ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 06-07-2022 11:09 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1205 الى صـ 1211
الحلقة (211)

وأخرج الشيخان عنه - رضى الله عنه - قال: شهدنا خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال، حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة، فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها أسهما، فنحر بها نفسه، فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا يا رسول الله، صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه، فقال: قم يا فلان، فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر وهذا لفظ البخاري.

وروى أبو داود عن جابر بن سمرة - رضي الله عنهما - قال: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل نفسه فقال: لا أصلي عليه .

وفي الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة .

ولهذا قال تعالى:
[ ص: 1206 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا [30]

ومن يفعل ذلك أي: القتل عدوانا وظلما أي: متعديا فيه، ظالما في تعاطيه، أي: عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه فسوف نصليه أي: ندخله نارا أي: هائلة شديدة العذاب وكان ذلك أي: إصلاؤه النار على الله يسيرا هينا عليه، لا عسر فيه ولا صارف عنه؛ لأنه تعالى لا يعجزه شيء.

قال النسفي : وهذا الوعيد في حق المستحل للتخليد، وفي حق غيره، لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته، انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [31]

إن تجتنبوا أي: تتركوا كبائر ما تنهون عنه أي: كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها، مما ذكر ههنا ومما لم يذكر نكفر عنكم سيئاتكم أي: صغائر ذنوبكم، ونمحها عنكم، وندخلكم الجنة، كما قال تعالى: وندخلكم في الآخرة مدخلا كريما أي: حسنا وهي الجنة، و(مدخلا) قرئ بضم الميم، اسم مكان أو مصدر ميمي، أي: إدخالا مع كرامة، وبفتح الميم، وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر، وفي الآية دليل على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر ، ورد على من قال: إن المعاصي كلها كبائر ، وإنه لا صغيرة.

قال الإمام ابن القيم في "الجواب الكافي": قد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة [ ص: 1207 ] والتابعين بعدهم، والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال الله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [النساء: 31]، وقال تعالى: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم [النجم: من الآية 32].

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر .

وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات:

إحداها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها، والقيام بحقوقها، بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية.

الثانية: أن تقاوم الصغائر، ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر.

الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر، فتأمل هذا، فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئا فقال: ألا وقول الزور (ثلاثا) .

[ ص: 1208 ] وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: اجتنبوا السبع الموبقات .

قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات
.

وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أى؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك .

قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [الفرقان: 68] الآية، ثم ساق الخلاف في تعدادها، اهـ.

وعندي أن الصواب هو الوقوف في تعدادها على ما صحت به الأحاديث، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبين لكتاب الله عز وجل، أمين على تأويله، والمرجع في بيان كتاب الله تعالى إلى السنة الصحيحة، كما أن المرجع في تعريف الكبيرة إلى العد دون ضبطها بحد، كما تكلفه جماعة من الفقهاء، وطالت المناقشة بينهم في تلك الحدود، وإن منها ما ليس جامعا، ومنها ما ليس مانعا، فكله مما لا حاجة إليه بعد ورود صحاح الأخبار في بيان ذلك.

وقد ساق الحافظ ابن كثير ههنا جملة وافرة منها وجود النقل عن الصحابة والسلف والتابعين، فانظره فإنه نفيس.

ثم نهى تعالى عن التحاسد ، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه، مما يجري فيه التنافس بقوله:
[ ص: 1209 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما [32]

ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا أي: أصابوا وأحرزوا وللنساء نصيب مما اكتسبن أي: أصبن وأحرزن، أي: لكل فريق نصيب مما اكتسب في نعيم الدنيا قبضا أو بسطا، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له.

وقد روى الإمام أحمد عن مجاهد أن أم سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى: ولا تتمنوا الآية، ورواه الترمذي وقال: غريب.

ورواه الحاكم في مستدركه وزاد: ثم أنزل الله: أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى [آل عمران: من الآية 195] الآية، فإن صح هذا فالمعنى: لكل أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه، فلا تتمنوا خلاف ذلك، ولا مانع من شمول الآية لما يتعلق بأحوال الدنيا والآخرة، فإن اللفظ محتمل ولا منافاة، والله أعلم.

واسألوا الله من فضله أي: من خزائن نعمه التي لا نفاد لها، وقد روى الترمذي وابن مردويه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ ص: 1210 ] سلوا الله من فضله، فإن الله عز وجل يحب [أن] يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج .

إن الله كان بكل شيء عليما ولذلك جعل الناس على طبقات رفع بعضهم على بعض درجات حسب مراتب استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة المبنية على الحكم الأبية، قاله أبو السعود .
القول في تأويل قوله تعالى:

ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا [33]

ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون أي: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا ورثة وعصبة يلونه ويحرزونه، وهم يرثونه دون سائر الناس.

كما ثبت في الصحيحين، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر أي: اقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض، فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة، فـ (مما) تبيين لـ(كل).

قال ابن جرير : والعرب تسمي ابن العم مولى، كما قال الفضل بن العباس :


مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا


[ ص: 1211 ] وفي "القاموس" و" شرحه تاج العروس": والمولى: القريب كابن العم ونحوه.

قال ابن الأعرابي : ابن العم مولى، وابن الأخت مولى، وقول الشاعر:


هم المولى وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور


قال أبو عبيدة : يعني الموالي، أي: بني العم، وقال اللهبي يخاطب بني أمية :


مهلا بني عمنا مهلا موالينا امشوا رويدا كما كنتم تكونونا


وقوله تعالى: والذين عقدت أيمانكم مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء وهو قوله: فآتوهم نصيبهم ويقرأ (عاقدت) بالألف، والمفعول محذوف أي: عاقدتهم، ويقرأ بغير ألف والمفعول محذوف أيضا هو والعائد، تقديره عقدت حلفهم أيمانكم، والعقد الشد والربط والتوكيد والتغليظ، ومنه: عقد العهد يعقده: شده.

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 06-07-2022 11:09 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1212 الى صـ 1218
الحلقة (212)


والأيمان: جمع يمين، إما بمعنى اليد اليمنى لوضعهم الأيدي في العهود، أو بمعنى القسم وهو الأظهر؛ لأن العقد خلاف النقض، وقد جاء مقرونا بالحلف في قوله تعالى: ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها [النحل: من الآية 91] [ ص: 1212 ] وفي قوله: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [المائدة: من الآية 89].

وفي هذه الآية محامل كثيرة ووجوه للسلف والخلف، أظهرها لسلف المفسرين - رضوان الله عليهم - وهو أن المعني بالموصول الحلفاء، وهو المروي عن ابن عباس في البخاري كما سيأتي.

قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وابن المسيب، وأبي صالح، وسليمان بن يسار، والشعبي، وعكرمة، والسدي، والضحاك، وقتادة، ومقاتل بن حيان - أنهم قالوا: هم الحلفاء، انتهى.

ويزاد أيضا: علي بن أبي طلحة.

وكان الحلفاء يرثون السدس من محالفيهم.

وروى الطبري من طريق قتادة: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمي دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس، فأمروا بأن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس، ثم نسخ ذلك بالميراث، فقال: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض

ولذا قال سعيد بن جبير : فآتوهم نصيبهم من الميراث، قال: وعاقد أبو بكر مولى فورثه.

قال الزمخشري : والمراد بـ(الذين عاقدت أيمانكم) موالي الموالاة، كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، انتهى.

[ ص: 1213 ] وعلى هذا فمعنى الآية: والذين عاقدتموهم على المؤاخاة والموالاة وتحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم على النصر والإرث - قبل نزول هذه الآية - فآتوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود؛ إذ وعدتموهم ذلك في الأيمان المغلظة.

وروى ابن أبي حاتم : كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول، وترثني وأرثك، وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل حلف في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا عقد ولا حلف في الإسلام .

وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي ، عن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة .

وروى الإمام أحمد عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف؟ فقال: ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، ولا حلف في الإسلام .

ورواه أيضا عن عمرو [ ص: 1214 ] بن شعيب ، عن أبيه، عن جده قال: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عام الفتح قام خطيبا في الناس، فقال: يا أيها الناس، ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام .

قال ابن الأثير : الحلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا حلف في الإسلام وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين - وما جرى مجراه - فذلك الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة .

يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام، والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام، انتهى.

قال الحافظ ابن كثير : كان هذا - أي: التوارث بالحلف - في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشئوا بعد هذه الآية معاقدة.

روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله تعالى: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول: وترثني وأرثك، كان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل حلف في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده إلا شدة، ولا عقد ولا حلف في الإسلام فنسختها هذه الآية: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [الأنفال: 75].

وروى أبو داود، عن ابن عباس في هذه الآية: كان الرجل يحالف الرجل وليس بينهما [ ص: 1215 ] نسب، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك في الأنفال فقال: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية.

وروى ابن جرير ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله تعالى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا يقول: إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، ذلك هو المعروف.

وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقوله: وأولو الأرحام الآية.

أقول: على ما ذكر تكون الآية محكمة في صدر الإسلام منسوخة بعده.

وثمة وجه آخر فيها، وهو أنها ناسخة لميراث الحليف بتأويل آخر، وهو ما رواه البخاري ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: ولكل جعلنا موالي ورثة والذين عقدت أيمانكم كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت: ولكل جعلنا موالي نسخت، ثم قال: والذين عقدت أيمانكم من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.

وقد فهم بعضهم من هذا الأثر أن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الحلف الماضي أيضا، وأنه لا توارث به، والصحيح ما أسلفناه من ثبوت التوارث بالحلف السابق على نزول الآية في ابتداء الإسلام، كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون ذوي رحمه حتى نسخ ذلك.

وقد حاول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" الجمع بين الروايات المتقدمة ورواية [ ص: 1216 ] البخاري باحتمال أن يكون النسخ وقع مرتين:

الأولى: حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة، فنزلت: ولكل جعلنا فصاروا جميعا يرثون، ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة، وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوهما، والله أعلم.

هذا وثمة روايات أخر في سبب نزولها:

منها: ما روى أبو داود ، وابن أبي حاتم ، عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع - وكانت يتيمة في حجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه - فقرأت: (والذين عاقدت أيمانكم) فقالت: لا تقرأ هكذا ولكن: والذين عقدت أيمانكم إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن - رضي الله عنهما - حين أبى الإسلام، فحلف أبو بكر لا يورثه، فلما أسلم أمره الله تعالى أن يورثه نصيبه.

ومنها ما روى ابن جرير ، عن الزهري ، عن ابن المسيب قال: نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ويورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى الموالي في ذوي الرحم والعصبة، وأبى الله أن يكون للمدعين ميراثا ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا في الوصية.

واعلم أن هذه الوجوه السلفية المروية في نزول الآية كلها مما تصدق عليها الآية وتشملها وينطبق حكمها عليها، ولا تنافي بينها؛ لما أسلفناه في مقدمة التفسير، فراجعها ولا تغفل عنها.

هذا، ولأبي علي الجبائي تأويل آخر في الآية، قال: تقدير الآية: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي، ورثة فآتوهم نصيبهم أي: فآتوا الموالي والورثة نصيبهم، فقوله: (والذين عاقدت أيمانكم) معطوف على قوله: الوالدان والأقربون والمعنى: إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به، وسمى الله تعالى الوارث مولى، والمعنى: لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث.

[ ص: 1217 ] وقال أبو مسلم الأصفهاني: المراد بـ: (والذين عاقدت أيمانكم) الزوج والزوجة، والنكاح يسمى عقدا، قال تعالى: ولا تعزموا عقدة النكاح [البقرة: 235] فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة، ونظيره آية المواريث في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة.

أقول: هذا التأويل المذكور وما قبله طريقة من لا يقف مع الآثار السلفية في التفسير، ويرى مزاحمتهم في الاجتهاد في ذلك؛ ذهابا إلى أن ما لم يتواتر في معنى الآية من خبر أو إجماع فلا حجة في المروي منه آحادا، مرفوعا أو موقوفا، وإن صح، وهذه الطريقة سبيل طائفة قصرت في علم السمع وأقلت البحث عنه، فنشأ من ذلك النقص من الدين والزيادة فيه بالرأي المحض.

ومذهبنا: أن لا غنى عن الرجوع إلى تفسير الصحابة - رضي الله عنهم - لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة، ولأن القرآن أنزل على لغتهم، فالغلط أبعد عنهم من غيرهم، لا سيما تفسير حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - فمتى صح الإسناد إليه كان تفسيره من أصح التفاسير، مقدما على كثير من الأئمة الجماهير؛ لوجوه متعددة:

منها: أنه - رضي الله عنه - ثبت عنه أنه كان لا يستحل التأويل بالرأي، روي عنه أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار، وفي رواية (بغير علم) رواه أبو داود في العلم، والنسائي ، والترمذي .

فإذا جزم - رضي الله عنه - بأمر كان دليلا على رفعه، كما أسلفنا في المقدمة.

[ ص: 1218 ] إن الله كان على كل شيء من الأشياء التي من جملتها الإيتاء والمنع شهيدا أي: عالما، ففيه وعد ووعيد.
القول في تأويل قوله تعالى:

الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا [34]

الرجال قوامون على النساء جمع قوام، وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب، أي: مسلطون على أدب النساء يقومون عليهن، آمرين ناهين، قيام الولاة على الرعية، وذلك لأمرين: وهبي وكسبي.

أشار للأول بقوله تعالى: بما فضل الله بعضهم على بعض والضمير للرجال والنساء جميعا، يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم - وهم الرجال - على بعض، وهم النساء.

وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل والحزم والعزم والقوة والفروسية والرمي، وإن منهم الأنبياء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والشهادة في مجامع القضايا، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة، وعدد الأزواج وزيادة السهم، والتعصيب، وهم أصحاب اللحى والعمائم، والكامل بنفسه له حق الولاية على الناقص.

وأشار للثاني بقوله سبحانه: وبما أنفقوا من أموالهم في مهورهن ونفقاتهن فصرن كالأرقاء، ولكون القوامين في معنى السادات وجبت عليهن طاعتهم، كما يجب على العبيد طاعة السادات.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 06-07-2022 11:10 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1219 الى صـ 1225
الحلقة (213)

وروى ابن مردويه عن علي - رضي الله عنه - قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من الأنصار بامرأة، فقالت: يا رسول الله! إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها فأثر في وجهها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس له ذلك [ ص: 1219 ] فأنزل الله تعالى: الرجال قوامون على النساء في الأدب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أردت أمرا وأراد الله غيره ورواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم مرسلا من طرق.

قال السيوطي : وشواهده يقوي بعضها بعضا، وقال علي بن أبي طلحة في هذه الآية عن ابن عباس : يعني أمراء عليهن، أي: تطيعه فيما أمرها الله به من طاعة، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله.

وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها .

فالصالحات أي: من النساء قانتات أي: مطيعات لله في أزواجهن حافظات للغيب قال الزمخشري : الغيب خلاف الشهادة، أي: حافظات لمواجب الغيب، إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة، من الفروج والأموال والبيوت بما حفظ الله أي: بحفظ الله إياهن وعصمتهن بالتوفيق لحفظ الغيب، فالمحفوظ من حفظه الله، أي: لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله، أو المعنى: بما حفظ الله لهن من إيجاب حقوقهن على الرجال، أي: عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن، حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله: بما حفظ الله يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي: في مقابلته.

وجعل المهايمي الباء للاستعانة حيث قال: مستعينات بحفظه؛ مخافة أن يغلب عليهن نفوسهن، وإن بلغن من الصلاح ما بلغن، انتهى.

وروى ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة مرفوعا: خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت حفظتك في نفسها ومالك، قال: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: الرجال قوامون على النساء إلى آخرها .

[ ص: 1220 ] وروى الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت .
تنبيه:

قال السيوطي في "الإكليل" في قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء إن الزوج يقوم بتربية زوجته وتأديبها ومنعها من الخروج، وإن عليها طاعته إلا في معصية، وإن ذلك لأجل ما يجب لها عليه من النفقة، ففهم العلماء من هذا أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها، وسقط ما له من منعها من الخروج.

واستدل بذلك من أجاز لها الفسخ حينئذ، ولأنه إذا خرج من كونه قواما عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح.

واستدل بالآية من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها ، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه، لأنه جعله (قواما) بصيغة المبالغة، وهو الناظر في الشيء الحافظ له.

واستدل بها على أن المرأة لا تجوز أن تلي القضاء كالإمامة العظمى ؛ لأنه جعل الرجال قوامين عليهن، فلم يجز أن يقمن على الرجال، انتهى.

واللاتي تخافون نشوزهن أي: عصيانهن وسوء عشرتهن وترفعهن عن مطاوعتكم، من (النشز) وهو ما ارتفع من الأرض يقال: نشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها: استعصت عليه، وارتفعت عليه وأبغضته، وخرجت عن طاعته.

فعظوهن أي: خوفوهن بالقول، كاتقي الله، واعلمي أن طاعتك لي فرض عليك، واحذري عقاب الله في عصياني، وذلك لأن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته؛ لما له عليها من الفضل والإفضال، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها رواه الترمذي ، عن أبي هريرة ، والإمام أحمد [ ص: 1221 ] عن معاذ ، والحاكم عن بريدة .

وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح .

ورواه مسلم ، ولفظه: إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح .

واهجروهن بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة في المضاجع أي: المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن، فيكون كناية عن الجماع.

قال حماد بن سلمة البصري : يعني النكاح، وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الهجر هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها، ويوليها ظهره، وكذا قال غير واحد.

وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس (في رواية): ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها، وقيل: المضاجع المبايت، أي: لا تبايتوهن.

وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت.

واضربوهن - إن لم ينجع ما فعلتم من العظة والهجران - ضربا غير مبرح أي: شديد ولا شاق، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حجة الوداع: واتقوا الله في النساء، [ ص: 1222 ] فإنهن عوان عندكم، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح .

قال الفقهاء: هو أن لا يجرحها، ولا يكسر لها عظما، ولا يؤثر شينا، ويجتنب الوجه؛ لأنه مجمع المحاسن، ويكون مفرقا على بدنها، ولا يوالي به في موضع واحد؛ لئلا يعظم ضرره.

ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف، أو بيده! لا بسوط ولا عصا، قال عطاء: ضرب بالسواك.

قال الرازي : وبالجملة، فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه، والذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك تنبيه - يجري مجرى التصريح - في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق، وهذه طريقة من قال: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب، فإن ظاهر اللفظ - وإن دل على الجمع - إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب.

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح، ولا تكسر لها عظما، فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية.

وقال آخرون: هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز، أما عند تحققه فلا بأس بالجمع بين الكل.

وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه آدب لهم رواه عبد بن حميد ، والطبراني ، عن ابن عباس ، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر .

فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا أي: إذا رجعن عن النشوز عند هذا التأديب إلى الطاعة في جميع ما يراد منهن مما أباحه الله منهن، فلا سبيل للرجال عليهن بعد ذلك بالتوبيخ والأذية بالضرب والهجران إن الله كان عليا كبيرا فاحذروه، تهديد للأزواج على ظلم النسوان من غير سبب، فإنهن - وإن ضعفن عن دفع ظلمكم، وعجزن عن الانتصاف منكم - فالله سبحانه علي قاهر كبير قادر، ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن، فلا تغتروا بكونكم أعلى يدا منهن وأكبر درجة [ ص: 1223 ] منهن، فإن الله أعلى منكم وأقدر منكم عليهن، فختم الآية بهذين الاسمين فيه تمام المناسبة، ولما ذكر تعالى حكم النفور والنشوز من الزوجة ذكر ما إذا كان النفور من الزوجين بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا [35]

وإن خفتم شقاق بينهما أصله شقاقا بينهما فأضيف الشقاق إلى الظرف، إما على إجرائه مجرى المفعول به اتساعا، كقوله: بل مكر الليل والنهار [سبأ: 33] أصله بل مكر في الليل والنهار، أو مجرى الفاعل بجعل البين مشاقا والليل والنهار ماكرين، كما في قولك: نهارك صائم، والضمير للزوجين، ولم يجر ذكرهما لجري ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء، أي: إن علمتم مخالفة مفرقة بينهما، واشتبه عليكم أنه من جهته أو من جهتها، ولا يفعل الزوج الصلح ولا الصفح ولا الفرقة، ولا تؤدي المرأة الحق ولا الفدية فابعثوا أي: إلى الزوجين لإصلاح ذات البين وتبين الأمر حكما رجلا صالحا للحكومة والإصلاح ومنع الظالم من الظلم من أهله أي: أقارب الزوج: وحكما من أهلها على صفة الأول، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للإصلاح، فيلزمهما أن يخلوا ويستكشفا حقيقة الحال فيعرفا أن رغبتهما في الإقامة أو الفرقة إن يريدا أي: الحكمان إصلاحا يوفق الله بينهما أي: يوقع بينهما الموافقة فيتفقان على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض ويتم المراد، أو الضمير الأول للحكمين، والثاني للزوجين، أي: إن قصدا [ ص: 1224 ] إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله، بورك في وساطتهما، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والألفة، وألقى في نفوسهما المودة والرحمة.

إن الله كان عليما خبيرا بظواهر الحكمين وبواطنهما، إن قصدا إفسادا يجازيهما عليه، وإلا يجازيهما على الإصلاح.

روى ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله عز وجل أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل، ومثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها، ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض، ولا يرث الكاره الراضي.

وروى عبد الرزاق في (مصنفه) عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما, وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا.

(وأسند) عن ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: تصير إلي وأنفق عليك، فكان إذا دخل عليها، قالت: أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت، فشدت عليها ثيابها، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك فضحك، فأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما، فقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شخصين من بني عبد مناف، فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما، فرجعا.

[ ص: 1225 ] (وأسند) عن عبيدة قال: شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما، فقال علي للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا، فقال علي : كذبت والله! لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك. ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير .

قال الحافظ ابن كثير : وقد أجمع العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة، حتى قال إبراهيم النخعي : إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاثا فعلا، وهو رواية عن مالك.

وقال الحسن البصري: الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة، وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ، وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور ، وداود ، ومأخذهم قوله تعالى: إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ولم يذكر التفريق، وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف، انتهى.

وفي "الإكليل": أخرج ابن منصور أن المأمور بالبعث الحكام.

وعن السدي : إنه الزوجان، فعلى الأول استدل به من قال: إنهما موليان من الحاكم، فلا يشترط رضا الزوجين عما يفعلانه من طلاق وغيره، وعلى الثاني استدل من قال: إنهما وكيلان من الزوجين، فيشترط.

وقال ابن كثير : الجمهور على الأول - أعني أنهما منصوبان من جهة الحاكم - لقوله تعالى: فابعثوا حكما إلخ، فسماهما حكمين، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه وهذا ظاهر الآية.

وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى الثاني؛ لقول علي - رضي الله عنه - للزوج (حين قال: أما الفرقة فلا) فقال: كذبت، حتى تقر بما أقرت به.

قالوا: فلو كانا حكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج، والله أعلم.

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 06-07-2022 11:11 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1226 الى صـ 1232
الحلقة (214)



وفي الآية تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتوخاه، وفقه الله تعالى لمبتغاه.
[ ص: 1226 ] تنبيه:

قال الحاكم : في الآية دلالة على أن كل من خاف فرقة وفتنة جاز له بعث الحكمين، وقد استدل بها أمير المؤمنين على الخوارج فيما فعل من التحكيم، قال مشايخ المعتزلة: لأن المصاحف لما رفعت، فظهرت الفرقة في عسكره، وخاف على نفسه جازت المحاكمة، بل وجبت، ولهذا صالح - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية، وعلى هذا يحمل صلح الحسن عليه السلام.
القول في تأويل قوله تعالى:

واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا [36]

واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا يأمر تعالى بعبادته وحده وبالإخلاص فيها بقوله: ولا تشركوا به شيئا كما قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [البينة: 5] لأنه تعالى هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الأوقات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من الشرك الجلي والخفي للنفس وشهواتها، وما يتوصل بها إليها من المال والجاه، وهذه العبادة حق الله علينا.

كما في الصحيحين عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا معاذ ، هل تدري ما حق الله على [ ص: 1227 ] العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا .

ثم أوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل - التي هي آكد الحقوق وأعظمها - تنبيها على جلالة شأن الوالدين بنظمها في سلكها بقوله: وبالوالدين إحسانا وقد كثرت مواقع هذا النظم في التنزيل العزيز كقوله: أن اشكر لي ولوالديك [لقمان: 14] وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [الإسراء: 23] أي: أحسنوا بهما إحسانا يفي بحق تربيتهما، فإن شكرهما يدعو إلى شكر الله المقرب إليه، مع ما فيه من صلة أقرب الأقارب الموجب لوصلة الله، وقطعها لقطعه، ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، بقوله: وبذي القربى أي: الأقارب، وقد جاء في الحديث الصحيح، عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صلة وصدقة رواه الإمام أحمد والترمذي [ ص: 1228 ] والنسائي والحاكم وابن ماجه .

ثم قال تعالى: واليتامى وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم؛ تنزلا لرحمته عز وجل والمساكين وهم المحاويج الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم، وتزول به ضرورتهم والجار ذي القربى أي: الذي قرب جواره، أو الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين والجار الجنب أي: الذي جواره بعيد، أو الأجنبي، وقال نوف البكالي : (الجار ذي القربى) يعني الجار المسلم (والجار الجنب): يعني اليهودي والنصراني.

وقد ورد في الوصية بالجار أحاديث كثيرة، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر .

ومنها ما رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره .

وروى الإمام أحمد ، عن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يشبع الرجل دون جاره .

قال ابن كثير : تفرد به أحمد .

وعن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: لأن يزني [ ص: 1229 ] الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره .

قال: فقال: ما تقولون في السرقة؟ قالوا حرمها الله ورسوله، فهي حرام، قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره .


قال ابن كثير : تفرد به أحمد ، وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود : قال: سألت - أو سئل - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك .

وروى الإمام أحمد، عن أبي العالية ، عن رجل من الأنصار قال: خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا به قائم، ورجل معه مقبل عليه، فظننت أن لهما حاجة، قال: فقال الأنصاري: والله لقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جعلت أرثي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طول القيام، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله! لقد قام بك الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام، قال: ولقد رأيته؟ قلت: نعم، قال: أتدري من هو؟ قلت: لا، قال: ذاك جبريل عليه السلام، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ثم قال: أما إنك لو سلمت عليه رد عليك السلام .

ورواه عبد بن حميد، عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل من العوالي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريل عليه السلام يصليان حيث يصلى على الجنائز، فلما انصرف، قال الرجل: يا رسول الله من هذا الرجل الذي رأيت يصلي معك؟ قال: وقد رأيته؟ قال: نعم، قال: لقد رأيت خيرا كثيرا، هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت أنه سيورثه .

قال ابن كثير : تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله.

[ ص: 1230 ] وروى البزار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقا.

فأما الجار الذي له حق واحد: فجار مشرك لا رحم له، له حق.

وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار.

وأما الذي له ثلاثة حقوق: فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم
.

وقد روى الإمام أحمد والبخاري عن عائشة أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا .

وروى الإمام مسلم ، عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك .

وفي رواية قال: إذا طبخت مرقا فأكثر ماءها، ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف .

وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه .

ولمسلم: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه .

والبوائق: الغوائل والشرور.

[ ص: 1231 ] ورويا عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة .

معناه: ولو أن تهدي لها فرسن شاة، وهو الظلف المحرق، وأراد به الشيء الحقير.

ورويا عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره .

وقوله تعالى: والصاحب بالجنب قال سعيد بن جبير : هو الرفيق الصالح.

وقال زيد بن أسلم : هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر، أي: فإنه كالجار.

وأوضحه الزمخشري بقوله: هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك، إما رفيقا في سفر وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان.

وروي عن علي وابن مسعود قالا: هي المرأة، أي: لأنها تكون معك وتضجع إلى جنبك.

وابن السبيل أي: ابن الطريق، أي: المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به، نسب إلى السبيل الذي هو [ ص: 1232 ] الطريق لمروره عليه وملابسته له، أو الذي يريد البلد غير بلده، لأمر يلزمه.

وقال ابن عرفة : هو الضيف المنقطع به، يعطى قدر ما يتبلغ به إلى وطنه.

وقال ابن بري : هو الذي أتى به الطريق، كذا في "تاج العروس" ولم يذكر السلف من المفسرين وأهل اللغة (السائل) في معنى ابن السبيل؛ لأنه جاء تابعا لابن السبيل في البقرة في قوله تعالى: ليس البر - إلى قوله: وابن السبيل والسائلين

قال بعضهم في (ابن السبيل):


ومنسوب إلى ما لم يلده كذاك الله نزل في الكتاب


وما ملكت أيمانكم يعني المماليك، فإنهم ضعفاء الحيلة، أسرى في أيدي الناس كالمساكين، لا يملكون شيئا، وقد ثبت عن علي عليه السلام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول: الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وهذا لفظ أبي داود .

وروى الإمام أحمد عن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة ورواه النسائي.

قال الحافظ ابن كثير : وإسناده صحيح، ولله الحمد.

وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته رواه مسلم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 06-07-2022 11:11 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1233 الى صـ 1239
الحلقة (215)

وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق رواه مسلم أيضا.

وعنه أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين، أو لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حره وعلاجه . أخرجاه، ولفظه للبخاري.

وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم أخرجاه.

إن الله لا يحب من كان مختالا أي: متكبرا عن الإحسان إلى من أمر ببره فخورا يعدد مناقبه كبرا، وإنما خص تعالى هذين الوصفين بالذم - في هذا الموضع - لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبرا فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق، ثم أضاف إليه ذم الفخور؛ لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة، بل لمحض أمر الله تعالى.

[ ص: 1234 ] روى أبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الكبر من بطر الحق وغمط الناس .

وروى ابن جرير ، عن أبي رجاء الهروي قال: لا تجد سيئ الملكة (الملكة) إلا وجدته مختالا فخورا، وتلا: وما ملكت أيمانكم الآية، ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا وتلا: وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا [مريم: 32] وقد ورد في ذم الخيلاء والفخر ما هو معروف.
القول في تأويل قوله تعالى:

الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا [37]

الذين يبخلون أي: بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به فيما تقدم ويأمرون الناس بالبخل أي: ولا يكونون سبب الإحسان، بل يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم [ ص: 1235 ] فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ممن وجد، وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره، قال:


وإن امرءا ضنت يداه على امرئ بنيل يد من غيره لبخيل


قال الزمخشري بعد حكاية ما تقدم: ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل من إذا طرق سمعه أن أحدا جاد على أحد، شخص به، وحل حبوته واضطرب، ودارت عيناه في رأسه، كأنما نهب رحله، وكسرت خزانته؛ ضجرا من ذلك وحسرة على وجوده. انتهى.

ويكتمون ما آتاهم الله من فضله أي: من المال والغنى، فيوهمون الفقر مع الغنى، والإعسار مع اليسار، والعجز مع الإمكان وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا وضع الظاهر موضع المضمر؛ إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كان كافرا بنعمة الله تعالى فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.

فائدة:

قال أبو البقاء : في قوله تعالى: الذين يبخلون وجهان:

أحدهما: هو منصوب بدل من: " من " في قوله: من كان مختالا فخورا وجمع على معنى: " من " ويجوز أن يكون محمولا على قوله: مختالا فخورا وهو خبر كان وجمع على المعنى أيضا، أو على إضمار: أذم.

والثاني: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره: مبغضون، ودل عليه ما تقدم من قوله: " لا يحب " ويجوز أن يكون الخبر (معذبون) لقوله: وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا

[ ص: 1236 ] ويجوز أن يكون التقدير: هم الذين، ويجوز أن يكون مبتدأ: والذين ينفقون معطوف عليه، والخبر: إن الله لا يظلم أي: يظلمهم.

ثم قال: والبخل والبخل لغتان: وقد قرئ بهما، وفيه لغتان أخريان البخل - بضم الخاء والباء - والبخل - بفتح وسكون الخاء - انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا [38]

والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس أي: قصد رؤية الخلق إياه، غفلة عن الخالق – تقدس - وعماية عنه؛ ليقال: ما أسخاهم وما أجودهم ولا يؤمنون بالله أي: الذي يتقرب إليه وحده ويتحرى بالاتفاق رضاه ولا باليوم الآخر الذي هو يوم الجزاء ومن يكن الشيطان له قرينا معينا في الدنيا فساء قرينا فبئس القرين والصاحب الشيطان؛ لأنه يضله عن الهدى ويحجبه عن الحق، وإنما اتصل الكلام هنا بذكر الشيطان؛ تقريعا لهم على طاعته.

والمعنى: من يكن عمله بما سول له الشيطان فبئس العمل عمله، ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار.

لطيفة:

قوله تعالى: والذين عطف على " الذين يبخلون " أو على " للكافرين " وإنما شاركوهم في الذم والوعيد؛ لأن البخل كالإنفاق رياء، سواء في القبح واستتباع اللائمة والذم، ويجوز أن يكون العطف بناء على إجراء التغاير الوصفي مجرى التغاير الذاتي، كما في قوله:


إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم


[ ص: 1237 ] أو مبتدأ خبره محذوف، يدل عليه قوله تعالى: ومن يكن إلخ أي: فقرينهم الشيطان، وإنما حذف للإيذان بظهوره واستغنائه عن التصريح به، أو التقدير: فلا يقبل إحسانهم؛ لأن رياءهم يدل على تفضيلهم الخلق على الله، ورؤيتهم على ثوابه.

وقد روى مسلم ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه.

وروى ابن أبي حاتم في سبب نزول الآية، عن سعيد بن جبير قال: كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم، فأنزل الله: الذين يبخلون الآية.

وأخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق ، عن ابن عباس : أن رجالا من اليهود [ ص: 1238 ] كانوا يأتون رجالا من الأنصار ينتصحون لهم، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله فيهم: الذين يبخلون الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما [39]

وماذا عليهم لو آمنوا بالله أي: فلم يرجحوا الخلق عليه واليوم الآخر بالبعث والجزاء فلم يرجحوا تعظيمهم وحطامهم على ثوابه وأنفقوا مما رزقهم الله أعطاهم الله من المال، أي: طلبا لرضاه وأجر آخرته.

قال العلامة أبو السعود : وإنما لم يصرح به؛ تعويلا على التفصيل السابق، واكتفاء بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه يقتضي أن يكون الإنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة، أي: وما الذي عليهم، أو: وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان بالله والإنفاق في سبيله؟! وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة، والاعتقاد في الشيء بخلاف ما هو عليه، وتحريض على التكفير [ ص: 1239 ] لطلب الجواب؛ لعله يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة، وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطا، فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى، وتقديم الإيمان بهما؛ لأهميته في نفسه، ولعدم الاعتداد بالإنفاق بدونه.

وأما تقديم (إنفاقهم رئاء الناس) على عدم إيمانهم بهما - مع كون المؤخر أقبح من المقدم - فلرعاية المناسبة بين إنفاقهم ذلك وبين ما قبله من بخلهم وأمرهم للناس به، انتهى.

وكان الله بهم عليما وعيد لهم بالعقاب.

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 06-07-2022 11:12 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1240 الى صـ 1246
الحلقة (216)


القول في تأويل قوله تعالى:

إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [40]

إن الله لا يظلم مثقال ذرة أي: لا يبخس أحدا من ثواب عمله ولا يزيد في عقابه شيئا مقدار ذرة، وهي: (النملة الصغيرة) في قول أهل اللغة.

قال ثعلب : مائة من الذر زنة حبة شعير، وهذا مثل ضربه الله تعالى لأقل الأشياء، والمعنى: إن الله تعالى لا يظلم أحدا شيئا، قليلا ولا كثيرا، فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس وإن تك حسنة يضاعفها أي: وإن تك مثقال ذرة حسنة يضاعف ثوابها، وإنما أنث ضمير المثقال لتأنيث الخير، أو لإضافته إلى الذرة ويؤت أي: زيادة على الإضعاف من لدنه مما يناسب عظمته على نهج التفضل أجرا عظيما أي: عطاء جزيلا، وقد ورد في معنى هذه الآية أحاديث كثيرة، منها ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث [ ص: 1240 ] الشفاعة الطويل: وفيه: فيقول الله عز وجل: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار، وفي لفظ: أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقول أبو سعيد : اقرؤوا إن شئتم: إن الله لا يظلم مثقال ذرة

وقد روى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة - أي: بحسنته - ولا يخرج من النار أبدا.

قال الحافظ ابن كثير : وقد يستدل له بالحديث الصحيح إن العباس قال: يا رسول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار .

وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار؛ بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة انتهى.

ورواه مسلم أيضا عن أنس أيضا مرفوعا، ولفظه: إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يجزى بها .
[ ص: 1241 ] القول في تأويل قوله تعالى:

فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [41]

فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال الرازي : وجه النظم هو أنه تعالى بين أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم، وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه، فبين تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسيء أبلغ، والتبكيت له أعظم، وحسرته أشد، ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم، ويكون هذا وعيدا للكفار الذين قال الله فيهم: إن الله لا يظلم مثقال ذرة [النساء: من الآية 40] ووعدا للمطيعين الذين قال الله فيهم: وإن تك حسنة يضاعفها [النساء: من الآية 40].

ثم قال: من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه: كيف بك إذا كان كذا وكذا، وإذا فعل فلان كذا، أو إذا جاء وقت كذا؟ فمعنى هذا الكلام: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها، واستشهدك على هؤلاء، يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم، ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم [المائدة: من الآية 117] ونظير هذه الآية قوله تعالى: ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم [النحل: من الآية 89] إلخ.

[ ص: 1242 ] وروى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ علي. فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فقال: حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان.

زاد مسلم : شهيدا ما دمت فيهم، أو قال: ما كنت فيهم شك أحد رواته.

وروى ابن جرير ، عن ابن مسعود في هذه الآية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شهيد عليهم ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم .
القول في تأويل قوله تعالى:

يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا [42]

يومئذ أي: يوم القيامة: يود أي: يتمنى: الذين كفروا بالله وعصوا الرسول بالإجابة لو تسوى بهم الأرض أي: يهلكون فيها، أي: يدفنون، فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، إذ هو أعز لهم من الهوان الذي يلحقهم من فضائحهم، كقوله: يوم ينظر المرء ما قدمت يداه الآية، فـ(تسوى) بمعنى: تجعل مستوية، والباء للملابسة، أي: تسوى الأرض متلبسة بهم.

وقيل: الباء بمعنى (على) وفي "الدر المصون": وتسوية الأرض بهم أو عليهم: دفنهم، أو أن تنشق وتبلعهم، أو أنهم يبقون ترابا على أصلهم من غير خلق.

وقوله تعالى: ولا يكتمون الله حديثا عطف على (يود) أي: ويعترفون [ ص: 1243 ] بجميع ما فعلوه لا يقدرون على كتمانه؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم، أو (الواو) للحال، أي: يودون أن يدفنوا في الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثا، ولا يكذبونه بقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين كما روى ابن جرير ، عن الضحاك أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس ! قول الله تعالى: ولا يكتمون الله حديثا وقوله: والله ربنا ما كنا مشركين فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت: ألقي على ابن عباس متشابه القرآن، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده، فيقولون: تعالوا نقل، فيسألهم فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين قال: فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثا.

وروى عبد الرزاق ، عن سعيد بن جبير نحو ما تقدم، واعتمده الإمام أحمد في كتاب "الرد على الجهمية " في باب (بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن) وساق مثل ما تقدم عن ابن عباس ، ثم قال: فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة ، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا [43]

يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ ص: 1244 ] نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر في جماعة كانوا يشربونها ثم يصلون، أي: من مقتضى إيمانكم الحياء من الله، ومن الحياء منه أن لا تقوموا إلى الصلاة وأنتم سكارى لا تعلمون ما تخاطبونه، فالحياء من الله يوجب ذلك، وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه؛ للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي، وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة - مع أن المراد هو النهي عن إقامتها - للمبالغة في ذلك.

قال الحافظ ابن كثير : كان هذا النهي قبل تحريم الخمر ، كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر [البقرة: من الآية 219] الآية، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلاها على عمر ، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات، حتى نزلت: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إلى قوله تعالى: فهل أنتم منتهون [المائدة: 90 - 91] فقال عمر : انتهينا انتهينا.

ولفظ أبي داود ، عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث، وفيه: نزلت الآية التي في النساء: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ ص: 1245 ] فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامت الصلاة ينادي: لا يقربن الصلاة سكران.

وروى ابن أبي شيبة ، وابن [أبي] حاتم ، عن سعد - رضي الله عنه - قال: نزلت في أربع آيات: صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لحى بعير فغرز بها أنف سعد، فكان سعد مغروز الأنف، وذلك قبل تحريم الخمر، فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية.

والحديث بطوله عند مسلم ، ورواه أهل السنن إلا ابن ماجه .

وروى أبو داود والنسائي ، عن علي - رضي الله عنه - أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: قل يا أيها الكافرون فخلط فيها، فنزلت: لا تقربوا الآية.

وروى ابن أبي حاتم ، عن علي - رضي الله عنه - قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموا فلانا، قال فقرأ: (قل يا أيها الكافرون * ما أعبد ما تعبدون * ونحن نعبد ما تعبدون) فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة الآية، وكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

ولا جنبا عطف على قوله: وأنتم سكارى إذ الجملة في موضع النصب على الحال، والجنب الذي أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع؛ لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب.

إلا عابري سبيل أي: مارين بلا لبث حتى تغتسلوا من الجنابة: أي: لا تقربوا موضع الصلاة - وهو المسجد - وأنتم جنب إلا مجتازين فيه، إما للخروج منه أو للدخول فيه.

[ ص: 1246 ] روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في معنى الآية قال: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمر به مرا، ولا تجلس، ثم رواه عن كثير من الصحابة، منهم ابن مسعود وثلة من التابعين.

وروى ابن جرير ، عن الليث قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن قول الله عز وجل: ولا جنبا إلا عابري سبيل إن رجالا من المسجد تصيبهم الجنابة، ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله: ولا جنبا إلا عابري سبيل

قال الحافظ ابن كثير : ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 06-07-2022 11:13 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1247 الى صـ 1253
الحلقة (217)


وهذا قاله - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته؛ علما منه أن أبا بكر - رضي الله عنه - سيلي الأمر بعده ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة [ ص: 1247 ] إلى المسجد إلا بابه - رضي الله عنه - ومن روى (إلا باب علي ) كما وقع في بعض السنن فهو خطأ، والصواب ما ثبت في الصحيح.

ومن هذا التأويل احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور .

وثمة تأويل آخر في قوله تعالى: إلا عابري سبيل وهو أن المراد منه المسافرون، أي: لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين، فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء .

وقد روى ابن أبي حاتم ، عن زر بن حبيش ، عن علي في هذه الآية، قال: لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء، فيصلي حتى يجد الماء، ثم رواه من وجه آخر عن علي: ورواه عن جماعة من السلف أيضا: أنه في السفر.

قال ابن كثير : ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن [ ص: 1248 ] عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير لك وفي هذا التأويل بقاء لفظ الصلاة على معناه الحقيقي في الجملتين المتعاطفتين، وفي التأويل السابق تكون الصلاة في الجملة الثانية محمولة على مواضعها.

قال في "فتح البيان": وبالجملة، فالحال الأولى أعني قوله: وأنتم سكارى تقوي بقاء الصلاة على معناه الحقيقي من دون تقدير مضاف، وسبب نزول الآية السابق يقوي ذلك، وقوله: إلا عابري سبيل يقوي تقدير المضاف، أي: لا تقربوا مواضع الصلاة، ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي (أعني: (لا تقربوا) وهو قوله: وأنتم سكارى ) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي (وهو قوله: إلا عابري سبيل ) يدل على أن المراد مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب، وغاية ما يقال في هذا: إنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو جائز بتأويل مشهور.

وقال ابن جرير (بعد حكايته للتأويلين): وأولى القولين بالتأويل لذلك تأويل من تأوله: [ ص: 1249 ] ولا جنبا إلا عابري سبيل إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء - وهو جنب - في قوله: وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى آخره، فكان معلوما بذلك أن قوله: ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله: وإن كنتم مرضى أو على سفر معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.

وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل.

قال: و(العابر السبيل) المجتازه مرا وقطعا، يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا، ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار: هي عبر أسفار، وعبر أسفار؛ لقوتها على الأسفار.

قال ابن كثير : وهذا الذي نصره (يعني ابن جرير ) هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا، والله أعلم.

وقوله تعالى: حتى تغتسلوا غاية للنهي عن قربان الصلاة ومواضعها حال الجنابة، والمعنى: لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل.
تنبيهات:

الأولى: في الآية تحريم الصلاة على السكران حال سكره حتى يصحو، وبطلانها وبطلان الاقتداء به، وعلى الجنب حتى يغتسل إلا أن يكون مسافرا، فيباح له التيمم.

الثاني: تمسك بالآية من قال: إن طلاق السكران لا يقع؛ لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان ، وابن عباس ، وطاوس، وعطاء ، والقاسم ، وربيعة ، والليث بن سعد ، [ ص: 1250 ] وإسحاق، وأبو ثور ، والمزني، واختاره الطحاوي، والمسألة مبسوطة في "زاد المعاد" للإمام ابن القيم.

الثالث: في الآية دليل على أن ردة السكران ليست بردة؛ لأن قراءة سورة الكافرين بطرح اللاءات كفر، ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان، وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بينه وبين امرأته، ولا بتجديد الإيمان، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئا لا يحكم بكفره، قاله النسفي.

الرابع: استدل بأحد التأويلين السابقين على تحريم دخول المسجد على السكران ؛ لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول، فيقاس به كل ذي نجاسة يخشى منها التلويث والسباب ونحوه، كذا في "الإكليل".

الخامس: استدل ابن الفرس بتوجيه الخطاب لهم في الآية على تكليف السكران ودخوله تحت الخطاب، وفيه نظر؛ لأن الخطاب عام لكل مؤمن، وعلى تقدير أنه قصد به الذين صلوا في حال السكر، فإنما نزل بعد صحوهم، كذا في "الإكليل".

السادس: في قوله تعالى: حتى تغتسلوا رد على من أباح جلوس الجنب مطلقا إذا توضأ؛ لأن الله تعالى جعل غاية التحريم الغسل، فلا يقوم مقامه الوضوء، كذا في "الإكليل".

أقول: إنما يكون هذا حجة لو كانت الآية نصا في تأويل واحد، وحيث تطرق الاحتمال لها - على ما رأيت - فلا.

وقد تمسك المبيح - وهو الإمام أحمد - بما روى هو وسعيد بن منصور في "سننه" بسند صحيح أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك.

قال سعيد بن منصور في "سننه": حدثنا عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي - عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة.

قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.

[ ص: 1251 ] السابع: قال العلامة أبو السعود : لعل تقديم الاستثناء على قوله: حتى تغتسلوا للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهي في هذه الصورة ليس على الإطلاق، كما في صورة السكر؛ تشويقا إلى البيان، وروما لزيادة تقرره في الأذهان.

الثامن: قال أيضا: في الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يليه ويشغل قلبه، وأن يزكي نفسه عما يدنسها، ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية عند إمكان أعاليها.

التاسع: أشعر قوله تعالى: حتى تعلموا ما تقولون بالنهي عن الصلاة حال النعاس ، كما روى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول وفي رواية: فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه .

وقد روى ابن جرير ، عن الضحاك في الآية قال: لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم.

قال ابن جرير : والصواب أن المراد سكر الشراب.

[ ص: 1252 ] قال الرازي : ويدل عليه وجهان:

الأول: أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة.

والثاني: أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر، وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين امتنع أن لا يكون ذلك السبب مرادا بتلك الآية.

العاشر: قال الحافظ ابن كثير : قد يحتمل أن يكون المراد من الآية التعريض بالنهي عن السكر بالكلية؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات، من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما، والله أعلم.

وعلى هذا فيكون كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام، والمداومة على الطاعة لأجل ذلك، انتهى.

الحادي عشر: قال الرازي : قال بعضهم: هذه الآية، أي: لا تقربوا إلخ منسوخة بآية المائدة، وأقول: الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أن يقال: نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية، هذا ما حضر ببالي في تقرير هذا النسخ.

والجواب عنه: أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إلا على سبيل الظن الضعيف، ومثل هذا لا يكون نسخا. انتهى.

وإن كنتم مرضى أي: ولم تجدوا [ ص: 1253 ] بقربكم ماء تستعملونه، ومنه فقد من يناوله إياه، أو خشيته الضرر به أو على سفر لا تجدونه فيه أو جاء أحد منكم من الغائط أي: أو كنتم محدثين، والغائط هو المكان المنخفض، فالمجيء منه كناية عن الحدث؛ لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.

قال الخازن : كانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث، فكنوا به عن الحدث، وذلك أن الرجل منهم كان إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض، يعني مكانا منخفضا منها يحجبه عن أعين الناس، فسمي الحدث بهذا الاسم، فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه. انتهى.

وإسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين دونهم للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به، كذا قاله أبو السعود .

ثم قال: وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز وجل: أو لامستم النساء على التصريح بالجماع، قال الشهاب: وفي ذكر (أحد) دون غيره إشارة إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه.

فلم تجدوا ماء قال المهايمي : أي: فلا تستحيوا من الله، بل اعتذروا إليه فتيمموا أي: اقصدوا: صعيدا أي: ترابا، أو وجه الأرض طيبا أي: طاهرا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا تعليل للترخيص والتيسير، وتقرير لهما، فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين، لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا، وفي هذه الآية مسائل:

الأول: الظاهر أن قوله تعالى: فلم تجدوا راجع إلى جميع ما قبلها، وحينئذ لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء، وأما ما قيل أنه راجع إلى قوله تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض بعدم الوجود للماء، وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الموضع كالصوم - فلا يفيد؛ لأن عدم الوجود معتبر فيهما لإباحة التيمم قطعا، إذ ليس السفر بمجرده مبيحا، وكذلك المرض.

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 06-07-2022 11:13 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1254 الى صـ 1260
الحلقة (218)

[ ص: 1254 ] وأما ما يقال من أنه قد يباح للمريض التيمم مع وجود الماء إذا خشي الضرر به - فعدم الوجود في حقه إذن غير قيد، فالجواب: أن هذا داخل تحت عدم الماء؛ لأن من تعذر عليه استعماله هو عادم له، إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه فهو عادم له، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء، وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له.

ولئن سلمنا – تنزلا - أن المراد مطلق الوجود فنقول: المدعى أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده لعارض يمنعه من الماء.

فإن قيل: من أين تستدلون حينئذ على إباحة تيممه؟ قلنا: من التحقيق الذي ذكرناه، وهو أن المتعذر استعماله معدوم شرعا، وكذا من قوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: من الآية 29] وقوله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [البقرة: من الآية 195] وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج [الحج: من الآية 78].

ومما أخرجه أبو داود ، وابن ماجه والدارقطني من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك فقال: قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن [ ص: 1255 ] يتيمم ويعصر (ويعصب) على جرحه [خرقة] ثم يمسح عليه، ويغسل سائر جسده .

ومما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم والدارقطني، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئا ، فهذا وما قبله يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر.

قال مجد الدين ابن تيمية : في حديث عمرو من العلم أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة . انتهى.

وقد روى ابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله تعالى: وإن كنتم مرضى قال: نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.

قال ابن كثير : هذا مرسل.

الثانية: ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة هو المعتبر في تسويغ التيمم، كما هو الظاهر من الآية، لا عدم الوجود مع طلب مخصوص، كما قيل: إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل، أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم - إذ لا دليل على ذلك، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة، وأراد المصلي القيام إليها فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به، أو يغتسل في منزله أو مسجده، أو ما يقرب منهما، كان ذلك عذرا مسوغا للتيمم، فليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد [ ص: 1256 ] الكشف والبحث وإخفاء السؤال، بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه. فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة، والواجب حمل كلام الله تعالى على ذلك، مع عدم وجود عرف شرعي.

وقد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - ما يشعر بما ذكرناه، فإنه تيمم في المدينة من جدار، كما ثبت ذلك في الصحيحين من دون أن يسأل ويطلب، ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة، فهذا كما يدل على وجوب الطلب يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت، ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد: أصبت السنة أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد ، فإنه يرد [ ص: 1257 ] قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم، سواء كان مسافرا أو مقيما، كذا في (الروضة الندية).

الثالثة: دلت الآية على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم ، طال سفره أو قصر.

الرابعة: قرئ في السبع (لامستم ولمستم) والملامسة واللمس يردان - لغة - بمعنى الجس باليد، وبمعنى الجماع، قال المجد في "القاموس" لمسه يلمسه ويلمسه: مسه بيده، والجارية جامعها، ثم قال: والملامسة المماسة والمجامعة.

ومن ثمة اختلف المفسرون والأئمة في المعني بذلك هنا، فمن قائل بأن اللمس حقيقة في الجس باليد، مجاز في غيره، والأصل حمل الكلام على حقيقته؛ لأنه الراجح، لا سيما على قراءة (لمستم) إذ لم يشتهر في الوقاع كالملامسة.

وروي عن ابن مسعود من طرق متعددة أنه قال: الملامسة ما دون الجماع، وعنه: القبلة من المس وفيها الوضوء، رواهما ابن جرير .

وروى الطبراني بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال: يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة، وكان يقول في هذه الآية: أو لامستم النساء هو الغمز.

وروى ابن جرير ، عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول: هي من اللماس.

وذكر ابن أبي حاتم أنه روي عن كثير من التابعين نحو ذلك، قالوا: ومما يؤيد بقاء اللمس على معناه الحقيقي قوله تعالى: ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم [الأنعام: من الآية 7] أي: جسوه.

وقال صلى الله عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنى - يعرض له بالرجوع [ ص: 1258 ] عن الإقرار -: لعلك قبلت أو لمست؟ .

وفي الحديث الصحيح: واليد زناها اللمس .

وقالت عائشة : قل يوم إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف علينا، فيقبل ويلمس.

ومنه ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الملامسة، وهو يرجع إلى الجس باليد.

واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه أحمد عن معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل فقال: يا رسول الله! ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها، قال فأنزل الله عز وجل هذه الآية: [ ص: 1259 ] وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل [هود: من الآية 114] الآية، قال: فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: توضأ ثم صل قال معاذ: فقلت: يا رسول الله! أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال: بل للمؤمنين عامة .

ورواه الترمذي ، وقال: ليس بمتصل، والنسائي مرسلا، قالوا: فأمره بالوضوء؛ لأنه لمس المرأة ولم يجامعها.
فصل

ومن قائل: إن المعني باللمس هنا الجماع، وذلك لوروده في غير هذه الآية بمعناه، فدل على أنه من كنايات التنزيل، قال تعالى: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [البقرة: من الآية 237] وقال تعالى: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [الأحزاب: من الآية 49] وقال في آية الظهار: فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا [القصص: من الآية 3].

وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس [ ص: 1260 ] في هذه الآية: أو لامستم النساء قال: الجماع.

وروى ابن جرير عنه، قال: إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء، وقد صح من غير وجه عن ابن عباس أنه قال ذلك، وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره؛ لاستجابة دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه بتعليمه تأويل الكتاب، كما أسلفنا بيان ذلك في مقدمة التفسير.

ويؤيد عدم النقض بالمس ما رواه مسلم والترمذي وصححه عن عائشة قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك .

وروى النسائي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي وإني لمعترضته بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله.

قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": إسناده صحيح، وقوله في "الفتح": يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به - صلى الله عليه وسلم - تكلف، ومخالفة للظاهر.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg

ابوالوليد المسلم 06-07-2022 11:14 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1261 الى صـ 1267
الحلقة (219)



وعن إبراهيم التيمي ، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ رواه أبو داود والنسائي . قال أبو داود : هو مرسل، إبراهيم التيمي [ ص: 1261 ] لم يسمع من عائشة ، وقال النسائي : ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلا، وصححه ابن عبد البر وجماعة.

وشهد له ما تقدم وما رواه الطبراني في المعجم الصغير من حديث عمرة عن عائشة قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فقلت: إنه قام إلى جاريته مارية ، فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائما يصلي، فأدخلت يدي في شعره لأنظر أغتسل أم لا؟ فلما انصرف قال: أخذك شيطانك يا عائشة ، وفيه محمد بن إبراهيم عن عائشة ، قال ابن أبي حاتم : ولم يسمع منها.

قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: أو لامستم النساء الجماع دون غيره من معاني اللمس؛ لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم أسنده من طرق، وبه يعلم أن حديث عائشة قرينة صرفت إرادة المعنى الحقيقي من اللمس، وأوجبت المصير إلى معناه المجازي.

وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود ، فنحن لا ننكر صحة إطلاق اللمس على الجس باليد ، بل هو المعنى الحقيقي، ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز.

وأما قولهم بأن القبلة فيها الوضوء فلا حجة في قول الصحابي لا سيما إذا وقع معارضا لما ورد عن الشارع، ويؤيد ذلك قول اللغويين أن المراد بقول بعض الأعراب للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن امرأته لا ترد يد لامس الكناية عن كونها زانية، ولهذا قال له - صلى الله عليه وسلم -: طلقها .

وأما حديث معاذ الذي استأنسوا به فلا دلالة فيه على النقض؛ لأنه لم يثبت أنه كان متوضئا قبل أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء، ولا ثبت أنه كان متوضئا عند اللمس، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد انتقض وضوؤه، كذا في "نيل الأوطار".

[ ص: 1262 ] وقال ابن كثير : هو منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ ، فإنه لم يلقه، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة المكتوبة، كما تقدم في حديث الصديق : ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله: ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [آل عمران: من الآية 135] الآية.

الخامسة: التيمم لغة : القصد، يقال: تيممته وتأممته ويممته، وآممته أي: قصدته، وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد.

قال الزجاج : الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره، لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك.

وفي "المصباح": الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي على وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق.

وفي "القاموس": الصعيد التراب أو وجه الأرض.

قال الأزهري : ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله تعالى: صعيدا طيبا هو التراب. انتهى.

واحتجوا بما في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء وفي لفظ: وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء .

قالوا: فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره [ ص: 1263 ] معه.

قالوا: وحديث جابر المتفق عليه: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا خصصه ما قبله لأن الخاص يحمل عليه العام، واحتجوا أيضا بأن الطيب لا يكون إلا ترابا.

قال الواحدي: إنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبا، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله تعالى: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه [الأعراف من الآية: 58] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة، فكان قوله: فتيمموا صعيدا طيبا أمرا بالتيمم بالتراب فقط، وظاهر الأمر للوجوب، واحتجوا أيضا بآية المائدة، قالوا: الآية ههنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيدة، وهي قوله سبحانه وتعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه [المائدة: من الآية 6] وكلمة (من) للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.

[ ص: 1264 ] قال الزمخشري : وقولهم إن (من) لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: (مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب) إلا معنى التبعيض، ثم قال: والإذعان للحق أحق من المراء. انتهى.

وأجاب القائلون بجواز التيمم بالأرض وما عليها عن هذه الحجج بأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض؛ لأنه ما صعد، أي: علا وارتفع على وجه الأرض، وهذه الصفة لا تختص بالتراب، ويؤيد ذلك حديث: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره، وما ثبت في رواية بلفظ: وتربتها طهورا كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة - فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء؛ لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية، وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول، فيكون ذكر التراب في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام، وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث، ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة، ويؤيد هذا ما ثبت من تيممه صلى الله عليه وسلم من جدار.

وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا ترابا طاهرا منبتا لقوله تعالى:: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا [الأعراف: 58] - فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذكر، والضرورة تدفعه، فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجا للنبات، كذا في "الروضة الندية".

[ ص: 1265 ] وأما الاستدلال بآية المائدة وظهور التبعيض في (من) فذاك إذا كان الضمير عائدا إلى الصعيد.

قال الناصر في "الانتصاف": وثمة وجه آخر وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله: وإن كنتم مرضى إلى آخرها، فإن المفهوم منه: وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال: سفر أو مرض، أو مجيء من الغائط، أو ملامسة النساء - فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث فتيمموا منه، يقال: تيممت من الجنابة، قال: وموقع (من) على هذا مستعمل متداول، وهي على هذا الإعراب إما للتعليل أو لابتداء الغاية، وكلاهما فيها متمكن، والله أعلم.

السادسة: أفاد قوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم أن الواجب في التيمم عن وضوء أو غسل هو مسح الوجه واليدين فقط، وهذا إجماع، إلا أن في اليدين مذاهب للأئمة، فمن قائل بأنهما يمسحان إلى المرفقين؛ لأن لفظ اليدين يصدق في إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة: فاقطعوا أيديهما [المائدة: من الآية 38] وقالوا: وحمل ما أطلق ههنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية.

وروى الشافعي ، عن إبراهيم بن محمد ، عن أبي الحويرث ، عن الأعرج ، عن ابن الصمة قال: مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد علي، حتى قام إلى الجدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد علي .

وهذا الحديث منقطع؛ لأن الأعرج - وهو عبد الرحمن بن هرمز - لم يسمع هذا من ابن الصمة ، وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة ، وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال: دخلنا على أبي جهيم بن الحارث، فقال أبو جهيم : أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فوضع يده على الحائط، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام .

[ ص: 1266 ] ولأبي داود عن نافع قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس ، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر .

وفي رواية: فمسح ذراعيه إلى المرفقين، فهذا أجود ما في الباب، فإن البيهقي أشار إلى صحته، كذا في "لباب التأويل".

قال ابن كثير في حديث أبي داود ما نصه: ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبدي ، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر ، قال البخاري وأبو زرعة وابن عدي : هو الصحيح.

وقال البيهقي : رفع هذا الحديث منكر.

قال ابن كثير : وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ولكن لا يصح؛ لأن في إسناده ضعفا لا يثبت الحديث به. انتهى. وذلك لأن فيه علي بن ظبيان ، قال الحافظ ابن حجر : هو ضعيف، ضعفه القطان وابن معين وغير واحد، وبه يعلم أن ما استدل به على إيجاب الضربتين - مما ذكر - ففيه نظر؛ لأن طرقها جميعها لا تخلو من مقال، ولو صحت لكان الأخذ بها متعينا لما فيها من الزيادة.
[ ص: 1267 ] فصل

ذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين، ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال: تمسحوا وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم . أخرجه أبو داود .

قال الحافظ في "الفتح": وأما رواية الآباط فقال الشافعي وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكل تيمم صح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به.
فصل

والحق الوقوف في صفة التيمم على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار ، من الاقتصار على ضربة واحدة للوجه والكفين.

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg



ابوالوليد المسلم 06-07-2022 11:14 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1268 الى صـ 1274
الحلقة (220)

[ ص: 1268 ] قال عمار : أجنبت فلم أصب الماء، فتمعكت في الصعيد، وصليت، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه متفق عليه.

وفي لفظ: إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين رواه الدارقطني .

وروى الإمام أحمد وأبو داود ، عن عمار بن ياسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في التيمم: ضربة للوجه واليدين .

وفي لفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالتيمم للوجه والكفين رواه الترمذي وصححه.

قال ابن عبد البر : أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وأما الجواب عن المتفق عليه من حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم - فتكلف واضح، ومخالفة للظاهر.

وقد سرى هذا إلى العلامة السندي في "حواشي البخاري " حيث كتب على حديث عمار ما نصه: قد استدل المصنف (يعني البخاري ) بهذا الحديث على عدم لزوم الذراعين في التيمم في موضع، وعلى عدم وجوب الضربة الثانية في موضع آخر، وكذا سيجيء في روايات هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم في هذه الواقعة الكفين على الوجه، فاستدل به القائل لعدم لزوم الترتيب، فلعل القائل بخلاف ذلك يقول: إن هذا الحديث ليس مسوقا لبيان عدد الضربات ولا لبيان تحديد اليد في التيمم ولا لبيان عدم لزوم الترتيب، بل ذلك أمر مفوض إلى أدلة خارجة، وإنما هو مسوق لرد ما زعمه عمار من أن الجنب يستوعب البدن كله، والقصر في قوله: (إنما كان يكفيك) معتبر بالنسبة إليه، كما هو القاعدة أن القصر [ ص: 1269 ] يعتبر بالنظر إلى زعم المخاطب، فالمعنى: إنما يكفيك استعمال الصعيد في عضوين: وهما الوجه واليد.

وأشار إلى اليد بـ(الكف) ولا حاجة إلى استعماله في تمام البدن، وعلى هذا يستدل على عدد الضربات وتحديد اليد ولزوم الترتيب أو عدمه بأدلة أخر، كحديث: التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين وغير ذلك، فإنه صحيح كما نص عليه بعض الحفاظ، وهو مسوق لمعرفة عدد الضربات وتحديد اليد، فيقدم على غير المسوق لذلك، والله تعالى أعلم. انتهى كلامه.

وقوله: (فإنه حديث صحيح) فيه ما تقدم.

وقد قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" في (فصل: هديه صلى الله عليه وسلم بالتيمم) ما نصه: كان - صلى الله عليه وسلم - يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين، ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين، ولا إلى المرفقين.

قال الإمام أحمد : من قال: إن التيمم إلى المرفقين فإنما هو شيء زاده من عنده، وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ترابا كانت أو سبخة أو رملا.

وصح عنه أنه قال: حيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طهور .

ولما سافر - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماؤهم في غاية القلة، ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب، ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه، مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره، ومن تدبر هذا قطع بأنه كان يتيمم بالرمل، والله أعلم، وهذا قول الجمهور.

وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى، ثم إمرارها إلى المرفق، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن، إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى، فيطبقها عليها، فهذا مما يعلم قطعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، ولا علمه أحدا من أصحابه، ولا أمر به، ولا استحسنه، وهذا هديه، إليه التحاكم، وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة، ولا أمر به، بل أطلق، وجعله قائما مقام الوضوء وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه. انتهى.

[ ص: 1270 ] السابعة: ذكر هنا الحافظ ابن كثير سبب مشروعية التيمم قال: وإنما ذكرنا ذلك ههنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه: أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير، في محاصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني النضير، وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل، ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب هنا، وبالله الثقة.

قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام ، عن أبيه، عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجالا في طلبها، فوجدوها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوها بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل التيمم، فقال أسيد بن الحضير لعائشة : جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا.

(طريق أخرى) قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أنبأنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1271 ] حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.


وقد رواه البخاري أيضا عن قتيبة بن سعيد ، عن مالك.

ورواه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن مالك .

انتهى كلام ابن كثير .

وأورد الواحدي في "أسباب النزول" هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا.

وقال ابن العربي: لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة .

قال ابن بطال : هي آية النساء أو آية المائدة.

وقال القرطبي: هي آية النساء، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء، فيتجه تخصيصها بآية التيمم.

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن [ ص: 1272 ] المراد بها آية المائدة بغير تردد لرواية عمرو بن الحارث ؛ إذ صرح فيها بقوله: فنزلت: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية.

وقال الحافظ قبل: استدل به (أي: بحديث عائشة ) على أن الوضوء كان واجبا عليهم قبل نزول آية الوضوء، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع.

قال ابن عبد البر : معلوم عند جميع أهل المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل منذ افترضت الصلاة عليه إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند.

قال: وفي قوله في هذا الحديث: (آية التيمم) إشارة إلى أن الذي طرأ عليهم من العلم حينئذ حكم التيمم لا حكم الوضوء، قال: والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ليكون فرضه متلوا بالتنزيل.

قال السيوطي في "لباب النقول" بعد تصويب هذا الكلام: فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة ، والآية مدنية. انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر أيضا في قول أسيد (ما هي بأول بركتكم): يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوي قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباري فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق.

وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع .. الحديث.

فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق؛ لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف.

قال: وسيأتي في المغازي أن البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى ، وقدومه كان في وقت إسلام أبي هريرة ، ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الإفك ما رواه الطبراني من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر : يا بنية! في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس؟ فأنزل الله عز وجل الرخصة [ ص: 1273 ] في التيمم.

فقال أبو بكر : إنك لمباركة (ثلاثا) وفي إسناده محمد بن حميد الرازي ، وفيه مقال.

وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أبهم في حديث الباب، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ.

وقال الإمام شمس الدين ابن القيم في "زاد المعاد" في (غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق): إنها كانت في شعبان سنة خمس، وبعد ذكرها قال: قال ابن سعد : وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه، فنزلت آية التيمم، ثم ساق حديث الطبراني المتقدم، وقال: هذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهر، ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه، فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى. انتهى.

وقد روي سبب نزول الآية المذكورة أيضا عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرس بأولات الجيش ومعه عائشة ، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها أبو بكر ، وقال: حبست الناس وليس معهم ماء! فأنزل الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط.

ورواه أيضا ابن جرير ، عن أبي اليقظان - رضي الله عنه - قال: [ ص: 1274 ] كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهلك عقد لعائشة فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضاء الصبح، فتغيظ أبو بكر على عائشة ، فنزلت عليه الرخصة، المسح بالصعيد، فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة، نزل فيك رخصة، فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط.

وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في سبب نزولها وجها آخر، عن الأسلع بن شريك - رضي الله عنه - قال: كنت أرحل ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء واغتسلت، ثم لحقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فقال: يا أسلع ! ما لي أرى رحلتك قد تغيرت؟ قلت: يا رسول الله! لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال: ولم؟ قلت: إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل الله عز وجل: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى قوله: إن الله كان عفوا غفورا

قال ابن كثير : وقد روي من وجه آخر عنه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg




الساعة الآن : 04:07 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 234.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 233.95 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.21%)]