ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:07 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1757 الى صـ 1764
الحلقة (281)




فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين، وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم، وأيد ذلك - زيادة في الإقناع - بآيات باهرات تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول، فيستخذي الطامح، ويذل الجامح، ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه، يطرقون القول بقوارع من أمر الله، ويدهشون المدارك ببواهر من آياته، فيحيطون العقول بما لا مندوحة من الإذعان له، ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك، والسطلان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول [ ص: 1757 ] والفاضل، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري، يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته، وأولئك هم الأنبياء والمرسلون، فبعثة الأنبياء - صلوات الله عليهم - من متممات كون الإنسان، ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع منزلة العقل من الشخص، نعمة أتمها الله: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل

ثم قال في الكلام على وظيفة الرسل - عليهم السلام -: تبين مما تقدم في حاجة العالم الإنساني إلى الرسل أنهم من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية، قضت رحمة المبدع الحكيم بسدادها، ونعمة من واهب الوجود ميز بها الإنسان عن بقية الكائنات من جنسه، ولكنها حاجة روحية، وكل ما لامس الحس منها فالقصد فيه إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة وتقويم ملكاتها، أو إيداعها ما فيه سعادتها في الحياتين.

أما تفصيل طرق المعيشة، والحذق في وجوه الكسب، وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أعد للوصول إليه، من أسرار العلم - فذلك مما لا دخل للرسالات فيه، إلا من وجه العظة العامة، والإرشاد إلى الاعتدال فيه، وتقرير أن شرط ذلك كله أن لا يحدث ريبا في الاعتقاد بأن للكون إلها واحدا، قادرا عالما، حكيما متصفا بما أوجب الدليل أن يتصف به، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها مخلوقة له وصنع قدرته، وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال.

وشرطه أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحدا من الناس بشر في نفسه أو عرضه أو ماله، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة، على ما حدد في شريعتها.

يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته، ويبينون الحد الذي يجب [ ص: 1758 ] أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان، على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة، يجمعون كلمة الخلق على إله واحد لا فرقة معه، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده، وينهضون نفوسهم إلى التعلق به في جميع الأعمال والمعاملات، ويذكرونهم بعظمته بفرض ضروب من العبادات، فيما اختلف من الأوقات، تذكرة لمن ينسى، وتزكية مستمرة لمن يخشى، تقوي ما ضعف منهم، وتزيد المستيقن يقينا.

يبينون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم، وتنازعته مصالحهم ولذاتهم، فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع، ويؤيدون بما يبلغون عنه ما تقوم به المصالح العامة، ولا تفوت به المنافع الخاصة، يعودون بالناس إلى الألفة، ويكشفون لهم سر المحبة، ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة، ويفرضون عليهم مجاهدة أنفسهم، ليستوطنوها قلوبهم، ويشعروها أفئدتهم، يعلمونهم لذلك أن يرعى كل حق الآخر، وإن كان لا يغفل حقه، وأن لا يتجاوز في الطلب حده، وأن يعين قويهم ضعيفهم، ويمد غنيهم فقيرهم، ويهدي راشدهم ضالهم، ويعلم عالمهم جاهلهم:

يضعون لهم بأمر الله حدودا عامة، يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم، كاحترام الدماء البشرية إلا بحق، مع بيان الحق الذي يبيح تناوله، واحترام الأعراض، مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوموا أنفسهم بالملكات الفاضلة، كالصدق والأمانة، والوفاء بالعقود، والمحافظة على العهود، والرحمة بالضعفاء، والإقدام على نصيحة الأقوياء، والاعتراف لكل مخلوق بحقه بلا استثناء.

يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية إلى طلب الرغائب السامية، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير، حسبما أمرهم الله جل شأنه.

يفصلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله عنهم، وما يعرضهم لسخطه عليهم.

[ ص: 1759 ] ثم يحيطون بيانهم بنبأ الدار الآخرة، وما أعد الله فيها من الثواب وحسن العقبى لمن وقف عند حدوده، وأخذ بأوامره، وتجنب الوقوع في محظوراته، يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به، مما لو صعب على العقل اكتناهه لم يشق عليه الاعتراف بوجوده.

بهذا تطمئن النفوس، وتثلج الصدور، ويعتصم المرزوء بالصبر؛ انتظارا لجزيل الأجر، أو إرضاء لمن بيده الأمر، وبهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الإنساني، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم.

ليس من وظائف الرسل ما هو من عمل المدرسين ومعلمي الصناعات، فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكن من طبقات الأرض، ولا مقادير الطول فيها والعرض، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها، ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في إبقاء أشخاصها وأنواعها .... وغير ذلك مما وضعت له العلوم، وتسابقت في الوصول إلى دقائقه الفهوم، فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة، هدى الله إليه البشر بما أودع فيهم من الإدراك، يزيد في سعادة المخلصين، ويقضي فيه بالنكد على المقصرين.

ولكن كانت سنة الله في ذلك أن يتبع طريقة التدرج في الكمال، وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجمال بالسعي فيه، وما يكفل التزامه بالوصول إلى ما أعد الله له الفطر الإنسانية من مراتب الارتقاء.

أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك أو هيئة الأرض - فإنما يقصد منه النظر إلى ما فيه من الدلالة على حكمة مبدعه، أو توجيه الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه.

وحالهم - عليهم الصلاة والسلام - في مخاطبة أممهم لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون، وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم، ولهذا قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة، وكذلك ما وجه إلى الخاصة يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة، وهذا القسم أقل ما ورد في كلامهم.

[ ص: 1760 ] على كل حال لا يجوز أن يقام الدين حاجزا بين الأرواح وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان، بل يجب أن يكون الدين باعثا على طلب العرفان، مطالبا لها باحترام البرهان، فارضا عليها أن تبذل ما تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديه من العوالم، ولكن مع التزام القصد، والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد، ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين، وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب الدين. انتهى.

ولما تضمن قوله تعالى: إنا أوحينا إليك الآية، إثبات نبوته والاحتجاج على تعنتهم عليه بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، كأنه قيل: إنهم لا يشهدون ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

لكن الله يشهد بما أنـزل إليك أنـزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا [166]

لكن الله يشهد بما أنـزل إليك من القرآن المعجز الناطق بنبوتك. قال الزمخشري : معنى شهادة الله بما أنزل إليه إثباته لصحته بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات، إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة.

أنـزله بعلمه أي: وهو عالم به، رقيب عليه، فالظرف حال من الفاعل، والجملة كالتفسير لما قبلها.

والملائكة يشهدون أي: بذلك وكفى بالله شهيدا على صحة نبوتك وإن لم يشهد غيره، وفيه تسلية للنبي، صلى الله عليه وسلم.

[ ص: 1761 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا [167]

إن الذين كفروا أي: بما شهد الله بإنزاله، مع اطلاعهم على إعجازه وصدوا عن سبيل الله وهو دين الإسلام من أراد سلوكه قد ضلوا أي: بما فعلوا ضلالا بعيدا لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال.
القول في تأويل قوله تعالى:

إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا [168]

إن الذين كفروا وظلموا أي: الخلائق بإضلالهم لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة، التي هي طريق الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى:

إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا [169]

إلا طريق جهنم أي: المؤدي إليها وهو اكتسابهم الأعمال السيئة خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا أي: هينا لا يعسر عليه ولا يستعظمه.

ولما قرر أمر النبوة، وبين الطريق الموصل إلى العلم بها، ووعيد من أنكرها - خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعيد على الرد، فقال تعالى:
[ ص: 1762 ] القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما [170]

يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم أي: بالهدى، ودين الحق، والبيان الشافي الذي يجب قبوله فآمنوا خيرا لكم أي: إيمانا خيرا لكم، أو ائتوا أمرا خيرا لكم من تقليد المعاندين وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض أي: فهو قادر على تعذيبكم لعظم ملكوته، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، كما قال تعالى: إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [إبراهيم: 8] وكان الله عليما حكيما في صنعه.

ولما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الحجة، جرد الخطاب للنصارى؛ زجرا لهم عما هم عليه من الكفر والضلال، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [171]

يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم أي: بالإفراط في رفع شأن عيسى - عليه السلام - [ ص: 1763 ] وادعاء ألوهيته، فإنه تجاوز فوق المنزلة التي أوتيها، وهي الرسالة، واستفيد حرمة الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد.

وفي الصحيح عن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله .

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن رجلا قال: يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا! وخيرنا وابن خيرنا! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيها الناس! عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل .

قال ابن كثير : تفرد به من هذا الوجه.

ولا تقولوا على الله إلا الحق أي: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد، واتخاذ الصاحبة والولد، بل نزهوه عن جميع ذلك.

إنما المسيح عيسى ابن مريم صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه به من كونه ابنا لله تعالى رسول الله خبر المبتدأ أعني المسيح، أي: مقصور على مقام الرسالة لا يتخطاه وكلمته أي: مكون بكلمته وأمره الذي هو (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة.

ألقاها إلى مريم أي: أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل - عليه السلام - وروح منه أي: بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة، وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال: بيت الله، وناقة الله.

وقيل: الروح هو نفخ جبريل - عليه السلام - في جيب درع مريم ، فحملت بإذن الله، سمي النفخ روحا؛ لأنه ريح تخرج من الروح، وإنما أضافه إلى نفسه؛ لأنه وجد بأمره تعالى وإذنه.

قال أبو السعود : (من) لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية، كما زعمت النصارى.

يحكى أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى - عليه السلام - جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ الواقدي: [ ص: 1764 ] وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [الجاثية: 13] فقال: إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءا منه، تعالى علوا كبيرا، فانقطع النصراني وأسلم، وفرح الرشيد فرحا شديدا، ووصل الواقدي بصلة فاخرة.

وقيل: سمي روحا؛ لإحيائه الموتى بإذن الله، وقيل: لإحيائه القلوب، كما سمي به القرآن لذلك، في قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا [الشورى: 52].

وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم بالبشارة.

وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى - عليه السلام - متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح.

وتقديم كونه - عليه السلام - رسول الله في الذكر مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحا منه في الوجود - لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل، وتعيين مآل ما يحتمله، وسد باب التأويل الزائغ. انتهى.

فآمنوا بالله وخصوه بالألوهية ورسله أي: جميعهم، وصفوهم بالرسالة، ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية.

ولا تقولوا ثلاثة أي: الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم ، كما ينبئ عنه قوله تعالى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [المائدة: 116].
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif


ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:09 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1765 الى صـ 1772
الحلقة (282)




وقد ذكر السيد عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند حكاية عن مناظره أنه [ ص: 1765 ] حكى أن فرقة من النصارى تسمى (كولى ري دينس) كانت تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم، قال: ولعل هذا الأمر كان مكتوبا في نسخهم؛ لأن القرآن كذبهم. انتهى.

أو التقدير: ولا تقولوا: الله ثلاثة، أي: ثلاثة أقانيم، وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه: أخص أسرار المسيحية سر الثالوث، وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس.

والأب هو الله، والابن هو الله، وروح القدس هو الله، وليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر، ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية؛ وذلك لأن لهم جوهرا واحدا ولاهوتا واحدا، وذاتا واحدة، وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين؛ لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء، ما عدا الأقنومية، ولا نقدر أن نفهم جيدا هذه الحقائق؛ لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري. انتهى كلامهم في تعليمهم المدرسي المطبوع في بيروت سنة (1876) مسيحية.

فانظر إلى هذا التناقض والتمويه، يعترفون بأن الثلاثة آلهة، ثم يناقضون قولهم وينكرون ذلك.

ونقل العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق" عن صاحب "ميزان الحق" النصراني أنه قال: نحن لا نقول: إن الله ثلاثة أشخاص أو شخص واحد، بل نقول بثلاثة أقانيم في الوحدة، وبين الأقانيم الثلاثة وثلاثة أشخاص بعد السماء والأرض. انتهى.

قال رحمة الله: وهذه مغالطة صرفة؛ لأن الموجود لا يمكن أن يوجد بدون التشخص، فإذا فرض أن الأقانيم موجودون وممتازون بالامتياز الحقيقي - كما صرح هو بنفسه في كتبه - فالقول بوجود الأقانيم الثلاثة هو بعينه القول بوجود الأشخاص الثلاثة، على أنه وقع في الصحيفة التاسعة والعشرين من كتاب الصلاة، الرائج في كنيسة إنكلترة، المطبوع سنة (1818) ما ترجمته: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلة، الذين هم واحد. يعني ثلاثة أشخاص وإلها واحدا، فوقع فيه ثلاثة أشخاص صريحا، وكذلك مملوءة بعبارات [ ص: 1766 ] مصرحة بأن عيسى ابن الله، وأنه الله، وأن مريم أم الله وزوجة الله، ويسجدون لها ولصورتها السجود المحرم في كتبهم لغير الله، كما يسجدون لله، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان.

ولقد شفى الغليل الأستاذ الجليل الشيخ رحمة الله في "إظهار الحق" فساق - في الباب الرابع منه - إبطال التثليث بالبراهين الدامغة والحجج البالغة.

كما رد عليهم من المسلمين وممن أسلم منهم عدد وافر يفوت الحصر، وقد انتشر - ولله الحمد - في ذلك مؤلفات نافعة، بل رد عليهم فرق كثيرة منهم.

فقد جاء في كتاب "الرأي الصواب وفصل الخطاب" للقس جبارة ما صورته: إن المسيحيين الموحدين الذين ظهروا منذ (80) سنة في أميركا ولهم الآن ثلاثمائة كنيسة، والدرجة الأولى في المعارف والمدارس والاجتماعات الأدبية، وكذلك لهم في إنكلترا ثلاثمائة كنيسة، وتآليف عديدة معتبرة، ويعتبرون القرآن كما يعتبرون الإنجيل والتوراة كتبا إلهية - لا يؤمنون بتثليث الآلهة، أي أنهم لا يعتقدون بكون السيد المسيح أو الروح القدس هو إله حقيقي، كالله الواجب الوجود، بل يعتقدون أن الله وحده هو الإله الحق. انتهى.

وفيه أيضا ما لفظه: كل الكتب المنزلة تعلم بالوحدانية وتنفي تثليث الآلهة، أو كون الله ثلاثة، وتعلن صريحا بأوضح العبارة أن الله واحد أحد، وأنه لا إله حقا سواه. انتهى.

وفي كتاب "سوسنة سليمان" ذكر فرق منهم متعددة صارت إلى إنكار ألوهية المسيح والروح القدس، وهذا الكتاب ساق من فرقهم العتيقة والحديثة واختلافهم ما يقضي بالعجب، مما يؤيد ما قاله الحافظ ابن كثير من أن لهم آراء مختلفة وأقوالا غير مؤتلفة. ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولا. انتهى.

قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في "الرسالة القبرصية": فتفرق النصارى في التثليث والاتحاد تفرقا، وتشتتوا تشتيتا لا يقر به عاقل، ولم يجئ نقل إلا كلمات متشابهات في الإنجيل وما قبله من الكتب، قد بينتها كلمات محكمات في الإنجيل وما قبله، كلها تنطق [ ص: 1767 ] بعبودية المسيح وعبادته لله وحده، ودعائه وتضرعه.

ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله، فأرباب التثليث في الوحدانية والاتحاد في الرسالة قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بين بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها. انتهى.

وقد اجتمع لدي - بحمده تعالى - حين كتابة هذه السطور عشرون مؤلفا في الرد عليهم، وكلها - ولله الحمد - مطبوعة منتشرة، فلا حاجة للإطالة بالنقل عنها؛ لسهولة الوقوف عليها.

قال الماوردي في "أعلام النبوة": فأما النصارى فقد كانوا قبل أن تنصر قسطنطين الملك على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى - عليه السلام - ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم، أي: لأن الروم كانت صابئة، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم.

فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله.

وقال أوائل اليعاقبة: إنه ابن الله.

وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة، أحدهم عيسى.

ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر، حين استنكرته النفوس، ودفعته العقول، فقالوا: إن الله تعالى جوهر واحد، هو ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية، وأن أقنوم الأب هو الذات، وأقنوم الابن هو الكلمة، وأقنوم روح القدس هو الحياة.

واختلفوا في الأقانيم، فقال بعضهم: هي خواص، وقال بعضهم: هي أشخاص، وقال بعضهم: هي صفات، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى ، واختلفوا في الاتحاد.

ثم قال: وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول، وفسادها ظاهر في المعقول.

وقوله تعالى: انتهوا أي: عن التثليث خيرا لكم أي: انتهاء خيرا، أو اقصدوا خيرا من التثليث وهو التوحيد.

إنما الله إله واحد أي: بالذات، لا تعدد فيه بوجه ما.

وبقوله: سبحانه أن يكون له ولد تنزيه لمقامه - جل شأنه - عما زعموه من بنوة عيسى؛ [ ص: 1768 ] حيث قالوا: إنه الله وابن الله، والذي أوقعهم في هذه المهلكة الوخيمة، والورطة الجسيمة - ما ورد موهما من ألفاظ الإنجيل كالأب والابن، فلم يحملوها على ما أريد منها، وحملوها على ظاهرها، فضلوا وأضلوا.

وفي "منية الأذكياء" ما نصه: وأما ما ورد في الإنجيل الموجود الآن من إطلاق ابن الله على عيسى - عليه السلام - فهو إن لم يكن مما حرف يكون مجازا، بمعنى ابن المحبة، كما يقال: فلان من أبناء الدنيا.

ونظير ذلك قول عيسى - عليه السلام – لليهود حين ادعوا أن لهم أبا واحدا هو الله: (لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني) ثم قال لهم: (أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعلموا) ادعت اليهود أن الله تعالى أبوهم، أي أنهم مطيعون له إطاعة الابن للأب، فكذبهم عيسى - عليه السلام - وجعلهم أبناء الشيطان، أي: أنهم مطيعون له، ولا يخفى أن الابن والأب هنا مجازان.

وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى، واسم الابن على العبد الصالح - في الكتب السالفة، فهو إما من الخبط في الترجمة، وإما مؤول بما ذكرنا، فلا تغفل.

لكن قد منع من هذا الإطلاق في الملة المحمدية بالكلية؛ تحرزا من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام، وهذا هو الطريق الرشد.

وقوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض تعليل لتنزهه مما نسب إليه، بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه؟! إذ البنوة والملك لا يجتمعان.

وكفى بالله وكيلا أي: إليه يكل كل الخلق أمورهم، وهو غني عنهم، فأنى يتصور في حقه اتخاذ الولد، الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم، وقوله تعالى:
[ ص: 1769 ] القول في تأويل قوله تعالى:

لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا [172]

لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنزيه، أي: لن يأنف من أن يكون عبدا لله، فإن عبوديته شرف يتباهى به.

ولا الملائكة المقربون من أن يكونوا عبيدا له تعالى، واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء.

قال الزمخشري : أي: ولا من هو أعلى منه قدرا، وأعظم منه خطرا، وهم الملائكة الكروبيون، الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، ومن في طبقتهم.

ثم قال: فإن قلت: من أين دل قوله: ولا الملائكة المقربون على أن المعنى: ولا من فوقه؟ قلت: من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح ؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين؛ لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:


وما مثله من يجاود حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره


لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له [ ص: 1770 ] ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى [البقرة: 120] حتى يعترف بالفرق البين. انتهى.

قال البيضاوي : وجوابه أن الآية للرد على عبدة المسيح والملائكة، فلا يتجه ذلك، وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير، كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة، وهم الكروبيون الذين هم حول العرش، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة على المسيح من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا والنزاع فيه. انتهى.

قال ناصر الدين في "الانتصاف": وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة ، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء، وذهب القاضي أبو بكر - منا - والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة، من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري .

ونحن - بعون الله - نشبع القول في المسألة من حيث الآية، فنقول: أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة:

أحدها: أن سيدنا محمدا عليه - أفضل الصلاة والسلام - أفضل من عيسى - عليه الصلاة والسلام - فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح أن تكون أفضل من محمد - عليه الصلاة والسلام - وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة. وبين طائفتنا في هذه الطرف خلاف.

(السؤال الثاني) أن قوله: ولا الملائكة المقربون صيغة جمع، تتناول مجموع الملائكة، فهذا يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح [ ص: 1771 ] ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح ، وفي هذا السؤال أيضا نظر؛ لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال يلزمه القول بأنه أفضل من الكل، كما أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين التفضيل على التفصيل والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى.

وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين، وادعى أنه لا يلزم منه على التفصيل تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول، ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف، وهو: أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة، والأحاديث متوافرة بذلك، وحينئذ لا يخلو إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه، لا سبيل إلى الأول؛ لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل، فتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا.

الثالث: أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو، وهي لا تقتضي ترتيبا، وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبدا يكون أعلى رتبة - فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك، كقول القائل: ما عابني على هذا الأمر زيد ولا عمرو. قلت: وكقولك: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فإن هذا الترتيب وجه الكلام، والثاني أدنى وأخفض درجة، ولو ذهبت تعكس هذا فقلت: لا تؤذ ذميا ولا مسلما ليجعل الأعلى ثانيا - لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة. وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر، ولكن الحق أولى من المراء، وليس بين المثالين تعارض.

ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء، فنقول: النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى، وفي مواضع تأخيره، وتلك النكتة مقتضى البلاغة، التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة [ ص: 1772 ] إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول، قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر - فأعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه؛ لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح - على هذا التقدير - عبدا لله غير مستنكف من العبودية - لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله، وهم الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذا بقوله: ولا الملائكة المقربون إلا ما سلف أول الكلام.

وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له، إلا أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة، إذ لم يستلزم الأول الآخر، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز؛ لأن الغاية في البلاغة.

وبهذه النكتة يجب أن نقول: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية؛ لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم فقد يقال: ذاك من خواصه؛ احتراما للإسلام، فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية، فإذا قلت: ولا ذميا - فقد جددت فائدة لم تكن في الأول، وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى إلى النهي عن أكثر منه.

ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية، فقلت: لا تؤذ ذميا، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي، إذ يساوي الذمي في سبب الاحترام - وهو الإنسانية مثلا - ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم.

فإن قلت: ولا مسلما، لم تجدد له فائدة، ولم تعلمه غير ما علمه أولا، فقد علمت أنها نكتة واحدة، توجب أحيانا تقديم الأعلى، وأحيانا تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:12 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1773 الى صـ 1780
الحلقة (283)




ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة [ ص: 1773 ] قوله تعالى: فلا تقل لهما أف [الإسراء: 23] استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه، بتقدير الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهيا عن أعلى من التأفيف والإنهار (كذا) لأنه مستغنى عنه، وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها ما فرطنا في الكتاب من شيء [الأنعام: 38].

ولما اقتضى الإنصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك - جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف، وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار، قال: وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية؛ لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى - عليه السلام - مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على يديه الخوارق، لا يستنكف عن عبادة الله، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل - عليه السلام - وقد بلغ من قوته وإقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه، فقلب عاليها [ ص: 1774 ] سافلها، فيكون تفضيل الملائكة إذا بهذا الاعتبار، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء، وليس في الآية عليه دليل.

ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقا، أي: موجودا من غير أب، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله، بل ولا الملائكة المخلوقون من غير أب ولا أم، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى ، ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم - عليهما السلام - فنظر الغريب بالأغرب، وشبه العجيب من قدرته بالأعجب؛ إذ عيسى مخلوق من أم، وآدم من غير أم ولا أب، ولذلك قال: خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [آل عمران: 59] ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها، فمتى استقام اشتمال المذكور أياما على فائدة لم يشتمل عليها الأول، بأي طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد - فقد استد النظر وطابق صيغة الآية، والله أعلم.

وعلى الجملة فالمسألة سمعية، والقطع فيها معروف بالنص الذي لا يحتمل تأويلا، ووجوده عسر، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. انتهى.

ومن يستنكف عن عبادته أي: يأنف منها ويمتنع ويستكبر أي: يتعظم عنها ويترفع فسيحشرهم إليه جميعا أي: فيجمعهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم، ويفصل بينهم بحكمه العدل.
[ ص: 1775 ] القول في تأويل قوله تعالى:

فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا [173]

فأما الذين آمنوا فلم يستكبروا عن عبوديته وعملوا الصالحات فلم يستنكفوا عن عبادته فيوفيهم أجورهم أي: ثواب أعمالهم من غير أن ينقص منها شيء ويزيدهم أي: على أجورهم شيئا عظيما من فضله بتضعيفها أضعافا مضاعفة؛ مبالغة في إعزازهم.

وأما الذين استنكفوا واستكبروا أي: عن عبادة الله عز وجل: فيعذبهم عذابا أليما هو عذاب النار ولا يجدون لهم من دون الله وليا يواليهم ليعزهم ولا نصيرا ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنـزلنا إليكم نورا مبينا [174]

يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم لما بين تعالى بطلان ما عليه الكفرة على طبقاتهم من فنون الكفر والضلال عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - وسماه برهانا لما أوتيه من البراهين القاطعة التي شهدت بصدقه، ففيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت ببعثته، فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل.

قال أبو السعود : التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين؛ لإظهار اللطف بهم، والإيذان بأن مجيئه إليهم لتربيتهم وتكميلهم.

وأنـزلنا إليكم نورا مبينا أي: ضياء واضحا على الحق، يهتدى به من ظلمات الضلال، وهو القرآن.
[ ص: 1776 ] القول في تأويل قوله تعالى:

فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما [175]

فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به أي: عصموا به أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان فسيدخلهم في رحمة منه وهي الجنة وفضل يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة، كالنظر إلى وجهه الكريم وغيره من مواهبه الجليلة ويهديهم إليه صراطا مستقيما فيسلكهم - بتمسكهم بالبرهان والنور المبين - الطريق الواضح القصد، وهو الإسلام. وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة على الوعد بالهداية إليها - على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين - للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم [176]

يستفتونك أي: في ميراث الكلالة، استغني عن ذكره لوروده في قوله سبحانه: قل الله يفتيكم في الكلالة وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة. والمستفتي جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما.

روى الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريض، فتوضأ فصب علي - أو قال: صبوا عليه - فعقلت فقلت: لا يرثني [ ص: 1777 ] إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض.

إن امرؤ هلك أي: مات، واختصاص الهلاك بميتة السوء عرف طارئ لا يعتد به، بدليل ما لا يحصى من الآي والأحاديث، ولطرو هذا العرف قال الشهاب في "شرح الشفاء": إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ولا يعتد بأصل اللغة القديمة، كما لا يخفى عمن له مساس بالقواعد الشرعية، والله أعلم. كذا في "تاج العروس".

ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك أي: الميت، من المال.

قال ابن كثير : تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد ، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد، وهو رواية عن عمر بن الخطاب، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح، ولكن الذي يرجع إليه قول الجمهور.

وقضى الصديق - رضي الله عنه - أنه الذي لا ولد له ولا والد، ويدل على ذلك قوله: (وله أخت) ولو كان معها أب لم ترث شيئا؛ لأنه يحجبها بالإجماع، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص أيضا، عند التأمل أيضا؛ لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد، بل ليس لها ميراث بالكلية.

وروى الإمام أحمد ، عن زيد بن ثابت ، أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم؟ فأعطى الزوج النصف، والأخت النصف، فكلم في ذلك، فقال: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بذلك.

وقد نقل ابن جرير وغيره، عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان (في الميت ترك بنتا وأختا): إنه لا شيء للأخت لقوله: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك قال: فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا فلا شيء للأخت.

وخالفهما الجمهور فقالوا (في المسألة): للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب، بدليل غير هذه الآية، وهذه نقصت أن يفرض لها في هذه الآية.

وأما وراثتها بالتعصيب [ ص: 1778 ] فلما رواه البخاري من طريق سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النصف للبنت والنصف للأخت، ثم قال سليمان (قضى فينا) ولم يذكر (على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم).

وفي صحيح البخاري أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن بنت، وبنت ابن، وأخت؟ فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسأل ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى ، فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم -: النصف للبنت، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.

وقوله: وهو يرثها إن لم يكن لها ولد أي: والأخ يرث جميع ما لها إذا ماتت كلالة وليس لها ولد، أي: ولا والد؛ لأنها لو كان لها ولد لم يرث الأخ شيئا، فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه، كزوج أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ؛ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر .

وقوله تعالى: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك أي: فإن كان لمن يموت كلالة أختان - فرض لهما الثلثان، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين، كما استفيد حكم الأخوات من البنات [ ص: 1779 ] في قوله: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك [النساء: 11].

قوله تعالى: وإن كانوا أي: من يرث بطريق الأخوة إخوة أي: مختلطة رجالا ونساء فللذكر أي: منهم مثل حظ الأنثيين أي: مثل نصيب اثنتين من أخواته الإناث.

يبين الله لكم أن تضلوا أي: كراهة أن تضلوا في ذلك، أو على تقدير (اللام ولا) في طرفي (أن) أي: لئلا تضلوا، وقيل: ليس هناك حذف ولا تقدير، وإنما هو مفعول (يبين) أي: يبين لكم ضلالكم الذي هو من شأنكم إذا خليتم وطباعكم؛ لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه.

ورجحه بعضهم بأنه من حسن الختام، والالتفات إلى أول السورة وهو: يا أيها الناس اتقوا ربكم [النساء: 1] فإنه أمرهم بالتقوى، وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال لهم: إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم، فإن الشر إذا عرف اجتنب، والخير إذا عرف ارتكب.

قال العلامة أبو السعود : وأنت خبير بأن ذلك إنما يليق بما إذا كان بيانه تعالى على طريقة تعيين مواقع الخطأ والضلال من غير تصريح بما هو الحق والصواب، وليس كذلك.

[ ص: 1780 ] والله بكل شيء من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم عليم مبالغ في العلم، فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.
تنبيهات:

الأول: اعلم أنه تعالى لما بين في أول السورة أحكام الأموال ختم آخرها بذلك أيضا؛ ليكون الآخر مشاكلا للأول، وأما وسط السورة فقد اشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفة للدين.

الثاني: أنزل في الكلالة آيتان : إحداهما في الشتاء، وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه الآية، ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف.

الثالث: روى البخاري ومسلم ، عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: آخر سورة نزلت (براءة) وآخر آية نزلت: (يستفتونك) والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو الموفق والمعين.

وقد تم بحمده تعالى ما تيسر من "محاسن تأويل" هذه السورة الكريمة ضحوة الجمعة، غرة صفر الخير عام (1320) في السدة اليمنى العليا من جامع السنانية، على يد كاتبه وجامعه العبد الضعيف الذليل الجهول محمد جمال الدين القاسمي، غفر المولى له وأعانه على الإتمام.

بمنه وكرمه

ويليه الجزء السادس، وأوله: (سورة المائدة).
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:16 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 



https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1788 الى صـ 1798
الحلقة (284)


[ ص: 1788 ] بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء السادس

سورة المائدة


سميت بها لأن قصتها أعجب ما ذكر فيها. لاشتمالها على آيات كثيرة ولطف عظيم على من آمن. وعنف شديد على من كفر. فهو أعظم دواعي قبول التكاليف، المفيدة عقدة المحبة من الاتصال الإيماني بين الله وبين عبيده. أفاده المهايمي.

وهذه السورة مدنية. وآياتها مائة وعشرون.

قال الشهاب الخفاجي: السورة مدنية، إلا قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم إلخ، فإنها نزلت بمكة. انتهى.

أقول: في كلامه نظران:

الأول: - إن هذا بناء على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة. والمدني ما نزل بالمدينة، وهو اصطلاح لبعض السلف. ولكن الأشهر كما في (الإتقان) أن المكي ما نزل قبل الهجرة. والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أو عام حجة الوداع، أم بسفر من الأسفار.

الثاني - بقي عليه، لو مشى على ذاك الاصطلاح آيات آخر.

قال السيوطي في (الإتقان): في (النوع الثاني معرفة الحضري والسفري) للسفري أمثلة.

منها: أول المائدة. أخرج البيهقي في (شعب الإيمان) عن أسماء بنت يزيد أنها نزلت بمنى. وأخرج في (الدلائل) عن أم عمرو، عن عمها أنها نزلت في مسير له، وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب قال: نزلت سورة المائدة في حجة الوداع، فيما بين مكة والمدينة.

[ ص: 1789 ] ومنها: اليوم أكملت لكم دينكم في الصحيح عن عمر:

أنها نزلت عشية عرفة، يوم الجمعة، عام حجة الوداع، وله طرق كثيرة. لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري، أنها نزلت يوم غدير خم. وأخرج مثله من حديث أبي هريرة، وفيه: إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، مرجعه من حجة الوداع، وكلاهما لا يصح.

ومنها: آية التيمم فيها. في الصحيح عن عائشة أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة.

[ ص: 1790 ] ومنها: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم الآية. نزلت ببطن نخل.

ومنها: والله يعصمك من الناس نزلت في ذات الرقاع. انتهى.

وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه الروايات، عند هذه الآيات.

قال ابن كثير: روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة بزمام العضباء - ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذ نزلت عليه المائدة كلها. فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.

وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، لم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. تفرد به أحمد.

وروى الحاكم عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير! تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم. فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت. فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

[ ص: 1791 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1] يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد .

يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود روى ابن أبي حاتم; أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إلي! فقال: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه.

و (الوفاء) ضد الغدر، كما في "القاموس" وقال غيره: هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء. يقال: وفى بالعهد وأوفى به.

قال ناصر الدين في "الانتصاف": ورد في الكتاب العزيز: وفى بالتضعيف في قوله تعالى: وإبراهيم الذي وفى ورد: أوفى كثيرا. ومنه: أوفوا العقود. وأما: (وفى) ثلاثيا، فلم يرد إلا في قوله تعالى: ومن أوفى بعهده من الله لأنه بنى أفعل التفضيل من: (وفى) إذ لا يبنى إلا من ثلاثي.

[ ص: 1792 ] و (العقود) جمع عقد؛ وهو العهد الموثق. شبه بعقد الحبل ونحوه، وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف.

قال علي بن طلحة: قال ابن عباس: يعني بالعهود ما أحل الله وما حرم، وما فرض، وما حد في القرآن كله، ولا تغدروا ولا تنكثوا. وقال زيد بن أسلم: العقود ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين. قال الزمخشري: والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه، من تحليل حلاله وتحريم حرامه. وأنه كلام قديم مجملا. ثم عقب بالتفصيل. وهو قوله: أحلت لكم بهيمة الأنعام البهيمة ما لا عقل له مطلقا، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع.

قال الراغب: خص في المتعارف بما عدا السباع والطير، وإضافتها للأنعام، للبيان كثوب الخز. وإفرادها لإرادة الجنس. أي: أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام. جمع (نعم) محركة وقد تسكن عينه. هي الإبل والبقر والشاء والمعز: إلا ما يتلى يعني: رخصت لكم الأنعام كلها. إلا ما حرم عليكم في هذه السورة، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك.

وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة.

فأخبر الله تعالى أنهما حلالان، إلا ما بين في هذه السورة، ثم قال: غير محلي الصيد وأنتم حرم يعني: أحلت لكم هذه الأشياء. من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون. ف: (غير) نصب على الحالية من ضمير (لكم). قال في "العناية": ولا يرد ما قيل: إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم. وهي قد أحلت لهم مطلقا. ولا يظهر له فائدة، إلا إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره، لأنه – مع عدم اطراد اعتبار المفهوم - يعلم منه غيره بالطريق الأولى. لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك.

وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم. وفي "الإكليل": في الآية تحريم الصيد في الإحرام والحرم. لأن: (حرما) بمعنى محرمين، ويقال: أحرم أي: بحج وعمرة. وأحرم: دخل في الحرم. انتهى.

[ ص: 1793 ] قال بعض الزيدية: والمراد بالصيد المحرم على المحرم. هو صيد البر. لقوله في هذه السورة: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما هذا إذا جعل (حرم) جمع (محرم) وهو الفاعل للإحرام، وإن جعل للداخل في الحرم، استوى تحريم البحري والبري. وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد فيحرم، لقوله تعالى: ومن دخله كان آمنا لأنه يقال لمن دخل الحرم، أنه محرم. كما يقال: أعرق وأنجد: إذا دخل العراق ونجدا. ويكون التحريم في مكة وحرم المدينة؛ لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها. نحو: المدينة حرم من عير إلى ثور. انتهى.

إن الله يحكم ما يريد من تحليل وتحريم. وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه.
[ ص: 1794 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[2] يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب .

يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله أي: معالم دينه. وهي المناسك. وإحلالها أن يتهاون بحرمتها، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها. وقد روى ابن جرير عن عكرمة [ ص: 1795 ] والسدي قالا: نزلت في الحطم، واسمه شريح بن هند البكري. أتى المدينة وحده. وخلف خيله خارج المدينة. ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلام تدعو الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. فقال: حسن. إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم. ولعلي أسلم وآتي بهم. فخرج من عنده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل منربيعة يتكلم بلسان شيطان. فلما خرج شريح قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ص: 1796 ] لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، وما الرجل بمسلم، فمر بسرح من سراح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول:


قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر الوضم
باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم
خدلج الساقين ممسوح القدم



فتبعوه فلم يدركوه. فلما كان العام القابل، خرج شريح حاجا مع حجاج بكر بن وائل، من اليمامة. ومعه تجارة عظيمة. وقد قلد الهدي. فقال المسلمون: يا رسول الله! هذا الحطم قد خرج حاجا فخل بيننا وبينه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد قلد الهدي. فقالوا: يا رسول الله! هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله
قال ابن عباس: هي المناسك. كان المشركون يحجون ويهدون. فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم. فنهاهم الله عن ذلك.

وعن ابن عباس أيضا: لا تحلوا شعائر الله هي أن تصيد وأنت محرم. ويقال: شعائر الله، شرائع دينه التي حدها لعباده. وإخلالها الإخلال بها. وظاهر أن عموم اللفظ يشمل الجميع.

[ ص: 1797 ] ولا الشهر الحرام المراد به الجنس. فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم.

وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. أي: لا تحلوها بالقتال فيها. وقد كانت العرب تحرم القتال فيها في الجاهلية. فلما جاء الإسلام لم ينقض هذا الحكم. بل أكده. كذا في "لباب التأويل".

قال ابن كثير: يعني بقوله: ولا الشهر الحرام تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء بالقتال. كما قال تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وقال تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 1798 ] قال في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم...» الحديث. وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت. كما هو مذهب طائفة من السلف.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى: ولا الشهر الحرام يعني: لا تستحلوا القتال فيه. وكذا قال مقاتل وعبد الكريم بن مالك الجزري. واختاره ابن جرير أيضا. وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ. وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم. واحتجوا بقوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم والمراد أشهر التسيير الأربعة.

قالوا: فلم يستثن شهرا حراما من غيره. انتهى. وفي كتاب: "الناسخ والمنسوخ" لابن حزم: إن الآية نسخت بآية السيف. ونقل بعض الزيدية في "تفسيره" عن الحسن أنه ليس في هذه السورة منسوخ. وعن أبي ميسرة: فيها ثماني عشرة فريضة. وليس فيها منسوخ. (انتهى).
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:20 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 



https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1799 الى صـ 1811
الحلقة (285)



وروى ابن أبي حاتم عن ابن عوف قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء؟ قال: لا.

وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" في "فصل سرية الخبط" كان أميرها أبا عبيدة بن الجراح، وكانت في رجب، فيما ذكره الحافظ بن سيد الناس في "عيون الأثر".

ثم قال في فقه هذه القصة: إن فيها جواز القتال في الشهر الحرام. إن كان ذكر التاريخ فيها برجب، محفوظا. والظاهر -والله أعلم- أنه وهم غير محفوظ. إذ لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام، ولا أغار فيه، ولا بعث فيه سرية. وقد عير [ ص: 1799 ] المشركون المسلمين لقتالهم فيه في أول رجب، في قصة العلاء بن الحضرمي، فقالوا: استحل محمد الشهر الحرام. وأنزل الله في ذلك: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه، ولا اجتمعت الأمة على نسخه. وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرام بقوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ولا حجة في هذا. لأن الأشهر الحرم هاهنا هي أشهر التسيير التي سير الله فيها المشركين في الأرض يأمنون فيها. وكان أولها يوم الحج الأكبر، عاشر ذي الحجة. وآخرها عاشر ربيع الآخر. هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة، ليس هذا موضعها. انتهى.

وقوله تعالى: ولا الهدي أي: لا تحلوه بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله. والهدي: ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء. وفي "الإكليل": هذا أصل في مشروعية الإهداء إلى البيت. وتحريم الإغارة عليه. وذبحه قبل بلوغ محله. واستدل بالآية أيضا على منع الأكل منه.

ولا القلائد جمع قلادة. وهي ما يقلد به الهدي. من نعل أو لحاء شجر، ليعلم أنه هدي، فلا يتعرض له. والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي. وهي البدن. وعطفها على (الهدي) مع دخولها فيه، لمزيد التوصية بها، لمزيتها على ما عداها. إذ هي أشرف الهدي. كقوله تعالى: وجبريل وميكال عطفا على الملائكة. كأنه قيل: والقلائد منه، خصوصا. أو النهي عن التعرض لنفس القلائد، مبالغة في النهي عن التعرض [ ص: 1800 ] لأصحابها. على معنى: لا تحلوا قلائدها فضلا أن تحلوها. كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى: ولا يبدين زينتهن مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. كذا لأبي السعود.

وقال الحافظ ابن كثير: يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام. فإن فيه تعظيم شعائر الله. ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام.

وليعلم أنه هدي إلى الكعبة. فيجتنبها من يريدها بسوء. وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها. فإن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحليفة. وهو وادي العقيق. فلما أصبح طاف على نسائه، وكن تسعا. ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين. ثم أشعر هديه وقلده. وأهل للحج والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين، من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب

[ ص: 1801 ] قال بعض السلف: إعظامها استحسانها واستسمانها. قال علي بن أبي طالب: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن. رواه أهل السنن. وقال مقاتل: ولا القلائد، فلا تستحلوه. وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم. قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر. وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره، فيأمنون به. رواه ابن أبي حاتم.

وقال عطاء: كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون. فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله. وأمانهم بذلك منسوخ. كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد. وقوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وبسنده إلى ابن عوف قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء؟ قال: لا.

ولا آمين البيت الحرام أي: لا تحلوا قوما قاصدين زيارة المسجد الحرام بأن تصدوهم أو تقاتلوهم أو تؤذوهم، لأنه من دخله كان آمنا. وقوله تعالى: يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا حال من المستكن في: آمين أي: قاصدين زيارته حال كونهم [ ص: 1802 ] طالبين التجارة ورضوان الله بحجهم. ونقل ابن كثير عن ثمانية من سلف المفسرين أنه عنى بالفضل طلب الرزق بالتجارة. قال: كما تقدم في قوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن الآية نزلت في الحطم بن هند البكري. وتقدمت قصته. وقال ابن طلحة عن ابن عباس: كان المؤمنون والمشركون يحجون، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا من مؤمن أو كافر. ثم أنزل الله بعده: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا الآية. وقال تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله وقال: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر فنفى المشركين من المسجد الحرام. وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن قتادة في قوله: ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام قال: منسوخ. كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من الشجر، فلم يعرض [ ص: 1803 ] له أحد. فإذا رجع تقلد قلادة من شعر، فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت. فنسخها قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: ولا القلائد يعني أن من تقلد قلادة من الحرم، فأمنوه. قال: ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك. قال الشاعر:


ألم تقتلا الحرجين إذ أعوراكما يمران بالأيدي اللحاء المضفرا


أفاده ابن كثير. وهذه الروايات توضح أنه عنى: (الآمين): المشركين خاصة. إذا هم [ ص: 1804 ] المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم وما يفيده التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم. وكذا الرضوان من تشريفهم، والإشعار بحصول مبتغاهم. فالسر فيه تأكيد النهي والمبالغة في استنكار المنهي عنه. قال الزمخشري وأبو السعود: قد كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم، وأن الحج يقربهم إلى الله تعالى. فوصفهم الله تعالى بظنهم. وذلك الظن الفاسد، وإن كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى، لكن لا بعد في كونه مدارا لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية، وخلاصهم عن المكاره العاجلة. لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره. ونقل الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني، أن المراد بالآية، الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فلما زال العهد بسورة براءة، زال ذلك الخطر، ولزم المراد بقوله تعالى: فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا انتهى.

وإذا حللتم أي: خرجتم من الإحرام، أو خرجتم من الحرم إلى الحل: فاصطادوا أي: فلا جناح عليكم في الاصطياد: ولا يجرمنكم شنآن قوم أي: لا يحملنكم على الجريمة، شدة بغض قوم: أن صدوكم عن المسجد الحرام . أي: لأن صدوكم عن زيارته والطواف به للعمرة. وقرئ بكسر الهمزة من (إن) على أنها شرطية: أن تعتدوا أي: عليهم. قال أبو السعود: وإنما حذف، تعويلا على ظهوره، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي من النهي، منع صدور الاعتداء عن المخاطبين، محافظة على تعظيم الشعائر. لا منع وقوعه على القوم، مراعاة لجانبهم، وهو ثاني مفعولي: يجرمنكم أي: لا يكسبنكم شدة بغضكم لهم، لصدهم إياكم عن المسجد الحرام، اعتداءكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي.

تنبيهات:

الأول: قال ابن كثير: لا يحملنكم بغض قوم، قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية، على أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلما [ ص: 1805 ] وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد. وهذه الآية كما سيأتي من قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى أن: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل. فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد، في كل حال.

وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه. والعدل، به قامت السماوات والأرض. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان، حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه، حين صدهم المشركون عن البيت. وقد اشتد ذلك عليهم. فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة. فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فأنزل إليه هذه الآية.

الثاني: قوله: ولا يجرمنكم نهي عن إحلال قوم من الآمين، خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل كافة، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم، داعية إليه.

