رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ المجلد الرابع صـ 1057 الى صـ 1063 الحلقة (191) وهذه النار التي نزلت من السماء جاء ذكرها في الفصل التاسع من سفر الأحبار وملخصه : أن موسى أمر هارون عليهما السلام أن يذبح قربانا ، فذبح عجلا وأحرق لحمه وجلده خارج المحلة ، وأما شحمه وكليتاه وزيادة كبده فقترها على المذبح ، ثم قرب تيسا وثورا وكبشا بكيفية خاصة ، ثم دخل موسى وهارون خباء المحضر ، فخرجت نار من عند الرب ، فأكلت المحرقة والشحوم التي على المذبح ، فنظر جميع الشعب وهتفوا مسبحين وسجدوا - انتهى - . إذا علمت ذلك ، فقوله تعالى : تأكله النار بمعنى : أن يذبح على الكيفية المعروفة ، ثم تنزل نار من السماء فتأكله ، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها المحرقة ، كما ذكرنا . وفي عهد سليمان أيضا ، فقد جاء في الفصل التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني : أن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت المحرقة والذبائح ، وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار . انتهى . وقوله تعالى : القول في تأويل قوله تعالى : [ 185 ] كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور كل نفس ذائقة الموت كقوله : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس ، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب : وإنما توفون أجوركم يوم القيامة أي : تعطون جزاء أعمالكم وافيا يوم القيامة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . قال الزمخشري : فإن قلت : فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ! قلت : كلمة التوفية تزيل هذا [ ص: 1058 ] الوهم ، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم ، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور . وقال الرازي : بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم ، وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة ، لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم ، والسعادة بلا خوف الانقطاع . [ ص: 1059 ] وكذا القول في العقاب ، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة ، نعوذ بالله منه فمن زحزح أي : أبعد : عن النار التي هي مجمع الآفات والشرور : وأدخل الجنة الجامعة للذات والسرور : فقد فاز أي : حصل الفوز العظيم ، وهو الظفر بالبغية ، أعني : النجاة من سخط الله والعذاب السرمد ، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » . وأخرجه مسلم أيضا : وما الحياة الدنيا أي : لذاتها : إلا متاع الغرور المتاع : ما يتمتع وينتفع به ، والغرور : ( بضم الغين ) مصدر غره ، أي : خدعه وأطمعه بالباطل ، [ ص: 1060 ] وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنيه لذاتها من طول البقاء ، وأمل الدوام ، فتخدعه ثم تصرعه . قال بعض السلف : الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول . فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم . القول في تأويل قوله تعالى : [ 186 ] لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور لتبلون أي : لتختبرن : في أموالكم بما يصيبها من الآفات : وأنفسكم بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد . وهذا كقوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلى آخر الآيتين - أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله . وفي الحديث : « يبتلى المرء على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء » ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى [ ص: 1061 ] كثيرا بالقول والفعل : وإن تصبروا على ذلك : وتتقوا أي : مخالفة أمره تعالى : فإن ذلك أي : الصبر والتقوى : من عزم الأمور أي : من معزومات الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون . أي : مما يجب أن يعزم عليه كل أحد ، لما فيه من كمال المزية والشرف . أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه . يعني : أن ذلك عزمة من عزمات الله تعالى ، لا بد أن تصبروا وتتقوا . وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى . أفاده أبو السعود . قال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب الصبر . وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي . القول في تأويل قوله تعالى : [ 187 ] وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وهم علماء اليهود والنصارى : لتبيننه للناس أي : لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته - صلى الله عليه وسلم - . وفي قوله تعالى : ولا تكتمونه من النهي عن الكتمان ، بعد الأمر بالبيان ، مبالغة في إيجاب المأمور به : فنبذوه أي : الميثاق : وراء ظهورهم أي : طرحوه ولم يراعوه ، ونبذ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به ، والإعراض عنه بالكلية . كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به : واشتروا به أي : استبدلوا به : ثمنا قليلا أي : شيئا حقيرا من حطام الدنيا : فبئس ما يشترون بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه . قال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب إظهار الحق ، وتحريم كتمانه ، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك مما يجب إظهاره . وقد تقدم هذا ، وإن المراد بذلك إذا لم يؤد إلى مفسدة ، ويدخل في الكتم ؛ منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها . [ ص: 1062 ] وقال العلامة الزمخشري - عليه الرحمة - : كفى بهذه الآية دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه ، وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة ، وتطييب لنفوسهم ، واستجلاب لمسارهم ، أو لجر منفعة وحطام الدنيا ، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة ، أو لبخل بالعلم ، وغيرة أن ينسب إليه غيرهم - انتهى - . عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار » - أخرجه الترمذي - ولأبي داود : « من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة » . وقال أبو هريرة : لولا ما أخذ الله - عز وجل - على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء . ثم تلا : وإذ أخذ الله الآية . لطيفة : قال العلامة أبو السعود : في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة ، لا سيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ ، والإعراض عن المعطي ، والتعبير عن المشترى الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة - بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه ، وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون ، مصحوبا بـ ( الباء ) الداخلة على الآلات والوسائل - من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير ، على الشريف الخطير ، وتعكيسهم بجعلهم المقصد وسيلة ، والوسيلة مقصدا - ما لا يخفى جلالة شأنه ورفعة مكانه - انتهى - . ثم أشار تعالى أنهم لا يرون قبح ذلك بل يفرحون به فقال : [ ص: 1063 ] القول في تأويل قوله تعالى : [ 188 ] لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا أي : بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان : فلا تحسبنهم بمفازة أي : بمنجاة : من العذاب ولهم عذاب أليم بكفرهم وتدليسهم . روى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أن مروان قال : اذهب يا رافع ( لبوابه ) إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل ، لنعذبن أجمعون . فقال ابن عباس : ما لكم وهذه ، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب - إلى قوله : ولهم عذاب أليم وقال ابن عباس : سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه . وهكذا رواه البخاري في التفسير ، ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما ، وابن أبي حاتم وابن خزيمة والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه بنحوه . ورواه البخاري أيضا عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس - فذكره - وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1064 ] إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت : ( ولا تحسبن ) الآية - وكذا رواه مسلم بنحوه . ولا منافاة بين الروايتين ، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر ، ومعنى نزول الآية في ذلك وقوعها بعد ذلك ، لا أن أحد الأمرين كان سـببا لنزولها . كما حققناه غير مرة . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سُورَةُ النِّسَاءِ المجلد الخامس صـ 1121 الى صـ 1127 الحلقة (199) [ ص: 1121 ] وقد تقدم أن الخطاب في قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء في الآية الأولى لعموم الأمة، غير أن الشرط بالعدل جعله خاصا بالعادلين منهم، وهم النابغون الذين يقتدرون على إتيان العدل بين النساء لوفور عقلهم. والغاية من أمر هذا الصنف من المسلمين أن يتزوجوا بأكثر من واحدة إلى أربع، هو تكثير نسلهم ليستفيد من كثرة أمثالهم المجتمع، كما أسلفنا، ولكن النابغة لا يأتي نسله في الغالب نوابغ، بمجرد تعدد الزوجات، فإن الزوجة المتوسطة أو المنحطة يكون أولادها في الغالب أوساطا أو منحطين، وإن كان أبوهم راقيا، فلا تحصل الفائدة المطلوبة من تعدد الزوجات وهي إصلاح النسل. بل يجب للحصول على هذا المطلب الأسنى أن يقترن النابغون بالنابغات؛ ليكون أولادهم مثلهم نبوغا أو أنبغ منهم، بحكم سنة الوراثة، وذلك إنما يتم إذا أحسن النابغون اختيار الأزواج، فنكحوا ما طاب لهم، والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغا مثل نبوغه، إلى حسن رائع، فإن معاشرة الحمقاء ليس مما يطيب للعاقل الراقي، وإن الخير يطلب عند حسان الوجوه، ولذلك قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء ولم يقل: (وانكحوا من النساء) وفي قوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل الثلاث، فكأنه أراد أن لا يتجاوز الذي قل نبوغه الاقتران باثنتين، وأن لا يتجاوز الذي نبوغه متوسط الاقتران بثلاث، وأن يحل للذي نبوغه أعلى من الأولين الاقتران بأربع. وأما الخائفون أن لا يعدلوا فيجب أن لا يتجاوزوا الاقتران بواحدة؛ لأنهم أناس لن يستطيعوا - مع كل حرصهم - أن يعدلوا بين النساء؛ لقصور عقلهم في سياسة المنزل وعدم نبوغهم، وهناك إنسان نبوغه أكبر من كل نبوغ، هو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي اختاره الله لوفور حكمته رسولا منه إلى البشر، قد أحل له أن يقترن بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن. وأظنك - بعد قراءة ما أوردت - تعترف - إن كنت من المنصفين - أن الإسلام جاء [ ص: 1122 ] قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام بسنة للزواج، عليها وحدها يتوقف إصلاح نسل البشر، الذي أخذ في هذا القرن أفراد من فلاسفة الغرب يحضون عليه، تلك السنة هي تعدد الزوجات بعد أن كان الرأي العام في الغرب يعيبه عليها، هذا هو الإسلام يقرر أكبر قاعدة للترقي، وهو إباحة تعدد الزوجات، اللاتي يطبن لوفور جمالهن وعقلهن لأفراد نابغين من المسلمين، لا يخافون لوفور عقلهم أن لا يعدلوا بينهن، ولكن المسلمين لم يأتمروا بأمر الله، فأباحوا هذا التعدد لكل أحد من المسلمين، للخائفين أن لا يعدلوا ولغير الخائفين، ففسد النسل، والذي أعان على فساده هو كون القدرة عليه أصبحت - بحكم الجهل - منحصرة في المال الذي يجمعه الغاصب والسارق والكاسب، فكثر نسل الظالمين، وقل نسل العادلين من أهل العقل الراجح، انتهى كلامه، وهو استنباط بديع. القول في تأويل قوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [4] وآتوا أي: أعطوا النساء أي: اللاتي أمر بنكاحهن صدقاتهن أي: مهورهن (جمع صدقة كسمرة) وهي المهر نحلة أي: عطاء غير مسترد بحيلة تلجئهن إلى الرد، والنحلة (بكسر النون وضمها، على ما رواه ابن دريد) اسم مصدر لـ (نحل) والمصدر النحل (بالضم) وهو العطاء بلا عوض، والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة - مع كونها واجبة على الأزواج - لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر. فائدتان: الأولى: هذا الخطاب إما للأزواج، كما روي عن علقمة والنخعي وقتادة ، واختاره الزجاج ، فإن ما قبله خطاب للناكحين وهم الأزواج، وإما لأولياء النساء، وذلك لأن العرب [ ص: 1123 ] كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا. ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة، ومعناه إنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي: تعظمه. وقال ابن الأعرابي : النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح ، واختيار الفراء وابن قتيبة . الثانية: قال القفال - رحمه الله تعالى -: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام، قال تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد [التوبة: من الآية 29]، والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها، فعلى هذا الوجه الأول كان المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن، وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم، سواء سمي ذلك أو لم يسم، إلا ما خص به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الموهوبة. ثم قال رحمه الله: ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا، والله أعلم. فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا الضمير للصدقات، وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك، أي: فإن أحللن لكم من المهر شيئا بطيبة نفس؛ جلبا لمودتكم، لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم. فكلوه هنيئا مريئا أي: فخذوه وتصرفوا فيه تملكا، وتخصيص الأكل بالذكر؛ لأنه معظم وجوه التصرفات المالية. وهنيئا مريئا: صفتان من (هنؤ الطعام ومرؤ) إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل: الهنيء ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة، والمريء حميد المغبة، وهما عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة؛ لأنهن كالرجال في التصرفات والتبرعات. [ ص: 1124 ] تنبيه: قال بعض المفسرين: للآية ثمرات: منها: أنه لا بد في النكاح من صداق. ومنها: أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون. ومنها: أن لها أن تتصرف فيه بما شاءت، ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أم لا، ولذا قال بعض الفقهاء: لها بيع مهرها قبل قبضه، ولبعضهم: لا تبيعه حتى تقبضه، كالملك بالشراء. ومنها: أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها مع طيب نفسها، وقد رأى شريح إقالتها إذا رجعت، واحتج بالآية. روى الشعبي أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه، وهي تطلب الرجوع، فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء ؟ فقال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وروي عنه أيضا: أقيلها فيما وهبت ولا أقبله؛ لأنهن يخدعن. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كتب إلى قضاته: أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها ، نقله الرازي . أقول: ما رآه شريح وروي عن عمر هو الفقه الصحيح والاستنباط البديع، إذ الآية دلت على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط، حيث بني الشرط على طيب النفس، ولم يقل: فإن وهبن لكم؛ إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة، وبرجوعها يظهر عدم طيب نفسها، وذلك بين. القول في تأويل قوله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا [5] ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا اعلم أن في الآية وجوها يحتملها النظم الكريم: [ ص: 1125 ] الأول: أن يراد بالسفهاء اليتامى، كما روي عن سعيد بن جبير ، والخطاب حينئذ للأولياء، نهوا أن يؤتوا اليتامى أموالهم مخافة أن يضيعوها لقلة عقولهم؛ لأن السفيه هو الخفيف الحلم.، وإنما أضيفت للأولياء - وهي لليتامى - تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بالأولياء، فكأن أموالهم عين أموالهم؛ لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي؛ مبالغة في حملهم على المحافظة عليها، كما قال تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: من الآية 29]، أي: لا يقتل بعضكم بعضا حيث عبر عن بني نوعهم بأنفسهم؛ مبالغة في زجرهم عن قتلهم، فكأن قتلهم قتل أنفسهم، وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، بقوله تعالى: التي جعل الله لكم قياما أي: جعلها الله شيئا تقومون وتنتعشون، فلو ضيعتموها لضعتم. وقوله تعالى: وارزقوهم فيها واكسوهم أي: اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم، بأن تتجروا وتتربحوا؛ حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال. وقوله سبحانه: وقولوا لهم قولا معروفا أي: كلاما لينا تطيب به نفوسهم، ومنه أن يعدهم عدة جميلة، بأن يقول وليهم: إذا صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. الوجه الثاني: أن يراد بالسفهاء الناس والصبيان، روي ذلك عن ابن عباس ، وابن مسعود، وغيرهما، فالخطاب عام، والنهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله تعالى من المال فيعطيه امرأته وأولاده، ثم ينظر إلى أيديهم، وإنما سماهم سفهاء؛ استخفافا بعقلهم واستهجانا لجعلهم قواما على أنفسهم. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لا تعمد إلى مالك خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو ابنتك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم. الوجه الثالث: أن [ ص: 1126 ] يراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، فيدخل فيه النساء والصبيان والأيتام كل من كان موصوفا بهذه الصفة. قال الرازي : وهذا القول أولى؛ لأن التخصيص بغير دليل لا يجوز. قال السيوطي في: "الإكليل": في هذه الآية الحجر على السفيه ، وأنه لا يمكن من ماله، وأنه ينفق عليه منه ويكسى، ولا ينفق في التبرعات، وأنه يقال له معروف كـ: (إن رشدت دفعنا إليك مالك، وإنما يحتاط لنفعك). واستدل بعموم الآية من قال بالحجر على السفيه البالغ ، سواء طرأ عليه أم كان من حين البلوغ، ومن قال بالحجر على من يخدع في البيوع، ومن قال بأن من يتصدق على محجور، وشرط أن يترك في يده لا يسمع منه في ذلك. لطيفة: في قوله تعالى: التي جعل الله لكم قياما حث على حفظ الأموال وعدم تضييعها. قال الزمخشري : كان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان - وكانت له بضاعة يقلبها -: لولاها لتمندل بي بنو العباس. وعن غيره (وقيل له: إنها تدنيك من الدنيا): لإن أدنتني من الدنيا لقد صانتني عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وربما رأوا رجلا في جنازة، فقالوا له: اذهب إلى دكانك، انتهى. القول في تأويل قوله تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا [6] [ ص: 1127 ] وابتلوا اليتامى أي: اختبروا عقولهم ومعرفتهم بالتصرف حتى إذا بلغوا النكاح أي: بأن يحتلموا أو يبلغوا خمس عشرة سنة؛ لما في الصحيحين عن ابن عمر قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني . قال نافع : فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته هذا الحديث فقال: إن هذا لحد بين الصغير والكبير، وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة. وكذا نبات الشعر الخشن حول العورة؛ لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عطية القرظي قال: عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلى سبيله، فكنت فيمن لم ينبت، فخلى سبيلي قال الترمذي : حسن صحيح. فإن آنستم أي: شاهدتم وتبينتم منهم رشدا أي: صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم، قاله سعيد بن جبير ، وروي عن ابن عباس والحسن وغير واحد من الأئمة فادفعوا إليهم أموالهم أي: من غير تأخير . وظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز أو بالفسق، لا يسلم إليه ماله؛ لأنها مفسدة للمال. ولا تأكلوها أيها الأولياء إسرافا وبدارا أن يكبروا أي: مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، تفرطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. ومن كان من الأولياء غنيا فليستعفف أي: يتنزه عن أكل مال اليتيم، فإنه عليه كالميتة والدم، وليقنع بما آتاه الله تعالى من الزرق ومن كان فقيرا يمنعه اشتغاله بمال اليتيم عن الكسب، وإهماله يفضي إلى تلفه عليه فليأكل بالمعروف بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته. https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سُورَةُ النِّسَاءِ المجلد الخامس صـ 1128 الى صـ 1134 الحلقة (200) كما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة [ ص: 1128 ] حيث قالت: فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه، ورواه البخاري أيضا. قال ابن كثير : قال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله، وقدر حاجته، وهل يرد إذا أيسر؟ وجهان: أحدهما: لا يرد لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل. وروى الإمام أحمد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ليس لي مال ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبذر ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك أو قال: تفدي مالك بماله . ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: كل بالمعروف غير مسرف ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وروى ابن حبان في: "صحيحه" وابن مردويه في: "تفسيره" عن جابر أن رجلا قال: يا رسول الله! مما أضرب يتيمي؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك، غير واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالا . وروى عبد الرزاق ، عن الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاما، وإن لهم إبلا، ولي إبل وأنا أمنح من إبلي فقراء، فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسعى عليها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب ، ورواه مالك في موطئه. وبهذا القول - وهو عدم أداء البدل - [ ص: 1129 ] يقول عطاء بن أبي رباح، وعكرمة، وإبراهيم النخعي ، وعطية العوفي ، والحسن البصري والوجه الثاني: يرد؛ لأن مال اليتيم على الحظر ، وإنما أبيح للحاجة، فيرد بدله، كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة. وقد روى ابن أبي الدنيا، عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر - رضي الله عنه -: إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت. وروى سعيد بن منصور في: "سننه": حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال: قال لي عمر - رضي الله عنه -: "إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت " قال ابن كثير : إسناد صحيح. وروى البيهقي ، عن ابن عباس نحو ذلك، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله: فليأكل بالمعروف يعني القرض، قال: وروي عن عبيدة وأبي العالية وأبي وائل ، وسعيد بن جبير (في إحدى الروايات) ومجاهد والضحاك والشعبي والسدي نحو ذلك. قال الفخر الرازي : وبعض أهل العلم خص هذا الإقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها. وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول أبي العالية وغيره، واحتجوا بأن الله تعالى قال: فإذا دفعتم إليهم أموالهم فحكم في الأموال بدفعها إليهم، انتهى. أقول: الكل محتمل، إذ لا نص من الأصلين على واحد منها، ولا يخفى الورع. فإذا دفعتم إليهم أموالهم أي: بعد البلوغ والرشد فأشهدوا عليهم أي: عند [ ص: 1130 ] الدفع بأنهم قبضوها، فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة. قال السيوطي : فيه الأمر بالإشهاد ندبا، وقيل: وجوبا، ويستفاد منه أن القول في الدفع قول الصبي لا الولي، فلا يقبل قوله إلا ببينة. وكفى بالله حسيبا أي: كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبا، فلا تخالفوا ما أمركم به، ولا يخفى موقع هذا التذييل هنا، فإن الوصي يحاسب على ما في يده . وفيه وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره؛ لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم . ثم ذكر تعالى أحكام المواريث بقوله سبحانه: القول في تأويل قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا [7] للرجال أي: الأولاد والأقرباء نصيب أي: حظ مما ترك الوالدان والأقربون أي: المتوفون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أي: المال أو كثر نصيبا مفروضا أي: مقطوعا واجبا لهم، وإيراد حكم النساء على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام الرجال - بأن يقال: للرجال والنساء إلخ - للاعتناء بأمرهن، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية، فإنهم كانوا لا يورثون النساء والأطفال، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة، وقد استدل بالآية على توريث ذوي الأرحام ؛ لأنهم من الأقربين، وهو استدلال وجيه، ولا حجة لمن حاول دفعه. [ ص: 1131 ] القول في تأويل قوله تعالى: وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا [8] وإذا حضر القسمة أي: قسمة التركة أولو القربى ذوو القرابة ممن لا يرث، قدمهم لأن إعطاءهم صدقة وصلة واليتامى الضعفاء بفقد الآباء والمساكين الضعفاء بفقد ما يكفيهم من المال فارزقوهم منه أي: أعطوهم من الميراث شيئا وقولوا لهم قولا معروفا بتلطيف القول لهم والدعاء لهم بمثل: بارك الله عليكم. قال ابن كثير في هذه الآية: المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء - من القرابة الذين لا يرثون - واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ، وهم يائسون لا يعطون شيئا، فأمر الله تعالى - وهو الرءوف الرحيم - أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون برا بهم، وصدقة عليهم، وإحسانا إليهم، وجبرا لكسرهم، كما قال الله تعالى: كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده [الأنعام: من الآية 141] وذم الذين ينقلون المال خفية؛ خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة كما أخبر به عن أصحاب الجنة: إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين [القلم: من الآية 17] فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين [القلم: 23-24] [ ص: 1132 ] دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [محمد: 10] فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه، ولهذا جاء في الحديث: ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته أي: منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية، انتهى. وقد روى البخاري ، عن ابن عباس في الآية قال: هي محكمة وليست بمنسوخة، وفي لفظ عنه: هي قائمة يعمل بها. وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين في هذه الآية أنها واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم. وروى عبد الرزاق في: "مصنفه" أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن - وعائشة حية - فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه، وتلا: وإذا حضر القسمة أولو القربى الآية. وأخرج سعيد بن منصور ، عن يحيى بن يعمر قال: ثلاث آيات مدنيات محكمات ضيعهن كثير من الناس: وإذا حضر القسمة وآية الاستئذان: والذين لم يبلغوا الحلم منكم وقوله: إنا خلقناكم من ذكر وأنثى الآية. وقد ذكر ههنا كثير من المفسرين آثارا عن بعض السلف بأن هذه الآية منسوخة بآية الميراث، وهي من الضعف بمكان، ولقد أبعد القائل بالنسخ عن فهم سر الآية فيما ندبت إليه من هذه المكرمة الجليلة، وهي إسعاف من ذكر من المال الموروث، والنفس الأبية تنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم، ولا يسعف ولا يساعد، فالآية بينة بنفسها، واضحة في معناها وضوح الشمس في الظهيرة، لا تنسخ أو تقوم الساعة. القول في تأويل قوله تعالى: [ ص: 1133 ] وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا [9] وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا في الآية وجوه: الأول: أنها أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى، فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم. الثاني: أنها أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم، فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم. الثالث: أنها أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين، متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم، هل يجوزون حرمانهم؟! الرابع: أنها أمر للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلى ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا قال: فالشطر؟ [ ص: 1134 ] قال: لا قال: فالثلث، قال: الثلث والثلث كثير ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس . وفي الصحيح عن ابن عباس قال: لو غض الناس إلى الربع؟ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الثلث: والثلث كثير (أو كبير). والوجه الأول حكاه ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، قال ابن كثير : وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلما. ونقل الرازي عن القاضي: إن هذا الوجه أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود. قال الزمخشري : والقول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بـ(يا بني) ويا ولدي، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له - إذا أراد الوصية -: لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك، مثل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد : إنك أن تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ومن المتقاسمين ميراثهم أن يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين. https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
الساعة الآن : 08:36 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour