رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (236) صـــــ(1) إلى صــ(27) شرح زاد المستقنع باب صفة الحج والعمرة [3] ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بعد فراغه من رميه لجمرة العقبة يوم النحر أنه نحر، ثم حلق رأسه عليه الصلاة والسلام، ثم أفاض إلى مكة وطاف بالبيت طواف الإفاضة؛ فلابد من الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في ترتيب مناسك الحج الواجبة والمستحبة، ولقد بين عليه الصلاة والسلام وقت كل منسك، وقال: (خذوا عني مناسككم). بيان ما ينبغي على الحاج يوم النحر بعد فراغه من أعمال منى بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ثم يفيض إلى مكة]. شرع رحمه الله في هذا الفصل ببيان ما ينبغي على الحاج يوم النحر بعد فراغه من رميه لجمرة العقبة، وقد كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه: أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة نحر ثلاثة وستين بدنة؛ والسبب في ذلك: أنه كان قارناً الحج والعمرة، ثم إنه عليه الصلاة والسلام بعد أن نحر حلق رأسه، ثم نزل فطاف طواف الإفاضة. قوله: (ثم يفيض) الإفاضة: أصلها الكثرة، وفاض الخبر إذا شاع وانتشر، وفاض الوادي إذا سال بالماء الكثير، ويسمى هذا الطواف: بطواف الإفاضة، ويسمى: طواف الزيارة، ويسمى: طواف الركن، ويسمى: الطواف الواجب، ويسمى: طواف الصَدَر، بفتح الصاد والدال، كلها أسماء لهذا الطواف، وهذا الطواف يعتبر ركناً من أركان الحج، والأصل في وجوب هذا الطواف وركنيته قوله سبحانه وتعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الحج:29] ، فأمر الله سبحانه وتعالى بهذا الطواف، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه ركن من أركان الحج، إلا أن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله يعبر عنه بالواجب، أما فرضيته ولزومه فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله. ومعنى قوله: (ثم يفيض) أي: يذهب إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة. حكم طواف الإفاضة بالنسبة للمفرد والقارن [ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة].قوله: (ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة) القارن والمفرد أفعالهما واحدة خلافاً للمتمتع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة : (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) وكانت متمتعة في الحج، فمن أفراد الحج فإنه يطوف بنية الركنية، وكذلك من قرن حجه مع العمرة فإنه أيضاً يطوف بنية الركنية، وأما بالنسبة للمتمتع فإنه قد سبقه الطواف والسعي؛ لأنه يتحلل بالعمرة. وطواف الإفاضة بالنسبة للمفرد والقارن يكون على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون المفرد قد قدم إلى مكة وطاف قبل يوم عرفة، وحينئذٍ يكون الطواف الذي يفعله يوم العيد طوافاً عن حجه، ولا يلزمه أن يرمل ولا أن يضطبع؛ وذلك لأنه قد حيا البيت ورمل واضطبع في طواف القدوم الأول. الصورة الثانية: إن كان المفرد إنما قدم إلى عرفة مباشرة أو قدم إلى منى مباشرة ولم يكن قد طاف، فقال جمع من أهل العلم: إنه يرمل في طواف الإفاضة ويضطبع؛ لأن طوافه حينئذٍ يصبح عن الإفاضة وعن القدوم كأنه تحية للبيت. والمفرد والقارن تقدم ضابطهما، فهما يطوفان طواف الإفاضة بنية الركن؛ والسبب في ذلك أن الطواف عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، ومن طاف بالبيت ولم ينو أنه طواف ركن عن إفاضته فإنه لا يجزيه عن الإفاضة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فدل هذا الحديث على أن من نوى الشيء كان له، ومن لم ينوه لم يكن له، فمن نوى الإفاضة كان إفاضة ومن لم ينوه لا يقع عن إفاضته. بيان وقت طواف الإفاضة من حيث الابتداء والانتهاء والأفضلية [وأول وقته بعد نصف ليلة النحر]أي: أن أول وقت طواف الإفاضة بعد نصف ليلة النحر، هذا هو أحد قولي العلماء، واحتجوا بحديث أم سلمة رضي الله عنها: (أنها دفعت من مزدلفة بعد منتصف الليل، ثم رمت جمرة العقبة، ونزلت وطافت وزارت البيت)، ولكن هذا الحديث حديث ضعيف، والذين قالوا: إن طواف الإفاضة يبتدئ من منتصف الليل احتجوا بهذا الحديث، واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للضعفة أن يدفعوا بعد منتصف الليل، ففهموا أن الإذن بالدفع بعد منتصف الليل، يستلزم الإذن بالطواف بعد منتصف الليل، وهذا القول خالفه جمع من العلماء وقالوا: إن طواف الإفاضة مختص بيوم النحر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف الإفاضة يوم النحر، ووقع فعله بياناً لواجب، وبناء على ذلك قالوا: لا يجزي أن يوقعه ليلة النحر، وإنما يبتدئ بطلوع فجر يوم النحر، وهذا القول الثاني أقرب إلى السنة وأقوى من جهة الدليل، خاصة وأن حديث أم سلمة فيه ما ذكرنا من الضعف الذي لا يقوى معه على الاحتجاج. بالنسبة لطواف الإفاضة هناك وقت أفضلية، وهناك وقت ابتداء، وهناك وقت انتهاء. أما وقت طواف الإفاضة فالسنة والأفضل والأكمل أن توقعه بعد طلوع الشمس وقبل زوالها من يوم النحر؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإن وقع طواف الإفاضة بعد الزوال فقد وافق وقت الجواز ولم يوافق وقت الأفضلية، هذا بالنسبة لوقت الأفضلية. أما وقت الابتداء ففيه قولان مشهوران: القول الأول: أنه يبتدئ من منتصف الليل وفيه ما فيه. القول الثاني: يبتدئ بطلوع الفجر من يوم النحر على ظاهر السنة الواردة عن رسول صلى الله عليه وسلم من طوافه يوم النحر. أقوال العلماء في تأخير طواف الإفاضة عن يوم النحر يبقى السؤال: ما هو الزمان الذي يجوز للحاج أن يؤخر طواف الإفاضة إليه؟قال بعض العلماء: إنه لا يؤخر طواف الإفاضة عن أيام التشريق، وإن أخره عن أيام التشريق كره له ذلك. ثم اختلفوا، قال بعض الذين يكرهون ذلك: إن أخره عن أيام التشريق لغير عذر فإنه يلزمه دم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر، وكانت أيام التشريق بمثابة الزمان المعتبر لإيقاع طواف الإفاضة، فإن تأخر عنها فإنه يلزمه دم؛ لأن أفعال الحج تتم بأيام التشريق. وقال بعض العلماء: لا يلزمه دم حتى ينتهي شهر ذي الحجة؛ لأن الله تعالى يقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ )[البقرة:197]، وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كاملة، ففائدة التعبير بالجمع في قوله: (أشهر) يدل على أن آخر ما يقع فيه هذا الركن إنما هو شهر ذي الحجة، وهذا هو أقوى الأقوال، وأن ما وراء ذي الحجة فيه الدم؛ جبراناً للواجب الذي تركه وقصَّر فيه إذا لم يكن له عذر. أما إذا كان عند الإنسان عذر في تأخير طواف الإفاضة، كأن تكون المرأة حائضاً أو نفساءَ فأخرت طواف الإفاضة عن يوم النحر إلى أيام التشريق، أو أخرته عن أيام التشريق إلى آخر ذي الحجة، أو أخرته عن ذي الحجة لعذر، فإنه لا يجب عليها شيء، ويلزمها أن تطوف طواف الإفاضة بمجرد طهرها. ويبقى السؤال: لو أن الإنسان أدى مناسك الحج كاملة، ولكنه رجع إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة، فما الحكم؟ الجواب: أنه ليس لطواف الإفاضة من الزمان حد ينتهي إليه، بل قالوا: إن لم يطف طواف الإفاضة يبقى في ذمته ولو إلى آخر عمره، فلو عاد ولو بعد خمسين سنة فإنه يلزمه أن يطوف طواف الإفاضة، ويبقى في ذمته؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:196] وأمر سبحانه بإتمام الحج، وهذا ركن من أركان الحج فيلزمه أن يوقع هذا الطواف وتبقى ذمته مشغولة بطواف الإفاضة ولو إلى سنوات، هذا بالنسبة لمن أخر طواف الإفاضة، وهذا هو الذي جعل العلماء يقولون: تبقى الذمة مشغولة به ولو إلى آخر العمر. أي: أنه لا بد له من أن يوقعه وأن يأتي به على وجهه. أفضلية الطواف للإفاضة يوم النحر [ويسن في يومه وله تأخيره]أي: ويسن له فعل الطواف يوم النحر؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والخير كل الخير في التأسي به صلوات الله وسلامه عليه، والخير في إيقاع أفعال الحج وأقواله على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحرص المسلم على أنه يوم النحر يوقع أفعال النحر مرتبة كما أوقعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل ويؤدي طواف الإفاضة على الهدي الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت عنه الأحاديث الصحيحة به، فذلك هو الخير كله، فيسن للمسلم أن يحرص عليه، أما جواز التأخير ففيه ما فيه من التفصيل الذي ذكرناه. السعي بعد طواف الإفاضة للقارن والمفرد والمتمتع الذي لم يسع [ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم]قوله: (ثم يسعى بين الصفا والمروة)، وهذا السعي ركن إذا كان الإنسان مفرداً، فالمفرد كما لا يخفى عليه سعي، وهو سعي عن حجه، فإذا كان قد جاء إلى منى أو إلى عرفات مباشرة، فمعنى ذلك: أنه لم يؤد ركن السعي، فإذا طاف طواف الإفاضة أوقع السعي بعد الطواف؛ لأن السعي لا يصح إلا بعد الطواف، فيلزمه بعد فراغه من طواف الإفاضة أن يمضي إلى الصفا والمروة ويؤدي سعي الحج إن كان مفرداً، وإن كان قارناً ولم يكن سعى قبل فحينئذٍ يسعى سعيه، ويكون السعي للقارن على هذا الوجه عن حجه وعمرته، وهكذا إذا كان متمتعاً فإن المتمتع إذا قدم بعمرته وأدى العمرة وتحلل منها، فإنه يلزمه أن يسعى سعياً آخر لحجه، وهذا السعي الآخر للحج يوقعه بعد طواف الإفاضة، حتى يقع سعيه بعد الطواف معتبراً. حقيقة التحلل الأول والثاني وما يباح فيهما [ثم قد حل له كل شيء].قوله: (ثم قد حل له كل شيء) وهذا يسمى: بالتحلل الثاني، فالحج له تحللان: تحلل أول، وتحلل ثان، أما التحلل الأول فللعلماء فيه تفصيل: فمنهم من يقول: التحلل الأول يقع بمجرد رميه لجمرة العقبة، وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا رميتم جمرة العقبة فقد حللتم). وقال بعض العلماء: إذا رمى أو حلق مع الرمي أو طاف فقد تحلل التحلل الأول. والتحلل الثاني إن كان قد طاف. فيقع تحلله بواحد من هذه الثلاث، وليس للنحر عند أصحاب هذا القول دخل، فلا يرون أن النحر مؤثر في التحلل، فإما أن يرمي ويحلق، وإما أن يرمي ويطوف، وعلى هذا قالوا: التحلل الأول يقع بالرمي مع الحلق، أو يقع بالرمي مع الطواف، وإذا رمى وطاف فقد تحلل التحلل الأول والثاني، هذا مذهب طائفة من العلماء، واختاره أئمة الشافعية والحنابلة رحمهم الله. والفرق بين التحلل الأول والثاني فالعلماء متفقون كلهم ومجمعون على أنه إذا تحلل التحلل الأول أنه لا يحل له وطء النساء. واختلفوا إذا تحلل التحلل الأول ما الذي يباح له بهذا التحلل؟ فقال جمع من العلماء: يحل له كل شيء إلا النساء، ثم اختلفوا على قولين: فقال بعضهم: يحل له كل شيء إلا وطء النساء، فيجوز له أن يقبل، ويجوز له أن يباشر، ويجوز له أن يعقد النكاح، ويجوز للمرأة أن تزوج -تنكح وتُنكح- ولكن لا يقع الوطء. هذا الوجه الأول، واحتجوا بحديث صفية رضي الله عنها وهو ثابت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد منها يوم النحر ما يريد الرجل من امرأته، فقيل: يا رسول الله! إنها حائض؟ فقال: أحابستنا هي؟ ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذنْ) قالوا: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد منها ما يريد الرجل من امرأته، وهذا المراد به مقدمات الجماع وليس المراد به الجماع، ولكن الصحيح أنه يحل له كل شيء إلا النساء خاصة، وحديث السنن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) ، فإن هذا الحديث قد جود إسناده غير واحد من أهل العلم وهو يدل على أن مسألة النساء عامة، فتشمل مقدمات النكاح وتشمل كذلك الوطء. هناك خلاف بالنسبة للقول الثاني في مسألة التحلل، قال بعض العلماء: يحل له كل شيء إلا النساء وقتل الصيد، فأضافوا إلى النساء الصيد كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، فإذا تحلل التحلل الثاني حل له الجميع، والصحيح المذهب الأول، خاصة وأن السنة قوية في دلالتها على حلّ كل شيء إلا النساء، هذا بالنسبة للتحلل الأول والتحلل الثاني، ومن الأدلة الصريحة على أن التحلل ينقسم إلى هذين القسمين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب بعد رميه لجمرة العقبة وتحلله التحلل الأول، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه -يعني: في الميقات- ، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت) فلما قالت: (لحرمه قبل أن يطوف بالبيت) دل على أن محظور الطيب يرتفع برميه عليه الصلاة والسلام لجمرة العقبة وتحلله التحلل الأول، وأنه لا يلزم في التحلل الأول أن يطوف بالبيت لظاهر هذه السنة الصحيحة. ماء زمزم لما شرب له [ثم يشرب من ماء زمزم لما أحب، ويتضلع منه ويدعو بما ورد]قوله: (ثم يشرب من ماء زمزم)، وهذه سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما فرغ من طواف الإفاضة أتى سقاية العباس رضي الله عنه وأرضاه، وشرب منها بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه. قال العلماء: في هذا دليل على أن من طاف طواف الإفاضة فالسنة له أن يشرب من ماء زمزم. قوله: (لما أحب) أي: من خيري الدنيا والآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث -وصححه غير واحد من العلماء-: (ماء زمزم لما شرب له) ، وقد اشتهر هذا الحديث عند العلماء رحمهم الله، حتى قال بعض أهل العلم: إن التجربة دلت على صحته فمن شربه للعلم آتاه الله العلم، وقال الإمام أبو بكر بن العربي المفسر المشهور: شربت زمزم وسألت الله العلم وندمت أني لم أسأله مع العلم العمل. وقال بعض السلف: اللهم إنه قد جاء عن نبيك صلى الله عليه وسلم أن ماء زمزم لما شرب له اللهم إني أشربه لظمأ يوم الآخرة. فزمزم ماء له فضل وشرف بثبوت الأخبار والأدلة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يحب هذا الماء، وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في الهدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى واليه بمكة عتاب بن أسيد ، ويأمره أن يوقر البعير بماء زمزم ويبعثه إليه بالمدينة صلوات الله وسلامه عليه. وقال جمع من العلماء: إن لهذا الماء مزية وفضلاً، حتى إنه عرف بالتجربة أنه يقوي القلب، مع ما فيه من فضائل من كونه: (لما شرب له) ولذلك كان بعض الأطباء يوصي به لضعيف القلب أن يشرب منه؛ لما جعل الله فيه من الخير والبركة. ومن الأدلة التي تدل على أنه: (لما شرب له) ما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه أنه لما آذاه المشركون واختبأ تحت ستار الكعبة كان يشرب زمزم وكان يستطعم به من الجوع حتى سمن رضي الله عنه وأرضاه فكان له طعام طعم كما قال عليه الصلاة والسلام: (وما يدريك أنه طعام طعم)، فماء زمزم ماء مبارك، ويشربه الإنسان وينوي به الخير، ونص العلماء والأئمة رحمهم الله على ذلك، وبثبوت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) ، ويحرص الإنسان على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من طواف الإفاضة، بأن يأتي إلى ماء زمزم ويشرب منه، خاصة وأنه تيسر في هذا الزمان سهولة الشرب منه والارتواء منه، فيتضلع منه ويسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة. الدعاء عند شرب ماء زمزم (ويدعو بما ورد).لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء مخصوص لزمزم، وكان ابن عباس يسأل الله فيقول: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء. فكان يسأل الله عز وجل هذا، والأمر في هذا واسع أن يسأل الإنسان من خيري الدنيا والآخرة. وجوب المبيت بمنى [ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليال]ثم بعد انتهائه من طوف الإفاضة وسعيه، يرجع إلى منى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى منى يوم النحر، واختلفت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل صلى الظهر بمكة، أو صلاها بمنى؟ وفي هذه المسألة خلاف مشهور، وأقوى ما ثبت حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى)، والرواية بصلاته بمنى أقوى، وعليه فيرجح القول بأنه صلى بمنى، وما ورد من الروايات بصلاته بمكة أجاب جمع من العلماء: بأن الرواية بكونه صلى بمنى اعتضدت بروايات أخر، حتى صارت الشهادة كاملة، بخلاف رواية جابر أنه صلى بمكة. وثانياً: أن حديث الصلاة بمكة يحمل على الإذن، أي: استؤذن عليه الصلاة والسلام فأذن بالصلاة بمكة، ولذلك قالوا: الأفضل والأكمل أن يصلي الظهر بمنى. وقال بعض السلف رحمهم الله: إذا كان يوم النحر موافقاً ليوم الجمعة، فإن الأفضل له أن يمضي إلى منى ويصلي الظهر بمنى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، وهي أفضل من الجمعة؛ لمكان الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. [فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخيف بسبع حصيات]. يبيت بمنى ليلة الحادي عشر، والمبيت واجب، وهو مذهب جمهور العلماء، خلافاً لأصحاب الإمام أبي حنيفة حيث قالوا: إن المبيت ليس بواجب. والصحيح: مذهب الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية) وقوله: (رخص) يدل دلالة واضحة على أن الأصل عزيمة؛ لأن التعبير بالرخصة يدل على أنها استباحة للمحظور، فدل على أن المبيت بغير منى للحاج محظور عليه من حيث الأصل، فيجب عليه أن يبيت بمنى ليالي التشريق، ثم إذا وجد عنده العذر من اشتغاله بمصالح الحجاج العامة، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم السقي والرعي، فحينئذٍ يجوز له أن يترخص، وأما من عدا هؤلاء فإنه يجب عليهم المبيت بمنى؛ لأن السنة واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بات بمنى، وقد وقع فعله بياناً للواجب، والقاعدة: أن الفعل إذا وقع بياناً لواجب فهو واجب. فاجتمع هذان الدليلان القولي والفعلي، القولي: بالرخصة للعباس ، والفعلي: بمبيته صلوات الله وسلامه عليه بمنى. بيان وقت رمي الجمار وضرورة ترتيبها وأحكامها إذا أصبح اليوم الحادي عشر فالسنة أن ينتظر إلى الزوال، كما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر حتى زالت الشمس، فابتدأ بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات مثل حصى الخذف)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (لما فرغ من رميها تياسر قليلاً واستبطن من جهة الوادي ودعا صلوات الله وسلامه عليه وسأل الله من فضله وقام قياماً طويلاً) حتى جاء في حديث ابن مسعود وغيره: (أنه يقارب سورة البقرة) ، فوقف عليه الصلاة والسلام ودعا بعد رميه الصغرى، وأطال الدعاء وسؤال الله من فضله، ثم انطلق إلى الجمرة الوسطى ورماها بسبع حصيات أيضاً، ثم وقف ودعا ورفع يديه واستقبل القبلة عليه الصلاة والسلام، وأطال في دعائه أيضاً، ثم مضى إلى جمرة العقبة ورماها بسبع حصيات من بطن الوادي، ولم يقف بعدها وإنما انصرف صلوات الله وسلامه عليه، هذا بالنسبة لأفعال اليوم الحادي عشر: أولاً: بات ليلة الحادي عشر بمنى. ثانياً: أنه انتظر إلى زوال الشمس من يوم الحادي عشر. ثالثاً: أنه رمى الجمرات الثلاث. رابعاً: أنه رتب هذا الرمي وابتدأ بالصغرى قبل الوسطى، وبالوسطى قبل الكبرى، وعلى هذا فإنه لا يجوز له أن يرمي قبل الزوال؛ وذلك لأنها عبادة مؤقتة، والعبادات المؤقتة لا تصح قبل زمانها إلا بدليل شرعي، كما في الجمع بين الصلاتين إذا قدمت الثانية في وقت الأولى، ومن هنا نجد العلماء والفقهاء رحمهم الله حينما ذكروا الرمي قبل الزوال قالوا: لا يصح الرمي قبل الزوال كما لا تصح صلاة الظهر قبل الزوال، بجامع كون كلٍ منهما عبادة مؤقتة، فالرمي عبادة مؤقتة، وصلاة الظهر عبادة مؤقتة،كما أنه لا يجوز للمسلم أن يعتدي على الشرع بمجاوزته لهذا التأقيت بالسبق، فيصلي الظهر قبل زوال الشمس، أو يصلي المغرب قبل غروب الشمس، فإنه لا يجوز له أيضاً أن يعتدي على الشرع فيرمي قبل هذا الوقت المحدد المعين، وعلى هذا فإنه لا يجزيه الرمي قبل الزوال. وحكم الرمي قبل الزوال يطّرد في الثلاثة الأيام: اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر لمن لم يتعجل، وأما ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: (إذا انتفخ النهار من اليوم الثالث عشر فارم) ، فيجاب عن هذا الحديث سنداً ومتناً: أولاً: من جهة السند: فإن الحديث الذي دل على وجود الرمي بعد الزوال من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح وأثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وثانياً: من جهة المتن: فإن قوله: (انتفخ) فإن النهار لا يوصف بكونه منتفخاً، والشيء لا تصفه بكونه قد أخذ حظه إلا إذا جاوز النصف بحيث يصدق عليه أنه دخل في الكمال، وعلى هذا فإنه لا يصدق على النهار أنه قد استتم على الوجه المعتبر إلا من بعد الزوال، فكأن ابن عباس يريد أن يؤكد السنة التي وردت في هديه عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فإن القول الأخير بالرخصة أنه يجوز الرمي قبل الزوال قول مرجوح، والسنة على خلافه. وهنا ننبه على مسألة مهمة وهي: أننا إذا قلنا للناس: اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وارموا بعد الزوال في اليوم الأخير، وهو يوم النفر الأخير، تجدهم يقولون: إن الزمان قد تغيّر، وإن الناس يحطم بعضهم بعضاً، وكذا وكذا، وحينئذٍ يكون الجواب: إن هذه عبادات توقيفية، وأن مقصود الشرع من الحج هذا الزحام الذي تراه، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة : (يا رسول الله! هل على النساء جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) ، فكأن الشرع قصد أن يقف الناس على هذا الوجه، وأن يجتهد المسلم، وأن يجد العناء والمشقة، حتى يأتي الغني والفقير، والرفيع والوضيع، والجليل والحقير، فيجد الزحام، ويحتك بإخوانه، فتجد الذي لا يعاشر الناس ولا يخالط الناس كالغني والثري يدخل في زحمة الناس وحطمة الناس، وهذا يدفعه وهذا يهينه، فيحس بلذة العبادة، ويشعر بقيمة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. فالمقصود من هذه العبادة: وجود المشقة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليهن جهاد)، والجهاد بذل الجهد والوسع والطاقة، فالحج بمثابة الجهاد، وليس المراد من ذلك أن نكلف الناس ما لا يطيقون، بل إن هذا الزحام وهذه المشقة إذا تأملتها فهي مقدور عليها، وليست بمشقة -والحمد لله- لا يقدر عليها، إنما الخطأ ليس في التشريع، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له، فكثير من الذين يحبون التوسعة على الناس، ولو على حساب النصوص تجدهم يقولون: إن هذا فيه أذية للناس وفيه ضرر وفيه وفيه، نقول لهم: ليس الخطأ في التشريع، وينبغي أن يفرق بين حكم الله وبين أعمال الناس، وطريقة أداء الناس للشعائر، وقيامهم بالمناسك، فإنك لو تأملت هذه العبادة، ولو أن كل مسلم حافظ على حرمة أخيه المسلم، ودخل لرميه أو طوافه أو سعيه متأدباً بآداب الإسلام، محافظاً على حقوق المسلمين، فإنك لا ترى إلا الخير، ولا ترى ما يسوء المسلم أو يؤذيه، ولكن الخطأ في أفعال الناس، وإذا أخطأ الناس في أفعالهم فإن هذا لا يدعونا إلى إلغاء شرع الله، أو التقديم لما حقه التأخير، أو التأخير لما حقه التقديم. فمسائل الفتوى في العبادات توقيفية، إلا فيما فتح الشرع فيه الاجتهاد، فمواقيت الرمي مواقيت تعبدية، وينبغي للمسلم أن يعلم أنه إذا قيل له: إن الاجتهاد يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، أن تقول في جواب هذا: إن الاجتهاد يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة فيما هو محل للاجتهاد، أما العبادات التوقيفية والتي ورد الشرع فيها بالإلزام بزمان معين، أو مكان معين فإنه لا يجوز للمسلم أن يقدم على تغيير هذه الصورة المعينة إلا بدليل توقيفي، فكما أنها ثبتت بالدليل التوقيفي لا يجوز تغييرها إلا بدليل توقيفي، وعلى هذا فإننا نقول: لا نستدرك على الله في شرعه، والله أمرنا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والتأسي به، وقد ثبتت السنة عنه عليه الصلاة والسلام أنه رمى بعد الزوال في اليوم الثالث وهو يوم التعجل، فإننا لا نرخص للناس ولا نرى وجهاً للترخيص بجواز الرمي قبل الزوال؛ لأن السنة صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت بياناً لهذه العبادة الواجبة، والقاعدة في الأصول: أن بيان الواجب يعتبر واجباً. وعلى هذا نخلص إلى أن الرمي يعتبر من واجبات الحج، وهذا الرمي يدخل فيه يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وينبغي على المسلم أن يراعي الزمان، وأن يراعي الترتيب، فلا يرمي الوسطى قبل الصغرى، ولا يرمي الكبرى قبل الوسطى والصغرى، ولو أن إنساناً رمى الجمرة الكبرى ثم الوسطى ثم الصغرى فإنه يقع رميه عن الصغرى ويلزمه أن يعيد الوسطى ثم يرمي بعدها الكبرى؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع الرمي مرتباً، قال جمهور العلماء: ومعنى ذلك: أنه لا يصح رميه للثانية إلا بعد فراغ ذمته من الأولى، ولا يصح رميه للثالثة وهي الكبرى إلى بعد فراغ ذمته من الوسطى وهي الثانية، فينبغي الترتيب وإيقاع الرمي على هذه الصفة المرتبة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك لو ابتدأ بالوسطى ثم رمى الكبرى ثم رجع للصغرى، فإن الحكم نفسه؛ يصح رميه للصغرى، ولا يصح رميه للوسطى ولا للكبرى، وعلى ذلك فإنه يلزمه أن يرتب على هذه الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجزي رمي الجمرة إذا كانت مرتبة عن ما قبلها إلا بعد إبراء الذمة برمي التي قبلها؛ لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع الرمي على هذه الصفة. جعل الجمرتين الصغرى والوسطى عن يساره بعد رميهما عند الدعاء [ويجعلها عن يساره، ويتأخر قليلاً ويدعو طويلاً ثم الوسطى مثلها]قوله: (ويجعلها عن يساره) يجعل الجمرة عن يساره، أي: إذا أراد الدعاء ينحرف ذات اليسار، ثم قال بعض العلماء: يسهل، يعني: يكون إلى جهة السهل، وهذا قِبَلَ البناء وقِبَلَ البيوت، فيكون السهل ومجرى الوادي متياسراً عنك، فالسنة بعد فراغك من رميك للصغرى أن تمشي كأنك ماض إلى الوسطى وتأخذ ذات اليسار قليلاً، هذا هو الذي يعبر عنه العلماء: بالإسهال، ويعبر العلماء عنه أيضاً: بأخذ ذات اليسار بعد الرمي. عدم الوقوف عند جمرة العقبة بعد رميها من بطن الوادي [ثم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها ]جمرة العقبة سبق وأن ذكرنا أن لها موضعاً مخصوصاً من الرمي وهو بطن الوادي؛ والسبب في ذلك أن جمرة العقبة كانت في حضن الجبل، وعلى هذا لم يكن لها موضع للرمي إلا جهة واحدة، وهذه الجهة المعينة وهي نصف الحوض هي التي يقع فيها الرمي، فلو رماها من غير هذه الجهة قالوا: إنه إذا وقع حصاه خارجاً عن هذا النصف لم يجزه، ولابد من التقيد بهذا القدر الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محل الرمي؛ لأن العبرة في الرمي بالحوض، فإذا كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف الحوض بهذه الصفة فمعناه: أن البقية من الحوض والباقي من جهة الجبل ليس بمحل للرمي، فلو وقعت فيه الحصاة فقد وقعت خارجاً عن محل الرمي، ولذلك لا يجزي أن يرميها إلا من هذا الموضع، لكن قال بعض العلماء في القديم -قبل أن يزال الجبل-: إنه لو رقى الجبل ورماها من الجبل ووقعت حصاته بالجبل فإنه يجزيه، وهو قول طائفة من العلماء؛ لأن الرمي قد وقع، والعبرة بالرمي، وعلى هذا تبرأ ذمته بالإيقاع داخل الحوض، سواء كان من بطن الوادي وهو أفضل، أو كان من على الجبل وهو خلاف السنة، ولكن الأحوط والأفضل أن الإنسان يتحرى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم برميها من بطن الوادي ويكون مستقبل القبلة على الصفة التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ لثبوت الخبر عنه عليه الصلاة والسلام في رميه يوم العيد وبقية أيام التشريق على هذا الوجه المعين. قوله: (ولا يقف عندها). أي: ولا يقف عند جمرة العقبة بإجماع العلماء، ولذلك بعض العلماء يقول: إنما يشرع الوقوف بعد الرمي إذا كان بعده رمي، وعلى هذا فالجمرة الصغرى إذا رماها فإنه يقف عندها؛ لأن بعدها رمياً وهو رمي الوسطى فيشرع له الوقوف، والجمرة الوسطى إذا رماها فإنه يقف عندها؛ لأن بعدها رمياً وهو رمي جمرة العقبة فيشرع الوقوف، وجمرة العقبة ليس بعدها رمي وإنما يكون بعدها فراغ من نسك الرمي، سواء في يوم العيد أو أيام التشريق، فلا يشرع الوقوف بعد رميها. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (237) صـــــ(1) إلى صــ(27) مشروعية استقبال القبلة عند رمي الجمار [يفعل هذا في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال مستقبل القبلة مرتباً]قوله: (يفعل هذا) أي: يفعل هذا الفعل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، مرتباً إياه على الصفة التي ذكرناها؛ لأن السنة وقعت بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب.حكم جمع الرمي إلى اليوم الثاني أو الثالث [وإن رماه كله في الثالث أجزأه]وإن رمى الجمرات كلها في الثالث أجزأه، استدلوا برخصته عليه الصلاة والسلام للرعاة والسقاة أن يجمعوا رمي اليومين في اليوم الثاني، وكذلك أن يجمعوا رمي اليومين الأخيرين في اليوم الأخير، قالوا: فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالجمع دل على أن الوقت يتداخل، وأنه يجوز أن يجمع، ولكن هذا على سبيل العذر دون غير المعذور كما يقول جمهور العلماء، وعلى هذا فلا يجوز للمسلم أن يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بترك الرمي ليوم الحادي عشر أو اليوم الثاني عشر، ويجمع الرمي دفعة واحدة، وإنما عليه أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوقع الرمي في الأيام الثلاثة، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجوب النية في الرمي مع الترتيب وجواز التوكيل فيه [ويرتبه بنيته].ويرتب الرمي بالنية؛ لأن الرمي عبادة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)؛ والرمي عمل تعبدي ولا يصح إلا بنية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، فلابد وأن ينويه، وإذا كان وكيلاً عن الغير في الرمي كأن يكون مريضاً، ويكون الإنسان مثلاً عاجزاً كالمشلول، أو يكون مريض القلب الذي لا يمكنه أن يدخل في زحام ليرمي، أو مجروح اليد على وجهٍ لا يمكنه الرمي، فإن هؤلاء يوكلون، وهكذا الحطمة من الناس، الذين يغلب على الظن أنهم لو دخلوا في الزحام لماتوا، أو لتضرروا ضرراً لا يمكن الصبر عليه، أو تلحق بهم مشقة فادحة بحيث لا يكلفون بمثلها، فهؤلاء إذا وكلوا الغير فإنه يشترط في الوكيل أن يكون حاجاً، فلا يصح الرمي وكالة ممن لم يحج، فلو أخذ الحصى وقال لرجل: ارم عني، وكان هذا الرجل غير حاج فإنه لا يجزيه؛ لأن هذه العبادات لا تصح إلا من الحاج، بل لابد وأن يكون متلبساً بالنسك، فإذا كان متلبساً بالنسك وأراد أن يرمي يبدأ رمي الثلاث الجمرات عن نفسه أولاً؛ حتى تبرأ ذمته عن الرمي كاملاً، ثم يرجع ويرمي عن موكله الجمرات الثلاث، سواء كان واحداً أو أكثر من واحد، فلا بأس أن يتوكل عن واحد فأكثر، ولا بأس أن يتوكل الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل، على الأصل الذي ذكرناه في باب الوكالة في الحج. حكم تأخير الرمي وعدم المبيت بمنى [فإن أخره عنه أو لم يبت بها فعليه دم]أي: إن أخر الرمي عن اليوم الثالث الأخير، أو لم يبت بمنى، الباء للظرفية، بمعنى: في منى؛ لأن من معاني الباء الظرفية، فتقول: محمد بالبيت، أي: في البيت، أي: في داخله. والمبيت بمنى ذكرنا أنه واجب، وحينئذٍ ينبغي أن يكون مبيته داخل حدود منى، ومنى حدها كما لا يخفى من جمرة العقبة إلى وادي محسر، وجمرة العقبة على أصح الأقوال لا تدخل في حدود منى؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه كان يأمر بطرد الناس وإدخالهم إلى منى، فمن وجدوه عند جمرة العقبة وبعدها أمروه أن يدخل إلى منى. أما وادي محسر ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله: - فمن يقول باتصال المشعرين مزدلفة ومنى يرى أن وادي محسر من منى. - ومن لا يرى الاتصال يراه فاصلاً، وأنه مكان غضب وسخط، ولذلك حرك عليه الصلاة والسلام دابته -كما ثبت في الحديث الصحيح- حينما دفع من مزدلفة إلى منى عندما مر بهذا الوادي. وأما بالنسبة للجهة الشرقية إلى الجنوب، والغربية إلى الشمال فيكتنف منى جبلان: أحدهما يسمى: جبل ثبير، والثاني يسمى جبل الصانع، وهذان الجبلان قد أجمع العلماء على أن ما أقبل منهما من منى وما أدبر منهما ليس من منى، والحد بالقمم، فقمم الجبال هي الفاصل، فإذا كان على القمة فهو على الشبهة، وإنما يكون دون القمة، يعني: دون منتصف الجبل من قمته، فما كان من هذا فما دون فإنه من منى، وما كان من القمة وما وراءها فإنه يعتبر خارجاً عن منى، ولا بد أن يتحقق المبيت بكل الليل أو بأكثر الليل، وأما إذا كان جزءاً من الليل فللعلماء فيه خلاف مشهور: قال بعض العلماء: من اضطجع ونام بمنى ولو سويعات فقد بات بها. وقال بعض العلماء: إن المبيت يتحقق بالثلث فأكثر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) . وإذا قلنا: أكثر الليل، فللعلماء وجهان في ضابط الليل: قال بعض أهل العلم: تحسب من غروب الشمس إلى طلوعها، ثم تقسم على اثنين، وتضيف الناتج إلى ساعة الغروب، فلو كان غروب الشمس في السابعة وطلوع الشمس في السادسة، فهذه إحدى عشرة ساعة، تقسمها على اثنين فتصير خمس ساعات ونصفاً، تضيفها إلى سبع، فيكون منتصف الليل حينئذٍ عند الساعة الثانية عشرة والنصف، هذا بالنسبة لنصف الليل الأول، ثم ما بعد ذلك إذا كان قد دخل إلى حدود منى قبل الساعة الثانية عشرة والنصف، فإنه يكون قد بات بمنى أكثر الليل، وأما إذا كان بعد الثانية عشر والنصف أو في الثانية عشرة والنصف فإنه لم يتحقق المبيت أكثر الليل. وقال بعض العلماء: يحسب أكثر الليل من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، وهو أذان الفجر، فيرون أنه من مغيب الشمس، فإذا كان المغيب على السابعة وأذان الفجر على الخامسة مثلاً، فحينئذٍ تحسب ما بين السابعة وبين الخامسة وهي عشر ساعات تقريباً، وحينئذٍ تقسمها على اثنين وهي خمس ساعات، فتقول: إذا دخل قبل الثانية عشرة فإنه يعتبر قد أدرك أكثر الليل وسقط عنه الدم وإلا فلا، هذا بالنسبة لمسألة المبيت. ويتحقق المبيت بمضي أكثر الليل والإنسان في منى، سواء مضى عليه وهو نائم، أو مضى عليه وهو مستيقظ، فإن من كان في حدود منى فقد بات بها، سواء نام أو لم ينم، ولكن السنة أن ينام تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. حقيقة التعجل ووجوب المبيت والرمي لغير المتعجل [ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب وإلا لزمه المبيت والرمي من الغد].قوله: (ومن تعجل في يومين) المراد بذلك: أن يتعجل في اليوم الثاني عشر فيخرج من حدود منى قبل مغيب الشمس، فإذا غابت عليه الشمس وهو خارج حدود منى فقد تعجل، والعجلة تستلزم من المسلم أن يأخذ بأسباب التعجل، وذلك بالاحتياط والتحفظ؛ لأن التعجل ورد في صيغة القرآن، في قوله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:203]، هذا اللفظ الذي نص عليه القرآن يدل على شيء من التكلف، وأخذ الحيطة والحزم في الأمر، أما لو أنه قصر وغابت عليه الشمس ولو كان مرتحلاً وعجل فللعلماء فيه وجهان: جمهور العلماء -والمنصوص عليه عند الأئمة-: على أنه يعتبر ملزماً بالمبيت؛ لأنه لم يتعجل حقيقة، وفرق بين تعجل الصورة وتعجل الحقيقة؛ لأن الله يقول: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:203] وفي للظرفية، ومعنى ذلك: أنه قد حصلت العجلة والخروج من حدود منى في اليومين، واليومان المراد بهما: الحادي عشر والثاني عشر، بمعنى: أنه قد خرج من حدود منى قبل أن تغيب عليه شمس اليوم الثاني عشر، واشترط بعض العلماء: أن يكون تعجله وخروجه من منى على التقوى؛ وذلك لقوله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifلِمَنِ اتَّقَى https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:203] والمراد بالتقوى كما يقول بعض السلف: أن لا يخرج سآمة من الحج وفراراً من كلفة الحج، كما يفعله بعض العامة، فإنه يريد أن يتعجل لا من باب التقوى وإنما يتعجل سآمة وفراراً من تكاليف الحج، وحينئذ ٍقالوا: لم يتحقق فيه الشرط، ولا يجوز للمسلم أن يسأم العبادة والخير والطاعة والقربة، ولذلك ينبغي لمن تعجل أن ينتبه لهذا الأمر، وهو أن لا يخرج من مشعر منى كارهاً العبادة -والعياذ بالله-، أو سائماً منها أو فاراً من كلفتها وتبعتها، وإنما يخرج على سبيل التقوى والاسترخاص برخص الله كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم برخص الله التي رخص لكم) . قوله رحمه الله: (خرج) هذا يدل دلالة واضحة على أنه لابد وأن يتحقق الخروج، فإذا لم يحصل الخروج فإنه لم يتعجل، وهذا كما ينص عليه جماهير أهل العلم من السلف رحمهم الله ومن بعدهم: أنه لابد من حقيقة التعجل وذلك إعمالاً لنص القرآن على ظاهره: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:203]، وحقيقة التعجل أن يخرج من حدود منى، فإذا خرج من حدود منى بمتاعه ورحله، وأدركه المغيب وهو خارج حدود منى ولو بخطوة واحدة فقد تعجل حقيقة، وحينئذٍ يسقط عنه مبيت اليوم الأخير والرمي عن اليوم الأخير، أما لو خرج عن حدود منى قبل المغيب ثم رجع بعد المغيب وأخذ متاعه فليس بمتعجل، وإنما هو محتال على الشرع ويلزمه المبيت الليلة الأخيرة ويلزمه الرمي لذلك اليوم؛ لأنه لم يتعجل حقيقة، وعبر المصنف بالخروج لكي يدل على أنه إذا لم يقع منه الخروج الحقيقي فليس بمتعجل، ويلزمه ما يلزم من لم يتعجل من مبيت الليلة الأخيرة والرمي إعمالاً للأصل الذي ذكرناه. وجوب طواف الوداع وأن يكون آخر العهد بالبيت هذا الطواف [فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يطوف للوداع]قوله: (فإذا أراد الخروج) بمعنى: أنه تهيأ للخروج، لم يخرج من مكة حتى يطوف طواف الوداع، ويسمى: طواف الصَدَر أيضاً، وسمي طواف الوداع؛ لأن الحاج يودع به البيت، والأصل في هذا الطواف: أن الناس كانوا يصدرون من فجاج منى وعرفات إلى بلدانهم، قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح : (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)، هذا الطواف يسمى: طواف الوداع؛ لأنه آخر ما يكون من الحاج كأنه يودع البيت بالطواف عليه. لزوم إعادة طواف الوداع لمن اتجر بعده [فإن أقام أو اتجر بعده أعاده]قوله: (فإن أقام) بمكة (أو اتجر) أي: إذا باع واشترى فإن عليه أن يعيد طواف الوداع؛ لأن طواف الوداع يشترط فيه أن يخرج مباشرة وقوله: (أو اتجر) فيه تفصيل: التجارة تقع بالبيع والشراء، ومن باع أو اشترى بعد طواف الوداع فله حالتان: الحالة الأولى: أن يقع بيعه وشراؤه على وجه يستعين به على الخروج، كأن يشتري زاداً لراحلته أو يشتري طعاماً لدابته، وفي زماننا لو توقف لوقود السيارة أو تغيير زيت السيارة مثلاً، فهذا التأخر في حكم الخروج؛ لأن المراد به الاستعانة به على الخروج، واغتفر العلماء مثل هذا في الرواحل في القديم، وهو مغتفر في زماننا في السيارات الموجودة ووسائل النقل الموجودة، ولو أراد أن يحجز وحجز لسفر في مركوب أو نحوه وتهيأ للركوب وأخذ يتهيأ له فظل ساعة أو ساعة ونصفاً وهو يتهيأ للسفر والذهاب إلى محطة السفر أو نحو ذلك، فهذا التأخر كله مغتفر إذا كان يسيراً، أما إذا تفاحش فإنه يلزمه الرجوع وإعادة طواف الوداع. الحالة الثانية: أن يتجر على وجه لا يقصد به الاستعانة على الخروج فإنه يُلْزَمُ بالرجوع لإعادة طواف الوداع، فلو خرج واشترى هدية لأولاده أو لزوجه أو لأقاربه، فإنه يلزمه أن يرجع بعد شرائه ويطوف طواف الوداع مرة ثانية؛ حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف، فإذا كان آخر عهده بالحج التجارة، فإنه يلزمه أن يرجع ويكون آخر عهده بالبيت الطواف، على الصفة الشرعية لمكان التعبد، ولذلك قال المصنف: (فإن أقام أو اتجر أعاده) أي: أعاد طواف الوداع بعد ذلك الفعل، الذي لا يعد من جنس الطواف ولا من جنس الخروج. ترك طواف الوداع للحائض والنفساء [وإن تركه غير حائض رجع إليه].هذا الطواف للعلماء فيه وجهان: أصحهما الوجوب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)؛ ولقول أم المؤمنين عائشة : (فأمروا) والأمر يدل على الوجوب، لكن يرخص للمرأة الحائض والنفساء، فالمرأة الحائض والنفساء تنفر وتصدر مباشرة دون أن تلزم بطواف الوداع؛ لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والنفساء) ، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما ذكر له أن صفية قد حاضت، قال: عقرى حلقى أحابستنا هي؟! ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر -يعني: طواف الإفاضة- قالوا: نعم، قال: فلا إذن -وفي رواية: انفري-) ، فأمرها بالنفر مع أنها لم تكن قد طافت طواف الوداع، وهذا يدل على الرخصة في طواف الوداع بالنسبة للمرأة الحائض والنفساء. لزوم الدم على من ترك طواف الوداع وشق عليه الرجوع [وإن تركه غير حائض رجع إليه]وإذا خرج الإنسان من مكة وترك طواف الوداع أو نسيه، ثم تذكره فلا يخلو من حالتين: إما أن يتذكره قبل مسافة القصر فحينئذٍ إذا رجع سقط عنه الدم، وأما إذا تذكره بعد مسافة القصر فإنه يلزمه الدم، سواء رجع أو لم يرجع. [فإن شق أو لم يرجع فعليه دم] لأنه واجب، والواجب يجبر بالدم كما قررناه وذكرنا دليله غير مرة. دخول طواف الوداع تحت طواف الإفاضة إن أخر [وإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأ عن الوداع]قوله: (وإذا أخر طواف الزيارة) وهو الإفاضة، قوله: (طواف الزيارة) كره بعض السلف تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة، وقد أُثر عن الإمام مالك رحمه الله أنه كره هذه التسمية، ولكن جمهور العلماء على جواز التسمية بطواف الزيارة؛ لأن مسلماً أورد في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية : ألم تكن زارت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إِذَنْ) فسمى طواف الإفاضة: زيارة، فدل على جواز هذه التسمية، وأنه لا مانع منها ولا كراهة. فإذا أخر طواف الزيارة، كالمرأة الحائض تؤخر طواف الزيارة عن يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، ثم تطوف طواف الزيارة وتسافر مباشرة، فحينئذٍ يدخل طواف الوداع تحت طواف الإفاضة؛ لأن القاعدة في الشرع: أنه إذا اندرج الأصغر تحت الأكبر وتحقق المقصود فإنه يجزيه الفعل الواحد. ووجه ذلك: أن المقصود من طواف الوداع أن يكون آخر عهد الإنسان بالبيت الطواف، فإذا طاف طواف الإفاضة فإنه سيكون آخر عهده بالبيت الطواف، وحينئذٍ يجزيه طواف الإفاضة عن طواف الوداع، ويسقط عنه طواف الوداع ولا حرج عليه في ذلك، وعلى هذا قال العلماء إذا أخره مع العذر، أما إذا لم يوجد العذر فخلاف السنة، فالسنة أن يطوف الإنسان يوم النحر وأن يحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به. أقوال العلماء في وقوف غير الحائض بين الركن والباب [ويقف غير الحائض بين الركن والباب داعياً بما ورد].هذا يسمى: الملتزم، وخفف العلماء فيه وقالوا: لا بأس أن يلتزمه الإنسان بأن يلصق صدره به ويدعو ويسأل الله عز وجل من فضله، وينبغي أن يكون خالياً من المحظور، كالتمسح بجدران الكعبة والاعتقاد في هذا الموضع، يعني: لا يجوز للمسلم أن يحدث في مثل هذه الأمور التعبدية زائدة عن الوارد، وإنما قالوا: أثر عن بعض السلف رحمهم الله وفيه حديث مرفوع لكنه تكلم في سنده، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن بعض الصحابة أيضاً، وأشار المحب الطبري في كتابه: القرى لقاصد أم القرى، إلى آثار في ذلك، فالوارد عند الملتزم قالوا: يلتزم ويدعو ويسأل الله من فضله، ولا بأس بذلك ولا ينكر على الإنسان إذا فعله، إما إذا كان هناك زحام وتأذى الطائفون بوقوف الإنسان في هذا فإنه يتقي هذا؛ لأنه لا يجوز أذية الطائف، والطواف في البيت هو المقصود، وهي عبادة مقصودة أكثر من الالتزام، ولا ينبغي للإنسان أن يحرص على شيء لم تثبت فيه سنة قوية ثابتة، ومع ذلك قد يؤذي فيه الطائفين، أو يقع في محظور، كمزاحمة النساء ونحو ذلك، فعلى الإنسان أن يتقي مثل هذا، وليس هناك دعاء مخصوص وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا. عدم مشروعية الوقوف بباب المسجد الحرام للمرأة الحائض يقول رحمه الله: [وتقف الحائض ببابه وتدعو بالدعاء].قوله: (وتقف الحائض بابه) يعني: باب المسجد الحرام؛ لأن الحائض لا تدخل المسجد، وتدعو بما ورد، ووقوف المرأة هذا الوقوف فيه تكلف ولم يثبت به نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك حاضت صفية ولم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقف هذا الموقف، ولذلك لا وجه لهذا ولا أصل له، بل إن المرأة الحائض تصدر من مكانها، وليس لهذا الوقوف داعٍ، وتكلف المجيء إلى المسجد على هذا الوجه ليس له داع، فلا وجه للأمر به والتعبد به على هذه الصفة إلا إذا ثبت نص صحيح، وليس ثم دليل يدل على ذلك، وعليه فإنه لا يشرع للمرأة الحائض أن تقف على هذا الوجه، أو تتكلف المجيء إلى المسجد لهذا الدعاء وهذه المسألة. عدم مشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره [وتستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه]قوله: (وتستحب) الاستحباب حكم شرعي، وقولهم: (تستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الاستحباب لم يرد دليل عليه، بل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) ، فدل على أنه لا يجوز شد الرحال في السفر لزيارة القبور، سواء كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر صاحبيه أو قبر غيرهم من الصالحين أو أي قبر، فلا يجوز للمسلم أن يشد الرحال لزيارة القبور، ولا للدعاء عندها، ولا للذبح ولا للنذر، ومن نذر شيئاً من ذلك فلا يلزمه الوفاء به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شد الرحال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ، فدل على أن النذر إذا لم يكن على الصفة الشرعية أنه لا يلزم الوفاء به، وعلى هذا فإن قوله: (يستحب شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه) خلاف السنة، وخلاف الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا تشد الرحال)، وإنما المسنون أن يسافر وينوي من أجل زيارة المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فينوي زيارة المسجد. وقد فضل الله مسجد نبيه وحبيبه صلوات الله وسلامه عليه على غيره من المساجد، عدا المسجد الحرام، فينوي زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وينوي الصلاة في المسجد ولا ينوي زيارة القبر، وإنما ينوي هذه الزيارة الشرعية ويشد الرحال من أجل المسجد، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رغب في ذلك بقوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وإذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغي له إذا دخل المسجد أن يبدأ بتحية المسجد قبل أن يبدأ بأي شيء، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح في قصة المسيء صلاته: (فإن المسيء صلاته لما دخل المسجد جاء وركع ركعتين ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ارجع فصلِّ) قال العلماء: في هذا دليل على أن من دخل المسجد ينبغي أن يبدأ أول ما يبدأ بتحية المسجد؛ لأن الرجل ابتدأ بتحية المسجد ثم سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن السنة أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من التحية مضى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام الشرعي، ثم يسلم على أبي بكر ، ثم يسلم على عمر وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وسأل الله لنبيه عليه الصلاة والسلام الوسيلة، ثم بعد ذلك ينصرف، ولا يستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستغاثة والاستجارة والدعاء كلها أمور لا يجوز صرفها لغير الله جل جلاله، فإن الله لا يأذن لعبده أن يدعو سواه، أو يستغيث بأحد عداه، أو يستجير به، فإنه لا يملك النفع أو الضر إلا الله جل جلاله، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، فلا يجوز أن يقول: يا رسول الله! اشفني، أو يا رسول الله! عافني، أو يا رسول الله! أغثني، أو يا رسول الله! مدد، فإنه لا يشفي ولا يكفي ولا يجير ولا يدفع السوء إلا الله، ولا يقول: يا رسول الله! حقق لي سؤلي، أو اشفع لي عند ربي، أو نحو ذلك من الأمور التي لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى بالشرك في مكان آخر، فضلاً عن يأتي الإنسان لزيارته والسلام عليه صلوات الله وسلامه عليه ويشرك عند قبره، فالحرمة أعظم، وعلى من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراعي الأدب، فلا يرفع صوته عند قبره وإنما يغض من صوته ويسلم السلام الشرعي، ولا يتكلف بطول القيام وهو يمطط العبارات وينمق الكلمات، أو يغلو في وصفه عليه الصلاة والسلام، وإنما يسلم سلاماً شرعياً كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيونه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الوارد، وهذه هي الزيارة الشرعية. وأما أن يقف الإنسان الوقفات الطويلة، وهو يمطط العبارات ويترنم بالكلمات، ولربما تكون -والعياذ بالله- مشتملة على صرف حق الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقول: يا مغيث الملهوفين! ويا ملاذ الهاربين! ويا أمان الخائفين! هذا كله ليس إلا لله جل جلاله، فلا أمان إلا من الله، فهو الذي يؤمِّن الخائف، وهو الملاذ للهارب والمعين للمستعين، والغوث للمستغيث، والمجير للمستجير: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifأَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[النمل:62] سبحانه لا إله إلا هو، فالله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل هذا الأصل وهو: أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يفرده بالعبادة، وأن يصرف حق الله لله خالصاً، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يستهين بمثل هذه الأمور، فبين الإسلام والشرك كلمة واحدة، فلو قال: يا رسول الله! اشفني، فإنه شرك أكبر -نسأل الله السلامة والعافية-، أو قال: أغثني، أو أدركني، أو المدد؛ كل ذلك من الشرك الأكبر، الدعاء والاستغاثة والاستجارة بغير الله كائناً ما كان ذلك المغاث به، سواءً كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، من الشرك الأكبر، قال الله عز وجل: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifأُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الإسراء:57]، فالله عز وجل ذكر عن هؤلاء الصالحين الذين يُعْبَدُون من دون الله، قيل: إنها نزلت في عيسى بن مريم حين عبدته النصارى واتخذته إلهاً من دون الله، فقال الله: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifأُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الإسراء:57]، فهؤلاء الصالحون يدعون الله ويلتجئون إلى الله، فحري بالمسلم أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن لله حقاً ولرسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، ولا يجوز صرف حق الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام ما بعث ولا أرسل إلا من أجل هذا الأصل، وهو: إفراد الله بالعبادة، وصرف ما لله خالصاً لوجهه الكريم، والله يخاطب رسوله عليه الصلاة والسلام ويقول له: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الزمر:65-66] ، أي: كن من الموحدين المخلصين له سبحانه وتعالى. فينبغي على المسلم أن يفرد الله بالعبادة، وأن يصرف حق الله خالصاً لوجهه، مثل: الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من الحقوق التي لا ينبغي صرفها إلا لله سبحانه وتعالى لا شريك له، وخاصة إذا كان المسلم قد جاء إلى الحج، فبينه وبين الله عهد وهو يقول: لبيك لا شريك لك لبيك، فمعنى ذلك: أنه سيفرد الله بالعبادة ولا يصرف حق الله عز وجل لغيره كائناً ما كان ذلك الغير. الأسئلة مشروعية صلاة ركعتي الطواف السؤال: لم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن بعد طواف الإفاضة صلاة ركعتين، فهل تشرع الصلاة بعده، أم لا، أثابكم الله؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلكل طواف بالبيت ركعتان، ويلزم بهاتين الركعتين في طواف الإفاضة وغيره بإجماع العلماء. والله تعالى أعلم. وصايا عامة لمن وفقه الله للحج وما يكون عليه بعد الحج السؤال: هل من كلمة أو وصية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان بعد حجه، أثابكم الله؟ الجواب: من وفقه الله للحج إلى بيت الله الحرام، فأول وصية له: أنه ينبغي عليه أن يحمد الله جل جلاله، وأن يشكره على فضله، يشكر نعمة الله التي أنعم بها عليه، ومنته التي أسدى إليه، ويقول: اللهم! لك الحمد ولك الشكر اخترتني من بين الملايين من الأمم، وحملتني على ما يسرت لي، وهديتني وأعنتني، وسلمت لي بدني وصحتي، ووفقتني إلى أداء هذه المناسك والشعائر لا أحصي ثناء عليك، ومن شكر الله زاده، ومن حمد الله فإن الله يحب أن يحمد ويحب أن يثنى عليه ويحب أن يمجد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أهل الثناء والمجد) فيحمد الله عز وجل أولاً. الوصية الثانية: من حج إلى بيت الله الحرام فإن الله عز وجل أكرمه ويسر له بالوقوف في هذه المشاعر والمناسك، فحط الآثام ومحيت عنه الخطايا، وتقرب إلى الله عز وجل بإراقة دمعة الندم، وأحس بالألم لما كان مما سلف من الذنوب والعصيان، فهجر هذه الذنوب وقلاها، وبكى بكاء الندم بين يدي الله مستغيثاً مستقيلاً تائباً راجياً رحمة الله جل جلاله، الله أعلم كم في هذه الرحاب من ذنوب غفرت، وخطايا محيت، وسيئات أقيل أصحابها، وعثرات أقال الله من تلبس بها، فهي منازل الكرم ومنازل الجود من الله جل جلاله سبحانه، له الحمد وله الفضل لا نحصي ثناء عليه، فإذا أحس المسلم أن الله أنعم عليه بهذه النعمة، فليكن أيضاً من شكره أن يحسن فيما بقي من عمره، وأن يكسر قلبه لله، وأن يسأل الله أن يحسن له الخاتمة، وأن يحسن له فيما بقي من الأجل، ويقول: يا رب! أسألك فيما بقي من عمري عملاً صالحاً يقربني إليك، فيرجع بقلب جديد وقالب جديد وعمل صالح رشيد. الوصية الثالثة: عليه أن لا يفتخر وأن لا يرائي، وأن لا يدلي على الله بنعمته، بل عليه أن يقول: اللهم! إني أسألك القبول. الوصية الخامسة: من دلائل قبول الحج أن يكون حال الإنسان بعد الحج أفضل من حاله قبل الحج، ولن يكون ذلك إلا بفعل فرائض الله، وترك حدود الله ومحارم الله، والخوف من عذاب الله ولقاء الله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، وعلى المسلم إذا رجع إلى أهله ورجع إلى وطنه وإلى بلده أن يرجع بعمل صالح جديد، وأن يحاول أن يغير من أخلاقه، فإن الإسلام أدبه وهذبه بهذه العبادة، فالذي حج إلى بيت الله الحرام، وامتنع من وطء ومباشرة زوجته -وهي حلال عليه- أيام الحج، حري به أن يتقي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والذي حج إلى بيت الله الحرام وعف عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، حري به أن يرجع عفيفاً عن أعراض المسلمين، فلا يغتاب ولا يقع في النميمة ولا يؤذي المسلمين، يرجع بحال جديد ويصلح ما بينه وبين الله، وما بينه وبين عباد الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل حجنا مبروراً، وسعينا مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، وعملنا صالحاً متقبلاً مبروراً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (238) صـــــ(1) إلى صــ(27) شرح زاد المستقنع باب صفة الحج والعمرة [4] ما من عبادة إلا ولها صفة شرعية، بينها الله عز وجل أو بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هذه العبادات: العمرة، والعمرة من أجل الطاعات وأحب القربات إلى الله عز وجل، وهي تقع على سبيل اللزوم وعلى سبيل النفل. ويستحب للمسلم أن يكثر من العمرة إلى بيت الله الحرام، وذلك لما فيها من الأجر والثواب، كما جاءت بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. بيان صفة العمرة وأحكامها وفضائلها بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فالمصنف رحمه الله تعالى يقول: [وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات أو من أدنى الحل] لقد شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة العمرة، والعمرة من أجلّ الطاعات وأحب القربات إلى الله عز وجل، وكتاب المناسك يعتني فيه فقهاء الإسلام رحمهم الله ببيان أحكام الحج والعمرة، فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان مناسك الحج وصفة الحج إلى بيت الله الحرام، شرع في بيان مناسك العمرة وصفتها، وهذا يعتبره أهل العلم رحمهم الله من باب التدرج من الأعلى للأدنى، فقد بيّن رحمه الله الحج الأكبر وبيّن صفاته وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ثم شرع في بيان الحج الأصغر وهو العمرة. قوله: (وصفة العمرة) صفة الشيء حليته وما يتميز به عن غيره، والعبادات توقيفية، حيث أن المكلف فيها يتوقف على نص الشرع من الكتاب والسنة في كيفية أدائها والقيام بها على وجهها. فهو رحمه الله سيبين ما ينبغي على المعتمر أن يقوم به إذا أراد أن يؤدي هذا النسك، والعمرة أصلها في لغة العرب: الزيارة، وتطلق أيضاً بمعنى: القصد، ومن إطلاقها بمعنى الزيارة، قول العرب: جاءنا معتمراً، أي: جاءنا زائراً، وكذلك يقولون: اعتمر بمعنى قصد، ومن هنا قال أهل العلم رحمهم الله: إن العمرة في اصطلاح الشرع: القصد إلى بيت الله الحرام على الوجه المخصوص، والمراد بهذا الوجه المخصوص: أن يؤدي مناسك العمرة بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة. وقوع العمرة على سبيل اللزوم والنفل وصور الوجوب وهذه العبادة -أعني العمرة- تقع على سبيل اللزوم وعلى سبيل النفل، فتكون واجبة على المكلف وتكون نفلاً تطوعاً من المسلم غير واجبة عليه، فأما وجوبها فيأتي على صورتين:الصورة الأولى: أن يلزمه بها الشرع، وهذا إن توفرت الشروط المعتبرة ووجدت عند المكلف، وهذا القول -أعني: القول بوجوب العمرة- إنما هو على أحد قولي العلماء رحمهم الله، وقد ذكرنا نصوص الكتاب والسنة التي تدل على رجحان هذا القول، وأن الله فرض على المسلم أن يعتمر إلى بيته الحرام، كما فرض عليه الحج إلى بيته الحرام، وذكرنا هذا الخلاف، وذكرنا أدلة القولين وحجج الطائفتين، وأن الأقوى والأرجح هو القول: بوجوب العمرة، ولذلك وصفت بكونها حجاً أصغر؛ لقوله سبحانه وتعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[التوبة:3]، فجعل الحج منقسماً إلى حج أكبر وحج أصغر، وهي واجبة على المكلف بإيجاب الشرع مرة في العمر، كوجوب الحج، لكن هذا الوجوب يتقيد بشرائط، وقد تكلمنا على هذه الشرائط في مقدمة مناسك الحج، وذكرنا ما الذي ينبغي توفره من الشروط للحكم بوجوب الحج والعمرة. الصورة الثانية: أن يقوم المكلف بإلزام نفسه بها، وذلك إذا نذر بالعمرة إلى بيت الله الحرام فقال: لله عليَّ أن أعتمر في رمضان، أو لله عليَّ أن أعتمر هذا الأسبوع، فإنها تكون واجبة ولازمة عليه، ولكن هذا الإيجاب والإلزام إنما هو من نفسه وليس من الشرع. أما وقوعها على سبيل النفل ففي كل وقت، في أشهر الحج وغيرها، وكونها نافلة فهي طاعة وقربة من أجل الطاعات والقرب وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لاشتمالها على توحيد الله سبحانه، ونية التقرب له سبحانه وتعالى والإهلال بالتوحيد والتلبية، ثم الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، مع اشتمالها على ذكر الله عز وجل وإقامة شعائره، ولذلك وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في استحباب العمرة وفضلها، حتى صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات ما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فجعل العمرة إلى العمرة مكفرة ما بينهما بشرط اجتناب الكبائر، ومعنى ذلك أنها لا تبقي صغائر الذنوب، وهذه نعمة ورحمة من الله سبحانه وتعالى، فإن الصغائر وإن كانت ذنوباً يسيرة إلا أنها إذا اجتمعت ربما أهلكت العبد والعياذ بالله! والله عز وجل يتدارك عبده بلطفه حينما جعلها مكفرة لذنبه، فإن هذا التكفير وإن كان من صغائر الذنوب رحمة من الله سبحانه، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، وصححه غير واحد من العلماء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى المتابعة بين الحج والعمرة فقال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة) ، فبيّن هذا الحديث فضل الاعتمار إلى بيت الله الحرام، واستحب السلف رحمهم الله هذه الطاعة وفضلوها. تحقيق العمرة وحصول أجرها وفضلها على وجهين يكون الإنسان معتمراً على وجهين:الوجه الأول: أن يعتمر اعتماراً حقيقياً فينال هذا الفضل. والوجه الثاني: أن يكون في حكم المعتمر من جهة الثواب وحصول الفضيلة، فيكون معتمراً فضلاً لا حقيقة، بمعنى: أن الله يعطيه ثواب العمرة، وذلك بطاعات ورد الشرع بفضلها والترغيب فيها، ومن ذلك التطهر في البيت وإتيان مسجد قباء والصلاة فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء وصلى فيه كان له كأجر عمرة) ، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم جلس في مجلسه -وفي رواية: في مقعده- يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة)، فهذا الفضل من جهة التنزيل، أي: أنه ينال فضل الاعتمار والحج إلى بيت الله الحرام. مشروعية تكرار العمرة في عام واحد على الصحيح هنا مسألة فقهية اختلف العلماء رحمهم الله فيها وهي: إذا كانت النصوص قد دلت على فضيلة الاعتمار إلى بيت الله الحرام وزيارته، فهل الأفضل أن يكرر المسلم ذلك الاعتمار، أو لا يكرره؟ فقال جمهور العلماء: يستحب للمسلم أن يكثر ويكرر من الاعتمار بالبيت، وبهذا القول قال فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الظاهر والحديث، فقالوا: يستحب للمسلم أن يكثر من العمرة، وأنه لا بأس أن يعتمر أكثر من عمرة في عام واحد. وذهب بعض السلف، وهو قول الإمام مالك رحمه الله: إلى أنه لا يكرر العمرة في السنة أكثر من مرة، أي: أنه لا يشرع تكرار العمرة. واحتج الجمهور على مشروعية تكرار العمرة بقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات ما بينهن) قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص في هذا الحديث على أن ما بين العمرتين يغفر بشرط ترك الكبيرة، ويفهم من الحديث الترغيب والندب للإكثار منها، فدل على الاستحباب ولم يرد ما يقيد ذلك بعام ولا غيره. أما الدليل الثاني الذي دل على مشروعية تكرار العمرة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة) قالوا: إن هذا يدل على مشروعية التكرار، فإن المتابعة بين الحج قد يكون الإنسان في حجه متمتعاً، وقد يكون في حجه قارناً، وعلى هذا يتابع بين عمرة حجه وعمرة مستقلة. وكذلك أيضاً من أنسب الأدلة وألطفها، والتي استدل بها على مشروعية تكرار العمرة، ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يأتي قباءً كل سبت) ، فكونه عليه الصلاة والسلام كان يأتي مسجد قباء كل سبت، إنما هو لفضيلة العمرة، فلما تكرر ذلك منه دل على ندب واستحباب تكرار العمرة. وقد جاء عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كرروا العمرة في العام الواحد، أثر ذلك عن أبي بكر الصديق ، وكذلك أثر عن بنته الصديقة عائشة رضي الله عن الجميع، وأثر عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عن الجميع، أنهم كانوا يعتمرون أكثر من عمرة في العام الواحد، وهذا هو القول الصحيح والأولى، خاصة وأن الأصل يدل على مشروعية ذلك. وقوى بعض العلماء هذا القول: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حجت معه أم المؤمنين عائشة كما في الصحيحين، وكان حجها تمتعاً، فلما أصابها الحيض قبل أن تتحلل من العمرة أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنقلب قارنة، فانقلبت قارنة لقوله عليه الصلاة والسلام في ختام حجها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) فحكم عليه الصلاة والسلام بأنها قد جمعت بين الحج والعمرة وذلك بالقران، ومع كونها قد جاءت بحج وعمرة قراناً فإنها أصرت على أن تعتمر، فأذن لها أن تعتمر من الحل فاعتمرت من التنعيم رضي الله عنها وأرضاها، وهذا بلا إشكال تكرار للعمرة بعد العمرة، فدلت هذه النصوص على مشروعية التكرار، خاصة وأن الشرع لم يقيد ذلك بحد كما لا يخفى. أقسام صفة العمرة وحكم كل قسم صفة العمرة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: صفة الإجزاء: وهذه الصفة هي التي يبين فيها أركان العمرة وواجباتها، بمعنى: أنه يجب على المكلف أن يوقع عمرته على هذه الصفة، ولا تجزيه عمرته إلا إذا وقعت على هذا الوجه المخصوص، الذي دلت النصوص الشرعية على لزومها. القسم الثاني من صفات العمرة: صفة الكمال:وهي الصفة التي يعتنى فيها ببيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الكامل، فتذكر فيها الأركان والواجبات والسنن والمستحبات، فهذه الصفة الثانية فيها ما هو لازم على المكلف أن يأتي به: كالطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، الذي هو التحلل، وابتداء النسك بالإحرام، ومنها ما ليس بلازم ولا واجب عليه، وإنما هو على سبيل الندب والاستحباب: كالأذكار المستحبة، وكيفما كان فأهل العلم رحمهم الله برحمته الواسعة يعتنون في كتبهم ببيان الصفتين. حكم الإحرام للعمرة الواجبة والمستحبة ومكان الإحرام قوله: (أن يحرم بها) أي: بالعمرة، فإن كانت واجبة عليه أحرم ناوياً إبراء ذمته من الفرض، وإن كانت نذراً نواها نذراً، وإن كانت نافلة نواها نافلة، وإن كانت عن غيره أحرم بها عن ذلك الشخص. قوله: (من الميقات) أي: ميقاته الذي أوجب الله عليه أن يحرم منه، وقد تقدم معنا في أول كتاب المناسك بيان المواقيت التي وردت في حديثي الصحابيين الجليلين عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع وأرضاهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حدود المواقيت، فهو بقوله: (أن يحرم بها من ميقاته) أي: أن العمرة كالحج، فكما أنه في الحج يلزم بالإحرام من الميقات، كذلك في العمرة يحرم من ميقاته، فإن كان دون الميقات فإنه يحرم بها من حيث أنشأ، حتى وإن كان قريباً من حدود الحرم وليس بينه وبين الحرم إلا اليسير، فإنه يحرم من موضعه، وهكذا لو دخل دون المواقيت ثم طرأت عليه العمرة، فإنه من حيث طرأت عليه وأنشأ العمرة يحرم وذلك ميقاته. أقسام الناس في المواقيت والإحرام قوله: (أو من أدنى الحل) الناس ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: أن يكونوا خارجين عن المواقيت، فهؤلاء يتقيدون بالمواقيت إن دخلوا مارين بها ناوين العمرة، فيحرمون منها كما تقدم. القسم الثاني: أن يكونوا دون المواقيت، وهؤلاء ينقسمون أيضاً إلى قسمين: القسم الأول: منهم من هو دون الميقات خارج حدود الحرم، فهؤلاء يحرمون من مواضعهم كأهل عسفان وقديد، وهكذا أهل اليتمة فإنهم دون ميقات المدينة فيحرمون من اليتمة، وهكذا أهل المهد يحرمون من المهد؛ لأنهم دون ميقات المدينة ولا يؤخرون لمحاذاة ميقات الجحفة؛ لأن ميقات الجحفة للساحل، وهكذا بالنسبة لمن كان بعسفان وقديد يحرمون من عسفان وقديد؛ لأنهم دون ميقات المدينة، فإذا بلغوا إلى قديد، فإن من جاوز قديد يكون قد تداخل الميقاتان في حقه، فيصبح دون ميقات المدينة ودون ميقات الجحفة فيحرم من موضعه. القسم الثاني: هم أهل مكة ومن كان قد طرأت عليه العمرة وهو داخل حدود الحرم، فهؤلاء ميقاتهم أن يخرجوا إلى أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن من أهل المواقيت حينما طرأت عليها العمرة؛ لأن العمرة -كما ورد النص- إنما طرأت عليها بمكة، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج؟! فقال عليه الصلاة والسلام: طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك، فأبت)، فحينئذٍ تأمل قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيرجع الناس بحج وعمرة) معناه: أنها تريد العمرة وخاطبته داخل حدود الحرم، فلما وقع خطابها لرسول الله صلى الله عليه وسلم داخل حدود الحرم، فإنها حينئذٍ تكون في حكم أهل مكة، فلما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أدنى الحل، دل على أن المكي ينشئ العمرة من أدنى الحل، وهذا واضح وظاهر، وعلى هذا قالوا: إن المكي إذا أنشأ العمرة فإنه ينشئها من أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها لما أنشأت عمرتها داخل مكة أخذت حكم أهل مكة بالإجماع، فدل على أن ميقات المكي أن يحرم من أدنى الحل لكي يجمع بين الحل والحرم. قوله: [من مكي ونحوه لا من الحرم]. هذا من باب التنويع، فقال: من ميقاته، أو من موضعه، أو من أدنى الحل، فجمع الأحوال الثلاثة للطوائف الثلاث: من كان آفاقياً، ومن كان بين المواقيت والحرم، ومن كان داخل الحرم وطرأت له عمرته داخل الحرم. إجزاء الإحرام لمن بمكة من التنعيم وغيره وليس الحكم متوقفاً على التنعيم، قالت أم المؤمنين : (والله ما ذكر التنعيم ولا غيره) ، فلو أن إنساناً من أهل مكة أراد أن يحرم بالعمرة -أو آفاقياً جاء إلى مكة وأنشأ العمرة- فإنه يجزيه أن يصيب أدنى الحل، فلو خرج إلى عرفات أو أدنى الحل من جهة اليمن أو من جهة جدة التي هي الحديبية، فحينئذٍ لو خرج إلى أدنى الحل ولو خطوة واحدة وأحرم منه، وجمع بين الحل والحرم لصح وأجزأ، قال العلماء: لله الحكمة البالغة، فإن الناس إذا حجوا والمكي معهم، فإن المكي في حجه يجمع بين الحل والحرم، وذلك أنه يخرج إلى عرفات، ولا يصح حجه إلا بالخروج إلى عرفات، وعرفات خارج حدود الحرم، فهو في حجه يجمع بين الحل والحرم، ولكنه في عمرته لا يبقى داخل الحرم وإنما يؤمر بالخروج؛ لأن العمرة كالحج، ومن هنا قال تعالى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ )[التوبة:3] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) ، فهناك تداخل بين العبادتين، فقالوا: إنه يجمع بين الحل والحرم كما جمع في حجه بين الحل والحرم. فقد كانت قريش وأهل الشرك في الجاهلية يرون أن أهل مكة لا يخرجون عن حدود الحرم، فكان فعله عليه الصلاة والسلام يوم حجة الوداع إلغاء لهذا الأمر، الذي أحدثته قريش وأحدثه الحمس، حينما كانوا يقولون: نحن أهل الحرم، ولا يخرجون من حدود الحرم، وهو الذي عناه الله بقوله: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:199] ، وعلى هذا قالوا: إنه في العمرة يجمع بين الحل والحرم كما يجمع في حجه بين الحل والحرم. الأعمال التي يأتيها المعتمر قبل التحلل [فإذا طاف وسعى وحلق أو قصر: حل]أي: إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة عن عمرته، وحلق أو قصر فقد حل من عمرته. وهناك أمور لازمة بالنسبة للعمرة: الأمر الأول: يحرم للعمرة، ولذلك عده جمع من العلماء ركناً من أركان العمرة، وقال بعض العلماء: الإحرام من الواجبات وليس من الأركان، وقد تقدم معنا هذا الخلاف. الأمر الثاني: أن يطوف بالبيت؛ لأن المقصود من العمرة زيارة البيت، ومن هنا كره بعض السلف لأهل مكة أن يعتمروا؛ لأن الأفضل لهم بدل أن يخرجوا إلى الحل أن يطوفوا بالبيت، والزيارة إنما هي للآفاقي، ولمن هو خارج حدود مكة، بخلاف المكي فإنه يتمكن من الطواف، ومن هنا شدد ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه في هذا، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله. وعليه فإن العمرة يلزم لها الطواف، وهذا الطواف يعتبر بقصد الزيارة إلى البيت وبه تتحقق زيارة البيت. الأمر الثالث: أن يسعى بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان العمرة كما سيأتي إن شاء الله. الأمر الرابع: أن يحلق أو يقصر، فإذا حلق أو قصر فقد تحلل من عمرته. هذه الأمور كلها لازمة، ولم يفصل رحمه الله في صفة الطواف ولا في صفة السعي، ولم يبين ذلك؛ لأنه سبق وأن بيّن صفة الطواف الكاملة في الحج، وعلى هذا اكتفى في العمرة بالإجمال فقال: يطوف، ثم يسعى، ثم يحلق أو يقصر، وقد بسط ذلك وبينه وبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطواف، وفي السعي بين الصفا والمروة، وكذلك في بيان أحكام الحلق والتقصير. جواز العمرة في كل وقت عدا أيام التشريق للحاج [وتباح كل وقت وتجزئ عن الفرض]وتباح العمرة كل وقت؛ وذلك لأن الأصل الشرعي أن ما ورد مطلقاً في الشرع يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده، ولم يرد في الكتاب والسنة تقييد العمرة بزمان معين، لكن وردت النصوص بتفضيل بعض الأزمنة على بعض، فالعمرة في رمضان تعدل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عمرة في رمضان كحجة معي)، فأفضل أوقات العمرة رمضان، قال بعض العلماء: ويلتحق برمضان عشر ذي الحجة، فإن الاعتمار بها فيه فضيلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من هذه العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء من ذلك) قالوا: فهذا نص صحيح صريح يدل دلالة واضحة على فضيلة العمل الصالح، والعمرة من الأعمال الصالحة. وقال بعض العلماء: إن العمرة في أشهر الحج لها فضيلة، حتى لو لم يحج؛ والسبب في ذلك أن أكثر عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم وقعت في أشهر الحج، وقد تكلم الإمام ابن القيم كعادته كلاماً نفيساً في الهدي النبوي، وذكر أن غالب عمره عليه الصلاة والسلام كانت في ذي القعدة وفي أشهر الحج، وأن ذلك من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فإيقاع العمرة في أشهر الحج له فضيلة أيضاً، ومن هنا قال بعض العلماء بتفضيل التمتع لوجود هذه العمرة فيه؛ لأن المتمتع يأتي بعمرة في أشهر الحج، وقد كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه إيقاع عمره في أشهر الحج في غالب أحواله. وكره بعض العلماء إيقاع العمرة في أيام التشريق، وهذا بالنسبة للحاج، وهو وجيه؛ والسبب في ذلك أنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا ينبغي عليه البقاء في نسك الحج حتى يتمه، فإذا أتم حجه فحينئذٍ يتفرغ لغيره من المناسك، أما أن يأتي بعمرة قبل أن يتم حجه في أيام التشريق، فهذا شدد فيه طائفة من العلماء، ونصوا على كراهيته؛ وذلك لمخالفته لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإدخاله العبادة على العبادة، وهذا الوقت مما استثناه أهل العلم رحمهم الله من الأزمنة التي تؤدي فيها العمرة، وأما سائر أوقات العام فإنه يجوز إيقاع العمرة فيها، سواء وقعت بالليل أو وقعت بالنهار، وكانوا يستحبون إيقاع العمرة للنساء في الليل؛ لمكان الستر، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها إذا أرادت أن تطوف بالبيت انتظرت إلى الليل، ثم أمرت القائمين على المسجد أن يخفضوا من أنوار المسجد وشموعه، ثم تطوف رضي الله عنها وأرضاها طلباً للستر، لذلك قال بعض العلماء: الاعتمار والطواف للنساء في الليل إذا كان أستر لهن فهو أفضل وأكمل؛ لما فيه من البعد عن فتنتهن، وكذلك افتتان غيرهن بالنظر إليهن. تأدية العمرة في أي وقت تجزئ عن الواجب قوله: (وتجزئ عن الفرض).أي: أنه لو أوقع عمرته في أي وقت من العام، فقد برئت ذمته إذا كان لم يعتمر، وتجزئ تلك العمرة عن عمرته الواجبة، وتسقط عنه فريضة العمرة. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (239) الأسئلة حكم من اعتمر ولم ينو بعمرته الفريضة السؤال: ذكرتم حفظكم الله! في كلامكم: أن المريد للعمرة ينوي في عمرته فرضاً أو نفلاً، وقد اعتمرت كثيراً إلا أنني لا أذكر أنني نويت بعمرة الفريضة، فهل عليَّ أن أقوم بعمرة غيرها، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن نوى العمرة ولم يكن قد اعتمر من قبل فإنها تنقلب عمرته إلى الفريضة، هذا إذا توفرت فيه شروط الوجوب، وهكذا لو نوى عن غيره مع أنه لم يعتمر عن نفسه وتوفرت فيه شرائط الوجوب، انقلبت عمرته إلى نفسه، وهكذا لو كان عليه نذر ثم نوى النافلة فإنهم يقولون بانقلاب النافلة إلى النذر، على أحد قولي العلماء، وفيه نظر لا يخفى. فالمقصود: أنك حينما اعتمرت أول ما اعتمرت، فحينئذٍ تكون العمرة الأولى منصرفة إلى الفرض، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )، فأوقع الفعل من ذلك المكلف عن الفرض اللازم له في حق نفسه، وعلى هذا قالوا: إنه تنقلب عمرته إلى الفرض، ويصبح في هذه الحالة قد أدى فريضته بأول عمرة. والله تعالى أعلم. أقوال العلماء في المتابعة بين العمرة والعمرة السؤال: هل هناك وقت محدد يكون فيه المتابعة بين العمرة والعمرة، أم أنه لا تحديد لذلك؟ الجواب: ليس هناك نص يحدد ما بين العمرة إلى العمرة، وقال بعض العلماء: الفصل بينهما نبات الشعر، فإذا كان الإنسان ينبت شعره في زمان يفصل به بين عمرته الأولى والثانية فإنه يأتي بالعمرة بعد، وكان بعض العلماء يقول: أن يكون له في كل شهر عمرة إذا تيسر له ذلك، وقد جاء ذلك عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لمن كان قريباً من البيت ولا يشق عليه إن فعل ذلك، وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: أستحب له أن يعتمر في كل شهر مرة؛ لأن الشعر غالباً ينبت خلال الشهر. وأثر عن علي رضي الله عنه قريب من هذا، واعتمر الصحابة رضوان الله عليهم، وورد عن بعضهم أنهم كانوا يعتمرون في السنة مرتين كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذلك عبد الله بن عمر أثر عنه أنه كان يعتمر في السنة مرتين، وهذا الأمر ليس فيه تقييد معين، لكن ضبطه بنبات الشعر له وجهه، وهذا الضابط له علته التي لا تخفى لمكان التحلل. مشروعية طواف الوداع لمن حج من أهل مكة ثم أراد الخروج منها السؤال: المكي إذا أراد السفر بعد الحج مباشرة، هل يجب عليه أن يودع البيت، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟ الجواب: قال جمع من العلماء: إن المكي إذا أراد أن يصدر وكانت له حاجة بعد الحج، فإنه لا ينفر حتى يطوف بالبيت؛ لأنه يكون في حكم الآفاقي، خاصة إذا كانت له تجارة أو كان له موضع ثانٍ، كأن تكون له تجارة بالمدينة أو تكون له مزرعة أو وظيفة في بلد غير مكة، فإنه يطوف عند صدوره بعد الحج مباشرة، فإذا صدر بعد الحج مباشرة أو بعد الحج بشهر أو شهرين أو ثلاثة، فعليه أن يطوف بالبيت لوداعه. والله تعالى أعلم. جواز التحلل من الحج أو العمرة بالحلق قبل ذبح الأضحية السؤال: إذا أخّر الإنسان الأضحية في اليوم الثالث عشر، فهل يحلق رأسه بعد رمي العقبة، أفيدونا أثابكم الله؟ الجواب: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن شيئاً من شعره) ، فدل هذا على أنه يمتنع من مس الشعر حتى يذبح أو ينحر أضحيته، لكنه إذا أراد أن يتحلل من حجه وحلق أو قصر فإنه مستثنىً من هذا الأصل، وكذلك لو اعتمر في داخل العشر، فاعتمر في اليوم الأول من العشر أو اعتمر في اليوم الثاني أو اعتمر في اليوم الثالث فهذا متعلق بالنسك، والتحلل من النسك من واجباته الحلق أو التقصير، فأنت إذا أتيت بالعمرة في خلال العشر أو أردت أن تتحلل من حجك في العشر أو في اليوم الحادي عشر ولم تضح فإن هذا يعتبر مستثنىً ولا تعارض بين الأمرين؛ لأنك هنا تؤدي نسكاً لموضع مخصوص بعبادة مخصوصة، فيجوز لك أن تقوم حينئذٍ بالتحلل من العمرة والتحلل من الحج؛ لأنه واجب عليك وفرض، وحينئذٍ لا يعتبر منهياً إذا تحلل في اليوم العاشر من حجه أو الحادي عشر وأخر أضحيته إلى الثالث عشر. والله تعالى أعلم. وجوب الفدية على من حلق بصابون فيه طيب وهو راضٍ السؤال: المحرم لا يمس الطيب، فإذا أراد أن يحلق شعره فكثير من الحلاقين يضع على الشعر صابوناً معطراً أو نحو ذلك، فما رأيكم، أثابكم الله؟ الجواب: إذا كان الحلاق يعلم بهذا ووضعه فإن على الحلاق الفدية، وإن سكت المحلوق ورضي فإنها تكون على المحلوق، وإن أمره أن ينزعها مباشرة، يعني: ينزع الصابون فإنه حينئذٍ لا فدية عليه، ولا يجوز له إذا أراد أن يحلق شعر رأسه أن يضع الصابون المطيب، وإنما يضع صابون الزيت أو نحوه، أو يضع الماء مجرداً من الصابون ثم يحلق، أما لو وجد في مادة الحلاقة بما يبل به الشعر ويندى به جلد الرأس أي طيب كان، فإنه متلبس بالنسك حتى يحلق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) ، قال الله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:196] ، فلا يكون الإنسان متحللاً من النسك إلا إذا كان قد حلق وفرغ، فعلى هذا لو وقع الطيب في رأسه قبل أن يحلق أو أثناء الحلاقة أو تمهيداً للحلاقة، فما دام أنه لم يقع منه التحلل المعتبر فإنه يلزمه الفدية. والعلماء رحمهم الله يقولون: إذا وضع المحظور من شخص على المحرم، والواضع يعلم أنه محرم فتكون الفدية والكفارة على من وضع، وأما إذا أذن المحرم فإنها تكون على المحرم؛ لأن الأصل وجوبها على المحرم، ولكنها صارت على غيره بالاعتداء، ولذلك قالوا: لو حلق إنسان لمحرم قبل التحلل دون أن يعلم المحرم، لزم الحلاق أن يفتدي فدية الحلق، وأما إذا أذن له المحرم فإنه حينئذٍ تكون الفدية على الآذن؛ لأن الإذن بالشيء فعل له، وعلى هذا فإن المحرم إذا علم بأن الصابون مطيب ومكنه من ذلك وأذن له أو سكت فعليه الفدية، وأما إذا لم يعلم إلا بعد الحلق، فحينئذٍ تكون الفدية على الحلاق ولا شيء على المحلوق. والله تعالى أعلم. جواز التوكيل بالرمي لمن عجز عنه السؤال: العاجز والشيخ الكبير هل الأفضل في حقه أن يؤجل الرمي، أو يجمع الرمي إلى اليوم الثالث عشر إلى أن يخف الزحام فيرمي بنفسه، أفيدونا أثابكم الله؟ الجواب: من كان عاجزاً ويغلب على الظن أنه يهلك بدخوله للرمي، كمن كان مريضاً بالقلب، أو كبير سن من الحطمة، أو كانت به عملية جراحية في مواضع حساسة، في ظهره أو في قدمه أو في صدره، ويغلب على ظنه أنه لو دخل في الزحام سيتضرر، أو أنه يعاق، وربما يقتل بسبب ركوب الناس بعضهم لبعض، فهذه الأعذار وشبهها توجب له أن يترخص بتوكيل غيره ليرمي عنه، ويشترط في هذا الوكيل أن يكون من الحجاج، فلو وكل حلالاً لم يصح الرمي، وإنما يوكل حاجاً، وعلى هذا يرمي الوكيل عن نفسه أولاً، ثم إذا أتم الرمي رمى عن غيره؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) ، فإذا وقع التوكيل على هذا الوجه فإنه يجزيه. والله تعالى أعلم. وجوب طواف الوداع لمن طاف للإفاضة بغير نية الوداع السؤال: إذا أخرت طواف الإفاضة ثم سعيت بعده، فهل يلزمني أن أودع البيت بعد ذلك، أم أكتفي بطواف الإفاضة، أثابكم الله؟ الجواب: إذا طفت طواف الإفاضة فلا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون قد نويت طواف الإفاضة مجرداً فيلزمك بعد السعي أن ترجع لطواف الوداع؛ لأنك لم تنو الوداع، والواجب لا يقع إبراءً للذمة إلا بنية، فيلزمك أن ترجع إذا لم تنو؛ لأنك قلت: إذا طفت للإفاضة ولم تقل: إذا طفت للإفاضة بنية الوداع. الحالة الثانية: أن تطوف للإفاضة بنية الوداع، فإن طفت للإفاضة بنية الوداع، فبعض العلماء يرى: أن السعي بعد الطواف مغتفر، ولذلك قال من قال بوجوب طوف الوداع في العمرة: إنه إذا طاف وسعى ومضى مباشرة لا يجب عليه طواف الوداع. والذي يظهر والله أعلم أنه يحتاط بإعادة الطواف؛ لأنه أسلم؛ ولأن النص نص على إيقاع الطواف في آخر العبادة، ولذلك لو طاف ثم رجع ورمى ثم صدر لزمه أن يرجع ثانية؛ لأن أصل مشروعية طواف الوداع أن يكون آخر العبادات، قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات) قال بعض العلماء: يصدرون من المناسك، أي: بعد أن يفرغوا من المناسك يمضون إلى ديارهم، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف، فهذا لا إشكال في أن المراد به أن يوقع طواف الوداع آخر العبادة، والذي تطمئن إليه النفس: أن من سعى بعد طواف الإفاضة الأحوط له والأكمل أن يرجع إلى البيت ويعيد طوافه، والله عز وجل معظم له الأجر، والحج جهاد ومشقة، وهذا من مشقة الحج وجهاده، والأصل اللزوم. والله تعالى أعلم. اختصاص الإطعام والهدي من الحاج بمساكين الحرم السؤال: قال المصنف رحمه الله: (وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم) فلو ذبح المتمتع هديه وتركه مكانه، فهل يجزيه؟ الجواب: نعم، كل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم؛ وذلك لقوله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifهَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[المائدة:95]، فالهدي الواجب على المكلف كما في حال قتل الصيد، فإنه يجب ذبحه بمكة وإطعامه لمساكين الحرم، وأن يكون مثلياً، أي: يقدر مثل بهيمة الأنعام، ولا يكون إلا بمكة، وإذا ذبح بمكة كان لمساكين الحرم، فحينئذٍ يلزم في الهدي أمران: الأول: أن يكون الذبح بمكة. الثاني: أن يكون مختصاً بمساكين الحرم؛ لأن الله عز وجل فضل مكة وفضل أهلها بالأمن وكذلك الإطعام، فقال تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifالَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[قريش:4] ، وقال تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifأَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[القصص:57] فجعل الله لهذا البيت حرمة، ولأهله وسكانه مزية وفضلاً على غيرهم، ففيهم العاكف وفيهم العابد وفيهم من يرجو رحمة الله في هذا الجوار الطيب، فكأن ذلك من الإعانة له على الخير والطاعة والبر، حيث فرغ نفسه من أمور دنياه، فجعل الهدي والإطعام لمساكين الحرم طعمة خاصة. فلو ذبحه ومكن غيره ليوصله برئت ذمته، أما أن يذبح الهدي ويتركه حتى يضيع كما يفعل بعض الناس فيقوم ويذبح ولا يبالي بذبيحته ويتركها لكي تطأها الأقدام وتعفن وترمى، فهذا لا شك أنه ليس من شرع الله عز وجل في شيء، فإن الله لا يرضى بالإسراف ولا يرضى بإضاعة المال، وقد كره لعباده القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، فهذا من إضاعة المال، فإذا كنت تعلم أنك إذا نحرت أو ذبحت هذا الهدي أنه يفتقر إلى حمل وإلى توزيع للفقراء والضعفاء، فإنك تحمله وتوزعه للضعفاء والفقراء، أو تستعين بعد الله عز وجل بمن يعينك على إبراء الذمة على هذا الوجه المعتبر. والله تعالى أعلم. عدم جواز الخروج من المسجد بعد الأذان السؤال: ما الحكم إذا ذهبت إلى مسجد قباء وصليت فيه ركعتين بعد الأذان ثم خرجت لأدرك الفرض في الحرم النبوي أيجوز ذلك، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟ الجواب: إذا أذن المؤذن فإنه لا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان، وإنما يحتاط الإنسان للخروج قبل الأذان، أما إذا أذن المؤذن فلا يجوز الخروج، ولو كان الإنسان يلتمس ما هو أفضل كمسجد مكة أو مسجد المدينة فإنه لا يجوز له أن يخرج، قال أبو هريرة رضي الله عنه لما رأى الرجل يخرج بعد الأذان: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم). وإنما يجوز الخروج بعد الأذان في حالة واحدة، وهي أن يكون الإنسان معذوراً بانتقاض وضوئه، فإذا خرج بعد الأذان فإنه يضع كفه على أنفه كمن أصابه الرعاف حتى يدفع عن نفسه التهمة والشبهة، وقال العلماء رحمهم الله: إن هذا مقصود من الشرع وهو حصول جماعة المسلمين؛ لأن المساجد إذا أذن فيها فإنه يدعى الناس إلى إقامة فريضة الله وأداء هذه الصلاة، فإذا كان الإنسان على هذا الوجه قد أذن عليه المؤذن وخرج، فإنه يوقع نفسه في الشبهة، وليس كل الناس يعلم عذره. فالمسلم إذا أذن عليه المؤذن في مسجد قباء أو غيره من المساجد، وأراد أن يخرج بعد الأذان فإنه لا يجوز له هذا الخروج. وجماهير العلماء رحمهم الله قد نصوا على ذلك؛ لصحة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج بعد الأذان. وعلى هذا فإنه ينبغي للمسلم أن يحتاط، ولو كان الإنسان مرتبطاً بإمامة، فإنه إذا أذن عليه المؤذن لا يخرج من المسجد؛ لأن هذا يعتبر لازماً عليه وفرضاً عليه ولو ازدحم الفرضان، كونه يصلي بالناس وكونه مرتبطاً بالصلاة في هذا الموضع، فإن صلاته بالناس يقوم غيره مقامه، وأما هذا الموضع فقد تعين عليه أن يصلي مع جماعته ولا يقوم غيره مقامه، فلزمه أن يبقى لمقصود الشرع درءاً لفتنة الخروج من المسجد، وحتى لا يفتح باب التفرق عن الجماعة، وهو أصل قررته السنة في أكثر من مسألة من هذا الباب كنهيه عليه الصلاة والسلام من صلى فرضه أن يجلس في المسجد الثاني ولا يعيد الفرض إذا حضرت الفريضة مع الجماعة الثانية فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)، وعلى هذا فإنه لا يجوز الخروج لا لمساجد أفضل ولا غيره، وإنما يجوز الخروج في حالة واحدة وهي وجود العذر لانتقاض الطهارة. والله تعالى أعلم. عدم سقوط طواف الوداع عن غير أهل مكة السؤال: على قول من يقول: إن حاضري المسجد الحرام هم من كانوا دون مسافة القصر، ولم يكونوا داخل حدود الحرم فهل يلزمهم طواف الوداع أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟ الجواب: طواف الوداع لا يتقيد بحاضري المسجد الحرام، وإنما يسقط عن أهل مكة فقط، وهم الذين داخل حدود الحرم، وأما من كان خارج حدود الحرم فإنه يدخل في عموم قول أم المؤمنين عائشة : (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات -فهؤلاء يصدرون إلى أماكنهم التي هي خارج الحرم- فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف)، وعليه فإنه يطوف بالبيت سواء كان دون مسافة القصر أو فوقها؛ لعموم الخبر في ذلك، والله تعالى أعلم. حكم استعمال حبوب منع الحمل خوف النفقة السؤال: ما حكم استعمال حبوب منع الحمل إذا تضرر الزوج من كثرة الإنفاق على الأولاد ونحوه، أفيدونا بارك الله فيكم؟ الجواب: لا حول ولا قوه إلا بالله، سبحان الله! الله المستعان! إذا تضرر من كثرة الإنفاق، الله سبحانه وتعالى تكفل بأرزاق عباده: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[هود:6] ، والله سبحانه وتعالى أمرك أن تأخذ بالأسباب، وأن تحسن الظن بالله عز وجل، وما يدريك أن هذا الولد قد يكون سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة، وقد يفتح الله لك به أبواب الرزق، فإن حليمة لما أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى الله عليها من الخير ما الله به عليم، فإن الإنسان قد يرى المولود ولا يعبأ به ويجعله الله له خيراً في الدنيا والآخرة، فعلى هذا لا يجوز للإنسان أن يسيء الظن بالله عز وجل في كثرة الولد، والله عز وجل أمرنا بأخذ الأسباب بأن ننفق على أولادنا وذرياتنا غاية ما نستطيع. أما أن نتعاطى الأسباب لمنع الحمل خوفاً من كثرة الولد، وضيعتهم، وخوفاً من كثرة الإنفاق، فهذا بإجماع العلماء مقصد محرم، ويعتبر الإنسان مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب، وهي عقيدة أهل الجاهلية لما قتلوا الولد: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الإسراء:31] ، فالله عز وجل عتب عليهم أنهم قتلوا أولادهم خشية الإملاق والفقر. فينبغي للمسلم أن يحسن الظن بالله، وأجمع أهل العلم رحمهم الله: على أنه لا يجوز له أن يعزل عن زوجته إذا جامعها خشية من كثرة الولد من جهة النفقة، فإن فعل ذلك فإنه آثم شرعاً، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب. أما أن يقول: إن كثرة الولد ترهق الأم، فهذا فيه الخلاف المشهور، والصحيح: أنه لا يجوز تعاطي حبوب منع الحمل بسبب كثرة الولد خوفاً من الإنفاق عليهم، ولا كثرة الولد بسبب تعب رعايتهم؛ لأن الله عز وجل جعل الولد كرهاً على أمه؛ لكي يرفع من درجاتها، ويكفر من خطيئاتها، ويعظم لها الأجر، وسبحان الله العظيم! كانت المرأة وهي ترعى غنمها في البرية حاملة لولدها في بطنها لا تأخذ حبوب منع للحمل، وإنما تحمل السنة تلو السنة وهي في عافية ومعونة وتيسير من الله، لا تشتكي، وقد تأتي بالعشرة من الأولاد، وقد تأتي بالعشرين ويبارك الله فيها، ومع ذلك لا تجد إلا الخير؛ لأن عقيدتها بالله حسنة، ولكن ما أن تسيء المرأة ظنها بالله إلا أساءها الله بسوء ظنها: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifإِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الرعد:11] ، فحين تغيّر الناس عظم البلاء واشتد البأس؛ وذلك بسبب سوء الظن بالله جل جلاله. كان الناس إلى عهد قريب يحبون كثرة الولد ويفرحون بذلك، وهم في أشد ما يكونون من الفقر، وكان الرجل يصبح فيطعم الطعام ويمسي ولا يجد طعاماً، وكان يمسي ويطعم فيصبح على غير طعام، والله تكفل بالأرزاق وعاش الناس في شدة الفقر، وإذا سألت عن القرابة وعن الأهل فتجد الرجل منهم عنده ومن الذرية من الأولاد والبنات الكثير، وما ضاقت الأرض بأهلها ولا ساءت ظنونهم بربهم جل جلاله، ولكن ما إن تغيّرت القلوب، وضعف الاعتقاد بالله جل جلاله، إلا أخذ الله الناس بنياتهم وحاسبهم بمقاصدهم، فإن هذه المقاصد شك في عظمة الله جل جلاله، وشك في قدرته سبحانه وتعالى، ولا يجوز للمسلم أن يسيء ظنه بالله، فالله عند حسن ظن عبده به. يا هذا! إن الله هو الذي أطعمك، وهو الذي كساك، وهو الذي رزقك، ولئن كنت تعلم أنك بهذا الفعل ترحم ولدك، فالله أرحم بك من رحمتك لنفسك، وبولدك من رحمتك به، فالله أرحم الراحمين. فلا يجوز للمسلم أن يتعاطى مثل هذه الأمور؛ لأنها من سوء الظن بالله، وهي مساس بعقيدته وإيمانه بالله، فلا خير له لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بسلامة إيمانه وصلاح معتقده، فهذه أمور عظيمة والله تعالى يقول: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الجمعة:11] فهو خير من رزق، وخير من أعطى، وخير من كسا، وخير من أطعم وهو يُطعِم ولا يُطعَم، وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم -اللهم اهدنا- يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم -اللهم أطعمنا- يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم -اللهم اكسنا-) نسأل الله من واسع فضله وواسع رحمته، والله تعالى بعزته وجلاله أصدق قيلاً وأصدق حديثاً، وما وعد سبحانه وأخلف، فقال لك وهو أصدق القائلين: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم)، فإذا كان الله جل جلاله يقول ذلك وهو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، ويعد سبحانه ولا يخلف، وهو أوفى من وفى بعهده سبحانه وتعالى يقول: (استطعموني أطعمكم) فمن أي شيء تخاف؟!! ومن أنت أيها الضعيف؟! فلو صُبَّت في حجرك الألوف والمئات والله لا تستطيع أن تطعم نفسك، فضلاً عن أن تطعم غيرك، إذا لم يطعمك الله. ولقد حدثني من أثق به من أهل العلم والفضل قال: دخلت على ثري من الأثرياء وعظيم من العظماء، والله أعظم من كل شيء، قال: دخلت عليه عشية ذات يوم في شفاعة، وما كان معي إلا رجل من أهل الفضل، فلما جلسنا على العشاء مد طعاماً يكفي عشرين رجلاً، وليس على المائدة إلا أنا وهو وهذا الرجل، قال: فلما وُضِعَ الطعام ورأيت هذا السماط وما عليه من الأطعمة عجبت، فما من نوع من الطعام إلا وهو موجود فيه، قال: فلما أراد أن يجلس معنا إذا به يؤتى له بكرسي فجلس على ذلك الكرسي، ويؤتى له بصحن صغير يحمله على كفه، قال: فنظرت فإذا به لا يطعم إلا من هذا النوع من الطعام، فقلت: لا إله إلا الله! غني ثري والله عز وجل أعطاه من المال إلا أنه لم يستطع أن يمد يده إلى هذا الطعام المختلف الأنواع والمختلف الأشكال؛ لأن الله لا يريد أن يطعمه. الله سبحانه وتعالى هو الذي يطعم، فلماذا يخاف الإنسان على أهله وولده؟!! توكل على الله، وأحسن الظن بالله، وفوض الأمور إلى الله: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )[غافر:44] ، فالله جل جلاله بصير بك وبصير بأهلك وولدك. فلا يجوز للرجل أن يعين امرأته على قطع الذرية أو منع الذرية أو تأخر الذرية؛ خوفاً من كثرة الإنفاق، أو يقول: إن راتبه لا يكفي، أو أن نفقته ستكون كبيرة، كل ذلك لا يجوز للمسلم، أحسن الظن بالله وتوكل على الله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )[الطلاق:3] ، والله عز وجل عند حسن ظن عبده به. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يملأ قلوبنا من حبه، وحسن الظن به، وصدق اللجوء إليه. اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً ويقيناً صادقاً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (240) شرح زاد المستقنع باب صفة الحج والعمرة [5] إن مما يحتاجه الفقهاء والعلماء وطلاب العلم خاصة والمسلمون عامة معرفة ما هو لازم وما ليس بلازم في العبادات، ولا يتأتى ذلك إلا بمعرفة الأركان والواجبات والسنن والمستحبات لكل عبادة من العبادات، وبما أن الحج ركن من أركان الإسلام فإن له أركاناً وواجبات وسنناً ومستحبات لا يسوغ الجهل بها بحال، فيلزم المسلم لأداء هذه الفريضة أن يحيط بما يتعلق بها من أحكام حتى يؤديها بصورة مقبولة عند الله عز وجل. أركان الحج: بيانها وأهمية معرفتها والأحكام المتعلقة بها بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ وأركان الحج] قوله: (وأركان الحج)، الأركان: جمع ركن، وقد تقدم معنا غير مرة تعريفه وبيان ضابطه، ومناسبة ذكره رحمه الله للأركان هنا: أنه فرغ من بيان صفة الحج وصفة العمرة، فورد السؤال: ما هو اللازم وما هو الواجب من هذه الأفعال والأقوال؟ وهل المكلف مطالب بجميع هذه الأقوال والأفعال وملزم بها، أم أن جميعها مستحبة ومسنونة، أم أنها واجبة عليه، أم أن بعضها واجب وبعضها مستحب ومندوب؟ فشرع رحمه الله في بيان الأركان والواجبات والسنن والمستحبات، وطلاب العلم والفقهاء والعلماء يحتاجون في العبادات إلى معرفة ما هو لازم وما ليس بلازم؛ والسبب في ذلك واضح وهو أنك إذا عرفت ما هو واجب في العبادة وما ليس بواجب فإنه حينئذٍ يمكنك أن تعرف ما الذي تبطل به العبادة إذا تركه، وما الذي يأثم صاحبه ولا تبطل به عبادته إن تركه، ثم هذا الذي لا تبطل به العبادة إن تركه ويأثم ما الذي يجب فيه الضمان، وما الذي لا ضمان فيه، كذلك أيضاً ما هو الذي لا شيء فيه على الإنسان إذا تركه، ولو كان الترك اختياراً، فهذه أمور يفصلها العلماء: الأركان، والواجبات، والمستحبات، حتى تتيسر الفتوى ويتيسر توجيه الناس، فلو أتاك سائل وقال: تركت الوقوف بعرفة، فإنه ليس كقوله: تركت الرمل بالبيت، وقوله: تركت السعي بين الصفا والمروة، ليس كقوله: تركت التلبية، وقوله: تركت الإحرام من الميقات، ليس كقوله: تركت المبيت بمنى. فالمقصود أن هذه الأمور منها ما يكون تركه إخلالاً بالنسك، ومنها ما يكون تركه إثماً، ولكن يمكن جبر هذا الترك ولا يخل بالنسك، ومنها ما يكون تركه لا يوجب الإخلال ولا يوجب الإثم، فإذاً لابد من التفصيل. وليست هذه الأحكام كما قد يظن البعض أن الفقهاء جاءوا بها من محض آرائهم، حاشا وكلا، فأئمة السلف وأهل العلم رحمهم الله حينما يجعلون الأركان والواجبات فهم إنما فرقوا بتفريق الشرع، والله تعالى قد جعل لكل شيء قدراً، وجاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات: أن ترك البعض مما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم يبطل العبادة، وترك البعض الآخر مما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم لا يبطل العبادة، وإنما يكون فيها الجبر والتلافي. وعلى هذا علمنا أن هناك من الأمور ما يمكن تلافيها ومنها ما لا يمكن تلافيها، فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس ركعتين في رباعية الظهر أو العصر، فلما سلم من ركعتين وأخبر أن الصلاة ناقصة رجع عليه الصلاة والسلام وكمل النقص وسجد. وصلى بأصحابه فقام عن التشهد الأول، فسبح له فأشار إليهم أن قوموا، ثم سجد ولم يقض هذا الذي تركه من فعل الصلاة، ففهم من هذا أن من الأمور ما هو لازم محتم لابد من الإتيان به، ولا تبرأ الذمة إلا بفعله، ومن الأمور ما ليس بلازم، ثم هناك أمور لازمة يمكن جبرها كما في الواجبات، تجبر في الصلاة بسجود السهو، وتجبر في الحج بالدماء إذا تركها الإنسان، ثم هذه الواجبات التي تترك وتجبر قد يتركها الإنسان ويغتفر له الترك لمكان العذر، وقد يتركها معذوراً ولا يغتفر له ذلك الترك، وهذا من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، كما هو مقرر في مباحث الأصول. فلابد حينئذٍ من الاشتغال والعناية بمسألة الأركان والواجبات والمستحبات، حتى تعلم الهدي والسنة في هذه الأفعال والأقوال، وحتى تعلم ما هو الذي يلزمك وما ليس بلازم عليك. فقوله: (وأركان الحج) بدأ بالأكبر -كما ذكرنا- لأهميته. الركن الأول: الإحرام حكمه وأهميته قال المصنف: [الإحرام]الركن الأول: وهو: نية الدخول في النسك، فلا يمكن أن نصف إنساناً بكونه حاجاً إلا إذا نوى، فلو لم ينو الحج فليس هناك حج، كما أنه لو لم يقف بعرفة فليس هناك حج، فالإحرام على أصح قولي العلماء يعتبر ركناً من أركان الحج، فالحج لا يتحقق إلا إذا نوى الدخول في النسك، وعلى هذا نص العلماء رحمهم الله بأصح القولين: على أن نية الدخول في النسك في الحج تعتبر ركناً من أركان الحج، هذا هو الركن الأول، وقد بيّنا دليل النية حينما تكلمنا على الإحرام، وبيّنا ما ورد في نصوص الكتاب والسنة بالإلزام في العبادات بالنية، ومن أشهر ذلك قوله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الزمر:2] فأمرنا سبحانه بإخلاص العبادة، والإخلاص لا يتحقق إلا بالقصد وصدق التوجه، والقصد وصدق التوجه يفتقر إلى نية، فأصبحت النية لازمة، وقد أمر الله بها وألزم العباد بها، كذلك أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) والتقدير في قول جمهور العلماء: إنما صحة الأعمال واعتبارها بالنيات، فدل على أن الحج لا يصح ولا يعتبر إلا بنية. الركن الثاني: الوقوف بعرفة حكمه وأهميته قال المصنف: [والوقوف]الركن الثاني: الوقوف بعرفة، الوقوف المراد به أن يمكث الإنسان بجسمه في عرفة، وليس المراد به صورة الوقوف، فلو كان الإنسان مشلولاً، أو كان صبياً محمولاً، وأدخل إلى حدود عرفة، ولو لحظة من ليل أو نهار، في يومه المعتبر وليلته المعتبرة، فإنه يحكم بكونه قد وقف بعرفة، أما دليل ركنية الوقوف بعرفة فقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) ، وقوله في الحديث الصحيح من حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه) فجعل اعتبار الحج والاعتداد به موقوفاً على الوقوف بعرفة، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم أنهم أفتوا وقضوا: بأن من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، قضى في ذلك أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين: عمر بن الخطاب ، فقد جاء هبار بن الأسود رحمه الله إلى عمر بعد يوم عرفة وقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أظن اليوم -أي: يوم العيد الذي هو يوم النحر- يوم عرفة فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ابق كما أنت، ثم انطلق إلى البيت وطف به واسع وتحلل به بعمرة، ثم إذا كان من العام القادم فاقض حجك وأهد للبيت. فأمره أن يتحلل بالعمرة ولم يأمره أن يتم مناسك الحج، وهذا هو قضاؤه رضي الله عنه. وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) قالوا: إنه الركن الأعظم الذي يفوت الحج بفواته، فمن لم يدرك الوقوف بعرفة فإنه لم يدرك حجه؛ وذلك لصراحة النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. الركن الثالث: طواف الإفاضة حكمه وأهميته قال المصنف: [وطواف الزيارة]قوله: (وطواف الزيارة) وهو طواف الإفاضة، وطواف الصدر، وطواف الركن، وكلها أسماء لهذا النوع من الطواف، والدليل على كونه فريضة قوله سبحانه وتعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الحج:29] ، فقال سبحانه: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الحج:29] فأمر به وألزم، قال بعض العلماء رحمهم الله: أجمع المسلمون على أن المراد بالطواف في قوله سبحانه: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الحج:29]: طواف الإفاضة، وأن المكلف لا تبرأ ذمته إذا حج إلا بطواف الإفاضة، فلو رجع إلى بلده قبل أن يطوف طواف الإفاضة، فإنه يلزمه أن يرجع لكي يطوفه، ولو بعد عشرين عاماً، فهو ركن لابد من الإتيان به، ولا تبرأ ذمته إلا بفعله، والإجماع قائم على أن هذا الطواف يعتبر ركناً من أركان الحج، وأنه لابد للمكلف من أن يأتي به، وقد سبق وأن بيّنا وقت الفضيلة ووقت الإجزاء، ومتى يلزم المكلف إذا أخر هذا الطواف أن يأتي به مع الدم. الركن الرابع: السعي حكمه وأهميته قال المصنف: [والسعي]والسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إن الله لا يتم حج من لم يسع بين الصفا والمروة. وقد ذهب جماهير السلف رحمهم الله إلى القول بلزوم السعي، وأنه لا يصح الحج بدون سعي بين الصفا والمروة؛ لأنه ركن من أركان الحج إلى بيت الله الحرام، وقال بعض العلماء: السعي يعتبر من الواجبات، وقوله هذا مرجوح، والصحيح: أن السعي يعتبر ركناً من أركان الحج إلى بيت الله الحرام. واجبات الحج وما يتعلق بها من أحكام قال المصنف: [وواجباته: الإحرام من الميقات المعتبر له] شرع المصنف في بيان واجبات الحج، وهي التي لا يفوت الحج بفواتها، بخلاف الأركان على التفصيل الذي تقدم بيانه. قوله: (وواجباته) الضمير عائد إلى الحج، وقد تقدم بيان معنى الواجب في اللغة وفي الاصطلاح. الواجب الأول: الإحرام للحج والعمرة من الميقات قوله: (الإحرام من الميقات) أي: أنه يجب على من أراد الحج والعمرة أن يحرم من ميقاته، فإن كان آفاقياً نظر إلى ميقات موضعه الذي أنشأ فيه نية الحج، فإن كان في المدينة مثلاً فإنه يجب عليه الإحرام من ذي الحليفة، وكذلك إذا جاء من جهة المغرب فإنه يحرم من الجحفة، وإذا جاء من جهة المشرق فإنه يجب عليه أن يحرم من ميقات المشرق وهكذا، أي: على التفصيل الذي تقدم بيانه في باب المواقيت، وعلى هذا فإنه يعتبر الإحرام من الميقات من واجبات الحج، وهذا الواجب إذا لم يقم الحاج به على وجهه وأخلّ به، فإنه يلزمه الدم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.قوله: (المعتبر له) فلو كان في موضع غير موضعه الأصلي، وطرأ له الإحرام بالحج من ذلك الموضع، أخذ حكم أهله، وهذا معنى قوله: (المعتبر له) أي: على حسب التفصيل الذي تقدم فكلٌ يلتزم بميقاته، وإذا لم يلتزم به فقد أخلّ بواجب من واجبات الحج. أما الدليل على هذا الواجب الأول فقوله عليه الصلاة والسلام في المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن) فقوله: (هن لهن) أي: يلزمهم الإحرام من هذه المواقيت، فدل على وجوبها ولزوم التقيد بها من أهلها، وأنه يجب على من مر بها من غير أهلها أن يحرم منها، هذا هو الدليل الذي اعتبره جماهير أهل العلم رحمهم الله، وقد نص العلماء رحمهم الله في المذاهب الأربعة: على أن الإحرام من الميقات يعتبر واجباً من واجبات الحج. الواجب الثاني: الوقوف بعرفة حتى يتحقق مغيب الشمس قال المصنف: [والوقوف بعرفة إلى الغروب]أي: ومما يجب على الحاج إذا وقف في النهار أن يمسك جزءاً من الليل، والمراد بذلك أن يبقى إلى أن تغيب الشمس ويمسك جزءاً من الليل، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى أمسك جزءاً من الليل، وذلك بتحقق مغيب الشمس، وقد وقع فعله عليه الصلاة والسلام بياناً لواجب. والقاعدة: أن بيان الواجب واجب، وعلى هذا لما بقي عليه الصلاة والسلام وتكلف البقاء إلى المغيب، دل على أنه إذا وقف بالنهار لابد وأن ينتظر إلى مغيب الشمس، وأنه إذا دفع قبل مغيب الشمس وجب عليه أن يرجع، فإذا رجع قبل طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر سقط عنه الدم؛ لأنه رجع رجوعاً يجزئه عما أوجب الله عليه، وأما إذا لم يرجع حتى طلع الفجر فإنه يلزمه الدم؛ لأنه أخلّ بواجب من واجبات الحج. الواجب الثالث: المبيت بمنى ومزدلفة ودليل وجوبهما قال المصنف: [والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى ومزدلفة إلى بعد نصف الليل] المبيت ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: المبيت بمزدلفة، والأصل في وجوبه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بالمزدلفة ورخص للضعفة من أهله ومن الناس، والقاعدة: أن الرخص لا تكون إلا في الواجبات؛ لأنها استباحة لمحظور، وعلى هذا قالوا: لما أذن صلوات الله وسلامه عليه للضعفة من أهله، وأذن للضعفة من الناس، دل على أن الأصل أن المسلم ملزم بالمبيت بمزدلفة، والجمهور على وجوبه، وعلى هذا فإنه إذا أخلّ بهذا المبيت ولم يبت بمزدلفة، فإنه يجب عليه الدم كسائر الواجبات. القسم الثاني: المبيت بمنى، والمبيت بمنى يكون ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر لمن لم يتعجل، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رخص للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن يبيت بمكة ليالي التشريق من أجل السقاية) ، قال العلماء: لما رخص عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب ، دل على أن الأصل أنه يجب على من حج البيت أن يبيت بمنى، والمبيت بمنى واجب وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله، والقاعدة: أن الرخصة لا تكون إلا على وجه يستباح به المحظور، فدل على أن الأصل وجوب المبيت، وأن مبيته بغير منى محظور، لكنه جاز للعباس بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حكم العباس بن عبد المطلب كل من تعلقت به مصالح الحج ومصالح الحجاج، فمن يكون قائماً على شئون الحجاج وتتعلق به مصالح ومنافع للحجاج عامة، كمصالح علاجهم أو مصالح سقايتهم أو نحو ذلك من المصالح العامة، فإنه يجوز له أن يترخص بالمبيت خارج منى، إن كانت هذه المصلحة التي يقوم بها لعموم الحجاج تستلزم منه ذلك، ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاة، والرعاة كما لا يخفى تتعلق بهم مصلحة عامة للحجاج؛ وذلك أنهم يحتاجون إلى البهائم؛ وذلك لأداء الواجب والفرض على الحاج من الإهداء للبيت، خاصة في نسك التمتع والقران، فقال العلماء رحمهم الله: كل من تعلقت به مصلحة عامة للحجاج، فإنه يرخص له بالمبيت خارج منى، هذا إذا توقفت المصلحة والقيام بها على ذلك الترخيص. قوله: (إلى بعد نصف الليل) قد تقدم بيانه والكلام عليه، وذكرنا أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه عليه الصلاة والسلام أنه بات بالمزدلفة، وإنما رخص للناس الذين هم بحاجة للرخصة -من النساء وكبار السن والأطفال- أن يدفعوا بعد منتصف الليل لوجود ضرورة وحاجة، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: (كنت فيمن قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعفة أهله) فظاهر السنة أنه يبيت بمزدلفة، ولو قلنا للناس: إن المبيت يتأقت إلى منتصف الليل، فمعنى ذلك: أنه سيخرج القوي الجلد لكي يؤذي ضعفة المسلمين، ولذلك قلنا: إن السنة على أنه يبقى، ولا يترخص إلا من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع، أما قياس غير المضطر وغير المحتاج وغير الضعيف على الضعفة والمحتاجين، فإن هذا يؤدي إلى مضايقة المحتاجين والضعفة، ويؤدي إلى مخالفة مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن يمضي الحطمة والضعفة ويسبقوا الناس، ويتمكنوا من الرمي في وقته، قبل أن يدهمهم الناس، وعلى هذا فلو قيل: إنما يجب أن يبقى إلى منتصف الليل وللقوي الجلد أن يمضي، فإن هذا يؤدي إلى مزاحمتهم وأذيتهم للضعفة الذين قصد الشرع التخفيف عليهم، واستنباط كل معنىً يؤدي أو يعود إلى إلغاء المقصود الشرعي من أصل الرخصة يعتبر لاغياً؛ لأننا إذا قلنا: إن إذنه عليه الصلاة والسلام للضعفة أن يدفعوا بعد منتصف الليل، يدل على أن الواجب أن يمسك ولو جزءاً بعد منتصف الليل ثم يدفع، فإن هذا يؤدي إلى إلغاء معنى الرخصة؛ لأن معنى الرخصة التخفيف على الضعفة، ولو أننا ألزمنا الناس بالأصل والسنة في وجوب المبيت عليهم بمزدلفة، فإن هذا يمكن الضعفة من أن يتمتعوا برخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرخصة التي رخص الله لهم. الواجب الرابع: رمي الجمار قال المصنف: [والرمي]قوله: (والرمي) أي: رمي الجمار، وقد تقدم بيان الرمي وما يرمى به وضابط الرمي، والمراد بهذا أن الرمي يعتبر واجباً من واجبات الحج؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى، وقد وقع رميه بياناً لواجب فأصبح واجباً. وقال جمهور العلماء: إن الرمي يعتبر واجباً من واجبات الحج، والرمي رمي جمرة العقبة يوم النحر، ورمي الثلاث الجمار يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر لمن لم يتعجل. الواجب الخامس: الحلق أو التقصير قال المصنف: [والحلاق]قوله: (والحلاق) أي: أن الحلق أو التقصير يعتبر نسكاً من نسك الحج وواجباً من واجباته، ولذلك فرضوا هذا حتى في مسألة المحصر كما سيأتي إن شاء الله تعالى. الواجب السادس: طواف الوداع قال المصنف: [والوداع]قوله: (والوداع) أي: أنه يجب على من حج أن يطوف طواف الوداع، والدليل على وجوب طواف الوداع قوله عليه الصلاة والسلام -فيما ثبت في الصحيح عنه- (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)، وجه الدلالة من هذا الحديث: أن قوله: (اجعلوا) أمر، والقاعدة في الأصول: أن الأمر للوجوب حتى يدل الدليل على خلافه، وليس ثمّ دليل يصرف هذا الأمر عن ظاهره الدال على الوجوب، ولذلك قال جمهور العلماء: إن طواف الوداع يعتبر واجباً من واجبات الحج، إلا أن هذا الواجب يسقط عن المرأة الحائض والنفساء، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والنفساء) ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم من صفية ما يريد الرجل من امرأته، قالوا: يا رسول الله! إنها حائض فقال: عقرى حلقى أحابستنا هي، ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذن -وفي رواية: فانفري-) فأسقط عنها طواف الوداع؛ وذلك لوجود العذر الموجب للإسقاط، وهو كونها قد أتاها الحيض، ومن هنا قال العلماء: يسقط الوجوب عن المرأة الحائض والمرأة النفساء، ويجب على سائر من حج أن لا ينفر ولا يصدر إلا بعد أن يطوف طواف الوداع، وقد بينا ضابط الوداع وما يتحقق أو تتحقق به موادعة البيت. سنن الحج وضرورة العمل بها إلا من عذر قال المصنف: [والباقي سنن]قوله: (والباقي سنن) أي: أن ما وصفته لك من صفة الحج غير الأركان والواجبات التي ذكرتها لك يعتبر سنة، والسنة: ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فهي من هدي رسول الله صلى عليه وسلم، جعل الله الخير والهدى والرحمة لمن التزم بها، وعمل بها واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتدى به فيها، وأما إذا تركها المسلم فإنه لا ملامة عليه، ولا حرج عليه فهي على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب، والإنسان في السنة مخير بين أن يفعل وبين أن يترك، وهذه السنة من تركها لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يترك هذه السنة وهو يحب فعلها، ولكن طرأ عليه العذر وطرأ عليه ما لا يستطيع معه القيام بهذه السنة، فلو فرضنا مثلاً أن الإنسان سعى بين الصفا والمروة -وكان من هديه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه أن يدعو على الصفا والمروة- فلما رأى الناس وشدة الزحام ذهب بسبب شدة الزحام ولم يستطع أن يقف، وهو في نيته ونفسه أنه لو تمكن لوقف، أو كان وقوفه يخشى معه الفتنة، ويخشى معه أذية الضعفة ونحو ذلك، وتحقق من وجود هذا الضرر، فانصرف عن الدعاء وفي نفسه أنه يحبه، وأنه لولا هذا العذر لوقف ودعا، فإن الله يبلغه أجر هذه السنة، ويبلغه ثواب من عمل بها لمكان العذر. الحالة الثانية: أن يتركها وهو قادر على الفعل، فإنه حينئذٍ لا يخلو من ضربين: الضرب الأول: أن يتركها ترخصاً برخصة الشرع، ورأى أنها سنة وتركها وهو يعتقد فضلها ويعتقد ما لها من مزية فلا إشكال، فهذا قد فاته الأفضل ولكن لا يلام ولا يذم. الضرب الثاني: أن يتركها -والعياذ بالله- زهداً فيها، فهذا هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، فالزهد في السنن لا خير فيه، ولذلك ينبغي على طالب العلم أن لا يجعل من علمه بالسنة طريقاً للزهد فيها، فإنك ترى بعض الناس -أصلحهم الله- إذا طُلِبَ منهم أن يفعلوا أمراً من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلوا عليه، قالوا: هذا سنة، ولا يقصدون من ذلك أنه لا يجب فعله، وإنما هو على سبيل التهكم أو على سبيل الرغبة عنها، نسأل الله السلامة والعافية! فمثل هذا نبه العلماء رحمهم الله على أنه لا خير فيه للإنسان. وقال بعض أهل العلم في قوله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[النور:63]: إنه عموم هديه، وإن المراد هنا بالمخالفة إما في الواجبات وإما على سبيل الرغبة عما ليس بواجب، وكل ذلك لا خير فيه؛ لأن الله توعد صاحبه بالفتنة نسأل الله السلامة والعافية! وكان بعض السلف يكرهون ترك السنن، خاصة لطلاب العلم ولمن هم قدوة وأهل فضل، فإن طلاب العلم وأهل العلم إنما فضلهم الله بالعلم وشرفهم به إذا عملوا به، ومن عمل بالعلم رفع الله قدره بهذا العلم، وطيبه وطيب العلم منه إذا عمل به وحرص عليه، فإن من عمل بعلمه ورَّثه الله علماً لم يكن يعلمه، قال بعض السلف: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. فمن عمل بالسنن وطبقها فإن الله يورثه بركة هذه السنن، وذلك بالانتفاع بعلمه، أما إذا كان طالب العلم تستوي عنده فعل السنن وتركها فهذا لا يخلو من نظر، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن رجل يترك الوتر؟ قال: لا خير فيه. وذلك على سبيل عدم الحرص على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض العلماء: إذا ترك طالب العلم السنن الراتبة لا أقبل شهادته. أي: أن هذا يدل على أنه ليس على الحال الأمثل؛ لأن لطلاب العلم مزية على العوام وعلى سائر الناس، فالناس تقتدي بهم وتهتدي بهديهم، فعلى الإنسان أن يحرص خاصة إذا كان من طلاب العلم على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله العظيم أن يجعلنا من أهلها وأن يحشرنا في زمرتهم. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (241) صـــــ(1) إلى صــ(27) أركان العمرة وما يتعلق بها من أحكام قال المصنف: [وأركان العمرة: إحرام] الركن الأول: الإحرام للعمرة بنية الدخول في النسك قوله: (وأركان العمرة: إحرام) تقدم هذا في أركان الحج، وأن مذهب طائفة من أهل العلم: أن الإحرام ونية الدخول في النسك يعتبر ركناً من أركان الحج والعمرة، فلا يحكم بدخول الإنسان في النسك إلا بها، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) وهي ركن من أركان الحج وركن من أركان العمرة، وقد تقدم بيان ضابط الإحرام، وبيان ما ينبغي للإنسان أن يلتزمه إذا نوى الدخول في نسك الحج ونسك العمرة. الركن الثاني: الطواف قال المصنف: [وطواف]قوله: (وطواف)، فالطواف في العمرة يعتبر ركناً من أركانها، فلا يحكم للإنسان بكونه معتمراً إلا إذا طاف بالبيت، فلو جاء وأحرم من الميقات وسعى بين الصفا والمروة ورجع إلى بلده فإن عمرته لم تكتمل، ويلزمه أن يرجع ويطوف بالبيت، ثم يعيد السعي؛ لأن السعي لا يصح إلا إذا تقدمه طواف كما تقدم تفصيله في موضعه. الركن الثالث: السعي بين الصفا والمروة قال: [وسعي]أي: السعي بين الصفا والمروة، فإن السعي يعتبر ركناً من أركان العمرة، وهذا على مذهب جمهور العلماء رحمهم الله. واجبات العمرة وما يتعلق بها من أحكام قال المصنف: [وواجباتها: الحلاق] الواجب الأول: الحلق أو التقصير للمعتمر أي: أن من واجبات العمرة الحلاق، والمراد بالحلاق هنا: أن يحلق أو يقصر، وسواء أخذ بالرخصة وهي التقصير، أو أخذ بالأفضل وهو الحلق، فالمراد بذلك أن يتحلل من عمرته. الواجب الثاني: الإحرام من الميقات قال المصنف: [والإحرام من ميقاتها، فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه].أي: أن من واجبات العمرة: الإحرام من الميقات، فإن الإحرام من الميقات لازم في العمرة كما هو لازم في الحج كما لا يخفى. فمن ترك نية الدخول في العمرة وهو الذي عبر عنه بالإحرام لم ينعقد نسكه، فلو أن سائلاً سألك فقال: مررت بالميقات ولكنني لم أنو، ومضيت إلى مكة وطفت وسعيت؟ تقول: لست بمعتمر، وطوافك وسعيك نافلة ولا يعتد به، وإنما العمرة أن تنوي الدخول في النسك، وعلى هذا فإنه لا ينعقد الإحرام بدون وجود هذه النية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، وقد تقدم بيان الأدلة على اعتبار النية بالدخول في العبادة حينما تكلمنا على مسائل الإحرام. حكم من ترك ركناً من أركان العمرة غير الإحرام قال المصنف: [ومن ترك ركناً غيره]أي: ومن ترك ركناً غير الإحرام لم ينعقد نسكه إلا به، فنحن نقول: إن المعتمر إذا ترك الطواف بالبيت أو ترك السعي بين الصفا والمروة فإنه ليس بمعتمر، ولو جامع أهله قبل أن يطوف الطواف المعتبر، أو قبل أن يسعى السعي المعتبر حكم بفساد عمرته، وعليه المضي في هذه العمرة الفاسدة إتماماً لها على ظاهر نص آية البقرة، ثم يلزم بقضاء عمرته الفاسدة بعد انتهائه منها كما سبق بيانه. حكم من ترك النية في ركن من أركان الحج والعمرة قال المصنف: [أو نيته لم يتم نسكه إلا به]أي: أنه إذا لم ينو قبل أداء الركن، كأن يطوف بالبيت دون أن ينوي أنه عن طواف عمرته، أو لم ينو عن طواف الإفاضة فإنه لا يجزيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ، وهذا مبني على قول طائفة من أهل العلم في أن الأركان تحتاج إلى نية، فأركان الحج ينبغي أن يستحضر الحاج النية عند الابتداء بها، ومن أهل العلم من اختار أن الحج له نية واحدة تجزي عن سائر أفعاله، ولا يرى أن النية تتجدد بتجدد الأركان أو الواجبات، والأول أقوى وأجزم للأصل، ولا شك أن المسلم إذا التزم به أنه أبرأ لذمته وأورع له في عبادته، وبناء على هذا القول فلابد إذا أراد أن يطوف طواف الإفاضة أن ينوي، فلو لم ينو عند طوافه بالإفاضة لم يجزه ذلك الطواف عن الإفاضة، ولم يقع ركناً على الوجه المعتبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل اعتبار العبادة موقوفاً على وجود النية المعتبرة، فإذا لم ينوها فإننا لا نحكم باعتبار طوافه ولا باعتبار سعيه، ونحوها من الأركان اللازمة. حكم من ترك واجباً من واجبات الحج والعمرة قال المصنف: [ومن ترك واجباً فعليه دم]أي: أن من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة فعليه دم، والأصل في ذلك فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال بعض أهل العلم: الأصل في ذلك حديث كعب بن عجرة ، وهذا الحديث حاصله: أن كعب بن عجرة يوم الحديبية رضي الله عنه وأرضاه لما حُمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى، أتجد شاة؟ قال: قلت: لا، ثم نزلت آية الفدية) ، قالوا: فأمره بالدم أولاً، وكان هذا بمثابة الأصل، وهو أن الإخلالات أو الخروج من الواجبات أو الوقوع في المحظورات إنما يفتدى فيه بالدم، فنزلت آية الفدية استثناء من الأصل وبقي ما عداها من الواجبات اللازمة على الأصل الموجب لضمانها بالدم. ثم إن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه، انتزع من آية التمتع وجوب الدم على من ترك الواجب، وتوجيه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أوجب على من جاء بالعمرة في أشهر الحج -وبقي بمكة ثم أحرم بالحج من مكة- إن كان آفاقياً أن يريق دماً، وبالإجماع على أن المتمتع يلزمه الدم بشروط التمتع المعروفة، على ظاهر آية البقرة في التمتع، قالوا: فوجب على الآفاقي إذا تمتع أن يريق دم التمتع، وهذا الدم إنما وجب عليه؛ لأنه كان الفرض عليه بعد انتهائه من عمرته أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته، فلما ترك هذا الواجب ألزمه الشرع بالدم ضماناً له، ويدل على هذا أن أهل مكة حينما يتمتعون من مكة يتمتعون بالحج والعمرة، فيوقعون العمرة في أشهر الحج ويهلون بالحج بعدها ولا يجب عليهم الدم؛ لأنهم أحرموا بالنسكين من الموضع المعتد به، وأما الآفاقي فإنه يلزم بالدم، فدل تفريق الشرع بين الآفاقي وبين المكي في الإلزام بالدم، أن ذلك مبني على وجود السفر من الآفاقي؛ والسبب في هذا السفر إنما هو الواجب عليه من كونه يحرم من الميقات، قالوا: وعلى هذا كانت فتواه المشهورة، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح: (من ترك شيئاً من نسكه فليهرق دماً) . ثم قالوا أيضاً: إن الشرع أوجب على من كان به الأذى في رأسه، فهذا كعب بن عجرة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض معذور من الشرع، قد دلت الأدلة على أن مثله يستحق أن يخفف عنه، ومع ذلك ألزمه الشرع بالفدية، قالوا: فإذا كان هذا المعذور عند تركه لهذا المحذور وحلق رأسه، أو أخل بالمحذور الذي ينبغي أن يلتزم تركه في إحرامه، ألزمه الشرع بالفدية التي فيها الدم، فمن باب أولى من يتعمد الإخلال، إذ لا يعقل أن تقول لإنسان يترك الواجب من دون عذر: لا شيء عليك، وتقول لمن هو معذور: يجب عليك واحد من ثلاثة: أن تطعم ستة مساكين، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تذبح شاة، مع أن الله عذره وقال: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:196] قالوا: فأصول الشرع تقوي فتوى ابن عباس . ثم إننا وجدنا جماهير السلف رحمهم الله، ومنهم الأئمة الأربعة، وأتباع الأئمة الأربعة كلهم يفتون: أن من ترك الواجب فعليه دم، ولا شك أن مخالفة هذا السواد الأعظم من الأمة مع فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وعدم وجود من خالفه من الصحابة رضوان الله عليهم أمر لا يخلو من نظر، وعلى هذا درج جماهير السلف والخلف رحمهم الله على إلزام من ترك الواجب بالدم، وعليهم انعقدت فتاوى أئمة الإسلام، فقل أن تجد من أسقط الدم عمن ترك الواجب، وهو الذي اشتهر وذاعت الفتوى به، خاصة وأن له منتزعه من دليل الكتاب وظاهر حديث كعب بن عجرة الذي ذكرنا. فقوله: (ومن ترك واجباً فعليه دم) أي: يلزمه دم، والدم هنا نكرة، وليس المراد به كل دم، وإنما المراد الواجب عليه شاة، وهذه الشاة تذبح بمكة ولا تذبح بغيرها؛ لأنه دم واجب، كما أوجب الله في قتل الصيد الذي هو إخلال في النسك، أن يكون هدياً بالغ الكعبة، فيجب عليه أن يكون بمكة، وهذا الدم يسمونه: دم الجبران في الواجبات، والأصل في إيجابه أنه منتزع من آية التمتع، والمتمتع لا يصح منه أن يريق دمه خارج مكة، قال صلى الله عليه وسلم: (نحرت هاهنا وفجاج مكة وشعابها كلها منحر)، فدل هذا على أنه ينبغي أن يتقيد بهذا الدم بمكة، ويكون طعمة للمساكين فهو دم واجب عليه كالهدي الواجب في قتل الصيد. حكم من ترك سنة من مسنونات الحج والعمرة قال المصنف: [أو سنة فلا شيء عليه]أي: من ترك السنة فلا شيء عليه؛ ولكن بشرط: أن لا يتركها رغبة عنها، فإذا تركها -والعياذ بالله- زهداً فيها وانتقاصاً لها ورغبة عنها فإنه يستغفر ويتوب إلى الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل هذه الرغبة عن السنة مذمومة فقال: (من رغب عن سنتي فليس مني) والقاعدة في الأصول: أن الذم لا يستحق إلا على ترك واجب أو فعل محرم. فلما كانت الرغبة عن السنة محرمة قال صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي) أي: زهد فيها (فليس مني) أي: ليس على هديي الكامل). الأسئلة حكم من تجاوز الميقات السؤال: من تجاوز الميقات ناسياً أو جاهلاً، فوصل إلى مكة في وقت ضيق لا يمكنه معه العودة إلى الميقات، فهل يسقط عنه الدم؟ وإذا كان ليس لديه قدرة مالية على ذبح الدم فماذا عليه؟ الجواب: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: ظاهر السؤال أنه تجاوز الميقات ناسياً، وعلى هذا ظاهره أنه لم يحرم، فإذا كان قد نسي ومضى وبلغ البيت وطاف وسعى فإنه ليس بمحرم أصلاً، وحينئذٍ لا تنعقد عمرته ولا ينعقد حجه. فإذا كان على هذا الوجه فإنه لم يحرم من الميقات؛ فالسؤال: ماذا يفعل إذا غلب على ظنه أنه لو رجع إلى الميقات يفوته الوقوف بعرفة؟ مثال: لو أن إنساناً خرج من المدينة ومرَّ بالميقات ولم يلبِّ -نسي أن يحرم- ثم وصل إلى مكة فتذكر، وكانت بينه انتهاء وبين وقت الوقوف ساعة أو ساعتين، فلو قلنا له: ارجع إلى المدينة، فاته الوقوف بعرفة. فالحل في هذه الحالة: أن ينوي ويلبي ويعقد النية من موضعه، ثم يلزمه الدم؛ لفوات الواجب الذي ذكرناه. وعلى هذا فإن الإحرام من الميقات الإلزام به من جهة الحكم الوضعي، ويستوي فيه الناسي والمتعمد، فإن أمكنه أن يتدارك تدارك، وإن لم يمكنه التدارك فإنه يجبره بالدم، وفوات الواجب أهون من فوات الركن، وعليه فإنه يحرم من موضعه ثم يدرك الحج وعليه دم الجبران، وإلا صام عنه على الأصل الذي ذكرناه في ضمان دم الجبران بالصيام. وأما إذا كان جاهلاً وعلم فإنه يلزمه الرجوع ثم يحرم من الميقات أيضاً، ويعقد نيته المعتبرة من الميقات، فإن رجع على هذا الوجه ولم يحرم دون الميقات سقط عنه الدم؛ لأن من مرَّ بالميقات ثم ذكِّر أو علِّم ورجع إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم. وهذا على قول جماهير أهل العلم رحمهم الله؛ فإن كان جاهلاً وتعلم ورجع إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم، وإن كان جاهلاً وتعلم وأحرم من دون الميقات فحكمه حكم الناسي إذا أحرم من دون الميقات سواء بسواء، إلا أنه في حال الجهل والنسيان يسقط عنه الإثم؛ لوجود العذر -على الظاهر- وإن كان في الجاهل نظر؛ لأنه في هذا العصر يتيسر سؤال العلماء والرجوع إليهم، وأهل العلم ينصون على أن من تلبس بالعبادة يجب عليه سؤال أهل العلم عن كيفية تطبيقها، فإذا قصر في السؤال لم يخل من نظر موجب للتبعية من جهة هذا التقصير. والله تعالى أعلم. سبب اختيار ركنية الإحرام السؤال: لماذا جعل المصنف رحمه الله الإحرام ركناً للحج والعمرة، مع أن الإحرام هو نية، ومن المعلوم أن النية شرط وليست بركن؟ الجواب: هذا إشكال معروف ذكره العلماء رحمهم الله، ويتناظرون فيه بين القولين المشهورين: من يرى أن النية من الواجبات، ومن يرى أنها ركن، ولكن لما توقف اعتبار العبادة عليها كانت أشبه بالركنية من هذا الوجه، خاصة وأن من يقول: إنها ليست بركن يقول: الركن ما تتوقف عليه ماهية الشيء، فالركن لا تتوقف عليه الماهية من حيث الوجوب كأركان البيع كما هو واضح ولا يخفى، فقالوا: إن النية من هذا الوجه أشبه بالواجبات والشروط منها بالأركان، والقول بكونها ركناً مبني على أن فواتها فوات للعبادة، والعبادة لا تقع أصلاً بدونها، وكانت شبهيتها بالركن من هذا الوجه، وكأنهم نزلوا الصورة الحكمية في الشرع منزلة الصورة الوجودية في النظر، وقولهم قوي من هذا الوجه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف، وإلا فهناك من أهل العلم من يرى أنها من الواجبات أو الشروط، لكن القول بالركنية له حظه من النظر الذي ذكرناه، وعليه فإنها تكون من الأركان لوجود الشبهية من جهة حكم الشرع بعدم الاعتداد بدونها، فنزل منزلة الفقد للاعتبار منزلة الفقد للوجود؛ فكانت أشبه بالركن، وتوقف الماهية عليها من هذا الوجه. والله تعالى أعلم. وصية لطالب العلم السؤال: تألمنا كثيراً لغيابك عنا، فنرجو أن لا تقطع تواصلك بنا. وجزاكم الله خيراً؟ الجواب: الله يعلم إنا نحبكم كما تحبونا، ويعلم الله كم يحصل في النفس من شوق وحب للقائكم، ووالله إني لآتي في مشقة السفر وعنائه والله يعلم أنه يزول جميع ما بي حين أراكم، وأسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى كما جمعنا في هذا البيت الطيب الطاهر المبارك أن يجمعنا في دار كرامته، وأن يجعل كل لقاء من هذه اللقاءات اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا أبداً شقياً ولا محروماً، ووالله إنه ليصيب الإنسان الهم والغم، ويجد من لأواء الفتن والمحن ما الله به عليم، ولم يبق سلوة إلا بذكر الله، والجلوس مع الأحبة والإخوان في الله، وأسأل الله العظيم أن يديم هذا التواصل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم. وخير ما أوصي به: إرادة وجه الله العظيم، فإن الدنيا فانية، وكم من أحبة اجتمعوا وآلَ اجتماعهم إلى افتراق، وكم من أحبة تواصلوا وآلت صلتهم إلى فرقة وشتات؛ لأنها لم تقم على ذكر الله، والمحبة فيه، والتواصل في ذاته، ولقد وجبت محبة الله للمتزاورين والمتحابين والمتجالسين فيه، وتأذن الله لمن جلس مجلس ذكر لله وفي الله أن تغشاه السكينة، وأن تتنزل على هذه المجالس الرحمة، وأن يذكرها الله فيمن عنده. ومما ينبغي أن نتواصى به: شكر الله على نعمه، فإن الله عز وجل اختار الدنيا لمن أحب وكره، ومن أراد الدنيا صرفه الله إليها وفتح له من أبوابها وخيراتها وفتنها حتى لا يبالي به في أي أوديتها هلك -نسأل الله السلامة والعافية- ولكن الله لا يعطي الدين إلا لمن أحب، ومن أعظم الدين وأجله وأزكاه وأنفعه: العلم النافع، والجلوس في حلق الذكر، وغشيان حلق العلماء، وحبهم والتواصل معهم، وتكثير سواد مجالس الذكر لله وفي الله لا رياء ولا سمعة، ولكن لمرضاة الله عز وجل. ومما يوصى به طلاب العلم: شكر الله على نعمه وحمده سبحانه، فكل مجلس يمر عليك احمد الله على فضله، وقل: الحمد لله أنه لم يمر عليك هذا المجلس وأنت في صخب الدنيا ولغطها ولهوها وفتنها، الحمد لله أن اصطفاك واجتباك، وما يدريك فلعلك تقوم من هذا المجلس وقد بدلت سيئاتك حسنات، وما يدريك أنك بإخلاصك وإرادتك لوجه الله أن الله يقبل منك هذه النية الخالصة، فيغفر لك ما تقدم من ذنبك، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله غفر لعبد خطاء الكثير من الذنوب؛ لما مر على مجلس ذكر للصالحين فجلس معهم)، فنسأل الله العظيم أن يعيننا على هذا الخير، ويوفقنا لشكر نعمه، فإن من شكر الله زاده، وإذا زاد الله العبد في نعمته بارك له فيها. ومما يوصى به الأحبة في مثل هذه المجالس: إتباع العلم العمل، والحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تتعلم شيئاً إلا وعملت به ودللت الناس عليه. ومما نتواصى به حب الخير للمسلمين لنشر هذا العلم، وأن تكون قلوبنا مليئة بحب الخير لإخواننا المسلمين، فنتعلم هذا العلم، ونشهد الله من الآن أننا لا نريد به علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما نريد به وجه الله وما عند الله من نفع المسلمين بدلالتهم على الخير، ومن نوى الخير فإن الله عز وجل تأذن له بأحد أمرين: الأول: إما أن يمتع عينه ويقرها في الدنيا قبل الآخرة برؤية الخير الذي نواه؛ فإذا نويت من الآن أن تحمل هذا العلم للأمة فتهدي ويهدى بك، وتدل الناس على الخير؛ ليأتين يوم يقر الله عينك لما نويت من الخير، وهذا مشهد لله -ولا نزكي أنفسنا في طلبنا للعلم- فما وجدنا الله إلا وفياً لعباده: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[التوبة:111] ، والله تعالى يقول: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[المائدة:12] فالله مع عباده عامة، وخاصتهم من أهل العلم وطلاب العلم. فيحرص الإنسان أن تكون نيته فيها نفع أبناء المسلمين، وأن لا يبخل على الناس بهذا العلم، فإما أن يريك الله بأم عينك أثر هذه النية الصالحة، ويأتي اليوم الذي تنعم فيه عينك بحمل العلم عنك، فتأمر فتجد الناس حين تفتيهم يأتمرون بأمرك وينتهون بنهيك؛ لأن الله هو الذي يقلب القلوب ويثبتها، فإذا علم الله منك النية الصالحة قلب القلوب على حبك والثقة بما تقول، والناس تشتري السمعة بالأموال، والله تعالى زكى أهل العلم ووضع لهم من الحب والود في قلوب عباده ما لو بذلوا له أموال الدنيا ما استطاعوا أن يصلوا إليه، وهذا كله بفضل الله. الثاني: أن يبلغك الله الأجر بنيتك، ويصرف عنك البلاء بالعلم؛ لحكمته وعلمه سبحانه، فيبلغك أجر هذا العلم وأجر ما نويت من نشر العلم بنيتك. فعلى الإنسان أن يجعل من هذه لمجالس عوناً له على طاعة الله، ومحبته؛ فالدنيا فانية. وكم جلسنا مع علماء قرت عيوننا برؤيتهم فأمسينا وأصبحنا كأن لم يكن شيء، وسيأتي يوم لا يرى الإنسان فيه من يراه: كأن شيئاً لم يكن إذا انقضى وما مضى مما مضى فقد مضى ومما يوصى به أيضاً: الحرص على اغتنام العلم، واغتنام وجود العلماء وحلق الذكر، والحرص على الجد والاجتهاد، لا أن يأتي الإنسان إلى مجلس الذكر لكي يشغل وقت فراغه؛ إنما يأتي لكي يعلَم ويعمل ويعلِّم، ويحس أنها أمانة ثقيلة، وأن الله معينه ومسدده. ووالله ثم والله ما صدقت مع الله إلا صدق الله معك، وليفتحن الله لك من أبواب الخير والرحمة ما لم يخطر لك على بال، فإن أساس هذا الدين وأساس هذه الملة قائم على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الدين والوحي الذي أوحى الله إلى نبيه، فإذا تجرد طلاب العلم لحمله وصدقوا مع الله صدق الله معهم، وجعل فيهم الخير للأمة، ونفع بهم الإسلام والمسلمين، ووالله ما حملت علماً صادقاً تريد به وجه الله إلا بلغه الله عنك، والله عز وجل على كل شيء قدير. المهم أن هذه القلوب -التي تتقلب على العبد آناء الليل وأطراف النهار- تستشعر قيمة هذا العلم. وقد كان السلف لا يشتكون من شيء مثل قلوبهم، وقال سفيان رحمه الله: ما رأيت مثل قلبي -وفي رواية: ما رأيت مثل نيتي- إنها تتقلب عليَّ. والله عز وجل لا ينظر إلى عبده على كمال وجلال مثلما ينظر إليه وهو عالم عامل قائم بحجة الله عز وجل على خلقه، فهؤلاء هم ورثة الرسل والأنبياء (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم)، فيشهد الله أن هذا التواصل نريد به وجه الله، ولا نزكي أنفسنا على الله، ولكن نتمنى من طلاب العلم ونحب لهم ما نحب لأنفسنا من الإحساس بهذه النعمة، والحرص على ضبط هذا العلم، وكل طالب علم شعر أن هذا العلم عزيز، وأعطاه ما ينبغي أن يُعطاه من الإجلال والمحبة فسوف ينفعه الله عز وجل به عاجلاً أم آجلاً. فإن الرجل إذا رأيته يعطي الشيء العزيز وهو يشعر بعزته فيحتضنه ويكتنفه، كانت العقبى بعزته ورفعته، فكم من أنفس زهقت في دفاع عن الأموال لما عزت على أصحابها، وكم من أنفس ذهبت في دفاع عن الأعراض لما عزت الأعراض على أهلها، فإذا عز العلم على أهله وعز العلم عند أصحابه بذلوا له ما ينبغي أن يبذل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وأن يسددنا، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العلم حجة لنا لا علينا، وأن يغفر لنا ولكم ما يكون فيه من الزلل والخطأ، إنه ولي ذلك والقادر عليه. حكم طواف الوداع لمن أصابه مرض ويخشى فوات رفقته السؤال: رجل انتهى من جميع أعمال الحج عدا طواف الوداع، ثم أصيب بمرض لا يستطيع معه الطواف إلا بمشقة كبيرة، ومعه رفقة ولا يستطيع أن يتأخر عنهم، فهل يسقط عنه الطواف؟ الجواب: طواف الوداع واجب من واجبات الحج، أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة الحائض والنفساء، ولا يُجري كثير من أهل العلم القياس في هذا ولا يطرده، ويقولون: إن أمكنه أن يأتي به ولو ببعض المشقة أتى به، وإن كان لا يستطيع أثناء المرض ينتظر حتى يذهب ما به من المرض ثم يطوف إذا أمكنه التأخير، وأما إذا لم يمكنه وصدر مباشرة فإنه يلزمه الدم وإلا صام عنه عشرة أيام. والله تعالى أعلم. حكم التنفل بالسعي بين الصفا والمروة السؤال: هل يشرع التنفل بالسعي بين الصفا والمروة كما يشرع التنفل بالطواف؟ الجواب: قال بعض العلماء: إنه لا يشرع السعي بين الصفا والمروة إلا في الفرض، أي: في الحج والعمرة. وقال بعض العلماء: إنه يجوز أن يتنفل في سعيه بين الصفا والمروة؛ لعموم قوله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:158] ، وحكى بعض العلماء الإجماع عليه، لكنه لا يخلو من نظر في حكايته الإجماع، وقيل: إن مراده التنفل بالسعي أثناء الحج: أنه لا يتنفل كما أنه لا يتنفل بالطواف تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (242) صـــــ(1) إلى صــ(27) شرح زاد المستقنع باب الفوات والإحصار [1] لقد شرع الله عز وجل أحكاماً تخص من فاته الحج أو أحصر عنه بعدو أو مرض أو نحوه، وتشريع هذا دليل على رحمة الله عز وجل وتيسيره، والتي منها: قضاء الحج أو العمرة من قابل، وغيرها من الأحكام التي ذكرها الشيخ وفصل فيها، وهي أحكام تشمل الحج والعمرة جميعاً. الفوات والإحصار في الحج والعمرةبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الفوات والإحصار] هذا الباب فيه مناسبة لطيفة؛ فبعد أن بَيَّن المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ذكر أن الفقيه محتاج إلى بيان مسألة مهمة، وهي: هب أن إنساناً نوى الحج، وتلبس بنسكه، وأحرم به، ثم فاته الحج، أو نوى به العمرة، ثم صد عن البيت، ولم يتمكن من الوصول إليه؛ فما حكم الأول، وما حكم الثاني؟ وهذا ما يعبر عنه بالفوات والإحصار؛ فما موقف الشرع ممن فاته الحج، وما موقفه ممن أحصر عن حجه أو عمرته؟ من هنا كان العلماء رحمهم الله يعتنون بعد بيان صفة العبادات ببيان فواتها؛ فيتكلمون عن أحكام قضاء العبادة بعد أن يتكلموا عن أحكام العبادة في مواقيتها، والحج يكون الكلام عنه في باب الفوات والإحصار. معنى الفوات والإحصار الفوات مأخوذ من قولهم: فات الشيء، إذا ذهب ولم يستطع الإنسان أن يدركه. والإحصار مأخوذ من الحصر، وأصل الحصر: المنع، يقال: حصر عن الشيء، إذا منع منه، والحصر والقصر كلٌّ منهما فيه معنى الحبس عن الشيء والمنع منه. ومعلوم أن المكلف مطالب -في الأصل- بإتمام عبادة الحج والعمرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بذلك فقال: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:196] ، ثم قال سبحانه: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:196]، فقسم الله عز وجل العباد إلى قسمين: قسم يتم عبادة الحج والعمرة، وقسم يحصر عن حجه وعمرته، ومن هنا لزم بيان أحكام الفوات والإحصار. أما الفوات فمسائله متعلقة بالحج فقط، وأما العمرة فلا يقال: فيها فوات، إلا في حق من حج قارناً، فقرن حجه مع عمرته؛ لأن العمرة في حق القارن تكون داخلة في حجه، وحينئذٍ يقال: فاتته العمرة. فالفوات في الأصل يكون في الحج؛ والسبب في تعلق الفوات بالحج: أن العمرة يجوز إيقاعها في سائر أيام العام ولياليه، بخلاف الحج فله ميقات معين وزمان محدد، كما أخبر الله جل وعلا عنه بقوله: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifالْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:197]، ومعلوم أن كل معين محدد أو مؤقت بزمان لا يتمكن كل المكلفين من إيقاعه في الزمان المعتبر له؛ كالصلاة، فإن الله جعل لصلاة الفجر مثلاً ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وليس كل الناس يتمكن من إيقاعها في هذا الزمان، فلربما نام عنها شخص ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، وحينئذٍ يرد السؤال: ما حكم من فاتته عبادة الصلاة على هذا الوجه؟ وكذلك يرد السؤال: ما حكم من أحرم بالحج ولم يستطع الوصول إلى عرفة قبل فجر يوم النحر، وإنما وصلها بعد طلوع الفجر؟ وحينئذٍ يحكم بفوات حجه. يقول المصنف رحمه الله: (باب الفوات والإحصار). وكأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل الشرعية والأحكام المتعلقة بمن فاته الحج أو أحصر عن الحج والعمرة. أحكام ومسائل تتعلق بالفواتبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الفوات والإحصار] هذا الباب فيه مناسبة لطيفة؛ فبعد أن بَيَّن المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ذكر أن الفقيه محتاج إلى بيان مسألة مهمة، وهي: هب أن إنساناً نوى الحج، وتلبس بنسكه، وأحرم به، ثم فاته الحج، أو نوى به العمرة، ثم صد عن البيت، ولم يتمكن من الوصول إليه؛ فما حكم الأول، وما حكم الثاني؟ وهذا ما يعبر عنه بالفوات والإحصار؛ فما موقف الشرع ممن فاته الحج، وما موقفه ممن أحصر عن حجه أو عمرته؟ من هنا كان العلماء رحمهم الله يعتنون بعد بيان صفة العبادات ببيان فواتها؛ فيتكلمون عن أحكام قضاء العبادة بعد أن يتكلموا عن أحكام العبادة في مواقيتها، والحج يكون الكلام عنه في باب الفوات والإحصار. حكم من فاته الوقوف بعرفة قال رحمه الله: [من فاته الوقوف فاته الحج وتحلل بعمرة]. قوله: (من فاته الوقوف) أي: الوقوف بعرفة، و(أل) هنا للعهد، والمراد به العهد الذهني، أي: الوقوف المعروف الذي هو ركن الحج؛ فقد فاته الحج. والوقوف ينتهي بطلوع الفجر الصادق من صبيحة يوم النحر، وعلى هذا يكون مراد المصنف بقوله: (من فاته الوقوف) أي: أن الشخص إذا لم يدرك الوقوف بعرفة ولو لحظة يسيرة قبل طلوع الفجر الصادق يوم النحر؛ فحينئذٍ يكون قد فاته الحج، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، وعلى هذا أفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه أمر أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه لما فاته الوقوف بعرفة أن يتحلل بعمرة، وقال له: (إن كنت قد سقت الهدي فانحره، ثم تحلل بعمرة)، وجاءه هبار بن الأسود في صبيحة يوم النحر فقال: يا أمير المؤمنين! ظننت أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ابق كما أنت، وائت البيت وطف واسع، ثم حج من قابل، واهد إلى البيت). فهذا يدل على أن من فاته الوقوف بعرفة أنه يحكم بفوات حجه، ويؤمر بالانصراف إلى العمرة، وأن يتحلل من الحج بالعمرة، وهذا بإجماع العلماء؛ فمن طلع عليه الفجر الصادق من صبيحة يوم العيد -يوم النحر- ولم يدرك ولو لحظة من الوقوف بعرفة، فإنه يتحلل بالعمرة وقد فاته الحج. ما يجب على من فاته الحج قال رحمه الله: [ويقضي]. فلو كان حجه نافلة ألزم بالقضاء، وكذا إن كان فريضة من باب أولى. وقوله: (ويقضي) أي: يلزمه أن يقضي هذا الحج؛ لقوله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:196]، فلما أحرم بالحج -ولو كان نافلة- لزمه الإتمام، وحيث لم يحج ولم يؤد الحج كما فرض الله عليه؛ لزمه أن يقضيه من عامه القادم إذا تيسر له الحج من العام القادم، وأما إذا لم يتيسر له أن يحج في العام الذي يلي العام الذي فاته فيه الحج وحبس عن البيت لمرض أو عذر، ثم حج بعد عام ثانٍ أو ثالث أو رابع؛ فإنها تجزيه حجته عن تلك التي حبس عنها؛ فيستوي أن يحج في العام الذي يليه أو في العام الذي بعده على الفور، ولا يجوز له أن يؤخر إلا أن يكون عنده عذر. قال المصنف رحمه الله: [ويهدي؛ إن لم يكن اشترط]. قوله: (ويهدي) أي: إلى البيت؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر هباراً أن يهدي. وقوله: (إن لم يكن اشترط) أي: إذا كان اشترط عند إحرامه أن محله حيث حبسه الحابس؛ فإنه يسقط عنه القضاء والدم، وهذا قول لبعض العلماء رحمهم الله: أن الاشتراط يسري على مثل هذه الحالة. والقول الآخر: بأن الاشتراط يتقيد بالصورة الواردة في حديث ضباعة رضي الله عنها، وهي المرض؛ فإن كان الإنسان مريضاً واشترط ذلك صح اشتراطه، وما عداها فإنه يبقى على الأصل، وقد بيّنا هذا القول، وبيّنا من خالفه، ودليل كلٍّ منهما، وبيّنا الراجح في مسألة الاشتراط، وأن الظاهر هو الاكتفاء بالوارد في صورة حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها. الإحصار وما يتعلق به من مسائل قال المصنف رحمه الله: [ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حلَّ]. قوله: (ومن صده عدو عن البيت) هذا يسمى بالإحصار، وصورته: أن يريد شخص الحج ثم يحصر ويمنع من الوصول إلى البيت بعدو، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية؛ فإنه عليه الصلاة والسلام حصره المشركون عن عمرته، ومنعوه من الوصول إلى البيت، واشترطوا عليه أن يرجع من هذا العام وأن يأتي من العام القادم؛ فتحلل عليه الصلاة والسلام، ثم نحر هديه ورجع إلى المدينة. وللعلماء في تحديد صور الحصر أقوال: فمنهم من يقول: الحصر يتقيد بالعدو ذي القوة والغلبة والقهر، بحيث لا يستطيع الشخص الوصول إلى البيت؛ كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. ومنهم من يقول: يلتحق بحصر العدو كل ما في معناه، ثم قاسوا على ذلك مسائل: منها: أن يحصر بمرض؛ كأن يكسر، أو يصيبه عرج، أو يكون مريضاً ويفوته الوقوف بعرفة بسبب هذا المرض الذي لم يستطع أن يدرك معه هذا الركن، فيأخذ حكم المحصر. فلو أن إنساناً نوى الحج ثم خرج، فلما صار في الطريق أصابته الحمى، أو كسرت يده أو رجله، واحتاج للعلاج، وقيل له: لا يمكن لك أن تبرح هذا المكان قبل يومين أو ثلاثة، وليس بينه وبين عرفة إلا يوم واحد، ويلزمه الطبيب العدل أو أهل الخبرة من الأطباء بالبقاء، وأنه لا يمكنه العلاج إلا في هذا الموضع؛ فحينئذٍ يكون محصراً عند هؤلاء. ويدخل في حكم المحصر من أصابه المرض المعدي -كالكوليرا ونحوها- بحيث لو مشى بين الحجاج أهلك الناس وأضر بهم؛ فإن من حق ولي الأمر أن يحجر عليه، وقد ذكر العلماء رحمهم الله هذه المسألة تحت القاعدة المشهورة: إذا تعارضت مفسدتان روعي ارتكاب أخفهما دفعاً لأعظمهما. واستدلوا لذلك بالأدلة الصحيحة الكثيرة: منها: كسر السفينة من الخضر عليه الصلاة والسلام دفعاً لضرر أعظم. قالوا: فيجوز الحجر على هذا الحاج ومنعه من إتمام نسكه. وقد ذكر العلماء -من أئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة- جواز الحجر على من عنده مرض معدٍ، ومنعه من الخروج للقاء الناس، واعتبروها من مسائل الحجر على المريض، وذلك أن العدوى بقول الأطباء تقبل فيها شهادتهم، وينظر إلى الغالب، فمثل هذا يعتبر في حكم الحصر. ثم قالوا: يقاس على المحصور بالعدو من كان عنده عذر يحول بينه وبين بلوغ البيت؛ كذهاب النفقة، أو سرقة ماله وهو في الطريق، ولم يستطع أن يكتري ولا أن يستأجر أو أن يمشي على قدميه حتى يصل إلى عرفات ليدرك الحج، فهو في حكم المحصر، ويتحلل. ومثله أيضاً العاجز حسياً، وهو مثل العذر الشرعي، فيكون أيضاً في حكم الإحصار، ومثلوا لذلك بالمرأة التي مات محرمها في طريقها للحج، أو مرض أو انكسر ولا يستطيع أن يتم معها مناسك الحج، وهي على مسافة قصر بينها وبين مكة، فإذا بقيت مع محرمها فإن الحج يفوتها، فقالوا: إن هذا عذر شرعي؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم، فينزّل العجز الشرعي منزلة العجز الحسي. ومن العجز الشرعي أيضاً: إذا توفي زوج المرأة؛ فإنه يلزمها الإحداد، وللعلماء في المرأة التي تبلغها وفاة زوجها أثناء الحج أو أثناء العمرة وجهان: الأول: منهم من يرى أنها إذا أحرمت بالحج أو بالعمرة ودخلت في النسك، ثم جاءها الخبر، فإنها تتم الحج والعمرة ولا ترجع، وقد قضى بهذا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفتي به، وهو الصحيح؛ فإن المرأة إذا أحرمت بالحج أو العمرة وبلغتها وفاة زوجها؛ لزمها إتمام الحج والعمرة، ولا يعتبر هذا بمثابة الإحصار، وإنما تبقى في نسكها؛ لتعارض الواجبين، الأول: ما يمكن تداركه، والثاني: ما لا يمكن تداركه، فيقدم ما لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه عند ازدحام الفرضين والواجبين، فنقول لها: امضي وأتمي النسك، ثم ارجعي واعتدي عن بعلك عدة الوفاة. وقد اختلف في المرض، والقول باعتباره عذراً في الحج من القوة بمكان، ويقول به جمع من أهل العلم، كما هو موجود في مذهب الحنفية والحنابلة وغيرهم رحمة الله على الجميع. وقد جعل الله تعالى الإحصار رحمة للعباد، فإن الإنسان إذا حيل بينه وبين البيت وفاته الحج، فإنه لا يمكنه أن يتداركه، فلو أن الشرع ألزمك إذا أحصرت عن البيت أن تبقى بإحرامك حتى تحج من السنة القادمة، فيبقى الإنسان محرماً سنة كاملة محرمة عليه محظورات الإحرام، فلا شك أن هذا من العسر بمكان، فمن رحمة الله تعالى أن شرع هذا الأمر وهو الإحصار، فهو من دلائل يسر الشريعة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الأنبياء:107] . إذا ثبت أن الحصر بالعدو يعتبر موجباً للرخصة، فهنا مسألة، وهي: أن من شرط هذا الحصر: ألَّا يتمكن الإنسان من طريق بديل، فلو كان لمكة أكثر من طريق، وحصر من طريق، وأمكنه أن يذهب من طريق ثانٍ ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: إذا كان الطريق الثاني فيه مشقة، أو أنه يحتاج إلى نفقة أكثر من النفقة التي معه، أو فيه ضرر عليه؛ فإنه يكون في حكم المحصر. وقال بعض العلماء: إذا وجد طريقاً بديلاً يلزمه أن يسلكه ولو كانت نفقته لا تكفي، ولو كانت فيه مشقة عليه؛ لأنه من باب ارتكاب أخف الضررين، فإن فوات هذه العبادة أعظم من المشقة الطارئة على هذا الوجه، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الحج بكونه جهاداً، فلا يرون وجود المشقة على هذا الوجه موجبة للرخصة. وقولهم ألزم للأصل كما لا يخفى. أحكام ذبح الهدي للمحصر قال رحمه الله: [ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حلّ] قوله رحمه الله: (أهدى ثم حلّ) أي: يهدي ويذبح ما معه من الهدي، كما قال تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:196]، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية نحر هديه وتحلل حينما صد عن عمرته، فأوجب الله عز وجل الهدي بظاهر القرآن، وكذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف العلماء: هل يلزمك أن تبعث بالهدي إلى مكة ليذبح فيها إذا تيسر لك ذلك، أم أنك تذبحه في الموضع الذي أحصرت فيه؟ على وجهين مشهورين، أصحهما: أنه يذبح الهدي وينحره في الموضع الذي أحصر فيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحصر عن البيت ولم يكن بينه وبين حدود الحرم إلا خطوات، وذلك في الحديبية -وهي التي تسمى اليوم بالشميسي- وكان يمكنه أن يدخل ويصلي داخل حدود الحرم، ومع ذلك لم يتكلف أن ينحر هديه داخل حدود مكة، والله تعالى يقول: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الفتح:25] ، فقال: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي: عن بلوغ محله، ومحله هو البيت العتيق -أعني: حدود الحرم- فدل على أنه لا يلزم المحصر بأن يبعث هديه إلى الحرم، وإذا تيسر له بعثه فإنه يبعثه، خروجاً من خلاف العلماء رحمهم الله. ثم قال رحمه الله: [فإن فقده صام عشرة أيام ثم حلّ] أي: إن فقد هديه فإنه يصوم عشرة أيام بدلاً عن هذا الدم. وقد طرد العلماء هذا الأصل في الدماء الواجبة، فقالوا: من وجب عليه دم التمتع ودم القران، أوجب الله عليه -إذا لم يجده- أن يصوم عشرة أيام، فكل دم واجب إذا لم يستطعه الإنسان صام بدلاً عنه عشرة أيام، وعلى هذا قالوا في المحصر: إذا لم يستطع ولم يتيسر له الهدي فإنه يصوم العشرة الأيام؛ على ظاهر آية البقرة؛ لشمولها للمتمتع والمحصر. حكم المحصور عن عرفة قال رحمه الله: [وإن صد عن عرفة تحلل بعمرة]. أي أنه إذا كان قد بلغ البيت، ولكنه صد عن عرفة؛ فإنه يتحلل بعمرة بعد ذهاب وقت الوقوف، فلو صد ورجا أن يتمكن من الوقوف؛ فإنه ينتظر إلى آخر الأمد الذي يتمكن معه من الوقوف، ثم إذا خالف ظنه وتبين أنه لا يتمكن وطلع الفجر؛ مضى إلى مكة وتحلل بالعمرة، وذلك أشبه بفسخ الحج بعمرة، مثلما فسخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حجهم بعمرة، ولذلك لا يرى بعض العلماء أن هذه الصورة من صور الإحصار؛ لأنه يراه فسخاً للحج بعمرة، كما هو القول عند الحنابلة رحمهم الله وطائفة من السلف؛ فإنهم يرون أن من منع من الوقوف بعرفة فإنه يمكنه أن يفسخ حجه بعمرة، ويتحلل بالعمرة على هذا الوجه الذي أشار إليه المصنف رحمه الله. وقوله: (تحلل)، ولم يوجب عليه الدم، فدل على أنه ليس بمحصر، كما اختاره المصنف. وهناك من أهل العلم من يقول: يتحلل بعمرة وعليه دم. فالفرق بين القولين: أن المصنف لا يراه محصراً، فإن قلت: لا أراه محصراً، فحينئذٍ لا يلزمه دم، وإن قلت: إنه يعتبر في حكم المحصر؛ أخذ حكم المحصر، وكان تحلله بالعمرة موجباً للدم؛ كما هو قول بعض العلماء رحمهم الله. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (243) صـــــ(1) إلى صــ(27) شرح زاد المستقنع باب الفوات والإحصار [2] استكمل الشيخ حفظه الله ما بقي من أحكام الفوات والإحصار، فذكر أحكام المحصر بمرض أو ما في حكمه من المسائل المعاصرة، ثم ذكر أحكام المحصر بذهاب نفقته، وختم حديثه ببيان مسألة الاشتراط في النسك. حكم المحصر عن الحج والعمرة بمرض وما في حكمه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن أحصره مرض]. ذكر المصنف رحمه الله مسائل الفوات والإحصار؛ فبين حكم من فاته الحج، وحكم من أحصر عن الوصول إلى البيت؛ سواء كان الإحصار في الحج أو العمرة، ولما فرغ رحمه الله من بيان أحكام المحصر شرع في بيان من أصابه المرض، وكان عليه شديداً؛ بحيث لا يستطيع أن يصل إلى البيت فيدرك الحج أو يأتي بالعمرة أثناء المرض، فهل يجوز له أن يتحلل مباشرة، فيكون حكمه حكم المحصر -كما تقدم- أم أنه ينتظر حتى يبرأ من مرضه أو يقوى على المسير إلى البيت فيؤدي نسك الحج إن أدركه وإلا تحلل بعمرة؟ وقد كثر في هذا الزمان وجود الحوادث التي تقع في الطريق، وهي في حكم المرض؛ فلو أن إنساناً أراد الحج ثم حصل له حادث في الطريق، فأصابه كسر أو مرض في جسده، فلم يستطع أن يخرج، أو كان تحت عناية في علاجه، بحيث يقرر الأطباء أنه لا يخرج قبل الحج، أو أنه لا يمكنه أن يقوم بمناسك الحج حتى فات وقت الحج، فما حكمه؟ قال رحمه الله: [يبقى محرماً] أي: أن من أصابه المرض فلا يحكم بكونه محصراً، وإنما يبقى بإحرامه حتى يبرأ من المرض؛ فإذا برئ من المرض فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون شفاؤه وبرؤه قبل الوقوف بعرفة؛ بحيث يمكنه أن يذهب ويتم مناسك حجه، فالحكم حينئذٍ: أن يمضي ويتم مناسك الحج. الحالة الثانية: إذا كان برؤه وشفاؤه بعد فوات الوقوف بعرفة؛ فإنه يتحلل بعمرة، ثم يلزمه الهدي، ويكون هذا الهدي بسبب فوات الحج، ثم يأتي بحجة من العام القادم؛ سواء كانت حجته لفرض أو لنافلة. والعمرة التي يأتي بها يقصد منها أن يتحلل من نسك الحج؛ وذلك لأن الحج قد فاته، فيتحلل منه بعمرة، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر من فاته الحج أن يتحلل منه بعمرة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يفسخوا حجهم بعمرة. ثم عليه أن يهدي لفوات الحج، وعليه كذلك الحج من قابل؛ فهو في حكم من كان معذوراً بالمرض وفاته الحج لعذر آخر. وكان من الأعذار المشهورة قديماً: أن يظن الحاج أن الوقوف بعرفة يوم السبت، ويكون الوقوف يوم الجمعة، فيأتي إلى عرفة يوم السبت وقد فرغ الناس من الوقوف، ولا يمكنه أن يدرك الوقوف، فحينئذٍ يكون في حكم المريض، فيمضي إلى البيت ويطوف ويسعى ويتحلل بعمرة، ثم عليه الهدي والحج من قابل. وفي حكمه أيضاً: من نام عن الوقوف بعرفة؛ كرجل مشى إلى عرفات، ثم قبل أن يصل إليها وبسبب الإجهاد والتعب أراد أن ينام، فنام حتى ذهب وقت الوقوف، ولم يمكنه إدراكه، فحينئذٍ يكون حكمه حكم المريض أيضاً، فيبقى محرماً، ثم يمضي إلى البيت ويأتي بعمرة كاملة يتحلل بها من الحج؛ لأن الحج قد فاته، وقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك لما جاءه هبار بن الأسود فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أظن أن اليوم يوم عرفة -وكان اليوم الذي جاء فيه يوم النحر- فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ابق كما أنت -أي: بإحرامك- ثم ائت البيت وطف واسع، وتحلل بعمرة، ثم اهد وعليك الحج من قابل). قال العلماء: في هذا دليل على أنه لما أحرم بالحج فإنه يفسخ هذا الحج بالعمرة؛ لأنه لا يمكنه أن يصبر إلى السنة القادمة وهو محرم، فلو أن إنساناً أحرم بحج، ومرض أو أصابه عذر ولم يمكنه أن يدرك عرفة، فقلنا له: ابق بإحرامك إلى العام القادم؛ فإن هذا فيه حرج ومشقة عظيمة؛ لأنه سيبقى مجتنباً لمحظورات الإحرام وممتنعاً عنها شأنه شأن المحرم، فلذلك خفف الله عز وجل عن عباده. ومضت الفتوى عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بأنه يتحلل بعمرة، وهذه الفتوى لها أصل شرعي؛ فمن فقه أمير المؤمنين -الذي أمرنا باتباع سنته- أنه انتزع هذه الفتوى من فسخ النبي صلى الله عليه وسلم حج أصحابه بعمرة، فأمر من لم يسق الهدي أن يتحلل بعمرة، ولذلك قالوا: ينصرف من حجه إلى عمرته؛ كأنه فسخ، لا أنه حقيقة قد فسخ حجه بعمرة، بدليل لزوم القضاء عليه من قابل. وقوله رحمه الله: (ومن أحصر بمرض)، هذا القول الذي اختاره المصنف هو مذهب جمهور العلماء، وهذا المذهب يقوم على أن المرض لا يعتبر الإنسان فيه محصراً، ولذلك قال رحمه الله: (بقي محرماً)، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله قال: إن من أحصر بالمرض فحكمه حكم المحصر. وحينئذٍ فحكم المحصر بالمرض: أن يتحلل في مكانه، ويهدي إن كان معه الهدي، وإذا لم يكن معه الهدي صام، ثم يكون حكمه حكم من أحصر بالعدو ونحوه كما تقدم تفصيله. وقال الجمهور: إن الإحصار يتقيد بالحصر بالعدو -كما تقدم- لقوله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:196] ، فجعل الله سبحانه وتعالى الأمن مرتباً على الحصر؛ فدل على أن الإحصار ليس مطلقاً، وإنما هو مختص بالحصر بالعدو، على التفصيل الذي تقدم بيانه. وقوله: (بقي محرماً) فإذا كان الشخص قد أصيب بمرض، ثم انتهى به هذا المرض إلى الموت؛ فإنه يكون محرماً عند الجمهور، وحكمه حكم المحرم عندهم، كما يحدث -نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم ولجميع المسلمين- في مسألة موت الدماغ، كأن ينقلب مثلاً في حادث، أو تأتيه ضربة في رأسه، ويصبح في عداد الموتى، ثم ينتهي به الأمر إلى الموت، أو يصاب بمرض يؤدي به إلى الوفاة، فللعلماء رحمهم الله تفصيل في هذا: فمنهم من قال: إن المريض يعتبر في حكم المحصر، فحينئذٍ لا إشكال في أنه يأخذ حكم المحصر ويتحلل، أما إذا قلنا: إن المريض لا يأخذ حكم المحصر، وإنما يبقى بإحرامه، ونحكم بكونه محرماً، فإنه إذا مات يعامل معاملة الميت الذي وقصته دابته، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس ، فيغسل ويكفن ولا يطيب، ويأخذ حكم المحرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، فيأخذ حكم المحرم. ومنهم من قال: إذا أصيب بمرض ينتهي به إلى الوفاة، وتوفي بعد الوقوف بعرفة؛ فحينئذٍ إذا تأملت حاله، وجدت أن الحج قد فاته، فبعض العلماء يرى أن عليه دم الفوات في هذه الحالة. وقال بعض العلماء: لا يجب عليه شيء، وإنما يغسل ويكفن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه)، ثم لم يأمر أهله بإتمام الحج عنه ولا بقضائه، وإنما أعطاه حكماً خاصاً، فمن هنا استثنوه من الأصل الذي ذكرناه. حكم المحصر بذهاب نفقته قال رحمه الله: [أو ذهاب نفقة]. هذا نوع آخر من أنواع الحصر، وذهاب النفقة يأتي على صور: منها: أن يسرق ماله، أو تذهب نفقته، بمعنى: أن يكون ظنه أن الحج يكفي له ألف ريال، ثم طرأت له أمور تستلزم منه النفقة، فأنفق حتى ذهبت نفقته قبل أن يصل إلى مكة وقبل أن يقف بعرفة. مثال ذلك: لو أن إنساناً عادته أن يكفيه لحجه ألف ريال، فلما مضى في طريقه تعطلت سيارته واحتاج أن ينفق عليها، فأنفق ثلاثة أرباع النفقة أو جلها لإصلاح سيارته من أجل أن يصل عليها، ولكنه لم يتيسر له ذلك، فهذا الذي ذهبت نفقته فيه تفصيل: إن كان قادراً مليئاً في بلده وأمكنه أن يستدين ويتم حجه، لزمه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن الله قد أوجب عليه إتمام الحج، فقال سبحانه: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[البقرة:196] ، فلما ألزمه الله بإتمام الحج وأمكنه أن يتم الحج دون حرج عليه وذلك بالاستدانة؛ فإنه يتم حجه ويستدين، قال بعض العلماء: بشرط أن لا يقع في حرج ومهانة ومذلة لا تليق بمثله. وأما إذا كان هذا الشخص لا يجد المال، وأمكنه أن يمشي على قدميه حتى يبلغ مكة، فقال بعض العلماء: إن الراجل يجب عليه الحج كما يجب على الراكب، بشرط أن يطيق المشي؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الحج:27]، فذكر الراجل فيمن يأتي بالحج، وقوله: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الحج:27] على سبيل الوجوب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا)، فهذا الذي فرضه الله من إتيان بيته والحج إليه قال الله فيه: (رجالاً)، فقدم الراجل على الراكب، قالوا: فإن أطاق المشي، ولم يكن فيه حرج؛ فإنه يلزمه أن يمضي ويتم الحج، أما لو لم يستطع المشي، ولم يمكنه أن يستدين؛ فإنه يبقى بإحرامه، فإذا تيسر له من ينجده ويتفضل عليه، وأمكنه أن يذهب ويدرك الحج، فلا إشكال في ذلك، وأما إذا حبس ولم يمكنه أن يدرك الحج حتى ذهب يوم عرفة، فحينئذٍ يبقى بإحرامه حتى لو رجع إلى بلده ليأخذ النفقة ثم يأتي بعمرة يتحلل بها من حجه، وحكمه حكم من فاته الحج. إذاً: من ذهبت عنه النفقة يفصل فيه بهذا التفصيل: إما أن يمكنه أن يستدين ولا يقع في حرج، وذلك بأن يستطيع سداد ذلك الدين دون حصول الحرج عليه فيلزمه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإما أن لا يمكنه أن يستدين، ويمكنه أن يمشي ويطيق المشي ويدرك بمشيه الحج؛ فيلزمه المشي إلى مكة وإتيان المشاعر، وإما أن لا يمكنه المشي ولا يمكنه الاستدانة، ولا يتيسر له أحد يأخذه معه حتى فاته الحج؛ فإنه يبقى محرماً، حتى ولو عاد إلى بلده لكي يأخذ النفقة التي يبلغ بها، ثم يتحلل بعمرة، وعليه الدم والحج من قابل. الاشتراط في الحج والعمرة قال رحمه الله: [بقي محرماً إن لم يكن اشترط].الاشتراط في الحج سبق بيانه، وأنه قد ثبت به الدليل في حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها حين قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية -أي: مريضة؛ لأن المريض يشتكي ما به؛ أي: يغالبه- فقال صلى الله عليه وسلم: أهلي -أي: ادخلي في النسك- واشترطي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما اشترطت) ، قال العلماء: في هذا دليل على مسائل: المسألة الأولى: أنه يشرع الاشتراط في الحج إذا كان الإنسان مريضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها به. المسألة الثانية: أن العمرة تأخذ حكم الحج؛ لأن العمرة هي الحج الأصغر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها بذلك، ومن المعلوم أن الحج قد يكون تمتعاً وقد يكون قراناً، فدل على استواء الحكم في الحج والعمرة، وليس هذا من خصوصيات الحج. المسألة الثالثة: أن المرأة -وهي ضباعة - كانت مريضة، فقال بعض العلماء: يختص الحكم بمن كان مريضاً قبل الحج، كأنْ لما أصيب بالمرض وألزم نفسه بالحج، تحمل المشقة؛ فخفف عنه الشرع؛ لأنه التزم بما لا يلزمه، ولذلك قالوا: خفف عنه من هذا الوجه. وقال بعض العلماء: الحكم عام، سواء كان به المرض، أو خاف المرض، أو لم يكن به مرض لكن اشترط هكذا وهو صحيح، وهذا لا يخلو من نظر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتى ضباعة بهذا وهي بالمدينة قبل أن تهلّ، ثم لما بلغ الميقات لم يأمر الصحابة أن يشترطوا ولم يشترط في إحرامه، فدل ذلك على أن هذا الحكم يكون في حق من كان في حكم ضباعة وصورته صورة ضباعة ؛ لأن القاعدة في الأصول: أن ما خرج عن الأصل يتقيد بصورة النص. وعلى هذا فلو اشترط أن محله حيث حبس، فإنه لا يخلو من أحوال ذكرها العلماء رحمهم الله: فتارة يشترط إن حبسه الحابس أن يهدي ويتحلل، فيلزم نفسه الإهداء، ويكون في حكم المحصر؛ فإن كان قد ألزم نفسه أن تحلله يكون بالهدي؛ فحينئذٍ يتحلل بهديه، كما اختاره جمع من العلماء، وهو مذهب الشافعية وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لك على ربك ما اشترطت) ، وقد اشترط على نفسه أن يتحلل بالدم كالمحصر؛ وذلك لطلب الفضيلة والأجر، وتشبهاً بالمحصر، فقالوا: لا بأس، وحينئذٍ يكون تحلله بالخروج من النسك مباشرة، ويلزمه أن يهدي؛ لأنه التزم ذلك، فكان في حكم من نذر. أما لو أنه قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، دون أن يقيد؛ فإنه يتحلل بمجرد أن يصعب عليه المرض ويشق عليه الذهاب، وليس له التحلل بمجرد المرض، وذلك أنه قيد نفسه فقال: إن حسبني حابس، فقال العلماء: يتقيد هذا بأن يكون المرض شديداً بحيث لا يمكنه أن يتم، أما لو كان المرض خفيفاً ويمكنه الإتمام، فإنه ليس بحابس ذي بال؛ لأن ضباعة رضي الله عنها أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط إذا ضاق عليها الأمر، وهذا يفهم منه: أنها لا تحتبس إلا إذا اشتد عليها المرض وضاق بها الحال. والاشتراط لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يشترط قبل أن يهل، وإما أن يشترط مقارناً لإهلاله، وإما أن يشترط بعد إهلاله. الحالة الأولى: إن وقع الشرط قبل الإهلال، وكان الفاصل مؤثراً، سقط اعتباره. مثال ذلك: لو أنه خرج من المدينة إلى ميقات ذي الحليفة، وبين المدينة وبين الميقات ما لا يقل عن عشرة كيلو مترات، فقال في المدينة: أشترط إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني الحابس -وهو مريض- ثم مضى وانقطع بوجود الفاصل المؤثر من المسافة والزمن، ثم بعد ذلك لبى بحجه أو بعمرته، فإن هذا الفاصل مؤثر، ويسقط الاشتراط الأول ما لم يكن قد اشترط أثناء الإحرام، فلا بد في الاشتراط أن يكون مصاحباً للإحرام أو قريباً منه. الحالة الثانية: أن يصحب الاشتراط الإحرام، وذلك بأن يقول: لبيك حجاً أو لبيك عمرة، ثم يشترط، فحينئذٍ لا إشكال فيه، وهو صورة النص، كما جاء في رواية أبي داود وغيره من أصحاب السنن، وفيه ذكر التلبية مع الاشتراط، وهذا بالإجماع عند من يقول باعتبار الاشتراط، وهم الشافعية والحنابلة، يقولون: إنه مؤثر. الحالة الثالثة: أن يهل ويدخل في النسك، وبعد تمام الإهلال يشترط، فحينئذٍ يلغى اشتراطه، ويلزم بما يلزم به من أهلّ بدون اشتراط. وقوله: (إلا أن يكون قد اشتراط)، فالمشترط يتحلل مباشرة ولا يلزمه دم، وليس عليه شيء إذا ضاق به المرض وأضرّ به. الأسئلة حكم المغمى عليه إذا أحضر إلى عرفة ولم يفق إلا بعد الوقوف السؤال: امرأة أغمي عليها إلى ما بعد الوقوف بعرفة، إلا أن أهلها حملوها وهي مغمىً عليها إلى عرفة، وبعدما أفاقت أكملت شعائر حجها، فهل حجها صحيح، أثابكم الله؟ الجواب: هذه المسألة تنبني على مسألة: هل المغمى عليه مكلف، أو غير مكلف؟ فبعض العلماء يرى أن المغمى عليه كالنائم، وفي هذه الحالة لا يسقط عنه التكليف إلا في ضمانات النائم ووجود الإخلالات بالتروكات، أما مسألة صحة العبادة واعتبار العبادة فيرون أنها تأخذ حكم المكلف ولا تأخذ حكم المجنون. وقال بعض العلماء: الإغماء كالجنون؛ والسبب في هذا: أن المغمى عليه فيه شبه من الجنون، وشبه من النوم. فإذا شبه بالمجنون فإن هذا يوجب فساد الحج عند من يقول: إن المجنون لا يصح حجه. وأما إذا شبه بالنائم فإنه يصح حجه خاصة على القول الذي لا يرى النية للوقوف، وإنما يرى أن الركن يتحقق بوجود الجسد حتى ولو كان الإنسان نائماً، فقالوا: لو حمل وهو نائم أو مغمى عليه، فهي مسألة فيها الخلاف على هذا الوجه، وأنا كثيراً ما أتوقف في مسائل الإغماء؛ سواء من جهة العبادة وقضاء الصلوات إذا أغمي عليه شهوراً أو سنوات، ولكنني أقول: إن القول بالإجزاء من القوة بمكان، وأتوقف عن الترجيح. والله تعالى أعلم. الحكم فيما إذا حاضت المرأة قبل التحلل من العمرة السؤال: قمت بأداء عمرة عن أبي رحمه الله، وبعد الانتهاء منها نسيت أن أتحلل من إحرامي، وبعد عدة ساعات جاءني الحيض، وفي خلال هذه الساعات حدث مني بعض المحظورات، كل هذا وأنا ناسية أني محرمة، ولم أتذكر إلا بعد مجيء الحيض، فهل عليَّ دم، أم ماذا أفعل، أثابكم الله؟ الجواب: أما بالنسبة لاعتمارك وأدائك النسك عن والدك فأسأل الله أن يثيبك عليه؛ لأن هذا من البر، وإذا توفي الوالد أو الوالدة ولم يحجا ولم يعتمرا وحج عنهما الولد، فهذا من أبلغ البر وأحسنه، فأسأل الله أن يحسن إليك كما أحسنت إلى والدك بهذا البر. أما المسألة الثانية: وهي وقوع الدم بعد انتهاء العمرة وقبل التحلل؛ فإن العمرة صحيحة، ولا يضر ورود الدم بعد الطواف، فإذا ورد الدم على المرأة بعد تمام طوافها فإنه لا يؤثر، حتى ولو كان أثناء السعي؛ لأن السعي لا تشترط له الطهارة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين لما حاضت: (اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت)، فحظر عليها الطواف بالبيت، ومن هنا إذا وقع حيضها بعد تمام الطواف بالبيت صحت عمرتها وأجزأتها. وأما بالنسبة لوقوع المحظورات نسياناً؛ فلا تخلو المحظورات من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون محظورات يمكن التدارك فيها؛ كالطيب، فإنه يمكن غسله، وتغطيه الوجه في غير وجود الأجانب، فإنه يمكن إزالته -إزالة الغطاء- فهذه المحظورات التي يمكن تلافيها لا شيء عليك بالنسيان إذا أزلتِ المحظور عند الذكر. الحالة الثانية: إذا كان المحظور مما لا يمكن التدارك فيه؛ كتقليم الأظفار، وقص الشعر؛ فإنه تلزم فيه الفدية، فالعمد فيه والنسيان سواء، إلا أن النسيان يسقط الإثم دون العمد، فتلزمك فيه الكفارة أو الفدية، وعليه فينظر في هذا المحظور الذي وقع منك قبل التحلل. وأما بالنسبة لتحللك بعد فهو تحلل صحيح؛ لكن من أهل العلم من يشترط في التحلل وقوعه في الحرم، فإذا حصل التحلل خارجاً عن حرم مكة فإنه يرى فيه الدم؛ لفوات التوقيت المعتبر من الشرع، كما هو قول طائفة من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (244) صـــــ(1) إلى صــ(27) شرح زاد المستقنع باب الهدي والأضحية والعقيقة [1] الهدي والأضحية والعقيقة دماء مشروعة، تختلف في بعض أحكامها عن بعض وتتفق في البعض الآخر، وكلها جاءت به الأدلة الشرعية الدالة على وجوبها أو على استحبابها، وهناك عيوب إذا وجدت في الذبيحة منعت من إجزائها، وكلها مبينة واضحة فيما ذكره الشيخ. أحكام الهدي والأضحية والعقيقة قال المصنف رحمه الله: [باب الهدي والأضحية والعقيقة]. تعريف الهدي قوله رحمه الله: (باب الهدي) الهدي: مأخوذ من الهدية، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام، والله سبحانه وتعالى وصف ما يساق إلى البيت بأنه هدياً، فقال سبحانه وتعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ )[المائدة:95]. أقسام الهدي الهدي يكون واجباً ويكون مندوباً؛ فأما الواجب: فإنه يكون في جزاء ما قتل من النعم وهو محرم، كأن يقتل بقر الوحش فيهدي إلى البيت بقرة من بهيمة الأنعام، أو يقتل نعامة فيهدي إلى البيت ناقة، ونحو ذلك. وأما غير الواجب، فهو في حكم الهدي الواجب؛ كأن ينذر ويقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت، فإذا نذر فلا يخلو نذره من أحوال: الحالة الأولى: أن يقيد الهدي ويبين نوعه، وحينئذٍ يكون الهدي مقيداً بما ذكر، كأن يقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت شاة، أو جذعاً من الضأن، أو ثنياً من المعز، أو تبيعاً، أو مسنة، أو نحو ذلك، فإذا عين وحدد فإنه يلزمه ما التزم به من التحديد. الحالة الثانية: أن يطلق فيقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت. فإذا أطلق فقد بعض العلماء: من أطلق في هديه وقال: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت؛ فإنه لا يجزيه إلا ما يجزي أقل دم واجب، وذلك هو الثني من المعز، أو الجذع من الضأن، فإذا أرسل جذعاً من الضأن أو ثنياً من المعز أجزأه، ولا يجزي ما كان دون ذلك. وقال بعض العلماء: يجزيه أقل شيء، ولو أهدى إلى البيت بيضة، أو صاعاً من تمر أو بر؛ والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راح في الساعة الأولى فكأنما أهدى بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما أهدى بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما أهدى كبشاً ..) إلى آخر الحديث، وفيه: (كأنما أهدى بيضة)، والرواية في الصحيح: (كأنما قرب)، قالوا: وعلى هذا فإنه يجزيه أقل ما يصدق عليه أنه هدية، حتى ولو كان يسيراً من الطعام فإنه يجزيه ولا شيء عليه. وإن كان القول الأول أقوى وأرجح إن شاء الله تعالى؛ لأن الله تعالى قال: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifهَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[المائدة:95]، وخصص ذلك بقوله: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[المائدة:95] ، فخص الهدي ببهيمة الأنعام، وعلى هذا فإنه لا يجزيه إلا ما يجزي في الدماء الواجبة على التفصيل الذي ذكرناه. حكم الهدي وكان الهدي سنة قديمة، وكانوا في الجاهلية يهدون إلى البيت الحرام. والمراد بهدية البيت: أن يبعث الإنسان بإبله أو بقره أو غنمه؛ فتذبح في مكة وتكون طعمة للفقراء، وكانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء إذا رأوا هذا النوع من بهيمة الأنعام لا يتعرضون له؛ تعظيماً لحرمة هذا البيت، ولذلك قال الله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifلا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[المائدة:2] ، فوصف الله عز وجل ما يهدى إلى البيت بأنه من شعائر الله، وشعائر الله كل ما أشعر الله بتعظيمه، ومن ذلك ما يهدى إلى بيت الله عز وجل، وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على مشروعية الهدي للبيت، وهذه السنة أضاعها كثير من الناس إلا من رحم الله، حتى إنها تكاد تكون غريبة في هذا الزمن، ويسن للإنسان ويشرع له أن يبعث إلى البيت ويهدي إليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة وأهدى إلى البيت في حجته التي تخلف عنها حينما بعث أبا بكر رضي الله عنه وعلياً لينادي في الناس. تعريف الأضحية قال رحمه الله: (والأضحية).الأضحية واحدة الأضاحي، وهي مأخوذة من الضحى؛ والسبب في ذلك: أنها تذبح في ضحى يوم النحر، وهذا من باب تسمية الشيء بزمانه؛ لأن الشيء يسمى بزمانه ويسمى بسببه وبوقته، فيقال مثلاً بالزمان: أضحية، ويقال بالسبب: صلاة الاستسقاء، من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ لأن صلاة الاستسقاء سببها القحط وطلب السقيا، وصلاة الكسوف سببها كسوف الشمس وخسوف القمر. والأضحية سنة من سنن المرسلين، ولذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم إليها بقوله وبفعله، وأجمع المسلمون على شرعيتها، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في خطبته يوم النحر: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله). حكم الأضحية وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمها: هل هي واجبة، أو ليست بواجبة؟ وذلك على قولين مشهورين: القول الأول: قال بعض العلماء: الأضحية واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله) ، فألزمه بالقضاء، فدل على وجوبها ولزومها. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا) ، وهو حديث مختلف في إسناده، وإن كان العمل عند جمع من المحدثين على ضعفه. وكذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى، وضحى من بعده الخلفاء الراشدون، ولم يؤثر عن واحد منهم أنه ترك الأضحية، ولذلك حُكم بوجوبها. ولما سئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: هل الأضحية واجبة؟ قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمون، فقال له السائل: يا أبا عبد الرحمن ! إنما أسألك أهي واجبة؟ فرد عليه بقوله: أتعقل! ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمون)، أي: كيف تتركها وهي بهذه المثابة؟ ولم يرخص للرجل في تركها، وهذا يؤكد القول بوجوبها ولزومها. القول الثاني: قال جمهور العلماء بعدم وجوب الأضحية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى بكبشين أملحين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد)، وأجيب: بأن هذا الحديث يحتمل: (عمن لم يضح من أمة محمد) جبراً لنقصه، ويحتمل أن يكون المراد به: عمن لم يضح وهو مختار، ولذلك قالوا: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال. وأيناً ما كان فلا ينبغي للمسلم أن يفرط في هذا الخير العظيم والثواب الكبير؛ فيترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده القدرة على الأضحية. وإنما تكون الأضحية على من قدر عليها ووجد السعة لكي يضحي، وينبغي للمسلم أن يحرص على وجود هذه السنة في بيته يوم النحر، وليس بالمستحب أن يترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخلو بيته من هذه الشعيرة، ولذلك ما زال المسلمون يجدون هذه الأضحية في بيوتهم يوم النحر، حتى كان بعض العلماء يقول: أستحب للحاج أن يترك أضحيته في بيته، ولما سئل عن ذلك قال: لأن صغار المسلمين إذا ألفوا هذه السنة في بيوتهم اعتادوها ونشئوا عليها، ولكنه إذا اعتاد الحج وضحى في حجه؛ خلا بيته عن هذه السنة. وقد استحب بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن من أراد أن يتفضل بالأضحية ويتصدق بها في غير بلده، فإنه يضحي عن نفسه في بيته، ثم إذا أراد أن يتصدق في خارج بلاده أو خارج مدينته، فإنه يجعل ذلك فضلاً عن أضحيته في بيته، ولا يجعل أضحية بيته صدقة خارجة عن بيته وبلده؛ والسبب في هذا كله: أن ينشأ أبناء المسلمين وبناتهم على هذه السنة وعلى هذه الشعيرة، فلا تخلو منها بيوت المسلمين، خاصة في هذا اليوم، ولذلك فإن عيد الأضحى يتميز بالأضحية، وقد سمي اليوم يوم النحر وعيد الأضحى لوجود هذه الشعيرة العظيمة التي لا ينبغي التفريط فيها. والأضحية لها سنن وآداب وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتنى العلماء والفقهاء رحمهم الله ببيانها؛ فناسب أن يذكرها المصنف بعد الهدي؛ والسبب في هذا واضح: وهو أن الهدي يكون في الغالب في يوم النحر، ومتصل بالحج، فلما فرغ رحمه الله من أحكام الحج وأحكام الفوات والإحصار -وفي الفوات والإحصار الدم الواجب- ناسب أن يتكلم عن أحكام الهدي، وأن يبين ما الذي يجزي وما الذي لا يجزي في الهدي، ثم أتبع ذلك بالأضحية؛ لاشتراك الكل في الزمان، وأتبعه بالعقيقة؛ لوجود المناسبة من جهة تفصيل أحكام الدم في كلٍ. أحكام العقيقة قال رحمه الله: [والعقيقة].وهي ما يعق به عن المولود، ووصفت بذلك؛ لأن المولود يحلق شعره وتذبح عقيقته، والعقيقة: شعر المولود، فلما وجد الحلق لهذا الشعر وصفت بذلك وقيل لها: عقيقة، والعقيقة تعتبر أيضاً من سنن النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، فقد عق عن الحسن والحسين، وعق عن ولده صلوات الله وسلامه عليه، تشريعاً للأمة، وفيها نوع شكر لله عز وجل على نعمة الولد، وأن الله سبحانه وتعالى لم يقطع عن الإنسان الذرية، وفيها تضمن إثبات أنساب الناس، فإن الناس يعرفون الأنساب عن طريق العقيقة؛ إذ تذبح العقيقة ويدعى لها الناس، فيسألون: ما هذا المولد: أذكر أم أنثى؟ فيثبت للإنسان نسبه، ولكن إذا خلا هذا الاجتماع فإن الناس يتكاثرون ويتوالدون ولا تعرف أنسابهم، ولا تحفظ الذرية. كما أن فيها هذا المعنى العظيم الذي يشعر بالتفرقة بين السفاح والنكاح، فإن السفاح والزنا -والعياذ بالله- تكون ولادته خفية، وهي عار على من بلي به -نسأل الله السلامة والعافية- ولكن النكاح يشهر في ابتدائه، كما قال صلى الله عليه وسلم: لـعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: (أولم ولو بشاة)، وكذلك جعل العقيقة عند وجود أثر النكاح من الولد، كل ذلك ليفرق بين ما شرع الله من النكاح وبين ما حرمه من الزنا والسفاح. وقول رحمه الله: (باب الهدي والأضحية والعقيقة)، كأنه يقول: سأذكر لك في هذا الموضع جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالهدي والأضحية والعقيقة. أفضل الذبائح قال المصنف رحمه الله: [أفضلها إبل، ثم بقر، ثم غنم].الأفضل: هو الأعظم ثواباً والأكثر أجراً، والتفضيل إنما يكون بدليل الشرع، فلا تَفْضُل عبادة على عبادة ولا طاعة على طاعة إلا بدليل من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة، وليس التفضيل بمحض الهوى واختيار الإنسان وحبه، وإنما هو من شرع الله عز وجل، ولذلك يتوقف في الفضائل، ولا يحكم بها إلا بدليل، وليس لأحد أن يحكم ويجزم بتفضيل طاعة على طاعة وقربة على أخرى إلا بدليل من الشرع، وعلى هذا ابتدأ المصنف رحمه الله ببيان أفضل الهدي وأفضل الأضحية وأفضل ما يعق به، فقال رحمه الله: (أفضلها) والضمير عائد إلى هذه الثلاث. قال: (أفضلها إبل) والدليل على تفضيل الإبل: أن الله سبحانه وتعالى امتنَّ بها على عباده، فقال سبحانه: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ )[الحج:36] ، فأخبر سبحانه أنها من شعائره، وهذا بسبب ما يكون فيها من الخير، كما قال تعالى: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ )[الحج:36] ، والخير الموجود في الإبل يدل على فضلها؛ لأنها أعظم جسماً وأكثر لحماً، وهي عند الناس أعز وأشرف، ولذلك لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر فضل الدنيا وفضل ما يكون منها اختار منها حمر النعم؛ وهي الإبل الحمراء؛ لأنها عزيزة، ولما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصف أهوال الآخرة وشدائد ما يكون في الرجفة بين يدي الساعة قال سبحانه: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ )[التكوير:4]، فالناقة العشراء الولود من أعز ما يكون على الإنسان، وعلى أهله. فالإبل هي أفضل بهيمة الأنعام من عدة وجوه: من جهة ما يكون منها من الخير في ركوبها، والوبر الذي يكون منها، وحمل الأثقال عليها: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ )[النحل:7]، وهي السيارة التي يسيرون عليها، وجعل الله فيها من الخصائص والمميزات -بقدرته وعظمته جل جلاله- ما تحار فيه العقول من جهة صبرها على السفر، وتحملها لمشقة الظمأ والعطش أياماً عديدة، فيجد الناس فيها من قضاء المصالح ما الله به عليم، وأعجب ما يكون أنك تراها مع عظم جثتها وضخامتها يقودها الولد الصغير! فهو يأخذ بخطامها فتسير معه حيث سار، وكل ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى، فلولا تسخير الله عز وجل لها لم يستطع هذا الغلام أن يقود هذه الدابة، ولربما فتكت به في طرفة عين، فإن البعير إذا هاج ربما يذعر القرية بكاملها؛ لأنه يفتك بالإنسان ويقتله، ولربما قتل صاحبه إذا كان به غل عليه، ينتظر نومه أو غفلته فيبرك عليه فيقتله، ولربما يعضه حتى يقضي ما بيده، ولربما ينزف حتى يموت، ويفعل الأفاعيل التي قد يعجز عنها العدد الكثير من الناس، ففيه قوة وبطش وحنق وغيظ، ولكن الله سبحانه وتعالى يلطف بلطفه. فهذا النوع من بهيمة الأنعام لا إشكال في أنه الأفضل؛ لما جعل الله فيه من الخصائص والمميزات، ولأنه أعز ما يملكه الناس، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن: (أعظم الرقاب أجراً أنفسها وأغلاها عند أهلها) ، ثم إن الإبل أكثر ثمناً، والأغلى ثمناً أعظم أجراً؛ لأن فيه مشقة البذل ومشقة الصدق، ولذلك سميت الصدقة صدقة؛ لأن المسلم يصدق فيها، أو تدل على صدق محبته لله عز وجل، وإيثاره للآخرة على الدنيا. وأما الدليل الذي دل على تفضيل الإبل على البقر فصريح قوله عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في السعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً)، فجعل الساعة الأولى للإبل، والثانية للبقر، والثالثة للغنم، ومعلوم أن مشقة الساعة الأولى أعظم، ومن هنا دل هذا الحديث على تفضيل الإبل على البقر والغنم. وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الأفضل في الأضحية الجذع من الضأن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى به، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل، ولحديث: (إن الجذع أفضل من الإبل)، وفيه أن الله تعالى اختاره فداء لنبيه إسحاق عليه السلام. فقالت المالكية: إن الضأن أفضل من الإبل في الأضحية فقط، وأما في الهدي فالإبل أفضل؛ فكأنهم رأوا خصوص ورود النص في الأضحية في الضأن. وهذا القول مرجوح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإبل أفضل من البقر والغنم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك الأفضل وهو يحبه -كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- شفقة على الأمة، ولذلك قال الجمهور: لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بالكبش لأنه أيسر على الناس، ولذلك ففيه الجذع، والجذع أقل سناً من الثني من الماعز ومن الثني من البقر ومن الثني من الإبل، فكأنه يريد الرفق بالأمة، ومن هنا قالوا: إن هذا لا يستلزم أنه أفضل. وأما تفضيل الضأن على الإبل بحديث الفداء، فحديث الفداء ضعيف سنداً ومتناً، أما سنداً: فلأنه من رواية إسحاق الحنيني، وهو ضعيف. وأما بالنسبة للمتن: فلأن فيه: (أن الله اختاره فداء لإسحاق)، والذبيح إنما هو إسماعيل وليس إسحاق عليهما السلام، على أصح قولي العلماء كما لا يخفى؛ والسبب في ذلك: أن التي كانت بمكة إنما هي هاجر، والولد ولدها، ولو كان الذبيح إسحاق لكان النص يعتني بإيراده من الشام إلى مكة، وهذا واضح وظاهر، ومن الأدلة التي تقوي أن الذبيح إسماعيل: أن الله تعالى يقول في نفس الآية: فَبَشَّرْنَاهَ� � بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )[هود:71]، فكيف يبشره بأن إسحاق سيلي يعقوب، ثم يأمره بذبحه؟!! ولذلك قالوا: إن الذبيح إنما هو إسماعيل؛ لأن الله ذكر البشارة بإسحاق بعد إسماعيل، وهذا يدل على أن الذبيح إسماعيل، فذكر قصة الذبح لإسماعيل، ثم بعد ذلك أتبعها بالبشارة: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ )[الصافات:112]، ويدل عليه أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا ابن الذبيحين)، وذلك واضح من جهة أبيه عبد الله وجده إسماعيل عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا فالذي يظهر أن الأفضل في بهيمة الأنعام -سواء كانت هدياً أو أضحية- أن نقدم الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ لثبوت السنة بالتفضيل. قال رحمه الله: (ثم بقر)؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للصحابة أن يشترك السبعة في البعير والبقرة، وضحى عليه الصلاة والسلام عن نسائه ببقرة، فجعل البقرة منزلة البعير من جهة الاشتراك، لكن البقرة دون البعير في الفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الساعة الأولى للإبل، والثانية للبقر، ولأن الإبل أوفر لحماً من البقر -كما لا يخفى- وأطيب عند الناس، وأفضل من لحم البقر، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن لحم البقر داء ولبنه شفاء)، وهذا صحيح، فإن لحم البقر خاصة في البلاد الحارة يضر بالبدن، وأما بالنسبة للحم الإبل فإنه أطيب، وليس فيه ما في لحم البقر. وقد ذكر الأطباء القدماء والمعاصرون هذا الكلام، فمما ذكره الأطباء القدماء: أن لحم البقر يثير السوداء، والسوداء: هي إحدى الخصائص الأربع الموجودة في البدن، فإذا هاجت في الإنسان فإنها تورث الوسوسة، وتؤثر في عقله، وفيها ضرر، فالأطباء لا يحمدون لحمه كما يحمد لحم الإبل، وفي لحم الإبل زهومة وقوة، ولذلك أمر بالوضوء منه؛ أو لما فيها من الشياطين، كما تقدم معنا في مباحث الوضوء ونواقضه. وقوله: (ثم غنم) يشمل الزوجين من الغنم: الماعز والضأن، والضأن هو الذي يسميه العامة (الطلي)، وقد اختلف العلماء هل الأفضل الضأن أو الماعز؟ والصحيح: أن الضأن أفضل؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاره من بين الغنم، ولأن لحم الضأن أطيب من لحم الماعز، ولذلك قالوا: إنه في الغنم يفضل الضأن على الماعز، مع أن سن الضأن دون سن الماعز؛ ولكنه فضل من جهة حب الناس له، وطيب لحمه، وقد يكون في كثير من الأحوال أوفر لحماً من الماعز. ما يجزئ ذبحه قال رحمه الله: [ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأن وثني سواه].الجذع: هو الذي أتم ستة أشهر، ويختلف بحسب اختلاف المرعى، فبعضه يجذع بعد الستة الأشهر؛ لقوة المرعى، وبعضه لا يكون جذعاً إلا بعد ثلاثة أرباع الحول إلى ثمانية أشهر، وبعضه يكون جذعاً قريباً من السنة، وهذا يختلف -كما ذكر أهل الخبرة- باختلاف المرعى، ولكن الغالب أن الجذع إذا أتم ستة أشهر ودخل في أكثر السنة فإنه يكون جذعاً من الضأن، وأما بالنسبة للثني فهو ثني ما سوى الجذع من الضأن، فالمراد به: ما أتم سنة من الماعز ودخل في الثانية، وما أتم الثانية ودخل في الثالثة بالنسبة للبقر، وأما بالنسبة للإبل فهو ما أتم الرابعة وطعن في الخامسة، هذا هو الثني من الماعز والثني من البقر والثني من الإبل، ويسمى بالمسن، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا مسنة) يدل على أن الاعتبار بالمسنة إنما هو في الإبل والبقر والغنم، وكذلك أيضاً قوله: (إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) قالوا: إن الجذع من الضأن يوفي ما يوفي منه المسن فيما سواه. ثم يقول رحمه الله: [ فالإبل خمس، والبقر سنتان، والمعز سنة، والضأن نصفها]. على ما ذكرناه، فستة أشهر فأكثر بالنسبة للضأن، وسنة كاملة بالنسبة للماعز، وسنتان بالنسبة للبقر، واستتمام الرابعة والدخول في الخامسة بالنسبة للإبل. قال رحمه الله: [وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة]. قوله: (تجزئ الشاة عن واحد)، هذا فيه تفصيل: أما الأصل فإنها تجزئ عن الرجل وعن المرأة، ولكن تجزئ عن الرجل وأهل بيته أيضاً؛ لأن أبا أيوب رضي الله عنه ذكر أن الشاة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجزئ عن الرجل وأهل بيته، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد)، فأدخل عليه الصلاة والسلام آله، ولذلك قالوا: تجزئ عن الرجل وأهل بيته، والمراد بأهل البيت: الزوجة والأولاد، وفي الأولاد تفصيل: فمن استقل من الأولاد بنفقته فلا يدخل، وتكون له أضحيته، فيضحي عن نفسه، وأما إذا كان تبعاً في البيت وكأنه واحد من أهل البيت، فحينئذٍ لا إشكال في دخوله، وإذا ملك القدرة فإنه يضحي عن نفسه، خروجاً من الخلاف. وقوله: (والبدنة والبقرة عن سبعة)؛ لحديث جابر رضي الله عنه كما روى مسلم في صحيحه، وقد وقع هذا في صلح الحديبية، فكانوا يشتركون السبعة في البعير، والسبعة في البقرة، وعلى هذا فإن البقرة تجزئ عن سبعة، والبدنة تجزئ عن سبعة، فلو اشترك السبعة في بقرة واحدة أو بعير واحد أجزأهم ذلك. أحكام عيوب الأضحية يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا تجزئ العوراء].شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالأضحية والهدي ونحوهما من الدماء الواجبة؛ حيث ابتدأ بهذه الجملة في بيان ما ينبغي أن تكون عليه البهيمة من السلامة من العيوب، فإذا أوجب الله على المكلف ذبحها؛ فينبغي أن تكون سالمة من العيوب. وقد نص رحمه الله على هذه الأحكام، وهي التي تسمى: أحكام عيوب الأضحية، ونص عليها بالأضحية لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على بيان العيوب التي تؤثر في الأضحية؛ ففي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عروها، والعرجاء البين ضلعها، والمريضة البين مرضها، والكسيرة -وفي رواية: الكبيرة- التي لا تنقي) ، فبيّن عليه الصلاة والسلام ما ينبغي أن تكون عليه البهيمة من السلامة من العيوب، سواء كانت من الغنم أو البقر أو الإبل، فلا بد من أن تكون سالمة من هذه العيوب الأربعة. ولما نص عليه الصلاة والسلام على هذه الأربع نبه على ما هو أولى منها وأشد، وذلك أنه حينما بين أن العوراء لا يجوز أن يضحى بها فمن باب أولى العمياء، ولما نص على أن العرجاء لا يضحى بها فمن باب أولى المشلولة. أقسام عيوب الأضحية وقد تكلم العلماء رحمهم الله عن هذه العيوب وفصلوا فيها؛ فقسمت إلى قسمين: القسم الأول: عيوب منصوص عليها، وهي العيوب التي بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء المذكور. القسم الثاني: مقيسة وملحقة بالمنصوص عليها، وهذا النوع المقيس والملحق إما أن يكون قياسه من باب أولى؛ كالعمياء والشلاء، وإما أن يكون قياسه عند تساوي العلة فيه، بمعنى: أن يكون العيب متحداً من جهة تأثيره في اللحم أو القيمة؛ على اختلاف بين العلماء في بيان تحقيق المناط في هذا القسم. العوراء قوله رحمه الله: (ولا تجزئ العوراء): المراد بالعور: ذهاب نور البصر في إحدى العينين، وأصل العور في لغة العرب: النقص، ولما نقص بصر البهيمة نقصت قيمتها. وأما كونه لا يجزئ أن يضحى بالأضحية إذا كانت عوراء، فذلك هو نص قوله عليه الصلاة والسلام: (العوراء البين عورها)، والشاهد: أنها إذا كانت عوراء فإما أن يذهب نور العين بالكلية، وإما أن يكون نور العين موجوداً ولكن بشكل ضعيف، فإن ذهب نور العين بالكلية بحيث لا تبصر ألبتة، ويعرف ذلك بطريقة ما، كأن تربط عينها المبصرة وتترك لتسير، فإن لم تسر كما كانت تسير، أو خبطت في مشيها، أو امتنعت وتوقفت؛ دل ذلك على أنها لا تبصر بعينها، فإذا كان بصرها قد ذهب في إحدى العينين فلا يجزئ أن يضحى بها. لكن العلماء رحمهم الله قسموا العوراء إلى قسمين: القسم الأول: ما كانت فيه العين قائمة. والقسم الثاني: ما كان تلف العين ظاهراً عليها. أما الذي تكون فيه العين قائمة؛ فإنك ترى البهيمة وكأنها مبصرة -وهي العين التي تسمى بالقائمة- ولا تستطيع أن تقول: إنها عوراء، أو أن بصرها قد ذهب. فهذا النوع يقول فيه بعض العلماء: إذا كانت العين قائمة فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن قيام العين لا يمنع من الانتفاع من أكل العين، وكأن المنع من التضحية بالعوراء أنه لا ينتفع بالعين، وذلك عند طبخها وأكلها، فإنه يكون نقصاناً في خلقتها ونقصاناً في الانتفاع بها. وقال بعض العلماء: إنما أثر هذا العيب لكونها إذا كانت عوراء لم تستطع أن ترعى كأخواتها، فأضر ذلك برعيها وطعامها، ومن ثم تتضرر في لحمها، وينبني على ذلك مسائل: المسألة الأولى: الحكم في قوله عليه الصلاة والسلام: (العوراء البين عورها) يدل دلالة واضحة على أن البهيمة إذا كانت لا تبصر بإحدى العينين فإنه لا يجزئ أن يضحى بها، سواء كانت عينها موجودة أو غير موجودة، فإن قوله: (البين عورها) البين: من البيان، يقال: بان الشيء إذا اتضح، ومنه قولهم: بان الصبح، إذا اتضح وبدا ضوؤه، فقوله: (البين عورها) أي: التي يكون العور فيها مؤثراً، والمراد بذلك وجوده حقيقة، ومفهوم قوله: (البين عورها) أنها إذا كانت تبصر نوع إبصار ولو كان ضعيفاً، فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن المراد بالعور ذهاب البصر، وهذا هو المقصود من قوله: (البين عورها)، سواء كانت العين موجودة أو غير موجودة. المسألة الثانية: إذا قلنا: إن العوراء لا يجوز أن يضحى بها، فما حكم العمياء؟ جمهور أهل العلم رحمهم الله على أن العمياء لا يجوز أن يضحى بها؛ وذلك لأن العين مما يستطاب ويؤكل، فهي ناقصة لعضو من أعضائها، ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العوراء لذهاب جزء هذا العضو، فمن باب أولى إذا ذهب بالكلية. وقالت الظاهرية: الحكم يختص بالعوراء، والعمياء يجوز أن يضحى بها. وهو قول مرجوح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالأدنى على الأعلى، فلما قال لنا: إن العوراء لا يجوز أن يضحى بها -وهو صريح قوله في الحديث الصحيح- فإن هذا يدل دلالة واضحة على أن ذهاب البصر بالكلية يعتبر عيباً موجباً لعدم جواز التضحية. المسألة الثالثة: إذا كان بها بياض، أي: أن العينين قائمة وموجودة، ولكن فيها بياض يشينها، وتارة يضعف بصرها، فهل يجوز أن يضحى بهذا النوع من البهائم أم لا؟ للعلماء تفصيل في ذلك: قالوا: إذا كان البياض قد غطى البصر حتى أذهبه؛ لم يجز أن يضحى بها، وإن كان البصر باقياً ولو كان ضعيفاً؛ جاز أن يضحى بها. المسألة الرابعة: إذا كانت الشاة لا تبصر بالليل ولكنها تبصر بالنهار -وهو العشي- فإذا كانت على هذا الوجه هل يجوز أن يضحى بها أم لا؟ الصحيح: أنه إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العوراء بقيد، وهو قوله: (البين عورها)، فإذا كان نقص البصر ليس ببين، بمعنى: أنه موجود في النهار وليس بموجود في الليل؛ فلا يؤثر. ومما يدل على أنها إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل فإنه يجوز أن يضحى بها: أن الناظر في العلة في حال حياتها إنما هو لضعف أكلها ومرعاها، ومعلوم أن الرعي يكون بالنهار ولا يكون بالليل، فأصبحت العلة ضعيفة عن التأثير، وعلى هذا فإنه يجوز أن يضحى بالشاة إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد المنع بالبيان، وإذا كانت الشاة تبصر بالنهار فإن عورها وذهاب بصرها ليس ببين وواضح؛ فافتقد القيد المعتبر للحكم بالمنع. قال بعض العلماء في العوراء: إن العين مما يستطاب في اللحم، وربما أُكرم الضيف بإعطائه العين إكراماً له وإجلالاً، وربما خصوه باللسان، على عادات تختلف بحسب اختلاف أحوال الناس وأزمنتهم، فقالوا: إن العور يذهب هذا المقصود بعد ذبح الشاة وبعد نحر الإبل ونحو ذلك، فقالوا: إنه يعتبر عيباً مؤثراً؛ لأنه نقص في اللحم، ونقص في الانتفاع، وبهذا كان مؤثراً وموجباً لعدم جواز التضحية بهذا النوع من البهائم. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (245) صـــــ(1) إلى صــ(27) الهزيلة العجفاء قال رحمه الله: [والعجفاء].المراد بالعجفاء: الهزيلة، وهي كبيرة السن، وقد جاء تقييدها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (والكسيرة التي لا تنقي) والمراد بذلك أمور: أولاً: أنها كبر سنها ووهن عظمها حتى ذهب المخ الذي في عظامها، والمخ الذي في العظم مما يستطاب، وله فوائد، وقد كانوا يستحبونه في الأكل؛ فذهابه ذهاب لمادة العضو، ولذلك قالوا: إن هذا يعتبر نقصاناً في الخلقة ونقصاناً في المادة؛ لأن المقصود من ذبح الأضحية أن تؤكل، فإذا ذهب مخها -وهو من أفضل ما يستطاب فيها ومما فيه المنفعة- فإن ذلك يؤثر في إجزائها. ثانياً: أنها إذا كانت كبيرة ولا مخ فيها فإن لحمها لا يستطاب؛ وذلك لأن الكبيرة يتغير لحمها مع الكبر، وحينئذٍ تكون في هذه الحالة قد ذهب المقصود من ذبحها من استطابة أكلها، وانتفاع الناس بها بعد الذبح. ثالثاً: قوله: (والكبيرة -وفي رواية: والكسيرة- التي لا تنقي) فإن الشاة أو البقرة أو الناقة تكون هزيلة لأسباب: الأول: أن يكون هزالها بالكبر؛ فحينئذٍ لا إشكال في ذلك، وقد ورد النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونها لا تجزئ. الثاني: أن تكون هزيلة بسبب المرض؛ كأن تصاب بمرض ثم تضعف وتصير هزيلة لا مخ فيها، وهذه لا إشكال فيها أيضاً؛ لأنه قد اجتمعت فيها علتان: العلة الأولى: المرض، والعلة الثانية: ذهاب مخها ونقي عظامها. الثالث: أن تكون هزيلة الخلقة، فإذا كان هزالها من أجل أنها منذ أن وجدت وهي في الخلقة ضعيفة الجسم هزيلة ولكنها طيبة اللحم، بمعنى: أنها تطعم وتأكل المرعى، ولكنها لا تُقبل على الأكل كثيراً؛ فهي هزيلة في خلقتها، فمذهب طائفة من العلماء: أن هذا الهزال لا يؤثر، ويجوز أن يضحى بمثلها. الرابع: أن يكون الهزال بسبب الجوع وبسبب قلة الأكل والمرعى، كما يقع ذلك في السنين التي تكون شديدة على الناس، فقال بعض العلماء: إذا كانت هزيلة بسبب الجوع فإنه يجوز أن تذبح ويضحى بها؛ وذلك لأن هذا الهزال لا يؤثر في نقي عظامها.. صحيح أنه في بعض الأحيان يضعفه وقد ينقصه، ولكنه ليس ناشئاً عن داء ولا كبر؛ فيعتبر غير مؤثر ولا موجب لعدم الإجزاء. العرجاء غير المجزئة في النسك قال رحمه الله: [والعرجاء].وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (أربع لا تجوز في الأضاحي -وذكر منها-: العرجاء البين ضلعها)-يعني: عرجها-، والعرج ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون خفيفاً، ولا يستطيع الإنسان تمييزه إلا بدقة النظر؛ فهذا لا يؤثر، وجهاً واحداً عند العلماء. القسم الثاني: أن يكون عرجها قوياً ومؤثراً وواضحاً بيناً، فحينئذٍ لا يخلو من أحوال: فتارة يكون ملازماً لها؛ كأن يكون خلقة، أو كسرت منها يد فأصبحت تعرج بعد كسرها، أو رجل فأصبحت تعرج بعد كسرها، ونحو ذلك، فإن أصبح ملازماً لها فإنه يؤثر، وأما إذا كان عارضاً يزول بزوال علته؛ فإنه لا يؤثر، ولا يوجب مثله المنع، لكن قال بعض العلماء: لا يضحى بها حال العرج؛ لأنها ناقصة وقت الأضحية. والعرج منع منه لعلتين: الأولى: أنه يمنع الشاة من اللحوق بصويحباتها عند الرعي، فيفوتها الرعي، وتأتي على آخره ولا تصيب منه إلا القليل؛ فيؤثر في طيب لحمها، وهي مقصودة من أجل أكلها. الثانية: لأن العضو قد انتقص، وهو اليد أو الرجل؛ فيكون تنبيهاً من الشرع على أن كل نقص في الخلقة يوجب المنع. وفي قوله: (العرجاء) تنبيه على أنها إذا كانت معاقة -كأن تكون مثلاً مشلولة اليدين أو مشلولة اليد- فمن باب أولى وأحرى أن لا تجزئ؛ لأنه إذا كان العرج لا يجزئ، وهو نقصان العضو وليس بذهاب له كله؛ فإنه من باب أولى إذا كانت مشلولة اليد كاملة أو كانت مشلولة الرجل أنها لا تجزئ، ولا يصح أن يضحى بها. معنى الهتماء وعدم جواز النسك بها قال رحمه الله: [والهتماء].الهتماء: هي التي ذهبت ثناياها، وفيها وجهان للعلماء: الأول: إن ذهبت ثناياها ولم تستطع أن تأكل كصويحباتها، وأثر ذلك أيضاً في لحمها، فهو عيب ونقص أيضاً في عضو؛ لأن الأسنان من أعضاء البهيمة وأجزائها، فذهابها يعتبر مؤثراً وموجباً للمنع. الثاني: أن ذهاب ثناياها لا يمنع من رعيها وانتفاعها بالطعام، ثم إن هذا النقص للعضو لا يؤكل، وقالوا: إنه لا يؤثر؛ لأنه ليس بنقصان، وليس له تأثير على طيب اللحم كغيره من العيوب التي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها. وصحح غير واحد من أهل العلم رحمهم الله أنه يجوز أن يضحى بها، وفي النفس من هذا القول شيء، فالأولى والأحوط أن لا يفعل ذلك إلا إذا اضطر إليه. صفة الجداء التي لا يجوز النسك بها قال رحمه الله: [والجداء].الجداء: هي التي جف ضرعها ويبس عن اللبن، فإن التي لا تحلب وجف ضرعها ويبس قد انتقص من عضوها، قالوا: فلما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من التضحية بالعرجاء والعمياء وذلك كله نقصان في الخلقة، نفهم من هذا أن كل نقص لعضو من أعضاء البهيمة يوجب المنع من التضحية والإجزاء. المريضة قال رحمه الله: [والمريضة].كان الأولى به أن يقدم المريضة على الجداء والهتماء؛ لأنه منصوص عليها، فإن الإجماع قائم على أن المريضة البين مرضها لا تجزئ، والمرض يكون على أحوال: فتارة يكون على ظاهر البهيمة، وتارة يكون في باطن البهيمة، وما كان من المرض على ظاهر البهيمة فتارة يكون بعلامة بينة لا مجال للشك فيها كالجرباء، فإذا كانت الشاة أو الناقة أو البقرة جرباء لم يجز أن يضحى بها؛ لأنها مريضة بينة المرض، وأنت إذا رأيتها استبان لك مرضها، ولأنه لا يؤمن من الضرر عند أكل لحمها، ولذلك قالوا: إنه لا يجزئ أن يضحى بمثل هذه؛ لأن مرضها بين واضح. وتارة يكون بيان مرضها في داخلها. وتارة يكون مرضها بحصول أمارات تدل على وجود فساد في صحة البهيمة، وذلك بقول أهل الخبرة الذين لهم معرفة بالبهائم، فإذا قالوا: إن بها مرضاً، وهذا المرض مؤثر؛ فإنه حينئذٍ لا يضحى بها، أما لو قالوا: هذا شيء عارض وبسيط ولا يؤثر، كما لو أصيبت باستطلاق بطن، وهذا الاستطلاق يقول أهل الخبرة: لأنها أكلت نوعاً من الطعام، وسرعان ما تعود إلى طبيعتها ولا يؤثر؛ فهذا ليس مثله بموجب للمنع من الإجزاء. وعليه: فإن المرض إذا كان ظاهراً بيناً كالجرب ونحوه من الغدد المفسدة للحم، التي إذا ذكيت البهيمة ظهر فيها الخراج والغدد الواضحة التي تؤثر في لحمها، أو يرى الأطباء أنها مؤثرة في اللحم؛ فإنه لا يجزئ مثلها، وفي بعض الأحيان يكون مرض البهيمة سارياً إلى من يأكل لحمها، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالمريضة البين مرضها؛ لما في ذلك من أذية الناس في صحتهم، وهذا يدل على عناية الإسلام بمبدأ الوقاية ورعايته بالصحة، وهذا مما يعين المسلم على طاعة الله عز وجل، ويقويه على مرضاته؛ لأنه إذا سقم ومرض فلن يستطيع أن يذكر الله سبحانه وتعالى، حتى ربما منع ولم يستطع القيام بفريضة الله في الصلاة ونحوها من الطاعات، ولذلك منع من التضحية بالمريضة البيّن مرضها؛ لما فيها من أذية البدن بأكل لحمها، ومقصود الشرع إنما هو الإحسان إلى الناس لا الإساءة إليهم. والمرض ينقسم عند بعض العلماء إلى قسمين: القسم الأول: المرض الملازم المصاحب. والقسم الثاني: المرض العارض الذي يمكن أن تشفى منه البهيمة إذا مضت فترة يحددها أهل الخبرة جرت العادة بقدرة الله جل جلاله أنها تشفى في مثلها. فأما إذا كان المرض ملازماً فلا يجزئ أن يضحى بمثل هذا النوع، وأما إذا كان المرض عارضاً فقال بعض العلماء: ينتظر إلى أن تشفى، ولا يجوز أن يضحى بها أثناء مرضها. وقال بعض العلماء: يجوز أن يضحى بها أثناء المرض وبعد المرض؛ لأن هذا المرض ليس ببين، بمعنى: أنه ليس مؤثراً تأثيراً بيناً في البهيمة. والصحيح: أنه ينتظر إلى شفائها وطيبها. حكم العضباء في النسك قال رحمه الله: [والعضباء].قال طائفة من أهل العلم: إذا ذهب قرن البهيمة فإنه لا يضحى بها؛ لوجود نقص في عضو من أعضائها. وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يضحى بمقطوعة القرن، ومنهم من حَدَّه بالثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ، ومنهم من حَدَّه بأكثر القرن إذا ذهب، وأما ما دون ذلك فإنه لا يؤثر، وورد عنه عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه أمره الصحابة أن يستشرفوا العين والأذن والقرن، قالوا: فهذا أصل يدل على أنه إذا ذهب القرن أو أكثره فلا يجوز أن يضحى بمثله. البتراء من النعم وحكمها في النسك قال رحمه الله: [بل البتراء خلقة].البتراء: هي مقطوعة الذنب، والأبتر: هو المقطوع، ولذلك كان الكفار في الجاهلية يذمونه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقالت إحدى نسائهم للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه أبتر، قالوا: عنت أنه مقطوع لا ذرية له، وقيل: مقطوع عن دين قومه، فكأنهم بتروه وخرج عنهم، كما يقال: الصابئ، من قولهم: صبأ إذا خرج، فلما قالت ذلك قال الله عز وجل: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifإِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[الكوثر:3]، فرد الله عز وجل ما ذكروه من النقص والعيب، والبتر: القطع في الشيء. وقد قال بعض العلماء: لا تجزئ مقطوعة الذنب أن يضحى بها، وكذلك إذا كان الكبش مقطوع الإلية فلا يجوز أن يضحى به؛ وذلك لأنه نُقص عضو من أعضائه، والإلية تؤكل، ويستطاب أكلها، وينتفع بها، وقد تكون شفاء ودواء، ويحصل فيها من المنافع ما لا يخفى، قالوا: فإذا قطعت الإلية أو قطع أكثرها فإن هذا يعتبر عيباً مؤثراً وموجباً للحكم بعدم الإجزاء، ولأن هذا القطع يؤثر في البهيمة إذا أخرجت وأفضلت. وقال بعض العلماء -كما درج عليه المصنف-: إن البتراء تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إن كانت بتراء خلقة، فإن هذا لا يؤثر. القسم الثاني: إن كان قطع منها بالقصد بعد وجود ذلك في خلقتها، فإنه يعتبر عيباً مؤثراً. وهذا التفصيل على أنها تجزئ هو الأقوى والأصح. أحكام الجماء والصمعاء في النسك قال رحمه الله: [والجماء].الجماء: هي التي لا قرون لها، والبهيمة أو الشاة الجماء يجوز أن يضحى بها؛ لأنها خلقة قد ذهب قرنها، فليست كالتي يقطع أو يقص منها بعد وجوده، ففرق العلماء رحمهم الله بين كونها وجدت خلقة بهذه الطريقة، وبين كونها قطع منها ذلك. ثم قيس على هذه المسألة إذا ما ولدت الشاة لا أذن لها، فقال بعض العلماء: إذا كانت بدون أذن جاز أن يضحى بها، وهي الصمعاء، فقالوا: يجوز أن يضحى بها كالجماء، فإن ذهاب أكثر القرن لم يجزئ عندهم، وأما إذا كان خلقة غير موجود فإنه يجزئ، قالوا: فكذلك الأذن إذا قطع أكثرها أو كلها أثر، وأما إذا وجدت خلقة صمعاء لا أذن لها فإنه يجزئ أن يضحى بها. أحكام الخصي في النسك قال رحمه الله: [وخصي غير مجبوب].وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوءين، وقال العلماء: إن الوجاء يطيب اللحم، فإذا كان خصياً فإن هذا مما يزيد اللحم طيباً، ومن هنا قال العلماء: نقصان الخلقة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون نقصاناً مؤثراً في الخلقة، كما ذكرنا في العوراء والعرجاء ونحوهما. فهذا يعتبر عيباً في أبواب الفقه، ويشمل ذلك باب الأضحية والبيوع، فلو باعه دابة ولم يخبره أنها عرجاء، فلما ركبها تبين عرجها؛ جاز له أن يردها، ويعتبر هذا عيباً مؤثراً. القسم الثاني: أن يكون النقص والعيب كمالاً؛ فهو في ظاهره نقص من الخلقة لكنه كمال فيها، كالخصى والوجاء، فإنه يعتبر مطيباً للحم؛ فحينئذٍ هو نقص من وجه وكمال من وجه آخر، فلا يعتبر موجباً للفساد والمنع في باب الأضحية، ولكنه قد يمنع ويوجب المنع في بيع الأرقاء في باب البيوع؛ وذلك لأنه قد يستفاد من إنجابه ونسله، وكذلك أيضاً يعتبر عيباً بالنسبة للبهيمة إذا بيعت من أجل الانتفاع بالفحل بالضراب، ثم تبين أنه موجوء؛ فإنه حينئذٍ يجوز له أن يرد المبيع ويبطل البيع ويفسخه. أحكام ما بأذنه أو قرنه قطع قال رحمه الله: [وما بأذنه أو قرنه قطع أقل من النصف].هذا حد لبعض العلماء، وبعضهم يحده بالثلث، وأثر عن الإمام أحمد رحمه الله قوله بالثلث أيضاً؛ لأنه إذا جاوز النصف فكأن الشيء قد ذهب؛ لأن أكثر الشيء غالباً ينزل منزلة الكل، فقالوا: إذا قطع أكثر القرن أو أكثر الأذن فإن ذلك كقطع الأذن كلها. الأسئلة حكم التضحية عن الميت السؤال: عندنا في عيد الأضحى نضحي عن الميت، فهل هذا له أصل من السنة، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالتضحية عن الميت فيها قولان مشهوران: قول جمهور العلماء، وهم على جواز التضحية عن الأموات، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى بالكبشين قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد)، قالوا: وفي آله الأحياء والأموات، وكذلك قال: (عمن لم يضح من أمة محمد)، فشمل أحياءهم وأمواتهم، وقد تكلم عن هذه المسألة شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر أن هذا جائز ولا حرج فيه، ولا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وهذه السنة تدل على مشروعية التضحية عن الميت، خاصة إذا وصى بذلك، فقال: ثلث مالي يضحى عني منه، فحينئذٍ تكون الأضحية واجبة؛ لأنها وصية، وإذا كان ثلثه يسع ذلك فإنه يلزم إنفاذ هذه الوصية. وخالف في هذه المسألة بعض فقهاء المالكية، واحتجوا بقوله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[النجم:39] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) . أما الاستدلال الأول فقد أجاب عنه شيخ الإسلام رحمه الله بأجوبة عديدة، وذكر أن قوله: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[النجم:39] من جهة كونه يستحق الثواب على عمله، أي: أن عمله يتوقف عند موته من جهة كونه يحصل الثواب، أما لو أنه بعد وفاته تفضل عليه الغير بالاستغفار والترحم له، أو الصدقة عنه؛ فإن هذا لا يمتنع؛ بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وغيره لما قيل له: (يا رسول الله! إن أمي ماتت فجأة أفأتصدق عنها؟ قال: نعم)، ويدل له أيضاً حديث سعد رضي الله عنه في صحيح البخاري: أنه شكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم موت أمه فجأة، فقال: (يا رسول الله! أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: فجعل لها حائطاً بالمخراف) أي: تصدق عنها بمزرعة، فدل على أن قوله تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[النجم:39] لا يعارض الصدقة عن الميت. وبناءً عليه فإن هذا لا يعتبر محظوراً شرعاً، بل هو جائز، خاصة وقد وردت السنة بجوازه. وأما بالنسبة لقوله عليه الصلاة والسلام: (صدقه جارية)، فقد قال فيه العلماء: إذا وصى بالتضحية عنه فإنها صدقة جارية؛ لأنه هو الذي تسبب فيها، وهذا من سعيه. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: لولا أن الإنسان مؤمن، ولولا أنه مسلم، لما تصدق عنه أحد ولما ضحى عنه أحد. فكأن سبب الأضحية هو الإيمان، والإيمان من سعي الإنسان، فلا يكون قوله: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[النجم:39] مآله من هذا الوجه، فيرى أن هذا من سعيه؛ إذ لولا الإيمان لما ترحم عليه المسلمون ولما دعوا له، وقد تكلم عن هذه المسألة بكلام طويل في مجموع الفتاوى، فحبذا لو يرجع إليه للاستفادة والاستزادة. والله تعالى أعلم. جواز تضحية المرأة عن نفسها السؤال: المرأة التي ليس لها قيّم هل تلزمها الأضحية؟ وهل تمسك عن شعرها وأظفارها، جزاكم الله خيراً؟ الجواب: إذا كان عند المرأة سعة فإنها تضحي، فالأضحية مشروعة للنساء كما هي مشروعة للرجال، وإذا وجدت المرأة القدرة فإنها تتقرب إلى الله عز وجل وتضحي كما يضحي الرجل، وتمسك عن قص شعرها وتقليم أظفارها كالرجل سواء بسواء. والله تعالى أعلم. عقيقة الخنثى المشكل السؤال: ما هي عقيقة الخنثى المشكل؟الجواب: أما بالنسبة للخنثى المشكل فهو مشكل، قال بعض العلماء: الأصل في الخنثى المشكل أنه امرأة، وهذا مبني على القاعدة الشرعية: اليقين لا يزول بالشك. فاليقين أنه في حكم النساء حتى يرتقي إلى درجة الذكورة والفحولة التي هي فوق الأنوثة، ولذلك قال تعالى: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifوَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[آل عمران:36] ، ومن هنا قالوا: إن الخنثى ينزل منزلة النساء، وعليه فإنه يأخذ حكم الأنثى سواء بسواء من جهة العقيقة، ومن جهة معاملته. والله تعالى أعلم. حكم العقيقة بالبدنة عن سبعة السؤال: ما حكم العقيقة بالبدنة؟ وهل تجزئ عن سبع من البنات، أثابكم الله؟ الجواب: هذه المسألة مبنية على التداخل، والتداخل في الدماء الواجبة يقع في الهدي والأضاحي، وأما بالنسبة للعقيقة فإن مقصود الشرع أن يراق الدم عن المولود، وعلى هذا فإنه لا تداخل في العقيقة، بخلاف غيرها من الدماء، ولابد في العقيقة من وجود الدم المنفصل عن كل نفس بحسبها. والله تعالى أعلم. حكم أخذ الأحكام من الكتب دون الرجوع للعلماء السؤال: شخص حدثت له مسألة في الليل، ولا يستطيع سؤال أهل العلم، ثم فتح كتاباً من كتب المذاهب وأخذ بما فيه، فهل عليه شيء، أفتونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب: أما بالنسبة للسؤال فينبغي أن يكون واقعياً، ويكون السؤال له حقيقة، فبالنسبة لمسائل الحج أنت ترى ونرى جميعاً توافر العلماء والدعاة والمشايخ، والكتب التي فيها توجيه للناس قد لا يحتاج إليها من كثرة ما يسمع من التوجيه والبيان، ولذلك فإن مسألة أن لا يتوافر عالم وهو يحج بين المسلمين هذا أشبه بقولهم: إذا لم تغب الشمس.. فينبغي أن يكون السؤال واقعياً، يعني أن هذه الأمة، والسواد الأعظم من أهل العلم، وما يسفر من وجود العلماء -وهي نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى- ووجود مراكب لتوجيه الحجاج، وبيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ومع كل هذا يقال: أنه لا يوجد عالم! هذا لا يخلو من نظر، ولذلك فإن هذا السؤال فيه بعد، لكن لو طرأت مسائل على الإنسان قبل أن يأتي إلى الحج، أو أحرم بالحج، ثم وهو في الطريق طرأت عليه؛ فإن العامي والجاهل لا يفتي نفسه، وعلى هذا فإنه لا بد له من الرجوع إلى العلماء، والله تعالى يقول في كتابه: https://audio.islamweb.net/audio/sQoos.gifفَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ https://audio.islamweb.net/audio/eQoos.gif[النحل:43]، فأمرنا بالرجوع إلى العلماء وسؤالهم. قال بعض العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء) قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل قبض العلم بموت العلماء، ولم يذكر الكتب، ولذلك استنبط بعض العلماء أن العلم لا يؤخذ من الكتب وإنما يؤخذ من العلماء؛ لأن الكتب لا يؤمن فيها التصحيف ولا التحريف -تحريف الكاتب والمطبعة- ولا الفهم السقيم؛ فيكون الكلام له معنىً غير المعنى الذي فهمه، ولذلك لا تبرأ ذمته بصورة صحيحة إلا بسؤال أهل العلم والرجوع إليهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
الساعة الآن : 09:02 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour