الإسلام ــ كلا وحاشا ــ وإنما لأنه منهج توافق في عناصره مع ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله . أو بعبارة أدق هو منهج مستمد من كتاب الله وسنة رسوله اللذين أقاما الأدلة الدامغة والبراهين الواضحة علي صدق الرسالة والرسول ــ ذلك الرسول الكريم الذي مع سيرته العطرة النقية في صفحات مقبلة بإذن الله . (1) البخاري كتاب بدء الخلق باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(55) حالة العالم قبل الإسلام (4-6) إن الله عز وجل قد خلق الجن والإنس لمهمة حددها القرآن الكريم حيث قال تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(1) ومن أجل ذلك بين الله للبشرية الطريق التي يجب أن تسلكها لتحقيق تلك العبودية لله رب العالمين وتوالت رسالات السماء ترى تحقيقا لذلك الغرض ، بل إن المخلوق الأول الذي بدأت به عمارة الأرض وخلافة الله في الكون وهو سيدنا آدم كان نبيا من الله وكان ذلك لبيان أن البشرية يجب أن ترتبط بخالقها وهاديها منذ اللحظة الأولى لممارسة مهمتها على وجه الأرض . ولقد تعثرت البشرية مرات ومرات أثناء سيرها على طريق العبودية لله رب العالمين ، وكلما تعثرت أرسل الله لها رسولا لكي يقيل تلك العثرة ويصحح مسار البشرية على طريق العبودية الذي يجب أن تواصل السير عليها إلى أن يأذن الله بانتهاء تلك المهمة وقيام الساعة . وبكل أسف فإن عثرات الإنسانية وضلالتها قد تكاثرت وتعددت ولكن مدد الله وغيثه قد تواصل حتى لا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل . ويتأكد هذا المعنى واضحا من قوله تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ) (2) . وكان كل رسول يأتي يؤكد ما قاله الرسل من قبله ويؤكد المهمة التي خلقت البشرية من أجلها ، لأن أصول العقائد في جميع الأديان واحدة فهي كله تدعو إلى الإيمان بالله الواحد والإيمان بالرسل وبالكتب السماوية وبملائكة الله واليوم الآخر . والاختلاف بينها كان في التشريعات والتكليفات فقط ــ لأن كل شريعة جاءت ــ بالإضافة إلي الأصول العامة السابقة ــ جاءت بتشريعات مناسبة لأحول البيئة التي نزلت فيها ، ويتأكد هذا المعنى من قول رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلاّ وضعت هذه اللبنة ، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)(3) . فالنبوة حلقات متواصلة لتصحيح مسار البشرية كلما بعدت عن طريق العبودية لله : وهي المهمة التي خلقت من أجلها بل هي مبرر وجودها على ظهر الأرض . وتوالت تلك الحلقات إلى أن كانت آخر الديانات الإسلامية قبل الإسلام وهي اليهودية والمسيحية . ولا شك أن هاتين الديانتين تلتقيان في أصولهما العامة ــ مع الإسلام شأنهما في ذلك شأن سائر الديانات . (1) الآية 56 من سورة الذاريات . (2) الآية 44 من سورة المؤمنون . (3) رواه الشيخان واللفظ لمسلم . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(56) حالة العالم قبل الإسلام (5-6) وفي مصر نشأ موسى عليه السلام وبعثة الله إلى فرعون فدعاه إلى عبادة الله الواحد الأحد ، ولكن فرعون طغى وتكبر وقابل دعوة موسى بالصدود والنكر أن ووقف يقول ( أنا ربكم الأعلى ) وحاول قتل موسى ومن معه ولكن الله تعالى نجاه من كيده فخرج من مصر ببني إسرائيل إلى فلسطين، وفي فلسطين كانت دعوة عيسى عليه السلام ، وبعد أن رفعه الله إليه وتحمل أتباعه صنوفا من الأذى والعذاب أذن الله للمسيحية أن تنتشر فقبض لها عاهل الروم الذي انتسب إليها ـــ ودولة الرومان يومئذ صاحبة السيادة على القسم العربي من العالم فهي تبسط سلطانها على جزء كبير من أوربا وحوض البحر الأبيض المتوسط ومصر والشام .وقد نشر الإمبراطور المسيحية على تلك البقاع المذكورة مستغلا نفوذه السياسي وقوة دولته في تحقيق ذلك . أيا ما كان الأمر فقد انتشرت المسيحية على تلك البلاد كما ذكرنا، ولكنها بعد مدة من الزمن انحرفت على يد أتباعها في كثير من أصول العقائد وعلى رأسها توحيد الله عز وجل ، وانقسموا فيما بينهم إلى شيع وأحزاب ، وبكل أسف فإن هذا الانقسام لم يكن في فهم تشريعات الدين وتكاليفه وإنما هو انقسام يتعلق بأصول العقائد نفسها فمن قائل منهم أن الله ثالث ثلاثة ومن قال أن المسيح هو الله . وقد سجل القرآن الكريم عليهم هذا الخزي فقال سبحانه ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) (1) وقال تعالى ( لقد كفر اللذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن اللذين كفروا منهم عذاب اليم ) (2) ونهاهم عن الغلو في دينهم وطالبهم في قول الحق في الله تعالى فقال سبحانه ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ، لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون )(3) . ولم يتوقف انحراف المسيحية عند مجال العقائد فقط بل أن هذه الديانة السمحة قد تحولت ــ على يد أتباعها ــ إلى ديانة عنصرية استعمارية تبسط سلطانها بالقهر على رعايا الدول الواقعة تحت سلطانها وتقتل في بشاعة كل مخالفيها في العقيدة . بل إن أتباع كل مذهب منهم كانوا يحاولون نشره على أتباع المذهب الآخر بالغلبة والقهر . وهذا المجال لا يتسع لسرد ذلك بالتفصيل ــ ولكننا نسجل الحالة التي كان عليها العالم في ذلك الوقت والذي تنبىء حالته عن حاجته لرسالة تخرجه من ذلك الانحدار الرهيب الذي هوى إليه . ومن قبل المسيحية انحرفت اليهودية هي الأخرى في عقيدتها فقالوا عزيز ابن الله وقالوا يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وانحرفت أيضا في سلوكها فأباحت لنفسها قتل الآخرين والاستيلاء على أموالهم وأعراضهم ولأنهم ــ فيما يزعمون ــ شعب الله المختار ــ وبقية الشعوب مسخرون لخدمتهم ، "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم . بل أنتم بشر ممن خلق .."(4) وحاول أتباعها فرض سلطان ديانتهم بالقوة . وما قصة أصحاب الأخدود عنا ببعيد تلك القصة التي استشهد فيها عشرون ألفا من النصارى في اليمن على يد ذي نواس اليهودي ، والقصة بتفاصيلها موجودة في كتب السيرة لمن أراد المزيد . ذلك حال العالم في نصفه الغربي يوم ذاك . (1) ، (2)ـ الآيتان 72 / 73 من سورة المائدة . (3)الآيتان 171 .172 من سورة النساء . (4)الآية 18 من سورة المائدة . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(57) حالة العالم قبل الإسلام (6-6) ولم يكن العالم في نصفه الشرقي أحسن حالا من ذلك. فالفرس - وهم القوة العظمى الثانية بعد الرومان - في ذلك الوقت البعيد ، كانوا يدينون بالمجوسية ، فهم عبدة النار ، قد عظموها وألهوها وبنوا لها المعابد والهياكل ، وخصصوا لها من يوقدها في معابدها ، ويحافظ على اشتعالها فلا تنطفئ ، ومما يذكر أن والد سلمان الفارسي كان مسئولا عن معبد من معابد النار ، وقد اختار ولده سلمان ليوقد النار في بيت من بيوتها ومعبد من معابدها ، ولكنه -رضي الله عنه - لم يؤمن بهذه الديانة ، ولم يستسغ هذه العبادة ، فتركها وهجرها وهجر فارس يبحث عن معرفة الإله الحق الذي يستحق العبادة ، وقد لقي في سبيل ذلك العنت والمشقة ، ووقع في رق يهودي من يهود المدينة ، وظل كذلك حتى هداه الله للإسلام وحرره المسلمون من اليهودي . وعبد الفرس الكواكب والشمس كذلك ، وكانت هذه العبادة ليست كعبادة النار ، وكان هناك في فارس الزرادشتية التي تنادي بأن الوجود له إلهان ، إله الخير وإله الشر ، وأنهما يتنازعان الإنسان والكون كله . وكان في فارس أيضا مذهب ماني ، وعقيدته تسمى المانوية ، ويقوم هذا المذهب على أن وجود الإنسان كله شر يجب ألا يبقى ، بل يجب العمل على إفناء الإنسان ، فهو مذهب يدعو إلى الفناء، ولذلك يمنع الزواج ، حتى لا يكون تناسل ، وينتهي ذلك الإنسان الذي اعتبر وجوده لعنة في الأرض ، وما دام الإنسان في الإنسان مستمرا ، فإن اللعنة في الإنسانية مستمرة ، فهو يتوهم أن الإنسان نزل إلى الأرض بخطأ ارتكبه أبوه ، فالخطيئة باقية بوجوده(1) . وبعد ذلك جاء مزدك بمذهب الإباحية ،الإباحية في كل شيء ، في النساء والأموال ، فدعا إلى شيوع الجنس وممارسته بين جميع الرجال والنساء وحتى بين المحارم من الرجال النساء كالأخوات والأمهات والبنات ، وقد تزوج أحد ملوكهم ابنته آخذا بمذهب الإباحية المزدكية . ويقوم مذهب مزدك الإباحي على فكرة أن سبب الاختلاف بين الناس والخصومات هي الحرص على حيازة النساء بالزواج ، وحيازة الأموال بالتملك والادخار ، وحتى يقضي على هذا الشر ينبغي أن يقضي على سببه ، وذلك بالإباحة المطلقة في الأموال والنساء(2) . وأما بقية العالم من هنود وصينيين : فقد انتشرت في الهند البراهمية ، نسبة إلى الإله الذي ابتدعوه ، ويدعى براهمة ،وقد قسموا الناسفي الهند إلى طبقات ومستويات بزعمهم تختلف باختلاف العضو من الإله براهمة الذي خلقوا منه . فقد تعارفوا واعتقدوا أن الذين خلقوا من رأس الإله براهمة ، هم الطبقة الأولى والأوفر حظا في المجتمع الهندي ، وهؤلاء هم رجال الدين. والطبقة الثانية التي تأتي بعد هؤلاء هم الذين خلقوا من كتف الإله براهمة ، وهم الجنود والمحاربون . والطبقة الثالثة وهم الذين خلقوا من ركبة الإله براهمة ، وهم طبقة الخدم . والطبقة الرابعة ، وهي أدنى الطبقات ، وتتكون من أولاد الزنا والمحرومين والمنبوذين وأصحاب الأعمال الحقيرة . وقد أجريت تعديلات وتطوير على البرهمية ، وبخاصة تقسيم الناس إلى طبقات ، والذي قام بهذه التعديلات بوذا ، إذ قام يدعو إلى تخفيف ويلات الإنسانية التي أرهقها نظام الطبقات ، ودعا إلى التقشف والزهد وكف الناس عن شهواتهم وأهوائهم ، وهذه الشهوات في نظر بوذا هي التي تشقي الناس ، والعلاج التخفيف منها ، وتربية النفس على الاكتفاء بالقليل ومجانبة الأهواء والشهوات . ومن أجل ذلك فقد وضع منهاجا للتربية النفسية ووضع مبادئ لها ، إلا أن هذه المبادئ لا تعتمد على عقيدة موجهة ، وبخاصة أن بوذا المصلح قد أنكر وجود الله الخالق لهذا الكون بما فيه من حياة وإنسان ، ونتج عن هذا عبادة الأوثان ، وشيوع الأوهام ، وضلت الهند سواء السبيل ، وانغمست في كفرها وشركها وانتظرت الإنقاذ مما هي عليه من الفساد(3). وأما الصين فقد انتشر فيها مذهب بوذا مع أن البوذية نشأت في الهند ولكنها انتقلت إلى الصين وأقبل الصينيون عليها ، وقد انتقلت الوثنية إلى البوذية في الصين كما انتقلت إليها الوثنية في الهند سواء بسواء ، وكان الانحراف في العقول والأفهام . وقد ظهر في الصين الفيلسوف كونفوشيوس فاعتنق البوذية إلا أنه طور فيها وأدخل الناس إليها . وأخيرا فقد انتهت الصين إلى عقيدة فاسدة لم تتعرف على الله ولم تؤمن بالله تبارك وتعالى ، ولم تهتد إلى شرعه الذي يضع القيم السليمة والأخلاق الفاضلة التي تسعدهم في الدنيا والآخرة ، فعاشوا كغيرهم في ضلال وانحلال(4). (1) - انظر : خاتم النبيين للشيخ أبي زهرة ( 1 / 18 ) . (2)- انظر : خاتم النبيين ( 1 / 18 ــ 19 ) . (3)- انظر : خاتم النبيين ( 1 / 24 ــ 27 ) . (4) - انظر : خاتم النبيين ( 1 / 27 ــ 30 ) . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(58) حالة العرب قبل الإسلام (1- 10) أولاً: الحالة الدينية : ابتليت الأمة العربية بتخلف ديني شديد، ووثنية سخيفة لا مثيل لها، وانحرافات خلقية، واجتماعية، وفوضى سياسية، وتشريعية، ومن ثم قل شأنهم وصاروا يعيشون على هامش التاريخ، ولا يتعدون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدولة الفارسية أو الرومانية، وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء والأجداد واتباع ما كانوا عليه مهما يكن فيه من الزيغ والانحراف والضلال ومن ثم عبدوا الأصنام، فكان لكل قبيلة صنم، فكان لهذيل بن مدركة: سواع، ولكلب: ود، ولمذحج: يغوث، ولخيوان: يعوق، ولحمير: نسر، وكانت خزاعة وقريش تعبد إسافًا ونائلة، وكانت مناة على ساحل البحر، تعظمها العرب كافة والأوس والخزرج خاصة، وكانت اللات في ثقيف، وكانت العزى فوق ذات عرق، وكانت أعظم الأصنام عند قريش(1). وإلى جانب هذه الأصنام الرئيسية يوجد عدد لا يحصى كثرة من الأصنام الصغيرة والتي يسهل نقلها في أسفارهم ووضعها في بيوتهم. روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي قال: «كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا آخر هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به»(2). وقد حالت هذه الوثنية السخيفة بين العرب، وبين ومعرفة الله وتعظيمه وتوقيره والإيمان به، وباليوم الآخر وإن زعموا أنها لا تعدو أن تكون وسائط بينهم وبين الله، وقد هيمنت هذه الآلهة المزعومة على قلوبهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وجميع جوانب حياتهم وضعف توقير الله في نفوسهم قال تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام: 36]. أما البقية الباقية من دين إبراهيم عليه السلام فقد أصابها التحريف، والتغيير والتبديل، فصار الحج موسما للمفاخرة والمنافرة، والمباهاة وانحرفت بقايا المعتقدات الحنيفية عن حقيقتها وألصق بها من الخرافات والأساطير الشيء الكثير. وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام، وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم، وكان يقول: أربًّا واحدًا أم ألفَ رب؟؟ أدين إذا تقسِّمت الأمورُ؟ عزلتُ اللات والعزى جميعًا كذلك يفعل الجلد الصبورُ فلا العزى أدين ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزورُ ولا غنمًا أدين وكـان ربا لنا في الدهر، إذا حلمي يسيرُ إلى أن قال: ولكن أعبد الرحمن ربي ليغفر ذنبي الربُّ الغفور(3) وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قُس بن ساعدة الإيادي، فقد كان خطيبًا، حكيمًا، عاقلاً، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: «إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه» وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة. ومما كان ينشده من شعره: في الذاهبين الأوليـن من القرون لنا بصائر لمــا رأيت مـواردا للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحـوها يمضي الأصاغر والأكابر لا يرجـع الماضي إليّ ولا من الباقيــن غابر أيقنت أنــي لا محالة حيث صار القوم صائر(4) كان بعض العرب قد تنصر، وبعضهم دخل في اليهودية، أما الأغلبية فكانت تعبد الأوثان والأصنام. (1) ــ الغرباء الأولون ص60 (2) ــ صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب وفد بني حنيفة (4376) (3) ــ السيرة النبوية لبن كثير ( 1 / 163 ) ، السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ( 1 / 80 ). (4) ــ السيرة النبوية لأبي شهبة ( 1 / 81 ). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(59) حالة العرب قبل الإسلام (2- 10) ثانيًا: الحالة السياسية: كان سكان الجزيرة العربية ينقسمون إلى بدو وحضر، وكان النظام السائد بينهم هو النظام القبلي، حتى في الممالك المتحضرة التي نشأت بالجزيرة، كمملكة اليمن في الجنوب ومملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ومملكة الغساسنة في الشمال الغربي، فلم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد، وإنما ظلت القبائل وحدات متماسكة. والقبيلة العربية مجموعة من الناس، تربط بينها وحدة الدم (النسب) ووحدة الجماعة، وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقات بين الفرد والجماعة، على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت تتمسك به القبيلة في نظامها السياسي والاجتماعي(1). وزعيم القبيلة ترشحه للقيادة منزلته القبلية وصفاته، وخصائصه من شجاعة ومروءة، وكرم ونحوها، ولرئيس القبيلة حقوق أدبية ومادية، فالأدبية أهمها: احترامه وتبجيله، والاستجابة لأمره، والنزول على حكمه وقضائه، وأما المادية فقد كان له في كل غنيمة تغنمها (المرباع) وهو ربع الغنيمة، (والصفايا) وهو ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة (والنشيطة) وهي ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء (والفضول) وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة، وقد أجمل الشاعر العربي ذلك بقوله: لك المرباع فينا، والصفايا وحكمك، والنشيطة، والفضول(2) ومقابل هذه الحقوق، واجبات ومسئوليات، فهو في السلم جواد كريم، وفي الحرب يتقدم الصفوف، ويعقد الصلح، والمعاهدات. والنظام القبلي تسود فيه الحرية، فقد نشأ العربي في جو طليق، وفي بيئة طليقة، ومن ثم كانت الحرية من أخص خصائص العرب، ويعشقونها ويأبون الضيم والذل وكل فرد في القبيلة ينتصر لها، ويشيد بمفاخرها، وأيامها، وينتصر لكل أفرادها محقًا أو مبطلاً، حتى صار من مبادئهم: «انصر أخاك ظالمًا، أو مظلومًا». وكان شاعرهم يقول: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا والفرد في القبيلة تبع للجماعة، وقد بلغ من اعتزازهم برأي الجماعة أنه قد تذوب شخصيته في شخصيتها، قال دريد بن الصمة: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد(3) وكانت كل قبيلة من القبائل العربية لها شخصيتها السياسية، وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى، وبهذه الشخصية أيضًا كانت تشن الحرب عليها، ولعل من أشهر الأحلاف التي عقدت بين القبائل العربية، حلف الفضول (حلف المطيبين) (4). وكانت الحروب بين القبائل على قدم وساق ومن أشهر هذه الحروب حرب الفجار(5) وكان -عدا هذه الحروب الكبرى- تقع إغارات فردية بين القبائل تكون أسبابها شخصية أحيانًا، أو طلب العيش أحيانًا أخرى، إذ كان رزق بعض القبائل في كثير من الأحيان في حد سيوفها، ولذلك ما كانت القبيلة تأمن أن تنقض عليها قبيلة أخرى في ساعة من ليل أو نهار لتسلب أنعامها ومؤنها، وتدع ديارها خاوية كأن لم تسكن بالأمس(6). (1) - المصدر السابق ( 1 / 60 ) . (2) - انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ص31 (3) - انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/61). (4) - انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول، د. محمد قلعجي ص31. (5) - نفس المصدر ص33 - 35. (6) - المصدر السابق، ص35. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(60) حالة العرب قبل الإسلام (3- 10) ثالثًا: الحالة الاقتصادية: يغلب على الجزيرة العربية الصحاري الواسعة الممتدة، وهذا ما جعلها تخلو من الزراعة إلا في أطرافها وخاصة في اليمن والشام، وبعض الواحات المنتشرة في الجزيرة كان يغلب على البادية رعي الإبل والغنم، وكانت القبائل تنتقل بحثًا عن مواقع الكلأ، وكانوا لا يعرفون الاستقرار إلا في مضارب خيامهم. وأما الصناعة فكانوا أبعد الأمم عنها، وكانوا يأنفون منها، ويتركون العمل فيها للأعاجم والموالي، حتى عندما أرادوا بنيان الكعبة استعانوا برجل قبطي نجا من السفينة التي غرقت بجدة ثم أصبح مقيما في مكة (1). وإذا كانت الجزيرة العربية قد حرمت من نعمتي الزراعة والصناعة، فإن موقعها الاستراتيجي بين إفريقيا وشرق آسيا جعلها مؤهلة لأن تحتل مركزا متقدما في التجارة الدولية آنذاك. وكان الذين يمارسون التجارة من سكان الجزيرة العربية هم أهل المدن، ولا سيما أهل مكة فقد كان لهم مركز ممتاز في التجارة، وكان لهم بحكم كونهم أهل الحرم منزلة في نفوس العرب فلا يعرضون لهم، ولا لتجارتهم بسوء، وقد امتن الله عليهم بذلك في القرآن الكريم: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: 67] وكانت لقريش رحلتان عظيمتان شهيرتان: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، يذهبون فيها آمنين بينما الناس يتخطفون من حولهم، هذا عدا الرحلات الأخرى التي يقومون بها طوال العام، قال تعالى: (لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ - فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 1-4]. وكانت القوافل تحمل الطيب والبخور، والصمغ، واللبان، والتوابل والتمور، والروائح العطرية، والأخشاب الزكية، والعاج، والأبنوس، والخرز، والجلود، والبرود اليمنية والأنسجة الحريرية، والأسلحة وغيرها مما يوجد في شبه الجزيرة، أو يكون مستوردًا من خارجها، ثم تذهب به إلى الشام وغيرها ثم تعود محملة بالقمح، والحبوب، والزبيب، والزيتون، والمنسوجات الشامية وغيرها. واشتهر اليمنيون بالتجارة، وكان نشاطهم في البر وفي البحار، فسافروا إلى سواحل إفريقيا وإلى الهند وإندونيسيا، وسومطرة وغيرها من بلاد آسيا، وجزر المحيط الهندي أو البحر العربي كما يسمى، وقد كان لهم فضل كبير بعد اعتناقهم الإسلام، في نشره في هذه الأقطار. وكان التعامل بالربا منتشرًا في الجزيرة العربية، ولعل هذا الداء الوبيل سرى إلى العرب من اليهود(2). وكان يتعامل به الأشراف وغيرهم وكانت نسبة الربا في بعض الأحيان إلى أكثر من مائة في المائة (3). وكان للعرب أسواق مشهورة: عكاظ، ومجنّة، وذو المجاز، ويذكر بعض المؤلفين في أخبار مكة أن العرب كانوا يقيمون بعكاظ هلال ذي القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد مضي عشرين يومًا من ذي القعدة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة ذهبوا إلى ذي المجاز فلبثوا فيها ثمانيَ ليال، ثم يذهبون إلى عرفة، وكانوا لا يتبايعون في عرفة ولا أيام منى حتى جاء الإسلام فأباح لهم ذلك، قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة: 198]. وقد استمرت هذه الأسواق في الإسلام إلى حين من الدهر ثم دَرَست، ولم تكن هذه الأسواق للتجارة فحسب، بل كانت أسواقًا للأدب والشعر والخطابة يجتمع فيها فحول الشعراء ومصاقع الخطباء، ويتبارون فيها في ذكر أنسابهم، ومفاخرهم، ومآثرهم، وبذلك كانت ثروة كبرى للغة، والأدب، إلى جانب كونها ثروة تجارية(4). (1) انظر: فقه السيرة النبوية، منير الغضبان ص60. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/98 إلى 101). (3) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم محمد ص19. (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/102). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(61) حالة العرب قبل الإسلام (4- 10) رابعًا: الحالة الاجتماعية: هيمنت التقاليد والأعراف على حياة العرب، وأصبحت لهم قوانين عرفية فيما يتعلق بالأحساب والأنساب، وعلاقة القبائل ببعضها والأفراد كذلك، ويمكن إجمال الحالة الاجتماعية فيما يأتي: 1- الاعتزاز الذي لا حد له بالأنساب، والأحساب، والتفاخر بهما: فقد حرصوا على المحافظة على أنسابهم، فلم يصاهروا غيرهم من الأجناس الأخرى، ولما جاء الإسلام قضى على ذلك وبين لهم أن التفاضل إنما هو بالتقوى والعمل الصالح. 2- الاعتزاز بالكلمة، وسلطانها، لا سيما الشعر: كانت تستهويهم الكلمة الفصيحة، والأسلوب البليغ، وكان شعرهم سجل مفاخرهم، وأحسابهم، وأنسابهم، وديوان معارفهم، وعواطفهم، فلا تعجب إذا كان نجم فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء الفطاحل، وكان البيت من الشعر يرفع القبيلة، والبيت يخفضها، ولذلك ما كانوا يفرحون بشيء فرحهم بشاعر ينبغ في القبيلة. 3- المرأة في المجتمع العربي: كانت المرأة عند كثير من القبائل كسقط المتاع، فقد كانت تورث، وكان الابن الأكبر للزوج من غيرها من حقه أن يتزوجها بعد وفاة أبيه، أو يعضلها عن النكاح، حتى حَرَّم الإسلام ذلك، وكان الابن يتزوج امرأة أبيه(1) فنزل قول الله تعالى: (وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً) [النساء: 22]. وكانت العرب تحرم نكاح الأصول كالأمهات، والفروع كالبنات، وفروع الأب كالأخوات، والطبقة الأولى من فروع الجد كالخالات والعمات(2). وكانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان، ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل، وبقي حرمان النساء والصغار من الميراث عرفا معمولاً به عندهم إلى أن توفي أوس بن ثابت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بنتين كانت بهما دمامة، وابنًا صغيرًا، فجاء ابنا عمه وهما عصبته فأخذا ميراثه كله، فقالت امرأته لهما: تزوجا البنتين، فأبيا ذلك لدمامتهما، فأتت رسول الله فقالت: يا رسول الله توفي أوس وترك ابنًا صغيرًا وابنتين، فجاء ابنا عمه سويد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقلت لهما: تزوجا ابنتيه، فأبيا، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تحركا في الميراث شيئًا»(3).، ونزل قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) [النساء: 7]. وكان العرب يُعيّرون بالبنات؛ لأن البنت لا تخرج في الغزو، ولا تحمي البيضة من المعتدين عليها، ولا تعمل فتأتي بالمال شأن الرجال، وإذا ما سبيت اتخذت للوطء تتداولها الأيدي لذلك، بل ربما أكرهت على احتراف البغاء، ليضم سيدها ما يصير إليها من المال بالبغاء إلى ماله، وقد كانت العرب تبيح ذلك، وقد كان هذا يورث الهم والحزن والخجل للأب عندما تولد له بنت، وقد حدثنا القرآن الكريم عن حالة من تولد له بنت فقال تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ - يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل: 58-59]. وكثيرا ما كانوا يختارون دسها في التراب، ووأدها حية، ولا ذنب لها إلا أنها أنثى(4) (1)؛ ولذلك أنكر القرآن الكريم عليهم هذه الفعلة الشنيعة قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ - بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) [التكوير: 8-9]. وكان بعض العرب يقتل أولاده من الفقر أو خشية الفقر فجاء الإسلام وحرم ذلك قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) [الأنعام: 151]. وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) [الإسراء: 31]. وكانت بعض القبائل لا تئد البنات، كما كان فيهم من يستقبحون هذه الفعلة الشنعاء كزيد بن عمرو بن نفيل(5). وكانت بعض القبائل تحترم المرأة وتأخذ رأيها في الزواج، وكانت المرأة العربية الحرة تأنف أن تفترش لغير زوجها وحليلها، وكانت تتسم بالشجاعة وتتبع المحاربين وتشجعهم، وقد تشارك في القتال إذا دعت الضرورة، وكانت المرأة البدوية العربية تشارك زوجها في رعي الماشية، وسقيها، وتغزل الوبر والصوف وتنسج الثياب، والبرود، والأكسية، مع التصون والتعفف(6) (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/87). (2) دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، ص22، 23، 24. (3) تفسير القرطبي (5/45). (4) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ص25، 26. (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/92). (6) نفس المصدر (1/8). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(62) حالة العرب قبل الإسلام (5- 10) تابع : الحالة الاجتماعية: 4- النكاح: تعارف العرب على أنواع النكاح، لا يعيب بعضهم على بعض إتيانها، وقد ذكرت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: «إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها(1): أرسلي إلى فلان فاستبضعي(2) منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط(3) ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت، ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لها القافة(4) ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط(5) به ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم»(6). وذكر بعض العلماء أنحاء أخرى لم تذكرها عائشة رضي الله عنها كنكاح الخدن وهو في قوله تعالى: (وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) كانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم، وهو إلى الزنا أقرب منه إلى النكاح، وكنكاح المتعة وهو النكاح المعين بوقت، ونكاح البدل: كان الرجل في الجاهلية يقول للرجل: انزل لي على امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك(7). ومن الأنكحة الباطلة نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق(8). وكانوا يحلون الجمع بين الأختين في النكاح، وكانوا يبيحون للرجل أن يجمع في عصمته من الزوجات ما شاء دون التقيد بعدد، وكان الذين جمعوا بين أكثر من أربع زوجات أكثر من أن ينالهم العد(9)، وجاء الإسلام ومنهم من له العشرة من النساء والأكثر، والأقل، فقصر ذلك على أربع إن علم أنه يستطيع الإنفاق عليهن، والعدل بينهن، فإن خاف عدم العدل فليكتف بواحدة، وما كانوا في الجاهلية يلتزمون العدل بين الزوجات، وكانوا يسيئون عشرتهن، ويهضمون حقوقهن حتى جاء الإسلام فأنصفهن، وأوصى بالإحسان إليهن في العشرة، وقرر لهن حقوقا ما كن يحلمن بها. (1) الطمث: الحيض. (2) استبضعي: الاستبضاع، طلب الجماع حتى تحمل منه. (3) الرهط: الجماعة دون العشرة. (4) القافة: جمع القائف، وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد. (5) التاطه: أستلحقه. (6) البخاري، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي رقم ( 5127 ). (7) فتح الباري (9/150). (8) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/90). (9) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص24، 25. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(63) حالة العرب قبل الإسلام (6- 10) تابع : الحالة الاجتماعية: 5- الطلاق: كانوا يمارسون الطلاق، ولم يكن للطلاق عندهم عدد محدد، فكان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها هكذا أبدًا، وبقي هذا الأمر معمولاً به في صدر الإسلام(1) إلى أن أنزل الله تبارك وتعالى قوله: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) [البقرة: 229]. فقيد الإسلام عدد الطلقات، وأعطى للزوج فرصة لتدارك أمره، ومراجعة زوجته مرتين، فإن طلق الثالثة فقد انقطعت عروة النكاح، ولا تحل له إلا بعد زوج آخر، ففي الكتاب الكريم (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ ) [البقرة: 230]. ومما كان يلحق بالطلاق في التحريم الظهار، وهو أن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي، وكان تحريمًا مؤبدًا حتى جاء الإسلام، فوسمه بأنه منكر من القول وزور، وجعل للزوج مخرجًا منه، وذلك بالكفارة(2) قال تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [المجادلة:2- 4]. 6- الحروب، والسطو، والإغارة: كانت الحروب تقوم بينهم لأتفه الأسباب، فهم لا يبالون بشن الحروب وإزهاق الأرواح في سبيل الدفاع عن المثل الاجتماعية التي تعارفوا عليها وإن كانت لا تستحق التقدير، وقد روى لنا التاريخ سلسلة من أيام العرب في الجاهلية مما يدل على تمكن الروح الحربية من نفوس العرب وغلبتها على التعقل والتفكير، فمن تلك الأيام مثلا يوم البسوس، وقد قامت الحرب فيه بين بكر وتغلب بسبب ناقة للجرمي وهو جار للبسوس بنت منقذ خالة جساس بن مرة، وقد كان كليب سيد تغلب قد حمى لإبله مكانًا خاصًا به فرأى فيه هذه الناقة فرماها فجزع الجرمي وجزعت البسوس، فلما رأى ذلك جساس تحين الفرصة لقتل كليب فقتله فقامت الحروب الطاحنة بين القبيلتين لمدة أربعين سنة(3) وكذلك يوم داحس والغبراء، وقد كان سببه سباقًا أقيم بين داحس وهو فرس لقيس ابن زهير، والغبراء وهي لحذيفة بن بدر فأوعز هذا إلى رجل ليقف في الوادي فإن رأى داحسا قد سبق يرده وقد فعل ذلك فلطم الفرس حتى أوقعها في الماء فسبقت الغبراء، وحصل بعد ذلك القتل والأخذ بالثأر، وقامت الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان وكذلك الحروب التي قامت بين الأوس والخزرج في الجاهلية وهم أبناء عم، حيث إن الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة الأزدي، واستمرت الحروب بينهم وكان آخر أيامهم (بُعاث) وذلك أن حلفاء الأوس من اليهود جددوا عهودهم معهم على النصرة، وهكذا كان كثير من حروب الأوس والخزرج يذكيها اليهود حتى يضعفوا القبيلتين فتكون لهم السيادة الدائمة، واستعان كل فريق منهم بحلفائه من القبائل المجاورة فاقتتلوا قتالاً شديدًا كانت نهايته لصالح الأوس(4). وكانت بعض القبائل تسطو وتغير بغية نهب الأموال وسبي الأحرار وبيعهم، كزيد ابن حارثة فقد كان عربيًّا حرًا، وكسلمان الفارسي فقد كان فارسيًّا حرًّا، وقد قضى الإسلام على ذلك حتى كانت تسير المرأة والرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخافان إلا الله والذئب على أغنامهما(5). 7- العلم والقراءة والكتابة: لم يكن العرب أهل كتاب وعلم كاليهود والنصارى، بل كان يغلب عليهم الجهل والأمية، والتقليد والجمود على القديم -وإن كان باطلا- وكانت أمة العرب لا تكتب ولا تحسب وهذه هي الصفة التي كانت غالبة عليها، وكان فيهم قليل ممن يكتب ويقرأ ومع أميتهم وعدم اتساع معارفهم فقد كانوا يشتهرون بالذكاء، والفطنة، والألمعية، ولطف المشاعر، وإرهاف الحس، وحسن الاستعداد، والتهيؤ لقبول العلم والمعرفة، والتوجيه الرشيد؛ ولذلك لما جاء الإسلام صاروا علماء، حكماء، فقهاء، وزالت عنهم الأمية، وأصبح العلم والمعرفة من أخص خصائصهم، وكان فيهم من مهر في علم قص الأثر، وهو القيافة، وكان فيهم أطباء كالحارث بن كلدة، وكان طبهم مبنيا على التجارب التي اكتسبوها من الحياة والبيئة(5). (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/88). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/91). (3) الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/334) (4) التاريخ الإسلامي، د. عبد العزيز الحميدي (1/55). (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/93). (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/93). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(64) حالة العرب قبل الإسلام (7- 10) خامسًا: الحالة الأخلاقية: كانت أخلاق العرب قد ساءت وأولعوا بالخمر والقمار، وشاعت فيهم الغارات وقطع الطريق على القوافل، والعصبية والظلم، وسفك الدماء، والأخذ بالثأر، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، والتعامل بالربا، والسرقة والزنا، ومما ينبغي أن يعلم أن الزنا إنما كان في الإماء وأصحاب الرايات من البغايا، ويندر أن يكون في الحرائر، وليس أدل على هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ البيعة على النساء بعد الفتح: «على أن لا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين» «قالت السيدة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: أَوَتزني الحرة؟!!(1). وليس معنى هذا أنهم كانوا كلهم على هذا، لا. لقد كان فيهم كثيرون لا يزنون ولا يشربون الخمر، ولا يسفكون الدماء ولا يظلمون، ويتحرجون من أكل أموال اليتامى، ويتنزهون عن التعامل بالربا(2)وكانت فيهم سمات وخصال من الخير كثيرة أهلتهم لحمل راية الإسلام ومن تلك الخصال والسمات: 1- الذكاء والفطنة: فقد كانت قلوبهم صافية، لم تدخلها تلك الفلسفات والأساطير والخرافات التي يصعب إزالتها، كما في الشعوب الهندية والرومانية والفارسية، فكأن قلوبهم كانت تعد لحمل أعظم رسالة في الوجود وهي دعوة الإسلام الخالدة؛ ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن، وقد وجه الإسلام قريحة الحفظ والذكاء إلى حفظ الدين وحمايته، فكانت قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة(3). واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم، فإذا كان للعسل ثمانون اسمًا وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفًا، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا شك أن استيعاب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقَّادة(4). وقد بلغ بهم الذكاء والفطنة إلى الفهم بالإشارة فضلا عن العبارة، والأمثلة على ذلك كثيرة)5). (1)المصدر السابق ( 1 / 94 ) . (2) انظر : السيرة النبوية للندوي ص 12 . (3) انظر : السيرة النبوية للندوي ص 12 . (4) بلوغ الأرب ( 1 / 39 ــ 40 ) . (5) انظر : مدخل لفقه السيرة ص 79 ، 80 . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(65) حالة العرب قبل الإسلام (8- 10) تابع : الحالة الأخلاقية: 2- أهل كرم وسخاء: كان هذا الخُلُق متأصلا في العرب، وكان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ذبحها، أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان بل كان يطعم الوحش، والطير، وكرم حاتم الطائي سارت به الركبان، وضربت به الأمثال (1) . 3- أهل شجاعة ومروءة ونجدة: كانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفًا، ولكن قطعًا بأطراف الرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف: وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طُلّ منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل وكان العرب لا يقدمون شيئا على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، واسترخصوا في سبيل ذلك نفوسهم قال عنترة: بَكَرَت تخوفني الحُتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزلِ فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أُسْقى بكأس المنهلِ فأقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل(2) وقال عنترة: لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل(3) وكان العرب بفطرتهم أصحاب شهامة ومروءة، فكانوا يأبون أن ينتهز القوي الضعيف، أو العاجز، أو المرأة أو الشيخ، وكانوا إذا استنجد بهم أحد أنجدوه ويرون من النذالة التخلي عمن لجأ إليهم. 4- عشقهم للحرية، وإباؤهم للضيم والذل: كان العربي بفطرته يعشق الحرية، يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقًا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلاً، أو يمس في شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته(4)، فقد كانوا يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار، وإليك مثال على ذلك. جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحدًا من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك. فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك، فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وا ذلاه يا لتغلب.. فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفا للملك معلقا بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلا: بأي مشيئة عمرو بن هند ... نكون لقيلكم(5) فيها قطينا(6) بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا(7) تهددنا وتوعدنا رويدًا ... متى كنا لأمك مقتوينا(8) إذا ما الملك سام الناس خسفًا ... أبينا أن نقر الذل فينا(9) (1) انظر : السيرة النبوية لأبي شهبة ( 1 / 95 ) . (2) ديوان عنترة ص 252 . (3) ديوان عنترة ص 82 . (4) انظر : السيرة النبوية لأبي شهبة ( 1 / 95 ) . (5) القيل هو : الملك دون الملك الأعظم . (6) القطين هم : الخدم والمماليك . (7) تزدرينا : تحتقرنا . (8) مقتوينا : خدمة الملوك . (9) انظر : شرح المعلقات للحسين الزوزني ص 196 ، 204 . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(66) حالة العرب قبل الإسلام (9- 10) تابع : الحالة الأخلاقية: 5- الوفاء بالعهد وحبهم للصراحة والوضوح والصدق: كانوا يأنفون من الكذب ويعيبونه، وكانوا أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام، ويدل على أنفتهم من الكذب قصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحروب بينهم قائمة قال: «لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت عنه»(1). أما وفاؤهم: فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: «وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي وَلث وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه فلا يُغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به، وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله»(2). والوفاء خلق متأصل بالعرب، فجاء الإسلام ووجهه الوجهة السليمة، فغلظ على من آوى محدثًا مهما كانت منزلته وقرابته، قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من آوى محدثا»(3). ومن القصص الدالة على وفائهم: : «أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث، وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه، فقال دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك، فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه» وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار(4). ومن وفائهم: أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان، فأبى، فسير إليه كسرى جيشًا لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: «يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من قدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد»(6)، واستطاع بنو بكر أن يهزموا الفرس في موقعة ذي قار، بسبب هذا الرجل الذي احتقر حياة الصغار والمهانة، ولم يبال بالموت في سبيل الوفاء بالعهود. 6- الصبر على المكاره وقوة الاحتمال، والرضا باليسير: كانوا يقومون من الأكل ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع، قال شاعرهم: إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل(6) وكانت لهم قدرة عجيبة على تحمل المكاره والصبر في الشدائد، وربما اكتسبوا ذلك من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حر الظهيرة، ولم يتأثروا بالحر ولا بالبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ، ولما دخلوا الإسلام ضربوا أمثلة رائعة في الصبر، والتحمل وكانوا يرضون باليسير، فكان الواحد منهم يسير الأيام مكتفيا بتمرات يقيم بها صلبه، وقطرات من ماء يرطب بها كبده(7). (1) أخرجه البخاري ( 7 ) ومسلم ( 1773 ) . (2) بلوغ الأرب ( 1 / 150 ) . (3) أخرجه مسلم ( 1978 ) والنسائي ( 7 / 232 ) . (4) انظر : مدخل لفهم السيرة ص 90، 91 . (5) تاريخ الطبري ( 2 / 207 ). (6) بلوغ الأرب ( 1 / 377 ) . (7) انظر : السيرة النبوية لأبي شهبة ( 1 / 96 ، 97 ) . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(67) حالة العرب قبل الإسلام (10- 10) تابع : الحالة الأخلاقية: 7- قوة البدن وعظمة النفس: واشتهروا بقوة أجسادهم مع عظمة النفس وقوة الروح، وإذا اجتمعت البطولة النفسية إلى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب، وهذا ما حدث بعد دخولهم في الإسلام. كما كانوا ينازلون أقرانهم وخصومهم، حتى إذا تمكنوا منهم عفوا عنهم وتركوهم، يأبون أن يجهزوا على الجرحى، وكانوا يرعون حقوق الجيرة، ولا سيما رعاية النساء والمحافظة على العرض قال شاعرهم: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها وكانوا إذا استجار أحد الناس بهم أجاروه، وربما ضحوا بالنفس والولد والمال في سبيل ذلك. كانت هذه الفصائل والأخلاق الحميدة رصيدا ضخما في نفوس العرب، فجاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الخير والحق، فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من الصحاري كما تنطلق الملائكة الأطهار، فتحوا الأرض، وملئوها إيمانا بعد أن ملئت كفرا، وعدلا بعد أن ملئت جورا، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيرا بعد أن طفحت شرا(1) هذه بعض أخلاق المجتمع الذي نشأ فيه الإنسان العربي فهو أفضل المجتمعات، لهذا اختير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختير له هذا المجتمع العربي، وهذه البيئة النادرة، وهذا الوسط الرفيع مقارنة بالفرس والروم والهنود واليونان، فلم يختر من الفرس على سعة علومهم ومعارفهم ولا من الهنود على عمق فلسفاتهم، ولا من الرومان على تفننهم، ولا من اليونان على عبقرية شاعريتهم وخيالهم، وإنما اختير من هذه البيئة البكر؛ لأن هؤلاء الأقوام وإن كانوا على ما هم عليه وما هم فيه من علوم ومعارف، إلا أنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه العرب من سلامة الفطرة، وحرية الضمير، وسمو الروح(2). (1) انظر : السيرة النبوية للدكتور محمد أبو شهبة ( 1 / 97 ) . (2) انظر : السيرة النبوية للصلابي ( 1 / 29 ــ 48 ) . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(68) إرهاصات النبوة الخاتمة اقتضت حكمة الله جل جلاله أن الأحداث العامة لا تأتي للناس بغتة ، وإنما لها بين يديها مقدمات تمهد لها ، وبشائر تعلن عن قدومها ، لتتهيأ الأذهان لتلقيها ، ولتستعد القلوب للتجاوب معها . أرأيت إلى الشمس ؟ أتراها تطلع في أفق من الآفاق دون أن تسبقها أضواء الصباح ، ودون أن تقوم بين يديها أنسام الفجر لتوقظ الأحياء لها ، وتهيئهم لاستقبالها ، وتملأ عيونهم نورا هاديا مترفقا قبل أن يغمرهم ضوئها ، ويغشى أبصارهم شعاعها !؟. أرأيت إلى الغيث والمطر ؟ أتراه يأتي فجأة دون أن يسبقه غيم يبشر بقدومه ، أو رعد وبرق ينذر بحلوله حتى يأخذ الناس استعدادهم فيطمعوا أو يفزعوا !؟. ثم أرأيت إلى صنيع الناس وتدبيرهم مع ملوكهم ورؤسائهم ؟ أتراهم يلقون هؤلاء الملوك والرؤساء فجأة وعلى غير انتظار ؟ أم تراهم يتخذون لذلك من الوسائل ما يوقظ الناس ويلفتهم إلى لقائهم قبل أن يطلعوا عليهم ، وتلتقي أعينهم بهم !؟ وما الشمس في جلالها وعظمتها ؟ وما الغيث في إطماعه وإفزاعه ؟ وما الملوك والرؤساء في سلطانهم وهيبتهم ؟ إنهم أرض والنبوة سماء! وإنهم رعية والنبوة راعية ! وإنهم طل والنبوة وابل ! وإنهم جند والنبي قائد ! وإنهم صغار والنبي قيم على هؤلاء الصغار ! ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم آية الآيات في النبوات ... ولها من الآثار في الحياة بقدر ما تفرق في النبوات كلها ... إنها ليست لشعب أو قبيلة أو بلدة ، وإنها ليست لجيل أو جيلين أو ثلاثة أجيال من الناس ... بل هي للإنسانية كلها ، وللأجيال جميعها .. منذ ظهور هذه النبوة إلى أن ينتهي دور الإنسانية على هذه الأرض لذلك فإن ظهور النبي ، بل خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ، لا يمكن أن يقع دون أن يقوم بين يدي موكبه من يعلن في الناس نبأه ، ويفسح الطريق لهذا الموكب الجليل المهيب . من ثم كانت الإرهاصات التي سبقت وصاحبت ميلاده صلى الله عليه وسلم ، والإرهاصات التي صاحبت نشأته وتقدمت نبوته صلى الله عليه وسلم ، وبقدر ما كانت نبوته ورسالته جليلة القدر ، عظيمة المنزلة ، وبقدر مكانته العظيمة عند ربه ، بقدر ما كان الإرهاص له صلى الله عليه وسلم أعمق في التاريخ أثرا ، وأفسح مدى في جوانبه العلمية . تعريف الإرهاص : الإرهاص : هو تلك الأمارات والمقدمات والعلامات المخالفة للمألوف والخارقة للعادة ــ التي تسبق بعثة أو ميلاد نبي من الأنبياء ، والتي تشير إلى أن هذا الإنسان هو معدن الخير ومرجى الكمال (1). المعجزة الفرق بين الإرهاص: المعجزة : هي أمر خارق للعادة يظهره الله على يد مدعي النبوة-تصديقاً لرسالته وتأييداً لدعوته -مقرون بالتحدي ، سالم من المعارضة (2). ومن خلال هذا التعريف للمعجزة يتضح أن الإرهاص والمعجزة يشتركان في خرق العادة ، لكن الإرهاص زمنه قبل النبوة ، فهو إما سابق لميلاد النبي أو مصاحب لميلاده ونشأته ولا يقترن به تحدي ، بل يكون توطئة للنبوة وتأسيسا للرسالة ، بخلاف المعجزة ، فإنها تكون في زمن النبوة ومقرونة بالتحدي . (1)- انظر : التعريفات للجرجاني ص16 ، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص51 . (2)- الإتقان للسيوطي ( 2 / 311 ) . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(69) المنهج الأمثل في دراسة الإرهاصات1 عرفنا أن الإرهاص : أمر خارق للعادة يظهر للنبي قبل بعثته ، وللعلماء في خوارق العادات مواقف شتى ورؤى متعددة .ففريق : شط به خياله وجنحت به عاطفته ، فأثبت من الخوارق ما لم يقم له سند من نقل أو يعضده تأييد من عقل . وفريق آخر : تبلد عقله وجف إحساسه ، فأنكر أو أوّل ما أثبته النص الصريح ، وشهد له النقل الصحيح . وكلا الطرفين مخطئ في موقفه ، جانح إلى غير الصواب في رأيه ، فإذا كان وزر المتزيدين في الروايات أنهم تزيدوا وأغرقوا ، وقبلوا كل تافه وغثاء ، فوزر المنكرين والمتأولين أنهم أجحفوا وتنقصوا وظلموا ، وردوا ظاهر القرآن وصحيح الرواية لغير ضرورة ملجئة . والمذهب الصحيح في تقبل الإرهاصات والمعجزات أن تثبت بها الرواية ثبوتا لا يحتمل الطعن والتجريح . وليس من الإنصاف أن نثبت ما لم يثبت لأننا بذلك ندخل في الدين ما ليس منه ، كما أنه من الإجحاف والاعتساف أن ننكر أو نأول ما ثبت لأننا بذلك نخرج من الدين ما هو منه . يقول الأستاذ محمد الصادق عرجون : " ليس من رأينا ولا في مذهبنا أن ننكر الإرهاصات المعجزة جمودا مع الجامدين المتعالين الذين يريدون أن يخضعوا جلال الألوهية وعظم سلطانها لسلطان عقولهم في حدود ما يعرفون من سنن الحياة ، هذا غرور بليد لأن ما عرف من سنن الحياة تافه قليل إلى جانب ما لم يعرف . وحتى الذي عرف من سنن الحياة لا ينكر هذا الضرب من الخلق والتكوين الذي يراه من يقيسه إلى سنن الحياة العامة المألوفة المتكررة معجزا خارقا لقوانينها ، وهو في نظامه وتكوينه وأسبابه خاضع لسنن خاصة تعرفها الحياة في أوقات ومناسبات خاصة ، فهو في حقيقة أمره من سنن الله القائمة على أسباب ومناسبات مطردة في بابها وطرائقها . وإنما مذهبنا في تقبل هذه الإرهاصات يقوم على دعائم ثلاث : أولها : أن وقوع حوادث كونية تخفى على العقول أسبابها وعواملها المنشئة ــ وهو ما نسميه بالأعاجيب ويسمى في مشهور عرف العلماء بالإرهاصات إن وقع قبل النبوة ، وبالمعجزات والآيات إن وقع في زمن النبوة ــ أمر قامت على جوازه ووقوعه الدلائل من النصوص القطعية في الكتب السماوية ، والنقول التاريخية التي بلغت في جملتها مبلغ التواتر القاطع ، ومن البراهين العقلية التي تقرر هذه السنن الخاصة وقيومية الخالق عز شانه وإطلاق قدرته من قيود القوانين والعادات المعلومة في حدود مدارك العقول الإنسانية ، إلى سنن كونية وقوانين للوجود فوق آفاق تلك العقول، تحدث على وفقها تلك الأحداث الكونية والأعاجيب الإعجازية إذا تطلبتها أسبابها وحانت مناســباتها ، والله فعال لما يـريد لا يسأل عما يفعل . ثانيها : أن القرآن الكريم - وهو أثبت وأصدق نص تاريخي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - قص علينا في قصص الأنبياء بعض آياتهم المعجزة من الأحداث الكونية التي وقعت على أيديهم مما جرى مجرى التشريف والتكريم ، ومما تحدوا به أقوامهم ، مما لا يمكن أن يدخل تحت سنة من سنن الحياة المعروفة للعقول ، والمعهودة في حياة الناس ومألوفهم ، وقد سمى القرآن بعض تلك الآيات الكونية المتحدية براهين ، فانقلاب عصى موسى حية تسعى ، وإخراج يده بيضاء من غير سوء ، وانفلاق البحر له ولقومه ، ونتق الجبل فوقهم كالظلة ، وإحياء عيسى للموتى ، وإبراؤه للأكمه والأبرص ، وإنباؤه قومه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، وخلقه من غير أب ، وإيتاء أمه مريم عليه السلام رزقا دون حركة آلية أو تسبب مما بعث كافلها زكريا عليه السلام على التعجب ، ونقل عرش بلقيس من المسافة البعيدة في أسرع من لمح البصر ، وما وقع لأصحاب الكهف ، وعدم إحراق النار إبراهيم عليه السلام ، وسائر آيات الأنبياء في قصصهم التي لا تحتمل تمحلا ولا تأويلا ، كل ذلك من الأعاجيب المعجزة والخوارق التي وقعت فعلا وشهدها الوجود ، واستفاضت بها روايات التاريخ بنقل الأجيال عن الأجيال منذ كانت النبوة لبني الإنسان إلى يوم الناس هذا استفاضة تدفع بمنكريها إلى محابس الممرورين وذوي العته العقلي ونقص التكوين الإدراكي . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(70) المنهج الأمثل في دراسة الإرهاصات2 ثالثها : إذا ثبت وقوع الأعاجيب ــ المعجزة والحوادث الكونية الخارقة ــ لمعروف العقول في سنن الحياة العامة ، فالنظر فيما يروى منها جملة في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته أو في زمنها يجري على سنن تلك الآيات وقوانينها ، ويبقى على الباحث النظر في إثبات أفراد تلك الحوادث والجزئيات التي سجلتها السيرة النبوية ، فما ثبت منها بطريق صحيح السند ، صادق الرواية ، وجب قبوله والإذعان بوقوعه ، لأن رده أو التشكك فيه بعد ثبوته بهذه الطريقة التي لا طريق للإثبات التاريخي فوقها رد لبرهان العقل القاطع ، ورد لنص القرآن في إثبات الآيات المعجزة ، ولا فرق بين آية وآية ، ورد البرهان العقلي والنص القرآني إلحاد في دين الله ، أو جهل بسنن الحياة ، أو تشكيك في قدرة الله . وما لم يثبت منها هذا الثبوت فنحن في حل من إنكار وقوعه أو التوقف في الحكم عليه إثباتا أو نفيا ، والتوقف أسلم وأحكم ــ كما يقول علماؤنا ــ لأنه محتمل الثبوت ، وقد قامت الدلائل في العلم التجريبي ، وفي وسائل البحث التاريخي على أن كثيرا مما كان ينكر من الحقائق العلمية والحوادث التاريخية أصبح ثابتا مقررا في بدائه العقول ، وكثيرا ما كان يزعم حقائق علمية ومقررات تاريخية صار في مهب الأساطير والخرافات ، فالتسرع في الإنكار خطل في الرأي ، والتسرع في التصديق قبل الإثبات غميزة في العقل(1) . وعلى هذا الهدي نسير في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى ، فنعرض لما يروى في السيرة العطرة من هذه الأعاجيب الكونية المعجزة ، نحاكمه إلى صحة السند وصدق الرواية ، فإذا ثبت لهذه المحاكمة وفاز فيها بعنوان الوجود الواقعي سجلناه مؤمنين مذعنين ، وإذا لم يثبت وطاحت به الرواية أو خانه السند الصحيح طرحناه حيث ينتهي غير آسفين . المرتبة الأولى في الإثبات : وأعلى ذلك عندنا وأرفعه في منازل القبول والصدق القاطع ما يذكره القرآن الكريم في صراحة ظاهرة ، أو يشير إليه إشارة لماحة ، وبين المرتبتين من الفرق ما بين الأسلوبين في التعبير ، فلا يجوز التلبث في قبول المرتبة الأولى والإيمان بها ، ولا يقبل أن يمشي التأويل إلى ساحتها ، تشبثا من المتأولين بمعروف العقول ، وقضايا العلم ، وقوانين المنطق ، ومألوف سنن الحياة ، لأن معروف العقول ،وقضايا العلم ، وقوانين المنطق ، ومألوف سنن الحياة مخلوقة لله تعالى فهي محكومة بواسع قدرته ، ومطلق سلطانه في تصريف خلقه ، فلا يسوغ في معروف العقول السليمة ، وقضايا العلم الصحيح ، وقوانين المنطق المستقيم أن تجعل حاكمة عل خالقها ، وإلا كانت الألوهية ضربا من الوثنية التي يصطنعها الناس بعقولهم وعواطفهم وأخيلتهم . والمسألة هنا ليست مسألة عقل يحكم أو منطق يقيس ويبرم ثم ينتهي كل شيء ، وإنما هي مسألة عقل يبحث في أصل الإيجاد والإبداع ، فإذا استقام له أن يقيم هذا الأصل على دعائم ثابتة جاءت الحوادث الجزئية بطبيعتها خاضعة لناموس الإيجاد والإبداع العام فقط دون أي ناموس آخر يحكمها في وجودها الجزئي . أما المرتبة الثانية : وهي الأعاجيب التي يشير إليها القرآن ولا يذكرها صراحة فإن تأيدت بروايات صحيحة السند من السنة النبوية كان حظها في الإيمان بها وقبولها مثل حظ سابقتها ، لكن لا على أنها هي التفسير للنص القرآني قطعا كما في المرتبة السابقة ، بل على أنها وجه لتخريج النص وفهمه مع قيام صحة غيره من الوجوه المحتملة إذا استقام لها الدليل ، وإن لم نجد لها عضدا قويا من الرواية الصحيحة قبلنا ما يذكر فيها من تأويل قويم على أنه معنى راجح في الدلالة على استنباط ما تشير إليه من حادث كوني معجز دون أن ينفي صحة أن يكون هذا الحادث الكوني المشار إليه معنى من معاني النص المحتملة . ودون ذلك مراتب : أعلاها ما يروى في المصادر المعتبرة عند ذوي العلم بسند صحيح وطرق متعددة ، وأدناها ما ينفرد بروايته مصدر ضعيف أو راو لا يتحرز . أما الآثار والأحاديث والموضوعات والأباطيل التي ينص الأئمة على وضعها واختلاقها فلا تصلح أن تكون في مراتب الاعتداد والحسبان (2). والأمثلة على ما ذكرناه من المراتب كثيرة في السيرة النبوية ، ولا تعوز الباحث ، فهو يجدها أنى طلبها ، وسوف نقف ــ بإذن الله تعالى ــ على أمثلة لها في هذه الدراسة المباركة . (1) ــ محمد رسول الله ( 1 / 105 ــ 108 ) باختصار وتصرف . (2) ــ محمد رسول الله ( 1 / 109 ــ 111 ). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(71) الإرهاص في حياة الأنبياء السابقين حدثنا القرآن الكريم ، والسنة النبوية والتاريخ عن جملة من الإرهاصات بالنسبة لفريق من الأنبياء والرسل ، من غير استيعاب للجميع ، ولم يتوسع القرآن ولا السنة في هذا الشأن . وحينما نستعرض ما ورد موجزا في القرآن والسنة من تلك الإرهاصات : سنراها تأخذ في القلب نصيبها من الروعة ، وتثير في النفس مباهج الإعجاب ، وتنبه الإنسان رويداً رويدا من غفلة إلى يقظة ، ومن جهالة إلى معرفة،ومن إنكار إلى إيمان يوم كانت تلك الإرهاصات في عصرها أو بعد عصرها ، لمن لا يزالون في شقاق عن بعض الأنبياء والرسل. وحينما يفقه الإنسان ، ويصيب الحق ... يتحقق أن تلك الإرهاصات كانت وسيلة رحيمة بالإنسان الذي تعلقت به . إذ جعله الله معدنا للخير ، لأنها تمهيد له ، وتوجيه للأنظار نحوه ، فلا يكون ظهوره بالوحي فيهم بعد ذلك : بعيدا كل البعد عن مألوفهم ، وما عهدوا فيه ــ قبل رسالته ــ من الخير ولا يستوحشون منه كما يستوحشون من غريب دخيل عليهم ، فيتجهمون له ، أو يتهجمون عليه . وكذلك يتحقق من يفقه ، ويصيب الحق : أن تلك الإرهاصات كانت وسيلة رحيمة بالقوم : لأنها تخلق فيهم وعيا سابقا ، وتثير بينهم تفكيرا في شأنه ومناجاة فيما عهدوا من ملامحه التي لم تكن لغيره من جمهرة الناس في محيطهم . وذلك التمهيد يقرب المسافة العقلية بينهم وبينه ، ويدنيهم أو يدني فريقا منهم إلى الاستئناس به ، ويكون هذا التمهيد سبيل التجاوب بين الداعي والمدعوين ، وأيسر على الجانبين كثيرا مما لو فاجأهم بالوحي من الله دون إرهاصات تتقدمه ، وتوقظهم من غفلاتهم . ويوضح قولنا هذا أن الله ــ تعالى ــ جرت سنته على أن يختار نبيه أو رسوله من بين قومه ليكونوا على معرفة بشخصيته ، وعلى علم بسيرته ، وعلى خبرة بأصوله ، وبكل ما يدور حوله فيهم . فلا يكون مريبا ولا مسترابا فيه ، ولا يكون مغموزا في نفسه ولا مغموزا فيه . فإذا سفهوا في شأنه كان مردودا عليهم بالواقع الذي يعلمونه حقا دون أن ينزل قدره عن مكانته التي هيأها له ربه ، ولا عن كرامته التي أقامه الله عليها . وإن تناولوه من ناحية تمسه من هذا القبيل أو من قبيل دعوته : فالله كفيل بحمايته،ويظل بتكريم الله من المصطفين الأخيار،لم يمسسه سوء القالة. وإن أزهقوا روحه وسفكوا دمه : فإنما هو الاستشهاد في سبيل الله ، يذهب ضحيته الأخيار من عباد الرحمن ، ويبوء بإثمهم الأشرار من جنود الشيطان . وكان المفروض بعد أن تحصل الإرهاصات لمن جعلهم الله معدن الخير أن يكون للعقول رشاد ، وللقلوب تبصر، فلا تتخلف الاستجابة المرموقة عن المقدمات المشهودة بما أرهص الله به لعبده .. ولكن الناس يختلفون في فطرتهم ، وفي ميولهم .. فمن حسنت فطرتهم واستقامت ميولهم كانوا مستهدين وقليل ما هم ! ومن عميت بصائرهم ، وانحرفت ميولهم ضلوا عن الرشد ، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله (1) (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ــ بسبب شذوذهم وسوء اختيارهم ــ إلا من رحم ربك )[ سورة هود/ 117ــ 118] وهذه أمثلة للإرهاصات التي صاحبت بعض الأنبياء السابقين . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(72) الإرهاص لآدم عليه السلام كان الإرهاص موجودا منذ اللحظات الأولى للحياة الدنيا ووجود الإنسان فيها ،فحينما أراد الله أن يلقي الأضواء حول عبده آدم قبل أن يكون له شأن معروف ، أخبر الملائكة بقوله ــ سبحانه: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) فأدرك الملائكة من هذا ، أو من أمارات بجانب هذا النبأ : أن ذلك تنويه بما يكون لآدم في هذا العالم من قدر خطير ، لأن آدم هو الوافد عليهم من الأرض ، وليس لديهم مخلوق يتجه إليه الفكر سوى هذا الإنسان الأرضي ، الذي كرمه ربه ــ أولا ــبرفعه إلى الجنة ، فذلك إرهاص مبكر ، تنبه له الملائكة ، وعلقوا عليه بالاستفهامات والتعجب ، وسبق إلى ذهنهم أنهم خير وأولى بالخلافة في الأرض من هذا الإنسان الأرضي الذي لم يكن مستخلصا مثلهم من عالم النور ، ولا مطبوعا مثلهم على تسبيح الله ، والتقديس له . ولكن الله رجع بهم إلى حكمته ، وعلمه الرباني ، فقال لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) . ثم كان إرهاص آخر : بما أفاض الله على آدم من علم لم تتهيأ له طبيعة الملائكة : (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ) أسماء المخلوقات من بحار ، وأشجار ، وجبال ، ونجوم ، وكائنات أخرى .... مما له ارتباط بحياة آدم في الأرض التي سيكون خليفة فيها هو وذريته إلى يوم القيامة، يعبدون الله فيها ، ويستثمرونها بجهودهم . وكان إرهاص ثالث : بتلك المناظرة التي امتحن الله فيها الملائكة ، إذ عرض عليهم أن يجيبوا عن تلك المسميات ، فلم يكن لهم الإمداد الذي ظفر به آدم ، لعدم ألأهلية لذلك العلم ، ولكن آدم كان بطبيعته متأهلا ، وكان بإمداد الله له عالما ، ,مجيبا عما سئل . وكان إرهاص رابع : بتكليف الله للملائكة أن يعظموا ىدم تعظيما يناسب مقامه بعد أن تبين لهم ما كان خافيا عليهم من حكمة الله في صنعه ، واختياره للإنسان دون الملائكة . وكان الإرهاص الخامس : بتوبيخ الله لإبليس على امتناعه من تعظيم آدم تعظيما أشاد الله به ، حتى سماه سجودا ، وإن لم يكن سجودا على الجبهة كما نعهد ، فإن هذا النوع لم يشرع لغير الله تعالى . وينتهي ذلك الإرهاص في هذه القضية بطرد إبليس من الجنة ، رجيما مسخوطا بلعنة الله إلى يوم الدين بسبب عصيانه لله فيما أمره من تعظيم آدم لم يكن آدم أثناء هذا نبيا ، ولا رسولا ، وإنما هي تمهيدات لما سيصادفه بعد ذلك من الوحي ... فأي إرهاص يكون أبلغ من هذا في مطلع التاريخ البشري |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(73) الإرهاص لداود عليه السلام كان في فلسطين على عهد موسى – ومن قبل موسى – طائفة من الوثنيين، لا يؤمنون بربهم، ولا يستجيبون لدعوة رسول، وقد أراد موسى جهادهم بأمر الله، ولكن أتباعه من بني إسرائيل عصوه وقالوا له: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24]. هؤلاء الوثنيون الجبارون ظلوا على كفرهم، حتى كانت النبوة من بعد موسى – بوقت ما – لرسول آخر يدعى «شمويل». وقد أخبر هذا الرسول أمته أن الله اختار لهم – طالوت – ملكًا عليهم وهو الذي سينهض معهم بقتال الجبارين، وقد خرج طالوت يومًا بجيشه، واستقبل الجبارين تحت قيادة ملكهم – جالوت- وحينما رأى المؤمنون جيش الكافرين في كثرته وعتاده، حسبوا حسابه، ولكنهم اعتزوا على الكثرة بمعونة الله، وقالوا: ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ). وتهيئوا للقاء العدو، وكان في جيش المؤمنين غلام، لا عهد له بالحروب، ولا طاقة له بحمل السلاح والمقاومة، وهو غلام يرعى الغنم، ويحمل المقلاع والأحجار ليذود عن غنمه، ويجلب لها الكلأ، ويسقط أوراق الشجر ليطعمها. نهض الغلام بمقلاعه، وقذف جالوت الملك القائد بحجر، فأصاب رأسه، وصرعه قتيلًا، ففر جيشه الكبير خوفًا من الجيش القليل، وأعز الله حينئذ طالوت، وكفى الله المؤمنين القتال، ثم حمل هذا الفتى – واسمه داود بن يسى – رأس جالوت، وذهب فخورًا بها إلى طالوت – الملك – فأعجب به، وأكبر شأنه، وزوجة ابنته، وأوصى له بالملك بعده. ثم ظهر أن ذلك كله إرهاص لداود، إذ ظهر من حكمة الله أن اختاره للرسالة وأنزل عليه الوحي بها، وهو أول إنسان من بني إسرائيل اجتمع له سلطان الملك في الدنيا، وشرف الرسالة في الدين، وأقام الله به دينًا، ودولة. فرمية الحجر بالمقلاع من غلام، وقتل الملك، وفرار جيشه، وانتصار المؤمنين في هوادة من غير تضحية، واندحار الجبارين في هوان بعد أن عاثوا في الأرض مفسدين زمنًا طويلاً.. كل هذه أحداث خارقة للعادة، وهي إرهاصات – ولا شك – لما تحقق لداود من شأن الرسالة. وخاصة: بعد الذي عرفنا سابقًا من مهابة بني إسرائيل لحرب الجبارين وتخلفهم عن دعوة موسى إلى ذلك، وقولهم لموسى – عليه السلام - «إن فيها – القدس – قومًا جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها» وقولهم أخيرًا لموسى ( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) [المائدة: 24]. وقد تحدث القرآن عن أصل القصة في سورة البقرة من آية (247) وختمها في قوله تعالى: ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) [البقرة: 251]، وهو داود أبو سليمان عليهما السلام (1) . (1) الوحي إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم للشيخ عبد اللطيف السبكي، ص(20، 21)، ط: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (الكتاب الحادي والخمسون 1389هـ - 1969م). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(74) الإرهاص ليحيى بن زكريا عليه السلام كان رسول الله زكريا – عليه السلام – غير منجب للذرية حتى بلغ من العمر مائة وعشرين سنة، وبلغت زوجه التسعين، وذلك أشبه بحال إبراهيم وسارة. وكان زكريا كفيلاً على مريم في تربيتها، ورعايتها، لأنها فاقدة الأب، ولأن زكريا زوج خالتها، وبحكم تردده على مريم في محرابها الخاص بها كان يشهد مشاهد عجيبة من تكريم الله لمريم بنزول الطعام لها من عند الله. وكان هذا التكريم يثير في نفسه الحنين إلى الذرية، ويغالبه الأمل في الله أن يرزقه ذرية طيبة ويدعو، ويكثر الدعاء في ذلك. والقرآن يسوق لنا قصصه عن ذلك في مقامين، يعتبر كل منهما إرهاصًا ليحيى عليه السلام. أحدهما: في سورة آل عمران إذ يقول الله تعالى: - «هنالك – يعني في موقف من مواقفه عند مريم – دعا زكريا ربه، قال: «رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ » [آل عمران: 38 – 39]. فانظر كيف يستجيب الله دعاء زكريا؟ وكيف تكون بشرى الملائكة له بمولود ذكر، وباسم المولود يحيى، وأنه سيكون جامعًا لصفات من الكمال، بل سيكون رسولاً، وسيكون حصورًا عن زواج النساء ليكون متفرغًا للرسالة والعبادة، على نحو ما كان التبتل قديمًا من العبادة. هذه البشرى استعظمها زكريا، وكأنه رغب في التحقق منها: لا لشك عنده في خبر الملائكة – ولكن ليزداد سرورًا بسماع ما يؤكدها له من جانب الملائكة... فقال: « قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ » [آل عمران: 40]. يا رب: كيف أطمع في هذا بعد أن بلغت من الكبر ما بلغت.. ومع أن زوجتي عاقر لم يسبق لها حمل في زمن كان يرجى فيه حملها؟ ثم يتفضل الله على زكريا فيوحي إليه ما يزيده اطمئنانًا «اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ». فيعود زكريا، ويلتمس من فضل الله علامة على ذلك، عندما يحين الموعد الكريم... فيوحي إليه الله أن علامة هذا: أنك تُمنع من كلام الناس بلسانك ثلاثة أيام بلياليها.. ولكنك تتفاهم معهم بالإشارات رمزًا، وعليك أن تكثر من ذكر ربك، وتسبيحه كل أوقاتك «قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً » [آل عمران: 41]. فهذا القدر من قصص القرآن إرهاص واضح بشأن يحيى – عليه السلام – من قبل أن يخلق، بل من قبل أن تحمل فيه أمه. وهذا القدر المذكور قد يزداد وضوحًا لنا إذا ذكرنا المقام الثاني لهذه القصة من سورة مريم، ففي هذه السورة نرى تفصيلاً جميلاً لبعض الجوانب في القصة. فزكريا يناجي في ضراعة خافية على الناس: يشكو ضعف جسمه واشتعال الشيب في رأسه لكبر سنه وأن هذه أخريات العمر، وامرأته عاقر لم تنجب له ولدًا، وأنه يخاف بعد وفاته على شريعة الله أن يعبث بها من يتولون الأمر بعده من بني إسرائيل كما هو دأبهم في التبديل، والتحريف.. وأنه يتعلق بالرجاء في الله أن يرزقه من فضله وليًّا يخلفه في الدعوة إلى الله ويكون وارثًا لأبيه، وللأخيار من آل يعقوب في البركة، والهداية، والإرشاد.. إلى آخر ما عرف من شأنه في هذا الاتجاه. ويكون من فضل الله أن يستجيب له كما تقرر فيما أسلفنا من سورة آل عمران، وتصارحه البشرى في هذه المرة بأن اسم يحيى: لم يسبق لغير ولده، وهذا مما يزيده تفاؤلاً بابنه المرموق.. وتستغرق هذه القصة في سورة مريم أربع عشرة آية.. والشطر الأول منها في حكاية ما يقوله زكريا .. والشطر الثاني في تأكيد البشرى، وهو « يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ » [مريم: 7 – 9]. ونكتفي بهذا القدر من الإرهاصات في حياة الأنبياء السابقين وننتقل إلى الإرهاص في حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(75) الإرهاص لمحمد صلى الله عليهوسلم كما جرت سنة الله _ تعالى _ أن يكون لبعض الرسل إرهاصات سابقة على بعثتهم كان الشأن كذلك مع خاتم الرسل محمد صلى الله عليه و سلم فلم يكن محمد بدعا من الرسل في الإرهاص له , كما لم يكن بدعاً من الرسل في اختياره رسولاً إلى الناس , و إن زاغ عن ذلك أهل الإفك و الضلال ممن كفروا به , مفترين على الله و رسوله ما ليس لهم به علم . وبقدر ما كانت رسالة سيدنا محمد خطيرة الشأن بعد غيرها من الرسالات الأولى كان الإرهاص لها أعمق في التاريخ , وأفسخ مدى في جوانبه العلمية ،ووجه ذلك : أن الحياة الدنيا قبل بعثة محمد صلى الله عليه و سلم كانت متصدعة في نظمها الاجتماعية و في قيمتها الأدبية . و كانت الإنسانية في ظمأ شديد إلى تشريع سماوي جديد يشفى غلتها , و يسد ذلك الفراغ الشاغر في مجتمعها , و يكفل توجيه الناس إلى الخير المنشود و يرأب الصدوع التي أحدثها الجهل الفاشي في البيئات البدائية , والتي أثارها النزاع الطائفي بين أهل الكتاب حتى طمسوا أكثر معالم الرشد التي جاءت بها الكتب السماوية الأولى. وحينئذ تكون الشريعة المرجوة تامة , و نهائية , لا تمهيدية , و حسب الدنيا ما مر بها من التجارب في عصورها الغابرة. وحينئذ _ أيضا _ يكون الإرهاص لهذه الشريعة مدعوماً بوسائل البيان الواسع الذي يقوم عليه صرح الدعوة شامخاً , لا تنال منه محاولات المبطلين مهما بطل الزمن. وإزاء هذه الاعتبارات كانت حكمة الله متجاوبة مع طموح البشرية إلى الهداية الكاملة ، وكانت متلاقية مع الأهداف المثالية للإنسانية بالتوجيه إلى تلك الرسالة عبر الإرهاصات و المعجزات التي خص بها صلى الله عليه و سلم و إليك الحديث عن هذه الإرهاصات . أخذ الميثاق على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه: من الإرهاصات التي سبقت ميلاد نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وأعلنت عن عظيم قدره , ورفيع منزلته ، وإكرام الله له : أخذ الميثاق على الأنبياء و المرسلين أن يؤمنوا به و ينصروه إن أدركوه و لحقوه ، فإن لم يدركوا زمنه فليبشروا أممهم بمجيئه و ليعهدوا إليهم بالإيمان به و النصرة له , قال تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[ سورة آل عمران /81 ، 82 ] . و الميثاق في اللغة : عقد مؤكد بيمينو الميثاق : ــ العهد ــ وفيه معى الحلف ففي أخذه استحلاف لهم . وأخذ الميثاق من المرء عبارة عن كون المأخوذ منه وهو المعاهَد ــ بفتح الهاءــ يلتزم للآخذ وهو المعاهِد ــبكسر الهاء ــأن يفعل كذا مؤكداً ذلك باليمين أو بلفظ من المعاهدة أو المواثقة . و معنى ميثاق النبيين ما وثقوا به على أنفسهم من طاعة الله فيما أمرهم به و نهاهم عنه . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(76) تفصيل الأخذ في الميثاق وأخذ الميثاق يقتضى آخذاً و مأخوذاً له و مطلوباً للأخذ . فآخذ الميثاق : هو الحق تبارك و تعالى كما يدل عليه ظاهر اللفظ. والمأخوذ عليه الميثاق تعددت فيه الأقوال : ففريق قال : المأخوذ عليه الميثاق هم النبيون كما يدل عليه ظاهر اللفظ. وفريق قال : بل المأخوذ عليه هم أولاد النبيين على حذف المضاف و المراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم. وفريق قال : بل المأخوذ عليه أمة النبيين فقد ورد كثيراً في القرآن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم و يراد به الأمة كقوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء) [ سورة الطلاق / 1 ]. وفريق قال : المرد من النبيين بنو إسرائيل و إنما سماهم الله بذلك تهكماً لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه و سلم لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شأن فخان فيه ثم زعم الأمانة : يا أمين ماذا صنعت بأمانتي:؟. وهذه الأقوال مبينة على إن الإضافة في قوله " ميثاق النبيين " من إضافة العهد إلى المعاهد منه . وهناك نوع آخر من الإضافة ينبني على معنى آخر ( وهو أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثوق لا إلى الموثوق عليه كما تقول ميثاق الله وعهد الله , كأنه قيل : (وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم ). والمأخوذ له الميثاق : هو سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كما قال الإمام علي و ابن عباس رضي الله عنهما ، واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلي معين كقوله " ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً"ــ إلى قوله تعالى ــ " وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ " ( سورة النحل من 112 -113) ومطلوب الأخذ : هو الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم و النصرة له. يقول العلامة الخازن في تفسيره " و ذكروا في معنى أخذ الميثاق وجهين : أنه مأخوذ من الأنبياء. أنه مأخوذ لهم من غيرهم. فلهذا السبب اختلفوا في المعنى بهذه الآية ــ فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضاً , وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء و ينصره إن أدركه , وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه ، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ، و من عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه و سلم ــ و هذا قول سعيد بن جبير و الحسن و طاووس"(1). والحكمة من وراء ذلك : " أنه لما كان القصد من إرسالهم واحداً وجب أن يكونوا متكافلين متناصرين ، إذا جاء واحد منهم في زمن آخر آمن به و نصره بما استطاع , ولا يلزم من ذلك أن يكون متبعاً لشريعته كما آمن لوط لإبراهيم و أيد دعوته ، إذ كان في زمنه "(2) و قيل أنما أخذ الميثاق من النبيين في أمر محمد صلى الله عليه و سلم خاصة ــ وهو قول علي و ابن عباس و قتادة و السدى . فعلى هذا القول اختلفوا : فقيل إنما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل إليهم النبيين و يدل عليه قوله : ( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) "وإنما كان محمداً صلى الله عليه و سلم مبعوثاً إلى أهل الكتاب دون النبيين ، و إنما أطلق هذا اللفظ عليهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل كتاب و النبيون منا. و قيل أخذ الله الميثاق على النبيين وأمهم جميعاً في أمر محمد صلى الله عليه و سلم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الإتباع وهو قول ابن عباس. قال الإمام علي رضي الله عنه : " لم يبعث الله عز وجل نبياً , آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به و لينصرنه ، ويأمره فيأخذ العهد على قومه " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ... " (3) و قيل : إن المراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون العهد و الميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه و سلم أن يؤمنوا به و ينصروه ــ و هذا قول كثير من المفسرين . و يؤكده أن الله تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين , و هذا الوصف لا يليق بالأنبياء و إنما يليق بالأمم. وإلى هذا ذهب ابن عابس رضي الله عنهما _ فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال : قلت لابن عباس إن أصحاب عبد الله يقرءون ( وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) و نحن نقرأ ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ) (آل عمران81) فقال : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم ــ وأشار بذلك رضي الله عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين " . (1) تفسير الخازن ( 1 / 373 ) ، وانظر : تفسير البغوي ( 1 / 374 ) ، حاشية الجمل ( 1 / 292 ). (2) تفسير المنار ( 3 / 289 ). (3) تفسير الطبري ( 6 / 555 )، والمحرر الوجيز ( 2 / 488 ) ، وتفسير الخازن ( 1 / 373 ) ، والبحر المحيط ( 2 / 509 ) ، والشفا (1/ 36 ) ، والوفا لابن الجوزي ( 1 / 37 ) وإسناد الحديث عند الطبري ضعيف من أجل سيف بن عمر ــ أحد رواته ــ قال عنه ابن عدي : بعض أحاديثه مشاهير وعامتها منكرة لم يتابع عليها ، التهذيب ( 2 / 470 ) . وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبري ( 5 / 556 ) وإسناده ضعيف ، فيه محمد بن حميد الرازي ، قال عنه ابن حجر في التقريب : " حافظ ضعيف وكان ابن معين حسن الرأي فيه " ، وفيه أيضا : محمد بن أبي محمد المدني ، قال عنه ابن حجر في التقريب ( 2 / 214 ) : مجهول . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(77) القول الراجح في المأخوذ له الميثاق والقول الذي أرجحه و يميل إليه قلبي و تستريح له نفسي : هو أن الله أخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم وأن ينصروه. و معلوم بداهة أن الأخذ على المتبوع في طيه أخذ على الأتباع حيث إنهم مأمورون باتباع أنبيائهم فيما جاءوا به وأرشدوا إليه , وعليه فيكون أخذ الميثاق واقعاً على الأنبياء كفاحاً وعلى أممهم بالتبعية لهم. روى الطبري بسنده إلى السدى قال في قوله ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ ). الآية " لم يبعث الله عز وجل نبياً قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد و لينصرنه إن خرج وهو حي,وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به و لينصرنه إن خرج وهم أحياء"(1) . و قال ابن كثير : " قال علي بن أبي طالب و ابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به و لينصرونه "(2). وقال ابن هشام : و كان الله ــ تبارك و تعالى ــ قد أخذ الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به , و التصديق له , و النصر له على من خالفه , وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم ، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيهم , يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم:( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ .....الآية )(3) . ويقول بعض العارفين :- فآدم كانت أوامره بنصرته لأولاده لا تحصى , و نوح عهد إلى أتباعه باتباعه ووصى , و الخليل كان أكثرهم اجتهاداً في ذلك وحرصاً , و بنوه تواصوا و إسماعيل أكثرهم فحصاً , وتوراة موسى نطقت بنعته و صفاته , وأبانت عن معانيه وآياته , و أوضح برهان على ذلك و دليل ( أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ) , وزبور داود أفصح بصدق معجزاته و أعرب عن ظهور بيناته ، وإنجيل عيسى شهد بأنه الخاتم الذي يشكر ويحمد , وصرح به قوله تعالى : ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (4). و بناءً على هذه الأقوال يكون المقصود من قوله تعالى : (ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ..... الآية ) رسولاً واحداً وهو محمد صلى الله عليه و سلم . و بذا يضعف القول إلي ذهب إلى أن الميثاق إنما أخذ على كل نبي في النبي الذي يأتي بعده. والذي يدعم ذلك و يؤكده وجوه : الوجه الأول : أنه لم يرد في آية ولا في حديث صحيح أن الله تعالى أخذ العهد في شأن نبي غير نبينا صلى الله عليه و سلم , و يؤكده أن الميثاق في الآية مأخوذ من جماعة لمفرد " النَّبِيِّيْنَ , جَاءكُمْ " هذا في المأخوذ عليه أما المأخوذ له فقال " رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ ". الوجه الثاني : أن القرآن لم يصف نبياً بأنه مصدق لما بين يديه أو مصدق لما مع الأنبياء قبله ، غير نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لم يوصف كتاب بأنه مصدق لما بين يديه غير القرآن . قال تعالى (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ)[ سورة البقرة / 89 ] . و قال تعالى ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )[ سورة البقرة / 97 ] . و قال تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)[ سورة المائدة / 48 ] . و قال تعالى : (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[ سورة الأنعام / 92] . و قال سبحانه في وصف النبي صلى الله عليه و سلم (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ)[ سورة البقرة / 101 ] . و انظر كيف قال الله تعالى في حق عيسى عليه السلام (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ )[ سورة المائدة / 46 ]. و قال سبحانه (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) [ سورة الصف / 6 ] . و يقول تعالى أيضاً (وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ )[ سورة آل عمران / 50 ] . فعيسى الذي جاء متمماً لشريعة موسى عليهما السلام لم يكن إلا مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، والإنجيل الذي جاء به كان مصدقا لما بين يديه من التوراة فقط , ولكن التوراة التي جاء عيسى متمماً ومصدقاً لها لم تكن مصدقة لما أنزل على إبراهيم أو لوط أو شعيب عليهم السلام , لتباين الشرائع المنزلة , ولأن تصديق الكتب كلها و الهيمنة عليها من خصائص القرآن العظيم. (1) تفسير الطبري ( 6 / 556 ) . (2) تفسير ابن كثير ( 1 / 378 ) . (3) السيرة لابن هشام ( 250 ) . (4) إيثار الحق على الخلق ص 82 . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(78) بقية وجوه الترجيح في المأخوذ له الميثاق الوجه الثالث : أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم عامة , و شريعته دائمة , فناسب أن يؤخذ العهد على الأنبياء ــ إن ظهر في زمانهم ــ أن يؤمنوا به و ينصروه لعموم دعوته التي تشملهم , بخلاف الأنبياء , فقد كان كل واحد منهم يبعث لقومه خاصة , وربما اجتمع في الزمن الواحد نبيان وثلاثة وأكثر , كل نبي في قرية كإبراهيم ولوط , و يعقوب ويوسف , وموسى والخضر عليهما السلام , و لم يثبت أن نبياً اتبع غيره و ترك قومه أو أمرهم بإتباع ذلك النبي , ولولا أن موسى ذهب يطلب الخضر ليتعلم منه بواطن الأمور التي أوحى بها إليه , ما قدر لهما أن يجتمعا , فلا يعقل أن يؤخذ عهد على نبي في نبي آخر لا يلزمه اتباعه و لا الاجتماع به . و لا يرد على هذا قول الله تعالى في شأن زكريا ( فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ ) لأن الملائكة لم يبشروه بيحيى مصدقاً بعيسى باسمه و شخصه , كما بشرت التوراة و الإنجيل بنبينا باسمه ونعته , ولكن مصدقاً بكلمة من الله , أي بعيسى من حيث كانت ولادته آية كما قال الله تعالى (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)[ سورة المؤمنون / 50 ] . و الحكمة في ذلك : الرد على النصارى لأنه إذا كان يحيى , وهو يوحنا المعمدان عندهم , يؤمن بأن عيسى كلمة من الله , أي أوجده بكلمة كن , كان ادعائهم فيه أنه ابن الله أو ثالث باطلاً لا ينبني على أساس. الوجه الرابع: أن الله تعالى أخبر عن كبار الأنبياء أنهم بشروا بنبينا صلى الله عليه وسلم فقد دعا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فقالا ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ )[ سورة البقرة /129 ]. قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية في قوله " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ " يعنى أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقيل له: قد استجيب لك ، وهو كائن في آخر الزمان ، وكذا قال السدى وقتادة(1) وقال تعالى مبيناً بشارة التوراة والإنجيل به صلى الله عليه وسلم: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)[ سورة الأعراف / 157 ] . ولم يأت هذا في شأن نبي غيره، ومن ثم آمن به تبع الأكبر وحبيب النجار وورقة بن نوفل وغيرهم قبل ظهوره،ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره كما قال الزمخشرى. الوجه الخامس: أن الله أمد نبيه بالملائكة يقاتلون معه وينصرونه كما سيأتي وحيث وجب نصره على الملائكة الذين لم يتعبدهم الله بشريعة نبي قبله، لا في قتال، ولا في غيره، فمن المعقول جداً أن يجب نصره على إخوانه الأنبياء. الوجه السادس: أن الله تعالى وصف صحابته في التوراة والإنجيل فقال: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..) [ سورة الفتح / 29 ] فبهذه الوجوه وهى مأخوذة من القرآن تكون آية الميثاق نصاً في نبينا صلى الله عليه وسلم لا تحتمل غيره. وقد ورد على هذا القول إشكال بناء على أن الميثاق قد أخذ على النبيين أنفسهم، وهو أن هذا الرسول ما جاء في عصر أحد منهم وكان الله تعالى يعلم ذلك عند أخذ الميثاق عليهم لأن علمه أزلي أبدى. وأجيب عنه: بأنه مبنى على الفرض، أي إذا فرض أن جاءكم وجب عليكم الإيمان به ونصره، ويكون المراد منه بيان مرتبته صلى الله عليه وسلم مع النبيين إذا فرض أن وجد في عصرهم، وهو أن يكون الرئيس المتبوع لهم، فما قولك إذا في أتباعهم لا سيما بعد زمنهم . وإنما كان له صلى الله عليه وسلم هذا الاختصاص، لأن الله تعالى قضى في سباق علمه بأن يكون هو خاتم النبيين الذي يجئ بالهدى الأخير العام الذي لا يحتاج البشر بعده إلى شئ معه سوى استعمال عقولهم واستقلال أفكارهم وأن يكون ما قبله من الشرائع التي يجيئون بها هداية موقوتة خاصة بقوم دون قوم(2) (1) تفسير ابن كثير ( 1 / 184 ). (2) تفسير المنار ( 3 289 ). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(79) أقوال للعلماء تؤيد الترجيح السابق والقول الذي رجحته وذهبت إليه ليس تفرداً منى: بل إن العلامة الأوسي بعد أن ذكر آراء العلماء حول الآية يقول : " واختار كثير من العلماء القول الأول – وهو ما رجحته وانتهيت إليه- وهو أخذ الميثاق من النبيين له صلى الله عليه وسلم على ما دل عليه قول الإمام على كرم الله تعالى وجهه، مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته لا يمنع من ذلك، لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له صلى الله عليه وسلم والتفخيم، ورفعة الشأن، والتنويه بالذكر، ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب، وتعظيم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان – كما عليه البعض. ويؤيد القول بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به، ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ) (1) وفى معناه أخبار كثيرة وهى تؤيد بظاهرها ما قلنا – ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو النبي المطلق، والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلى الله عليه وسلم" (2) ويعلق العلامة ابن كثير على حديث أبى يعلى السابق بقوله: "وفى بعض الأحاديث: "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي". فالرسول محمد خاتم الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين – هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصص به صلوات الله وسلامه عليه"(3) وللشيخ تقى الدين السبكى استنباط رائع استقاه من هذه الآية يقول الشيخ في كتابه "التعظيم والمنة في "لتؤمنن به ولتنصرنه" (في هذه الآية من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلى ما لا يخفى- وفيه مع ذلك أنه على تقدير مجيئه فى زمانهم يكون مرسلا إليهم، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته ، ويكون قوله:( بعثت إلى الناس كافة ) (4)،لا يختص به الناس في زمانه إلى يوم القيامة بل يتناول من قبلهم أيضا. فانظر هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، من ربه سبحانه وتعالى، فإذا عرفت ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم هو نبي الأنبياء ولهذا ظهر ذلك فى الآخرة ، جميع الأنبياء تحت لوائه، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته ، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل له، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه ــ فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه – وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فهنا لا توقف من جهة الفاعل ولا من جهة ذات النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد فى عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى فى آخر الزمان على شريعته وهو نبي كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتي واحدا من هذه الأمة – نعم هو واحد من هذه الأمة لما قلناه من اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم – وإنما يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة وكل ما فيهما من أمر ونهى فهو متعلق به كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبي كريم على حاله لم ينقص منه شيء، ولذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم فى زمانه أو فى زمن موسى وإبراهيم ونوح وآدم كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم ويتفق مع شرائعهم فى الأصول لأنها لا تختلف – وتقدم شريعته صلى الله عليه وسلم فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ – أو لا نسخ ولا تخصيص – بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى تلك الأمم مما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة هذه الشريعة ــ والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات). ولعمري إنه لاستنباط رائع وفهم جميل. (1)الحديث أخرجه أحمد ( 3 / 387 ) وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني ، قال عنه ابن حجر في التقريب : ( 2 / 237 ) " ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره ، وقال في التنقيح : رجال أحمد رجال الحسن ، وعند أحمد وابن ماجه عن ابن عباس ، وإسناده حسن ، وعند ابن حبان عن جابر أيضا بإسناد صحيح ( بلوغ الآماني ( 1ذ / 175 ) وأخرج طرفا منه أبو نعيم في دلائله ( 1 / 8 ) ، وانظر : تفسير ابن كثير ( 2 / 56 ) . (2) تفسير الألوسي ( 3 / 210 ). (3) تفسير ابن كثير ( 2 / 56 ، 57 ) . (4) أخرجه البخاري ، كتاب الصلاة ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ( جعلت لي الأرض مسجدا ... ) ( 438 ) |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(80) تساؤل والإجابة عليه فإن قيل قال الله تعالى: ( أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )[ سورة الأنعام / 90 ] فهذه الآية قد يشم منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع الأنبياء، وهو ينافى ما قرر سابقاً. فالجواب:- ( بأن هداهم من الله وهو شرعه صلى الله عليه وسلم ، أي الزم شرعك الذى ظهر به نوابك من إقامة الدين وعدم التفرقة فيه ، ولم يقل الله "بهم اقتده" وكذا قال تعالى " ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً" [ سورة النحل / 123 ] وهو الدين فهو صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع الدين، فإن أصل الدين إنما هو من الله تعالى لا من غيره – وأين هذه فى قوله صلى الله عليه وسلم "لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني" فأضاف الاتباع إليه ، وأمر هو صلى الله عليه وسلم باتباع الدين لا باتباع الأنبياء – فإن السلطان الأعظم إذا حضر لا يبقى لنائب من نوابه حكم إلا له، فإذا غاب حكم النواب بمراسيمه فهو الحاكم فى الحقيقة غيبة وشهادة فإنك شمس والملك كواكب إذا ظهرت لم يبد منهن كوكب وأنت مصباح كل فضل فما تصدر إلا عن ضوءك الأضواء هذا وقد حقق القطب الرازى فى حواشية على الكشاف:- "أنه يتعين أن الاقتداء المأمور به ليس إلا فى الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة : كالحلم والصبر والزهد وكثرة الشكر والتضرع ونحوها ، ويكون فى الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل منهم قطعاً ، لتضمنها أن الله تعالى هدى أولئك النبيين عليهم السلام إلى فضائل الأخلاق وصفات الكمال، وحيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدى بهداهم جميعاً، امتنع للعصمة أن يقال إنه لم يمتثل، فلابد أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم قد امتثل وأتى بجميع ذلك وحصل تلك الأخلاق الفاضلة التى في جميعهم، فاجتمع فيه من خصال الكمال ما كان متفرقاً فيهم، وحينئذ يكون أفضل من جميعهم قطعاً كما أنه أفضل من كل واحد منهم، وهو استنباط حسن" ولعله من نافلة القول أن ننقل كلام الخازن، ففيه توضيح وتفصيل لما حققه القطب الرازي. يقول الإمام الخازن:- " احتج العلماء بهذه الآية – أى آية الأنعام السابقة – على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. بيانه: أن جميع خصال الكمال وصفات الشرف كانت متفرقه فيهم، فكان نوح صاحب احتمال على أذى قومه، وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل ومجاهدة فى الله عز وجل، وكان إسحاق ويعقوب من أصحاب الصبر على البلاء والمحن، وكان داود عليه السلام وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة، قال الله فيهم: "اعملوا آل داود شكراً" وكان أيوب صاحب صبر على البلاء، قال الله فيه: "إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب" وكان يوسف قد جمع الحلتين يعنى الصبر والشكر، وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة، وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد فى الدنيا، وكان إسماعيل صاحب صدق، وكان يونس صاحب تضرع وإخبات. ثم إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدى بهم، وجمع له جميع الخصال المحمودة المتفرقة فيهم، فثبت بهذا البيان أنه صلى الله عليه وسلم كان أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال التى كانت متفرقة فى جميعهم والله أعلم (1) لكن قد يقال إن المزية لا تقضى الأفضلية ولذا قال أشياخنا المحققون: إنه وإن كان جامعاً لجميع ما تفرق فى غيره فتفضيله من الله لا بتلك المزايا، فقد فاقهم فضلاً ومزايا(2) (1) تفسير الخازن ( 2 / 157 ) . (2) حاشية الصاوي ص 10 ، 11 . |
الساعة الآن : 01:19 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour