رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 246 الى صــ 252 الحلقة (41) السابعة : أصل خلق الأشياء كلها من الماء لما رواه ابن ماجه في سننه ، وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة قال قلت : يا رسول الله ، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني ، أنبئني عن كل شيء . قال : كل شيء خلق من الماء فقلت : أخبرني عن شيء إذا عملت به دخلت الجنة . قال : أطعم الطعام وأفش السلام ، وصل الأرحام ، وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام . قال أبو حاتم : قول أبي هريرة : " أنبئني عن كل شيء " أراد به عن كل شيء خلق من الماء . والدليل على صحة هذا - جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال : كل شيء خلق من الماء وإن لم يكن مخلوقا . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون ويروى ذلك أيضا عن عبادة بن الصامت مرفوعا . قال البيهقي : وإنما أراد والله أعلم : أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش " القلم " . وذلك بين في حديث عمران بن حصين ، ثم خلق السماوات والأرض . وذكر عبد الرزاق بن عمر بن حبيب المكي [ ص: 246 ] عن حميد بن قيس الأعرج عن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله : مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب . قال الرجل : فمم خلق هؤلاء ؟ قال : لا أدري . قال : ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله ، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو . قال : فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله ، فقال : مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب . قال الرجل : فمم خلق هؤلاء ؟ فتلا عبد الله بن عباس : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم . قال البيهقي : أراد أن مصدر الجميع منه ، أي من خلقه وإبداعه واختراعه . خلق الماء أولا ، أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق ، ثم جعله أصلا لما خلق بعد ، فهو المبدع ، وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه ، سبحانه جل وعز . الثامنة : قوله تعالى : فسواهن سبع سماوات ذكر تعالى أن السماوات سبع . ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى : ومن الأرض مثلهن وقد اختلف فيه ، فقيل : ومن الأرض مثلهن أي في العدد ; لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار ، فتعين العدد . وقيل : ومن الأرض مثلهن أي في غلظهن وما بينهن . وقيل : هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض ، قال الداودي : والصحيح الأول ، وأنها سبع كالسماوات سبع . روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين . وعن عائشة رضي الله عنها مثله ، إلا أن فيه " من " بدل " إلى " . ومن حديث أبي هريرة : لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال موسى عليه السلام يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال موسى يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به قال يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن [ ص: 247 ] غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : هل تدرون ما هذا فقالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه - قال - هل تدرون ما فوقكم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف - ثم قال - هل تدرون كم بينكم وبينها قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام - ثم قال : - هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن فوق ذلك سماءين بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة ثم قال كذلك حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض . ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين - ثم قال : - هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الأرض - ثم قال : - هل تدرون ما تحت ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن تحتها الأرض الأخرى ، بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله - ثم قرأ - هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم . قال أبو عيسى : قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد : لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه . قال : هذا حديث غريب ، والحسن لم يسمع من أبي هريرة والآثار بأن الأرضين سبع كثيرة ، وفيما ذكرنا كفاية . وقد روى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس أنه قال : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم ، وعيسى كعيسى . قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عباس صحيح ، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه دليلا ، والله أعلم . التاسعة : قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض ابتداء وخبر . " ما " في موضع نصب جميعا عند سيبويه نصب على الحال ثم استوى أهل نجد يميلون [ ص: 248 ] ليدلوا على أنه من ذوات الياء ، وأهل الحجاز يفخمون . " سبع " منصوب على البدل من الهاء والنون ، أي فسوى سبع سماوات . ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سماوات ، كما قال الله جل وعز : واختار موسى قومه سبعين رجلا أي من قومه ، قاله النحاس . وقال الأخفش : انتصب على الحال . وهو بكل شيء عليم ابتداء وخبر والأصل في " هو " تحريك الهاء ، والإسكان استخفاف . والسماء تكون واحدة مؤنثة ، مثل عنان ، وتذكيرها شاذ ، وتكون جمعا لسماوة في قول الأخفش ، وسماءة في قول الزجاج ، وجمع الجمع سماوات وسماءات . فجاء سواهن إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس . ومعنى سواهن سوى سطوحهن بالإملاس . وقيل : جعلهن سواء . العاشرة : قوله تعالى : وهو بكل شيء عليم أي بما خلق وهو خالق كل شيء ، فوجب أن يكون عالما بكل شيء ، وقد قال : ألا يعلم من خلق فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته ، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية . وقالت الجهمية : عالم بعلم قائم لا في محل ، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات ، والرد على هؤلاء في كتب الديانات . وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال : أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ، وقال : فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، وقال : فلنقصن عليهم بعلم ، وقال : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ، وقال : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية . وسندل على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر إن شاء الله تعالى . وقرأ الكسائي وقالون عن نافع بإسكان الهاء من : هو وهي ، إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثم ، وكذلك فعل أبو عمرو إلا مع ثم . وزاد أبو عون عن الحلواني عن قالون إسكان الهاء من " أن يمل هو " والباقون بالتحريك . [ ص: 249 ] قوله تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون قوله تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فيه سبع عشرة مسألة : الأولى : قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إذ وإذا حرفا توقيت ، فإذ للماضي ، وإذا للمستقبل ، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى . وقال المبرد : إذا جاء إذ مع مستقبل كان معناه ماضيا ، نحو قوله : وإذ يمكر بك وإذ تقول للذي أنعم الله عليه معناه مكروا ، وإذ قلت . وإذا جاء " إذا " مع الماضي كان معناه مستقبلا ، كقوله تعالى : فإذا جاءت الطامة فإذا جاءت الصاخة و إذا جاء نصر الله أي يجيء . وقال معمر بن المثنى أبو عبيدة : " إذ " زائدة ، والتقدير : وقال ربك ، واستشهد بقول الأسود بن يعفر : فإذ وذلك لا مهاة لذكره والدهر يعقب صالحا بفساد وأنكر هذا القول الزجاج والنحاس وجميع المفسرين . قال النحاس : وهذا خطأ ; لأن " إذ " اسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد . وقال الزجاج : هذا اجترام من أبي عبيدة ، ذكر الله عز وجل خلق الناس وغيرهم ، فالتقدير وابتدأ خلقكم إذ قال ، فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام ، كما قال : فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما يريد أينما ذهب . ويحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال . وقيل : هو مردود إلى قوله تعالى : اعبدوا ربكم الذي خلقكم فالمعنى الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة . وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم . [ ص: 250 ] وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته . وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي . وقد أتينا عليه في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفات الله العلا . والرب : المالك والسيد والمصلح والجابر ، وقد تقدم بيانه . الثانية : قوله تعالى : " للملائكة " الملائكة واحدها ملك . قال ابن كيسان وغيره : وزن ملك فعل من الملك . وقال أبو عبيدة ، هو مفعل من لأك إذا أرسل . والألوكة والمألكة والمألكة : الرسالة ، قال لبيد : وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل وقال آخر : أبلغ النعمان عني مألكا إنني قد طال حبسي وانتظاري ويقال : ألكني أي أرسلني ، فأصله على هذا مألك ، الهمزة فاء الفعل فإنهم قلبوها إلى عينه فقالوا : ملأك ، ثم سهلوه فقالوا ملك . وقيل أصله ملأك من ملك يملك ، نحو شمأل من شمل ، فالهمزة زائدة عن ابن كيسان أيضا ، وقد تأتي في الشعر على الأصل ، قال الشاعر : فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب وقال النضر بن شميل . لا اشتقاق للملك عند العرب . والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع ، ومثله الصلادمة . والصلادم : الخيل الشداد ، واحدها صلدم . وقيل : هي للمبالغة ، كعلامة ونسابة . وقال أرباب المعاني : خاطب الله الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس ، ثم ردهم إلى قيمتهم ، فقال عز وجل : اسجدوا لآدم . الثالثة : قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة جاعل هنا بمعنى خالق ، ذكره الطبري عن أبي روق ، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد ، وقد تقدم . والأرض قيل إنها مكة . روى ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دحيت الأرض من مكة ولذلك سميت أم [ ص: 251 ] القرى ، قال : وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام . وخليفة يكون بمعنى فاعل ، أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض ، أو من كان قبله من غير الملائكة على ما روي . ويجوز أن يكون " خليفة " بمعنى مفعول أي مخلف ، كما يقال : ذبيحة بمعنى مفعولة . والخلف ( بالتحريك ) من الصالحين ، وبتسكينها من الطالحين ، هذا هو المعروف ، وسيأتي له مزيد بيان في " الأعراف " إن شاء الله . و " خليفة " بالفاء قراءة الجماعة ، إلا ما روي عن زيد بن علي فإنه قرأ " خليقة " بالقاف . والمعني بالخليفة هنا - في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل - آدم عليه السلام ، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره ; لأنه أول رسول إلى الأرض ، كما في حديث أبي ذر ، قال قلت : يا رسول الله أنبيا كان مرسلا ؟ قال : ( نعم ) الحديث ويقال : لمن كان رسولا ولم يكن في الأرض أحد ؟ فيقال : كان رسولا إلى ولده ، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى ، وتوالدوا حتى كثروا ، كما قال الله تعالى : خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء . وأنزل عليهم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير . وعاش تسعمائة وثلاثين سنة ، هكذا ذكر أهل التوراة وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة ، والله أعلم . الرابعة : هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع ، لتجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة . ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم ، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه ، قال : إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك ، وأن الأمة متى أقاموا حججهم وجهادهم ، وتناصفوا فيما بينهم ، وبذلوا الحق من أنفسهم ، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها ، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه ، أجزأهم ذلك ، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك . ودليلنا قول الله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة ، وقوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، وقال : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض أي يجعل منهم خلفاء ، إلى غير ذلك من الآي . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 253 الى صــ 258 الحلقة (42) وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين ، حتى قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك ، وقالوا لهم : إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ، ورووا [ ص: 252 ] لهم الخبر في ذلك ، فرجعوا وأطاعوا لقريش . فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها ، ولقال قائل : إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم ، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك ، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين ، والحمد لله رب العالمين . وقالت الرافضة : يجب نصبه عقلا ، وإن السمع إنما ورد على جهة التأكيد لقضية العقل ، فأما معرفة الإمام فإن ذلك مدرك من جهة السمع دون العقل . وهذا فاسد ; لأن العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يقبح ولا يحسن ، وإذا كان كذلك ثبت أنها واجبة من جهة الشرع لا من جهة العقل ، وهذا واضح . فإن قيل وهي : الخامسة : إذا سلم أن طريق وجوب الإمامة السمع ، فخبرونا هل يجب من جهة السمع بالنص على الإمام من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أم من جهة اختيار أهل الحل والعقد له ، أم بكمال خصال الأئمة فيه ، ودعاؤه مع ذلك إلى نفسه كاف فيه ؟ فالجواب أن يقال : اختلف الناس في هذا الباب ، فذهبت الإمامية وغيرها إلى أن الطريق الذي يعرف به الإمام هو النص من الرسول عليه السلام ولا مدخل للاختيار فيه . وعندنا : النظر طريق إلى معرفة الإمام ، وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضا إليه ، وهؤلاء الذين قالوا لا طريق إليه إلا النص بنوه على أصلهم أن القياس والرأي والاجتهاد باطل لا يعرف به شيء أصلا ، وأبطلوا القياس أصلا وفرعا . ثم اختلفوا على ثلاث فرق : فرقة تدعي النص على أبي بكر ، وفرقة تدعي النص على العباس ، وفرقة تدعي النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنهم . والدليل على فقد النص وعدمه على إمام بعينه هو أنه صلى الله عليه وسلم لو فرض على الأمة طاعة إمام بعينه بحيث لا يجوز العدول عنه إلى غيره لعلم ذلك ، لاستحالة تكليف الأمة بأسرها طاعة الله في غير معين ، ولا سبيل لهم إلى العلم بذلك التكليف ، وإذا وجب العلم به لم يخل ذلك العلم من أن يكون طريقه أدلة العقول أو الخبر ، وليس في العقل ما يدل على ثبوت الإمامة لشخص معين ، وكذلك ليس في الخبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معين ; لأن ذلك الخبر إما أن يكون تواترا أوجب العلم ضرورة أو استدلالا ، أو يكون من أخبار الآحاد ، ولا يجوز أن يكون طريقه التواتر الموجب للعلم ضرورة أو دلالة ، إذ لو كان كذلك لكان كل مكلف يجد من نفسه [ ص: 253 ] العلم بوجوب الطاعة لذلك المعين وأن ذلك من دين الله عليه ، كما أن كل مكلف علم أن من دين الله الواجب عليه خمس صلوات ، وصوم رمضان ، وحج البيت ونحوها ، ولا أحد يعلم ذلك من نفسه ضرورة ، فبطلت هذه الدعوى ، وبطل أن يكون معلوما بأخبار الآحاد لاستحالة وقوع العلم به . وأيضا فإنه لو وجب المصير إلى نقل النص على الإمام بأي وجه كان ، وجب إثبات إمامة أبي بكر والعباس ; لأن لكل واحد منهما قوما ينقلون النص صريحا في إمامته ، وإذا بطل إثبات الثلاثة بالنص في وقت واحد - على ما يأتي بيانه - كذلك الواحد ; إذ ليس أحد الفرق أولى بالنص من الآخر . وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد . فإن تعسف متعسف وادعى التواتر والعلم الضروري بالنص فينبغي أن يقابلوا على الفور بنقيض دعواهم في النص على أبي بكر وبأخبار في ذلك كثيرة تقوم أيضا في جملتها مقام النص ، ثم لا شك في تصميم من عدا الإمامية على نفي النص ، وهم الخلق الكثير والجم الغفير . والعلم الضروري لا يجتمع على نفيه من ينحط عن معشار أعداد مخالفي الإمامية ، ولو جاز رد الضروري في ذلك لجاز أن ينكر طائفة بغداد والصين الأقصى وغيرهما . السادسة : في رد الأحاديث التي احتج بها الإمامية في النص على علي رضي الله عنه ، وأن الأمة كفرت بهذا النص وارتدت ، وخالفت أمر الرسول عنادا ، منها قوله عليه السلام : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . قالوا : والمولى في اللغة بمعنى أولى ، فلما قال : فعلي مولاه بفاء التعقيب علم أن المراد بقوله " مولى " أنه أحق وأولى . فوجب أن يكون أراد بذلك الإمامة وأنه مفترض الطاعة ، وقوله عليه السلام لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . قالوا : ومنزلة هارون معروفة ، وهو أنه كان مشاركا له في النبوة ولم يكن ذلك لعلي ، وكان أخا له ولم يكن ذلك لعلي ، وكان خليفة ، فعلم أن المراد به الخلافة ، إلى غير ذلك مما احتجوا به على ما يأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى . والجواب عن الحديث الأول : أنه ليس بمتواتر ، وقد اختلف في صحته ، وقد طعن فيه [ ص: 254 ] أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي ، واستدلا على بطلانه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مزينة وجهينة وغفار وأسلم موالي دون الناس كلهم ليس لهم مولى دون الله ورسوله . قالوا : فلو كان قد قال : من كنت مولاه فعلي مولاه لكان أحد الخبرين كذبا . جواب ثان : وهو أن الخبر وإن كان صحيحا رواه ثقة عن ثقة فليس فيه ما يدل على إمامته ، وإنما يدل على فضيلته ، وذلك أن المولى بمعنى الولي ، فيكون معنى الخبر : من كنت وليه فعلي وليه ، قال الله تعالى : فإن الله هو مولاه أي وليه . وكان المقصود من الخبر أن يعلم الناس أن ظاهر علي كباطنه ، وذلك فضيلة عظيمة لعلي . جواب ثالث : وهو أن هذا الخبر ورد على سبب ، وذلك أن أسامة وعليا اختصما ، فقال علي لأسامة : أنت مولاي . فقال : لست مولاك ، بل أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه . جواب رابع : وهو أن عليا عليه السلام لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك في عائشة رضي الله عنها : النساء سواها كثير . شق ذلك عليها ، فوجد أهل النفاق مجالا فطعنوا عليه وأظهروا البراءة منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا المقال ردا لقولهم ، وتكذيبا لهم فيما قدموا عليه من البراءة منه والطعن فيه ، ولهذا ما روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا : ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم لعلي عليه السلام . وأما الحديث الثاني فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بمنزلة هارون من موسى الخلافة بعده ، ولا خلاف أن هارون مات قبل موسى عليهما السلام - على ما يأتي من بيان وفاتيهما في سورة " المائدة " - وما كان خليفة بعده وإنما كان الخليفة يوشع بن نون ، فلو أراد بقوله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى - الخلافة لقال : أنت مني بمنزلة يوشع من موسى ، فلما لم يقل هذا دل على أنه لم يرد هذا ، وإنما أراد أني استخلفتك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي ، كما كان هارون خليفة موسى على قومه لما خرج إلى مناجاة ربه . وقد قيل : إن هذا الحديث خرج على سبب ، وهو [ ص: 255 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليا عليه السلام في المدينة على أهله وقومه ، فأرجف به أهل النفاق وقالوا : إنما خلفه بغضا وقلى له ، فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال له : إن المنافقين قالوا كذا وكذا فقال : كذبوا بل خلفتك كما خلف موسى هارون . وقال : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى . وإذا ثبت أنه أراد الاستخلاف على زعمهم فقد شارك عليا في هذه الفضيلة غيره ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في كل غزاة غزاها رجلا من أصحابه ، منهم : ابن أم مكتوم ، ومحمد بن مسلمة وغيرهما من أصحابه ، على أن مدار هذا الخبر على سعد بن أبي وقاص وهو خبر واحد . وروي في مقابلته لأبي بكر وعمر ما هو أولى منه . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنفذ معاذ بن جبل إلى اليمن قيل له : ألا تنفذ أبا بكر وعمر ؟ فقال : إنهما لا غنى بي عنهما إن منزلتهما مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس . وقال : هما وزيراي في أهل الأرض . وروي عنه عليه السلام أنه قال : أبو بكر وعمر بمنزلة هارون من موسى . وهذا الخبر ورد ابتداء ، وخبر علي ورد على سبب ، فوجب أن يكون أبو بكر أولى منه بالإمامة ، والله أعلم . السابعة : واختلف فيما يكون به الإمام إماما وذلك في ثلاث طرق ، أحدها : النص ، وقد تقدم الخلاف فيه ، وقال به أيضا الحنابلة وجماعة من أصحاب الحديث والحسن البصري وبكر ابن أخت عبد الواحد وأصحابه وطائفة من الخوارج . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بالإشارة ، وأبو بكر على عمر . فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل [ ص: 256 ] الصديق ، أو على جماعة كما فعل عمر ، وهو الطريق الثاني ، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيينعثمان بن عفان رضي الله عنه . الطريق الثالث : إجماع أهل الحل والعقد ، وذلك أن الجماعة في مصر من أمصار المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام ولا استخلف فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الإمام وموضعه إماما لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه فإن كل من خلفهم وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام ، إذا لم يكن الإمام معلنا بالفسق والفساد ; لأنها دعوة محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن : إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة ومناصحة ولاة الأمر فإن دعوة المسلمين من ورائهم محيطة . الثامنة : فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله ، خلافا لبعض الناس حيث قال : لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد ، ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك ، ولأنه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود . قال الإمام أبو المعالي : من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت ، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر ، قال : وهذا مجمع عليه . التاسعة : فإن تغلب من له أهلية الإمامة وأخذها بالقهر والغلبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقا رابعا ، وقد سئل سهل بن عبد الله التستري : ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام ؟ قال : تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك من حقه ، ولا تنكر فعاله ولا تفر منه وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لم تفشه . وقال ابن خويز منداد : ولو وثب على الأمر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة ، والله أعلم . العاشرة : واختلف في الشهادة على عقد الإمامة ، فقال بعض أصحابنا : إنه لا يفتقر إلى الشهود ; لأن الشهادة لا تثبت إلا بسمع قاطع ، وليس هاهنا سمع قاطع يدل على إثبات الشهادة . ومنهم من قال : يفتقر إلى شهود ، فمن قال بهذا احتج بأن قال : لو لم تعقد فيه [ ص: 257 ] الشهادة أدى إلى أن يدعي كل مدع أنه عقد له سرا ، وتؤدي إلى الهرج والفتنة ، فوجب أن تكون الشهادة معتبرة ويكفي فيها شاهدان ، خلافا للجبائي حيث قال باعتبار أربعة شهود وعاقد ومعقود له ; لأن عمر حيث جعلها شورى في ستة دل على ذلك . ودليلنا أنه لا خلاف بيننا وبينه أن شهادة الاثنين معتبرة ، وما زاد مختلف فيه ولم يدل عليه الدليل فيجب ألا يعتبر . الحادية عشرة : في شرائط الإمام ، وهي أحد عشر : الأول : أن يكون من صميم قريش ، لقوله صلى الله عليه وسلم : الأئمة من قريش . وقد اختلف في هذا . الثاني : أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث ، وهذا متفق عليه . الثالث : أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة وردع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم . الرابع : أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار والدليل على هذا كله إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، لأنه لا خلاف بينهم أنه لا بد من أن يكون ذلك كله مجتمعا فيه ، ولأنه هو الذي يولي القضاة والحكام ، وله أن يباشر الفصل والحكم ، ويتفحص أمور خلفائه وقضاته ، ولن يصلح لذلك كله إلا من كان عالما بذلك كله قيما به . والله أعلم . الخامس : أن يكون حرا ، ولا خفاء باشتراط حرية الإمام ، وإسلامه وهو السادس . السابع : أن يكون ذكرا ، سليم الأعضاء وهو الثامن . وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه . التاسع والعاشر : أن يكون بالغا عاقلا ، ولا خلاف في ذلك . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 259 الى صــ 264 الحلقة (43) الحادي عشر : أن يكون عدلا ; لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق ، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم ، لقوله عليه السلام : أئمتكم شفعاؤكم [ ص: 258 ] فانظروا بمن تستشفعون . وفي التنزيل في وصف طالوت : إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدل على القوة وسلامة الأعضاء . وقوله : اصطفاه معناه اختاره ، وهذا يدل على شرط النسب . وليس من شرطه أن يكون معصوما من الزلل والخطأ ، ولا عالما بالغيب ، ولا أفرس الأمة ولا أشجعهم ، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قريش ، فإن الإجماع قد انعقد على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وليسوا من بني هاشم . الثانية عشرة : يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة ، وذلك أن الإمام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل واستخراج الحقوق وإقامة الحدود وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على أهلها . فإذا خيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد وتعطيل الأمور التي لأجلها ينصب الإمام كان ذلك عذرا ظاهرا في العدول عن الفاضل إلى المفضول ، ويدل على ذلك أيضا علم عمر وسائر الأمة وقت الشورى بأن الستة فيهم فاضل ومفضول ، وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدى المصلحة إلى ذلك واجتمعت كلمتهم عليه من غير إنكار أحد عليهم ، والله أعلم . الثالثة عشرة : الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور : إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم ، لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره ، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها . فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله ، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له ، وكذلك هذا مثله . وقال آخرون : لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شيء من الشريعة ، لقوله عليه السلام في حديث عبادة : وألا ننازع الأمر أهله قال : إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان . وفي حديث عوف بن مالك : لا ما أقاموا [ ص: 259 ] فيكم الصلاة الحديث . أخرجهما مسلم . وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع - قالوا : يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : - لا ما صلوا . أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه . أخرجه أيضا مسلم . الرابعة عشرة : ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الإمامة . فأما إذا لم يجد نقصا فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره ؟ اختلف الناس فيه ، فمنهم من قال : ليس له أن يفعل ذلك وإن فعل لم تنخلع إمامته . ومنهم من قال : له أن يفعل ذلك . والدليل على أن الإمام إذا عزل نفسه انعزل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أقيلوني أقيلوني . وقول الصحابة : لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فلا نرضاك فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه ولقالت له : ليس لك أن تقول هذا ، وليس لك أن تفعله . فلما أقرته الصحابة على ذلك علم أن للإمام أن يفعل ذلك ، ولأن الإمام ناظر للغيب فيجب أن يكون حكمه حكم الحاكم ، والوكيل إذا عزل نفسه . فإن الإمام هو وكيل الأمة ونائب عنها ، ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شيء له أن يعزل نفسه ، وكذلك الإمام يجب أن يكون مثله . والله أعلم . الخامسة عشرة : إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة ، وإقامة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر ، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر ، لئلا تفترق كلمة المسلمين . وإذا بويع لخليفتين فالخليفة الأول وقتل الآخر ، واختلف في قتله هل هو محسوس أو معنى فيكون عزله قتله وموته . والأول أظهر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما . رواه أبو سعيد الخدري أخرجه مسلم . وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول : ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر . رواه [ ص: 260 ] مسلم أيضا ، ومن حديث عرفجة : فاضربوه بالسيف كائنا من كان . وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين ، ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم ، لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . السادسة عشرة : لو خرج خارجي على إمام معروف العدالة وجب على الناس جهاده ، فإن كان الإمام فاسقا ، والخارجي مظهر للعدل لم ينبغ للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارجي حتى يتبين أمره فيما يظهر من العدل ، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الأول ، وذلك أن كل من طلب مثل هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح حتى إذا تمكن رجع إلى عادته من خلاف ما أظهر . السابعة عشرة : فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعا لما ذكرنا . قال الإمام أبو المعالي : ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم ، ثم قالوا : لو اتفق عقد الإمامة لشخصين نزل ذلك منزلة تزويج وليين امرأة واحدة من زوجين من غير أن يشعر أحدهما بعقد الآخر . قال : والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف - غير جائز وقد حصل الإجماع عليه . فأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع . وكان الأستاذ أبو إسحاق يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم . وذهبت الكرامية إلى جواز نصب إمامين من غير تفصيل ، ويلزمهم إجازة ذلك في بلد واحد ، وصاروا إلى أن عليا ومعاوية كانا إمامين . قالوا : وإذا كانا اثنين في بلدين أو ناحيتين كان كل واحد منهما أقوم بما في يديه وأضبط لما يليه ، ولأنه لما جاز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى ، ولا يؤدي ذلك إلى إبطال الإمامة . والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه ، لقوله : فاقتلوا الآخر منهما ولأن الأمة عليه . وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة . ومما يدل على هذا إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما ، ولا قال أحدهما إني إمام ومخالفي إمام . فإن قالوا : العقل لا يحيل ذلك وليس في السمع ما يمنع منه . قلنا : أقوى السمع الإجماع ، وقد وجد على المنع . [ ص: 261 ] قوله تعالى : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها قد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعلمت ولا تسبق بالقول ، وذلك عام في جميع الملائكة ; لأن قوله : لا يسبقونه بالقول خرج على جهة المدح لهم ، فكيف قالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها " ؟ فقيل : المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد ; إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد ، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية ، فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييبا لقلوبهم : إني أعلم وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء ، وكشف لهم عن مكنون علمه . وقيل : إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء . وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء ، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورءوس الجبال ، فمن حينئذ دخلته العزة . فجاء قولهم : أتجعل فيها على جهة الاستفهام المحض : هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا ؟ قال أحمد بن يحيى ثعلب . وقال ابن زيد وغيره : إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، فقالوا لذلك هذه المقالة ، إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا : الاستخلاف والعصيان . وقال قتادة : كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقا أفسدوا وسفكوا الدماء ، فسألوا حين قال تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة أهو الذي أعلمهم أم غيره . وهذا قول حسن ، رواه عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله أتجعل فيها من يفسد فيها قال : كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فلذلك قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها . وفي الكلام حذف على مذهبه ، والمعنى أني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا ويفعل كذا ، فقالوا : أتجعل فيها الذي أعلمتناه أم غيره ؟ والقول الأول أيضا حسن جدا ; لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء ، وما بين القولين حسن ، فتأمله . وقد قيل : إن سؤاله تعالى للملائكة بقوله : ( كيف تركتم عبادي ) - على ما ثبت في صحيح مسلم وغيره - إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال : أتجعل فيها ، وإظهار لما سبق في معلومه إذ قال لهم : إني أعلم ما لا تعلمون . قوله : من يفسد فيها " من " في موضع نصب على المفعول ب " تجعل " والمفعول الثاني [ ص: 262 ] يقوم مقامه فيها . يفسد على اللفظ ، ويجوز في غير القرآن يفسدون على المعنى . وفي التنزيل : ومنهم من يستمع إليك على اللفظ ، ومنهم من يستمعون على المعنى . ويسفك عطف عليه ، ويجوز فيه الوجهان . وروى أسيد عن الأعرج أنه قرأ : " ويسفك الدماء " بالنصب ، يجعله جواب الاستفهام بالواو كما قال الحطيئة : ألم أك جاركم وتكون بيني وبينكم المودة والإخاء والسفك : الصب . سفكت الدم أسفكه سفكا : صببته ، وكذلك الدمع ، حكاه ابن فارس والجوهري . والسفاك : السفاح ، وهو القادر على الكلام . قال المهدوي : ولا يستعمل السفك إلا في الدم ، وقد يستعمل في نثر الكلام يقال سفك الكلام إذا نثره . وواحد الدماء دم ، محذوف اللام . وقيل : أصله دمي . وقيل دمي ، ولا يكون اسم على حرفين إلا وقد حذف منه ، والمحذوف منه ياء وقد نطق به على الأصل ، قال الشاعر : فلو أنا على حجر ذبحنا جرى الدميان بالخبر اليقين قوله تعالى : ونحن نسبح بحمدك أي ننزهك عما لا يليق بصفاتك . والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على وجه التعظيم ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة : أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر أي براءة من علقمة . وروى طلحة بن عبيد الله قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله فقال : ( هو تنزيه الله عز وجل عن كل سوء ) . وهو مشتق من السبح وهو الجري والذهاب ، قال الله تعالى : إن لك في النهار سبحا طويلا فالمسبح جار في تنزيه الله تعالى وتبرئته من السوء . وقد تقدم الكلام في " نحن " ، ولا يجوز إدغام النون في النون لئلا يلتقي ساكنان . مسألة : واختلف أهل التأويل في تسبيح الملائكة ، فقال ابن مسعود وابن عباس : تسبيحهم صلاتهم ، ومنه قول الله تعالى : فلولا أنه كان من المسبحين أي المصلين . وقيل : تسبيحهم رفع الصوت بالذكر ، قاله المفضل ، واستشهد بقول جرير : قبح الإله وجوه تغلب كلما سبح الحجيج وكبروا إهلالا وقال قتادة : تسبيحهم : سبحان الله ، على عرفه في اللغة ، وهو الصحيح لما رواه أبو [ ص: 263 ] ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ قال : ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده . أخرجه مسلم . وعن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا : سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى . ذكره البيهقي . قوله تعالى بحمدك أي وبحمدك نخلط التسبيح بالحمد ونصله به . والحمد : الثناء ، وقد تقدم . ويحتمل أن يكون قولهم : " بحمدك " اعتراضا بين الكلامين ، كأنهم قالوا : ونحن نسبح ونقدس ، ثم اعترضوا على جهة التسليم ، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك . والله أعلم . قوله تعالى : ونقدس لك أي نعظمك ونمجدك ونطهر ذكرك عما لا يليق بك مما نسبك إليه الملحدون ، قال مجاهد وأبو صالح وغيرهما . وقال الضحاك وغيره : المعنى نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك وقال قوم منهم قتادة : نقدس لك معناه نصلي . والتقديس : الصلاة . قال ابن عطية : وهذا ضعيف . قلت : بل معناه صحيح ، فإن الصلاة تشتمل على التعظيم والتقديس والتسبيح ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده : سبوح قدوس رب الملائكة والروح . روته عائشة أخرجه مسلم . وبناء " قدس " كيفما تصرف فإن معناه التطهير ، ومنه قوله تعالى : ادخلوا الأرض المقدسة أي المطهرة . وقال : الملك القدوس يعني الطاهر ، ومثله : بالواد المقدس طوى وبيت المقدس سمي به لأنه المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب أي يتطهر ، ومنه قيل للسطل : قدس ; لأنه يتوضأ فيه ويتطهر ، ومنه القادوس . وفي الحديث : لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها . يريد لا طهرها الله ، أخرجه ابن ماجه في سننه . فالقدس : الطهر من غير خلاف ، وقال الشاعر : [ ص: 264 ] فأدركنه يأخذن بالساق والنسا كما شبرق الولدان ثوب المقدس أي المطهر . فالصلاة طهرة للعبد من الذنوب ، والمصلي يدخلها على أكمل الأحوال لكونها أفضل الأعمال ، والله أعلم . قوله تعالى : قال إني أعلم ما لا تعلمون " أعلم " فيه تأويلان ، قيل : إنه فعل مستقبل . وقيل : إنه اسم بمعنى فاعل ، كما يقال : الله أكبر ، بمعنى كبير ، وكما قال : لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول فعلى أنه فعل تكون ما في موضع نصب ب " أعلم " ، ويجوز إدغام الميم في الميم . وإن جعلته اسما بمعنى عالم تكون ما في موضع خفض بالإضافة . قال ابن عطية : ولا يصح فيه الصرف بإجماع من النحاة ، وإنما الخلاف في " أفعل " إذا سمي به وكان نكرة ، فسيبويه والخليل لا يصرفانه ، والأخفش يصرفه . قال المهدوي : يجوز أن تقدر التنوين في " أعلم " إذا قدرته بمعنى عالم ، وتنصب " ما " به ، فيكون مثل حواج بيت الله . قالالجوهري : ونسوة حواج بيت الله ، بالإضافة إذا كن قد حججن ، وإن لم يكن حججن قلت : حواج بيت الله ، فتنصب البيت ، لأنك تريد التنوين في حواج . قوله تعالى ما لا تعلمون اختلف علماء التأويل في المراد بقوله تعالى : ما لا تعلمون . فقال ابن عباس : كان إبليس - لعنه الله - قد أعجب ودخله الكبر لما جعله خازن السماء وشرفه ، فاعتقد أن ذلك لمزية له ، فاستخف الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام . وقالت الملائكة : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك ، فقال الله تعالى لهم : إني أعلم ما لا تعلمون وقال قتادة : لما قالت الملائكة أتجعل فيها وقد علم الله أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم إني أعلم ما لا تعلمون . قلت : ويحتمل أن يكون المعنى إني أعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن ، فهو عام . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 271 الى صــ 275 الحلقة (45) قوله تعالى : قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قوله تعالى : قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : سبحانك أي تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك . وهذا جوابهم عن قوله : أنبئوني فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا . وما في ما علمتنا بمعنى الذي ، أي إلا الذي علمتنا ، ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا . الثانية : الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم : الله أعلم ولا أدري ، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء ، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون . وأما ما ورد من الأخبار [ ص: 271 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروى البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي البقاع شر ؟ قال : لا أدري حتى أسأل جبريل فسأل جبريل ، فقال : لا أدري حتى أسأل ميكائيل ، فجاء فقال : خير البقاع المساجد ، وشرها الأسواق . وقال الصديق للجدة : ارجعي حتى أسأل الناس . وكان علي يقول : وابردها على الكبد ، ثلاث مرات . قالوا : وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول : الله أعلم . وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال : لا علم لي بها ، فلما أدبر الرجل . قال ابن عمر : نعم ما قال ابن عمر ، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به ذكره الدارمي في مسنده . وفي صحيح مسلم عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية قال : كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد ، فقال يحيى للقاسم : يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن يسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج ، أو علم ولا مخرج ؟ فقال له القاسم : وعم ذاك ؟ قال : لأنك ابن إمامي هدى : ابن أبي بكر وعمر . قال يقول له القاسم : أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة . فسكت فما أجابه . وقال مالك بن أنس : سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلا في أيديهم ، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال : لا أدري . وذكر الهيثم بن جميل قال : شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري . قلت : ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين . وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم . قال ابن عبد البر : من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه ، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم . روى يونس بن عبد الأعلى قال : سمعت ابن وهب يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف . قلت : هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عم فينا الفساد وكثر فيه الطغام وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية ، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن ، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى . [ ص: 272 ] أين هذا مما روي عن عمر رضي الله عنه وقد قال : لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي العصبة - يعني يزيد بن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال ، فقامت امرأة من صوب النساء طويلة فيها فطس فقالت : ما ذلك لك قال : ولم ؟ قالت لأن الله عز وجل يقول : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ وروى وكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : سأل رجل عليا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها ، فقال الرجل : ليس كذلك يا أمير المومنين ، ولكن كذا وكذا ، فقال علي : أصبت وأخطأت ، وفوق كل ذي علم عليم . وذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال : لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد ، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس ، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد ، فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قدم عليه قوم من مضر من مجتابي النمار فقال : إنما هو مجتابي الثمار ، فقلت : إنما هو " مجتابي النمار " ، هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق ، فقال لي : بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا أو نحو هذا . ثم قال لي : قم بنا إلى ذلك الشيخ - لشيخ كان في المسجد - فإن له بمثل هذا علما ، فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال : إنما هو " مجتابي النمار " - كما قلت - وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة ، جيوبهم أمامهم . والنمار جمع نمرة . فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه : رغم أنفي للحق ، رغم أنفي للحق . وانصرف . وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأحسن : إذا ما تحدثت في مجلس تناهى حديثي إلى ما علمت ولم أعد علمي إلى غيره وكان إذا ما تناهى سكت الثالثة : قوله تعالى : سبحانك " سبحان " منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه ، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا . وقال الكسائي : هو منصوب على أنه نداء مضاف . إنك أنت العليم فعيل للمبالغة والتكبير في المعلومات في خلق الله تعالى . الحكيم معناه الحاكم ، وبينهما مزيد المبالغة . وقيل معناه المحكم ويجيء الحكيم على هذا من صفات الفعل ، صرف عن مفعل إلى فعيل ، كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم ، قاله ابن الأنباري . وقال قوم : الحكيم المانع من الفساد ، ومنه سميت حكمة اللجام ; لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد . قال جرير : [ ص: 273 ] أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا أي امنعوهم من الفساد . وقال زهير : القائد الخيل منكوبا دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقا القد : الجلد . والأبق : القنب . والعرب تقول : أحكم اليتيم عن كذا وكذا ، يريدون منعه . والسورة المحكمة : الممنوعة من التغيير وكل التبديل ، وأن يلحق بها ما يخرج عنها ، ويزاد عليها ما ليس منها ، والحكمة من هذا ; لأنها تمنع صاحبها من الجهل . ويقال : أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد . فهو محكم وحكيم على التكثير . قوله تعالى : قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قوله تعالى : قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : أنبئهم بأسمائهم أمره الله أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه ، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه . فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له ، مختصا بالعلم . الثانية : في هذه الآية دليل على فضل العلم وأهله ، وفي الحديث : وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من [ ص: 274 ] بين سائر عيال الله ; لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدبت بذلك الأدب . فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له وتواضعت وتذللت إعظاما للعلم وأهله ، ورضا منهم بالطلب له والشغل به . هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربانيين منهم جعلنا الله منهم وفيهم ، إنه ذو فضل عظيم . الثالثة : اختلف العلماء من هذا الباب ، أيما أفضل ؟ الملائكة أو بنو آدم على قولين : فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة ، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة . وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل . احتج من فضل الملائكة بأنهم عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . وقوله : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون وقوله : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك . وفي البخاري : ( يقول الله عز وجل : من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ) . وهذا نص . احتج من فضل بني آدم بقوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية بالهمز ، من برأ الله الخلق . وقوله عليه السلام : وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم الحديث . أخرجه أبو داود ، وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة ، ولا يباهي إلا بالأفضل ، والله أعلم . [ ص: 275 ] وقال بعض العلماء : ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة ، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم ، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة ، وليس هاهنا شيء من ذلك خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر رحمه الله حيث قالوا : الملائكة أفضل . قال : وأما من قال من أصحابنا والشيعة : إن الأنبياء أفضل لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، فيقال لهم : المسجود له لا يكون أفضل من الساجد ، ألا ترى أن الكعبة مسجود لها والأنبياء والخلق يسجدون نحوها ، ثم إن الأنبياء خير من الكعبة باتفاق الأمة . ولا خلاف أن السجود لا يكون إلا لله تعالى ; لأن السجود عبادة ، والعبادة لا تكون إلا لله ، فإذا كان كذلك فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد ، وهذا واضح . وسيأتي له مزيد بيان في الآية بعد هذا . الرابعة : قوله تعالى : إني أعلم غيب السماوات والأرض دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالأنبياء أو من من أعلمه الله تعالى فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة . وسيأتي بيان هذا في " الأنعام " إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو وما كنتم تكتمون قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير : المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية . قال ابن عطية : وجاء تكتمون للجماعة ، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها ، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم : أنتم فعلتم كذا . أي منكم فاعله ، وهذا مع قصد تعنيف ، ومنه قوله تعالى : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون وإنما ناداه منهم عيينة ، وقيل الأقرع . وقالت طائفة : الإبداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع . وقال مهدي بن ميمون : كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دينار ما الذي كتمت الملائكة ؟ قال : إن الله عز وجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا ، وكأنهم دخلهم من ذلك شيء ، قال : ثم أقبل بعضهم على بعض وأسروا ذلك بينهم ، فقالوا : وما يهمكم من هذا المخلوق إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم [ ص: 276 ] عليه منه . وما في قوله : ما تبدون يجوز أن ينتصب ب " أعلم " على أنه فعل ، ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به ما فيكون مثل حواج بيت الله ، وقد تقدم . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 276 الى صــ 281 الحلقة (46) قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين الثالثة : استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة : اسجدوا لآدم . قالوا : وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم . فيه عشر مسائل : الأولى : قوله تعالى : وإذ قلنا أي واذكر . وأما قول أبي عبيدة : إن إذ زائدة فليس بجائز ; لأن إذ ظرف وقد تقدم . وقال : قلنا ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره . والملائكة جمع ملك ، وروي عن أبي جعفر بن القعقاع أنه ضم تاء التأنيث من الملائكة إتباعا لضم الجيم في اسجدوا . ونظيره الحمد لله . الثانية قوله تعالى : اسجدوا لآدم السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع ، قال الشاعر : بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر الأكم : الجبال الصغار . جعلها سجدا للحوافر لقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها . وعين ساجدة ، أي فاترة عن النظر ، وغايته وضع الوجه بالأرض . قال ابن فارس : سجد إذا تطامن ، وكل ما سجد فقد ذل . والإسجاد : إدامة النظر . قال أبو عمرو : وأسجد إذا طأطأ رأسه ، قال حميد بن ثور : فضول أزمتها أسجدت سجود النصارى لأحبارها قال أبو عبيدة : وأنشدني أعرابي من بني أسد : وقلن له أسجد لليلى فأسجدا يعني البعير إذا طأطأ رأسه . ودراهم الإسجاد : دراهم كانت عليها صور كانوا يسجدون لها ، قال : وافى بها كدراهم الإسجاد والجواب أن معنى اسجدوا لآدم اسجدوا لي [ ص: 277 ] مستقبلين وجه آدم . وهو كقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس أي عند دلوك الشمس وكقوله : ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين . وقد بينا أن المسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة . فإن قيل : فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له ؟ قيل له : إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم . وقال بعضهم : عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما . ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها لما قال لهم : إني جاعل في الأرض خليفة وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا ، فقال لهم : إني خالق بشرا من طين وجاعله خليفة ، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . والمعنى : ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن . فإن قيل : فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون . وأمنه من العذاب بقوله : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . وقال للملائكة : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم . قيل له : إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه ، فلم يقل : لعمري . وأقسم بالسماء والأرض ، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع . وأقسم بالتين والزيتون . وأما قوله سبحانه : ومن يقل منهم إني إله من دونه فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام : لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين فليس فيه إذا دلالة ، والله أعلم . الرابعة : واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة ، فقال الجمهور : كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الأرض ، كالسجود المعتاد في الصلاة ; لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع ، وعلى هذا قيل : كان ذلك السجود تكريما لآدم وإظهارا لفضله ، وطاعة لله تعالى ، وكان آدم كالقبلة لنا . ومعنى [ ص: 278 ] لآدم : إلى آدم ، كما يقال صلى للقبلة ، أي إلى القبلة . وقال قوم : لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مبقى على أصل اللغة ، فهو من التذلل والانقياد ، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل . فسجدوا أي امتثلوا ما أمروا به . واختلف أيضا هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام ؟ فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى ، أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام ، لقوله تعالى : ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين ؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل : نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد ، فقال لهم : لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين . روى ابن ماجه في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال : لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما هذا ؟ ) فقال : يا رسول الله ، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم ، فأردت أن أفعل ذلك بك ، قال : فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه . لفظ البستي . ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب عند الولادة . وفي بعض طرق معاذ : ونهى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة . قلت : وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم ، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للأقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه ، ضل سعيهم وخاب عملهم . الخامسة : قوله : ( إلا إبليس ) نصب على الاستثناء المتصل ; لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور : ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وابن المسيب وقتادة وغيرهم ، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن ، ورجحه الطبري ، وهو ظاهر الآية . قال ابن عباس : وكان اسمه عزازيل [ ص: 279 ] وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد . روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا . وحكى الماوردي عن قتادة : أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة . وقال سعيد بن جبير : إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم ، وخلق سائر الملائكة من نور . وقال ابن زيد والحسن وقتادة أيضا : إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكا ، وروي نحوه عن ابن عباس وقال : اسمه الحارث . وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين : كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب ، وحكاه الطبري عن ابن مسعود . والاستثناء على هذا منقطع ، مثل قوله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وقوله : إلا ما ذكيتم في أحد القولين ، وقال الشاعر : ليس عليك عطش ولا جوع إلا الرقاد والرقاد ممنوع واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله جل وعز وصف الملائكة فقال : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وقوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن والجن غير الملائكة . أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه ؛ عدلا منه ، لا يسأل عما يفعل ، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه - ما يدفع أنه من الملائكة . وقول من قال : إنه كان من جن الأرض فسبي ، فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة ، حكاه المهدوي وغيره . وحكى الثعلبي عن ابن عباس : أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم ، وخلقت الملائكة من نور ، وكان اسمه بالسريانية عزازيل ، وبالعربية الحارث ، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض ، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة ، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانا رجيما . فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه ، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه ، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية ، وخطيئة إبليس كبرا . [ ص: 280 ] والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها ، وفي التنزيل : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ، وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام : وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر وأيضا لما كان من خزان الجنة نسب إليها فاشتق اسمه من اسمها ، والله أعلم . وإبليس وزنه إفعيل ، مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى . ولم ينصرف ; لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية ، قال أبو عبيدة وغيره . وقيل : هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعجمة والتعريف ، قاله الزجاج وغيره . السادسة : قوله تعالى : أبى معناه امتنع من فعل ما أمر به ، ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله - وفي راوية : يا ويلي - أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار . خرجه مسلم . يقال : أبى يأبى إباء ، وهو حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق ، وقد قيل : إن الألف مضارعة لحروف الحلق . قال الزجاج : سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول : القول عندي أن الألف مضارعة لحروف الحلق . قال النحاس : ولا أعلم أن أبا إسحاق روى عن إسماعيل نحوا غير هذا الحرف . السابعة : قوله تعالى : واستكبر الاستكبار : الاستعظام ، فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم ، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته . وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر . في رواية فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة . قال : إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس . أخرجه مسلم . ومعنى " بطر الحق " : تسفيهه وإبطاله . وغمط الناس : الاحتقار لهم والازدراء بهم . ويروى : " وغمص " بالصاد المهملة ، [ ص: 281 ] والمعنى واحد ، يقال : غمصه يغمصه غمصا واغتمصه ، أي استصغره ولم يره شيئا وغمص فلان النعمة إذا لم يشكرها . وغمصت عليه قولا قاله ، أي عبته عليه . وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . أأسجد لمن خلقت طينا . لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون فكفره الله بذلك . فكل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حكمه حكمه ، وهذا ما لا خلاف فيه . وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال : بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر ، حسد إبليس آدم ، وشح آدم في أكله من الشجرة . وقال قتادة : حسد إبليس آدم ، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال : أنا ناري وهذا طيني . وكان بدء الذنوب الكبر ، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة ، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه . الثامنة : قوله تعالى : وكان من الكافرين قيل : كان هنا بمعنى صار ، ومنه قوله تعالى : فكان من المغرقين . وقال الشاعر : بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها أي صارت . وقال ابن فورك : كان هنا بمعنى صار خطأ ترده الأصول . وقال جمهور المتأولين : المعنى : أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر ; لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 282 الى صــ 287 الحلقة (47) قلت : وهذا صحيح ، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : وإنما الأعمال بالخواتيم . وقيل : إن إبليس عبد الله تعالى ثمانين ألف سنة ، وأعطي الرياسة والخزانة في الجنة على الاستدراج ، كما أعطي المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم ، وكما أعطي بلعام الاسم الأعظم على طرف لسانه ، فكان في رياسته ، والكبر في نفسه متمكن . قال ابن عباس : كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده ، فلذلك قال الله تعالى إخبارا عنه : أنا خير منه ، ولذلك قال الله عز وجل : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين أي استكبرت ولا كبر لك ، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي [ ص: 282 ] والكبر لي فلذلك قال : وكان من الكافرين . وكان أصل خلقته من نار العزة ، ولذلك حلف بالعزة فقال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام . وعن أبي صالح قال : خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة . التاسعة : قال علماؤنا - رحمة الله عليهم - : ومن أظهر الله تعالى على يديه - ممن ليس بنبي - كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته ، خلافا لبعض الصوفية والرافضة حيث قالوا : إن ذلك يدل على أنه ولي ، إذ لو لم يكن وليا ما أظهر الله على يديه ما أظهر . ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا ، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى ، لأن الولي لله تعالى من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان . ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالإيمان ، ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالإيمان ، علم أن ذلك ليس يدل على ولايته لله . قالوا : ولا نمنع أن يطلع الله بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله ، وغيره معه ، قاله الشيخ أبو الحسن الأشعري وغيره . وذهب الطبري إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم ، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته ، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم . العاشرة : واختلف هل كان قبل إبليس كافر أو لا ؟ فقيل : لا ، وإن إبليس أول من كفر . وقيل : كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الأرض . واختلف أيضا هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة ، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره . فمن قال إنه كفر جهلا قال : إنه سلب العلم عند كفره . ومن قال كفر عنادا قال : كفر ومعه علمه . قال ابن عطية : والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد ، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء . قوله تعالى : وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فيه ثلاث عشرة مسألة : الأولى : قوله تعالى : وقلنا يا آدم اسكن لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند [ ص: 283 ] كفره وأبعده عن الجنة ، وبعد إخراجه قال لآدم : اسكن ، أي لازم الإقامة واتخذها مسكنا ، وهو محل السكون . وسكن إليه يسكن سكونا . والسكن : النار ، قال الشاعر : قد قومت بسكن وأدهان والسكن : كل ما سكن إليه . والسكين معروف سمي به لأنه يسكن حركة المذبوح ، ومنه المسكين لقلة تصرفه وحركته . وسكان السفينة عربي ; لأنه يسكنها عن الاضطراب . الثانية : في قوله تعالى : اسكن - تنبيه على الخروج ; لأن السكنى لا تكون ملكا ، ولهذا قال بعض العارفين : السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع ، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة . قلت : وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقوله الجمهور من العلماء : إن من أسكن رجلا مسكنا له إنه لا يملكه بالسكنى ، وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الإسكان . وكان الشعبي يقول : إذا قال الرجل داري لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته ، وإذا قال : داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات . ونحو من السكنى العمرى ، إلا أن الخلاف في العمرى أقوى منه في السكنى . وسيأتي الكلام في العمرى في " هود " إن شاء الله تعالى . قال الحربي : سمعت ابن الإعرابي يقول : لم يختلف العرب في أن هذه الأشياء على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له العمرى والرقبى والإفقار والإخبال والمنحة والعرية والسكنى والإطراق . وهذا حجة مالك وأصحابه في أنه لا يملك شيء من العطايا إلا المنافع دون الرقاب ، وهو قول الليث بن سعد والقاسم بن محمد ، ويزيد بن قسيط . والعمرى : هو إسكانك الرجل في دار لك مدة عمرك أو عمره . ومثله الرقبى : وهو أن يقول : إن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك ، وهي من المراقبة . والمراقبة : أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه ، ولذلك اختلفوا في إجازتها ومنعها ، فأجازها أبو يوسف والشافعي ، وكأنها وصية عندهم . ومنعها مالك والكوفيون ; لأن كل واحد منهم يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له ، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه . وفي الباب حديثان أيضا بالإجازة والمنع ذكرهما ابن ماجه في سننه : الأول رواه جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها ففي هذا الحديث التسوية بين العمرى والرقبى في الحكم . الثاني رواه ابن عمر قال : قال [ ص: 284 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا رقبى فمن أرقب شيئا فهو له حياته ومماته . قال : والرقبى أن يقول هو للآخر : مني ومنك موتا . فقوله : ( لا رقبى ) نهي يدل على المنع ، وقوله : من أرقب شيئا فهو له يدل على الجواز ، وأخرجهما أيضا النسائي . وذكر عن ابن عباس قال : العمرى والرقبى سواء . وقال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها . فقد صحح الحديث ابن المنذر ، وهو حجة لمن قال بأن العمرى والرقبى سواء . وروي عن علي وبه قال الثوري وأحمد ، وأنها لا ترجع إلى الأول أبدا ، وبه قال إسحاق . وقال طاوس : من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث . والإفقار مأخوذ من فقار الظهر . أفقرتك ناقتي : أعرتك فقارها لتركبها . وأفقرك الصيد إذا أمكنك من فقاره حتى ترميه . ومثله الإخبال ، يقال : أخبلت فلانا إذا أعرته ناقة يركبها أو فرسا يغزو عليه ، قال زهير : هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا والمنحة : العطية . والمنحة : منحة اللبن . والمنيحة : الناقة أو الشاة يعطيها الرجل آخر يحتلبها ثم يردها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم . رواه أبو أمامة ، أخرجه الترمذي والدارقطني وغيرهما ، وهو صحيح . والإطراق : إعارة الفحل ، استطرق فلان فلانا فحله : إذا طلبه ليضرب في إبله ، فأطرقه إياه ، ويقال : أطرقني فحلك أي أعرني فحلك ليضرب في إبلي . وطرق الفحل الناقة يطرق طروقا أي قعا عليها . وطروقة الفحل : أنثاه ، يقال : ناقة طروقة الفحل للتي بلغت أن يضربها الفحل . الثالثة : قوله تعالى : أنت وزوجك أنت تأكيد للمضمر الذي في الفعل ، ومثله : [ ص: 285 ] فاذهب أنت وربك . ولا يجوز اسكن وزوجك ، ولا اذهب وربك ، إلا في ضرورة الشعر ، كما قال : قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا ف " زهر " معطوف على المضمر في " أقبلت " ولم يؤكد ذلك المضمر . ويجوز في غير القرآن على بعد : قم وزيد . الرابعة : قوله تعالى : وزوجك لغة القرآن " زوج " بغير هاء ، وقد جاء في صحيح مسلم : " زوجة " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فجاء فقال : يا فلان هذه زوجتي فلانة : فقال يا رسول الله ، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم . وزوج آدم عليه السلام هي حواء عليها السلام ، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك ، ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته ، فلما انتبه قيل له : من هذه ؟ قال : امرأة قيل : وما اسمها ؟ قال : حواء ، قيل : ولم سميت امرأة ؟ قال : لأنها من المرء أخذت ، قيل : ولم سميت حواء ؟ قال : لأنها خلقت من حي . روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه ، وأنهم قالوا له : أتحبها يا آدم ؟ قال : نعم ، قالوا لحواء : أتحبينه يا حواء ؟ قالت : لا ، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه . قالوا : فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء . وقال ابن مسعود وابن عباس : لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا ، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها ، فلما انتبه رآها فقال : من أنت ؟ قالت : امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي ، وهو معنى قوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها . قال العلماء : ولهذا كانت المرأة [ ص: 286 ] عوجاء ، لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المرأة خلقت من ضلع - في رواية : وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه - لن تستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها . وقال الشاعر : هي الضلع العوجاء ليست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى ومن هذا الباب استدل العلماء على ميراث الخنثى المشكل إذا تساوت فيه علامات النساء والرجال في اللحية والثدي والمبال بنقص الأعضاء . فإن نقصت أضلاعه عن أضلاع المرأة أعطي نصيب رجل - روي ذلك عن علي رضي الله عنه - لخلق حواء من أحد أضلاعه ، وسيأتي في المواريث بيان هذا إن شاء الله تعالى . أليس عجيبا ضعفها واقتدارها الخامسة : قوله تعالى : الجنة الجنة : البستان ، وقد تقدم القول فيها . ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدن . واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس ، فإن الله يقول : لا لغو فيها ولا تأثيم وقال لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا وقال : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما . وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله : وما هم منها بمخرجين . وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس ، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها . وقد لغا فيها إبليس وكذب ، وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما . قالوا : وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى ؟ فالجواب : أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام ، ومن قال : أسأل الله الجنة ، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد . ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم ، وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى : أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة ، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد [ ص: 287 ] المعروفة ، فلم ينكر ذلك آدم ، ولو كانت غيرها لرد على موسى ، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها . وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة ، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء . وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها ، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية ، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا . وأما قولهم : إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم ، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام ، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي ، وكذلك دار القدس . قال أبو الحسن بن بطال : وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام ، فلا معنى لقول من خالفهم . وقولهم : كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد ، فيعكس عليهم ويقال : كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء ! هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل ، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا ، على ما قال أبو أمامة على ما يأتي . السادسة : قوله تعالى : وكلا منها رغدا حيث شئتما قراءة الجمهور رغدا بفتح الغين . وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها . والرغد : العيش الدار الهني الذي لا عناء فيه ، قال امرؤ القيس : بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغد ويقال : رغد عيشهم ورغد ( بضم الغين وكسرها ) . وأرغد القوم : أخصبوا وصاروا في رغد من العيش . وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف ، وحيث وحيث وحيث ، وحوث وحوث وحاث ، كلها لغات ، ذكرها النحاس وغيره .https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 288 الى صــ 293 الحلقة (48) السابعة : قوله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة أي لا تقرباها بأكل ; لأن الإباحة فيه وقعت . قال ابن العربي : سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول : إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه لا تلبس بالفعل ، وإذا كان ( بضم الراء ) فإن معناه لا تدن منه . وفي الصحاح : قرب الشيء يقرب قربا أي دنا . وقربته ( بالكسر ) أقربه قربانا أي دنوت منه . وقربت [ ص: 288 ] أقرب قرابة مثل كتبت أكتب كتابة - إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة ، والاسم القرب . قال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما القرب ؟ فقال : سير الليل لورد الغد . وقال ابن عطية : قال بعض الحذاق : إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب . قال ابن عطية : وهذا مثال بين في سد الذرائع . وقال بعض أرباب المعاني : قوله : ولا تقربا إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة ، وأن سكناه فيها لا يدوم ، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى . والدليل على هذا قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة فدل على خروجه منها . الثامنة : قوله تعالى : هذه الشجرة الاسم المبهم ينعت بما فيه الألف واللام لا غير ، كقولك : مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة . وقرأ ابن محيصن : " هذي الشجرة " بالياء وهو الأصل ، لأن الهاء في هذه بدل من ياء ولذلك انكسر ما قبلها ، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سواها ، وذلك لأن أصلها الياء . والشجرة والشجرة والشيرة ، ثلاث لغات وقرئ " الشجرة " بكسر الشين . والشجرة : ما كان على ساق من نبات الأرض . وأرض شجيرة وشجراء أي كثيرة الأشجار ، وواد شجير ، ولا يقال : واد أشجر . وواحد الشجراء شجرة ، ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة : شجرة وشجراء ، وقصبة وقصباء ، وطرفة وطرفاء ، وحلفة وحلفاء . وكان الأصمعي يقول في واحد الحلفاء : حلفة ، بكسر اللام مخالفة لأخواتها . وقال سيبويه : الشجراء واحد وجمع ، وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء . والمشجرة : موضع الأشجار . وأرض مشجرة ، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجرا ، قاله الجوهري . التاسعة : واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها ، فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة : هي الكرم ، ولذلك حرمت علينا الخمر . وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وقتادة : هي السنبلة ، والحبة منها ككلى البقر ، أحلى من العسل وألين من الزبد ، قاله وهب بن منبه . ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه . وقال ابن جريج عن بعض الصحابة : هي شجرة التين ، وكذا روى سعيد عن قتادة ، ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها ، ذكره السهيلي . قال ابن عطية : وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر ، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها . وقال القشيري أبو نصر : وكان الإمام والدي رحمه الله يقول : يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة . [ ص: 289 ] العاشرة : واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى : فتكونا من الظالمين ، فقال قوم أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها ، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر . قال ابن العربي : وهي أول معصية عصي الله بها على هذا القول . قال : " وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث . وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا : لا حنث فيه . وقال مالك وأصحابه : إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه ، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره ، وعليه حملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد بها جنسها ، فحمل القول على اللفظ دون المعنى . وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا ، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين ، قال في الكتاب : يحنث ; لأنها هكذا تؤكل . وقال ابن المواز : لا شيء عليه ; لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة . ولو قال في يمينه : لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها وفيما اشترى بثمنها من طعام ، وفيما أنبتت خلاف . وقال آخرون : تأولا النهي على الندب . قال ابن العربي : وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك هاهنا ، لقوله : فتكونا من الظالمين فقرن النهي بالوعيد ، وكذلك قوله سبحانه : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . وقال ابن المسيب : إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله . وكذلك قال يزيد بن قسيط ، وكانا يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل . قال ابن العربي : وهذا فاسد نقلا وعقلا ، أما النقل فلم يصح بحال ، وقد وصف الله عز وجل خمر الجنة فقال : لا فيها غول . وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم . قلت : قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى : [ ص: 290 ] فلما أنبأهم بأسمائهم فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله جل وعز . وقيل : أكلها ناسيا ، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد . قلت : وهو الصحيح لإخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما . ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا ، أي مخالفا . قال أبو أمامة : لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم ، وقد قال الله تعالى : ولم نجد له عزما . قلت : قول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم . وقد يحتمل أن يخص من ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا . وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء . والله أعلم . قلت : والقول الأول أيضا حسن ، فظنا أن المراد العين وكان المراد الجنس ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ ذهبا وحريرا فقال : هذان حرامان على ذكور أمتي . وقال في خبر آخر : هذان مهلكان أمتي . وإنما أراد الجنس لا العين . الحادية عشرة : يقال : إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها - على ما يأتي بيانه - وإن أول كلامه كان معها لأنها وسواس المخدة ، وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء ، فقال : ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد ، لأنه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد ، فأتاهما من حيث أحبا - " حبك الشيء يعمي ويصم " - فلما قالت حواء لآدم أنكر عليها وذكر العهد ، فألح على حواء وألحت حواء على آدم ، إلى أن قالت : أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سلمت أنت ، فأكلت فلم يضرها ، فأتت آدم فقالت : كل فإني قد أكلت فلم يضرني ، فأكل فبدت لهما سوءاتهما وحصلا في حكم الذنب ، لقول الله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة فجمعهما في النهي ، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا ، وخفيت على آدم هذه المسألة ، ولهذا قال بعض العلماء : إن من قال لزوجتيه أو أمتيه : إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حرتان - إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما . وقد [ ص: 291 ] اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال ، قال ابن القاسم : لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدخول ، حملا على هذا الأصل وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ . وقاله سحنون . وقال ابن القاسم مرة أخرى : تطلقان جميعا وتعتقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما ; لأن بعض الحنث حنث ، كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين فإنه يحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما . وقال أشهب : تعتق وتطلق التي دخلت وحدها ; لأن دخول كل واحدة منهما شرط في طلاقها أو عتقها . قال ابن العربي : وهذا بعيد ; لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا . قلت : الصحيح الأول ، وإن النهي إذا كان معلقا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما ; لأنك إذا قلت : لا تدخلا الدار ، فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما ; لأن قول الله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة نهي لهما فتكونا من الظالمين جوابه ، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا ، فلما أكلت لم يصبها شيء ; لأن المنهي عنه ما وجد كاملا . وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم ، وهو معنى قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي وقيل : نسي قوله : إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . والله أعلم . الثانية عشرة : واختلف العلماء في هذا الباب هل وقع من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شين ونقص إجماعا . عند القاضي أبي بكر ، وعند الأستاذ أبي إسحاق أن ذلك مقتضى دليل المعجزة ، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم - ، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين : تقع الصغائر منهم . خلافا للرافضة حيث قالوا : إنهم معصومون من جميع ذلك ، واحتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث ، وهذا ظاهر لا خفاء فيه . وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي : إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها ، لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة ، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم ، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة أو الحظر أو المعصية ، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية ، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين . قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : واختلفوا في الصغائر ، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم ، وصار بعضهم إلى تجويزها ، ولا أصل لهذه المقالة . وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى [ ص: 292 ] القول الأول : الذي ينبغي أن يقال إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها ، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها وأشفقوا منها وتابوا ، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان ، أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات ، بالنسبة إلى مناصبهم وعلو أقدارهم ، إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس ، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة . قال : وهذا هو الحق . ولقد أحسن الجنيد حيث قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين . فهم - صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم ولا قدح في رتبهم ، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم ، صلوات الله عليهم وسلامه . الثالثة عشرة : قوله تعالى : فتكونا من الظالمين الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه . والأرض المظلومة : التي لم تحفر قط ثم حفرت . قال النابغة . وقفت فيها أصيلالا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها ويسمى ذلك التراب الظليم . قال الشاعر : والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مردود عليها ظليمها وإذا نحر البعير من غير داء به فقد ظلم ، ومنه : . . . ظلامون للجزر . ويقال : سقانا ظليمة طيبة ، إذا سقاهم اللبن قبل إدراكه . وقد ظلم وطبه ، إذا سقى منه قبل أن يروب ويخرج زبده . واللبن مظلوم وظليم . قال : وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم ورجل ظليم : شديد الظلم . والظلم : الشرك ، قال الله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 294 الى صــ 299 الحلقة (49) قوله تعالى وكلا منها رغدا حذفت النون من " كلا " لأنه أمر ، وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال ، وحذفها شاذ . قال سيبويه : من العرب من يقول أؤكل ، فيتم . يقال منه : أكلت [ ص: 293 ] الطعام أكلا ومأكلا . والأكلة ( بالفتح ) : المرة الواحدة حتى تشبع . والأكلة ( بالضم ) : اللقمة ، تقول : أكلت أكلة واحدة ، أي لقمة ، وهي القرصة أيضا . وهذا الشيء أكلة لك ، أي طعمة لك . والأكل أيضا ما أكل . ويقال : فلان ذو أكل إذا كان ذا حظ من الدنيا ورزق واسع . رغدا نعت لمصدر محذوف ، أي أكلا رغدا . قال ابن كيسان : ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال . وقال مجاهد : رغدا أي لا حساب عليهم . والرغد في اللغة : الكثير الذي لا يعنيك ، ويقال : أرغد القوم ، إذا وقعوا في خصب وسعة . وقد تقدم هذا المعنى . " حيث " مبنية على الضم ; لأنها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف ، فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمت . قال الكسائي : لغة قيس وكنانة الضم ، ولغة تميم الفتح . قال الكسائي : وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض ، وينصبونها في موضع النصب ، قال الله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وتضم وتفتح . ولا تقربا هذه الشجرة الهاء من " هذه " بدل من ياء الأصل ; لأن الأصل هذي . قال النحاس : ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها إلا هاء هذه ومن العرب من يقول : هاتا هند ، ومنهم من يقول : هاتي هند . وحكى سيبويه : هذه هند ، بإسكان الهاء . وحكى الكسائي عن العرب : ولا تقربا هذي الشجرة . وعن شبل بن عباد قال : كان ابن كثير وابن محيصن لا يثبتان الهاء في " هذه " في جميع القرآن . وقراءة الجماعة " رغدا " بفتح الغين . وروي عن ابن وثاب والنخعي أنهما سكنا الغين . وحكى سلمة عن الفراء قال يقال : هذه فعلت وهذي فعلت ، بإثبات ياء بعد الذال . وهذ فعلت ، بكسر الذال من غير إلحاق ياء ولا هاء . وهاتا فعلت . قال هشام ويقال : تا فعلت . وأنشد : خليلي لولا ساكن الدار لم أقم بتا الدار إلا عابر ابن سبيل قال ابن الأنباري : وتا بإسقاط ها بمنزلة ذي بإسقاط ها من هذي ، وبمنزلة ذه بإسقاط ها من هذه . وقد قال الفراء : من قال هذ قامت - لا يسقط ها ; لأن الاسم لا يكون على ذال واحدة . ( فتكونا ) عطف على ( تقربا ) فلذلك حذفت النون . وزعم الجرمي أن الفاء هي الناصبة ، وكلاهما جائز . قوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ ص: 294 ] قوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه فيه عشر مسائل : الأولى : قوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها قرأ الجماعة فأزلهما بغير ألف ، من الزلة وهي الخطيئة ، أي استزلهما وأوقعهما فيها . وقرأ حمزة " فأزالهما " بألف ، من التنحية ، أي نحاهما . يقال : أزلته فزال . قال ابن كيسان : فأزالهما من الزوال ، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية . قلت : وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى ، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى . يقال منه : أزللته فزل . ودل على هذا قوله تعالى : إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ، وقوله : فوسوس لهما الشيطان والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية ، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان ، إنما قدرته على إدخاله في الزلل ، فيكون ذلك سببا إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه . وقد قيل : إن معنى أزلهما من زل عن المكان إذا تنحى ، فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال . قال امرؤ القيس : يزل الغلام الخف عن صهواته ويلوي بأثواب العنيف المثقل وقال أيضا : كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل الثانية : قوله تعالى : فأخرجهما مما كانا فيه إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله : ( فأخرجهما ) تأكيد وبيان للزوال ، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة ، وليس كذلك ، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض ، لأنهما خلقا منها ، وليكون آدم خليفة في الأرض . ولم يقصد إبليس - لعنه الله - إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد هو ، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده ، بل ازداد سخنة عين وغيظ نفس وخيبة ظن . قال الله جل ثناؤه : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره ، فكم بين الخليفة والجار صلى الله عليه وسلم . ونسب ذلك إلى إبليس ; لأنه كان بسببه وإغوائه . ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم ، واختلف في الكيفية ، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله تعالى : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين والمقاسمة ظاهرها المشافهة . وقال بعضهم ، وذكره عبد الرزاق عن وهب بن منبه : دخل الجنة في فم الحية وهي [ ص: 295 ] ذات أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يدخله إلا الحية ، فلما دخلت به الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حواء فقال : انظري إلى هذه الشجرة ، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها فلم يزل يغويها حتى أخذتها حواء فأكلتها . ثم أغوى آدم ، وقالت له حواء : كل فإني قد أكلت فلم يضرني ، فأكل منها فبدت لهما سوءاتهما وحصلا في حكم الذنب ، فدخل آدم في جوف الشجرة ، فناداه ربه : أين أنت ؟ فقال : أنا هذا يا رب ، قال : ألا تخرج ؟ قال : أستحي منك يا رب ، قال : اهبط إلى الأرض التي خلقت منها . ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، ولذلك أمرنا بقتلها ، على ما يأتي بيانه . وقيل لحواء : كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم كل شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مرارا . زاد الطبري والنقاش : وتكوني سفيهة وقد كنت حليمة . وقالت طائفة : إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . والله أعلم . وسيأتي في الأعراف أنه لما أكل بقي عريانا وطلب ما يستتر به فتباعدت عنه الأشجار وبكتوه بالمعصية ، فرحمته شجرة التين ، فأخذ من ورقه فاستتر به ، فبلي بالعري دون الشجر . والله أعلم . وقيل : إن الحكمة في إخراج آدم من الجنة عمارة الدنيا . الثالثة : يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكنت عدو الله من نفسها وأظهرت العداوة له هناك ، فلما أهبطوا تأكدت العداوة وجعل رزقها التراب ، وقيل لها : أنت عدو بني آدم وهم أعداؤك وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك . روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خمس يقتلهن المحرم فذكر الحية فيهن . وروي أن إبليس قال لها : أدخليني الجنة وأنت في ذمتي ، فكان ابن عباس يقول : أخفروا ذمة إبليس . وروت ساكنة بنت الجعد عن سراء بنت نبهان الغنوية قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اقتلوا الحيات [ ص: 296 ] صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فإن من قتلها كانت له فداء من النار ومن قتلته كان شهيدا . قال علماؤنا : وإنما كانت له فداء من النار لمشاركتها إبليس وإعانته على ضرر آدم وولده ، فلذلك كان من قتل حية فكأنما قتل كافرا . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا . أخرجه مسلم وغيره . الرابعة : روى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم : بمنى فمرت حية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقتلوها ) فسبقتنا إلى جحر فدخلته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه نارا . قال علماؤنا : وهذا الحديث يخص نهيه عليه السلام عن المثلة وعن أن يعذب أحد بعذاب الله تعالى ، قالوا : فلم يبق لهذا العدو حرمة حيث فاته حتى أوصل إليه الهلاك من حيث قدر . فإن قيل : قد روي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق العقرب بالنار ، وقال : هو مثلة . قيل له : يحتمل أن يكون لم يبلغه هذا الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمل على الأثر الذي جاء : لا تعذبوا بعذاب الله فكان على هذا سبيل العمل عنده . فإن قيل : فقد روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار وقد أنزلت عليه : والمرسلات عرفا فنحن نأخذها من فيه رطبة ، إذ خرجت علينا حية ، فقال : ( اقتلوها ) ، فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقاها الله شركم كما وقاكم شرها . فلم يضرم نارا ولا احتال في قتلها . قيل له : يحتمل أن يكون لم يجد نارا فتركها ، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحيوان . والله أعلم . وقوله : " وقاها الله شركم " أي قتلكم إياها " كما وقاكم شرها " أي لسعها . الخامسة : الأمر بقتل الحيات من باب الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات ، [ ص: 297 ] فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله ، لقوله : اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل . فخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبه على ذلك بسبب عظم ضررهما . وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضا لظاهر الأمر العام ، ولأن نوع الحيات غالبه الضرر ، فيستصحب ذلك فيه ، ولأنه كله مروع بصورته وبما في النفوس من النفرة عنه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية . فشجع على قتلها . وقال فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا : اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف ثأرهن فليس مني . والله أعلم . السادسة : ما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام ، لقوله عليه السلام : إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام . وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لإسلام الجن بها ، قالوا : ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا ، قاله ابن نافع . وقال مالك : نهى عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد . وهو الصحيح ; لأن الله عز وجل قال : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن الآية . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن وفيه : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة ، الحديث . وسيأتي بكماله في سورة " الجن " إن شاء الله تعالى . وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يحرج عليه وينذر ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . السابعة : روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، قال : فوجدته يصلي ، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت ، فالتفت فإذا حية ، فوثبت لأقتلها ، فأشار إلي أن اجلس فجلست ، [ ص: 298 ] فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت : نعم ، فقال : كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة . فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة ، فقالت له : اكفف عليك رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا ، الحية أم الفتى قال : فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا ، فقال : استغفروا لأخيكم - ثم قال : - إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان . وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر - وقال لهم : - اذهبوا فادفنوا صاحبكم . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله هذا الفتى كان مسلما وأن الجن قتلته به قصاصا ; لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض ، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة ; إذ لم يكن عنده علم من ذلك ، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا ، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه . فالأولى أن يقال : إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا بصاحبهم عدوا وانتقاما . وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه ، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده ، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا : قد قتلنا سيد الخز رج سعد بن عباده ورميناه بسهمي وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن بالمدينة جنا قد أسلموا ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ويتسلط به على قتل الكافر منهم . روي من وجوه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جانا فأريت في المنام أن قائلا يقول لها : لقد قتلت مسلما ، فقالت : لو كان مسلما لم يدخل [ ص: 299 ] على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك . فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله . وفي رواية : ما دخل عليك إلا وأنت مستترة ، فتصدقت وأعتقت رقابا . وقال الربيع بن بدر : الجان من الحيات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي ، وعن علقمة نحوه . ن فلم نخط فؤاده الثامنة : في صفة الإنذار ، قال مالك : أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام . وقاله عيسى بن دينار ، وإن ظهر في اليوم مرارا . ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام . وقيل : يكفي ثلاث مرار ، لقوله عليه السلام : فليؤذنه ثلاثا ، وقوله : حرجوا عليه ثلاثا ولأن ثلاثا للعدد المؤنث ، فظهر أن المراد ثلاث مرات . وقول مالك أولى ، لقوله عليه السلام : ثلاثة أيام . وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات ، ويحمل " ثلاثا " على إرادة ليالي الأيام الثلاث ، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ فإنها تغلب فيها التأنيث . قال مالك : ويكفي في الإنذار أن يقول : أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا . وذكر ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال : إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا : أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام ، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام ، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه . قلت : وهذا يدل بظاهره أنه يكفي في الإذن مرة واحدة ، والحديث يرده . والله أعلم . وقد حكى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول : أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان - عليه السلام - ألا تؤذيننا وألا تظهرن علينا . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 300 الى صــ 305 الحلقة (50) التاسعة : روى جبير بن نفير عن أبي ثعلبة الخشني - واسمه جرثوم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الجن على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وكلاب وثلث يحلون ويظعنون . وروى أبو الدرداء - واسمه عويمر - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلق الجن ثلاثة أثلاث فثلث كلاب وحيات وخشاش الأرض وثلث ريح هفافة وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب وخلق الله الإنس ثلاثة أثلاث فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يبصرون [ ص: 300 ] بها وآذان لا يسمعون بها إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين وثلث في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله . العاشرة : ما كان من الحيوان أصله الإذاية فإنه يقتل ابتداء ، لأجل إذايته من غير خلاف ، كالحية والعقرب والفأر والوزغ ، وشبهه . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم . . . . وذكر الحديث . فالحية أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس الجنة بين فكيها ، ولو كانت تبرزه ما تركها رضوان تدخل به . وقال لها إبليس أنت في ذمتي ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وقال : اقتلوها ولو كنتم في الصلاة يعني الحية والعقرب . والوزغة نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلعنت . وهذا من نوع ما يروى في الحية . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قتل وزغة فكأنما قتل كافرا . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : من قتل وزغة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك وفي راوية أنه قال : في أول ضربة سبعون حسنة . [ ص: 301 ] والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها . وروى عبد الرحمن بن أبي نعيم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقتل المحرم الحية والعقرب والحدأة والسبع العادي والكلب العقور والفويسقة . واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذت فتيلة لتحرق البيت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها . والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره وأقبل على جيفة . هذا كله في معنى الحية ، فلذلك ذكرناه . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في التعليل في " المائدة " وغيرها إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى وقلنا اهبطوا حذفت الألف من اهبطوا في اللفظ لأنها ألف وصل . وحذفت الألف من قلنا في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها . وروى محمد بن مصفى عن أبي حيوة ضم الباء في ( اهبطوا ) ، وهي لغة يقويها أنه غير متعد والأكثر في غير المتعدي أن يأتي على يفعل . والخطاب لآدم وحواء والحية والشيطان ، في قول ابن عباس . وقال الحسن : آدم وحواء والوسوسة . وقال مجاهد والحسن أيضا : بنو آدم وبنو إبليس . والهبوط : النزول من فوق إلى أسفل ، فأهبط آدم بسرنديب في الهند بجبل يقال له " بوذ " ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طيبا ، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام . وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع ، فأورث ولده الصلع . وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا الحديث وأخرجه مسلم وسيأتي . وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالأبلة ، والحية ببيسان ، وقيل : بسجستان . وسجستان أكثر بلاد الله حيات ، ولولا العربد الذي يأكلها ويفني كثيرا منها لأخليت سجستان من أجل الحيات ، ذكره أبو الحسن المسعودي . الثانية : قوله تعالى بعضكم لبعض عدو بعضكم مبتدأ ، عدو خبره والجملة [ ص: 302 ] في موضع نصب على الحال ، والتقدير وهذه حالكم . وحذفت الواو من " وبعضكم " لأن في الكلام عائدا ، كما يقال : رأيتك السماء تمطر عليك . والعدو : خلاف الصديق ، وهو من عدا إذا ظلم . وذئب عدوان : يعدو على الناس . والعدوان : الظلم الصراح . وقيل : هو مأخوذ من المجاوزة ، من قولك : لا يعدوك هذا الأمر ، أي لا يتجاوزك . وعداه إذا جاوزه ، فسمي عدوا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه ، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة الشيء ، والمعنيان متقاربان ، فإن من ظلم فقد تجاوز . قلت : وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى : بعضكم لبعض عدو على الإنسان نفسه ، وفيه بعد وإن كان صحيحا معنى . يدل عليه قوله عليه السلام : إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا . فإن قيل : كيف قال : ( عدو ) ولم يقل : أعداء ، ففيه جوابان أحدهما : أن بعضا وكلا يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى ، وذلك في القرآن ، قال الله تعالى : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا على اللفظ ، وقال تعالى : وكل أتوه داخرين على المعنى . والجواب الآخر : أن عدوا يفرد في موضع الجمع ، قال الله عز وجل : وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا بمعنى أعداء ، وقال تعالى : يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو . وقال ابن فارس : العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث ، وقد يجمع . الثالثة : لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له ; لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة ، والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة ولله أن يفعل ما يشاء وقد قال إني جاعل في الأرض خليفة وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض ، وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية قلنا اهبطوا وسيأتي الرابعة : قوله تعالى : ولكم في الأرض مستقر ابتداء وخبر ، أي موضع استقرار . قاله أبو العالية وابن زيد . وقال السدي : مستقر يعني القبور . [ ص: 303 ] قلت : وقول الله تعالى : جعل لكم الأرض قرارا يحتمل المعنيين . والله أعلم . الخامسة : قوله تعالى : ومتاع المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك ، ومنه سميت متعة النكاح لأنها يتمتع بها وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه : وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق كابي الرماد عظيم القدر جفنته حين الشتاء كحوض المنهل اللقف لقف الحوض لقفا ، أي تهور من أسفله واتسع . وربما أدخلوا عليه التاء قال أبو وجزة : العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان أين المطعم والحين أيضا : المدة ومنه قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر والحين الساعة قال الله تعالى أو تقول حين ترى العذاب قال ابن عرفة الحين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها وقوله فذرهم في غمرتهم حتى حين أي حتى تفنى آجالهم وقوله تعالى تؤتي أكلها كل حين أي كل سنة ، وقيل : بل كل ستة أشهر ، وقيل : بل غدوة وعشيا ، قال الأزهري الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البتة قال والحين يوم القيامة والحين الغدوة والعشية قال الله تعالى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ويقال عاملته محاينة من الحين وأحينت بالمكان إذا أقمت به حينا . وحان حين كذا أي قرب ، قالت بثينة : وإن سلوي عن جميل لساعة من الدهر ما حانت ولا حان حينها [ ص: 304 ] السابعة : لما اختلف أهل اللسان في الحين اختلف فيه أيضا علماؤنا وغيرهم فقال الفراء الحين حينان حين لا يوقف على حده والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ستة أشهر قال ابن العربي الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف ، وأكثر المعلوم سنة ، ومالك يرى في الأحكام والأيمان أعم الأسماء والأزمنة والشافعي يرى الأقل وأبو حنيفة توسط فقال ستة أشهر ولا معنى لقوله لأن المقدورات عنده لا تثبت قياسا وليس فيه نص عن صاحب الشريعة وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة فمن نذر أن يصلي حينا فيحمل على ركعة عند الشافعي لأنه أقل النافلة قياسا على ركعة الوتر وقال مالك وأصحابه أقل النافلة ركعتان فيقدر الزمان بقدر الفعل وذكر ابن خويز منداد في أحكامه أن من حلف ألا يكلم فلانا حينا أو لا يفعل كذا حينا أن الحين سنة قال واتفقوا في الأحكام أن من حلف ألا يفعل كذا حينا أو لا يكلم فلانا حينا أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمينه . قلت : هذا الاتفاق إنما هو في المذهب قال مالك رحمه الله من حلف ألا يفعل شيئا إلى حين أو زمان أو دهر ، فذلك كله سنة . وقال عنه ابن وهب : إنه شك في الدهر أن يكون سنة وحكى ابن المنذر عن يعقوب وابن الحسن أن الدهر ستة أشهر وعن ابن عباس وأصحاب الرأي وعكرمة وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبيدة في قوله تعالى تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها أنه ستة أشهر وقال الأوزاعي وأبو عبيد الحين ستة أشهر وليس عند الشافعي في الحين وقت معلوم ولا للحين غاية قد يكون الحين عنده مدة الدنيا وقال : لا نحنثه أبدا ، والورع أن يقضيه قبل انقضاء يوم وقال أبو ثور وغيره : الحين والزمان على ما تحتمله اللغة يقال : قد جئت من حين ولعله لم يجئ من نصف يوم قال إلكيا الطبري الشافعي وبالجملة الحين له مصارف ولم ير الشافعي تعيين محمل من هذه المحامل لأنه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنى معين ، وقال بعض العلماء في قوله تعالى إلى حين فائدة بشارة إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب والله أعلم [ ص: 305 ] قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فيه ثمان مسائل : الأولى : قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات تلقى قيل معناه فهم وفطن وقيل قبل وأخذ وكان عليه السلام يتلقى الوحي أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه تقول خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم ، وقيل : معنى تلقى تلقن . هذا في المعنى صحيح ، ولكن لا يجوز أن يكون التلقي من التلقن في الأصل لأن أحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا مثل تظنى من تظنن وتقصى من تقصص ، ومثله تسريت من تسررت وأمليت من أمللت وشبه ذلك ولهذا لا يقال تقبى من تقبل ولا تلقى من تلقن ، فاعلم . وحكى مكي أنه ألهمها فانتفع بها وقال الحسن : قبولها تعلمه لها وعمله بها . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 306 الى صــ 311 الحلقة (51) الثانية : واختلف أهل التأويل في الكلمات فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وعن مجاهد أيضا سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ربي ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم وقالت طائفة رأى مكتوبا على ساق العرش " محمد رسول الله " فتشفع بذلك فهي الكلمات وقالت طائفة : المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء ، وقيل : الندم والاستغفار والحزن قال ابن عطية وهذا يقتضي أن آدم عليه السلام لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود ، وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال : يقول ما قاله أبواه ربنا ظلمنا أنفسنا الآية ، وقال موسى رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [ ص: 306 ] وقال يونس لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . وعن ابن عباس ووهب بن منبه أن الكلمات " سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي اغفر لي إنك خير الغافرين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم " وقال محمد بن كعب هي قوله " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت الغفور الرحيم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أرحم الراحمين " وقيل : الكلمات قوله حين عطس " الحمد لله " والكلمات جمع كلمة والكلمة تقع على القليل والكثير وقد تقدم . الثالثة : قوله تعالى : فتاب عليه أي قبل توبته ، أو وفقه للتوبة . وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم جمعة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . وتاب العبد رجع إلى طاعة ربه ، وعبد تواب كثير الرجوع إلى الطاعة وأصل التوبة الرجوع يقال تاب وثاب وآب وأناب : رجع . الرابعة : إن قيل : لم قال عليه ولم يقل عليهما وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع وقد قال ولا تقربا هذه الشجرة و قالا ربنا ظلمنا أنفسنا فالجواب أن آدم عليه السلام لما خوطب في أول القصة بقوله اسكن خصه بالذكر في التلقي فلذلك كملت القصة بذكره وحده وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها ; ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله وعصى آدم ربه فغوى وأيضا لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر لم تذكر كما لم يذكر فتى موسى مع موسى في قوله ألم أقل لك وقيل : إنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها إذ أمرهما سواء ؛ قاله الحسن وقيل : إنه مثل قوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها أي التجارة لأنها كانت مقصود القوم فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما والمعنى متقارب وقال الشاعر : [ ص: 307 ] رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن فوق الطوي رماني وفي التنزيل والله ورسوله أحق أن يرضوه فحذف إيجازا واختصارا الخامسة : إنه هو التواب الرحيم وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التواب وتكرر في القرآن معرفا ومنكرا واسما وفعلا وقد يطلق على العبد أيضا تواب قال الله تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين قال ابن العربي ولعلمائنا في وصف الرب بأنه تواب ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما في الكتاب والسنة ولا يتأول ، وقال آخرون : هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة وقال آخرون : توبة الله على العبد قبوله توبته ، وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى قبلت توبتك وأن يرجع إلى خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسيء وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة . السادسة : لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى تائب اسم فاعل من تاب يتوب لأنه ليس لنا أن نطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه عليه السلام أو جماعة المسلمين ، وإن كان في اللغة محتملا جائزا هذا هو الصحيح في هذا الباب على ما بيناه في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) قال الله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار وقال وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وإنما قيل لله عز وجل تواب لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه . اعلم أنه ليس لأحد قدرة على خلق التوبة لأن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بخلق الأعمال خلافا للمعتزلة ، ومن قال بقولهم وكذلك ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه ولا أن يعفو عنه قال علماؤنا وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله جل وعز وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الراهب فيعطيه شيئا ويحط عنه ذنوبه افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين . [ ص: 308 ] الثامنة : قرأ ابن كثير فتلقى آدم من ربه كلمات والباقون برفع آدم ونصب كلمات والقراءتان ترجعان إلى معنى ؛ لأن آدم إذا تلقى الكلمات فقد تلقته وقيل لما كانت الكلمات هي المنقذة لآدم بتوفيق الله تعالى له لقبوله إياها ودعائه بها كانت الكلمات فاعلة وكأن الأصل على هذه القراءة " فتلقت آدم من ربه كلمات " ولكن لما بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث ، وهذا أصل يجري في كل القرآن والكلام ، إذ جاء فعل المؤنث بغير علامة ، ومنه قولهم حضر القاضي اليوم امرأة ، وقيل : إن الكلمات لما لم يكن تأنيثه حقيقيا حمل على معنى الكلم فذكر وقرأ الأعمش " آدم من ربه " مدغما وقرأ أبو نوفل بن أبي عقرب " أنه " بفتح الهمزة على معنى لأنه وكسر الباقون على الاستئناف وأدغم الهاء في الهاء أبو عمرو وعيسى وطلحة فيما حكى أبو حاتم عنهم ، وقيل : لا يجوز لأن بينهما واوا في اللفظ لا في الخط قال النحاس أجاز سيبويه أن تحذف هذه الواو وأنشد : له زجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زمير فعلى هذا يجوز الإدغام وهو رفع بالابتداء . " التواب " خبره ، والجملة خبر " إن " ويجوز أن يكون " هو " توكيدا للهاء ويجوز أن تكون فاصلة ، على ما تقدم . وقال سعيد بن جبير لما أهبط آدم إلى الأرض لم يكن فيها شيء غير النسر في البر والحوت في البحر فكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده فلما رأى النسر آدم قال : يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الأرض شيء يمشي على رجليه ويبطش بيديه فقال الحوت لئن كنت صادقا ما لي منه في البحر منجى ولا لك في البر منه مخلص . قوله تعالى قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنونقوله تعالى : قلنا اهبطوا كرر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده ، كما تقول لرجل : قم قم . وقيل : كرر الأمر لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر فعلق بالأول العداوة وبالثاني إتيان الهدى . وقيل : الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض ، وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة كما دل عليه حديث الإسراء على ما يأتي . " جميعا " نصب على الحال وقال وهب بن منبه : لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال إبليس للسباع إن هذا عدو لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب [ ص: 309 ] وقالوا أنت أشجعنا وجعلوه رئيسا فلما رأى ذلك آدم عليه السلام تحير في ذلك فجاءه جبريل عليه السلام وقال له امسح يدك على رأس الكلب ففعل فلما رأت السباع أن الكلب ألف آدم تفرقوا واستأمنه الكلب فأمنه آدم فبقي معه ومع أولاده وقال الترمذي الحكيم نحو هذا وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه وكان أشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم وبموت فؤاده يفزع من الآدميين فلو رمي بمدر ولى هاربا ثم يعود آلفا لهم ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم ، ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب على ما يأتي بيانه في " الأعراف " إن شاء الله تعالى ، ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى فكان يطرد بها السباع عن نفسه . قوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى اختلف في معنى قوله هدى فقيل : كتاب الله قاله السدي وقيل التوفيق للهداية وقالت فرقة : الهدى الرسل وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبي ذر ، وخرجه الآجري وفي قوله " مني " إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى خلافا للقدرية وغيرهم كما تقدم وقرأ الجحدري " هدي " وهو لغة هذيل يقولون هدي وعصي ومحيي ، وأنشد النحويون لأبي ذؤيب يرثي بنيه : سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع قال النحاس : وعلة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه أن سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الألف أبدلت ياء وأدغمت . و " ما " في قوله " إما " زائدة على " إن " التي للشرط ، وجواب الشرط الفاء مع الشرط الثاني في قوله فمن تبع و " من " في موضع رفع بالابتداء . و " تبع " في موضع جزم بالشرط فلا خوف جوابه . قال سيبويه الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول . وقال الكسائي فلا خوف عليهم جواب الشرطين جميعا . قوله تعالى : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه . والتخوف التنقص ومنه قوله [ ص: 310 ] تعالى أو يأخذهم على تخوف وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب " فلا خوف " بفتح الفاء على التبرئة ، والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء ؛ لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن " لا " لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد ، ويجوز أن تكون " لا " في قوله تعالى : " فلا خوف " بمعنى ليس . والحزن والحزن : ضد السرور ولا يكون إلا على ماض ، وحزن الرجل ( بالكسر ) فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ، ومحزون بني عليه قال اليزيدي : حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما واحتزن وتحزن بمعنى ، والمعنى في الآية : فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا . وقيل : ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا ، والله أعلم . قوله تعالى : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون قوله تعالى : والذين كفروا أي أشركوا ، لقوله : وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون الصحبة : الاقتران بالشيء في حالة ما ، في زمان ما ، فإن كانت الملازمة والخلطة فهي كمال الصحبة ، وهكذا هي صحبة أهل النار لها ، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة على ما نبينه في " براءة " إن شاء الله وباقي ألفاظ الآية تقدم معناها والحمد لله . قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون قوله تعالى : يا بني إسرائيل نداء مضاف علامة النصب فيه الياء وحذفت منه النون للإضافة . الواحد ابن والأصل فيه بني وقيل : بنو ، فمن قال المحذوف منه واو احتج بقولهم البنوة وهذا لا حجة فيه لأنهم قد قالوا : الفتوة وأصله الياء وقال الزجاج : [ ص: 311 ] المحذوف منه عندي ياء كأنه من بنيت ، الأخفش اختار أن يكون المحذوف منه - الواو ؛ لأن حذفها أكثر لثقلها ويقال ابن بين البنوة والتصغير بني . قالالفراء يقال يا بني ويا بني لغتان مثل يا أبت ويا أبت وقرئ بهما وهو مشتق من البناء وهو وضع الشيء على الشيء والابن فرع للأب وهو موضوع عليه . وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال أبو الفرج الجوزي ، وليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن له أسماء كثيرة ذكره في كتاب " فهوم الآثار " له . قلت : وقد قيل في المسيح إنه اسم علم لعيسى عليه السلام غير مشتق وقد سماه الله روحا وكلمة ، وكانوا يسمونه أبيل الأبيلين ذكره الجوهري في الصحاح . وذكر البيهقي في " دلائل النبوة " عن الخليل بن أحمد : خمسة من الأنبياء ذوو اسمين محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى والمسيح وإسرائيل ويعقوب ويونس وذو النون وإلياس وذو الكفل صلى الله عليهم وسلم . قلت : ذكرنا أن لعيسى أربعة أسماء ، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فله أسماء كثيرة بيانها في مواضعها . وإسرائيل اسم أعجمي ولذلك لم ينصرف ، وهو في موضع خفض بالإضافة وفيه سبع لغات : إسرائيل وهي لغة القرآن وإسرائيل بمدة مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ عن ورش وإسراييل بمدة بعد الياء من غير همز وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر وقرأ الحسن والزهري بغير همز ولا مد وإسرائل بغير ياء بهمزة مكسورة وإسراءل بهمزة مفتوحة وتميم يقولون إسرائين بالنون . ومعنى إسرائيل عبد الله . قال ابن عباس إسرا بالعبرانية هو عبد ، وإيل هو الله وقيل إسرا هو صفوة الله وإيل هو الله وقيل إسرا من الشد فكأن إسرائيل الذي شده الله وأتقن خلقه ذكره المهدوي . وقال السهيلي سمي إسرائيل لأنه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى فسمي إسرائيل أي أسرى إلى الله ونحو هذا ، فيكون بعض الاسم عبرانيا وبعضه موافقا للعرب ، والله أعلم . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 312 الى صــ 317 الحلقة (52) قوله : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم الذكر اسم مشترك ، فالذكر بالقلب ضد النسيان والذكر باللسان ضد الإنصات ، وذكرت الشيء بلساني وقلبي ذكرا واجعله منك على ذكر ( بضم الذال ) أي لا تنسه قال الكسائي ما كان بالضمير فهو مضموم الذال وما كان باللسان فهو مكسور الذال . وقال غيره : هما لغتان يقال ذكر وذكر ، ومعناهما واحد ، والذكر ( بفتح الذال ) خلاف الأنثى ، والذكر أيضا الشرف ومنه قوله وإنه لذكر لك ولقومك [ ص: 312 ] قال ابن الأنباري والمعنى في الآية اذكروا شكر نعمتي فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة وقيل إنه أراد الذكر بالقلب وهو المطلوب أي لا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها وهو حسن . والنعمة هنا اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع قال الله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أي نعمه ومن نعمه عليهم أن أنجاهم من آل فرعون وجعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى وفجر لهم في الحجر الماء إلى ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ورسالته والنعم على الآباء نعم على الأبناء لأنهم يشرفون بشرف آبائهم . تنبيه : قال أرباب المعاني ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النعمة وأسقطه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى ذكره فقال : " اذكروني أذكركم " ليكون نظر الأمم من النعمة إلى المنعم ونظر أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المنعم إلى النعمة . قوله تعالى : وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم أمر وجوابه وقرأ الزهري " أوف " ( بفتح الواو وشد الفاء ) للتكثير واختلف في هذا العهد ما هو فقال الحسن عهده قوله خذوا ما آتيناكم بقوة وقوله ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقيل هو قوله وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه وقال الزجاج أوفوا بعهدي الذي عهدت إليكم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أوف بعهدكم بما ضمنت لكم على ذلك إن أوفيتم به فلكم الجنة وقيل أوفوا بعهدي في أداء الفرائض على السنة والإخلاص أوف بقبولها منكم ومجاراتكم عليها وقال بعضهم أوفوا بعهدي في العبادات أوف بعهدكم أي أوصلكم إلى منازل الرعايات وقيل أوفوا بعهدي في حفظ آداب الظواهر أوف بعهدكم بتزيين سرائركم وقيل هو عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة وغيره هذا قول الجمهور من العلماء وهو الصحيح وعهده سبحانه وتعالى هو أن يدخلهم الجنة . قلت : وما طلب من هؤلاء من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا قال الله تعالى أوفوا بالعقود ، [ ص: 313 ] أوفوا بعهد الله ، وهو كثير ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم لا علة له بل ذلك تفضل منه عليهم قوله تعالى : وإياي فارهبون أي خافون والرهب والرهب والرهبة الخوف ، ويتضمن الأمر به معنى التهديد ، وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية وقرأ ابن أبي إسحاق " فارهبوني " بالياء وكذا " فاتقوني " على الأصل ( وإياي ) منصوب بإضمار فعل ، وكذا الاختيار في الأمر والنهي والاستفهام ، التقدير : وإياي ارهبوا فارهبون ، ويجوز في الكلام وأنا فارهبون على الابتداء والخبر ، وكون فارهبون الخبر على تقدير الحذف ، المعنى وأنا ربكم فارهبون . قوله تعالى : وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون قوله تعالى : وآمنوا بما أنزلت أي صدقوا ، يعني بالقرآن . " مصدقا " حال من الضمير في " أنزلت " ، التقدير بما أنزلته مصدقا ، والعامل فيه أنزلت ويجوز أن يكون حالا من ما والعامل فيه آمنوا التقدير آمنوا بالقرآن مصدقا ويجوز أن تكون مصدرية التقدير آمنوا بإنزال . ( لما معكم ) يعني من التوراة قوله تعالى : ولا تكونوا أول كافر به الضمير في به قيل هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو العالية وقال ابن جريج : هو عائد على القرآن ، إذ تضمنه قوله : بما أنزلت وقيل : على التوراة ، إذ تضمنها قوله : لما معكم . فإن قيل كيف قال : " كافر " ولم يقل كافرين قيل التقدير ولا تكونوا أول فريق كافر به وزعم الأخفش والفراء أنه محمول على معنى الفعل لأن المعنى أول من كفر به وحكى سيبويه هو أظرف الفتيان وأجمله وكان ظاهر الكلام هو أظرف فتى وأجمله وقال أول كافر به وقد كان قد كفر قبلهم كفار قريش فإنما معناه من أهل الكتاب إذ هم منظور إليهم في مثل هذا لأنهم حجة مظنون بهم علم . و " أول " عند سيبويه نصب على خبر كان وهو مما لم ينطق منه بفعل وهو على أفعل ، عينه وفاؤه واو وإنما لم ينطق منه بفعل لئلا يعتل من جهتين العين والفاء ، وهذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : هو من وأل إذا نجا فأصله [ ص: 314 ] أوأل ثم خففت الهمزة وأبدلت واوا وأدغمت فقيل أول كما تخفف همزة خطيئة قال الجوهري والجمع الأوائل والأوالي أيضا على القلب . وقال قوم : أصله وول على فوعل فقلبت الواو الأولى همزة وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع وقيل هو أفعل من آل يئول ، فأصله أأول ، قلب فجاء أعفل مقلوبا من أفعل فسهل وأبدل وأدغم . مسألة : لا حجة في هذه الآية لمن يمنع القول بدليل الخطاب ، وهم الكوفيون ومن وافقهم ; لأن المقصود من الكلام النهي عن الكفر أولا وآخرا ، وخص الأول بالذكر لأن التقدم فيه أغلظ ، فكان حكم المذكور والمسكوت عنه واحدا ، وهذا واضح قوله تعالى : ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : ولا تشتروا معطوف على قوله ولا تكونوا نهاهم عن أن يكونوا أول من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا أي على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم رشا ، وكان الأحبار يفعلون ذلك فنهوا عنه قاله قوم من أهل التأويل منهم الحسن وغيره ، وقيل : كانت لهم مآكل يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك ، وقيل : إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك وفي كتبهم يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة قاله أبو العالية وقيل : المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمنا قليلا يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له فسمي ما اعتاضوه عن ذلك ثمنا لأنهم جعلوه عوضا فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمنا ، وقد تقدم هذا المعنى وقال الشاعر : إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به فما أصبت بترك الحج من ثمن قلت : وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا فقد دخل في مقتضى الآية والله أعلم وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها . [ ص: 315 ] الثانية : وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم - لهذه الآية وما كان في معناها فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي وقالوا : لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام ، وقد قال تعالى : ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال معلمو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين . وروى أبو هريرة قال : قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين قال درهمهم حرام وثوبهم سحت وكلامهم رياء وروى عبادة بن الصامت قال : علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة ، فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت : ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها . وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس حديث الرقية إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله أخرجه البخاري وهو نص يرفع الخلاف فينبغي أن يعول عليه . وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام ففاسد ، لأنه في مقابلة النص ثم إن بينهما فرقانا وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل ، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم فتجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن ، قال ابن المنذر وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم . فيجوز الإجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة . وأما الجواب عن الآية - فالمراد بها بنو إسرائيل ، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا ، فيه خلاف ، وهو لا يقول به . جواب ثان : وهو أن تكون الآية فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجرا فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنة في ذلك وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته ، ويجب على الإمام أن يعين لإقامة الدين إعانته ، وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه لما [ ص: 316 ] ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال ومن أين أنفق على عيالي فردوه وفرضوا له كفايته ، وأما الأحاديث فليس شيء منها يقوم على ساق ولا يصح منها شيء عند أهل العلم بالنقل أما حديث ابن عباس فرواه سعيد بن طريف عن عكرمة عنه وسعيد متروك وأما حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم عن حماد بن مسلمة عن أبي جرهم عنه وأبو جرهم مجهول لا يعرف ولم يرو حماد بن سلمة عن أحد يقال له أبو جرهم ، وإنما رواه عن أبي المهزم وهو متروك الحديث أيضا وهو حديث لا أصل له وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عنه والمغيرة معروف عند أهل العلم ولكنه له مناكير هذا منها قاله أبو عمر ثم قال وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم لأنه روي عن عبادة من وجهين وروي عن أبي بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن ابن مسعود وهو منقطع وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل ، وحديث عبادة وأبي يحتمل التأويل ; لأنه جائز أن يكون علمه لله ثم أخذ عليه أجرا ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير الناس وخير من يمشي على وجه الأرض المعلمون كلما خلق الدين جددوه أعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم فإن المعلم إذا قال للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبي وبراءة للمعلم وبراءة لأبويه من النار . الثالثة : واختلف العلماء في حكم المصلي بأجرة فروى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من استؤجر في رمضان يقوم للناس فقال أرجو ألا يكون به بأس ، وهو أشد كراهة له في الفريضة وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور لا بأس بذلك ولا بالصلاة خلفه وقال الأوزاعي لا صلاة له وكرهه أبو حنيفة وأصحابه على ما تقدم قال ابن عبد البر وهذه المسألة معلقة من التي قبلها وأصلهما واحد . قلت : ويأتي لهذا أصل آخر من الكتاب في " براءة " إن شاء الله تعالى وكره ابن القاسم أخذ الأجرة على تعليم الشعر والنحو وقال ابن حبيب لا بأس بالإجارة على تعليم الشعر والرسائل وأيام العرب ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنا والهجاء قال أبو الحسن اللخمي ويلزم على قوله أن يجيز الإجارة على كتبه ويجيز بيع كتبه ، وأما الغناء والنوح فممنوع على كل حال . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 348 الى صــ 353 الحلقة (58) الثامنة : أفلا تعقلون أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم والعقل المنع ومنه عقال البعير ; لأنه يمنع عن الحركة ، ومنه العقل للدية ؛ لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني ، ومنه اعتقال البطن واللسان ، ومنه يقال للحصن : [ ص: 348 ] معقل ، والعقل نقيض الجهل ، والعقل ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشي به الهوادج قال علقمة : عقلا ورقما تكاد الطير تخطفه كأنه من دم الأجواف مدموم المدموم ( بالدال المهملة ) الأحمر وهو المراد هنا والمدموم الممتلئ شحما من البعير وغيره ويقال هما ضربان من البرود قال ابن فارس والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا وما كان نقشه مستديرا فهو الرقم ، وقال الزجاج : العاقل من عمل بما أوجب الله عليه فمن لم يعمل فهو جاهل . التاسعة : اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم ; لأنه لو كان معدوما لما اختص بالاتصاف به بعض الذوات دون بعض وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه ; إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها إن شاء الله تعالى . وقد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم ثم منهم من صار إلى أنه جوهر لطيف في البدن ينبث شعاعه منه بمنزلة السراج في البيت يفصل به بين حقائق المعلومات ومنهم من قال إنه جوهر بسيط أي غير مركب ثم اختلفوا في محله فقالت طائفة منهم محله الدماغ ; لأن الدماغ محل الحس وقالت طائفة أخرى محله القلب ؛ لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس ، وهذا القول في العقل بأنه جوهر فاسد من حيث إن الجواهر متماثلة فلو كان جوهر عقلا لكان كل جوهر عقلا وقيل إن العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني ، وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحي والعقل عرض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذا ومشتهيا ، وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وغيرهما من المحققين : العقل هو العلم بدليل أنه لا يقال عقلت وما علمت أو علمت وما عقلت وقال القاضي أبو بكر : العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وهو اختيار أبي المعالي في الإرشاد واختار في البرهان أنه صفة يتأتى بها درك العلوم واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه وحكي في البرهان عن المحاسبي أنه قال : العقل غريزة وحكى الأستاذ أبو بكر عن الشافعي وأبي عبد الله بن مجاهد أنهما قالا العقل آلة التمييز وحكي عن أبي العباس القلانسي أنه قال العقل قوة التمييز وحكي عن المحاسبي أنه قال العقل أنوار وبصائر ثم رتب هذه الأقوال وحملها على محامل فقال والأولى ألا [ ص: 349 ] يصح هذا النقل عن الشافعي ولا عن ابن مجاهد فإن الآلة إنما تستعمل في الآلة المثبتة واستعمالها في الأعراض مجاز وكذلك قول من قال إنه قوة فإنه لا يعقل من القوة إلا القدرة والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعا في العبارات وكذلك المحاسبي والعقل ليس بصورة ولا نور ولكن تستفاد به الأنوار والبصائر وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية التوحيد إن شاء الله تعالى قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فيه ثمان مسائل : الأولى : قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة الصبر الحبس في اللغة وقتل فلان صبرا أي أمسك وحبس حتى أتلف وصبرت نفسي على الشيء حبستها والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت وهي المجثمة وقال عنترة فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع الثالثة : قوله تعالى : والصلاة خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها ، وكان عليه السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي له أخوه قثم وقيل بنت له وهو في سفر فاسترجع وقال ( عورة سترها الله ، ومؤنة كفاها الله ، وأجر ساقه الله . ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : واستعينوا بالصبر والصلاة ) فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية وقال قوم : هي الدعاء على عرفها في اللغة فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله ؛ لأن الثبات هو الصبر والذكر هو الدعاء . وقول ثالث قال مجاهد : [ ص: 350 ] الصبر في هذه الآية الصوم ، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة ، والله أعلم . الرابعة : الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها ، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين قال يحيى بن اليمان الصبر ألا تتمنى حالة سوى ما رزقك الله والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك وقال الشعبي قال علي رضي الله عنه الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد قال الطبري وصدق علي رضي الله عنه وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به . الخامسة : وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدا فقال من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة الآية وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وقال ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور وقد قيل إن المراد بالصابرين في قوله إنما يوفى الصابرون أي الصائمون لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم الصيام لي وأنا أجزي به فلم يذكر ثوابا مقدرا كما لم يذكره في الصبر والله أعلم . السادسة : من فضل الصبر وصف الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى إنهم ليدعون له ولدا ، وإنه ليعافيهم ويرزقهم أخرجه البخاري قال علماؤنا وصف الله تعالى بالصبر إنما [ ص: 351 ] هو بمعنى الحلم ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وإنما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم قاله ابن فورك وغيره وجاء في أسمائه " الصبور " للمبالغة في الحلم عمن عصاه السابعة : قوله تعالى : وإنها لكبيرة اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله : وإنها ، فقيل : على الصلاة وحدها خاصة ؛ لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم ، والصبر هنا الصوم فالصلاة فيها سجن النفوس ، والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق فيتسلى بتلك الأشياء عما منع والمصلي يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات ، وإذا كان ذلك ، كانت الصلاة أصعب على النفس ، ومكابدتها أشد ؛ فلذلك قال وإنها لكبيرة وقيل عليهما ولكنه كنى عن الأغلب ، وهو الصلاة كقوله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله وقوله وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها فرد الكناية إلى الفضة ؛ لأنها الأغلب والأعم ، وإلى التجارة ؛ لأنها الأفضل والأهم ، وقيل : إن الصبر لما كان داخلا في الصلاة أعاد عليها كما قال والله ورسوله أحق أن يرضوه ولم يقل يرضوهما ؛ لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز ، ومنه قول الشاعر [ حسان بن ثابت ] إن شرح الشباب والشعر الأس ود ما لم يعاص كان جنونا ولم يقل يعاصيا رد إلى الشباب ؛ لأن الشعر داخل فيه ، وقيل : رد الكناية إلى كل واحد منهما لكن حذف اختصارا ; قال الله تعالى وجعلنا ابن مريم وأمه آية ولم يقل آيتين ، ومنه قول الشاعر [ ضابئ البرجمي ] فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب وقال آخر [ الأضبط بن قريع السعدي ] : لكل هم من الهموم سعه والصبح والمسي لا فلاح معه [ ص: 352 ] أراد : لغريبان ، لا فلاح معهما وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة ، وقيل على المصدر ، وهي الاستعانة التي يقتضيها قوله واستعينوا وقيل : على إجابة محمد عليه السلام ; لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه ، وقيل على الكعبة ؛ لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها وكبيرة معناه ثقيلة شاقة ، خبر " إن " ويجوز في غير القرآن : وإنه لكبيرة . إلا على الخاشعين فإنها خفيفة عليهم قال أرباب المعاني إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى . الثامنة : قوله تعالى : على الخاشعين الخاشعون جمع خاشع ، وهو المتواضع ، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع وقال قتادة الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة قال الزجاج : الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقواء هذا هو الأصل قال النابغة : رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع ومكان خاشع : لا يهتدى له . وخشعت الأصوات أي سكنت وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا وخشع ببصره إذا غضه والخشعة قطعة من الأرض رخوة ، وفي الحديث كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد وبلدة خاشعة مغبرة لا منزل بها قال سفيان الثوري سألت الأعمش عن الخشوع فقال يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال أعيمش تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء وتخشع لله في كل فرض افترض عليك ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال يا هذا ارفع رأسك ( فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب . ) وقال علي بن أبي طالب : ( الخشوع في القلب ، وأن تلين كفيك للمرء المسلم ، وألا تلتفت في صلاتك . ) وسيأتي هذا المعنى مجودا عند قوله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نفاق قال سهل بن عبد الله لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم . [ ص: 353 ] قلت : هذا هو الخشوع المحمود ؛ لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان ، روى الحسن أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الخاشعون هم المؤمنون حقا . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 360 الى صــ 365 الحلقة (60) الثانية : قوله تعالى : من آل فرعون آل فرعون قومه وأتباعه وأهل دينه وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن ، ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه خلافا للرافضة حيث قالت إن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة والحسن والحسين فقط دليلنا قوله تعالى وأغرقنا آل فرعون أدخلوا آل فرعون أشد العذاب أي آل دينه ؛ إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة ؛ ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له ولأجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول ألا إن آل أبي يعني فلانا ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين وقالت طائفة آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال : [ ص: 360 ] قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد رواه مسلم ، وقالت طائفة من أهل العلم الأهل معلوم والآل الأتباع والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال ( اللهم صل عليهم ) فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صل على آل أبي أوفى . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gifالثالثة : اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا فقال الكسائي إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة قال الأخفش إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد صلى الله عليه وسلم وآل فرعون ؛ لأنه رئيسهم في الضلالة قال وقد سمعناه في البلدان قالوا أهل المدينة وآل المدينة . الرابعة : واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا اللهم صل على محمد وآل محمد ولا يقال وآله والصواب أن يقال أهله وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم ابن السيد وهو الصواب ؛ لأن السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبد المطلب لا هم إن العبد يم نع رحله فامنع حلالك وانصر على آل الصلي وقال ندبة ب " وعابديه " اليوم آلك أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلكا الحقيقة [ بقافين ] ما يحق على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته . الخامسة : واختلفوا أيضا في أصل آل فقال النحاس أصله أهل ثم أبدل من الهاء ألفا فإن صغرته رددته إلى أصله فقلت أهيل وقال المهدوي : أصله أول وقيل أهل قلبت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا وجمعه آلون وتصغيره أويل فيما حكى الكسائي ، وحكى غيره أهيل وقد ذكرنا عن النحاس ، وقال أبو الحسن بن كيسان إذا جمعت آلا قلت آلون فإن جمعت آلا الذي هو السراب قلت : آوال ، مثل مال وأموال . السادسة : قوله تعالى : فرعون فرعون قيل إنه اسم ذلك الملك بعينه . وقيل [ ص: 361 ] إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وإن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب وقال وهب اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام قال السهيلي ، وكل من ولي القبط ومصر فهو فرعون ، وكان فارسيا من أهل إصطخر قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية قال الجوهري : فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون والعتاة الفراعنة وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر وفي الحديث ( أخذنا فرعون هذه الأمة ) و " فرعون " في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته السابعة : قوله تعالى : يسومونكم قيل معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه ، وقال أبو عبيدة يولونكم يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو بن كلثوم إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الذل فينا وقيل يديمون تعذيبكم والسوم الدوام ، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي قال الأخفش : وهو في موضع رفع على الابتداء ، وإن شئت كان في موضع نصب على الحال أي سائمين لكم . الثامنة : قوله تعالى : سوء العذاب مفعول ثان ل " يسومونكم " ومعناه أشد العذاب ، ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب ، وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا فروي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون ، وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب التاسعة : قوله تعالى : يذبحون أبناءكم يذبحون بغير واو على البدل من قوله يسومونكم كما قال أنشده سيبويه متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا قال الفراء وغيره يذبحون بغير واو على التفسير لقوله يسومونكم سوء العذاب كما تقول أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد . ونظيره : [ ص: 362 ] ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب وفي سورة إبراهيم ويذبحون بالواو ؛ لأن المعنى يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح فقوله ويذبحون أبناءكم جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله والله أعلم . قلت : قد يحتمل أن يقال إن الواو زائدة بدليل سورة " البقرة " والواو قد تزاد كما قال : فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي قد انتحى . وقال آخر إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم أراد إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة ، وهو كثير . العاشرة : قوله تعالى : يذبحون قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير وقرأ ابن محيصن " يذبحون " بفتح الباء والذبح الشق والذبح المذبوح والذباح تشقق في أصول الأصابع وذبحت الدن بزلته أي كشفته ، وسعد الذابح : أحد السعود ، والمذابح : المحاريب ، والمذابح جمع مذبح ، وهو إذا جاء السيل فخد في الأرض فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحا فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمآل وقالت طائفة " يذبحون أبناءكم " يعني الرجال وسموا أبناء لما كانوا كذلك واستدل هذا القائل بقوله " نساءكم " والأول أصح ؛ لأنه الأظهر والله أعلم . الحادية عشرة : نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله قال الطبري ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به . قلت : وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال يقتلان جميعا ، هذا بأمره والمأمور بمباشرته هكذا قال النخعي وقاله الشافعي ومالك في تفصيل لهما قال الشافعي إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظلما كان عليه وعلى الإمام القود كقاتلين معا وإن أكرهه الإمام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الإمام القود ، وفي المأمور قولان أحدهما أن عليه القود والآخر لا قود عليه وعليه نصف الدية حكاه ابن المنذر ، وقال علماؤنا : لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره [ ص: 363 ] كالسلطان والسيد لعبده فالقود في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر وذلك كالأب يأمر ولده أو المعلم بعض صبيانه أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلما فإن كان غير محتلم فالقتل على الآمر ، وعلى عاقلة الصبي نصف الدية وقال ابن نافع لا يقتل السيد إذا أمر عبده وإن كان أعجميا بقتل إنسان قال ابن حبيب وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ويضرب الآمر ويحبس وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلا يقتل السيد وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما وقال علي ويستودع العبد السجن وقال أحمد ويحبس العبد ويضرب ويؤدب وقال الثوري يعزر السيد وقال الحكم وحماد يقتل العبد وقال قتادة يقتلان جميعا وقال الشافعي إن كان العبد فصيحا يعقل قتل العبد وعوقب السيد وإن كان العبد أعجميا فعلى السيد القود وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة وكذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل وذكره ابن المنذر وقال زفر : لا يقتل واحد منهما ، وهو القول الثالث حكاه أبو المعالي في البرهان ورأى أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلا في القود فلذلك لا يقتل واحد منهما عنده ، والله أعلم . الثانية عشرة : قرأ الجمهور يذبحون بالتشديد على المبالغة وقرأ ابن محيصن " يذبحون " بالتخفيف والأول أرجح إذ الذبح متكرر وكان فرعون على ما روي قد رأى في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه وقيل غير هذا والمعنى متقارب الثالثة عشرة : وفي ذلكم إشارة إلى جملة الأمر إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و بلاء نعمة ومنه قوله تعالى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا قال أبو الهيثم البلاء يكون حسنا ويكون سيئا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء حكاه الهروي وقال قوم الإشارة ب " ذلكم " إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي : تنجيتكم نعمة من الله عليكم وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر ، والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان وقال ابن كيسان ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد : [ ص: 364 ] جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو فجمع بين اللغتين والأكثر في الخير أبليته وفي الشر بلوته وفي الاختبار ابتليته وبلوته قاله النحاس .قوله تعالى : وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون قوله تعالى : وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم إذ في موضع نصب و فرقنا فلقنا فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل العظيم وأصل الفرق الفصل ومنه فرق الشعر ، ومنه الفرقان ؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه فالفارقات فرقا يعني الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل ومنه يوم الفرقان يعني يوم بدر كان فيه فرق بين الحق والباطل ومنه وقرآنا فرقناه أي فصلناه وأحكمناه وقرأ الزهري " فرقنا " بتشديد الراء أي جعلناه فرقا ومعنى بكم أي لكم فالباء بمعنى اللام وقيل الباء في مكانها أي فرقنا البحر بدخولكم إياه أي صاروا بين الماءين فصار الفرق بهم وهذا أولى يبينه فانفلق . قوله تعالى : " البحر " البحر معروف سمي بذلك لاتساعه ويقال فرس بحر إذا كان واسع الجري أي كثيره ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مندوب فرس أبي طلحة ( وإن وجدناه لبحرا ) والبحر الماء الملح ويقال أبحر الماء ملح قال نصيب وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب والبحر البلدة يقال هذه بحرتنا أي بلدتنا قاله الأموي والبحر السلال يصيب الإنسان . ويقولون لقيته صحرة بحرة أي بارزا مكشوفا ، وفي الخبر عن كعب [ ص: 365 ] الأحبار قال إن لله ملكا يقال له صندفاييل البحار كلها في نقرة إبهامه ذكره أبو نعيم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب قوله تعالى : فأنجيناكم أي أخرجناكم منه يقال نجوت من كذا نجاء ، ممدود ، ونجاة ، مقصور ، والصدق منجاة وأنجيت غيري ونجيته وقرئ بهما وإذ نجيناكم فأنجيناكم . قوله تعالى : وأغرقنا آل فرعون يقال غرق في الماء غرقا فهو غرق وغارق أيضا ومنه قول أبي النجم : من بين مقتول وطاف غارق وأغرقه غيره وغرقه فهو مغرق وغريق ولجام مغرق بالفضة أي محلى والتغريق القتل قال الأعشى ألا ليت قيسا غرقته القوابل وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلى عام القحط ذكرا كان أو أنثى حتى يموت ثم جعل كل قتل تغريقا ، ومنه قول ذي الرمة : إذا غرقت أرباضها ثني بكرة بتيهاء لم تصبح رءوما سلوبها والأرباض الحبال والبكرة الناقة الفتية وثنيها بطنها . الثاني : وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب . |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 372 الى صــ 377 الحلقة (62) والأربعون في قول أكثر المفسرين ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة ، وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدوا فيما ذكر المفسرون عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد أخلفنا موعده فاتخذوا العجل وقال لهم السامري هذا إلهكم وإله موسى فاطمأنوا إلى قوله ونهاهم هارون وقال يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في [ ص: 372 ] الخبر وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد ، وهو الحلال والحرام وما يحتاجون ، وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة وورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لدن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى فقتل بعضهم بعضا لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد كل من استقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله حتى عج موسى إلى الله صارخا يا رباه قد فنيت بنو إسرائيل فرحمهم الله وجاد عليهم . بفضله فقبل توبة من بقي وجعل من قتل في الشهداء على ما يأتي . الرابعة : إن قيل لم خص الليالي بالذكر دون الأيام ؟ قيل له ؛ لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة ; ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها . الخامسة : قال النقاش : في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم ; لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يوما بلياليها قال ابن عطية : سمعت أبي يقول : سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول أين حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قوله حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم آتنا غداءنا . قلت : وبهذا استدل علماء الصوفية على الوصال ، وأن أفضله أربعون يوما وسيأتي الكلام في الوصال في آي الصيام من هذه السورة إن شاء الله تعالى ويأتي في " الأعراف " زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ويأتي لقصة العجل بيان في كيفيته وخواره هناك وفي " طه " إن شاء الله تعالى . السادسة : قوله تعالى : ثم اتخذتم العجل من بعده أي اتخذتموه إلها من بعد موسى وأصل اتخذتم ائتخذتم من الأخذ ووزنه افتعلتم سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين فجاء ايتخذتم فاضطربت الياء في التصريف ، جاءت ألفا في ياتخذ وواوا في موتخذ فبدلت بحرف جلد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت ثم اجتلبت ألف [ ص: 373 ] الوصل للنطق ، وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير كقوله تعالى قل أتخذتم عند الله عهدا فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير قال الشاعر : أستحدث الركب عن أشياعهم خبرا أم راجع القلب من أطرابه طرب ونحوه في القرآن أطلع الغيب أصطفى البنات أستكبرت أم كنت ومذهب أبي علي الفارسي أن " اتخذتم " من تخذ لا من أخذ . وأنتم ظالمون جملة في موضع الحال وقد تقدم معنى الظلم . والحمد لله قوله تعالى : ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : ثم عفونا عنكم العفو : عفو الله جل وعز عن خلقه ، وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة ، وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك عفت الريح الأثر أي أذهبته وعفا الشيء كثر فهو من الأضداد ومنه قوله تعالى حتى عفوا . الثانية : قوله تعالى : من بعد ذلك أي من بعد عبادتكم العجل وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته والله أعلم والعجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة عن أبي الجراح . الثالثة : قوله تعالى : لعلكم تشكرون كي تشكروا عفو الله عنكم ، وقد تقدم معنى لعل وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قوله دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه كما تقدم في الفاتحة قال الجوهري الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف يقال شكرته وشكرت له وباللام أفصح والشكران خلاف الكفران وتشكرت له مثل شكرت له ، وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يشكر الله من لا يشكر الناس قال الخطابي هذا الكلام يتأول على معنيين : أحدهما أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر [ ص: 374 ] لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له ، والوجه الآخر أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ، ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر . الرابعة : في عبارات العلماء في معنى الشكر فقال سهل بن عبد الله الشكر الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية ، وقالت فرقة أخرى : الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال تعالى اعملوا آل داود شكرا فقال داود : كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك قال الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة قال يا رب فأرني أخفى نعمك علي قال يا داود تنفس فتنفس داود فقال الله تعالى من يحصي هذه النعمة الليل والنهار وقال موسى عليه السلام كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازي بها عملي كله فأوحى الله إليه يا موسى الآن شكرتني ، وقال الجنيد حقيقة الشكر العجز عن الشكر وعنه قال كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي يا غلام ما الشكر ؟ فقلت ألا يعصى الله بنعمه فقال لي أخشى أن يكون حظك من الله لسانك قال الجنيد فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي وقال الشبلي الشكر التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسماوات وقال ذو النون المصري أبو الفيض الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال . قوله تعالى : وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون " إذ " اسم للوقت الماضي و " إذا " اسم للوقت المستقبل وآتينا أعطينا ، وقد تقدم جميع هذا والكتاب التوراة بإجماع من المتأولين واختلف في الفرقان فقال الفراء وقطرب : المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا عليه السلام الفرقان قال النحاس هذا خطأ في الإعراب والمعنى أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه وأما المعنى فقد قال تعالى ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان قال أبو إسحاق الزجاج يكون الفرقان هو الكتاب ، أعيد ذكره باسمين تأكيدا وحكي عن الفراء ومنه قول الشاعر [ عدي بن يزيد ] : وقدمت الأديم لراهشيه وألفى قولها كذبا ومينا [ ص: 375 ] وقال آخر [ الحطيئة ] : ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد فنسق البعد على النأي والمين على الكذب لاختلاف اللفظين تأكيدا ، ومنه قول عنترة حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم قال النحاس وهذا إنما يجيء في الشعر وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه وقال ابن زيد الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا فعبروا ، وقيل الفرقان الفرج من الكرب ؛ لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ، ومنه قوله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا أي فرجا ومخرجا وقيل : إنه الحجة والبيان قاله ابن بحر وقيل الواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان والواو قد تزاد في النعوت كقولهم فلان حسن وطويل وأنشد إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة ودليل هذا التأويل قوله عز وجل : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء أي بين الحرام والحلال والكفر والإيمان والوعد والوعيد وغير ذلك ، وقيل الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون أنجى هؤلاء وأغرق أولئك ونظيره يوم الفرقان فقيل يعني به يوم بدر نصر الله فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهلك أبا جهل وأصحابه . لعلكم تهتدون لكي تهتدوا من الضلالة وقد تقدم .قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه القوم الجماعة الرجال دون النساء قال الله تعالى لا يسخر قوم من قوم ثم قال ولا نساء من نساء وقال زهير : وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء [ ص: 376 ] وقال تعالى ولوطا إذ قال لقومه أراد الرجال دون النساء وقد يقع القوم على الرجال والنساء قال الله تعالى إنا أرسلنا نوحا إلى قومه وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعا قوله تعالى : يا قوم منادى مضاف وحذفت الياء في يا قوم ؛ لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها ، وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول يا قومي ؛ لأنها اسم وهي في موضع خفض وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت يا قوميه وإن شئت أبدلت منها ألفا ؛ لأنها أخف فقلت يا قوما وإن شئت قلت يا قوم بمعنى يا أيها القوم وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ وتقول قوم وأقوام وأقاوم جمع الجمع والمراد هنا بالقوم عبدة العجل وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى . قوله تعالى : إنكم ظلمتم أنفسكم استغنى بالجمع القليل عن الكثير ، والكثير نفوس وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة والقليل موضع الكثرة قال الله تعالى ثلاثة قروء وقال وفيها ما تشتهيه الأنفس ويقال لكل من فعل فعلا يعود عليه ضرره إنما أسأت إلى نفسك ، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه . ثم قال تعالى : باتخاذكم العجل قال بعض أرباب المعاني عجل كل إنسان نفسه فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل والحمد لله قوله تعالى : فتوبوا إلى بارئكم لما قال لهم فتوبوا إلى بارئكم قالوا كيف ؟ قال فاقتلوا أنفسكم قال أرباب الخواطر ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات والصحيح أنه قتل على الحقيقة هنا ، والقتل إماتة الحركة وقتلت الخمر كسرت شدتها بالماء قال سفيان بن عيينة التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري لما قيل لهم فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي على ما تقدم ، وقال بعض المفسرين : أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك وقيل : وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم وقيل قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا - إذ لم يعبدوا العجل - من عبد العجل . ويروى أن يوشع بن نون [ ص: 377 ] خرج عليهم وهم محتبون فقال ملعون من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم يعني من قتل ، وأقبل الرجل يقتل من يليه . ذكره النحاس وغيره ، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم على القول الأول ; لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه ، وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده ، وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ، ولم يغير عوقب الجميع روى جرير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب أخرجه ابن ماجه في سننه ، وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى فلما استحر فيهم القتل ، وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما ، وإنما رفع الله عنهم القتل ؛ لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة ، وقرأ قتادة " فأقيلوا أنفسكم " من الإقالة أي استقبلوها من العثرة بالقتل . قوله تعالى : بارئكم البارئ الخالق وبينهما فرق ، وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال والبرية الخلق ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز وقرأ أبو عمرو " بارئكم " بسكون الهمزة ويشعركم وينصركم ويأمركم واختلف النحاة في هذا فمنهم من يسكن الضمة والكسرة في الوصل ، وذلك في الشعر وقال أبو العباس المبرد : لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر وقراءة أبي عمرو لحن قال النحاس وغيره : وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا إذا اعوججن قلت صاحب قوم بالدو أمثال السفين العوم وقال امرؤ القيس فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل وقال آخر قالت سليمى اشتر لنا سويقا https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 384 الى صــ 389 الحلقة (64) الثانية : قوله تعالى : هذه القرية أي : المدينة ، سميت بذلك لأنها تقرت أي : اجتمعت ، ومنه قريت الماء في الحوض أي : جمعته ، واسم ذلك الماء : قرى ( بكسر القاف ) مقصور ، وكذلك ما قري به الضيف ، قاله الجوهري والمقراة للحوض ، والقري لمسيل الماء ، والقرا للظهر ، ومنه قوله : لاحق بطن بقرا سمين والمقاري : الجفان الكبار ، قال : عظام المقاري ضيفهم لا يفزع وواحد المقاري مقراة وكله بمعنى الجمع غير مهموز ، والقرية ( بكسر القاف ) لغة اليمن ، واختلف في تعيينها ، فقال الجمهور : هي بيت المقدس ، وقيل : أريحاء من بيت المقدس ، قال عمر بن شبة : كانت قاعدة ومسكن ملوك . ابن كيسان : الشام . الضحاك : الرملة والأردن وفلسطين وتدمر ، وهذه نعمة أخرى ، وهي أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه . الثالثة : قوله تعالى : فكلوا إباحة . ورغدا : كثيرا واسعا ، وهو نعت لمصدر محذوف أي : أكلا رغدا ، ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدم ، وكانت أرضا مباركة عظيمة الغلة ، فلذلك قال : رغدا . الرابعة : قوله تعالى : وادخلوا الباب سجدا الباب يجمع أبوابا ، وقد قالوا : أبوبة للازدواج ، قال الشاعر [ حميط الأرقط ] هتاك أخبية ولاج أبوبة يخلط بالبر منه الجد واللينا ولو أفرده لم يجز ، ومثله قوله عليه السلام : مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى وتبوبت بوابا اتخذته ، وأبواب مبوبة كما قالوا : أصناف مصنفة ، وهذا شيء من بابتك أي : يصلح لك ، وقد تقدم معنى السجود فلا معنى لإعادته ، والحمد لله . والباب الذي أمروا بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم ب " باب حطة " - عن [ ص: 385 ] مجاهد وغيره . وقيل : باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل و سجدا قال ابن عباس : منحنين ركوعا ، وقيل : متواضعين خضوعا لا على هيئة متعينة . الخامسة : قوله تعالى : وقولوا عطف على ادخلوا . " حطة " - بالرفع - قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ أي : مسألتنا حطة ، أو يكون حكاية ، قال الأخفش : وقرئت " حطة " بالنصب على معنى : أحطط عنا ذنوبنا حطة . قال النحاس : الحديث عن ابن عباس أنه قيل لهم : قولوا لا إله إلا الله وفي حديث آخر عنه : قيل لهم : قولوا : مغفرة ، تفسير للنصب أي : قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال : قل خيرا ، والأئمة من القراء على الرفع ، وهو أولى في اللغة ؛ لما حكي عن العرب في معنى بدل ، قال أحمد بن يحيى : يقال : بدلته أي : غيرته ، ولم أزل عينه ، وأبدلته : أزلت عينه وشخصه ، كما قال : عزل الأمير للأمير المبدل وقال الله عز وجل : قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله وحديث ابن مسعود قالوا : حطة تفسير على الرفع . هذا كله قول النحاس . وقال الحسن وعكرمة : حطة بمعنى حط ذنوبنا ، أمروا أن يقولوا : لا إله إلا الله ليحط بها ذنوبهم ، وقال ابن جبير معناه الاستغفار . أبان بن تغلب : التوبة ، قال الشاعر : فاز بالحطة التي جعل الل ه بها ذنب عبده مغفورا وقال ابن فارس في المجمل : " حطة " كلمة أمر بها بنو إسرائيل ، لو قالوها لحطت أوزارهم ، وقاله الجوهري أيضا في " الصحاح " . قلت : يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه ، وهو الظاهر من الحديث ، روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم ، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم ، وقالوا : حبة في شعرة وأخرجه البخاري وقال فبدلوا وقالوا : حطة حبة في شعرة في غير الصحيحين : حنطة في شعر وقيل : قالوا : هطا سمهأثا ، وهي لفظة عبرانية ، تفسيرها : حنطة حمراء ، حكاها ابن قتيبة وحكاه الهروي عن السدي ومجاهد ، وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا [ ص: 386 ] وتمردوا واستهزءوا فعاقبهم الله بالرجز ، وهو العذاب ، وقال ابن زيد كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا ، وروي أن الباب جعل قصيرا ليدخلوه ركعا فدخلوه متوركين على أستاههم ، والله أعلم . السادسة : استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها ، فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها ؛ لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله ، وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه . فائدة في التحديث : وقد اختلف العلماء في هذا المعنى ، فحكي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله ، وهو قول الجمهور . ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة وقال مجاهد : انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه . وكان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاء والياء ونحو هذا ، وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحونا ويعلمون ذلك ، ولا يغيرونه . وروى أبو مجلز عن قيس بن عباد قال : قال عمر بن الخطاب : من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم ، وروي نحوه عن عبد الله بن عمرو وزيد بن أرقم وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ، ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ ، وذلك هو الأحوط في الدين والأتقى والأولى ، ولكن أكثر العلماء على خلافه ، والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة ، وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ، ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ، ولا كتبها . وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال : ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم ، حسبكم المعنى . وقال قتادة عن زرارة بن أوفى : لقيت عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا علي في [ ص: 387 ] اللفظ ، واجتمعوا في المعنى ، وكان النخعي والحسن والشعبي - رحمهم الله - يأتون بالحديث على المعاني ، وقال الحسن : إذا أصبت المعنى أجزأك . وقال سفيان الثوري - رحمه الله - : إذا قلت لكم : إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني ، إنما هو المعنى . وقال وكيع رحمه الله : إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس . واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم وذلك هو النقل بالمعنى ، وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف ، فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد ، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي ، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والإلغاء والزيادة والنقصان ، وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز بالعربية أولى ، احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي ، وهو الصحيح في الباب . فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها كما سمعها وذكر الحديث وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه : آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ، فقال الرجل : ورسولك الذي أرسلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ونبيك الذي أرسلت قالوا : أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال : فأداها كما سمعها قيل لهم : أما قوله : فأداها كما سمعها فالمراد حكمها لا لفظها ؛ لأن اللفظ غير معتد به ، ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله : فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة ، لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة ، وذلك أدل على الجواز ، وأما رده - عليه [ ص: 388 ] السلام - الرجل من قوله : ( ورسولك إلى قوله : ونبيك ) لأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع ، ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام . . . ؟ ! وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة ، فلما قال : ( ونبيك ) جاء بالنعت الأمدح ثم قيده بالرسالة بقوله : ( الذي أرسلت ) وأيضا فإن نقله من قوله : ( ورسولك إلى قوله : ونبيك ) ليجمع بين النبوة والرسالة ومستقبح في الكلام أن تقول : هذا رسول فلان الذي أرسله ، وهذا قتيل زيد الذي قتله ؛ لأنك تجتزئ بقولك : رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل ، إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول ، وإنما يحسن أن تقول : هذا رسول عبد الله الذي أرسله إلى عمرو ، وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أو في وقعة كذا ، والله ولي التوفيق . فإن قيل إذا جاز للراوي الأول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغيير ألفاظ الأول ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها ، قيل له : الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا ، فإن عدمت لم يجز ، قال ابن العربي : الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية ، وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت والفهوم قد تباينت والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق . والله أعلم . قال بعض علمائنا : لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله ، فإن الجواز إذا كان مشروطا بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ، ولهذا لم يفصل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل ، نعم ، لو قال : المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب والله أعلم . السابعة : قوله تعالى : نغفر لكم خطاياكم قراءة نافع بالياء مع ضمها وابن عامر بالتاء مع ضمها ، وهي قراءة مجاهد ، وقرأها الباقون بالنون مع نصبها ، وهي أبينها ؛ لأن قبلها : وإذ قلنا ادخلوا ، فجرى " نغفر " على الإخبار عن الله تعالى ، والتقدير : وقلنا ادخلوا الباب سجدا نغفر ؛ ولأن بعده : وسنزيد - بالنون - وخطاياكم اتباعا للسواد وأنه على بابه ، ووجه من قرأ بالتاء أنه أثبت لتأنيث لفظ الخطايا ؛ لأنها جمع خطيئة على التكسير ، ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله على ما تقدم في قوله : فتلقى آدم من ربه كلمات وحسن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله وإذ قلنا ؛ لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى فاستغني عن النون ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة . الثامنة : واختلف في أصل خطايا جمع خطيئة بالهمزة فقال الخليل : الأصل في خطايا [ ص: 389 ] أن يقول : خطايئ ثم قلب فقيل : خطائي بهمزة بعدها ياء ، ثم تبدل من الياء ألفا بدلا لازما فتقول : خطاءا ، فلما اجتمعت ألفان بينهما همزة والهمزة من جنس الألف صرت كأنك جمعت بين ثلاث ألفات فأبدلت من الهمزة ياء فقلت : خطايا ، وأما سيبويه فمذهبه أن الأصل مثل الأول " خطايئ " ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول : خطائئ ، ولا تجتمع همزتان في كلمة ، فأبدلت من الثانية ياء فقلت : خطائي ، ثم عملت كما عملت في الأول وقال الفراء : خطايا جمع خطية بلا همزة كما تقول : هدية وهدايا ، قال الفراء : ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت : خطاءا وقال الكسائي لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت : دواب . التاسعة : قوله تعالى : وسنزيد المحسنين أي : في إحسان من لم يعبد العجل ويقال : يغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد ، ويقال : يغفر خطايا من هو عاص ، وسيزيد في إحسان من هو محسن أي : نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم وهو اسم فاعل من أحسن ، والمحسن من صحح عقد توحيده ، وأحسن سياسة نفسه ، وأقبل على أداء فرائضه ، وكفى المسلمين شره ، وفي حديث جبريل عليه السلام ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، قال : صدقت . . . وذكر الحديث ، خرجه مسلم . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 396 الى صــ 401 الحلقة (66) قوله تعالى : على طعام الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب ، قال الله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني وقال : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا أي : ما شربوه من الخمر على - ما يأتي بيانه - وإن كان السلوى العسل كما حكى المؤرج فهو مشروب أيضا وربما خص بالطعام البر والتمر كما في حديث أبي سعيد الخدري قال : كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير [ ص: 396 ] الحديث . والعرف جار بأن القائل : ذهبت إلى سوق الطعام ، فليس يفهم منه إلا موضع بيعه دون غيره مما يؤكل أو يشرب ، والطعم ( بالفتح ) هو ما يؤديه الذوق ، يقال : طعمه مر والطعم أيضا ما يشتهى منه ، يقال : ليس له طعم ، وما فلان بذي طعم إذا كان غثا والطعم ( بالضم ) الطعام ، قال أبو خراش : قوله تعالى : واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض لغة بني عامر " فادع " بكسر العين لالتقاء الساكنين يجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف ، و " يخرج " مجزوم على معنى : سله وقل له أخرج يخرج ، وقيل : هو على معنى الدعاء على تقدير حذف اللام وضعفه الزجاج و " من " في قوله : " مما " زائدة في قول الأخفش وغير زائدة في قول سيبويه ؛ لأن الكلام موجب ، قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا ؛ لأنه لم يجد مفعولا ل " يخرج " فأراد أن يجعل " ما " مفعولا ، والأولى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سائر الكلام ، التقدير : يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا ، ف " من " الأولى على هذا للتبعيض ، والثانية للتخصيص . أرد شجاع البطن لو تعلمينه وأوثر غيري من عيالك بالطعم وأغتبق الماء القراح فأنتهي إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم أراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى منه ، وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا أكل وذاق ، ومنه قوله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني أي : من لم يذقه ، وقال : فإذا طعمتم فانتشروا أي : أكلتم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم : إنها طعام طعم وشفاء سقم واستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه ، وفي الحديث : إذا استطعمكم الإمام فأطعموه يقول إذا استفتح فافتحوا عليه ، وفلان ما يطعم النوم إلا قائما ، وقال الشاعر : نعاما بوجرة صفر الخدو د ما تطعم النوم إلا صياما " من بقلها " بدل من " ما " بإعادة الحرف . و " قثائها " عطف عليه ، وكذا ما بعده فاعلمه ، والقثاء أيضا معروف وقد تضم قافه وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف ، لغتان ، والكسر أكثر ، وقيل في جمع قثاء : قثائي مثل علباء وعلابي إلا أن قثاء من ذوات الواو ، تقول : أقثأت القوم أي : أطعمتهم ذلك . [ ص: 397 ] وفثأت القدر سكنت غليانها بالماء ، قال الجعدي : تفور علينا قدرهم فنديمها ونفثؤها عنا إذا حميها غلا وفثأت الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه ، وعدا حتى أفثأ أي : أعيا وانبهر وأفثأ الحر أي : سكن وفتر ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم إن الرثيئة تفثأ في الغضب ، وأصله أن رجلا كان غضب على قوم ، وكان مع غضبه جائعا فسقوه رثيئة فسكن غضبه وكف عنهم . الرثيئة اللبن المحلوب على الحامض ليخثر ، رثأت اللبن رثأ إذا حلبته على حامض فخثر ، والاسم الرثيئة وارتثأ اللبن خثر . وروى ابن ماجه ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة وهذا إسناد صحيح قوله تعالى : " وفومها " اختلف في الفوم ، فقيل : هو الثوم ؛ لأنه المشاكل للبصل ، رواه جويبر عن الضحاك والثاء تبدل من الفاء كما قالوا : مغافير ومغاثير ، وجدث وجدف للقبر ، وقرأ ابن مسعود " ثومها " بالثاء المثلثة ، وروي ذلك عن ابن عباس وقال أمية بن أبي الصلت : كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل الفراديس واحدها فرديس وكرم مفردس أي : معرش . وقال حسان : وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل يعني الثوم والبصل وهو قول الكسائي والنضر بن شميل وقيل : الفوم الحنطة روي عن ابن عباس - أيضا - وأكثر المفسرين ، واختاره النحاس قال : وهو أولى ، ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح ، وليس جويبر بنظير لروايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء ، والإبدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب ، وأنشد ابن عباس - لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة - قول أحيحة بن الجلاح : [ ص: 398 ] قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ورد المدينة عن زراعة فوم وقال أبو إسحاق الزجاج : وكيف يطلب القوم طعاما لا بر فيه والبر أصل الغذاء ، وقال الجوهري أبو نصر : الفوم الحنطة وأنشد الأخفش : قد كنت أحسبني كأغنى واجد نزل المدينة عن زراعة فوم وقال ابن دريد الفومة السنبلة وأنشد : وقال ربيئهم لما أتانا بكفه فومة أو فومتان والهاء في " كفه " غير مشبعة ، وقال بعضهم : الفوم الحمص - لغة شامية - وبائعه فامي مغير عن فومي ؛ لأنهم قد يغيرون في النسب ، كما قالوا : سهلي ودهري . ويقال : فوموا لنا أي : اختبزوا . قال الفراء : هي لغة قديمة . وقال عطاء وقتادة : الفوم كل حب يختبز . مسألة : اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول ، فذهب جمهور العلماء إلى إباحة ذلك ، للأحاديث الثابتة في ذلك وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا إلى المنع ، وقالوا : كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به . واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها خبيثة ، والله عز وجل قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث . ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ببدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا ، قال : فأخبر بما فيها من البقول ، فقال ( قربوها ) إلى بعض أصحابه كان معه ، فلما رآه كره أكلها ، قال : كل فإني أناجي من لا تناجي . أخرجه مسلم وأبو داود . فهذا بين في الخصوص له والإباحة لغيره . وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب ، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فيه [ ص: 399 ] ثوم ، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : لم يأكل ففزع وصعد إليه فقال : أحرام هو ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ولكني أكرهه ) . قال فإني أكره ما تكره أو ما كرهت ، قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى ( يعني يأتيه الوحي ) فهذا نص على عدم التحريم . وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها : أيها الناس ، إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها فهذه الأحاديث تشعر بأن الحكم خاص به ، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك . لكن قد علمنا هذا الحكم في حديثجابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال : من أكل من هذه البقلة الثوم ، وقال مرة من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول : إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين ، هذا البصل والثوم . ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا . خرجه مسلم . قوله تعالى : وعدسها وبصلها العدس معروف . والعدسة : بثرة تخرج بالإنسان ، وربما قتلت وعدس : زجر للبغال ، قال [ يزيد بن مفرغ ] : عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق والعدس : شدة الوطء ، والكدح أيضا ، يقال : عدسه . وعدس في الأرض : ذهب فيها . وعدست إليه المنية أي : سارت ، قال الكميت : أكلفها هول الظلام ولم أزل أخا الليل معدوسا إلي وعادسا أي : يسار إلي بالليل . وعدس : لغة في حدس ، قاله الجوهري . ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي أنه قال : عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس ، وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة ، فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم ، ذكره الثعلبي وغيره . وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوما خبزا بزيت ، ويوما بلحم ، ويوما بعدس . قال الحليمي : والعدس والزيت طعام الصالحين ، [ ص: 400 ] ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية . وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة ، لا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم . والحنطة من جملة الحبوب ، وهي الفوم على الصحيح ، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة ، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام ، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشبع هو وأهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل قوله تعالى : قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير الاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر ، ومنه البدل ، وقد تقدم . وأدنى مأخوذ عند الزجاج من الدنو أي : القرب في القيمة ، من قولهم : ثوب مقارب ، أي : قليل الثمن . وقال علي بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البين الدناءة بمعنى الأخس ، إلا أنه خفف همزته . وقيل : هو مأخوذ من الدون أي : الأحط ، فأصله أدون ، أفعل ، قلب فجاء أفلع ، وحولت الواو ألفا لتطرفها . وقرئ في الشواذ أدنى . ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير . واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهي خمسة : الأول : أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل ، قاله الزجاج . الثاني : لما كان المن والسلوى طعاما من الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل - كان أدنى في هذا الوجه . الثالث : لما كان ما من الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه ، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة . الرابع : لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب - كان أدنى . [ ص: 401 ] الخامس : لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه ، كانت أدنى من هذا الوجه . مسألة : في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل ، ويشرب الماء البارد العذب ، وسيأتي هذا المعنى في " المائدة " و " النحل " إن شاء الله مستوفى . قوله تعالى : اهبطوا مصرا تقدم معنى الهبوط ، وهذا أمر معناه التعجيز ، كقوله تعالى : قل كونوا حجارة أو حديدا لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم . وقيل : إنهم أعطوا ما طلبوه . و " مصرا " - بالتنوين منكرا - قراءة الجمهور ، وهو خط المصحف ، قال مجاهد وغيره : فمن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين . وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : اهبطوا مصرا قال : مصرا من هذه الأمصار . وقالت طائفة ممن صرفها أيضا : أراد مصر فرعون بعينها . استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه . واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم ، وأجازوا صرفها . قال الأخفش والكسائي : لخفتها وشبهها بهند ودعد ، وأنشد : لم تتلفع بفضل مئزرها دعد ولم تسق دعد في العلب https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 408 الى صــ 413 الحلقة (68) القول في سبب رفع الطور وذلك أن موسى عليه السلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة ، قال لهم : خذوها والتزموها . فقالوا : لا إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك . فصعقوا ثم أحيوا . فقال لهم : خذوها . فقالوا : لا ، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأتوا ببحر من خلفهم ، ونار من قبل وجوههم ، وقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل . فسجدوا توبة لله وأخذوا التوراة بالميثاق . قال الطبري عن بعض العلماء : لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق . وكان سجودهم على شق ؛ لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا ، فلما رحمهم الله قالوا : لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها عباده ، فأمروا سجودهم على شق واحد . قال ابن عطية : والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة بذلك . قوله تعالى : " خذوا " أي : فقلنا : خذوا ، فحذف . " ما آتيناكم " أعطيناكم . بقوة أي : بجد واجتهاد ، قال ابن عباس وقتادة والسدي . وقيل : بنية وإخلاص . مجاهد : القوة : العمل بما فيه . وقيل : بقوة : بكثرة درس . واذكروا ما فيه أي : تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده ، ولا تنسوه ولا تضيعوه . قلت : هذا هو المقصود من الكتب ، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها ، فإن ذلك نبذ لها ، على ما قاله الشعبي وابن عيينة ، وسيأتي قولهما عند قوله تعالى : نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب . وقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن من شر الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه . فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود العمل كما بينا . وقال مالك : قد يقرأ القرآن من لا خير فيه . فما لزم إذا من قبلنا وأخذ عليهم لازم لنا وواجب علينا . قال الله تعالى :واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم فأمرنا باتباع كتابه والعمل بمقتضاه ، لكن تركنا ذلك كما تركت اليهود والنصارى ، وبقيت أشخاص الكتب والمصاحف لا تفيد شيئا ، لغلبة الجهل وطلب الرياسة واتباع الأهواء . روى الترمذي عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال : [ ص: 409 ] هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء . فقال زياد بن لبيد الأنصاري : كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فوالله لأقرأنه ولأقرئنه نساءنا وأبناءنا . فقال : ثكلتك أمك يازياد إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم وذكر الحديث ، وسيأتي . وخرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزياد : ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى . وفي الموطأ عن عبد الله بن مسعود ، قال لإنسان : إنك في زمان كثير فقهاؤه ، قليل قراؤه ، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه ، قليل من يسأل ، كثير من يعطي ، يطيلون الصلاة ويقصرون فيه الخطبة ، يبدءون فيه أعمالهم قبل أهوائهم . وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، تحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي ، يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة ، يبدءون فيه أهواءهم قبل أعمالهم . وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا . وقد قال يحيى سألت ابن نافع عن قوله : يبدءون أهواءهم قبل أعمالهم ؟ قال يقول : يتبعون أهواءهم ويتركون العمل بالذي افترض عليهم . وتقدم القول في معنى قوله : لعلكم تتقون فلا معنى لإعادته . قوله تعالى : ثم توليتم تولى تفعل ، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء ومجازا . وقوله : من بعد ذلك أي : من بعد البرهان ، وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل . وقوله : فلولا فضل الله عليكم " فضل " مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا يجوز إظهاره ؛ لأن العرب استغنت عن إظهاره ، إلا أنهم إذا أرادوا إظهاره جاءوا ب " أن " ، فإذا جاءوا بها لم يحذفوا الخبر . والتقدير : فلولا فضل الله تدارككم . " ورحمته " عطف على فضل أي : لطفه وإمهاله . " لكنتم " جواب " لولا " " من الخاسرين " خبر كنتم . والخسران : النقصان ، وقد تقدم . وقيل : فضله قبول التوبة ، ورحمته العفو . والفضل : الزيادة على ما وجب . والإفضال : فعل ما لم يجب . قال ابن فارس في المجمل : الفضل الزيادة والخير ، والإفضال : الإحسان . [ ص: 410 ] قوله تعالى : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت علمتم معناه عرفتم أعيانهم . وقيل : علمتم أحكامهم . والفرق بينهما أن المعرفة متوجهة إلى ذات المسمى . والعلم متوجه إلى أحوال المسمى . فإذا قلت : عرفت زيدا ، فالمراد شخصه ، وإذا قلت : علمت زيدا ، فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص . فعلى الأول يتعدى الفعل إلى مفعول واحد ، وهو قول سيبويه : علمتم بمعنى عرفتم . وعلى الثاني إلى مفعولين ، وحكى الأخفش ولقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه . وفي التنزيل : لا تعلمونهم الله يعلمهم كل هذا بمعنى المعرفة ، فاعلم . الذين اعتدوا منكم في السبت صلة الذين . والاعتداء . التجاوز ، وقد تقدم . الثانية : روى النسائي عن صفوان بن عسال قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي . فقال له صاحبه : لا تقل نبي لو سمعك ، فإن له أربعة أعين . فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات ، فقال لهم : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا المحصنة ، ولا تولوا يوم الزحف ، وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت . فقبلوا يديه ورجليه وقالوا : نشهد أنك نبي . قال : فما يمنعكم أن تتبعوني ؟ قالوا : إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود . وخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . وسيأتي لفظه في سورة " سبحان " إن شاء الله تعالى . الثالثة : في السبت معناه في يوم السبت ، ويحتمل أن يريد في حكم السبت . والأول قول الحسن ، وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال . وروى أشهب عن مالك قال : زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى ، حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده . فقامت فرقة [ ص: 411 ] فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت . ويقال : إن الناهين قالوا : لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار . فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن للناس لشأنا ، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة ، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القردة ، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ، فيقول : ألم ننهكم ؟ فتقول برأسها : نعم . قال قتادة : صار الشبان قردة ، والشيوخ خنازير ، فما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم . وسيأتي في " الأعراف " قول من قال : إنهم كانوا ثلاث فرق . وهو أصح من قول من قال : إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين . والله أعلم . والسبت مأخوذ من السبت وهو القطع ، فقيل : إن الأشياء سبتت وتمت خلقتها . وقيل : هو مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة . واختلف العلماء في الممسوخ هل ينسل على قولين . قال الزجاج : قال قوم : يجوز أن تكون هذه القردة منهم . واختاره القاضي أبو بكر بن العربي . وقال الجمهور : الممسوخ لا ينسل ، وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك ، والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسل ؛ لأنه قد أصابهم السخط والعذاب ، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام . قال ابن عباس : لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل . قال ابن عطية : وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أن الممسوخ لا ينسل ، ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام . قلت : هذا هو الصحيح من القولين . وأما ما احتج به ابن العربي وغيره على صحة القول الأول من قوله صلى الله عليه وسلم : فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ؛ ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته . رواه أبو هريرة أخرجه مسلم ، وبحديث الضب ، رواه مسلم أيضا عن أبي سعيد وجابر ، قال جابر : أتي [ ص: 412 ] النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه ، وقال : ( لا أدري لعله من القرون التي مسخت ) فمتأول على ما يأتي . قال ابن العربي : وفي البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال : رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم . ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها ، وثبت في نص الحديث " قد زنت " وسقط هذا اللفظ عند بعضهم . قال ابن العربي : فإن قيل : وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان عمرو ؟ قلنا : نعم ، كذلك كان ؛ لأن اليهود غيروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه ، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم ، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ويحصي ما يبدلون وما يغيرون ، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون وينصر نبيه عليه السلام ، وهم لا ينصرون . قلت : هذا كلامه في الأحكام ، ولا حجة في شيء منه . وأما ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين : حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأودي في الصحيحين حكاية من رواية حصين عنه قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة فرجموها فرجمتها معهم . كذا حكى أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري من كتابه ، فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها ، فذكر في كتاب " أيام الجاهلية " . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 420 الى صــ 425 الحلقة (70) قوله : " صفراء " جمهور المفسرين أنها صفراء اللون ، من الصفرة المعروفة . قال [ ص: 420 ] مكي عن بعضهم : حتى القرن والظلف . وقال الحسن وابن جبير : كانت صفراء القرن والظلف فقط ، وعن الحسن أيضا : صفراء معناه : سوداء ، قال الشاعر : تلك خيلي منه وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب قلت : والأول أصح ؛ لأنه الظاهر ، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الإبل ، قال الله تعالى : كأنه جمالة صفر وذلك أن السود من الإبل سوادها صفرة . ولو أراد السواد لما أكده بالفقوع ، وذلك نعت مختص بالصفرة ، وليس يوصف السواد بذلك ، تقول العرب : أسود حالك وحلكوك وحلكوك ، ودجوجي وغربيب ، وأحمر قانئ ، وأبيض ناصع ولهق ولهاق ويقق ، وأخضر ناضر ، وأصفر فاقع ، هكذا نص نقلة اللغة عن العرب . قال الكسائي : يقال فقع لونها يفقع فقوعا إذا خلصت صفرته . والإفقاع : سوء الحال . وفواقع الدهر بوائقه . وفقع بأصابعه إذا صوت ، ومنه حديث ابن عباس : نهى عن التفقيع في الصلاة ، وهي الفرقعة ، وهي غمز الأصابع حتى تنقض . ولم ينصرف " صفراء " في معرفة ولا نكرة ؛ لأن فيها ألف التأنيث وهي ملازمة فخالفت الهاء ؛ لأن ما فيه الهاء ينصرف في النكرة ، كفاطمة وعائشة . قوله تعالى : فاقع لونها يريد خالصا لونها لا لون فيها سوى لون جلدها . تسر الناظرين قال وهب : كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، ولهذا قال ابن عباس : الصفرة تسر النفس . وحض على لباس النعال الصفر ، حكاه عنه النقاش . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : من لبس نعلي جلد أصفر قل همه ، لأن الله تعالى يقول : صفراء فاقع لونها تسر الناظرين حكاه عنه الثعلبي . ونهى ابن الزبير ومحمد بن أبي كثير عن لباس النعال السود ؛ لأنها تهم . ومعنى تسر : تعجب . وقال أبو العالية : معناه في سمتها ومنظرها فهي ذات وصفين ، والله أعلم . قوله تعالى : قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قوله تعالى : إن البقر تشابه علينا سألوا سؤالا رابعا ، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان . وذكر البقر لأنه بمعنى الجمع ، ولذلك قال : إن البقر تشابه علينا فذكره للفظ تذكير البقر . قال قطرب : جمع البقرة باقر وباقور وبقر . وقال الأصمعي : الباقر جمع باقرة ، قال : ويجمع بقر على باقورة ، حكاه النحاس . وقال الزجاج : المعنى : إن جنس البقر . وقرأ الحسن فيما ذكر النحاس ، والأعرج فيما ذكر الثعلبي " إن البقر تشابه " بالتاء وشد الشين ، جعله فعلا مستقبلا [ ص: 421 ] وأنثه . والأصل تتشابه ، ثم أدغم التاء في الشين . وقرأ مجاهد " تشبه " كقراءتهما ، إلا أنه بغير ألف . وفي مصحف أبي " تشابهت " بتشديد الشين . قال أبو حاتم : وهو غلط ؛ لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلا في المضارعة . وقرأ يحيى بن يعمر " إن الباقر يشابه " جعله فعلا مستقبلا ، وذكر البقر وأدغم . ويجوز " إن البقر تشابه " بتخفيف الشين وضم الهاء ، وحكاها الثعلبي عن الحسن . النحاس : ولا يجوز " يشابه " بتخفيف الشين والياء ، وإنما جاز في التاء لأن الأصل تتشابه فحذفت لاجتماع التاءين . والبقر والباقر والبيقور والبقير لغات بمعنى ، والعرب تذكره وتؤنثه ، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في " تشابه " . وقيل إنما قالوا : إن البقر تشابه علينا لأن وجوه البقر تتشابه ، ومنه حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر . يريد أنها يشبه بعضها بعضا . ووجوه البقر تتشابه ؛ ولذلك قالت بنو إسرائيل : إن البقر تشابه علينا . قوله تعالى : وإنا إن شاء الله لمهتدون استثناء منهم ، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد ، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا . وتقدير الكلام : وإنا لمهتدون إن شاء الله . فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به . وشاء في موضع جزم بالشرط ، وجوابه عند سيبويه الجملة " إن " وما عملت فيه . وعند أبي العباس المبرد محذوف . قوله تعالى : قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون قوله تعالى : قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول قرأ الجمهور لا ذلول بالرفع على الصفة لبقرة . قال الأخفش : " لا ذلول " نعته ولا يجوز نصبه . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي " لا ذلول " بالنصب على النفي والخبر مضمر . ويجوز : لا هي ذلول ، لا هي تسقي الحرث ، هي مسلمة . ومعنى " لا ذلول " لم يذللها العمل ، يقال : بقرة مذللة بينة الذل ( بكسر الذال ) . ورجل ذليل بين الذل ( بضم الذال ) . أي : هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل . [ ص: 422 ] قوله تعالى : تثير الأرض تثير في موضع رفع على الصفة للبقرة أي : هي بقرة لا ذلول مثيرة . قال الحسن : وكانت تلك البقرة وحشية ؛ ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث أي : لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها . والوقف هاهنا حسن . وقال قوم : تثير فعل مستأنف ، والمعنى إيجاب الحرث لها ، وأنها كانت تحرث ولا تسقي . والوقف على هذا التأويل " لا ذلول " . والقول الأول أصح لوجهين : أحدهما : ما ذكره النحاس ، عن علي بن سليمان أنه قال : لا يجوز أن يكون " تثير " مستأنفا ؛ لأن بعده ولا تسقي الحرث ، فلو كان مستأنفا لما جمع بين " الواو " و " لا " . الثاني : أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها ، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله : " لا ذلول " . قلت : ويحتمل أن تكون " تثير الأرض " في غير العمل مرحا ونشاطا ، كما قال امرؤ القيس : يهيل ويذري تربه ويثيره إثارة نباث الهواجر مخمس فعلى هذا يكون " تثير " مستأنفا ، و " لا تسقي " معطوف عليه ، فتأمله . وإثارة الأرض : تحريكها وبحثها ، ومنه الحديث : ( أثيروا القرآن فإنه علم الأولين والآخرين ) وفي رواية أخرى : ( من أراد العلم فليثور القرآن ) وقد تقدم . وفي التنزيل : وأثاروا الأرض أي : قلبوها للزراعة . والحرث : ما حرث وزرع . وسيأتي . مسألة : في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه . وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي . وكذلك كل ما يضبط بالصفة ، لوصف الله تعالى في كتابه وصفا يقوم مقام التعيين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها . أخرجه مسلم . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية ، وجعل صلى الله عليه وسلم دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه دينا إلى أجل ، ولم يجعلها على الحلول . وهو يرد قول الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح حيث قالوا : لا يجوز السلم في الحيوان . وروي عن ابن مسعود وحذيفة وعبد الرحمن بن سمرة ؛ لأن [ ص: 423 ] الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشي وحركة ، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته . وسيأتي حكم السلم وشروطه في آخر السورة في آية الدين ، إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : " مسلمة " أي : هي مسلمة . ويجوز أن يكون وصفا ، أي : أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب ، قاله قتادة وأبو العالية . ولا يقال : مسلمة من العمل لنفي الله العمل عنها . وقال الحسن : يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل . قوله تعالى : لا شية فيها أي : ليس فيها لون يخالف معظم لونها ، هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد ، كما قال : فاقع لونها . وأصل شية وشي حذفت الواو كما حذفت من يشي ، والأصل يوشي ، ونظيره الزنة والعدة والصلة . والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين . وثور موشى : في وجهه وقوائمه سواد . قال ابن عرفة : الشية : اللون . ولا يقال لمن نم : واش ، حتى يغير الكلام ويلونه فيجعله ضروبا ويزين منه ما شاء . والوشي : الكثرة . ووشى بنو فلان : كثروا . ويقال : فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وغراب أبقع ، وثور أشيه ، كل ذلك بمعنى البلقة ، هكذا نص أهل اللغة . وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم ، ودين الله يسر ، والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم ، نسأل الله العافية . وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها : أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن ، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال : اللهم إني أستودعك هذه العجلة لهذا الصبي . ومات الرجل ، فلما كبر الصبي قالت له أمه - وكان برا بها - : إن أباك استودع الله عجلة لك ، فاذهب فخذها ، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها وكانت مستوحشة ، فجعل يقودها نحو أمه ، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها ، فساموه فاشتط عليهم . وكان قيمتها على ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير ، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا : إن هذا اشتط علينا ، فقال لهم : أرضوه في ملكه ، فاشتروها منه بوزنها مرة ، قاله عبيدة . السدي : بوزنها عشر مرات . وقيل : بملء مسكها دنانير . وذكر مكي أن هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الأرض ، فالله أعلم . قوله تعالى : قالوا الآن جئت بالحق أي : بينت الحق ، قاله قتادة . وحكى الأخفش : " قالوا ألآن " قطع ألف الوصل ، كما يقال : يا ألله . وحكى وجها آخر " قالوا لان " بإثبات الواو . نظيره قراءة أهل المدينة وأبي عمرو " عادا لولى " وقرأ الكوفيون " قالوا الآن " بالهمز . وقراءة أهل المدينة " قال لان " بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين . قال الزجاج : [ ص: 424 ] " الآن " مبني على الفتح ؛ لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام ؛ لأن الألف واللام دخلتا لغير عهد ، تقول : أنت إلى الآن هنا ، فالمعنى إلى هذا الوقت . فبنيت كما بني هذا ، وفتحت النون لالتقاء الساكنين . وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل . قوله تعالى : وما كادوا يفعلون أجاز سيبويه : كاد أن يفعل ، تشبيها بعسى . وقد تقدم أول السورة . وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله . وقال القرظي محمد بن كعب : لغلاء ثمنها . وقيل : خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم ، قاله وهب بن منبه . قوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون قوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها هذا الكلام مقدم على أول القصة ، التقدير : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، فقال موسى : إن الله يأمركم بكذا . وهذا كقوله : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما أي : أنزل على عبده قيما ، ولم يجعل له عوجا ، ومثله كثير ، وقد بيناه أول القصة . وفي سبب قتله قولان : أحدهما : لابنة له حسناء أحب أن يتزوجها ابن عمها فمنعه عمه ، فقتله وحمله من قريته إلى قرية أخرى فألقاه هناك . وقيل : ألقاه بين قريتين . الثاني : قتله طلبا لميراثه ، فإنه كان فقيرا ، وادعى قتله على بعض الأسباط . قال عكرمة : كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا لكل باب قوم يدخلون منه ، فوجدوا قتيلا في سبط من الأسباط ، فادعى هؤلاء على هؤلاء ، وادعى هؤلاء على هؤلاء ، ثم أتوا موسى يختصمون إليه ، فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة الآية . ومعنى ادارأتم : اختلفتم وتنازعتم ، قاله مجاهد . وأصله تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال ، ولا يجوز الابتداء بالمدغم ؛ لأنه ساكن فزيد ألف الوصل . والله مخرج ابتداء وخبر . " ما كنتم " في موضع نصب ب " مخرج " ، ويجوز حذف التنوين على الإضافة . تكتمون جملة في موضع خبر كان ، والعائد محذوف ، التقدير : تكتمونه . وعلى القول بأنه قتله طلبا لميراثه لم يرث قاتل عمد من حينئذ ، قاله عبيدة السلماني . قال ابن عباس : قتل هذا الرجل عمه ليرثه . قال ابن عطية : وبمثله جاء شرعنا . وحكى مالك رحمه الله في " موطئه " أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي كانت سبب ألا يرث قاتل ، ثم ثبت ذلك الإسلام كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية . ولا خلاف بين العلماء أنه لا يرث قاتل العمد من الدية ولا من المال ، إلا فرقة شذت عن الجمهور كلهم أهل بدع . ويرث قاتل الخطأ من المال ولا يرث من الدية في قول مالك والأوزاعي وأبي ثور والشافعي ؛ لأنه لا يتهم على أنه [ ص: 425 ] قتله ليرثه ويأخذ ماله . وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي في قول له آخر : لا يرث القاتل عمدا ولا خطأ شيئا من المال ولا من الدية . وهو قول شريح وطاوس والشعبي والنخعي . ورواه الشعبي عن عمر وعلي وزيد قالوا : لا يرث القاتل عمدا ولا خطأ شيئا . وروي عن مجاهد القولان جميعا . وقالت طائفة من البصريين : يرث قاتل الخطأ من الدية ومن المال جميعا ، حكاه أبو عمر . وقول مالك أصح ، على ما يأتي بيانه في آية المواريث إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : " فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون " قوله تعالى : فقلنا اضربوه ببعضها قيل : باللسان ؛ لأنه آلة الكلام . وقيل : بعجب الذنب ، إذ فيه يركب خلق الإنسان . وقيل : بالفخذ . وقيل : بعظم من عظامها ، والمقطوع به عضو من أعضائها ، فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتا كما كان . مسألة : استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقسامة بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني . ومنعه الشافعي وجمهور العلماء ، قالوا : وهو الصحيح ؛ لأن قول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، خبر يحتمل الصدق والكذب . ولا خلاف أن دم المدعى عليه معصوم ممنوع إباحته إلا بيقين ، ولا يقين مع الاحتمال ، فبطل اعتبار قول المقتول دمي عند فلان . وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه ، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله احتمال ، فافترقا . قال ابن العربي : المعجزة كانت في إحيائه ، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد . وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك ، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه ، فلعله أمرهم بالقسامة معه واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء فقالوا : كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 4206الى صــ 433 الحلقة (71) مسألة : اختلف العلماء في الحكم بالقسامة ، فروي عن سالم وأبي قلابة وعمر بن عبد العزيز والحكم بن عيينة التوقف في الحكم بها . وإليه مال البخاري ؛ لأنه أتى بحديث القسامة في غير موضعه . وقال الجمهور : الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم اختلفوا [ ص: 426 ] في كيفية الحكم بها ، فقالت طائفة : يبدأ فيها المدعون بالأيمان ، فإن حلفوا استحقوا ، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرءوا . هذا قول أهل المدينة والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور . وهو مقتضى حديث حويصة ومحيصة ، خرجه الأئمة مالك وغيره . وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرءون . روي هذا عن عمر بن الخطاب والشعبي والنخعي ، وبه قال الثوري والكوفيون ، واحتجوا بحديث شعبة بن عبيد عن بشير بن يسار ، وفيه : فبدأ بالأيمان المدعى عليهم ، وهم اليهود . وبما رواه أبو داود عن الزهري عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم : ( أيحلف منكم خمسون رجلا ) . فأبوا ، فقال للأنصار : ( استحقوا ) فقالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله ، فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود ؛ لأنه وجد بين أظهرهم . وبقوله عليه السلام : ( ولكن اليمين على المدعى عليه ) فعينوا ، قالوا : وهذا هو الأصل المقطوع به في الدعاوى الذي نبه الشرع على حكمته بقوله عليه السلام لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه رد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا : حديث سعيد بن عبيد في تبدية اليهود وهم عند أهل الحديث ، وقد أخرجه النسائي وقال : ولم يتابع سعيد في هذه الرواية فيما أعلم ، وقد أسند حديث بشير عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين يحيى بن سعيد وابن عيينة وحماد بن زيد وعبد الوهاب الثقفي وعيسى بن حماد وبشر بن المفضل ، فهؤلاء سبعة . وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ ، وهو أصح من [ ص: 427 ] حديث سعيد بن عبيد . قال أبو محمد الأصيلي : فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة ، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه : فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من إبل الصدقة ، والصدقة لا تعطى في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها ، وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض به الأحاديث الصحاح المتصلة ، وأجابوا عن التمسك بالأصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء . قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، والحكم بظاهر ذلك يجب ، إلا أن يخص الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حكما في شيء من الأشياء فيستثنى من جملة هذا الخبر . فمما دل عليه الكتاب إلزام القاذف حد المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمي به المقذوف وخص من رمى زوجته بأن أسقط عنه الحد إذا شهد أربع شهادات . ومما خصته السنة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة . وقد روى ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة . خرجه الدارقطني . وقد احتج مالك لهذه المسألة في موطئه بما فيه كفاية ، فتأمله هناك . مسألة : واختلفوا أيضا في وجوب القود بالقسامة ، فأوجبت طائفة القود بها ، وهو قول مالك والليث وأحمد وأبي ثور ، لقوله عليه السلام لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ . وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بالقسامة من بني نضر بن مالك . قال الدارقطني : نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحة ، وكذلك أبو عمر بن عبد البر يصحح حديث عمرو بن شعيب ، ويحتج به ، وقال البخاري : رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق ابن راهويه يحتجون به ، قاله الدارقطني في السنن . وقالت طائفة : لا قود بالقسامة ، وإنما توجب الدية . روي هذا عن عمر وابن عباس ، وهو قول النخعي والحسن ، وإليه ذهب الثوري والكوفيون والشافعي وإسحاق ، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبد الله عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله للأنصار : إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب . قالوا : وهذا يدل على الدية لا على القود ، قالوا : ومعنى قوله عليه السلام : [ ص: 428 ] ( وتستحقون دم صاحبكم ) دية دم قتيلكم ؛ لأن اليهود ليسوا بأصحاب لهم ، ومن استحق دية صاحبه فقد استحق دمه ؛ لأن الدية قد تؤخذ في العمد فيكون ذلك استحقاقا للدم . مسألة : الموجب للقسامة اللوث ولا بد منه . واللوث : أمارة تغلب على الظن صدق مدعي القتل ، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل ، أو يرى المقتول يتشحط في دمه ، والمتهم نحوه أو قربه عليه آثار القتل . وقد اختلف في اللوث والقول به ، فقال مالك : هو قول المقتول : دمي عند فلان . والشاهد العدل لوث . كذا في رواية ابن القاسم عنه . وروى أشهب عن مالك أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة . وروى ابن وهب أن شهادة النساء لوث . وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث دون شهادة المرأة الواحدة . قال القاضي أبو بكر بن العربي : اختلف في اللوث اختلافا كثيرا ، مشهور المذهب أنه الشاهد العدل . وقال محمد : هو أحب إلي . قال : وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم . وروي عن عبد الملك بن مروان : أن المجروح أو المضروب إذا قال : دمي عند فلان ومات كانت القسامة . وبه قال مالك والليث بن سعد . واحتج مالك بقتيل بني إسرائيل أنه قال : قتلني فلان . وقال الشافعي : اللوث الشاهد العدل ، أو يأتي ببينة وإن لم يكونوا عدولا . وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط ، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد ، قالوا : إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله عليهم ، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شيء إلا أن تقوم البينة على واحد . وقال سفيان : وهذا مما أجمع عليه عندنا ، وهو قول ضعيف خالفوا فيه أهل العلم ، ولا سلف لهم فيه ، وهو مخالف للقرآن والسنة ، ولأن فيه إلزام العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم . وذهب مالك والشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر ، لا يؤخذ به أقرب الناس دارا ؛ لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به ، فلا يؤاخذ بمثل ذلك حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة . وقد قال عمر بن عبد العزيز هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضي الله فيه يوم القيامة . مسألة : قال القاسم بن مسعدة قلت للنسائي : لا يقول مالك بالقسامة إلا باللوث ، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه قال النسائي : أنزل مالك العداوة التي كانت بينهم وبين اليهود بمنزلة اللوث ، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة . قال ابن أبي زيد : وأصل هذا في قصة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب ببعض البقرة فقال : قتلني فلان ، وبأن العداوة لوث ، قال الشافعي : ولا نرى قول المقتول لوثا ، كما تقدم . قال الشافعي : إذا كان بين قوم [ ص: 429 ] وقوم عداوة ظاهرة كالعداوة التي كانت بين الأنصار واليهود ، ووجد قتيل في أحد الفريقين ولا يخالطهم غيرهم وجبت القسامة فيه . مسألة : واختلفوا في القتيل يوجد في المحلة التي أكراها أربابها ، فقال أصحاب الرأي : هو على أهل الخطة وليس على السكان شيء ، فإن باعوا دورهم ثم وجد قتيل فالدية على المشتري وليس على السكان شيء ، وإن كان أرباب الدور غيبا وقد أكروا دورهم فالقسامة والدية على أرباب الدور والغيب وليس على السكان الذين وجد القتيل بين أظهرهم شيء . ثم رجع يعقوب من بينهم عن هذا القول فقال : القسامة والدية على السكان في الدور . وحكى هذا القول عن ابن أبي ليلى ، واحتج بأن أهل خيبر كانوا عمالا سكانا يعملون فوجد القتيل فيهم . قال الثوري : ونحن نقول : هو على أصحاب الأصل ، يعني أهل الدور . وقال أحمد : القول قول ابن أبي ليلى في القسامة لا في الدية . وقال الشافعي : وذلك كله سواء ، ولا عقل ولا قود إلا ببينة تقوم ، أو ما يوجب القسامة فيقسم الأولياء . قال ابن المنذر : وهذا أصح . مسألة : ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا ، لقوله عليه السلام في حديث حويصة ومحيصة : ( يقسم خمسين منكم على رجل منهم ) . فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمينا واحدة ، فإن كانوا أقل من ذلك أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم . ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال ، لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء ، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينا . هذا مذهب مالك والليث والثوري والأوزاعي وأحمد وداود . وروى مطرف عن مالك أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد ويحلف هم أنفسهم كما لو كانوا واحدا فأكثر خمسين يمينا يبرئون بها أنفسهم ، وهو قول الشافعي . قال الشافعي : لا يقسم إلا وارث ، كان القتل عمدا أو خطأ . ولا يحلف على مال ويستحقه إلا من له الملك لنفسه أو من جعل الله له الملك من الورثة ، والورثة يقسمون على قدر مواريثهم . وبه قال أبو ثور واختاره ابن المنذر وهو الصحيح ، لأن من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه فيه يمين . ثم مقصود هذه الأيمان البراءة من الدعوى ، ومن لم يدع عليه بريء . وقال مالك في الخطأ : يحلف فيها الواحد من الرجال والنساء ، فمهما كملت خمسين يمينا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه ، ومن نكل لم يستحق شيئا ، فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه . هذا قول مالك المشهور عنه ، وقد روي عنه أنه لا يرى في الخطأ قسامة . [ ص: 430 ] وتتميم مسائل القسامة وفروعها وأحكامها مذكور في كتب الفقه والخلاف ، وفيما ذكرناه كفاية ، والله الموفق . مسألة : في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، وقال به طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء ، واختاره الكرخي ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا ، وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه ، وإليه مال الشافعي ، وقد قال الله : فبهداهم اقتده على ما يأتي إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : كذلك يحيي الله الموتى أي : كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات فالكاف في موضع نصب ؛ لأنه نعت لمصدر محذوف . ويريكم آياته أي : علاماته وقدرته . لعلكم تعقلون كي تعقلوا ، وقد تقدم أي : تمتنعون من عصيانه وعقلت نفسي عن كذا أي : منعتها منه ، والمعاقل : الحصون . قوله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون قوله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك القسوة : الصلابة والشدة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى . قال أبو العالية وقتادة وغيرهما : المراد قلوب جميع بني إسرائيل . وقال ابن عباس : المراد قلوب ورثة القتيل ؛ لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله ، وقالوا : كذب ، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى ، فلم يكونوا قط أعمى قلوبا ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك ، لكن نفذ حكم الله بقتله . روى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي . وفي مسند البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أربعة من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا . [ ص: 431 ] قوله تعالى : فهي كالحجارة أو أشد قسوة أو قيل هي بمعنى الواو كما قال : آثما أو كفورا . عذرا أو نذرا وقال الشاعر : نال الخلافة أو كانت له قدرا أي : وكانت . وقيل : هي بمعنى بل ، كقوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون المعنى بل يزيدون . وقال الشاعر : بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح أي : بل أنت وقيل : معناها الإبهام على المخاطب ، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة أو عليا فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر ، وإنما قصد الإبهام . وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك : شككت قال : كلا ، ثم استشهد بقوله تعالى : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين وقال : أو كان شاكا من أخبر بهذا ؟ وقيل : معناها التخيير ، أي : شبهوها بالحجارة تصيبوا ، أو بأشد من الحجارة تصيبوا ، وهذا كقول القائل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو . قيل : بل هي على بابها من الشك ، ومعناها : عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم : أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة ؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى : إلى مائة ألف أو يزيدون وقالت فرقة : إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر ، وفيهم من قلبه أشد من الحجر ، فالمعنى : هم فرقتان . " أو أشد " أشد مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله كالحجارة ؛ لأن المعنى : فهي مثل الحجارة أو أشد . ويجوز أو " أشد " بالفتح عطف على الحجارة . و " قسوة " نصب على التمييز . وقرأ أبو حيوة " قساوة " والمعنى واحد . قوله تعالى : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء قد تقدم معنى الانفجار . ويشقق أصله يتشقق ، أدغمت التاء في الشين ، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا ، أو عن الحجارة التي تتشقق ، وإن لم يجر ماء منفسح . وقرأ ابن مصرف " ينشقق " بالنون ، وقرأ " لما يتفجر " " لما يتشقق " بتشديد " لما " [ ص: 432 ] في الموضعين . وهي قراءة غير متجهة . وقرأ مالك بن دينار " ينفجر " بالنون وكسر الجيم . قال قتادة : عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم . قال أبو حاتم : يجوز " لما تتفجر " بالتاء ، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء ؛ لأنه إذا قال تتفجر أنثه بتأنيث الأنهار ، وهذا لا يكون في تشقق . قال النحاس : يجوز ما أنكره على المعنى ؛ لأن المعنى : وإن منها لحجارة تتشقق ، وأما يشقق فمحمول على لفظ " ما " . والشق واحد الشقوق ، فهو في الأصل مصدر ، تقول : بيد فلان ورجليه شقوق ، ولا تقل : شقاق ، إنما الشقاق داء يكون بالدواب ، وهو تشقق يصيب أرساغها ، وربما ارتفع إلى وظيفها ، عن يعقوب . والشق : الصبح . و " ما " في قوله : " لما يتفجر " في موضع نصب ؛ لأنها اسم إن واللام للتأكيد . " منه " على لفظ " ما " ، ويجوز " منها " على المعنى ، وكذلك وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء . وقرأ قتادة " وإن " في الموضعين ، مخففة من الثقيلة . قوله تعالى : وإن منها لما يهبط من خشية الله يقول : إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم ، لخروج الماء منها وترديها . قال مجاهد : ما تردى حجر من رأس جبل ، ولا تفجر نهر من حجر ، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله ، نزل بذلك القرآن الكريم . ومثله عن ابن جريج . وقال بعض المتكلمين في قوله : وإن منها لما يهبط من خشية الله : البرد الهابط من السحاب . وقيل : لفظة الهبوط مجاز ، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها ، وتخشع بالنظر إليها ، أضيف تواضع الناظر إليها ، كما قالت العرب : ناقة تاجرة ، أي : تبعث من يراها على شرائها . وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله : يريد أن ينقض ، وكما قال زيد الخيل : لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى : " وإن منها " راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي : من القلوب لما يخضع من خشية الله . قلت : كل ما قيل يحتمله اللفظ ، والأول صحيح ، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل ، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا [ ص: 433 ] خطب ، فلما تحول عنه حن ، وثبت عنه أنه قال : إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن . وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله . فناداه حراء : إلي يا رسول الله . وفي التنزيل : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال الآية . وقال : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله يعني تذللا وخضوعا ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " سبحان " إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : وما الله بغافل عما تعملون بغافل في موضع نصب على لغة أهل الحجاز ، وعلى لغة تميم في موضع رفع . والباء توكيد عما تعملون أي : عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولا تحتاج " ما " إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي ، فيحذف العائد لطول الاسم ، أي : عن الذي تعملونه . وقرأ ابن كثير " يعملون " بالياء ، والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام . قوله تعالى : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم هذا استفهام فيه معنى الإنكار ، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود ، أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك . والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم . وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، عن ابن عباس . أي لا تحزن على تكذيبهم إياك ، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا . و " أن " في موضع نصب ، أي في أن يؤمنوا ، نصب بأن ، ولذلك حذفت منه النون . يقال : طمع فيه طمعا وطماعية - مخفف - فهو طمع ، على وزن فعل . وأطمعه فيه غيره . ويقال في التعجب : طمع الرجل - بضم الميم - أي صار كثير الطمع . والطمع : رزق الجند ، يقال : أمر لهم الأمير بأطماعهم ، أي بأرزاقهم . وامرأة مطماع : تطمع ولا تمكن . |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 4الى صــ 10 الحلقة (72) الثانية : قوله تعالى : وقد كان فريق منهم الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وجمعه في أدنى العدد أفرقة ، وفي الكثير أفرقاء . يسمعون في موضع نصب خبر كان . ويجوز أن يكون الخبر منهم ، ويكون يسمعون نعتا لفريق وفيه بعد . ( كلام الله ) قراءة الجماعة . وقرأ الأعمش " كلم الله " على جمع كلمة . قال سيبويه : واعلم أن ناسا من ربيعة يقولون " منهم " بكسر الهاء إتباعا لكسرة الميم ، ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عنده . كلام الله مفعول ب يسمعون . والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام ، فسمعوا كلام الله [ ص: 4 ] فلم يمتثلوا أمره ، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم . هذا قول الربيع وابن إسحاق ، وفي هذا القول ضعف . ومن قال : إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ ، وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم . وقد قال السدي وغيره : لم يطيقوا سماعه ، واختلطت أذهانهم ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم ، فلما فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام ، كما قال تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله . فإن قيل : فقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه ، فسمعوا صوتا كصوت الشبور : " إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة " . قلت : هذا حديث باطل لا يصح ، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به وإنما الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم ، فإن كان كلم قومه أيضا حتى أسمعهم كلامه فما فضل موسى عليهم ، وقد قال وقوله الحق : إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي . وهذا واضح . الثالثة : واختلف الناس بماذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه ، فمنهم من قال : إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات ، وليس فيه تقطيع ولا نفس ، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين . وقال آخرون : إنه لما سمع كلاما لا من جهة ، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست ، علم أنه ليس من كلام البشر . وقيل : إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام ، فعلم أنه كلام الله . وقيل فيه : إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله ، وذلك أنه قيل له : ألق عصاك ، فألقاها فصارت ثعبانا ، فكان ذلك علامة على صدق الحال ، وأن الذي يقول له : إني أنا ربك هو الله جل وعز . وقيل : إنه قد كان أضمر في نفسه شيئا لا يقف عليه إلا علام الغيوب ، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير ، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز . وسيأتي في سورة " القصص " بيان معنى قوله تعالى : نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة إن شاء الله تعالى . الرابعة : قوله تعالى : ثم يحرفونه قال مجاهد والسدي : هم علماء اليهود الذين [ ص: 5 ] يحرفون التوراة فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما اتباعا لأهوائهم . من بعد ما عقلوه أي عرفوه وعلموه . وهذا توبيخ لهم ، أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لآبائهم أفاعيل سوء وعناد فهؤلاء على ذلك السنن ، فكيف تطمعون في إيمانهم ودل هذا الكلام أيضا على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد ; لأنه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده . قوله تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون قوله تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا هذا في المنافقين . وأصل لقوا : لقيوا ، وقد تقدم ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض ) الآية في اليهود ، وذلك أن ناسا منهم أسلموا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم ، فقالت لهم اليهود : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي حكم الله عليكم من العذاب ، ليقولوا نحن أكرم على الله منكم ، عن ابن عباس والسدي . وقيل : إن عليا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إليه وقال : يا رسول الله ، لا تبلغ إليهم ، وعرض له ، فقال : أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفوا عن ذلك ونهض إليهم ، فلما رأوه أمسكوا ، فقال لهم : أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته فقالوا : ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا ، من حدثك بهذا ؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا ! روي هذا المعنى عن مجاهد . قوله تعالى وإذا خلا الأصل في " خلا " خلو ، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وتقدم معنى خلا في أول السورة . ومعنى فتح حكم . والفتح عند العرب : القضاء والحكم ، ومنه قوله تعالى : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين أي الحاكمين ، والفتاح : القاضي بلغة اليمن ، يقال : بيني وبينك الفتاح ، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم . والفتح : النصر ، ومنه قوله : يستفتحون على الذين كفروا ، وقوله : إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح . ويكون بمعنى الفرق بين الشيئين . [ ص: 6 ] قوله تعالى : ليحاجوكم نصب بلام كي ، وإن شئت بإضمار أن ، وعلامة النصب ، حذف النون . قال يونس : وناس من العرب يفتحون لام كي . قال الأخفش : لأن الفتح الأصل . قال خلف الأحمر : هي لغة بني العنبر . ومعنى ليحاجوكم ليعيروكم ، ويقولوا نحن أكرم على الله منكم . وقيل : المعنى ليحتجوا عليكم بقولكم ، يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه . وقيل : إن الرجل من اليهود كان يلقى صديقه من المسلمين فيقول له : تمسك بدين محمد فإنه نبي حقا . ( عند ربكم ) قيل في الآخرة ، كما قال : ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون . وقيل : عند ذكر ربكم . وقيل : عند بمعنى " في " أي ليحاجوكم به في ربكم ، فيكونوا أحق به منكم لظهور الحجة عليكم ، روي عن الحسن . والحجة : الكلام المستقيم على الإطلاق ، ومن ذلك محجة الطريق . وحاججت فلانا فحججته ، أي غلبته بالحجة . ومنه الحديث : ( فحج آدم موسى ) . أفلا تعقلون قيل : هو من قول الأحبار للأتباع . وقيل : هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين ، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال ; ثم وبخهم توبيخا يتلى فقال : أولا يعلمون الآية . فهو استفهام معناه التوبيخ والتقريع . وقرأ الجمهور يعلمون بالياء ، وابن محيصن بالتاء ، خطابا للمؤمنين . والذي أسروه كفرهم ، والذي أعلنوه الجحد به . قوله تعالى : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : ومنهم أميون أي من اليهود . وقيل : من اليهود والمنافقين أميون ، أي من لا يكتب ولا يقرأ ، واحدهم أمي ، منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادة أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها ، ومنه قوله عليه السلام : إنا أمة أمية لا نكتب ولا [ ص: 7 ] نحسب الحديث . وقد قيل لهم إنهم أميون لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب ، عن ابن عباس . وقال أبو عبيدة : إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم ، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب ، فكأنه قال : ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب . عكرمة والضحاك : هم نصارى العرب . وقيل : هم قوم من أهل الكتاب ، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين . علي رضي الله عنه : هم المجوس . قلت : والقول الأول أظهر ، والله أعلم . الثانية : قوله تعالى : لا يعلمون الكتاب إلا أماني " إلا " ها هنا بمعنى لكن ، فهو استثناء منقطع ، كقوله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن . وقال النابغة : حلفت يمينا غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ( إلا أماني ) خفيفة الياء ، حذفوا إحدى الياءين استخفافا . قال أبو حاتم : كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد ، فلك فيه التشديد والتخفيف ، مثل أثافي وأغاني وأماني ، ونحوه . وقال الأخفش : هذا كما يقال في جمع مفتاح : مفاتيح ومفاتح ، وهي ياء الجمع . قال النحاس : الحذف في المعتل أكثر ، كما قال الشاعر [ هو ذو الرمة ] : وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع والأماني جمع أمنية وهي التلاوة ، وأصلها أمنوية على وزن أفعولة ، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أمنية ، ومنه قوله تعالى : إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته . وقال كعب بن مالك : [ ص: 8 ] : تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر : تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل والأماني أيضا الأكاذيب ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ما تمنيت منذ أسلمت ، أي ما كذبت . وقول بعض العرب لابن دأب وهو يحدث : أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته ؟ أي افتعلته . وبهذا المعنى فسر ابن عباس ومجاهد أماني في الآية . والأماني أيضا ما يتمناه الإنسان ويشتهيه . قال قتادة : إلا أماني يعني أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم . وقيل : الأماني التقدير ، يقال : مني له أي قدر ، قاله الجوهري ، وحكاه ابن بحر ، وأنشد قول الشاعر : لا تأمنن وإن أمسيت في حرم حتى تلاقي ما يمني لك الماني أي يقدر لك المقدر . الثالثة : قوله تعالى : وإن هم إلا يظنون إن بمعنى ما النافية ، كما قال تعالى : إن الكافرون إلا في غرور . ويظنون يكذبون ويحدثون ، لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون ، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرءون به . فائدة : قال أبو بكر الأنباري : وقد حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظن علما وشكا وكذبا ، وقال : إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين ، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك ، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب ، قال الله عز وجل وإن هم إلا يظنون أراد إلا يكذبون . الرابعة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : نعت الله تعالى أحبارهم بأنهم يبدلون ويحرفون فقال وقوله الحق : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم الآية . وذلك أنه لما درس الأمر فيهم ، وساءت رعية علمائهم ، وأقبلوا على الدنيا حرصا وطمعا ، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم ، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها ، وألحقوا ذلك بالتوراة ، وقالوا لسفهائهم هذا من عند الله ، ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها . وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ، وهم العرب ، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا . وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا : لا يضرنا ذنب ، فنحن أحباؤه وأبناؤه ، تعالى الله عن ذلك ! وإنما كان في التوراة " يا أحباري ويا أبناء رسلي " فغيروه وكتبوا " يا أحبائي ويا أبنائي " فأنزل الله [ ص: 9 ] تكذيبهم : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم . فقالت : لن يعذبنا الله ، وإن عذبنا فأربعين يوما مقدار أيام العجل ، فأنزل الله تعالى : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا قال ابن مقسم : يعني توحيدا ، بدليل قوله تعالى : إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا يعني لا إله إلا الله فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون ثم أكذبهم فقال : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . فبين تعالى أن الخلود في النار والجنة إنما هو بحسب الكفر والإيمان ، لا بما قالوه . قوله تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون فيه خمس مسائل : الأولى قوله : فويل اختلف في الويل ما هو ، فروى عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من نار . وروى أبو سعيد الخدري أن الويل واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا . وروى سفيان وعطاء بن يسار : إن الويل في هذه الآية واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار . وقيل : صهريج في جهنم . وحكى الزهراوي عن آخرين : أنه باب من أبواب جهنم . وعن ابن عباس : الويل المشقة من العذاب . وقال الخليل : الويل شدة الشر . الأصمعي : الويل تفجع وترحم . سيبويه : ويل لمن وقع في الهلكة ، وويح زجر لمن أشرف على الهلكة . ابن عرفة : الويل الحزن : يقال : تويل الرجل إذا دعا بالويل ، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه ، ومنه قوله : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم . وقيل : [ ص: 10 ] أصله الهلكة ، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، ومنه قوله تعالى : ياويلتنا مال هذا الكتاب . وهي الويل والويلة ، وهما الهلكة ، والجمع الويلات ، قال : له الويل إن أمسى ولا أم هاشم وقال أيضا : فقالت لك الويلات إنك مرجلي وارتفع " ويل " بالابتداء ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأن فيه معنى الدعاء . قال الأخفش : ويجوز النصب على إضمار فعل ، أي ألزمهم الله ويلا . وقال الفراء : الأصل في الويل " وي " أي حزن ، كما تقول : وي لفلان ، أي حزن له ، فوصلته العرب باللام وقدروها منه فأعربوها . والأحسن فيه إذا فصل عن الإضافة الرفع ; لأنه يقتضي الوقوع . ويصح النصب على معنى الدعاء ، كما ذكرنا . قال الخليل : ولم يسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويل وويب ، وكله يتقارب في المعنى . وقد فرق بينها قوم ، وهي مصادر لم تنطق العرب منها بفعل . قال الجرمي : ومما ينتصب انتصاب المصادر ويله وعوله وويحه وويسه ، فإذا أدخلت اللام رفعت فقلت : ويل له ، وويح له . الثانية : قوله تعالى : للذين يكتبون الكتابة معروفة . وأول من كتب بالقلم وخط به إدريس عليه السلام ، وجاء ذلك في حديث أبي ذر ، خرجه الآجري وغيره . وقد قيل : إن آدم عليه السلام أعطي الخط فصار وراثة في ولده . الثالثة : قوله تعالى : بأيديهم تأكيد ، فإنه قد علم أن الكتب لا يكون إلا باليد ، فهو مثل قوله : ولا طائر يطير بجناحيه ، وقوله : يقولون بأفواههم . وقيل : فائدة بأيديهم بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم ، فإن من تولى الفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله وإن كان رأيا له وقال ابن السراج : بأيديهم كناية عن أنهم من تلقائهم دون أن ينزل عليهم ، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 11الى صــ 17 الحلقة (73) الرابعة : في هذه الآية والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في الشرع ، فكل من بدل وغير أو ابتدع في دين الله ما ليس منه ولا يجوز فيه فهو داخل تحت هذا الوعيد [ ص: 11 ] الشديد ، والعذاب الأليم ، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته لما قد علم ما يكون في آخر الزمان فقال : ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة الحديث ، وسيأتي . فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه فيضلوا به الناس ، وقد وقع ما حذره وشاع ، وكثر وذاع ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . الخامسة : ليشتروا به ثمنا قليلا وصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلة ، إما لفنائه وعدم ثباته ، وإما لكونه حراما ; لأن الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله . قال ابن إسحاق والكلبي : كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم ربعة أسمر ، فجعلوه آدم سبطا طويلا ، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم : انظروا إلى صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا ، وكانت للأحبار والعلماء رياسة ومكاسب ، فخافوا إن بينوا أن تذهب مآكلهم ورياستهم ، فمن ثم غيروا . ثم قال تعالى : فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون قيل من المآكل . وقيل من المعاصي . وكرر الويل تغليظا لفعلهم . قوله تعالى : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : وقالوا يعني اليهود . لن تمسنا النار إلا أياما معدودة اختلف في سبب نزولها ، فقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود : ( من أهل النار ) . قالوا : نحن ، ثم تخلفونا أنتم . فقال : ( كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم ) فنزلت هذه الآية ، قاله ابن زيد . وقال عكرمة عن ابن عباس : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول : إنما هذه الدنيا سبعة آلاف ، وإنما يعذب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة ، وإنما هي سبعة أيام ، فأنزل الله الآية ، وهذا قول مجاهد . وقالت طائفة : قالت اليهود إن في [ ص: 12 ] التوراة أن جهنم مسيرة أربعين سنة ، وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم . ورواهالضحاك عن ابن عباس . وعن ابن عباس : زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم . وقالوا : إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك . وعن ابن عباس أيضا وقتادة : أن اليهود قالت : إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل ، فأكذبهم الله ، كما تقدم . الثانية : في هذه الآية رد على أبي حنيفة وأصحابه حيث استدلوا بقوله عليه السلام : دعي الصلاة أيام أقرائك في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض ، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة ، قالوا : لأن ما دون الثلاثة يسمى يوما ويومين ، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما ولا يقال فيه : أيام ، وإنما يقال : أيام من الثلاثة إلى العشرة ، قال الله تعالى : فصيام ثلاثة أيام في الحج ، تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما . فيقال لهم : فقد قال الله تعالى في الصوم : أياما معدودات يعني جميع الشهر ، وقال : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات يعني أربعين يوما . وأيضا فإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد ، بل يقال : أيام مشيك وسفرك وإقامتك ، وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد ، ولعله أراد ما كان معتادا لها ، والعادة ست أو سبع ، فخرج الكلام عليه ، والله أعلم . الثالثة : قوله تعالى : قل أتخذتم تقدم القول في " اتخذ " فلا معنى لإعادته . عند الله عهدا أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم فتستوجبون بذلك الخروج من النار ! أو هل عرفتم ذلك بوحيه الذي عهده إليكم فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون توبيخ وتقريع . [ ص: 13 ] قوله تعالى : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : بلى أي ليس الأمر كما ذكرتم . قال سيبويه : ليس " بلى " و " نعم " اسمين . وإنما هما حرفان مثل " بل " وغيره ، وهي رد لقولهم : لن تمسنا النار . وقال الكوفيون : أصلها بل التي للإضراب عن الأول ، زيدت عليها الياء ليحسن الوقف ، وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام . ف " بل " تدل على رد الجحد ، والياء تدل على الإيجاب لما بعد . قالوا : ولو قال قائل : ألم تأخذ دينارا ؟ فقلت : نعم ، لكان المعنى لا ، لم آخذ ; لأنك حققت النفي وما بعده . فإذا قلت : بلى ، صار المعنى قد أخذت . قال الفراء : إذا قال الرجل لصاحبه : ما لك علي شيء ، فقال الآخر : نعم ، كان ذلك تصديقا ; لأن لا شيء له عليه ، ولو قال : بلى ، كان ردا لقوله ، وتقديره : بلى لي عليك . وفي التنزيل ألست بربكم قالوا بلى ولو قالوا نعم لكفروا . الثانية : قوله : سيئة السيئة الشرك . قال ابن جريج قلت لعطاء : " من كسب سيئة " ؟ قال : الشرك ، وتلا ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار . وكذا قال الحسن وقتادة ، قالا : والخطيئة الكبيرة . الثالثة : لما قال تعالى : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته دل على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما ، ومثله قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، وقوله عليه السلام لسفيان بن عبد الله الثقفي وقد قال له : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا [ ص: 14 ] لا أسأل عنه أحدا بعدك . قال : قل آمنت بالله ثم استقم . رواه مسلم . وقد مضى القول في هذا المعنى وما للعلماء فيه عند قوله تعالى لآدم وحواء : ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . وقرأ نافع " خطيئاته " بالجمع ، الباقون بالإفراد ، والمعنى الكثرة ، مثل قوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون فيه عشر مسائل : الأولى : قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل تقدم الكلام في بيان هذه الألفاظ . واختلف في الميثاق هنا ، فقال مكي : هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر . وقيل : هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم وهو قوله : لا تعبدون إلا الله وعبادة الله إثبات توحيده ، وتصديق رسله ، والعمل بما أنزل في كتبه . الثانية : قوله تعالى : لا تعبدون قال سيبويه : لا تعبدون متعلق بقسم ، والمعنى وإذ استخلفناهم والله لا تعبدون ، وأجازه المبرد والكسائي والفراء . وقرأ أبي وابن مسعود " لا تعبدوا " على النهي ، ولهذا وصل الكلام بالأمر فقال : " وقوموا ، وقولوا ، وأقيموا ، وآتوا " . وقيل : هو في موضع الحال ، أي أخذنا ميثاقهم موحدين ، أو غير معاندين ، قاله قطرب والمبرد أيضا . وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي " يعبدون " بالياء من أسفل . وقال الفراء والزجاج وجماعة : المعنى أخذنا ميثاقهم بألا يعبدوا إلا الله ، وبأن يحسنوا للوالدين ، وبألا يسفكوا الدماء ، ثم حذفت أن والباء فارتفع الفعل لزوالهما ، كقوله تعالى : أفغير الله تأمروني [ ص: 15 ] . قال المبرد : هذا خطأ ; لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهرا ، تقول : وبلد قطعت ، أي رب بلد . قلت : ليس هذا بخطأ ، بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد سيبويه [ هو للشاعر طرفة بن العبد ] : ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي بالنصب والرفع ، فالنصب على إضمار أن ، والرفع على حذفها . الثالثة : قوله تعالى : وبالوالدين إحسانا أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا . وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد ; لأن النشأة الأولى من عند الله ، والنشء الثاني - وهو التربية - من جهة الوالدين ، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال : أن اشكر لي ولوالديك . والإحسان إلى الوالدين : معاشرتهما بالمعروف ، والتواضع لهما ، وامتثال أمرهما ، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما ، وصلة أهل ودهما ، على ما يأتي بيانه مفصلا في " الإسراء " إن شاء الله تعالى . الرابعة : قوله تعالى : وذي القربى عطف ذي القربى على الوالدين . والقربى : بمعنى القرابة ، وهو مصدر كالرجعى والعقبى ، أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم . وسيأتي بيان هذا مفصلا في سورة " القتال " إن شاء الله تعالى . الخامسة : قوله تعالى : واليتامى اليتامى عطف أيضا ، وهو جمع يتيم ، مثل ندامى جمع نديم . واليتم في بني آدم بفقد الأب ، وفي البهائم بفقد الأم . وحكى الماوردي أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الأم ، والأول المعروف . وأصله الانفراد ، يقال : صبي يتيم ، أي منفرد من أبيه . وبيت يتيم : أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشعر . ودرة يتيمة : ليس لها نظير . وقيل : أصله الإبطاء ، فسمي به اليتيم ; لأن البر يبطئ عنه . ويقال : يتم ييتم يتما ، مثل عظم يعظم . ويتم ييتم يتما ويتما ، مثل سمع يسمع ، ذكر الوجهين الفراء . وقد أيتمه الله . ويدل هذا على الرأفة باليتيم والحض على كفالته وحفظ ماله ، على ما يأتي بيانه في " النساء " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة . وأشار مالك بالسبابة [ ص: 16 ] والوسطى ، رواه أبو هريرة أخرجه مسلم . وخرج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الحسن بن دينار أبي سعيد البصري وهو الحسن بن واصل قال حدثنا الأسود بن عبد الرحمن عن هصان عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان . وخرج أيضا من حديث حسين بن قيس وهو أبو علي الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ضم يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه ألبتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه - قالوا : وما كريمتاه ؟ قال : - عيناه ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يبن أو يمتن غفرت له ذنوبه ألبتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر فناداه رجل من الأعراب ممن هاجر فقال : يا رسول الله أو اثنتين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو اثنتين . فكان ابن عباس إذا حدث بهذا الحديث قال : هذا والله من غرائب الحديث وغرره . السادسة : السبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام ، وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة ، لأنهم كانوا يسبون بها ، فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسموها المشيرة ; لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله في التوحيد . وتسمى أيضا بالسباحة ، جاء تسميتها بذلك في حديث وائل بن حجر وغيره ، ولكن اللغة سارت بما كانت تعرفه في الجاهلية فغلبت . وروي عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى ، ثم الوسطى أقصر منها ، ثم البنصر أقصر من الوسطى . روى يزيد بن هارون قال : أخبرنا عبد الله بن مقسم الطائفي قال حدثتني عمتي سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت : خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وسأله أبي عن أشياء ، فلقد رأيتني أتعجب وأنا جارية من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه . فقوله عليه السلام : ( أنا وهو كهاتين في الجنة ) ، وقوله في الحديث الآخر : ( أحشر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا ) وأشار بأصابعه الثلاث ، فإنما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق فقال : نحشر هكذا ونحن مشرفون وكذا كافل اليتيم تكون منزلته رفيعة . فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل تأويل الحديث على الانضمام والاقتراب بعضهم من بعض في محل [ ص: 17 ] القربة . وهذا معنى بعيد ; لأن منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة ، ومنازل مختلفة . السابعة : قوله تعالى : والمساكين المساكين عطف أيضا أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين ، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم . وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمؤاساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء . روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله - وأحسبه قال - وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر . قال ابن المنذر : وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله . الثامنة : قوله تعالى : وقولوا للناس حسنا نصب على المصدر على المعنى ; لأن المعنى ليحسن قولكم . وقيل : التقدير وقولوا للناس قولا ذا حسن ، فهو مصدر لا على المعنى . وقرأ حمزة والكسائي " حسنا " بفتح الحاء والسين . قال الأخفش : هما بمعنى واحد ، مثل البخل والبخل ، والرشد والرشد . وحكى الأخفش : " حسنى " بغير تنوين على فعلى . قال النحاس : " وهذا لا يجوز في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام ، نحو الفضلى والكبرى والحسنى ، هذا قول سيبويه وقرأ عيسى بن عمر " حسنا " بضمتين ، مثل " الحلم " . قال ابن عباس : المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها . ابن جريج : قولوا للناس صدقا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيروا نعته . سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر . أبو العالية : قولوا لهم الطيب من القول ، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به . وهذا كله حض على مكارم الأخلاق ، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر ، والسني والمبتدع ، من غير مداهنة ، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه ; لأن الله تعالى قال لموسى وهارون : فقولا له قولا لينا . فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون ، والفاجر ليس بأخبث من فرعون ، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 18الى صــ 24 الحلقة (74) وقال طلحة بن عمر : قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة ، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ ، فقال : لا تفعل ! يقول الله تعالى : وقولوا للناس حسنا . [ ص: 18 ] فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة : لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء . وقيل : أراد بالناس محمدا صلى الله عليه وسلم ، كقوله : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله . فكأنه قال : قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم حسنا . وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله : وقولوا للناس حسنا منسوخ بآية السيف . وحكاه أبو نصر عبد الرحيم عن ابن عباس . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في الابتداء ثم نسختها آية السيف . قال ابن عطية : وهذا يدل على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام ، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه ، والله أعلم . التاسعة : قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة تقدم القول فيه . والخطاب لبني إسرائيل . قال ابن عطية : وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يتقبل ، ولا تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قلت : وهذا يحتاج إلى نقل ، كما ثبت ذلك في الغنائم . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص . العاشرة : قوله تعالى : ثم توليتم الخطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وأسند إليهم تولي أسلافهم إذ هم كلهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحق مثلهم ، كما قال : شنشنة أعرفها من أخزم . [ رجز لأبي أخزم الطائي ] إلا قليلا كعبد الله بن سلام وأصحابه . وقليلا نصب على الاستثناء ، والمستثنى عند سيبويه منصوب ; لأنه مشبه بالمفعول . وقال محمد بن يزيد : هو مفعول على [ ص: 19 ] الحقيقة ، المعنى استثنيت قليلا . وأنتم معرضون ابتداء وخبر . والإعراض والتولي بمعنى واحد ، مخالف بينهما في اللفظ . وقيل : التولي فيه بالجسم ، والإعراض بالقلب . قال المهدوي : وأنتم معرضون حال ; لأن التولي فيه دلالة على الإعراض . قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم تقدم القول فيه . لا تسفكون دماءكم المراد بنو إسرائيل ، ودخل فيه بالمعنى من بعدهم . لا تسفكون مثل لا تعبدون في الإعراب . وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء ، وهي لغة ، وأبو نهيك " تسفكون " بضم التاء وتشديد الفاء وفتح السين . والسفك : الصب . ولا تخرجون معطوف . أنفسكم النفس مأخوذة من النفاسة ، فنفس الإنسان أشرف ما فيه . والدار : المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال . وقال الخليل : كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم تكن فيه أبنية . وقيل : سميت دارا لدورها على سكانها ، كما سمي الحائط حائطا لإحاطته على ما يحويه . وأقررتم من الإقرار ، أي بهذا الميثاق الذي أخذ عليكم وعلى أوائلكم . وأنتم تشهدون من الشهادة ، أي شهداء بقلوبكم على هذا وقيل : الشهادة بمعنى الحضور ، أي تحضرون سفك دمائكم ، وإخراج أنفسكم من دياركم . الثانية : فإن قيل : وهل يسفك أحد دمه ويخرج نفسه من داره ؟ قيل له : لما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحدا وكانوا في الأمم كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضا وإخراج بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها . وقيل : المراد القصاص ، أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا ، فكأنه سفك دمه . وكذلك لا يزني ولا يرتد ، فإن ذلك يبيح الدم . ولا يفسد فينفى ، فيكون قد أخرج نفسه من دياره . وهذا تأويل فيه بعد وإن كان صحيح المعنى . وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا ألا يقتل بعضهم بعضا ، ولا ينفيه ولا يسترقه ، ولا يدعه يسرق ، إلى غير ذلك من الطاعات . قلت : وهذا كله محرم علينا ، وقد وقع ذلك كله بالفتن فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ! [ ص: 20 ] وفي التنزيل : أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض وسيأتي . قال ابن خويز منداد : وقد يجوز أن يراد به الظاهر ، لا يقتل الإنسان نفسه ، ولا يخرج من داره سفها ، كما تقتل الهند أنفسها . أو يقتل الإنسان نفسه من جهد وبلاء يصيبه ، أو يهيم في الصحراء ولا يأوي البيوت جهلا في ديانته وسفها في حلمه ، فهو عموم في جميع ذلك . وقد روي أن عثمان بن مظعون بايع في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزموا أن يلبسوا المسوح ، وأن يهيموا في الصحراء ولا يأووا البيوت ، ولا يأكلوا اللحم ولا يغشوا النساء ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إلى دار عثمان بن مظعون فلم يجده ، فقال لامرأته : ما حديث بلغني عن عثمان ؟ وكرهت أن تفشي سر زوجها ، وأن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن كان قد بلغك شيء فهو كما بلغك ، فقال : قولي لعثمان أخلاف لسنتي أم على غير ملتي إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأغشى النساء وآوي البيوت وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني فرجع عثمان وأصحابه عما كانوا عليه . قوله تعالى : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون قوله تعالى : ثم أنتم هؤلاء أنتم في موضع رفع بالابتداء ، ولا يعرب ; لأنه مضمر . وضمت التاء من أنتم لأنها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحدا مذكرا ، ومكسورة إذا خاطبت واحدة مؤنثة ، فلما ثنيت أو جمعت لم يبق إلا الضمة . ( هؤلاء ) قال القتبي : التقدير يا هؤلاء . [ ص: 21 ] قال النحاس : هذا خطأ على قول سيبويه ، ولا يجوز هذا أقبل . وقال الزجاج : هؤلاء بمعنى الذين . وتقتلون داخل في الصلة ، أي ثم أنتم الذين تقتلون . وقيل : هؤلاء رفع بالابتداء ، وأنتم خبر مقدم ، وتقتلون حال من أولاء . وقيل : هؤلاء نصب بإضمار أعني . وقرأ الزهري " تقتلون " بضم التاء مشددا ، وكذلك " فلم تقتلون أنبياء الله " . وهذه الآية خطاب للمواجهين لا يحتمل رده إلى الأسلاف . نزلت في بني قينقاع وقريظة والنضير من اليهود ، وكانت بنو قينقاع أعداء قريظة ، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع ، والخزرج حلفاء بني قريظة . والنضير والأوس والخزرج إخوان ، وقريظة والنضير أيضا إخوان ، ثم افترقوا فكانوا يقتتلون ، ثم يرتفع الحرب فيفدون أسراهم ، فعيرهم الله بذلك فقال : وإن يأتوكم أسارى تفادوهم . قوله تعالى : تظاهرون عليهم معنى تظاهرون تتعاونون ، مشتق من الظهر ; لأن بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر ، ومنه قول الشاعر : تظاهرتم أستاه بيت تجمعت على واحد لا زلتم قرن واحد والإثم : الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم . والعدوان : الإفراط في الظلم والتجاوز فيه . وقرأ أهل المدينة وأهل مكة " تظاهرون " بالتشديد ، يدغمون التاء في الظاء لقربها منها ، والأصل تتظاهرون . وقرأ الكوفيون تظاهرون مخففا ، حذفوا التاء الثانية لدلالة الأولى عليها ، وكذا وإن تظاهرا عليه . وقرأ قتادة " تظهرون عليهم " وكله راجع إلى معنى التعاون ، ومنه : وكان الكافر على ربه ظهيرا وقوله : والملائكة بعد ذلك ظهير فاعلمه . قوله تعالى : وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم فيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : وإن يأتوكم أسارى شرط وجوابه : تفادوهم وأسارى نصب على الحال . قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول : ما صار في أيديهم فهم الأسارى ، وما جاء مستأسرا فهم الأسرى . ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو ، إنما هو كما تقول : سكارى وسكرى . وقراءة الجماعة أسارى ما عدا حمزة فإنه قرأ " أسرى " على فعلى ، جمع أسير [ ص: 22 ] بمعنى مأسور ، والباب - في تكسيره إذا كان كذلك - فعلى ، كما تقول : قتيل وقتلى ، وجريح وجرحى . قال أبو حاتم : ولا يجوز أسارى . وقال الزجاج : يقال أسارى كما يقال سكارى ، وفعالى هو الأصل ، وفعالى داخلة عليها . وحكي عن محمد بن يزيد قال : يقال أسير وأسراء ، كظريف وظرفاء . قال ابن فارس : يقال في جمع أسير أسرى وأسارى ، وقرئ بهما . وقيل : أسارى ( بفتح الهمزة ) وليست بالعالية . الثانية : الأسير مشتق من الإسار ، وهو القد الذي يشد به المحمل فسمي أسيرا ; لأنه يشد وثاقه ، والعرب تقول : قد أسر قتبه ، أي شده ، ثم سمي كل أخيذ أسيرا وإن لم يؤسر ، وقال الأعشى : وقيدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمارا أي أنا في بيته ، يريد بذلك بلوغه النهاية فيه . فأما الأسر في قوله عز وجل : وشددنا أسرهم فهو الخلق . وأسرة الرجل رهطه ; لأنه يتقوى بهم . الثالثة : تفادوهم كذا قرأ نافع وحمزة والكسائي . والباقون " تفدوهم " من الفداء . والفداء : طلب الفدية في الأسير الذي في أيديهم . قال الجوهري : " الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر ، وإذا فتح فهو مقصور ، يقال : قم فدى لك أبي . ومن العرب من يكسر " فداء " بالتنوين إذا جاور لام الجر خاصة ، فيقول : فداء لك ، لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء . وأنشد الأصمعي للنابغة : مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد ويقال : فداه وفاداه إذا أعطى فداءه فأنقذه . وفداه بنفسه ، وفداه يفديه إذا قال : جعلت فداك . وتفادوا ، أي فدى بعضهم بعضا " . والفدية والفدى والفداء كله بمعنى واحد . وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا ، بمعنى فديت ، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : فاديت نفسي وفاديت عقيلا . وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف الجر ، تقول : فديت نفسي بمالي وفاديته بمالي ، قال الشاعر : [ ص: 23 ] قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعا الرابعة : قوله تعالى : وهو محرم عليكم إخراجهم هو مبتدأ وهو كناية عن الإخراج ، ومحرم خبره ، وإخراجهم بدل من هو وإن شئت كان كناية عن الحديث والقصة ، والجملة التي بعده خبره ، أي والأمر محرم عليكم إخراجهم . فإخراجهم مبتدأ ثان . ومحرم خبره ، والجملة خبر عن هو ، وفي " محرم " ضمير ما لم يسم فاعله يعود على الإخراج . ويجوز أن يكون محرم مبتدأ ، وإخراجهم مفعول ما لم يسم فاعله يسد مسد خبر " محرم " ، والجملة خبر عن هو . وزعم الفراء أن هو عماد ، وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له ; لأن العماد لا يكون في أول الكلام . ويقرأ " وهو " بسكون الهاء لثقل الضمة ، كما قال الشاعر : فهو لا تنمي رميته ماله لا عد من نفره وكذلك إن جئت باللام وثم ، وقد تقدم . قال علماؤنا : كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود : ترك القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أساراهم ، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء ، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى فقال : أفتؤمنون ببعض الكتاب وهو التوراة وتكفرون ببعض ! ! قلت : ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض ! ليت بالمسلمين ، بل بالكافرين ! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! . قال علماؤنا : فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد . قال ابن خويز منداد : تضمنت الآية وجوب فك الأسرى ، وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى وأمر بفكهم ، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع . ويجب فك الأسارى من بيت المال ، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين ، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين . وسيأتي . [ ص: 24 ] الخامسة : قوله تعالى : فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ابتداء وخبر . والخزي الهوان . قال الجوهري : وخزي - بالكسر - يخزى خزيا إذا ذل وهان . قال ابن السكيت : وقع في بلية . وأخزاه الله ، وخزي أيضا يخزى خزاية إذا استحيا ، فهو خزيان . وقوم خزايا وامرأة خزيا . السادسة : قوله تعالى : ويوم القيامة يردون يردون بالياء قراءة العامة ، وقرأ الحسن " تردون " بالتاء على الخطاب . إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون تقدم القول فيه وكذلك أولئك الذين اشتروا الآية فلا معنى لإعادته . يوم منصوب ب يردون قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب يعني التوراة . وقفينا أي أتبعنا والتقفية : الإتباع والإرداف ، مأخوذ من إتباع القفا وهو مؤخر العنق . تقول استقفيته إذا جئت من خلفه ، ومنه سميت قافية الشعر ; لأنها تتلو سائر الكلام . والقافية : القفا ، ومنه الحديث : يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم . والقفي والقفاوة : ما يدخر من اللبن وغيره لمن تريد إكرامه . وقفوت الرجل : قذفته بفجور . وفلان قفوتي أي تهمتي . وقفوتي أي خيرتي . قال ابن دريد كأنه من الأضداد . قال العلماء : وهذه الآية مثل قوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى . وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام . ويقال : رسل ورسل لغتان ، الأولى لغة الحجاز ، والثانية لغة تميم ، وسواء كان مضافا أو غير مضاف . وكان أبو عمرو يخفف إذا أضاف إلى حرفين ، ويثقل إذا أضاف إلى حرف واحد . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 25الى صــ 31 الحلقة (75) قوله تعالى : وآتينا عيسى ابن مريم البينات أي الحجج والدلالات ، وهي التي [ ص: 25 ] ذكرها الله في " آل عمران " و " المائدة " ، قاله ابن عباس . وأيدناه أي قويناه . وقرأ مجاهد وابن محيصن " آيدناه " بالمد ، وهما لغتان . بروح القدس روى أبو مالك وأبو صالح عن ابن عباس ومعمر عن قتادة قالا : جبريل عليه السلام . وقال حسان : قالوا سمعنا وعصينا اختلف هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا ، أو يكونون فعلوا فعلا قام مقام القول فيكون مجازا ، كما قال : وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء قال النحاس : وسمي جبريل روحا وأضيف إلى القدس ; لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحا من غير ولادة والد ولده ، وكذلك سمي عيسى روحا لهذا . وروى غالب بن عبد الله عن مجاهد قال : القدس هو الله عز وجل . وكذا قال الحسن : القدس هو الله ، وروحه جبريل . وروى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس : بروح القدس قال : هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى ، وقاله سعيد بن جبير وعبيد بن عمير ، وهو اسم الله الأعظم . وقيل : المراد الإنجيل ، سماه روحا كما سمى الله القرآن روحا في قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا . والأول أظهر ، والله تعالى أعلم . والقدس : الطهارة . وقد تقدم . قوله تعالى : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم أي بما لا يوافقها ويلائمها ، وحذفت الهاء لطول الاسم ، أي بما لا تهواه . استكبرتم عن إجابته احتقارا للرسل ، واستبعادا للرسالة . وأصل الهوى الميل إلى الشيء ، ويجمع أهواء ، كما جاء في التنزيل ، ولا يجمع أهوية ، على أنهم قد قالوا في ندى : أندية ، قال الشاعر : في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا قال الجوهري : وهو شاذ وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار ، ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه ، وهذه الآية من ذلك . وقد يستعمل في الحق ، ومنه قول عمر رضي الله عنه في أسارى بدر : فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت . وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث : والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . أخرجهما مسلم . [ ص: 26 ] قوله تعالى : ففريقا كذبتم ففريقا منصوب ب كذبتم ، وكذا وفريقا تقتلون فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد عليهما السلام ، وممن قتلوه يحيى وزكريا عليهما السلام ، على ما يأتي بيانه في " سبحان " إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون قوله تعالى : وقالوا يعني اليهود قلوبنا غلف بسكون اللام جمع أغلف ، أي عليها أغطية . وهو مثل قوله : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه أي في أوعية . قال مجاهد : " غلف " عليها غشاوة . وقال عكرمة : عليها طابع . وحكى أهل اللغة غلفت السيف ؛ جعلت له غلافا ، فقلب أغلف ، أي مستور عن الفهم والتمييز . وقرأ ابن عباس والأعرج وابن محيصن " غلف " بضم اللام . قال ابن عباس : أي قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره . وقيل : هو جمع غلاف . مثل خمار وخمر ، أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك وقد وعينا علما كثيرا ! وقيل : المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم . فرد الله تعالى عليهم بقوله : بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ثم بين أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم ، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه . وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد . ويقال للذئب : لعين . وللرجل الطريد : لعين ، وقال الشماخ : ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين ووجه الكلام : مقام الذئب اللعين كالرجل ، فالمعنى أبعدهم الله من رحمته . وقيل : من توفيقه وهدايته . وقيل : من كل خير ، وهذا عام . فقليلا نعت لمصدر محذوف ، تقديره فإيمانا قليلا ما يؤمنون . وقال معمر : المعنى لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره ، ويكون " قليلا " منصوبا بنزع حرف الصفة . وما صلة ، أي فقليلا يؤمنون . وقال الواقدي : معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا ، كما تقول : ما أقل ما يفعل كذا ، أي لا يفعله ألبتة . وقال الكسائي : تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل ، أي لا تنبت شيئا . [ ص: 27 ] قوله تعالى : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين قوله تعالى : ولما جاءهم يعني اليهود . كتاب يعني القرآن . من عند الله مصدق نعت لكتاب ، ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال ، وكذلك هو في مصحف أبي بالنصب فيما روي . لما معهم يعني التوراة والإنجيل يخبرهم بما فيهما . وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا أي يستنصرون . والاستفتاح الاستنصار . استفتحت : استنصرت . وفي الحديث : كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين ، أي يستنصر بدعائهم وصلاتهم . ومنه فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده . والنصر : فتح شيء مغلق ، فهو يرجع إلى قولهم : فتحت الباب . وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما نصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم . وروى النسائي أيضا عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم . قال ابن عباس : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود ، فعادت يهود بهذا الدعاء وقالوا : إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم . قال : فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا ، فأنزل الله تعالى : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا أي بك يا محمد ، إلى قوله : فلعنة الله على الكافرين . قوله تعالى : ولما جاءهم جواب لما الفاء وما بعدها في قوله فلما جاءهم ما عرفوا في قول الفراء ، وجواب لما الثانية كفروا . وقال الأخفش سعيد : جواب لما محذوف لعلم السامع ، وقاله الزجاج . وقال المبرد : جواب لما في قوله : كفروا ، وأعيدت لما الثانية لطول الكلام . ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيدا له . [ ص: 28 ] قوله تعالى : بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين قوله تعالى : بئسما اشتروا بئس في كلام العرب مستوفية للذم ، كما أن " نعم " مستوفية للمدح . وفي كل واحدة منها أربع لغات : بئس ، بئس ، بئس ، بئس . نعم ، نعم ، نعم ، نعم . ومذهب سيبويه أن " ما " فاعلة بئس ، ولا تدخل إلا على أسماء الأجناس والنكرات . وكذا نعم ، فتقول نعم الرجل زيد ، ونعم رجلا زيد ، فإذا كان معها اسم بغير ألف ولام فهو نصب أبدا ، فإذا كان فيه ألف ولام فهو رفع أبدا ، ونصب رجل على التمييز . وفي نعم مضمر على شريطة التفسير ، وزيد مرفوع على وجهين : على خبر ابتداء محذوف ، كأنه قيل من الممدوح ؟ قلت هو زيد ، والآخر على الابتداء وما قبله خبره . وأجاز أبو علي أن تليها " ما " موصولة وغير موصولة من حيث كانت مبهمة تقع على الكثرة ولا تخص واحدا بعينه ، والتقدير عند سيبويه : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . ف أن يكفروا في موضع رفع بالابتداء ، وخبره فيما قبله ، كقولك : بئس الرجل زيد ، و " ما " على هذا القول موصولة . وقال الأخفش : " ما " في موضع نصب على التمييز ، كقولك : بئس رجلا زيد ، فالتقدير بئس شيئا أن يكفروا . ف اشتروا به أنفسهم على هذا القول صفة " ما " . وقال الفراء : بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا . وفي هذا القول اعتراض ; لأنه يبقى فعل بلا فاعل . وقال الكسائي : " ما " واشتروا بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه ، والتقدير بئس اشتراؤهم أن يكفروا . وهذا مردود ، فإن نعم وبئس لا يدخلان على اسم معين معرف ، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير . قال النحاس : وأبين هذه الأقوال قول الأخفش وسيبويه . قال الفراء والكسائي : أن يكفروا إن شئت كانت أن في موضع خفض ردا على الهاء في به . قال الفراء : أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا بما أنزل الله . فاشترى بمعنى باع وبمعنى ابتاع ، والمعنى : بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم حيث استبدلوا الباطل بالحق ، والكفر بالإيمان . قوله تعالى : بغيا معناه حسدا ، قاله قتادة والسدي ، وهو مفعول من أجله ، وهو على الحقيقة مصدر . الأصمعي : وهو مأخوذ من قولهم : قد بغى الجرح إذا فسد . وقيل : أصله الطلب ، ولذلك سميت الزانية بغيا . أن ينزل الله في موضع نصب ، أي لأن ينزل ، أي لأجل إنزال الله الفضل على نبيه صلى الله عليه وسلم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن " أن ينزل " [ ص: 29 ] مخففا ، وكذلك سائر ما في القرآن ، إلا وما ننزله في " الحجر " ، وفي " الأنعام " على أن ينزل آية . قوله تعالى : فباءوا أي رجعوا ، وأكثر ما يقال في الشر ، وقد تقدم . بغضب على غضب تقدم معنى غضب الله عليهم ، وهو عقابه ، فقيل : الغضب الأول لعبادتهم العجل ، والثاني لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس . وقال عكرمة : لأنهم كفروا بعيسى ثم كفروا بمحمد ، يعني اليهود . وروى سعيد عن قتادة : الأول لكفرهم بالإنجيل ، والثاني لكفرهم بالقرآن . وقال قوم : المراد التأبيد وشدة الحال عليهم ، لا أنه أراد غضبين معللين بمعصيتين . ومهين مأخوذ من الهوان ، وهو ما اقتضى الخلود في النار دائما بخلاف خلود العصاة من المسلمين ، فإن ذلك تمحيص لهم وتطهير ، كرجم الزاني وقطع يد السارق ، على ما يأتي بيانه في سورة " النساء " من حديث أبي سعيد الخدري إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين قوله تعالى : وإذا قيل لهم آمنوا أي صدقوا بما أنزل الله يعني القرآن قالوا نؤمن أي نصدق بما أنزل علينا يعني التوراة . ويكفرون بما وراءه أي بما سواه ، عن الفراء . وقتادة : بما بعده ، وهو قول أبي عبيدة ، والمعنى واحد . قال الجوهري : وراء بمعنى خلف ، وقد تكون بمعنى قدام . وهي من الأضداد ، قال الله تعالى : وكان وراءهم ملك أي أمامهم ، وتصغيرها وريئة ( بالهاء ) وهي شاذة . وانتصب " وراءه " على الظرف . قال الأخفش : يقال لقيته من وراء ، فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف تجعله اسما وهو غير متمكن ، كقولك : من قبل ومن بعد ، وأنشد : إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء [ ص: 30 ] قلت : ومنه قول إبراهيم عليه السلام في حديث الشفاعة : ( إنما كنت خليلا من وراء وراء ) . والوراء : ولد الولد أيضا . قوله تعالى : وهو الحق ابتداء وخبر . مصدقا حال مؤكدة عند سيبويه . لما معهم ما في موضع خفض باللام ، و " معهم " صلتها ، و " معهم " نصب بالاستقرار ، ومن أسكن جعله حرفا . قوله تعالى : قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل رد من الله تعالى عليهم في قولهم إنهم آمنوا بما أنزل عليهم ، وتكذيب منه لهم وتوبيخ ، المعنى : فكيف قتلتم وقد نهيتم عن ذلك ! فالخطاب لمن حضر محمدا صلى الله عليه وسلم والمراد أسلافهم . وإنما توجه الخطاب لأبنائهم ; لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا ، كما قال : ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم . وقيل : لأنهم رضوا فعلهم فنسب ذلك إليهم . وجاء تقتلون بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله : من قبل . وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل ، والمستقبل بمعنى الماضي ، قال الحطيئة : شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر شهد بمعنى يشهد . إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم معتقدين الإيمان فلم رضيتم بقتل الأنبياء ! وقيل : إن بمعنى ما ، وأصل " لم " لما ، حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر ، ولا ينبغي أن يوقف عليه ; لأنه إن وقف عليه بلا هاء كان لحنا ، وإن وقف عليه بالهاء زيد في السواد . قوله تعالى : ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون [ ص: 31 ] قوله تعالى : ولقد جاءكم موسى بالبينات اللام لام القسم . والبينات قوله تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات وهي العصا ، والسنون ، واليد ، والدم ، والطوفان ، والجراد والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر . وقيل : البينات التوراة ، وما فيها من الدلالات . قوله تعالى : ثم اتخذتم العجل توبيخ ، و " ثم " أبلغ من الواو في التقريع ، أي بعد النظر في الآيات والإتيان بها اتخذتم . وهذا يدل على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات ، وذلك أعظم لجرمهم . قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا تقدم الكلام في هذا . ومعنى اسمعوا أطيعوا ، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط ، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه ، ومنه قولهم : سمع الله لمن حمده ، أي قبل وأجاب . قال : دعوت الله حتى خفت ألا يكون الله يسمع ما أقول أي يقبل ، وقال الراجز : والسمع والطاعة والتسليم خير وأعفى لبني تميم امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 32الى صــ 38 الحلقة (76) وهذا احتجاج عليهم في قولهم : نؤمن بما أنزل علينا . قوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل أي حب العجل والمعنى : جعلت قلوبهم تشربه ، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم . وفي الحديث : تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء . . . . الحديث ، خرجه مسلم . يقال أشرب قلبه حب كذا ، قال زهير : فصحوت عنها بعد حب داخل والحب تشربه فؤادك داء وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها ، والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها . وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين فقال في زوجته عثمة ، وكان عتب عليها في بعض الأمر فطلقها وكان محبا لها : تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور أكاد إذا ذكرت العهد منها أطير لو ان إنسانا يطير وقال السدي وابن جريج : إن موسى عليه السلام برد العجل وذراه في الماء ، وقال لبني إسرائيل : اشربوا من ذلك الماء ، فشرب جميعهم ، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه . وروي أنه ما شربه أحد إلا جن ، حكاه القشيري . قلت : أما تذريته في البحر فقد دل عليه قوله تعالى : ثم لننسفنه في اليم نسفا ، وأما شرب الماء وظهور البرادة على الشفاه فيرده قوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل والله تعالى أعلم . قوله تعالى : قل بئسما يأمركم به إيمانكم أي إيمانكم الذي زعمتم في قولكم : نؤمن بما أنزل علينا . وقيل : إن هذا الكلام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمر أن يوبخهم ، أي قل لهم يا محمد : بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم . وقد مضى الكلام في ( بئسما ) والحمد لله وحده . [ ص: 33 ] قوله تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين لما ادعت اليهود دعاوى باطلة حكاها الله عز وجل عنهم في كتابه ، كقوله تعالى : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ، وقوله : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه أكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال قل لهم يا محمد : إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجنة . فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في أقوالكم ; لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة في الدنيا ، لما يصير إليه من نعيم الجنة ، ويزول عنه من أذى الدنيا ، فأحجموا عن تمني ذلك فرقا من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكفرهم في قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه وحرصهم على الدنيا ، ولهذا قال تعالى مخبرا عنهم بقوله الحق : ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين تحقيقا لكذبهم . وأيضا لو تمنوا الموت لماتوا ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقامهم من النار . وقيل : إن الله صرفهم عن إظهار التمني ، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فهذه ثلاثة أوجه في تركهم التمني . وحكى عكرمة عن ابن عباس في قوله : فتمنوا الموت أن المراد ادعوا بالموت على أكذب الفريقين منا ومنكم ، فما دعوا لعلمهم بكذبهم . فإن قيل : فالتمني يكون باللسان تارة وبالقلب أخرى ، فمن أين علم أنهم لم يتمنوه بقلوبهم ؟ قيل له : نطق القرآن بذلك بقوله ولن يتمنوه أبدا ولو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردا على النبي صلى الله عليه وسلم وإبطالا لحجته ، وهذا بين . قوله تعالى : خالصة نصب على خبر كان ، وإن شئت كان حالا ويكون عند الله في موضع الخبر . أبدا ظرف زمان يقع على القليل والكثير ، كالحين والوقت ، وهو هنا من أول العمر إلى الموت . وما في قوله بما بمعنى الذي والعائد محذوف ، والتقدير قدمته ، وتكون مصدرية ولا تحتاج إلى عائد . وأيديهم في موضع رفع ، حذفت الضمة من [ ص: 34 ] الياء لثقلها مع الكسرة ، وإن كانت في موضع نصب حركتها ; لأن النصب خفيف ، ويجوز إسكانها في الشعر . والله عليم بالظالمين ابتداء وخبر . قوله تعالى : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون قوله تعالى : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة يعني اليهود . ومن الذين أشركوا قيل : المعنى وأحرص ، فحذف من الذين أشركوا لمعرفتهم بذنوبهم وألا خير لهم عند الله ، ومشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة ولا علم لهم من الآخرة ، ألا ترى قول شاعرهم [ هو امرؤ القيس ] : تمتع من الدنيا فإنك فان من النشوات والنساء الحسان والضمير في أحدهم يعود في هذا القول على اليهود . وقيل : إن الكلام تم في حياة ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين . قيل : هم المجوس ، وذلك بين في أدعياتهم للعاطس بلغاتهم بما معناه " عش ألف سنة " . وخص الألف بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب . وذهب الحسن إلى أن الذين أشركوا مشركو العرب ، خصوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، فهم يتمنون طول العمر . وأصل سنة سنهة . وقيل : سنوة . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة . قوله تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة أصل يود يودد ، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين ، وقلبت حركة الدال على الواو ، ليدل ذلك على أنه يفعل . وحكى الكسائي : وددت ، فيجوز على هذا يود بكسر الواو . ومعنى يود : يتمنى . قوله تعالى : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر اختلف النحاة في هو ، فقيل : هو ضمير الأحد المتقدم ، التقدير ما أحدهم بمزحزحه ، وخبر الابتداء في المجرور . أن يعمر فاعل بمزحزح وقالت فرقة : هو ضمير التعمير ، والتقدير وما التعمير بمزحزحه ، والخبر في المجرور ، أن يعمر بدل من التعمير على هذا القول . وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : هو عماد . [ ص: 35 ] قلت : وفيه بعد ، فإن حق العماد أن يكون بين شيئين متلازمين ، مثل قوله : إن كان هذا هو الحق ، وقوله : ولكن كانوا هم الظالمين ونحو ذلك . وقيل : ما عاملة حجازية ، وهو اسمها ، والخبر في بمزحزحه . وقالت طائفة : هو ضمير الأمر والشأن . ابن عطية : وفيه بعد ، فإن المحفوظ عن النحاة أن يفسر بجملة سالمة من حرف جر . وقوله : بمزحزحه الزحزحة : الإبعاد والتنحية ، يقال : زحزحته أي باعدته فتزحزح أي تنحى وتباعد ، يكون لازما ومتعديا قال الشاعر في المتعدي : يا قابض الروح من نفس إذا احتضرت وغافر الذنب زحزحني عن النار وأنشده ذو الرمة : يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا وغافر الذنب زحزحني عن النار وقال آخر في اللازم : خليلي ما بال الدجى لا يتزحزح وما بال ضوء الصبح لا يتوضح وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا . قوله تعالى : والله بصير بما يعملون أي بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمر ألف سنة . ومن قرأ بالتاء فالتقدير عنده . قل لهم يا محمد الله بصير بما تعملون . وقال العلماء : وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور . والبصير في كلام العرب : العالم بالشيء الخبير به ، ومنه قولهم : فلان بصير بالطب ، وبصير بالفقه ، وبصير بملاقاة الرجال ، قال : فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب قال الخطابي : البصير العالم ، والبصير المبصر . وقيل : وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى جاعل الأشياء المبصرة ذوات إبصار ، أي مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة والقوة ، فالله بصير بعباده ، أي جاعل عباده مبصرين . [ ص: 36 ] قوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي ، فمن صاحبك حتى نتابعك ؟ قال : ( جبريل ) قالوا : ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ، ذاك عدونا ! لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك ، فأنزل الله الآية إلى قوله : للكافرين أخرجه الترمذي . وقوله تعالى : فإنه نزله على قلبك الضمير في إنه يحتمل معنيين ، الأول : فإن الله نزل جبريل على قلبك . الثاني : فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك . وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف . ودلت الآية على شرف جبريل عليه السلام وذم معاديه . وقوله تعالى : بإذن الله أي بإرادته وعلمه . مصدقا لما بين يديه يعني التوراة . وهدى وبشرى للمؤمنين تقدم معناه والحمد لله . قوله تعالى : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين قوله تعالى : من كان عدوا لله شرط ، وجوابه فإن الله عدو للكافرين . وهذا وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام ، وإعلان أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم . وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته ، ومعاداة أوليائه . وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه . فإن قيل : لم خص الله جبريل وميكائيل بالذكر وإن كان ذكر الملائكة قد عمهما ؟ قيل له : خصهما بالذكر تشريفا لهما ، كما قال : فيهما فاكهة ونخل ورمان . وقيل : خصا [ ص: 37 ] لأن اليهود ذكروهما ، ونزلت الآية بسببهما ، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود : إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته ، فنص الله تعالى عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص . ولعلماء اللسان في جبريل وميكائيل عليهما السلام لغات ، فأما التي في جبريل فعشر : الأولى : جبريل ، وهي لغة أهل الحجاز ، قال حسان بن ثابت : وجبريل رسول الله فينا الثانية : جبريل ( بفتح الجيم ) وهي قراءة الحسن وابن كثير ، وروي عن ابن كثير أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ جبريل وميكائيل فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك . الثالثة : جبرئيل ( بياء بعد الهمزة ، مثال جبرعيل ) ، كما قرأ أهل الكوفة ، وأنشدوا : شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها وهي لغة تميم وقيس . الرابعة : جبرئل ( على وزن جبرعل ) مقصور ، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم . الخامسة : مثلها ، وهي قراءة يحيى بن يعمر ، إلا أنه شدد اللام . السادسة : جبرائل ( بألف بعد الراء ثم همزة ) وبها قرأ عكرمة . السابعة : مثلها ، إلا أن بعد الهمزة ياء . الثامنة : جبرييل ( بياءين بغير همزة ) وبها قرأ الأعمش ويحيى بن يعمر أيضا . التاسعة : جبرئين ( بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون ) . العاشرة : جبرين ( بكسر الجيم وتسكين الباء بنون من غير همزة ) وهي لغة بني أسد . قال الطبري : ولم يقرأ بها . قال النحاس - وذكر قراءة ابن كثير - : " لا يعرف في كلام العرب فعليل ، وفيه فعليل ، نحو دهليز وقطمير وبرطيل ، وليس ينكر أن يكون في كلام العجم ما ليس له نظير في كلام العرب ، وليس ينكر أن يكثر تغيره ، كما قالوا : إبراهيم وإبرهم وإبراهم وإبراهام " . قال غيره : جبريل اسم أعجمي عربته العرب ، فلها فيه هذه اللغات ولذلك لم ينصرف . قلت : قد تقدم في أول الكتاب أن الصحيح في هذه الألفاظ عربية نزل بها جبريل بلسان عربي مبين . قال النحاس : ويجمع جبريل على التكسير جباريل . [ ص: 38 ] وأما اللغات التي في ميكائيل فست : الأولى : ميكاييل ، قراءة نافع . الثانية : وميكائيل ( بياء بعد الهمزة ) قراءة حمزة . الثالثة : ميكال ، لغة أهل الحجاز ، وهي قراءة أبي عمرو وحفص عن عاصم . وروي عن ابن كثير الثلاثة أوجه ، قال كعب بن مالك : ويوم بدر لقيناكم لنا مدد فيه مع النصر ميكال وجبريل وقال آخر [ هو جرير ] : عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد وبجبرئيل وكذبوا ميكالا الرابعة : ميكئيل مثل ميكعيل ، وهي قراءة ابن محيصن . الخامسة : ميكاييل ( بياءين ) وهي قراءة الأعمش باختلاف عنه . السادسة : ميكاءل ، كما يقال ( إسراءل بهمزة مفتوحة ) ، وهو اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف . وذكر ابن عباس أن جبر وميكا وإسراف هي كلها بالأعجمية بمعنى : عبد ومملوك . وإيل : اسم الله تعالى ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة : هذا كلام لم يخرج من إل ، وفي التنزيل : لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة في أحد التأويلين ، وسيأتي . قال الماوردي : إن جبريل وميكائيل اسمان ، أحدهما عبد الله ، والآخر عبيد الله ; لأن إيل هو الله تعالى ، وجبر هو عبد ، وميكا هو عبيد ، فكأن جبريل عبد الله ، وميكائيل عبيد الله ، هذا قول ابن عباس ، وليس له في المفسرين مخالف . قلت : وزاد بعض المفسرين : وإسرافيل عبد الرحمن . قال النحاس : ومن تأول الحديث " جبر " عبد ، و " إل " الله وجب عليه أن يقول : هذا جبرئل ورأيت جبرئل ومررت بجبرئل ، وهذا لا يقال ، فوجب أن يكون معنى الحديث أنه مسمى بهذا . قال غيره : ولو كان كما قالوا لكان مصروفا ، فترك الصرف يدل على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف . وروى عبد الغني الحافظ من حديث أفلت بن خليفة - وهو فليت العامري وهو أبو حسان - عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم رب جبريل وميكايل وإسرافيل أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 39الى صــ 45 الحلقة (77) قوله تعالى : ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون [ ص: 39 ] قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها ؟ فأنزل الله هذه الآية ، ذكره الطبري . قوله تعالى : أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون قوله تعالى : أوكلما عاهدوا عهدا الواو واو العطف ، دخلت عليها ألف الاستفهام كما تدخل على الفاء في قوله : أفحكم الجاهلية ، أفأنت تسمع الصم ، أفتتخذونه وذريته . وعلى ثم كقوله : أثم إذا ما وقع هذا قول سيبويه . وقال الأخفش : الواو زائدة . ومذهب الكسائي أنها أو ، حركت الواو منها تسهيلا . وقرأها قوم أو ، ساكنة الواو ، فتجيء بمعنى بل ، كما يقول القائل : لأضربنك ، فيقول المجيب : أو يكفي الله . قال ابن عطية : وهذا كله متكلف ، والصحيح قول سيبويه . كلما نصب على الظرف ، والمعني في الآية مالك بن الصيف ويقال فيه ابن الضيف ، كان قد قال : والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ولا ميثاق ، فنزلت الآية . وقيل : إن اليهود عاهدوا لئن خرج محمد لنؤمن به ولنكونن معه على مشركي العرب ، فلما بعث كفروا به . وقال عطاء : هي العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير ، دليله قوله تعالى : الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون . قوله تعالى : نبذه فريق منهم النبذ : الطرح والإلقاء ، ومنه النبيذ والمنبوذ ، قال أبو الأسود : وخبرني من كنت أرسلت إنما أخذت كتابي معرضا بشمالكا نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا [ ص: 40 ] آخر : إن الذين أمرتهم أن يعدلوا نبذوا كتابك واستحلوا المحرما وهذا مثل يضرب لمن استخف بالشيء فلا يعمل به ، تقول العرب : اجعل هذا خلف ظهرك ، ودبرا منك ، وتحت قدمك ، أي اتركه وأعرض عنه ، قال الله تعالى : واتخذتموه وراءكم ظهريا . وأنشد الفراء : تميم بن زيد لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها بل أكثرهم ابتداء . لا يؤمنون فعل مستقبل في موضع الخبر . قوله تعالى : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون قوله تعالى : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نعت لرسول ، ويجوز نصبه على الحال . نبذ فريق جواب لما ، من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله نصب ب نبذ ، والمراد التوراة ; لأن كفرهم بالنبي عليه السلام وتكذيبهم له نبذ لها . قال السدي : نبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت . وقيل : يجوز أن يعني به القرآن . قال الشعبي : هو بين أيديهم يقرءونه ، ولكن نبذوا العمل به . وقال سفيان بن عيينة : أدرجوه في الحرير والديباج ، وحلوه بالذهب والفضة ، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه ، فذلك النبذ . وقد تقدم بيانه مستوفى . كأنهم لا يعلمون تشبيه بمن لا يعلم إذ فعلوا فعل الجاهل فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم . واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [ ص: 41 ] فيه أربع وعشرون مسألة : الأولى : قوله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا ، وهم اليهود . وقال السدي : عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت . وقال محمد بن إسحاق : لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم : يزعم محمد أن ابن داود كان نبيا ! والله ما كان إلا ساحرا ، فأنزل الله عز وجل : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا . وقال الكلبي : كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان ، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان ، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم بهذا فتعلموه ، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان ! وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين . قال عطاء : تتلو تقرأ من التلاوة . وقال ابن عباس : تتلو تتبع ، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا . وقال الطبري : اتبعوا بمعنى فضلوا . قلت : لأن كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره ، ومعنى " تتلو " يعني تلت ، فهو بمعنى المضي ، قال الشاعر : وإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح أي فلقد كان . وما مفعول ب ( اتبعوا ) أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته . وقيل : ما نفي ، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته ، قاله ابن العربي . [ ص: 42 ] على ملك سليمان أي على شرعه ونبوته . قال الزجاج : قال الفراء على عهد ملك سليمان . وقيل : المعنى في ملك سليمان يعني في قصصه وصفاته وأخباره . قال الفراء : تصلح على وفي ، في مثل هذا الموضع . وقال على ولم يقل بعد لقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته أي في تلاوته . وقد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه ، فلا معنى لإعادته . والشياطين هنا قيل : هم شياطين الجن ، وهو المفهوم من هذا الاسم . وقيل : المراد شياطين الإنس المتمردون في الضلال ، كقول جرير : أيام يدعونني الشيطان من غزلي وكن يهوينني إذ كنت شيطانا الثانية : قوله تعالى : وما كفر سليمان تبرئة من الله لسليمان ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر ، ولكن اليهود نسبته إلى السحر ، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر . ثم قال : ولكن الشياطين كفروا فأثبت كفرهم بتعليم السحر . ويعلمون : في موضع نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان . وقرأ الكوفيون سوى عاصم " ولكن الشياطين " بتخفيف " لكن " ، ورفع النون من " الشياطين " ، وكذلك في الأنفال " ولكن الله رمى " ووافقهم ابن عامر . الباقون بالتشديد والنصب . و " لكن " كلمة لها معنيان : نفي الخبر الماضي ، وإثبات الخبر المستقبل ، وهي مبنية من ثلاث كلمات : لا ، ك ، إن . " لا " نفي ، و " الكاف " خطاب ، و " إن " إثبات وتحقيق ، فذهبت الهمزة استثقالا ، وهي تثقل وتخفف ، فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة ، وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بإن الخفيفة . الثالثة : السحر ، قيل : السحر أصله التمويه والتخاييل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني ، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به ، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء ، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه . وقيل : هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته ، وكذلك إذا عللته ، والتسحير مثله ، قال لبيد : فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر [ ص: 43 ] آخر [ هو امرؤ القيس ] : أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب عصافير وذبان ودود وأجرأ من مجلحة الذئاب وقوله تعالى : إنما أنت من المسحرين يقال : المسحر الذي خلق ذا سحر ، ويقال من المعللين ، أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب . وقيل : أصله الخفاء ، فإن الساحر يفعله في خفية . وقيل : أصله الصرف ، يقال : ما سحرك عن كذا ، أي ما صرفك عنه ، فالسحر مصروف عن جهته . وقيل : أصله الاستمالة ، وكل من استمالك فقد سحرك . وقيل في قوله تعالى : بل نحن قوم مسحورون أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا . وقال الجوهري : السحر الأخذة ، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر ، وقد سحره يسحره سحرا . والساحر : العالم ، وسحره أيضا بمعنى خدعه ، وقد ذكرناه . وقال ابن مسعود : كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه . والعضه عند العرب : شدة البهت وتمويه الكذب ، قال الشاعر : أعوذ بربي من النافثا ت في عضه العاضه المعضه الرابعة : واختلف هل له حقيقة أم لا ، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له : أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له ، وعند الشافعي وسوسة وأمراض . قال : وعندنا أصله طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب ، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون ، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر . قلت : وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء ، على ما يأتي . ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة . والشعوذي : البريد لخفة سيره . قال ابن فارس في المجمل : الشعوذة ليس من كلام أهل البادية ، وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر ، ومنه ما يكون كلاما يحفظ ، ورقى من أسماء الله تعالى . وقد يكون من عهود الشياطين ، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك . الخامسة : سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا ، فقال : إن من [ ص: 44 ] البيان لسحرا أخرجه مالك وغيره . وذلك لأن فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق ، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام : إن من البيان لسحرا خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة ، إذ شبهها بالسحر . وقيل : خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان ، قال جماعة من أهل العلم . والأول أصح ، والدليل عليه قوله عليه السلام : فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وقوله : إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون . الثرثرة : كثرة الكلام وترديده ، يقال : ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار . والمتفيهق نحوه . قال ابن دريد . فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع ، قال : وأصله الفهق وهو الامتلاء ، كأنه ملأ به فمه . قلت : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا : أما قوله صلى الله عليه وسلم : إن من البيان لسحرا فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق . وهذا بين ، والحمد لله . السادسة : من السحر ما يكون كفرا من فاعله ، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس ، وإخراجهم في هيئة بهيمة ، وقطع مسافة شهر في ليلة ، والطيران في الهواء ، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه ، قاله أبو نصر عبد الرحيم القشيري . قال أبو عمرو : من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة ، فيجعل الإنسان حمارا أو نحوه ، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها ، فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء ، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم ، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة ؛ إذ قد يحصل مثلها بالحيلة . وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر ، إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به . [ ص: 45 ] السابعة : ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة . وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الإستراباذي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له ، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به ، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة ، كما قال تعالى : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ولم يقل تسعى على الحقيقة ، ولكن قال يخيل إليه . وقال أيضا : سحروا أعين الناس . وهذا لا حجة فيه ; لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر ، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع ، فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه ، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه ، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس ، فدل على أن له حقيقة . وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون : وجاءوا بسحر عظيم وسورة " الفلق " ، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم ، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، الحديث . وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر : " إن الله شفاني " . والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض ، فدل على أن له حقا وحقيقة ، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه . وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع ، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق . ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه ، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله . وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال : علم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها : " الفرما " فمن كذب به فهو كافر ، مكذب لله ورسوله ، منكر لما علم مشاهدة وعيانا . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 46الى صــ 52 الحلقة (78) الثامنة : قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد . قالوا : ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة ، والجري على خيط مستدق ، والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك . ومع ذلك فلا يكون السحر موجبا لذلك [ ص: 46 ] ولا علة لوقوعه ولا سببا مولدا ، ولا يكون الساحر مستقلا به ، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والري عند شرب الماء . روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ، ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه ، فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب - هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي - وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم : يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل . فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل الساحر . قال علي بن المديني : روى عنه حارثة بن مضرب . التاسعة عشرة : روى عبد الله بن بشر المازني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت . قال علماؤنا : إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تسحرك بخدعها ، وتكتمك فتنتها ، فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها ، والجمع لها والمنع ، حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى ، وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته ، فالدنيا أسحر منهما ، تأخذ بقلبك عن الله ، وعن القيام بحقوقه ، وعن وعده ووعيده . وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها ، وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبك الشيء يعمي ويصم . التاسعة : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام . فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر . قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه . العاشرة : في الفرق بين السحر والمعجزة ، قال علماؤنا : السحر يوجد من الساحر وغيره ، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد . والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها ، ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة ، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها ، كما تقدم في مقدمة الكتاب . الحادية عشر : واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي ، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته ; لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني ; ولأن الله تعالى سمى السحر كفرا بقوله : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة . وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : حد الساحر ضربه بالسيف خرجه الترمذي وليس [ ص: 47 ] بالقوي ، انفرد به إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عندهم ، رواه ابن عيينة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن مرسلا ، ومنهم من جعله عن جندب قال ابن المنذر : وقد روينا عن عائشة أنها باعت ساحرة كانت سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب . قال ابن المنذر : وإذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرا وجب قتله إن لم يتب ، وكذلك لو ثبتت به عليه بينة ووصفت البينة كلاما يكون كفرا . وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله ، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كان عمد ذلك ، وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دية ذلك . قال ابن المنذر : وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسنة ، وقد يجوز أن يكون السحر الذي أمر من أمر منهم بقتل الساحر سحرا يكون كفرا فيكون ذلك موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفرا . فإن احتج محتج بحديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم : حد الساحر ضربه بالسيف فلو صح لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفرا ، فيكون ذلك موافقا للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث . . . قلت : وهذا صحيح ، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف . والله تعالى أعلم . وقال بعض العلماء : إن قال أهل الصناعة إن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار ، أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير ، والله تعالى أعلم . وروي عن الشافعي : لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل ، وإن قال لم أتعمده لم يقتل ، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ ، وإن أضر به أدب على قدر الضرر . قال ابن العربي : وهذا باطل من وجهين ، أحدهما : إنه لم يعلم السحر ، وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى ، وتنسب إليه المقادير والكائنات . الثاني : إن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال : وما كفر سليمان بقول السحر ولكن الشياطين كفروا به وبتعليمه ، وهاروت وماروت يقولان : إنما نحن فتنة فلا تكفر وهذا تأكيد للبيان . [ ص: 48 ] احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته ; لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق ، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتدا ، قال مالك : فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما ، والحجة لذلك قوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب ، فكذلك هذان . الثانية عشرة : وأما ساحر الذمة ، فقيل يقتل . وقال مالك : لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى ، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه . وقال ابن خويز منداد : فأما إذا كان ذميا فقد اختلفت الرواية عن مالك ، فقال مرة : يستتاب وتوبته الإسلام . وقال مرة : يقتل وإن أسلم . وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب ، وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صلى الله عليه وسلم : يستتاب وتوبته الإسلام . وقال مرة : يقتل ولا يستتاب كالمسلم . وقال مالك أيضا في الذمي إذا سحر : يعاقب ، إلا أن يكون قتل بسحره ، أو أحدث حدثا فيؤخذ منه بقدره . وقال غيره : يقتل ; لأنه قد نقض العهد . ولا يرث الساحر ورثته ; لأنه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفرا . وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها : تنكل ولا تقتل . الثالثة عشرة : واختلفوا هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور ، فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخاري ، وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري . وقال الشعبي : لا بأس بالنشرة . قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به ، فإنه يذهب عنه كل ما به ، إن شاء الله تعالى ، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله . [ ص: 49 ] الرابعة عشرة : أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن ، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم ، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي ، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم ، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه ، ونص الشرع على ثبوته ، قال الله تعالى : ولكن الشياطين كفروا وقال : ومن الشياطين من يغوصون له إلى غير ذلك من الآي ، وسورة " الجن " تقضي بذلك ، وقال عليه السلام : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس ، وأحالوا روحين في جسد ، والعقل لا يحيل سلوكهم في الإنس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم ، ولو كانوا كثافا لصح ذلك أيضا منهم ، كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم ، وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء . الخامسة عشرة : وما أنزل على الملكين ما نفي ، والواو للعطف على قوله : وما كفر سليمان وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك . وفي الكلام تقديم وتأخير ، التقدير وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله : ولكن الشياطين كفروا . هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل ، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، ودقة أفهامهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن ، قال الله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد . وقال الشاعر : أعوذ بربي من النافثا ت . . . . . . . . . . . . . . السادسة عشرة : إن قال قائل : كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل ، فالجواب من وجوه ثلاثة الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع ، كما قال تعالى : فإن كان له إخوة فلأمه السدس ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا [ ص: 50 ] اثنان من الإخوة فصاعدا ، على ما يأتي بيانه في " النساء " . الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون أتباعهما ، كما قال تعالى : عليها تسعة عشر . الثالث : إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما ، كما قال تعالى : فيهما فاكهة ونخل ورمان وقوله : وجبريل وميكال . وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله ، كقوله تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي وقوله : وجبريل وميكال ، وإما لطيبه كقوله : فاكهة ونخل ورمان ، وإما لأكثريته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا ، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية ، والله تعالى أعلم . وقد قيل : إن ما عطف على السحر وهي مفعولة ، فعلى هذا يكون ما بمعنى الذي ، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان : إنما نحن فتنة ، أي محنة من الله ، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت ، وإن عصيتنا هلكت . وقد روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي ما معناه : أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام - وذلك في زمن إدريس عليه السلام - عيرتهم الملائكة ، فقال الله تعالى : أما إنكم لو كنتم مكانهم ، وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم ، فقالوا : سبحانك ! ما كان ينبغي لنا ذلك ، قال : فاختاروا ملكين من خياركم ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأنزلهما إلى الأرض فركب فيهما الشهوة ، فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية " بيدخت " وبالفارسية " ناهيل " وبالعربية " الزهرة " اختصمت إليهما ، وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله ، فأجاباها وشربا الخمر وألما بها ، فرآهما رجل فقتلاه ، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكبا . وقال سالم عن أبيه عن عبد الله : [ ص: 51 ] فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما . وفي غير هذا الحديث : فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا ، فهما يعذبان ببابل في سرب من الأرض . قيل : بابل العراق . وقيل : بابل نهاوند ، وكان ابن عمر فيما يروى عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما ، ويقول : إن سهيلا كان عشارا باليمن يظلم الناس ، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت . قلنا : هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره ، لا يصح منه شيء ، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى رسله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . يسبحون الليل والنهار لا يفترون . وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه ، ويخلق فيهم الشهوات ، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم ، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء ، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح . ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء ، ففي الخبر : ( أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر " . وهذا معنى قول الله تعالى : وكل في فلك يسبحون . فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم ، ثم إن قول الملائكة : " ما كان ينبغي لنا " عورة : لا تقدر على فتنتنا ، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين ، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون . السابعة عشرة : قرأ ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن : " الملكين " بكسر اللام . قال ابن أبزى : هما داود وسليمان . ف " ما " على هذا القول أيضا نافية ، وضعف هذا القول ابن العربي . وقال الحسن : هما علجان كانا ببابل ملكين ، ف " ما " على هذا القول مفعولة غير نافية . [ ص: 52 ] الثامنة عشرة : ببابل بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة ، وهي قطر من الأرض ، قيل : العراق وما والاه . وقال ابن مسعود لأهل الكوفة : أنتم بين الحيرة وبابل . وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين . وقال قوم : هي بالمغرب . قال ابن عطية : وهذا ضعيف . وقال قوم : هو جبل نهاوند ، فالله تعالى أعلم . واختلف في تسميته ببابل ، فقيل : سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمروذ . وقيل : سمي به لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل ، فبلبل الله ألسنتهم بها ، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد . والبلبلة : التفريق ، قال معناه الخليل . وقال أبو عمر بن عبد البر : من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين ، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، إحداها اللسان العربي ، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 53الى صــ 59 الحلقة (79) الموفية عشرين : قوله تعالى : هاروت وماروت لا ينصرف هاروت ; لأنه أعجمي معرفة ، وكذا ماروت ، ويجمع هواريت ومواريت ، مثل طواغيت ، ويقال : هوارتة وهوار ، وموارتة وموار ، ومثله جالوت وطالوت ، فاعلم . وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما ؟ خلاف . قال الزجاج : وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : أي والذي أنزل على الملكين ، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه . قال الزجاج : وهذا القول [ ص: 53 ] الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا ، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه . والذي أنزل عليهما هو النهي ، كأنه قولا للناس : لا تعملوا كذا ، ف ( يعلمان ) بمعنى يعلمان ، كما قال : ولقد كرمنا بني آدم أي أكرمنا . الخامسة : قوله تعالى : واسمعوا لما نهى وأمر جل وعز ، حض على السمع الذي في ضمنه الطاعة وأعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما .الحادية والعشرون : قوله تعالى : وما يعلمان من أحد من زائدة للتوكيد ، والتقدير : وما يعلمان أحدا . حتى يقولا نصب بحتى فلذلك حذفت منه النون ، ولغة هذيل وثقيف " عتى " بالعين المعجمة . والضمير في يعلمان لهاروت وماروت . وفي يعلمان قولان ، أحدهما : أنه على بابه من التعليم . الثاني : أنه من الإعلام لا من التعليم ، ف يعلمان بمعنى يعلمان ، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى اعلم ، ذكره ابن الأعرابي وابن الأنباري . قال كعب بن مالك : تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيدا منك كالأخذ باليد وقال القطامي : تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا وقال زهير : تعلمن ها لعمر الله ذا قسما فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك وقال آخر : تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور إنما نحن فتنة لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها . فلا تكفر قالت فرقة بتعليم السحر ، وقالت فرقة باستعماله . وحكى المهدوي أنه استهزاء ; لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله . الثانية والعشرون : قوله تعالى : فيتعلمون منهما قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، قال ومثله كن فيكون . وقيل : هو معطوف على موضع ما يعلمان ; لأن قوله : وما يعلمان وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم . وقال الفراء : هي مردودة على قوله : يعلمون الناس السحر فيتعلمون ، ويكون " فيتعلمون " متصلة بقوله إنما نحن فتنة فيأتون فيتعلمون . قال السدي : كانا يقولان لمن جاءهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر [ ص: 54 ] فإن أبى أن يرجع قالا له : ائت هذا الرماد فبل فيه ، فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء ، وهو الإيمان ، ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر ، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه . ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة ; لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه ، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره . وقالت طائفة : ذلك خرج على الأغلب ، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب ، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه ، ويحول بين المرء وقلبه ، وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام ، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة ، وقد تقدم هذا ، والحمد لله . الثالثة والعشرون : قوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ما هم ، إشارة إلى السحرة . وقيل إلى اليهود ، وقيل إلى الشياطين . بضارين به أي بالسحر . من أحد أي أحدا ، ومن زائدة . إلا بإذن الله بإرادته وقضائه لا بأمره لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها . وقال الزجاج : إلا بإذن الله إلا بعلم الله . قال النحاس : وقول أبي إسحاق إلا بإذن الله إلا بعلم الله غلط ; لأنه إنما يقال في العلم أذن ، وقد أذنت أذنا . ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا . الرابعة والعشرون : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم يريد في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا . وقيل : يضرهم في الدنيا ; لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه ; لأنه يؤدب ويزجر ، ويلحقه شؤم السحر . وباقي الآي بين لتقدم معانيها . واللام في ولقد علموا لام توكيد . لمن اشتراه لام يمين ، وهي للتوكيد أيضا . وموضع من رفع بالابتداء ; لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيما بعدها . ومن بمعنى الذي . وقال الفراء . هي للمجازاة . وقال الزجاج : ليس هذا بموضع شرط ، ومن بمعنى الذي ، كما تقول : لقد علمت ، لمن جاءك ما له عقل . من خلاق من زائدة ، والتقدير ما له في الآخرة خلاق ، ولا تزاد في الواجب ، هذا قول البصريين . وقال الكوفيون : تكون زائدة في الواجب ، واستدلوا بقوله تعالى : يغفر لكم من ذنوبكم والخلاق : النصيب ، قاله مجاهد . قال الزجاج : وكذلك هو عند أهل اللغة ، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير . وسئل عن قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق فأخبر أنهم قد علموا . ثم قال : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون فأخبر أنهم لا يعلمون ، فالجواب وهو [ ص: 55 ] قول قطرب والأخفش : أن يكون الذين يعلمون الشياطين ، والذين شروا أنفسهم - أي باعوها - هم الإنس الذين لا يعلمون . قال الزجاج وقال علي بن سليمان : الأجود عندي أن يكون ولقد علموا للملكين ; لأنهما أولى بأن يعلموا . وقال : علموا كما يقال : الزيدان قاموا . وقال الزجاج : الذين علموا علماء اليهود ، ولكن قيل : لو كانوا يعلمون أي فدخلوا في محل من يقال له : لست بعالم ; لأنهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر . قوله تعالى : ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون قوله تعالى : ولو أنهم آمنوا واتقوا أي اتقوا السحر . لمثوبة المثوبة الثواب ، وهي جواب ولو أنهم آمنوا عند قوم . قال الأخفش سعيد : ليس ل ( لو ) هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى ، والمعنى لأثيبوا . وموضع أن من قوله : ولو أنهم موضع رفع ، أي لو وقع إيمانهم ; لأن لو لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا ; لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كان لا بد له من جواب ، و ( أن ) يليه فعل . قال محمد بن يزيد : وإنما لم يجاز " بلو " لأن سبيل حروف المجازاة كلها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل ، فلما لم يكن هذا في " لو " لم يجز أن يجازى بها . قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ذكر شيئا آخر من جهالات اليهود والمقصود نهي المسلمين عن مثل ذلك . وحقيقة راعنا في اللغة ارعنا ولنرعك ، لأن المفاعلة من اثنين ، فتكون من رعاك الله ، أي احفظنا ولنحفظك ، وارقبنا ولنرقبك . ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك ، أي فرغ سمعك لكلامنا . وفي المخاطبة بهذا جفاء ، فأمر المؤمنين أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أرقها . قال ابن عباس : كان المسلمون يقولون [ ص: 56 ] لنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا . على جهة الطلب والرغبة - من المراعاة - أي التفت إلينا ، وكان هذا بلسان اليهود سبا ، أي اسمع لا سمعت ، فاغتنموها وقالوا : كنا نسبه سرا فالآن نسبه جهرا ، فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم ، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم ، فقال لليهود : عليكم لعنة الله ! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه ، فقالوا : أولستم تقولونها ؟ فنزلت الآية ، ونهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه . الثانية : في هذه الآية دليلان : أحدهما : على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض ، ويخرج من هذا فهم القذف بالتعريض ، وذلك يوجب الحد عندنا خلافا لأبي حنيفة والشافعي وأصحابهما حين قالوا : التعريض محتمل للقذف وغيره ، والحد مما يسقط بالشبهة . وسيأتي في " النور " بيان هذا ، إن شاء الله تعالى . الدليل الثاني : التمسك بسد الذرائع وحمايتها وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية عنه ، وقد دل على هذا الأصل الكتاب والسنة . والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع . أما الكتاب فهذه الآية ، ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم ، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ ; لأنه ذريعة للسب ، وقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم فمنع من سب آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك ، وقوله تعالى : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر الآية ، فحرم عليهم تبارك وتعالى الصيد في يوم السبت ، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا ، أي ظاهرة ، فسدوا عليها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد ، وكان السد ذريعة للاصطياد ، فمسخهم الله قردة وخنازير ، وذكر الله لنا ذلك في معنى التحذير عن ذلك ، وقوله تعالى لآدم وحواء : ولا تقربا هذه الشجرة وقد تقدم . وأما السنة فأحاديث كثيرة ثابتة صحيحة ، منها حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاوير [ فذكرتا ذلك ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال [ ص: 57 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله . أخرجه البخاري ومسلم . قال علماؤنا : ففعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم ، فمضت لهم بذلك أزمان ، ثم إنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم ، ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها ، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك ، وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك ، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد وقال : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد . وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه الحديث ، فمنع من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات ، وذلك سدا للذريعة . وقال صلى الله عليه وسلم : لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس . وقال صلى الله عليه وسلم : إن من الكبائر شتم الرجل [ ص: 58 ] والديه قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه . فجعل التعرض لسب الآباء كسب الآباء . وقال صلى الله عليه وسلم : إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم . وقال أبو عبيد الهروي : العينة هو أن يبيع الرجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به . قال : فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة ، وهي أهون من الأولى ، وهو جائز عند بعضهم . وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة ، وذلك لأن العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره . وروى ابن وهب عن مالك أن أم ولد لزيد بن الأرقم ذكرت لعائشة رضي الله عنها أنها باعت من زيد عبدا بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتاعته منه بستمائة نقدا ، فقالت عائشة : بئس ما شريت ، وبئس ما اشتريت ! أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب . ومثل هذا لا يقال بالرأي ; لأن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي ، فثبت أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعوا الربا والريبة . ونهى ابن عباس رضي الله عنهما عن دراهم بدراهم بينهما حريرة . قلت : فهذه هي الأدلة التي لنا على سد الذرائع ، وعليه بنى المالكية كتاب الآجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها . وليس عند الشافعية كتاب الآجال ; لأن ذلك عندهم عقود مختلفة مستقلة ، قالوا : وأصل الأشياء على الظواهر لا على الظنون . والمالكية جعلوا السلعة محللة ليتوصل بها إلى دراهم بأكثر منها ، وهذا هو الربا بعينه ، فاعلمه . الثالثة : قوله تعالى : لا تقولوا راعنا نهي يقتضي التحريم ، على ما تقدم . وقرأ الحسن " راعنا " منونة . وقال : أي هجرا من القول ، وهو مصدر ونصبه بالقول ، أي لا تقولوا رعونة . وقرأ زر بن حبيش والأعمش " راعونا " ، يقال لما نتأ من الجبل : رعن ، والجبل أرعن . [ ص: 59 ] وجيش أرعن أي متفرق . وكذا رجل أرعن ، أي متفرق الحجج وليس عقله مجتمعا ، عن النحاس . وقال ابن فارس : رعن الرجل يرعن رعنا فهو أرعن ، أي أهوج . والمرأة رعناء . وسميت البصرة رعناء لأنها تشبه برعن الجبل ، قال ابن دريد ذلك ، وأنشد للفرزدق : لولا ابن عتبة عمرو والرجاء له ما كانت البصرة الرعناء لي وطنا الرابعة : قوله تعالى : وقولوا انظرنا أمروا أن يخاطبوه صلى الله عليه وسلم بالإجلال ، والمعنى : أقبل علينا وانظر إلينا ، فحذف حرف التعدية ، كما قال : ظاهرات الجمال والحسن ينظر ن كما ينظر الأراك الظباء أي إلى الأراك . وقال مجاهد : المعنى فهمنا وبين لنا . وقيل : المعنى انتظرنا وتأن بنا ، قال [ هو امرؤ القيس ] : فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر ينفعني لدى أم جندب والظاهر استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال ، وهذا هو معنى راعنا ، فبدلت اللفظة للمؤمنين وزال تعلق اليهود . وقرأ الأعمش وغيره " أنظرنا " بقطع الألف وكسر الظاء ، بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك ، قال الشاعر [ هو عمرو بن كلثوم ] : أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ من صــ 60الى صــ 66 الحلقة (80) قوله تعالى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم قوله تعالى : ما يود أي ما يتمنى ، وقد تقدم . الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين معطوف على " أهل " . ويجوز : ولا المشركون ، تعطفه على الذين ، قاله النحاس . أن ينزل عليكم من خير من زائدة ، خير اسم ما لم يسم فاعله . وأن في موضع نصب ، أي بأن ينزل . والله يختص برحمته من يشاء قالعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : يختص برحمته أي بنبوته ، خص بها محمدا صلى الله عليه وسلم . وقال قوم : الرحمة القرآن . وقيل : الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما [ ص: 60 ] وحديثا ، يقال : رحم يرحم إذا رق . والرحم والمرحمة والرحمة بمعنى ، قاله ابن فارس . ورحمة الله لعباده : إنعامه عليهم وعفوه لهم . والله ذو الفضل العظيم ذو بمعنى صاحب . قوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير فيه خمس عشرة مسألة : الأولى : قوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها ننسها عطف على ننسخ وحذفت الياء للجزم . ومن قرأ " ننسأها " حذف الضمة من الهمزة للجزم ، وسيأتي معناه . نأت جواب الشرط ، وهذه آية عظمى في الأحكام . وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك ، وقالوا : إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه ، فما كان هذا القرآن إلا من جهته ، ولهذا يناقض بعضه بعضا ، فأنزل الله : وإذا بدلنا آية مكان آية وأنزل ما ننسخ من آية . الثانية : معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة ، لا يستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام . روى أبو البختري قال : دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : رجل يذكر الناس ، فقال : ليس برجل يذكر الناس ! لكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ ! فقال : : لا ، قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه . وفي رواية أخرى : أعلمت الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت ! . ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما . الثالثة : النسخ في كلام العرب على وجهين : أحدهما : النقل ، كنقل كتاب من آخر . وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا ، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وهذا لا مدخل له في هذه الآية ، ومنه قوله تعالى : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون أي نأمر بنسخه وإثباته . الثاني : الإبطال والإزالة ، وهو المقصود هنا ، وهو منقسم في اللغة على ضربين : [ ص: 61 ] أحدهما : إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله ، وهو معنى قوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها . وفي صحيح مسلم : لم تكن نبوة قط إلا تناسخت أي تحولت من حال إلى حال ، يعني أمر الأمة . قال ابن فارس : النسخ نسخ الكتاب ، والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره ، كالآية تنزل بأمر ثم ينسخ بأخرى . وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه ، يقال : انتسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب . وتناسخ الورثة : أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم ، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون . الثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه ، كقولهم : نسخت الريح الأثر ، ومن هذا المعنى قوله تعالى فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله . وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب قلت : ومنه ما روي عن أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة " الأحزاب " كانت تعدل سورة البقرة في الطول ، على ما يأتي مبينا هناك إن شاء الله تعالى . ومما يدل على هذا ما ذكره أبو بكر الأنباري حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب قال : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن فلم يقدر على شيء منها ، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها ، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهم : قمت الليلة يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء منها ، فقام الآخر فقال : وأنا والله كذلك يا رسول الله ، فقام الآخر فقال : وأنا والله كذلك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها مما نسخ الله البارحة . وفي إحدى الروايات : وسعيد بن المسيب يسمع ما يحدث به أبو أمامة فلا ينكره . الرابعة : أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق علىوقوعه في الشريعة . وأنكرته أيضا طوائف من اليهود ، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة : إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ، ما [ ص: 62 ] خلا الدم فلا تأكلوه . ثم حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان ، وبما كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت ، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره ، وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له : لا تذبحه ، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم ، وبأن نبوته غير متعبد بها قبل بعثه ، ثم تعبد بها بعد ذلك ، إلى غير ذلك . وليس هذا من باب البداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة ، وحكم إلى حكم ، لضرب من المصلحة ، إظهارا لحكمته وكمال مملكته . ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية ، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالما بمآل الأمور ، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح ، كالطبيب المراعي أحوال العليل ، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته ، لا إله إلا هو ، فخطابه يتبدل ، وعلمه وإرادته لا تتغير ، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى . وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا ، ولذلك لم يجوزوه فضلوا . قال النحاس : والفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالا فيحرم ، أو كان حراما فيحلل . وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه ، كقولك : امض إلى فلان اليوم ، ثم تقول لا تمض إليه ، فيبدو لك العدول عن القول الأول ، وهذا يلحق البشر لنقصانهم . وكذلك إن قلت : ازرع كذا في هذه السنة ، ثم قلت : لا تفعل ، فهو البداء . الخامسة : اعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى ، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا تجوزا ، إذ به يقع النسخ ، كما قد يتجوز فيسمى المحكوم فيه ناسخا ، فيقال : صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء ، فالمنسوخ هو المزال ، والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة ، وهو المكلف . السادسة : اختلفت عبارات أئمتنا في حد الناسخ ، فالذي عليه الحذاق من أهل السنة أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا ، هكذا حده القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر ، وزادا : لولاه لكان السابق ثابتا ، فحافظا على معنى النسخ اللغوي ، إذ هو بمعنى الرفع والإزالة ، وتحرزا من الحكم العقلي ، وذكر الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيره ، وليخرج القياس والإجماع ، إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما . وقيدا بالتراخي ; لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا ناسخا ، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله ، كقوله : قم لا تقم . السابعة : المنسوخ عند أئمتنا أهل السنة هو الحكم الثابت نفسه لا مثله ، كما تقوله المعتزلة بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدم زائل . [ ص: 63 ] والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة ، وأن الحسن صفة نفسية للحسن ، ومراد الله حسن ، وهذا قد أبطله علماؤنا في كتبهم . الثامنة : اختلف علماؤنا في الأخبار هل يدخلها النسخ ، فالجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي ، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى . وقيل : إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه ، كقوله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا . وهناك يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى . التاسعة : التخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به ; لأن المخصص لم يتناوله العموم قط ، ولو ثبت تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا ، والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخا توسعا ومجازا . العاشرة : اعلم أنه قد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق ، ويرد تقييدها في موضع آخر فيرتفع ذلك الإطلاق ، كقوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان . فهذا الحكم ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال ، لكن قد جاء ما قيده في موضع آخر ، كقوله فيكشف ما تدعون إليه إن شاء . فقد يظن من لا بصيرة عنده أن هذا من باب النسخ في الأخبار وليس كذلك ، بل هو من باب الإطلاق والتقييد . وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في موضعها إن شاء الله تعالى . الحادية عشرة : قال علماؤنا رحمهم الله تعالى : جائز نسخ الأثقل إلى الأخف ، كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين . ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل ، كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان ، على ما يأتي بيانه في آية الصيام . وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة ، كالقبلة . وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى . وينسخ القرآن بالقرآن . والسنة بالعبارة ، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي . وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد . وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة ، وذلك موجود في قوله عليه السلام : لا [ ص: 64 ] وصية لوارث . وهو ظاهر مسائل مالك . وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي ، والأول أصح ، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء . وأيضا فإن الجلد ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم ، ولا مسقط لذلك إلا السنة " فعل النبي صلى الله عليه وسلم " هذا بين . والحذاق أيضا على أن السنة تنسخ بالقرآن وذلك موجود في القبلة ، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى . وفي قوله تعالى : فلا ترجعوهن إلى الكفار فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش . والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا ، واختلفوا هل وقع شرعا ، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء ، على ما يأتي بيانه ، وأبى ذلك قوم . ولا يصح نسخ نص بقياس ، إذ من شروط القياس ألا يخالف نصا . وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي ، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصا فيعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن ، وأن ذلك النص المخالف متروك العمل به ، وأن مقتضاه نسخ وبقي سنة يقرأ ويروى ، كما آية عدة السنة في القرآن تتلى ، فتأمل هذا فإنه نفيس ، ويكون من باب نسخ الحكم دون التلاوة ، ومثله صدقة النجوى . وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم . وقد تنسخ التلاوة والحكم معا ، ومنه قول الصديق رضي الله عنه : كنا نقرأ " لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر " ومثله كثير . والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول ، كما يأتي بيانه في تحويل القبلة . والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله ، وهو موجود في قصة الذبيح ، وفي فرض [ ص: 65 ] خمسين صلاة قبل فعلها بخمس ، على ما يأتي بيانه في " الإسراء " و " الصافات " ، إن شاء الله تعالى . الثانية عشرة : لمعرفة الناسخ طرق ، منها - أن يكون في اللفظ ما يدل عليه ، كقوله عليه السلام : كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا ونحوه . ومنها - أن يذكر الراوي التاريخ ، مثل أن يقول : سمعت عام الخندق ، وكان المنسوخ معلوما قبله . أو يقول : نسخ حكم كذا بكذا . ومنها - أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ وأن ناسخه متقدم . وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه ، نبهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية ، والله الموفق للهداية . الثالثة عشرة : قرأ الجمهور ما ننسخ بفتح النون ، من نسخ ، وهو الظاهر المستعمل على معنى : ما نرفع من حكم آية ونبقي تلاوتها ، كما تقدم . ويحتمل أن يكون المعنى : ما نرفع من حكم آية وتلاوتها ، على ما ذكرناه . وقرأ ابن عامر " ننسخ " بضم النون ، من أنسخت الكتاب ، على معنى وجدته منسوخا . قال أبو حاتم : هو غلط : وقال الفارسي أبو علي : ليست لغة ; لأنه لا يقال : نسخ وأنسخ بمعنى ، إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخا ، كما تقول : أحمدت الرجل وأبخلته ، بمعنى وجدته محمودا وبخيلا . قال أبو علي : وليس نجده منسوخا إلا بأن ننسخه ، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ . وقيل : ما ننسخ ما نجعل لك نسخه ، يقال : نسخت الكتاب إذا كتبته ، وانتسخته غيري إذا جعلت نسخه له . قال مكي : ولا يجوز أن تكون الهمزة للتعدي ; لأن المعنى يتغير ، ويصير المعنى ما ننسخك من آية يا محمد ، وإنساخه إياها إنزالها عليه ، فيصير المعنى ما ننزل عليك من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ، فيئول المعنى إلى أن كل آية أنزلت أتى بخير منها ، فيصير القرآن كله منسوخا وهذا لا يمكن ، لأنه لم ينسخ إلا اليسير من القرآن . فلما امتنع أن يكون أفعل وفعل بمعنى إذ لم يسمع ، وامتنع أن تكون الهمزة للتعدي لفساد المعنى ، لم يبق ممكن إلا أن يكون من باب أحمدته وأبخلته إذا وجدته محمودا أو بخيلا . الرابعة عشرة : أو ننسها قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين [ ص: 66 ] والهمز ، وبه قرأ عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وابن محيصن ، من التأخير ، أي نؤخر نسخ لفظها ، أي نتركه في آخر أم الكتاب فلا يكون . وهذا قول عطاء . وقال غير عطاء : معنى أو ننسأها : نؤخرها عن النسخ إلى وقت معلوم ، من قولهم : نسأت هذا الأمر إذا أخرته ، ومن ذلك قولهم : بعته نسأ إذا أخرته . قال ابن فارس : ويقولون : نسأ الله في أجلك ، وأنسأ الله أجلك . وقد انتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا ، ونسأتهم أنا أخرتهم . فالمعنى نؤخر نزولها أو نسخها على ما ذكرنا . وقيل : نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر . وقرأ الباقون ننسها بضم النون ، من النسيان الذي بمعنى الترك ، أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ، قاله ابن عباس والسدي ، ومنه قوله تعالى : نسوا الله فنسيهم أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب . واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، قال أبو عبيد : سمعت أبا نعيم القارئ يقول : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بقراءة أبي عمرو فلم يغير علي إلا حرفين ، قال : قرأت عليه أرنا فقال : أرنا ، فقال أبو عبيد : وأحسب الحرف الآخر " أو ننسأها " فقال : أو ننسها . وحكى الأزهري ننسها نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء أي أمرت بتركه ، ونسيته تركته ، قال الشاعر : إن علي عقبة أقضيها لست بناسيها ولا منسيها أي ولا آمر بتركها . وقال الزجاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى بمعنى ترك ، وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أو ننسها قال : نتركها لا نبدلها ، فلا يصح . ولعل ابن عباس قال : نتركها ، فلم يضبط . والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى أو ننسها نبح لكم تركها ، من نسي إذا ترك ، ثم تعديه . وقال أبو علي وغيره : ذلك متجه ; لأنه بمعنى نجعلك تتركها . وقيل : من النسيان على بابه الذي هو عدم الذكر ، على معنى أو ننسكها يا محمد فلا تذكرها ، نقل بالهمز فتعدى الفعل إلى مفعولين : وهما النبي والهاء ، لكن اسم النبي محذوف . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
الساعة الآن : 09:32 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour