ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:16 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1057 الى صـ 1063
الحلقة (191)

وهذه النار التي نزلت من السماء جاء ذكرها في الفصل التاسع من سفر الأحبار وملخصه : أن موسى أمر هارون عليهما السلام أن يذبح قربانا ، فذبح عجلا وأحرق لحمه وجلده خارج المحلة ، وأما شحمه وكليتاه وزيادة كبده فقترها على المذبح ، ثم قرب تيسا وثورا وكبشا بكيفية خاصة ، ثم دخل موسى وهارون خباء المحضر ، فخرجت نار من عند الرب ، فأكلت المحرقة والشحوم التي على المذبح ، فنظر جميع الشعب وهتفوا مسبحين وسجدوا - انتهى - .

إذا علمت ذلك ، فقوله تعالى : تأكله النار بمعنى : أن يذبح على الكيفية المعروفة ، ثم تنزل نار من السماء فتأكله ، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها المحرقة ، كما ذكرنا . وفي عهد سليمان أيضا ، فقد جاء في الفصل التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني : أن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت المحرقة والذبائح ، وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار . انتهى .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 185 ] كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور

كل نفس ذائقة الموت كقوله : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس ، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب : وإنما توفون أجوركم يوم القيامة أي : تعطون جزاء أعمالكم وافيا يوم القيامة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . قال الزمخشري : فإن قلت : فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ! قلت : كلمة التوفية تزيل هذا [ ص: 1058 ] الوهم ، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم ، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور .

وقال الرازي : بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم ، وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة ، لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم ، والسعادة بلا خوف الانقطاع . [ ص: 1059 ] وكذا القول في العقاب ، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة ، نعوذ بالله منه فمن زحزح أي : أبعد : عن النار التي هي مجمع الآفات والشرور : وأدخل الجنة الجامعة للذات والسرور : فقد فاز أي : حصل الفوز العظيم ، وهو الظفر بالبغية ، أعني : النجاة من سخط الله والعذاب السرمد ، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » . وأخرجه مسلم أيضا : وما الحياة الدنيا أي : لذاتها : إلا متاع الغرور المتاع : ما يتمتع وينتفع به ، والغرور : ( بضم الغين ) مصدر غره ، أي : خدعه وأطمعه بالباطل ، [ ص: 1060 ] وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنيه لذاتها من طول البقاء ، وأمل الدوام ، فتخدعه ثم تصرعه . قال بعض السلف : الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول . فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 186 ] لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور

لتبلون أي : لتختبرن : في أموالكم بما يصيبها من الآفات : وأنفسكم بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد . وهذا كقوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلى آخر الآيتين - أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله . وفي الحديث : « يبتلى المرء على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء » ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى [ ص: 1061 ] كثيرا بالقول والفعل : وإن تصبروا على ذلك : وتتقوا أي : مخالفة أمره تعالى : فإن ذلك أي : الصبر والتقوى : من عزم الأمور أي : من معزومات الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون . أي : مما يجب أن يعزم عليه كل أحد ، لما فيه من كمال المزية والشرف . أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه . يعني : أن ذلك عزمة من عزمات الله تعالى ، لا بد أن تصبروا وتتقوا . وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى . أفاده أبو السعود .

قال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب الصبر . وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 187 ] وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون

وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وهم علماء اليهود والنصارى : لتبيننه للناس أي : لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته - صلى الله عليه وسلم - . وفي قوله تعالى : ولا تكتمونه من النهي عن الكتمان ، بعد الأمر بالبيان ، مبالغة في إيجاب المأمور به : فنبذوه أي : الميثاق : وراء ظهورهم أي : طرحوه ولم يراعوه ، ونبذ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به ، والإعراض عنه بالكلية . كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به : واشتروا به أي : استبدلوا به : ثمنا قليلا أي : شيئا حقيرا من حطام الدنيا : فبئس ما يشترون بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه .

قال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب إظهار الحق ، وتحريم كتمانه ، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك مما يجب إظهاره . وقد تقدم هذا ، وإن المراد بذلك إذا لم يؤد إلى مفسدة ، ويدخل في الكتم ؛ منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها .

[ ص: 1062 ] وقال العلامة الزمخشري - عليه الرحمة - : كفى بهذه الآية دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه ، وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة ، وتطييب لنفوسهم ، واستجلاب لمسارهم ، أو لجر منفعة وحطام الدنيا ، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة ، أو لبخل بالعلم ، وغيرة أن ينسب إليه غيرهم - انتهى - .

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار » - أخرجه الترمذي - ولأبي داود : « من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة » . وقال أبو هريرة : لولا ما أخذ الله - عز وجل - على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء . ثم تلا : وإذ أخذ الله الآية .

لطيفة :

قال العلامة أبو السعود : في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة ، لا سيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ ، والإعراض عن المعطي ، والتعبير عن المشترى الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة - بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه ، وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون ، مصحوبا بـ ( الباء ) الداخلة على الآلات والوسائل - من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير ، على الشريف الخطير ، وتعكيسهم بجعلهم المقصد وسيلة ، والوسيلة مقصدا - ما لا يخفى جلالة شأنه ورفعة مكانه - انتهى - .

ثم أشار تعالى أنهم لا يرون قبح ذلك بل يفرحون به فقال :

[ ص: 1063 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 188 ] لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم

لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا أي : بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان : فلا تحسبنهم بمفازة أي : بمنجاة : من العذاب ولهم عذاب أليم بكفرهم وتدليسهم .

روى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أن مروان قال : اذهب يا رافع ( لبوابه ) إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل ، لنعذبن أجمعون . فقال ابن عباس : ما لكم وهذه ، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب - إلى قوله : ولهم عذاب أليم وقال ابن عباس : سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه . وهكذا رواه البخاري في التفسير ، ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما ، وابن أبي حاتم وابن خزيمة والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه بنحوه . ورواه البخاري أيضا عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس - فذكره - وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1064 ] إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت : ( ولا تحسبن ) الآية - وكذا رواه مسلم بنحوه .

ولا منافاة بين الروايتين ، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر ، ومعنى نزول الآية في ذلك وقوعها بعد ذلك ، لا أن أحد الأمرين كان سـببا لنزولها . كما حققناه غير مرة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:17 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1064 الى صـ 1070
الحلقة (192)


تنبيه :

هذه الآية ، وإن كانت محمولة على الكفار لما تقدم ، ففيها ترهيب للمؤمنين عما ذم عليه أهلها من الإصرار على القبائح والفرح بها ومحبة المدح بما عرا عنه من الفضائل . ويدخل في ذلك المراؤون المتكثرون بما لم يعطوا ، كما جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :« من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة » .

وفي الصحيحين أيضا : « المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور » . فليحذر من يأتي بما لا ينبغي ويفرح به ، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على الله تعالى .

فائدة :

قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني ، وفاعل الأول ( الذين يفرحون ) . وأما مفعولاه فمحذوفان اكتفاء بمفعولي : تحسبنهم لأن الفاعل [ ص: 1065 ] فيهما واحد . فالفاعل الثاني تأكيد للأول ، وحسن لما طال الكلام المتصل بالأول . والفاء زائدة ؛ إذ ليست للعطف ولا للجواب ، وثمة وجوه أخرى .

لطيفة :

تصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور - للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة ، وقطع أطماعهم الفارغة ، حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة ، كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية ، وعليه كان مبنى فرحهم . وأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - فللتعريض بحسبانهم المذكور ، لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته عليه الصلاة والسلام - أفاده أبو السعود - .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 189 ] ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير .

ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير فهو قادر على عقابهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 190 ] إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب

إن في خلق السماوات والأرض أي : في إيجادهما على ما هما عليه من الأمور المدهشة ، تلك في ارتفاعها واتساعها ، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها ، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات ، وثوابت وبحار ، وجبال وقفار وأشجار ، ونبات وزروع ، وثمار وحيوان ، ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص : واختلاف الليل والنهار أي : في تعاقبهما ، وكون كل منهما خلفة للآخر ، بحسب طلوع الشمس وغروبها ، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر ، وانتقاصه [ ص: 1066 ] بازدياده : لآيات أي : لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته ، وباهر حكمته . والتنكير للتفخيم كما وكيفا ، أي : كثرة عظيمة : لأولي الألباب أي : لذوي العقول المجلوة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائما كما قال :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 191 ] الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار .

الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم أي : فلا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله المفيد صفاء الظاهر المؤثر في تصفية الباطن . فالمراد : تعميم الذكر للأوقات ، وعدم الغفلة عنه تعالى . وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ، ليس لتخصيص الذكر بها ، بل لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الإنسان غالبا : ويتفكرون في خلق السماوات والأرض أي : في إنشائهما بهذه الأجرام العظام ، وما فيهما من عجائب المصنوعات ، وغرائب المبتدعات ، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى ، فيعلموا أن لهما خالقا قادرا مدبرا حكيما ، لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تعالى . كما قيل :


وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد


روى ابن أبي الدنيا في ( كتاب التوكل والاعتبار ) عن الصوفي الجليل الشيخ أبي سليمان الداراني - قدس الله سره - أنه قال : إني لأخرج من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ، ولي فيه عبرة . وإنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته .

خرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن سلام : ( لا تفكروا في الله ، ولكن تفكروا فيما خلق ) . وله شواهد كثيرة .

[ ص: 1067 ] قال الرازي : دلائل التوحيد محصورة في قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم ، كما قال تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولما كان الأمر كذلك ، لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السماوات والأرض ، لأن دلالتها أعجب ، وشواهدها أعظم ، وكيف لا نقول ذلك ، ولو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة ، رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها ، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ، ثم يتشعب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر ، حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة ، وأسرارا عجيبة ، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ، ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق ، حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم ، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة ، وكيفية التدبير في إيجادها ، وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها ، لعجز عنه . فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السماوات ، مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم . وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان - عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم . فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير - عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السماوات والأرض ، وإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام ، لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين . بل يسلم أن كل ما خلقه ففيه حكم بالغة ، وأسرار عظيمة ، وإن كان لا سبيل إلى معرفتها . وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : ربنا ما خلقت هذا باطلا على إرادة [ ص: 1068 ] القول بمعنى يتفكرون قائلين ذلك . وكلمة : ( هذا ) متضمنة لضرب من التعظيم ، أي : ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثا ، عاريا عن الحكمة ، خاليا عن المصلحة ، بل منتظما لحكم جليلة ، ومصالح عظيمة . من جملتها أن يكون دلالة على معرفتك ، ووجوب طاعتك ، واجتناب معصيتك ، وأن يكون مدارا لمعايش العباد ، ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد .

لطيفة :

قال أبو البقاء : ( باطلا ) مفعول من أجله . والباطل ، هنا ، فاعل بمعنى المصدر ، مثل العاقبة والعافية . والمعنى : ما خلقتهما عبثا . ويجوز أن يكون حالا . تقديره ما خلقت هذا خاليا عن حكمة . ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، أي : خلقا باطلا - انتهى - .

وقوله : سبحانك أي : تنزيها لك من العبث ، وأن تخلق شيئا بغير حكمة : فقنا عذاب النار قال السيوطي : فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء . ذكره النووي في ( الأذكار ) ا هـ . وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء ، وهو تقديم الثناء على الله تعالى أولا ، كما دل عليه قوله : سبحانك ثم بعد الثناء يأتي الدعاء ، كما دل عليه : فقنا عذاب النار

وعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - قال : سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يدعو في صلاته ، لم يمجد الله تعالى ، ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « عجل هذا » ، ثم دعاه فقال له أو لغيره : « إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه ، والثناء عليه ، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو بعد بما شاء » . رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث صحيح .

واعلم أنه لما حكى تعالى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى ، وأبدانهم في طاعة الله ، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله - ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ، ثم أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ، بقولهم :

[ ص: 1069 ]

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 192 ] ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار .

ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته أي : أهنته وأظهرت فضيحته لأهل الموقف . وسر هذا الإتباع عظم موقع السؤال ، لأن من سأل ربه حاجة ، إذا شرح عظمها وقوتها كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل ، وإخلاصه في طلبه أشد ، والدعاء لا يتصل بالإجابة ، إلا إذا كان مقرونا بالإخلاص ، وهذا أيضا تعليم من الله تعالى فنا آخر من آداب الدعاء : وما للظالمين من أنصار تذييل لإظهار نهاية فظاعة حالهم ، ببيان خلود عذابهم ، بفقدان من ينصرهم ، ويقوم بتخليصهم . وغرضهم تأكيد الاستدعاء . ووضع ( الظالمين ) موضع ضمير المدخلين ، لذمهم ، والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم ، ووضعهم الأشياء في غير مواضعها . وجمع ( الأنصار ) بالنظر إلى جمع الظالمين ، أي : ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار . والمراد به من ينصر بالمدافعة والقهر . فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة ، على أن المراد بالظالمين هم الكفار - أفاده أبو السعود - .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 193 ] ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .

ربنا إننا سمعنا مناديا حكاية لدعاء آخر لهم ، وتصدير مقدمة الدعاء بالنداء لإظهار كمال الضراعة والابتهال . والتأكيد للإيذان بصدور المقال عنهم بوفور الرغبة ، وكمال النشاط . والمراد بالمنادي : الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتنوين للتفخيم ، وهذا كقوله تعالى : وداعيا إلى الله وفي وصفه - صلى الله عليه وسلم - بـ ( المنادي ) دلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوى وتبليغها إلى [ ص: 1070 ] الداني والقاصي ؛ لما فيه من الإيذان برفع الصوت : ينادي للإيمان أي : لأجل الإيمان بالله . فإن قلت : فأي فائدة في الجمع بين ( المنادي ) و ( ينادي ) ؟ قلت : ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالإيمان تفخيما لشأن المنادي ؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان . ونحوه قولك : مررت بهاد يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادي إذا أطلق ، ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء النائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع . وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ، ويهدي لسداد الرأي ، وغير ذلك . فإذا قلت : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام ، فقد رفعت من شأن المنادي والهادي ، وفخمته . ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا ، وندبه له وإليه ، وناداه له وإليه ، ونحوه : هداه للطريق وإليه . وذلك أن معنى انتهاء الغاية ، ومعنى الاختصاص واقعان جميعا - أفاده الزمخشري - .

أن آمنوا بربكم فآمنا أي : فامتثلنا أمره ، وأجبنا نداءه ، و : ( أن ) إما تفسيرية ، أي : آمنوا ، أو مصدرية ، أي : بأن آمنوا : ربنا تكرير للتضرع ، وإظهار لكمال الخضوع : فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا أي : استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها ، وأذهب عنا سيئاتنا بتبديلها حسنات : وتوفنا مع الأبرار أي : معدودين في جملتهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة . والأبرار جمع بار أو بر ، وهو كثير البر ( بالكسر ) أي : الطاعة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:18 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1071 الى صـ 1077
الحلقة (193)

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 194 ] ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد .

ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك أي : على تصديق رسلك والإيمان بهم . أو على ألسنة رسلك . وهو الثواب ، وهذا حكاية لدعاء آخر لهم ، معطوف على ما قبله . وتكرير [ ص: 1071 ] النداء لما مر : ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد قصدوا بذلك تذكير وعده تعالى بقوله : يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه بإظهار أنهم ممن آمن معه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 195 ] فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب .

فاستجاب لهم ربهم أني أي : بأني : لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بيان لـ (عامل ) وتأكيد لعمومه : بعضكم من بعض أي : الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، كلكم بنو آدم . وهذه جملة معترضة مبينة سبب شركة النساء مع الرجال ، فيما وعد الله عباده العاملين . وروى الحافظ سعيد بن منصور في سننه عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله تعالى : فاستجاب لهم ربهم الآية - وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا - ورواه الترمذي ، [ ص: 1072 ] والحاكم في ( مستدركه ) وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه . وروى ابن مردويه عن مجاهد عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت : فاستجاب لهم ربهم إلى آخرها . وعن جعفر الصادق - رضي الله عنه - : من حزبه أمر ، فقال : خمس مرات ( ربنا ) - أنجاه الله مما يخاف ، وأعطاه ما أراد . وقرأ الآيات .

فالذين هاجروا مبتدأ ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم، كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم من دار الفتنة : وأخرجوا من ديارهم أي : التي ولدوا فيها ونشأوا : وأوذوا في سبيلي أي : من أجله وبسببه، يريد سبيل الإيمان بالله وحده، وهو متناول لكل أذى نالهم من المشركين : وقاتلوا وقتلوا أي : غزوا المشركين واسـتشهدوا : لأكفرن عنهم سيئاتهم جملة قسمية، خبر المبتدأ الذي هو الموصول، وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه، بعد ما وعد ذلك عموما : ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار أي : من تحت قصورها الأنهار، من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن ، وغير ذلك مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر : ثوابا من عند الله في موضع المصدر المؤكد لما قبله، فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة ، في معنى الإثابة . وأضافه إليه تعالى ليدل على أنه عظيم، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا . كما قيل :


إن يعاقب يكن غراما وإن يعـ طـ جزيلا فإنه لا يبالي


والله عنده حسن الثواب أي : حسن الجزاء لمن عمل صالحا .
ثم بين تعالى قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا، وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها، إثر بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب، بقوله :

[ ص: 1073 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 196 ] لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد

لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد أي : تصرفهم فيها بالمتاجر والمكاسب، أي : لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ودرك العاجل .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 197 ] متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد

متاع قليل أي : هو متاع قليل، لقصر مدته، وكونه بلغة فانية، ونعمة زائلة، فلا قدر له في جنب ما أعد الله للمؤمنين .

وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « والله ! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع » .

ثم مأواهم جهنم أي : مصيرهم الذي إليه يأوون : وبئس المهاد أي : الفراش هي .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 198 ] لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نـزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار

لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نـزلا من عند الله بيان لكمال حسن حال المؤمنين، غب بيان وتكرير له، إثر تقرير ، مع زيادة خلودهم في الجنات ليتم بذلك سرورهم، ويزداد تبجحهم، ويتكامل به سوء حال الكفرة . والنزل ( بضمتين، وضم فسكون ) : المنزل، وما هيئ للنزيل أن ينزل عليه : وما [ ص: 1074 ] عند الله خير للأبرار أي : مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل . والتعبير عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر، كما أنها من قبيل التقوى .

روى الشيخان - واللفظ للبخاري - عن عمر بن الخطاب قال : جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو في مشربة، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبور، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه [ ص: 1075 ] فبكيت ، فقال : « ما يبكيك » ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت رسول الله ! فقال : « أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة » ؟

وروى ابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من نفس برة ولا فاجرة، إلا الموت خير لها ، لئن كان برا، لقد قال الله تعالى : وما عند الله خير للأبرار [ ص: 1076 ] وقرأ : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين

وروى ابن جرير عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول : وما عند الله خير للأبرار ويقول : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم الآية . وأخرج نحوه رزين عن ابن عباس .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 199 ] وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب

وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب

جملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق، وتحريف الكتاب وغير ذلك . بل منهم طائفة يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله، أي : مطيعون له، خاضعون متذللون بين يديه، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، أي : لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - . وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هودا أو نصارى، وقد قال تعالى في سورة القصص : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا [ ص: 1077 ] من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا الآية، وقال تعالى : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقال تعالى : ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون وهذه الصفات توجد في اليهود، ولكن قليلا، كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود، ولم يبلغوا عشرة أنفس . وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين

وهكذا قال هنا : أولئك لهم أجرهم عند ربهم
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:18 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1078 الى صـ 1084
الحلقة (194)

وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما قرأ سورة (كهيعص) [ ص: 1078 ] بحضرة النجاشي ملك الحبشة ، وعنده البطاركة والقساوسة ، بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم .

وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وقال : « إن أخا لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه » ، فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه .

وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه عن أنس بن مالك قال : لما توفي النجاشي ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « استغفروا لأخيكم » . فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة ؟ ! فنزلت : وإن من أهل الكتاب الآية - ورواه عبد بن حميد أيضا مرسلا . ورواه ابن جرير عن جابر ، وفيه : فقال المنافقون : يصلي على علج مات بأرض الحبشة ؟ ! فنزلت .

وروى الحاكم في ( مستدركه ) عن عبد الله بن الزبير قال : نزل بالنجاشي عدو من أرضهم ، فجاءه المهاجرون فقالوا : إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك ما صنعت بنا ، فقال : لداء بنصر الله - عز وجل - خير من دواء بنصرة الناس . قال : وفيه نزلت : وإن من أهل الكتاب الآية - ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : وإن من أهل الكتاب ، يعني : مسلمة أهل الكتاب .

وقال عباد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قول الله : وإن من أهل الكتاب [ ص: 1079 ] الآية - قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - فاتبعوه وعرفوا الإسلام ، فأعطاه الله أجر اثنين : للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - واتباعهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - رواه ابن أبي حاتم - .

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين » ، فذكر منهم رجلا من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي - أفاده ابن كثير - .

ثم إن الإخبار ، في آخر الآية ، بكونه تعالى : سريع الحساب كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق ، وأنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي ، وقدر ما ينبغي . ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر لكونه من لوازمها . ولكونه من لوازمها أشبه التأكيد ، فلذا لم يعطف عليه - والله أعلم - .

[ ص: 1080 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 200 ] يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون

يا أيها الذين آمنوا اصبروا أي : على مشاق الطاعات وما يمسكم من المكاره والشدائد : وصابروا أي : غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الجهاد . لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا . والمصابرة : باب من الصبر . ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه ، تخصيصا ، لشدته وصعوبته - كذا في ( الكشاف ) - : ورابطوا أي : أقيموا على مرابطة الغزو في نحر العدو بالترصد والاستعداد لحربهم ، وارتباط الخيل . قال الله تعالى : ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم والرباط في الأصل أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغره ، وكل معد لصاحبه ، ثم صار لزوم الثغر رباطا . وربما سميت الخيل أنفسها رباطا ، وقد يتجوز بالرباط عن الملازمة والمواظبة على الأمر ، فتسمى : رباطا ومرابطة .

قال الفارسي : هو ثان من لزوم الثغر ، ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل . وقد وردت الأخبار بالترغيب في الرباط ، وكثرة أجره . فمنها ما رواه البخاري في صحيحه عن سهل [ ص: 1081 ] بن سعد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « رباط يوم في سبيل الله ، خير من الدنيا وما عليها » .

وروى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « رباط يوم وليلة ، خير من صيام شهر وقيامه » ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان .

وروى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « كل ميت يختم على عمله ، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله ، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر » ، وهكذا رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح . وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضا . وبقيت أحاديث أخر ساقها الحافظ ابن كثير في تفسيره .

هذا ومن الوجوه في قوله تعالى : ( رابطوا ) أن يكون معناه انتظار الصلاة بعد الصلاة . فقد روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط » ، فشبه - صلى الله عليه وسلم - ما ذكر من الأفعال الصالحة بالرباط .

وروى الحاكم في ( مستدركه ) والحافظ ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : [ ص: 1082 ] أقبل علي أبو هريرة يوما فقال : أتدري ، يا ابن أخي ! فيم نزلت هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ؟ قلت : لا ؟ قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ، ويصلون الصلاة في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها ، فعليهم أنزلت : اصبروا أي : على الصلوات الخمس : وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم .

واتقوا الله فيما عليكم : لعلكم تفلحون أي : تفوزون بما يغتبط به ، و ( لعل ) لتغييب المآل . لئلا يتكلوا على الآمال .

[ ص: 1083 ] خاتمة

فيما ورد في الآيات الأواخر من هذه السورة ، وفي فضل هذه السورة بتمامها . قال الحافظ ابن كثير : قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده .

روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة ، ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر ، قعد فنظر إلى السماء ، فقال : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ثم قام فتوضأ ، واستن ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذن بلال ، فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى بالناس الصبح - وهكذا رواه مسلم ، ورواه البخاري من طريق أخرى بلفظ : حتى إذا انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منامه ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران . . الحديث - وهكذا أخرجه الجماعة من طرق .

وروى ابن مردويه عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأحفظ صلاته ، قال : فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس صلاة العشاء الأخيرة ، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيري ، قام فمر بي فقال : من هذا ؟ عبد الله ؟ قلت : نعم ! قال : فمه ؟ قلت : أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة ، قال : فالحق ، الحق . [ ص: 1084 ] فلما دخل قال : افرش ، عبد الله ! فأتى بوسادة من مسوح ، قال : فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها حتى سمعت غطيطه ، ثم استوى على فراشه قاعدا ، قال : فرفع رأسه إلى السماء فقال : « سبحان الملك القدوس » ثلاث مرات ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها .

وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حديثا في ذلك أيضا .

وروى ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل ، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية : إن في خلق السماوات والأرض إلى آخر السورة ، ثم قال : « اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا ، وعن يميني نورا ، وعن شمالي نورا ، ومن بين يدي نورا ، ومن خلفي نورا ، ومن فوقي نورا ، ومن تحتي نورا ، وأعظم لي نورا يوم القيامة » . وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس - رضي الله عنه - .

وروى ابن مردويه وعبد بن حميد حديثا عن عائشة ، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة : إن في خلق السماوات والأرض إلى قوله : فقنا عذاب النار ثم قال : ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها » .

ومما ورد في فضل هذه السورة ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان : « يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمه سورة البقرة وآل عمران » . وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال ، ما نسيتهن بعد ، قال : كأنهما غمامتان ، أو ظلتان سوداوان ، بينهما شرق ( أي : ضياء ونور ) ، أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما .

والله سبحانه الموفق .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:19 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1085 الى صـ 1099
الحلقة (195)



تم تفسير هذه السورة صباح الجمعة في 11 ذي القعدة الحرام سنة 1318 وذلك في حرم جامع السنانية في الشباك القبلي من السدة اليمنى العليا بيد جامعه الفقير محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي غفر له ولوالديه وللمؤمنين .

آمين .

ويليه الجزء الخامس وفيه : تفسير سورة النساء .
[ ص: 1092 ] سُورَةُ النِّسَاءِ

روى العوفي عن ابن عباس : نزلت سورة النساء بالمدينة .

وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت .

وقد زعم النحاس أنها مكية مستندا إلى أن قوله تعالى: إن الله يأمركم [النساء: 58] الآية، نزلت بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة، وذلك مستند واه؛ لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سور طويلة - نزل معظمها بالمدينة - أن تكون مكية، خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني.

ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه، ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: " ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده " ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقا.

وقيل: نزلت عند الهجرة.

وآياتها مائة وسبعون وخمس، وقيل ست وقيل سبع، كذا في الإتقان.

وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها: إن الله لا يظلم مثقال ذرة [النساء: 40] الآية، و إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه [النساء: 31] الآية، [ ص: 1093 ] و إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 48]، ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك [النساء: 64] الآية.

وروى عبد الرزاق عنه أيضا قال: خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعا: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقوله: وإن تك حسنة يضاعفها وقوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 64] وقوله: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [النساء: 110].

وروى ابن جرير ، عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت؛ أولهن: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم [النساء: 26]، والثانية: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما [النساء: 27] والثالثة: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [النساء: 28] ثم ذكر قول ابن مسعود سواء، يعني في الخمسة الباقية.

لطيفة: إنما سميت سورة النساء ؛ لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر مما نزل في غيرها.

[ ص: 1094 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [1]

يا أيها الناس اتقوا ربكم أي: اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه.

ثم نبههم على اتصافه بكمال القدرة الباهرة، لتأييد الأمر بالتقوى وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريق الترغيب والترهيب بقوله تعالى: الذي خلقكم من نفس واحدة أي: فرعكم من أصل واحد، وهو نفس أبيكم آدم، وخلقه تعالى إياهم على هذا النمط البديع مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شيء، ومنه عقابهم على معاصيهم.

فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته، وكذا جعله تعالى إياهم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة ، كما ينبئ عنه ما يأتي من الإرشاد إلى صلة الأرحام، ورعاية حال الأيتام، والعدل في النكاح، وغير ذلك.

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه [ ص: 1095 ] أولئك النفر من مضر وهم مجتابو النمار (أي: من عريهم وفقرهم) قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة [النساء: من الآية 1] حتى ختم الآية، ثم قال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [الحشر: من الآية 18] ثم حضهم على الصدقة فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره وذكر تمام الحديث.

وهكذا رواه أحمد وأهل السنن، عن ابن مسعود في خطبة الحاجة.

وفيها: ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها: أيها الناس اتقوا ربكم الآية وخلق منها زوجها أي: من نفسها، يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التآلف والتضام، فإن الجنسية علة الضم، وقد أوضح هذا بقوله تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم: 21].

وبث منهما أي: نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها بطريق التوالد [ ص: 1096 ] والتناسل رجالا كثيرا ونساء أي: كثيرة، وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور.

واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به، فإن سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا: أسألك بالله وأنشدك الله - على سبيل الاستعطاف - يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه.

وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته.

و: تساءلون أصله تتساءلون، فطرحت إحدى التاءين تخفيفا، وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس، وقرئ (تسألون) من الثلاثي، أي: تسألون به غيركم، وقد فسر به القراءة الأولى والثانية، وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع، كما في قولك: رأيت الهلال وتراءيناه، أفاده أبو السعود .

وقوله تعالى: والأرحام قرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور، والباقون بالنصب عطفا على الاسم الجليل، أي: اتقوا الله والأرحام أن تقطعوها، فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى، أو عطفا على محل الجار والمجرور، كقولك: مررت بزيد وعمرا، وينصره قراءة: (تساءلون به وبالأرحام) فإنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عز وجل، ويقولون: أسألك بالله وبالرحم، ولقد نبه سبحانه وتعالى - حيث قرنها باسمه الجليل - على أن صلتها بمكان منه، كما في قوله تعالى: ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [الإسراء: من الآية 23]، وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين [النساء: من الآية 36].

[ ص: 1097 ] وقد روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله .

ورويا أيضا عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يدخل الجنة قاطع .

قال سفيان في روايته: يعني قاطع رحم.

وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها .

ورويا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم ، والترهيب من قطيعتها كثيرة.
تنبيه:

دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى ، كذا قاله الرازي ، ووجهه أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل؛ لكونهم يعتقدون عظمته، ولم ينكره عليهم، نعم من أداه التساؤل باسمه تعالى إلى [ ص: 1098 ] التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله ووسيلة للأبواب الساسانية فهذا محظور قطعا.

وعليه يحمل ما ورد من لعن من سأل بوجه الله، كما سنذكره، وقد ورد في هذا الباب أحاديث وافرة.

منها عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أتى عليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي، وابن حبان ، والحاكم .

وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن ابن عباس مرفوعا: من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه .

وعن ابن عمر مرفوعا: من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة رواه البيهقي بإسناد ضعيف.

وفي البخاري عن البراء بن عازب : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع وذكر منها: وإبرار القسم .

وروى أبو داود والضياء في "المختارة" بإسناد صحيح عن [ ص: 1099 ] جابر مرفوعا: لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة .

وروى الطبراني ، عن أبي موسى الأشعري مرفوعا: ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأل هجرا قال السيوطي : إسناده حسن.

وقال الحافظ المنذري : رجاله رجال الصحيح إلا شيخه (يعني الطبراني ) يحيى بن عثمان بن صالح ، وهو ثقة وفيه كلام.

وهجرا (بضم الهاء وسكون الجيم) أي: ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق، ويحتمل أنه أراد ما لم يسأل سؤالا قبيحا بكلام قبيح، انتهى.

وعن أبي عبيدة، مولى رفاعة ، عن رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله رواه الطبراني .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أخبركم بشر الناس؟ رجل يسأل بوجه الله ولا يعطي رواه الترمذي ، وقال: حسن غريب، والنسائي ، وابن حبان في صحيحه.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذي يسأل بالله ولا يعطي .

إن الله كان عليكم رقيبا أي: مراقبا لجميع أحوالكم وأعمالكم، يراها ويعلمها فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، كما قال [تعالى]: والله على كل شيء شهيد وفي الحديث: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

وهذا إرشاد وأمر بمراقبته تعالى، فعلى المرء أن يراقب أحوال نفسه، ويأخذ حذره من أن ينتهز الشيطان منه فرصة فيهلك على غفلة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:19 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1100 الى صـ 1106
الحلقة (196)

القول في تأويل قوله تعالى:

وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا [2]

وآتوا اليتامى أموالهم شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمرا ونهيا.

وتقديم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام، إذ الخطاب للأولياء والأوصياء، وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب.

واليتيم من مات أبوه، من اليتم، وهو الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة، والقياس الاشتقاقي يقتضي وقوعه على الصغار والكبار، وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم، كما روى أبو داود بإسناد حسن عن علي – رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يتم بعد احتلام .

وفي الآية وجوه:

الأول: أن يراد باليتامى الكبار الذين أونس منهم الرشد مجازا، باعتبار ما كان، أوثر لقرب العهد بالصغر، والإشارة إلى [ ص: 1101 ] وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حينئذ، حتى كأن اسم اليتيم باق بعد، غير زائل.

الثاني: أن يراد بهم الكبار حقيقة، واردة على أصل اللغة.

الثالث: أن يراد بهم الصغار، وبـ (الإيتاء) ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة، لا دفعها إليهم، وفيه بعد.

الرابع: أن يراد بهم ما ذكر، وبـ(إيتائهم) الأموال أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء، ولاة السوء وقضاته، ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تؤتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة، فالتجوز في الإيتاء حينئذ باستعماله في لازم معناه وهو تركها سالمة؛ لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك.

قال الناصر في "الانتصاف": هذا الوجه قوي بقوله بعد آيات: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [النساء: من الآية 6] دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد.

ويقويه أيضا قوله عقيب الأولى: ولا تتبدلوا إلخ، فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره.

وأما على الوجه الأول فيكون مؤدى الآيتين واحدا وهو الأمر بالإيتاء حقيقة، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالمجملة والثانية كالمبينة لشرط الإيتاء: من البلوغ وإيناس الرشد، والله أعلم.

ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب أي: ولا تستبدلوا الحرام - وهو مال اليتامى - بالحلال وهو مالكم، وما أبيح لكم من المكاسب، ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه.

ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم نهي عن منكر آخر كانوا يتعاطونه، أي: لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم مخلوطة بها للتوسعة إنه أي: الأكل: كان حوبا أي: ذنبا [ ص: 1102 ] عظيما، وقرئ بفتح الحاء، وقوله تعالى: كبيرا مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور، كأنه قيل: من كبار الذنوب.
تنبيه:

خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرا لقوله تعالى: ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف كذا قاله البيضاوي ، وتابعه أبو السعود .

وعندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية؛ لأنها في الغني؛ لقوله: إلى أموالكم فلا يشمل مساقها الفقير، وسنوضح ذلك.

لطيفة:

قال الزمخشري : فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلم ورد النهي عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال، وهم على ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم أحق، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم؛ ليكون أزجر لهم، انتهى.

قال الناصر في "الانتصاف": أهل البيان يقولون: المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيها على الأعلى، كقوله تعالى: فلا تقل لهما أف [الإسراء: من الآية 23] وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفا لها؛ إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غني عنه، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغني عنه من طريق الأولى، وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية.

فنقول: أبلغ الكلام [ ص: 1103 ] ما تعددت وجوه إفادته، ولا شك أن النهي عن الأدنى - وإن أفاد النهي عن الأعلى - إلا أن للنهي عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة، لا تؤخذ من النهي عن الأدنى، وذلك أن المنهي كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد.

ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل، فخصص بالنهي؛ تشنيعا على من يقع فيه، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الإحجام عن أكل ماله مطلقا.

ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر؛ إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب، كإعانتها عليه في الصورة الأولى، ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل، مع أن تناول مال اليتيم على أي وجه كان منهي عنه، كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلا، أو غير ذلك - إلا أن حكمة تخصيص النهي بالأكل أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل، وتعد البطنة من البهيمية، وتعيب على من اتخذها ديدنه، ولا كذلك سائر الملاذ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلا أو غيره.

ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى: لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة [آل عمران: من الآية 130]، فخص هذه الصورة؛ لأن الطبع عن الانتهاء عنها أعون.

ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الأمر، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيها على الأعلى، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب، ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة: وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم [النساء: من الآية 8] الآية، كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم، وذلك [ ص: 1104 ] أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال، فلو أمر بإسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث - ولم يذكر حالة حضورهم القسمة - لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم، بخلاف ما إذا حضروا، فإن النفس يرق طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم، ولا يسعف ولا يساعد، فإذا أمرت في هذه الحالة بالإسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذي الرحم مطلقا حضر أو غاب.

فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلقى إلا في الكتاب العزيز، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق، نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط، فخذ هذا القانون عمدة، وهو: أن النهي إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى، وإن خص الأعلى فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح، ومثل هذا النظر في جانب الأمر، والله الموفق، انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا [3]

وإن خفتم ألا تقسطوا أي: أن لا تعدلوا في اليتامى أي: يتامى النساء.

وقال الزمخشري : ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل: أيامى والأصل أيائم ويتائم.

فانكحوا ما طاب لكم من النساء أي: من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن أو العقل أو الصلاح منهن.

مثنى وثلاث ورباع ومعنى الآية: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن؛ بإساءة العشرة أو بنقص الصداق، فانكحوا غيرهن من الغريبات فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليكم.

فالآية للتحذير من التورط [ ص: 1105 ] في الجور والأمر بالاحتياط، وإن في غيرهن متسعا إلى الأربع.

وروى البخاري عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق (أي: نخلة) وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي .

وفي رواية لهم عن عائشة : هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.

قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية فأنزل الله: ويستفتونك في النساء [النساء: من الآية 127].

قالت عائشة : وقول الله تعالى في آية أخرى: وترغبون أن تنكحوهن [النساء: من الآية 127] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال.

قالت: فنهوا أن ينكحوا عن من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، إذا كن قليلات المال والجمال.

وفي رواية في قوله تعالى: ويستفتونك في النساء إلى آخر الآية، قالت عائشة - رضي الله عنها -: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها، [ ص: 1106 ] ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها، فنهاهم الله عن ذلك.

زاد أبو داود رحمه الله تعالى: وقال ربيعة في قوله تعالى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى قال: يقول: اتركوهن إن خفتم فقد أحللت لكم أربعا.

لطائف:

الأول: (ما) في قوله تعالى: (ما طاب لكم) موصولة، وجاء بـ (ما) مكان (من) لأنهما قد يتعاقبان، فيقع كل واحد منهما مكان الآخر، كما في قوله تعالى: والسماء وما بناها [الشمس: 5]، وقوله: ولا أنتم عابدون ما أعبد [الكافرون: 5]، فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع [النور: 45] قال بعضهم: وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء، وهن ناقصات العقول.

الثانية: في إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى - مع أنه المقصود بالذات - مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه، كما أن وصف النساء بالطيب - على الوجه الذي أشير إليه - فيه مبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن، وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى - أفاده أبو السعود -.

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:20 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1107 الى صـ 1113
الحلقة (197)



الثالثة: اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة .

الرابعة: مثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة، ومحلهن النصب على أنها حال من فاعل (طاب) مؤكدة لما أفاده وصف الطيب من الترغيب فيهن، والاستمالة إليهن، بتوسيع دائرة الإذن، أي: فانكحوا الطيبات لكم، معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، حسبما تريدون.

فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ قلت: الخطاب للجميع، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم، درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى.

فإن قلت: فلم جاء العطف بواو دون (أو) قلت: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك، ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعة أربعة، أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس لهم أن يجمعوا بينها، فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو.

وتحريره أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين فيها، محظورا عليهم ما وراء ذلك، أفاده الزمخشري .

بحث جليل:

قال الرازي : ذهب قوم سدى (كحتى، موضع قرب زبيد باليمن اهـ قاموس) إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد، واحتجوا بالقرآن والخبر:

أما القرآن: فقد تمسكوا بهذه الآية من [ ص: 1108 ] ثلاثة أوجه:

الأول: أن قوله: فانكحوا ما طاب لكم من النساء إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا.

والثاني: أن قوله: مثنى وثلاث ورباع لا يصلح تخصيصا لذلك العموم؛ لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي، بل نقول: إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا، فإن الإنسان إذا قال لولده: افعل ما شئت، اذهب إلى السوق، وإلى المدينة، وإلى البستان، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقا، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقا، ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنا في المذكور وغيره، فكذا هاهنا، وأيضا فذكر جميع الأعداد متعذر فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله: فانكحوا ما طاب لكم من النساء كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد.

والثالث: أن الواو للجمع المطلق فقوله: مثنى وثلاث ورباع يفيد حل هذا المجموع، وهو يفيد تسعة، بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر؛ لأن قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط، بل عن اثنين اثنين، وكذلك القول في البقية.

وأما الخبر فمن وجهين:

الأول: أنه ثبت بالتواتر: أنه - صلى الله عليه وسلم - مات عن تسع ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال: " فاتبعوه " وأقل مراتب الأمر الإباحة.

الثاني: أن سنة الرجل طريقته، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول - عليه الصلاة والسلام - فكان ذلك سنة له، ثم إنه عليه السلام قال: فمن رغب عن سنتي فليس مني فظاهر هذا الحديث [ ص: 1109 ] يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.

واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين:

الأول: الخبر: وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أمسك أربعا وفارق باقيهن .

وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه الصلاة السلام: أمسك أربعا وفارق واحدة .

واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين:

الأول: أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز.

والثاني: وهو أن الخبر واقعة حال، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بإمساك أربع ومفارقة البواقي؛ لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع.

وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله.

الطريق الثاني: وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع، وهذا هو المعتمد، وفيه سؤالان:

الأول: أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ فكيف يقال: الإجماع نسخ هذه الآية.

الثاني: أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع، والإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد.

والجواب عن الأول: أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

وعن الثاني: أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته، انتهى كلام الرازي. وقوله: (من أهل البدعة) لا يجوز أخذه على عمومه لما ستراه.

[ ص: 1110 ] قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى في "وبل الغمام": الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب - وصار كالمجمع عليه عندهم - أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثرا يحتاج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة كانت صيغة العدل المفرد في قوة تلك الأعداد، فإن كان مجيء القوم مثلا اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة، وكانوا ألوفا مؤلفة، فقلت: جاءني القوم مثنى، أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين، حتى تكاملوا.

فإن قلت: مثنى وثلاث ورباع، أفاد ذلك أن القوم جاءوك تارة اثنين اثنين، وتارة ثلاثة ثلاثة، وتارة أربعة أربعة، فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء لا مقدار عدد جميع القوم، فإنه لا يستفاد منها أصلا، بل غاية ما يستفاد منها أن عددهم متكثر تكثرا تشق الإحاطة به.

ومثل هذا إذا قلت: نكحت النساء مثنى، فإن معناه نكحتهن اثنتين اثنتين، وليس فيه دليل على أن كل دفعة من هذه الدفعات لم يدخل في نكاحه إلا بعد خروج الأولى، كما أنه لا دليل في قولك: جاءني القوم مثنى أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك إلا وقد فارقك الاثنان الأولان، إذا تقرر هذا فقوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا .

والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات، وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن، بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين، كما قدمنا في مجيء القوم.

وليس فيه أيضا دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى، ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا، فهذا مقام الاستفادة منه، فليتفضل بها علينا، وابن عباس - إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع - فهو فرد من أفراد الأمة.

وأما القعقعة بدعوى الإجماع فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة، وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية، وابن الصباغ ، والعمراني، والقاسم بن إبراهيم ، نجم آل الرسول، وجماعة من الشيعة، وثلة من محققي المتأخرين، وخالفه أيضا القرآن الكريم، كما بيناه.

وخالفه أيضا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صح [ ص: 1111 ] ذلك تواترا، من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات، وما آتاكم الرسول فخذوه [الحشر: من الآية 7] لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب: من الآية 21] قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران: من الآية 31] ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل، والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنه المعاذير.

وأما حديث أمره - صلى الله عليه وسلم – لغيلان - لما أسلم وتحته عشر نسوة - بأن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن، كما أخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، فهو - وإن كان له طرق - فقد قال ابن عبد البر : كلها معلولة، وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى، ومثل هذا لا ينتهض للنقل عن الدليل القرآني والفعل المصطفوي الذي مات - صلى الله عليه وسلم - عليه والبراءة الأصلية.

ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة، أو جاءنا بدليل في معناه، فجزاه الله خيرا، فليس بين أحد وبين الحق عداوة، وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لا سيما في مقامات التحرير [ ص: 1112 ] والتقرير، كما نفعله في كثير من الأبحاث، وإذا حاك في صدره شيء فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب، فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك لقيل وقال، ولا سيما في مثل مواطن يجبن عنها كثير من الرجال، فإنك لا تسئل يوم القيامة عن الذي ترتضيه منك العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ومن ورد البحر استقل السواقيا، انتهى.

وقال الشوكاني - قدس سره أيضا - في "نيل الأوطار": حديث قيس بن الحارث - وفي رواية: الحارث بن قيس - في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة.

قال أبو القاسم البغوي: ولا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا.

وقال أبو عمر النمري: ليس له إلا حديث واحد، ولم يأت به من وجه صحيح.

وفي معنى هذا حديث غيلان الثقفي، وهو عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا رواه أحمد، وابن ماجه والترمذي، وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح.

وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة ، قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة، وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقي بظاهر الحكم، وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة ، وأهل خراسان ، وأهل اليمامة عنه.

قال الحافظ : ولا يفيد ذلك شيئا، فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه بالبصرة، وعلى تقدير أنهم سمعوا منه بغيرها فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب؛ لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدث من حفظه [ ص: 1113 ] بأشياء وهم فيها، اتفق على ذلك أهل العلم، كابن المديني، والبخاري ، وابن أبي حاتم، ويعقوب بن شيبة، وغيرهم.

وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح، والعمل عليه، وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده.

وقال ابن عبد البر : طرقه كلها معلولة.

وقد أطال الدارقطني في "العلل" تخريج طرقه.

ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهري مرسلا.

ورواه عبد الرزاق، عن معمر كذلك.

وقد وافق معمرا على وصله بحر بن كنيز السقاء عن الزهري، ولكنه ضعيف، وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك، ويحيى ضعيف.

وفي الباب عن نوفل بن معاوية، عند الشافعي، أنه أسلم وتحته خمسة نسوة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمسك أربعا وفارق الأخرى، وفي إسناده رجل مجهول؛ لأن الشافعي قال: حدثنا بعض أصحابنا، عن أبي الزناد ، عن عبد المجيد بن سهل، عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية قال: أسلمت، فذكره، وفي الباب أيضا عن عروة بن مسعود، وصفوان بن أمية عند البيهقي .

وقوله: (اختر منهن أربعا) استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع، وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعا ، ولعل وجهه قوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع ومجموع ذلك - لا باعتبار ما فيه من العدل - تسع.

وحكي ذلك عن ابن الصباغ، والعمراني وبعض الشيعة.

وحكي أيضا عن القاسم بن إبراهيم، وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه، وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية، وقوم مجاهيل.

وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم، وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما تقدم فيه من المقال، وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول، قالوا: ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفى فيه بمثل ذلك، ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة، وقد قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب: من الآية 21].

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:21 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1114 الى صـ 1120
الحلقة (198)

وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع، ولم يقم عليه دليل.

وأما قوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع فالواو فيه للجمع لا للتخيير، وأيضا لفظ مثنى معدول به عن اثنين اثنين، وهو يدل على تناول ما كان متصفا من الأعداد بصفته الاثنينية، وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف، فإنك تقول: جاءني القوم مثنى أي: اثنين اثنين، وهكذا (ثلاث ورباع) وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد.

فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها، فإنه لا شك أنه يصح - لغة وعرفا - أن يقول الرجل لألف رجل عنده: جاءني هؤلاء اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة، فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير، سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير؛ لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم، فكأن الله سبحانه وتعالى قال لكل فرد من الناس: انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة، وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها.

وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج، وإن كان كل واحد لا يخلو عن مقال، ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة، كما صرح به الخطابي، فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل، وأيضا هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع، كما صرح بذلك في "البحر".

وقال في "الفتح" اتفق العلماء على أن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن ، وقد ذكر الحافظ في "الفتح" و"التلخيص" الحكمة في تكثير نسائه - صلى الله عليه وسلم - فليراجع ذلك، انتهى.

وقال - قدس سره - في تفسيره "فتح القدير" - وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع -: [ ص: 1115 ] وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد، كما يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم (أو هذا المال الذي في البدرة) درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة.

وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته، أو عين مكانه، أما لو كان مطلقا، كما يقال: اقتسموا الدراهم، ويراد بها ما كسبوه، فليس المعنى هكذا، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول، على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كبيرا: اقتسموه مثنى وثلاث ورباع، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين، وبعضه ثلاثة ثلاثة، وبعضه أربعة أربعة، كان هذا هو المعنى العربي.

ومعلوم أنه إذا قال القائل: جاءني القوم مثنى، وهم مائة ألف، كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين، هكذا: جاءني القوم ثلاث ورباع.

والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد، كما في قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " ، " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " ونحوها، ومعنى قوله: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا وثلاثا، وأربعا وأربعا، هذا ما تقتضي لغة العرب، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة فإنه - وإن كان خطابا للجميع - فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد.

فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن، وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة - وكأنه قال: انكحوا مجموع هذا العدد المذكور - فهذا جهل بالمعنى العربي، ولو قال: انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا كان هذا القول له وجه، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون (أو) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني.

أخرج الشافعي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد والترمذي ، وابن ماجه ، والدارقطني، والبيهقي ، عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: اختر منهن [ ص: 1116 ] (وفي لفظ أمسك منهن) أربعا وفارق سائرهن وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق.

وعن نوفل بن معاوية الديلي قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسك أربعا وفارق الأخرى أخرجه الشافعي في مسنده.

وأخرج ابن ماجه والنحاس في "تاريخه" عن قيس بن الحارث الأسدي قال: أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: اختر منهن أربعا وخل سائرهن ففعلت، وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقي .

وقال - قدس سره - أيضا في كتابه "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار": أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عز وجل: مثنى وثلاث ورباع فغير صحيح، كما أوضحته في "شرحي للمنتقى" وقد قدمناه.

ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث، وحديث غيلان الثقفي، وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه، وإن كان في كل واحد منها مقال، لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه.

وقد حكى الإجماع صاحب "فتح الباري" والمهدي في "البحر" والنقل عن الظاهرية لم يصح، فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبهم، انتهى.

تتمة:

روى الدارقطني، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين.

قال الشوكاني في "نيل الأوطار": قد تمسك بهذا من قال: إنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين، وهو مروي عن علي وزيد بن علي ، والناصر، والحنفية، والشافعية، ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته ، نعم، لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلا عند القائلين بحجية الإجماع، ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ، ومجاهد ، وربيعة ، [ ص: 1117 ] وأبي ثور ، والقاسم بن محمد ، وسالم - أنه يجوز له أن ينكح أربعا كالحر، حكى ذلك عنهم صاحب "البحر".

فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم، إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة، كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما، انتهى.

فإن خفتم ألا تعدلوا أي: بين هذه الأعداد فواحدة أي: فاختاروها، وقرئ بالرفع أي: فحسبكم واحدة أو ما ملكت أيمانكم أي: من الإماء، بالغة ما بلغت من مراتب العدد؛ لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر، ولا قسم لهن.

و (أو) للتسوية، أي: التخيير، والعدد يؤخذ من السياق، ومقابلة الواحدة.

قال الزمخشري : سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد، ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغبا وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل، انتهى.

ذلك أي: الاقتصار على واحدة أو على التسري أدنى أي: أقرب ألا تعولوا أي: من أن لا تميلوا ولا تجوروا؛ لانتفائه رأسا بانتفاء محله في الأول، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر، هذا إن قدر (تعولوا) مضارع عال، بمعنى جار ومال عن الحق، وهو اختيار أكثر المفسرين.

ومن الوجوه المحتملة فيه كونه مضارع عال بمعنى كثر عياله، قال في "القاموس": وعال فلان عولا وعيالة: كثر عياله، كأعول وأعيل، انتهى.

وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام المهايمي - قدس سره - في تفسيره حيث قال: أي: أقرب من أن لا تكثر عيالكم فيمكن معه القناعة بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى، انتهى.

وروي هذا التأويل عن زيد بن أسلم، وسفيان بن عيينة، والشافعي، وأما قول ابن كثير في هذا التفسير: ههنا نظر، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري - فجوابه - كما قال الرازي - من [ ص: 1118 ] وجهين:

الأول: ما ذكره القفال - رضي الله عنه - وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا، وحينئذ تقل العيال، أما إذا كانت المرأة حرة، لم يكن الأمر كذلك، فظهر الفرق.

الثاني: أن المرأة إذا كانت مملوكة، فإذا عجز المولى عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها، أما إذا كانت حرة فلا بد له من الإنفاق عليها، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة، انتهى.

تنبيهان:

الأول: قال بعض المفسرين: دلت الآية على أنه يجب بالنكاح حقوق ، وتدل على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح، فلا يجوز لمن عرف أنه يخون مال اليتيم - إذا تزوج أكثر من واحدة - أن يتزوج أكثر، وكذا إذا عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها، فإنه لا يجوز له قبول الوديعة، وتدل على أن العدل واجب بين الزوجات، وأن من عرف أنه لا يعدل فإنه لا تحل له الزيادة على واحدة، وتدل على أن زواجه الصغيرة من غير أبيها وجدها جائز، وللفقهاء مذاهب في ذلك معروفة.

الثاني: في سر ما تشير إليه الآية من إصلاح النسل، قال بعض علماء الاجتماع من فلاسفة المسلمين في مقالة عنوانها " الإسلام وإصلاح النسل" ما مثاله: ما زال البشر يسعى منذ ألوف من السنين وراء إصلاح ما يقتنيه من خيل وبقر وغنم ليكثر انتفاعه به، فيختار لإناث هذه الحيوانات أفحلا كريمة، هي على ما يرومه من الصفات؛ ليحصل منها على نسل أنفع له من أمهاته.

وقد زادت رغبة الناس بهذا العصر في إصلاح النوع النافع من الحيوان، فضربوه ورقوه باختيار الأفحل المناسبة؛ حتى حصلوا على صنف من الخيل الجياد تسابق الرياح فتجري (16) مترا في الثانية من الزمن، وعلى صنف من البقر تحلب في اليوم الواحد خمسين أقة، وعلى صنف من المعزى والغنم شعره أو صوفه مثل الحرير نعومة، ولم يقصر [ ص: 1119 ] إصلاحهم على الحيوان، بل تجاوز إلى النبات، فحصلوا بفضله على أشجار كثيرة الثمر لذيذته، وانتفعوا انتفاعا كبيرا، ما تيسر لأسلافهم.

نعم، إن البشر افتكروا في إصلاح الحيوان الصامت والنبات، وعلموا ما فيه من الفوائد، فسعوا إليه السعي الذي يرضاه العلم، وجنوا ثمار ذلك السعي، ولكنهم ما افتكروا في إصلاح ما هو أهم من كل ذلك: في إصلاح الحيوان الذكي، والشرير أكثر من الصالح، والجبان أكثر من الشجاع، والكاذب أكثر من الصادق، والكسلان أكثر من أخي الجد النشيط، ولو أنهم أصلحوا نسلهم لما وجد في الناس من يولد مريضا ويعيش مريضا، فلا ينتفع بوجوده المجتمع، وهو كثير.

قام من بين هذا الجيل فيلسوفان: ألماني وإنكليزي، وأخذا يعلمان بكتاباتهما المبنية على البراهين وجوب إصلاح الإنسان لنسل الإنسان، ويعددان فوائد الإصلاح لنوعه، ويبينان للملأ أن الرقي المطلوب لا يتم إلا به، وطفقا يلومان الناس على اعتنائهم بإصلاح المواشي وإهمالهم إصلاح أنفسهم، الأمر الذي هو أهم من ذلك كثيرا، وذكرا لذلك طرقا:

(منها) منع أصحاب العاهات والأمراض المزمنة وأولي الجرائم الكبيرة من الزواج؛ لينقطع نسلهم الذي يجيء غالبا على شاكلتهم.

(ومنها) إباحة تعدد الزوجات للنابغين من الرجال؛ ليكثر نسلهم، وقالا: إذا جرى المجتمع على هذا الانتخاب الصناعي قرونا عديدة كان نسل الإنسان الأخير - بحكم ناموس الوراثة - سالما من الأمراض، حسن الطوية، ليس فيه ميل إلى الشر، قويا، ذكي الفؤاد، نابغا في العلوم التي يتعلمها، كأنه نوع أرقى من الإنسان الحاضر، وكانت أهم طريقة أبدياها للارتقاء المنتظر للبشر في المستقبل، هي طريقة تعدد الزوجات في الحاضر للنابغين من الناس، فإن منع أصحاب الأمراض المزمنة والجناة من الزواج إنما يفيد في تقوية النسل وجعله ميالا بالفطرة إلى الخير ليس إلا، لا في جعله أذكى من آبائه وأسمى مدارك.

وتعدد الزوجات للنابغين من المسلمين قد جاء به الإسلام قبل هذين الفيلسوفين بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة، فقد أباح لهم تعددهن إلى أربع؛ ليكثر نسلهم، [ ص: 1120 ] فيكثر عدد النابغين، الذين بهم وحدهم تتم الأعمال الكبيرة في هذه الدنيا، فهو من مكتشفات هذا الدين الاجتماعية.

وقد جعل رضاهن بذلك شرطا له؛ لئلا يكون فيه إجحاف بحقوقهن، والعاقلة من النساء تفضل أن تكون زوجة لنابغة من الرجال - وإن كان ذا زوجات أخر - على أن تكون زوجة لرجل أحمق، وإن اقتصر عليها؛ لأنها تعلم أن أولادها من الأول ينجبون أكثر منهم من الثاني.

وأما غير النابغين منهم فإن الدين يمنعهم من نكاح أكثر من واحدة؛ لئلا يكثر نسلهم، قال الله تعالى في كتابه المبين يخاطب المؤمنين: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة الخطاب في هذه الآية لعموم الأمة، فهي تأذن لكل أحد من المسلمين أن يتزوج بأكثر من واحدة من النساء إلى أربع، إذا آنس من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلا وجب عليه الاقتصار على واحدة؛ لئلا يجور عليهن.

والقدرة على العدل بين أربع من النساء متوقف على عقل كبير وسياسة في الإدارة وحكمة بالغة في المعاملة، لا تتأتى إلا لمن كان نابغة بين الرجال، ذا مكانة من العقل ترفعه على أقرانه، والرجل النابغة إذا تزوج بأكثر من واحدة كثر نسله فكثر النوابغ.

والشعب الذي يكثر نوابغه أقدر على الغلبة في تنازع البقاء من سائر الشعوب، كما يدلنا عليه التاريخ.

ثم خاطب الله - في مكان آخر - الخائفين أن لا يعدلوا بين النساء - وهم غير النوابغ من المسلمين - بقوله: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فأمرهم في هذه الآية - التي هي في المعنى تتمة للأولى - أن لا يقترنوا بأكثر من واحدة؛ لأنهم في درجة من العقل هي دون درجة النابغين، لن يستطيعوا معها إتيان العدل بين النساء، المتوقف على عقل كبير يسهل لصاحبه أن يرضيهن جمعاء، كما يأتيه النابغون والدهاة من الناس، وحرم على هؤلاء - الذين لم يحوزوا المقدرة على العدل - التزوج بأكثر من واحدة؛ لئلا يقع الظلم من الرجال على النساء، وهو كثير الصدور من الأوساط، ومن كان دونهم في سلم الارتقاء؛ ولئلا يكثر نسل غير النابغين، وهو الأهم، فتبقى الأمة في مكانها من الانحطاط.

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:21 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1121 الى صـ 1127
الحلقة (199)

[ ص: 1121 ] وقد تقدم أن الخطاب في قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء في الآية الأولى لعموم الأمة، غير أن الشرط بالعدل جعله خاصا بالعادلين منهم، وهم النابغون الذين يقتدرون على إتيان العدل بين النساء لوفور عقلهم.

والغاية من أمر هذا الصنف من المسلمين أن يتزوجوا بأكثر من واحدة إلى أربع، هو تكثير نسلهم ليستفيد من كثرة أمثالهم المجتمع، كما أسلفنا، ولكن النابغة لا يأتي نسله في الغالب نوابغ، بمجرد تعدد الزوجات، فإن الزوجة المتوسطة أو المنحطة يكون أولادها في الغالب أوساطا أو منحطين، وإن كان أبوهم راقيا، فلا تحصل الفائدة المطلوبة من تعدد الزوجات وهي إصلاح النسل.

بل يجب للحصول على هذا المطلب الأسنى أن يقترن النابغون بالنابغات؛ ليكون أولادهم مثلهم نبوغا أو أنبغ منهم، بحكم سنة الوراثة، وذلك إنما يتم إذا أحسن النابغون اختيار الأزواج، فنكحوا ما طاب لهم، والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغا مثل نبوغه، إلى حسن رائع، فإن معاشرة الحمقاء ليس مما يطيب للعاقل الراقي، وإن الخير يطلب عند حسان الوجوه، ولذلك قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء ولم يقل: (وانكحوا من النساء) وفي قوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل الثلاث، فكأنه أراد أن لا يتجاوز الذي قل نبوغه الاقتران باثنتين، وأن لا يتجاوز الذي نبوغه متوسط الاقتران بثلاث، وأن يحل للذي نبوغه أعلى من الأولين الاقتران بأربع.

وأما الخائفون أن لا يعدلوا فيجب أن لا يتجاوزوا الاقتران بواحدة؛ لأنهم أناس لن يستطيعوا - مع كل حرصهم - أن يعدلوا بين النساء؛ لقصور عقلهم في سياسة المنزل وعدم نبوغهم، وهناك إنسان نبوغه أكبر من كل نبوغ، هو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي اختاره الله لوفور حكمته رسولا منه إلى البشر، قد أحل له أن يقترن بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن.

وأظنك - بعد قراءة ما أوردت - تعترف - إن كنت من المنصفين - أن الإسلام جاء [ ص: 1122 ] قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام بسنة للزواج، عليها وحدها يتوقف إصلاح نسل البشر، الذي أخذ في هذا القرن أفراد من فلاسفة الغرب يحضون عليه، تلك السنة هي تعدد الزوجات بعد أن كان الرأي العام في الغرب يعيبه عليها، هذا هو الإسلام يقرر أكبر قاعدة للترقي، وهو إباحة تعدد الزوجات، اللاتي يطبن لوفور جمالهن وعقلهن لأفراد نابغين من المسلمين، لا يخافون لوفور عقلهم أن لا يعدلوا بينهن، ولكن المسلمين لم يأتمروا بأمر الله، فأباحوا هذا التعدد لكل أحد من المسلمين، للخائفين أن لا يعدلوا ولغير الخائفين، ففسد النسل، والذي أعان على فساده هو كون القدرة عليه أصبحت - بحكم الجهل - منحصرة في المال الذي يجمعه الغاصب والسارق والكاسب، فكثر نسل الظالمين، وقل نسل العادلين من أهل العقل الراجح، انتهى كلامه، وهو استنباط بديع.
القول في تأويل قوله تعالى:

وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [4]

وآتوا أي: أعطوا النساء أي: اللاتي أمر بنكاحهن صدقاتهن أي: مهورهن (جمع صدقة كسمرة) وهي المهر نحلة أي: عطاء غير مسترد بحيلة تلجئهن إلى الرد، والنحلة (بكسر النون وضمها، على ما رواه ابن دريد) اسم مصدر لـ (نحل) والمصدر النحل (بالضم) وهو العطاء بلا عوض، والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة - مع كونها واجبة على الأزواج - لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر.

فائدتان:

الأولى: هذا الخطاب إما للأزواج، كما روي عن علقمة والنخعي وقتادة ، واختاره الزجاج ، فإن ما قبله خطاب للناكحين وهم الأزواج، وإما لأولياء النساء، وذلك لأن العرب [ ص: 1123 ] كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا.

ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة، ومعناه إنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي: تعظمه.

وقال ابن الأعرابي : النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح ، واختيار الفراء وابن قتيبة .

الثانية: قال القفال - رحمه الله تعالى -: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام، قال تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد [التوبة: من الآية 29]، والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها، فعلى هذا الوجه الأول كان المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن، وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم، سواء سمي ذلك أو لم يسم، إلا ما خص به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الموهوبة.

ثم قال رحمه الله: ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا، والله أعلم.

فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا الضمير للصدقات، وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك، أي: فإن أحللن لكم من المهر شيئا بطيبة نفس؛ جلبا لمودتكم، لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم.

فكلوه هنيئا مريئا أي: فخذوه وتصرفوا فيه تملكا، وتخصيص الأكل بالذكر؛ لأنه معظم وجوه التصرفات المالية.

وهنيئا مريئا: صفتان من (هنؤ الطعام ومرؤ) إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل: الهنيء ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة، والمريء حميد المغبة، وهما عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة؛ لأنهن كالرجال في التصرفات والتبرعات.
[ ص: 1124 ] تنبيه:

قال بعض المفسرين: للآية ثمرات:

منها: أنه لا بد في النكاح من صداق.

ومنها: أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون.

ومنها: أن لها أن تتصرف فيه بما شاءت، ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أم لا، ولذا قال بعض الفقهاء: لها بيع مهرها قبل قبضه، ولبعضهم: لا تبيعه حتى تقبضه، كالملك بالشراء.

ومنها: أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها مع طيب نفسها، وقد رأى شريح إقالتها إذا رجعت، واحتج بالآية.

روى الشعبي أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه، وهي تطلب الرجوع، فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء ؟ فقال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه.

وروي عنه أيضا: أقيلها فيما وهبت ولا أقبله؛ لأنهن يخدعن.

وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كتب إلى قضاته: أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها ، نقله الرازي .

أقول: ما رآه شريح وروي عن عمر هو الفقه الصحيح والاستنباط البديع، إذ الآية دلت على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط، حيث بني الشرط على طيب النفس، ولم يقل: فإن وهبن لكم؛ إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة، وبرجوعها يظهر عدم طيب نفسها، وذلك بين.
القول في تأويل قوله تعالى:

ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا [5]

ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا اعلم أن في الآية وجوها يحتملها النظم الكريم:

[ ص: 1125 ] الأول: أن يراد بالسفهاء اليتامى، كما روي عن سعيد بن جبير ، والخطاب حينئذ للأولياء، نهوا أن يؤتوا اليتامى أموالهم مخافة أن يضيعوها لقلة عقولهم؛ لأن السفيه هو الخفيف الحلم.، وإنما أضيفت للأولياء - وهي لليتامى - تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بالأولياء، فكأن أموالهم عين أموالهم؛ لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي؛ مبالغة في حملهم على المحافظة عليها، كما قال تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: من الآية 29]، أي: لا يقتل بعضكم بعضا حيث عبر عن بني نوعهم بأنفسهم؛ مبالغة في زجرهم عن قتلهم، فكأن قتلهم قتل أنفسهم، وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، بقوله تعالى: التي جعل الله لكم قياما أي: جعلها الله شيئا تقومون وتنتعشون، فلو ضيعتموها لضعتم.

وقوله تعالى: وارزقوهم فيها واكسوهم أي: اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم، بأن تتجروا وتتربحوا؛ حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال.

وقوله سبحانه: وقولوا لهم قولا معروفا أي: كلاما لينا تطيب به نفوسهم، ومنه أن يعدهم عدة جميلة، بأن يقول وليهم: إذا صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم.

الوجه الثاني: أن يراد بالسفهاء الناس والصبيان، روي ذلك عن ابن عباس ، وابن مسعود، وغيرهما، فالخطاب عام، والنهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله تعالى من المال فيعطيه امرأته وأولاده، ثم ينظر إلى أيديهم، وإنما سماهم سفهاء؛ استخفافا بعقلهم واستهجانا لجعلهم قواما على أنفسهم.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لا تعمد إلى مالك خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو ابنتك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم.

الوجه الثالث: أن [ ص: 1126 ] يراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، فيدخل فيه النساء والصبيان والأيتام كل من كان موصوفا بهذه الصفة.

قال الرازي : وهذا القول أولى؛ لأن التخصيص بغير دليل لا يجوز.

قال السيوطي في: "الإكليل": في هذه الآية الحجر على السفيه ، وأنه لا يمكن من ماله، وأنه ينفق عليه منه ويكسى، ولا ينفق في التبرعات، وأنه يقال له معروف كـ: (إن رشدت دفعنا إليك مالك، وإنما يحتاط لنفعك).

واستدل بعموم الآية من قال بالحجر على السفيه البالغ ، سواء طرأ عليه أم كان من حين البلوغ، ومن قال بالحجر على من يخدع في البيوع، ومن قال بأن من يتصدق على محجور، وشرط أن يترك في يده لا يسمع منه في ذلك.

لطيفة:

في قوله تعالى: التي جعل الله لكم قياما حث على حفظ الأموال وعدم تضييعها.

قال الزمخشري : كان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس.

وعن سفيان - وكانت له بضاعة يقلبها -: لولاها لتمندل بي بنو العباس.

وعن غيره (وقيل له: إنها تدنيك من الدنيا): لإن أدنتني من الدنيا لقد صانتني عنها.

وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وربما رأوا رجلا في جنازة، فقالوا له: اذهب إلى دكانك، انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا [6]

[ ص: 1127 ] وابتلوا اليتامى أي: اختبروا عقولهم ومعرفتهم بالتصرف حتى إذا بلغوا النكاح أي: بأن يحتلموا أو يبلغوا خمس عشرة سنة؛ لما في الصحيحين عن ابن عمر قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني .

قال نافع : فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته هذا الحديث فقال: إن هذا لحد بين الصغير والكبير، وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة.

وكذا نبات الشعر الخشن حول العورة؛ لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عطية القرظي قال: عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلى سبيله، فكنت فيمن لم ينبت، فخلى سبيلي قال الترمذي : حسن صحيح.

فإن آنستم أي: شاهدتم وتبينتم منهم رشدا أي: صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم، قاله سعيد بن جبير ، وروي عن ابن عباس والحسن وغير واحد من الأئمة فادفعوا إليهم أموالهم أي: من غير تأخير .

وظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز أو بالفسق، لا يسلم إليه ماله؛ لأنها مفسدة للمال.

ولا تأكلوها أيها الأولياء إسرافا وبدارا أن يكبروا أي: مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، تفرطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا.

ومن كان من الأولياء غنيا فليستعفف أي: يتنزه عن أكل مال اليتيم، فإنه عليه كالميتة والدم، وليقنع بما آتاه الله تعالى من الزرق ومن كان فقيرا يمنعه اشتغاله بمال اليتيم عن الكسب، وإهماله يفضي إلى تلفه عليه فليأكل بالمعروف بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته.

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 27-06-2022 08:22 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1128 الى صـ 1134
الحلقة (200)

كما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة [ ص: 1128 ] حيث قالت: فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه، ورواه البخاري أيضا.

قال ابن كثير : قال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله، وقدر حاجته، وهل يرد إذا أيسر؟ وجهان:

أحدهما: لا يرد لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل.

وروى الإمام أحمد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ليس لي مال ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبذر ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك أو قال: تفدي مالك بماله .

ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: كل بالمعروف غير مسرف ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.

وروى ابن حبان في: "صحيحه" وابن مردويه في: "تفسيره" عن جابر أن رجلا قال: يا رسول الله! مما أضرب يتيمي؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك، غير واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالا .

وروى عبد الرزاق ، عن الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاما، وإن لهم إبلا، ولي إبل وأنا أمنح من إبلي فقراء، فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسعى عليها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب ، ورواه مالك في موطئه. وبهذا القول - وهو عدم أداء البدل - [ ص: 1129 ] يقول عطاء بن أبي رباح، وعكرمة، وإبراهيم النخعي ، وعطية العوفي ، والحسن البصري

والوجه الثاني: يرد؛ لأن مال اليتيم على الحظر ، وإنما أبيح للحاجة، فيرد بدله، كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة.

وقد روى ابن أبي الدنيا، عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر - رضي الله عنه -: إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت.

وروى سعيد بن منصور في: "سننه": حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال: قال لي عمر - رضي الله عنه -: "إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت " قال ابن كثير : إسناد صحيح.

وروى البيهقي ، عن ابن عباس نحو ذلك، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله: فليأكل بالمعروف يعني القرض، قال: وروي عن عبيدة وأبي العالية وأبي وائل ، وسعيد بن جبير (في إحدى الروايات) ومجاهد والضحاك والشعبي والسدي نحو ذلك.

قال الفخر الرازي : وبعض أهل العلم خص هذا الإقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها.

وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول أبي العالية وغيره، واحتجوا بأن الله تعالى قال: فإذا دفعتم إليهم أموالهم فحكم في الأموال بدفعها إليهم، انتهى.

أقول: الكل محتمل، إذ لا نص من الأصلين على واحد منها، ولا يخفى الورع.

فإذا دفعتم إليهم أموالهم أي: بعد البلوغ والرشد فأشهدوا عليهم أي: عند [ ص: 1130 ] الدفع بأنهم قبضوها، فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة.

قال السيوطي : فيه الأمر بالإشهاد ندبا، وقيل: وجوبا، ويستفاد منه أن القول في الدفع قول الصبي لا الولي، فلا يقبل قوله إلا ببينة.

وكفى بالله حسيبا أي: كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبا، فلا تخالفوا ما أمركم به، ولا يخفى موقع هذا التذييل هنا، فإن الوصي يحاسب على ما في يده .

وفيه وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره؛ لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله.

وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم .
ثم ذكر تعالى أحكام المواريث بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا [7]

للرجال أي: الأولاد والأقرباء نصيب أي: حظ مما ترك الوالدان والأقربون أي: المتوفون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أي: المال أو كثر نصيبا مفروضا أي: مقطوعا واجبا لهم، وإيراد حكم النساء على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام الرجال - بأن يقال: للرجال والنساء إلخ - للاعتناء بأمرهن، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية، فإنهم كانوا لا يورثون النساء والأطفال، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة، وقد استدل بالآية على توريث ذوي الأرحام ؛ لأنهم من الأقربين، وهو استدلال وجيه، ولا حجة لمن حاول دفعه.
[ ص: 1131 ] القول في تأويل قوله تعالى:

وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا [8]

وإذا حضر القسمة أي: قسمة التركة أولو القربى ذوو القرابة ممن لا يرث، قدمهم لأن إعطاءهم صدقة وصلة واليتامى الضعفاء بفقد الآباء والمساكين الضعفاء بفقد ما يكفيهم من المال فارزقوهم منه أي: أعطوهم من الميراث شيئا وقولوا لهم قولا معروفا بتلطيف القول لهم والدعاء لهم بمثل: بارك الله عليكم.

قال ابن كثير في هذه الآية: المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء - من القرابة الذين لا يرثون - واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ، وهم يائسون لا يعطون شيئا، فأمر الله تعالى - وهو الرءوف الرحيم - أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون برا بهم، وصدقة عليهم، وإحسانا إليهم، وجبرا لكسرهم، كما قال الله تعالى: كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده [الأنعام: من الآية 141] وذم الذين ينقلون المال خفية؛ خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة كما أخبر به عن أصحاب الجنة: إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين [القلم: من الآية 17] فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين [القلم: 23-24] [ ص: 1132 ] دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [محمد: 10] فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه، ولهذا جاء في الحديث: ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته أي: منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية، انتهى.

وقد روى البخاري ، عن ابن عباس في الآية قال: هي محكمة وليست بمنسوخة، وفي لفظ عنه: هي قائمة يعمل بها.

وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين في هذه الآية أنها واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم.

وروى عبد الرزاق في: "مصنفه" أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن - وعائشة حية - فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه، وتلا: وإذا حضر القسمة أولو القربى الآية.

وأخرج سعيد بن منصور ، عن يحيى بن يعمر قال: ثلاث آيات مدنيات محكمات ضيعهن كثير من الناس: وإذا حضر القسمة وآية الاستئذان: والذين لم يبلغوا الحلم منكم وقوله: إنا خلقناكم من ذكر وأنثى الآية.

وقد ذكر ههنا كثير من المفسرين آثارا عن بعض السلف بأن هذه الآية منسوخة بآية الميراث، وهي من الضعف بمكان، ولقد أبعد القائل بالنسخ عن فهم سر الآية فيما ندبت إليه من هذه المكرمة الجليلة، وهي إسعاف من ذكر من المال الموروث، والنفس الأبية تنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم، ولا يسعف ولا يساعد، فالآية بينة بنفسها، واضحة في معناها وضوح الشمس في الظهيرة، لا تنسخ أو تقوم الساعة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ ص: 1133 ] وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا [9]

وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا في الآية وجوه:

الأول: أنها أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى، فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم.

الثاني: أنها أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم، فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم.

الثالث: أنها أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين، متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم، هل يجوزون حرمانهم؟!

الرابع: أنها أمر للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلى ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا قال: فالشطر؟ [ ص: 1134 ] قال: لا قال: فالثلث، قال: الثلث والثلث كثير ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس .

وفي الصحيح عن ابن عباس قال: لو غض الناس إلى الربع؟ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الثلث: والثلث كثير (أو كبير).

والوجه الأول حكاه ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، قال ابن كثير : وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلما.

ونقل الرازي عن القاضي: إن هذا الوجه أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود.

قال الزمخشري : والقول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بـ(يا بني) ويا ولدي، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له - إذا أراد الوصية -: لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك، مثل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد : إنك أن تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ومن المتقاسمين ميراثهم أن يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg


الساعة الآن : 08:36 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 226.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 226.28 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.22%)]