الثالث: لعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا مع ظهور تعلقه بما قبله، للإيذان بأن حرمة الاعتداد لا تنتهي بالخروج عن الإحرام، كانتهاء حرمة الاصطياد به، بل هي باقية ما لم تنقطع علامتهم عن الشعائر بالكلية. وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض بسائر الآمين، بالطريق الأولى. أفاده أبو السعود.

الرابع: دلت الآية على أن المضارة ممنوعة. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر [ ص: 1806 ] ولا ضرار في الإسلام» . وقوله عليه الصلاة والسلام: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» . ذكره بعض الزيدية. وفي "الإكليل": في الآية النهي عن الاعتداء وأنه لا يؤخذ أحد بذنب أحد.

الخامس: (جرم) جار مجرى (كسب) في المعنى وفي التعدي إلى مفعول واحد، وإلى اثنين، يقال: جرم ذنبا، نحو كسبه. وجرمته ذنبا، نحو: كسبته إياه، خلا أن (جرم) يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه. وهو السبب في إيثاره ههنا على الثاني. وقد ينقل الأول من كل منها بالهمزة إلى معنى الثاني. فيقال: أجرمته ذنبا وأكسبته إياه. وعليه قراءة من قرأ: (يجرمنكم) بضم الياء. أفاده أبو السعود.

وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون، أمروا، إثر ما نهوا عنه، بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى. ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى. فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاء عما وقع منهم، دخولا أوليا. ثم نهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي. فاندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني: أفاده أبو السعود.

قال ابن جرير: الإثم: ترك ما أمر الله بفعله. والعدوان: جواز ما حد الله في الدين، ومجاوزة ما فرض الله في النفس والغير. وفي معنى الآية أحاديث كثيرة. منها عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدال على الخير كفاعله» . رواه البزار. وعن أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» . رواه مسلم.

وعن [ ص: 1807 ] أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه. لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه. لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» . رواه مسلم.

وعن سهل بن سعد; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي عليه السلام، يوم خيبر: «فوالله! لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم» ، متفق عليه.

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه [ ص: 1808 ] وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قيل: يا رسول الله، هذا! نصرته مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: تحجزه وتمنعه من الظلم. فذاك نصرك إياه» . رواه الإمام أحمد والشيخان. وعن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» ، رواه الإمام أحمد.

وروى الطبراني والضياء المقدسي عن أوس بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام» ، وعن النواس بن سمعان قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق. والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» . رواه مسلم.

تنبيه: في فروع مهمة.

قال بعض الزيدية: من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأنه [ ص: 1809 ] لا يجوز إعانة متعد ولا عاص، فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه، من قول أو فعل أو أخذ ولاية أو مساكنة. وفي "الإكليل": استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه، لحمل خمر ونحوه، وبيع العنب لعاصره خمرا والسلاح لمن يعصي به، وأشباه ذلك. انتهى وهو متجه. وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في كتابه: "السياسة الشرعية": ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم؛ فإن التعاون نوعان: نوع على البر والتقوى، من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا ما أمر الله به ورسوله. ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة، فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية، متوهم أنه متورع. وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع، إذا كان كل منهما كف وإمساك.

والثاني: تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، وضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك. فهذا الذي حرمه الله ورسوله. نعم، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق، وتعذر ردها إلى أصحابها، ككثير من الأموال السلطانية، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين، كسداد الثغور ونفقة المقاتلة، ونحو ذلك، من الإعانة على البر والتقوى، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال، إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها مع التوبة، إن كان هو الظالم، إلى مصالح المسلمين. وإن كان غيره قد أخذها فعليه أن يفعل بها ذلك. وكذلك لو امتنع السلطان من ردها، كان الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها، أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين. فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم [ ص: 1810 ] المفسر لقوله: اتقوا الله حق تقاته وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . أخرجاه في الصحيحين.

وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتبطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما - هو المشروع، والمعين على الإثم والعدوان من أعان ظالما على ظلمه. أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المظلمة، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم. بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم. مثال ذلك: ولي اليتيم والوقف، إذا طلب ظالم منه مالا، فاجتهد في دفع ذلك بدفع ما هو أقل منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع - فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل. وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتاب وغيرهم، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم، لا يتوكل للظالمين في الأخذ. وكذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة، فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان، وقسطها بينهم على قدر طاقتهم، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء - كان محسنا. لكن الغالب أن من يدخل في ذلك [ ص: 1811 ] يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد، وآخذا ممن يريد، وهذا من أكبر الظلمة الذين يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار. انتهى.

واتقوا الله أي: اخشوه فيما أمركم ونهاكم: إن الله شديد العقاب يعني لمن خالف أمره. ففيه وعيد وتهديد عظيم. ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى: إلا ما يتلى عليكم فقال:
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:25 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1812 الى صـ 1822
الحلقة (286)


القول في تأويل قوله تعالى:

[3] حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم

حرمت عليكم الميتة وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجي. لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر، من ذكر اسم الله تحقيقا أو تقديرا، كإسلام الذابح. كذا في "التبصير". وقد خص من (الميتة) السمك بالسنة: فإنه حلال. مات بتذكية أو غيرها. لما رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى [ ص: 1812 ] الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر؟ فقال: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وهكذا الجراد. لما سيأتي. قال الرازي: تحريم الميتة موافق لما في العقول. لأن الدم جوهر لطيف جدا. فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد، وحصل من أكله مضار عظيمة. انتهى.

أخرج ابن منده في كتاب (الصحابة) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة. فأنزل تحريم الميتة فأكفأت القدر: والدم أي: المسفوح منه. لقوله تعالى في الأنعام: أو دما مسفوحا وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال؟ فقال: كلوه. فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح. وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد بن القاسم عن عائشة قالت: إنما نهي عن الدم السافح.

قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالسمك والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال» . وكذا رواه أحمد بن حنبل [ ص: 1813 ] وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس، عن أسامة، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، مرفوعا. قال الحافظ ابن كثير: وثلاثتهم كلهم ضعفاء. ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان بن بلال، أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه، قال الحافظ أبو زرعة الرازي: وهو أصح. نقله ابن كثير.

أقول: أقوى مما ذكر في الحجة، ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد. وفيهما أيضا من حديث جابر، إن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش. فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرج الله لكم. أطعمونا منه إن كان معكم. فأتاه بعضهم بشيء. وفي البخاري عن عمر في قوله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه قال: صيده ما اصطيد. وطعامه ما رمي به. وفيه عن ابن عباس قال: طعامه ميتته.

قال ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صدي بن عجلان قال: بعثني [ ص: 1814 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم. فبينما نحن كذلك، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها. فقالوا: هلم، يا صدي! فكل. قال قلت: ويحكم، إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية: حرمت عليكم الميتة والدم الآية. ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه. وزاد بعد هذا السياق قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي. فقلت: ويحكم! اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش. قال: وعلي عباءتي. فقالوا: لا. ولكن ندعك حتى تموت عطشا. قال: فاغتممت وضربت برأسي في العباء. ونمت على الرمضاء في حر شديد. قال: فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج. لم ير الناس أحسن منه. وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه. فأمكنني منه فشربته. فلما فرغت من شرابي استيقظت، فلا، والله! ما عطشت ولا عربت (عرب كفرح فسدت معدته. قاموس) بعد تيك الشربة.

ورواه الحاكم في مستدركه عن علي بن حماد، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة. وزاد بعد قوله: (بعد تيك الشربة): فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة؟ فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها. إن الله أطعمني وسقاني. وأريتهم بطني، فأسلموا عن آخرهم.
انتهى.

قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها. والفصيد، وهو الدم في المباعر، يشوونها ويقولون: لم يحرم من فزد له.

[ ص: 1815 ] وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم الآية.

قال المهايمي: حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة. فأشبه النجس بالذات، لا يؤثر فيه المطهر ولحم الخنزير لأنه نجس في حياته بصفاته الذميمة وهي -وإن زالت بالموت- فهو منجس ولم يقبل التطهير. لأنه لما كان نجسا حال الحياة والموت، أشبه النجس بالذات، فكأنه زيد تنجيسه بالموت. وإنما ذكر اللحم إشارة إلى أنه -وإن لم يكن موصوفا في الحياة بالصفات المنجسة لروحه- كان متنجسا بنجاسة روحه، ثم بزوال الروح. انتهى.

قال ابن كثير: وقوله تعالى: ولحم الخنـزير يعني إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطرد. وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده بلحم الخنزير ودمه» ، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره. وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم بيع الخمر [ ص: 1816 ] والميتة والخنزير والأصنام: فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا؛ هو حرام» .

وما أهل لغير الله به أي: نودي عليه غير اسم الله، كما في "الصحاح" وأصل الإهلال رفع الصوت، وكان العرب في الجاهلية يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح، فحرم الله ذلك بهذه الآية.

وبقوله: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه

قال ابن كثير في الآية: أي: ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام؛ لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم. فمن عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية، إما عمدا أو نسيانا، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام، إن شاء الله تعالى. وروى ابن أبي حاتم عن الجارود بن أبي سبرة قال: كان رجل من بني رياح يقال له: ابن نائل. وكان شاعرا. نافر غالبا، جد الفرزدق بماء بظهر الكوفة. على أن يعقر هذا مائة من إبله، إذا وردت الماء. قاما بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها. قال: فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم. وعلي بالكوفة. قال: فخرج علي. على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وهو ينادي: يا أيها الناس! لا تأكلوا من لحومها. فإنما أهل بها لغير الله. هذا أثر غريب.

[ ص: 1817 ] يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب» . ثم أسند عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل. أفاده ابن كثير.

وفي "القاموس وشرحه": وعاقره: فاخره وكارمه في عقر الإبل. ويقال: تعاقرا إذا عقرا إبلهما، يتباريان بذلك، ليرى أيهما أعقر لها. ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة. أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحي لما تعاقرا بصوأر. فعقر سحيم خمسا ثم بدا له. وعقر غالب مائة.

وفي حديث ابن عباس: لا تأكلوا من تعاقر الأعراب. فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله.

قال ابن الأثير: هو عقرهم الإبل، كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء. فيعقر هذا وهذا. حتى يعجز أحدهما الآخر. وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرا. ولا يقصدون به وجه الله تعالى. فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى. انتهى.

وروى الإمام مسلم عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: «لعن الله من ذبح لغير الله. لعن الله من لعن والديه. لعن الله من آوى محدثا. لعن الله من غير منار الأرض» .

وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ ص: 1818 ] «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا. فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل. فضربوا عنقه. فدخل الجنة» . وفي هذه القصة ترهيب من وجوه: منها كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم. ومنها معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم. مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر. ومنها أن في هذا شاهدا للحديث الصحيح: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك» . كذا في كتاب "التوحيد".

والمنخنقة وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما اتفاقا. بأن تتخبل في وثاقها فتموت به. قال الحسن وغيره: هي التي تختنق بحبل الصائد أو غيره. وبأي وجه اختنقت فهي حرام. وقال ابن عباس: كانت الجاهلية يخنقون الشاة. حتى إذا ماتت أكلوها. والمنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت، وما سال دمها، كانت كالميت حتف أنفه. إلا أنها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق، بخلاف الميتة فإنها بلا سبب.

قال المهايمي: المنخنقة، وإن ذكر اسم الله عليها فقد عارضه سريان خباثة الخانق إليها، مع تنجسها بالموت: والموقوذة يعني المقتولة بالخشب. وكان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصي. حتى إذا ماتت أكلوها. وفي "القاموس وشرحه" الوقذ شدة الضرب. وقذه يقذه وقذا: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. وشاة وقيذ وموقوذة قتلت بالخشب. وقال أبو سعيد: الوقذ الضرب على فأس القفا. فيصير هدتها إلى الدماغ، فيذهب [ ص: 1819 ] العقل. فيقال: رجل موقوذ. وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله! إني أرمي بالمعراض الصيد، فأصيب. قال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكله. وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ. فلا تأكله» .

والمتردية هي الساقطة من جبل أو في بئر، فتموت. والتردي السقوط فهي مهواة. وهذه الثلاثة في معنى الميتة. فإنها ماتت ولم يسل دمها والنطيحة هي التي نطحتها أخرى فماتت. فهي حرام. وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها. وإن أرسل إنسان الناطح بذكر اسم الله؛ لأنه لما لم يكن بطريق الصيد المشروع، لم تخل من خباثة.

فائدة:

قال التبريزي في "تهذيبه" وابن قتيبة في "أدب الكاتب": ما كان على فعيل، نعتا للمؤنث وهو في تأويل مفعول، كان بغير هاء. نحو: كف خضيب. وملحفة غسيل. وربما جاءت بالهاء يذهب بها مذهب الأسماء. نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع... وقالوا: ملحفة جديدة. لأنها في تأويل مجدودة أي: مقطوعة. وإذا لم يجز فيه مفعول فهو بالهاء. نحو مريضة وظريفة وكبيرة وصغيرة. وجاءت أشياء شاذة. فقالوا: ريح خريق وناقة سديس وكتيبة خصيف.

وقال ابن السكيت: قد تأتي فعيلة بالهاء وهي في تأويل مفعول بها. تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت. نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع، ومررت بقتيلة بني فلان.

وقال الجوهري: إنما جاءت النطيحة بالهاء، لغلبة الاسم عليها. وكذلك الفريسة والأكيلة والرمية. لأنه ليس هو (نطحتها، فهي منطوحة) وإنما هو الشيء في نفسه مما ينطح والشيء مما يفرس ويؤكل.

[ ص: 1820 ] وما أكل السبع أي: ما عدا عليها فأكل بعضها. قال قتادة: كان أهل الجاهلية، إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه، أكلوا ما بقي منه. فحرمه الله تعالى.

قال المهايمي: هو، وإن أشبه الصيد، لكنه لما أكله قصد بذلك نفسه، فسرت خباثته فيها. انتهى.

و (السبع) بضم الباء وفتحها وسكونها: المفترس من الحيوان. مثل الأسد والذئب والنمر والفهد. وما أشبهها مما له ناب، ويعدو على الناس والدواب فيفترسها. وسمي ذلك لتمام قوته. وذلك أن (السبع) من الأعداد التامة، وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل السبع بعضه. كما ذكرنا. لأن ما أكله فقد فقد، فلا حكم له، إنما الحكم للباقي منه.

وقوله تعالى: إلا ما ذكيتم أي: ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات: المنخنقة فما بعدها. بحيث ينسب موتها إلى الذبح دون غيره، فإنه يتحقق فيه المطهر، ولا يؤثر فيه السابق. لأن اللاحق ينسخه. بل هو واقع قبل تأثير السابق. إذ لا يتم التأثير إلا بالموت. أفاده المهايمي.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه فهو ذكي. وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن والسدي. وروى ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي، في الآية قال: إن مصعت بذنبها، أو ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، فكل. وروى ابن جرير عن الحارث عن علي أيضا قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدا أو رجلا، فكله. وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد; أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال. وهذا مذهب جمهور الفقهاء. أفاده ابن كثير.

وفي "الموطأ": سئل مالك عن شاة تردت فتكسرت، فأدركها صاحبها فذبحها، [ ص: 1821 ] فسال الدم منها ولم تتحرك؟ فقال مالك: إذا كان ذبحها ونفسها يجري وهي تطرف، فليأكلها.

والتذكية الذبح، كالذكا والذكاة. قال الراغب: حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية. ولكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه. أي: وهو قطع الحلقوم والمريء. بمنهر للدم: من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب، له حد يقطع كما السلاح المحدد. ما لم يكن سنا أو ظفرا. لحديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال: «قلت: يا رسول الله! إنا لاقو العدو غدا. وليس معنا مدى. أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة» .

وأما حديث أبي العشراء عن أبيه: «قلت: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: لو طعنت في فخذها لأجزأك» . أخرجه أحمد وأهل السنن - ففي إسناده مجهولون.

[ ص: 1822 ] وأبو العشراء لا يعرف من أبوه. ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة. فهو مجهول. كذا في "الروضة".

وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": أبو العشراء مختلف في اسمه وفي اسم أبيه. وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح. ولا يعرف حاله.

وقال في "التقريب": أعرابي مجهول.

قال الترمذي في جامعه، بعد سوقه لهذا الحديث: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: هذا في الضرورة. وفي الباب عن رافع بن خديج. انتهى.

وقال ابن كثير: وهذا الحديث صحيح. ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة. انتهى.

وتصحيحه له، مع جهالة راويه المذكور، فيه نظر. فإن حد الصحيح كما في "التقريب" ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة. قال (شارحه السيوطي): فخرج بقيد (العدول) ما نقله مجهول عينا أو حالا. أي: فليس بصحيح بل ضعيف.

وفي "النخبة" أن خبر الآحاد مقبول ومردود، والثاني إما لسقط من إسناد أو طعن في راو. والطعن إما لكذب أو تهمته بذلك. إلى أن قال: أو جهالته بأن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معين. فتبصر.

وما ذبح على النصب قال الزمخشري: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت. يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها. يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها. تسمى الأنصاب.

قال ابن كثير: فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرم عليهم أكل هذه الذبائح، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله. لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. انتهى.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:28 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1823 الى صـ 1834
الحلقة (287)



وقد ورد النهي عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره تعالى. فروى أبو داود بإسناد [ ص: 1823 ] على شرط الشيخين، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: «نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك. فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله. ولا فيما لا يملك ابن آدم» .

ففيه: أن المعصية قد تؤثر في الأرض. وكذلك الطاعة. وفيه المنع من النذر إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله. أو عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله أيضا. وإنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه نذر معصية وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده. كذا في "كتاب التوحيد".

لطيفة:

(النصب) بضمتين، وضم فسكون، إما جمع، واحده نصاب. ككتاب وكتب. أو مفرد جمعه أنصاب كعنق وأعناق. وقفل وأقفال. وفي "القاموس وشرحه": النصب: كل ما نصب وجعل علما. وكل ما نصب فعبد من دون الله تعالى. والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح لغير الله تعالى. وقال القتيبي: النصب صنم أو حجر. وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده، فيحمر بالدم. ومنه حديث أبي ذر في إسلامه قال: [ ص: 1824 ] فخرجت مغشيا علي ثم ارتفعت كأني نصب أحمر -يريد أنهم ضربوه حتى أدموه- فصار كالنصب المحمر بدم الذبائح. انتهى.

قال ابن جريج: كانت النصب ثلاثمائة وستين نصبا. وكانوا يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت، بدماء تلك الذبائح. ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.

وأن تستقسموا بالأزلام أي: وحرم عليكم، أيها المؤمنون، الاستقسام بالأزلام، أي: طلب القسم والحكم بها. والأزلام جمع زلم (محركة). و (كصرد) وهي: قداح ثلاثة كانوا يستقسمون به في الجاهلية. مكتوب على أحدها: (افعل) وعلى الآخر (لا تفعل) والثالث غفل، ليس عليه شيء. وقد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة. يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا. أتى السادن وقال: أخرج لي زلما. فيجيلها ثم يخرج زلما منها. فإذا خرج قدح الأمر، مضى على ما عزم عليه. أو النهي قعد عما أراده. أو الفارغ أعاد.

قال الزهري (في معنى الآية): أي: تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين. فمعنى الاستقسام هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح. وذكر محمد بن إسحاق وغيره; أن أعظم أصنام قريش، صنم كان يقال له هبل. منصوب على بئر داخل الكعبة، فيها توضع الهدايا، وأموال الكعبة فيه. وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم. فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه. وفي "اللباب": كانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها: (أمرني ربي) وعلى واحد: (نهاني) وعلى واحد: (منكم) وعلى واحد: (من غيركم) وعلى واحد: (ملصق) وعلى واحد: (العقل) وعلى واحد غفل. أي: ليس عليه شيء. وكانت العرب، في الجاهلية، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا، أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل، أو تحمل عقل، أو غير ذلك من الأمور العظام - جاءوا إلى هبل. وكانت أعظم صنم لقريش بمكة. وجاءوا بمائة [ ص: 1825 ] درهم. وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم. فإن خرج: (أمرني ربي) فعلوا ذلك الأمر. وإن خرج: (نهاني ربي) لم يفعلوه. وإن أجالوا على نسب، فإن خرج: (منكم) كان وسطا منهم. وإن خرج: (من غيركم) كان حلفا فيهم. وإن خرج: (ملصق) كان على حاله. وإن اختلفوا في العقل. وهو الدين، من خرج عليه قدح العقل تحمله. وإن خرج غفل أجالوا ثانيا. حتى يخرج المكتوب عليه. فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقا، كما يأتي. وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها. وفي أيديهما الأزلام. فقال: «قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بهما أبدا» . وفي الصحيح أن سراقة بن مالك بن جعشم، لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة. مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام: هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره: لا تضرهم. قال: فعصيت الأزلام واتبعتهم. ثم استقسم بها ثانية وثالثة. كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم. وكان كذلك. وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك. ثم أسلم بعد ذلك.

وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا» .

ذلكم فسق أي: خروج عن الأخذ بالطريق المشروع. والإشارة إلى الاستقسام. أو إلى تناول ما حرم عليهم. لأن المعنى: حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا. فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام، لتعرف الحال - فسقا؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب. [ ص: 1826 ] وقال: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله .

واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه. وقوله: أمرني ربي ونهاني ربي - افتراء على الله. وما يدريه أنه أمره أو نهاه؟ والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم - فأمره ظاهر. كذا في الكشاف.

تنبيه:

في "الإكليل": استدل بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك. وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام، وهو مردود. انتهى. أي: لتباين القصد فيهما. فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها، لتطيب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض. ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة. كما "في العناية".

قال الحاكم: وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم. فأما التفاؤل بالخير فمباح. قال الأصم: ومن هذا قول المنجم: إذا طلع نجم كذا فاخرج، وإن لم يطلع فلا تخرج.

قال الراضي بالله: ومن عمل بالأيام في السعد والنحس، معتقدا أن لها تأثيرا، كفر. وإن لم يعتقد أثم. وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت» .

قال عوف أحد رواته: العيافة زجر الطير، والطرق الخط يخط بالأرض. وفي "القاموس" عفت الطير عيافة: زجرتها. وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها، فتتسعد أو تتتشأم، وهو من عادة العرب كثيرا.

[ ص: 1827 ] وقال أبو زيد: الطرق أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع.

وقال ابن الأثير: الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء. وقيل: هو الخط بالرمل. والجبت: كل ما عبد من دون الله تعالى. وقد روى مسلم في صحيحه، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوما» .

وروى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» . وعن عمران بن حصين مرفوعا: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن له، أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» . رواه البزار بإسناد جيد. ورواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن من حديث ابن عباس. دون قوله: ومن أتى... إلخ.

قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن. والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس بن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. وقال ابن عباس (في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم): ما أرى من فعل ذلك، له عند الله من خلاق. وفي الأحاديث السابقة من الترهيب ما فيها من التصريح بأنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع [ ص: 1828 ] الإيمان بالقرآن، والتصريح بأنه كفر. وعن ابن مسعود مرفوعا. «الطيرة شرك. الشرك الطيرة. ما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل» . رواه أبو داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود.

ولأحمد من حديث ابن عمرو: من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم! لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة» . رواه الشيخان.

ولأبي داود بسند صحيح عن عروة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أحسنها الفأل ولا ترد مسلما. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم! لا يأتي بالحسنات إلا أنت. ولا يدفع السيئات إلا أنت. ولا حول ولا قوة إلا بك» .

فائدة:

قال الحافظ ابن كثير: قد أمر الله المؤمنين، إذا ترددوا في أمورهم، أن يستخيروه، بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه. كما رواه الإمام أحمد والبخاري [ ص: 1829 ] وأهل السنن من طرق عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما السورة من القرآن: ويقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم. فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم! إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسميه باسمه) خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجل أمري) وآجله فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفني عنه واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به» . هذا لفظ الإمام أحمد.

اليوم يئس أي: قنط: الذين كفروا من دينكم روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم. وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان. وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم» . نقله ابن كثير. وعليه ف (من) تعليلية. أي: يئسوا من مراجعة دينهم لأجل دينكم الذي ضم إليه جمهور الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها. ودخلوا فيه أفواجا. وللزمخشري تأويل بديع، تابعه عليه من بعده، ونحن نسوقه أيضا. قال رحمه الله: لم يرد بقوله: اليوم يوم بعينه. وإنما أريد به الزمان الحاضر، وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية. كقولك: كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب. فلا تريد (بالأمس) اليوم الذي قبل يومك ولا (باليوم) يومك. وقيل: أريد يوم نزولها. وقد نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة، بعد العصر في حجة الوداع. وقوله تعالى: يئس . إلخ. أي: يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث، بعد ما حرمت عليكم. وقيل: [ ص: 1830 ] يئسوا من دينكم أن يغلبوه. لأن الله عز وجل وفى بوعده من إظهاره على الدين كله.

فلا تخشوهم بعد إظهار الدين، وزوال الخوف من الكفار، وانقلابهم مغلوبين مقهورين، بعدما كانوا غالبين: واخشون وأخلصوا لي الخشية. انتهى كلامه.

وأوضح الوجه الأول، الرازي فقال: ليس المراد باليوم هو ذلك اليوم بعينه، حتى يقال: إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه: لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار، لأنكم الآن صرتم حيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم.

ثم بين تعالى أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة وهو: إكماله لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا جعله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة. ولهذا قال: اليوم أكملت لكم دينكم يعني أحكامه وفرائضه، فلا زيادة بعده، ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام. هذا ما روي عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير وقتادة: معنى (الإكمال) أنه لم يحج معهم مشرك. وخلال الموسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين. وقيل: معناه كفايتهم أمر العدو، وجعل اليد العليا لهم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم. وبما ذكرنا أولا - من أن المراد بالإكمال عدم الزيادة - يندفع ما يتوهم من ثبوت النقص أولا. ولذا قال ابن الأنباري (في الآية): اليوم أكملت لكم شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت. وذلك أن الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر. فيكون الوقت الأول تاما في وقته. وكذلك الوقت الثاني تاما في وقته. فهو كما يقول القائل: عندي عشرة كاملة، ومعلوم أن العشرين أكمل منها. [ ص: 1831 ] والشرائع التي تعبد الله عز وجل بها عباده، في الأوقات المختلفة، مختلفة.

وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبد بها. فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره - وهو يوم عرفة - ولم يوجب ذلك، أن الدين كان ناقصا في وقت من الأوقات.

وللإمام القفال نحو ذلك، نقله عنه الرازي واختاره. قال: إن الدين ما كان ناقصا البتة، بل كان أبدا كاملا. يعني: كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه. فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت. وكان يزيد بعد العدم. وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة. فالشرع أبدا كان كاملا. إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص. والثاني كمال إلى يوم القيامة. فلأجل هذا قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي يعني بإكمال الدين والشريعة. لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام. أو بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين. وهدم منار الجاهلية ومناسكهم، وأن لم يحج معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو بإنجاز ما وعدهم بقوله: ولأتم نعمتي عليكم . فكان من تمام النعمة فتح مكة وما ذكرنا ورضيت لكم الإسلام دينا يعني: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، أو معناه: الانقياد لأمري فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم. ومعلوم أن الإسلام لم يزل مرضيا للحق تعالى منذ القدم، إلا أن المعني به، في الآية، الصفة التي هو اليوم بها. وهي نهاية الكمال والبلوغ به أقصى درجاته. أي: فالزموه ولا تفارقوه: إن الدين عند الله الإسلام ..!

[ ص: 1832 ] روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال جبريل: قال الله عز وجل: هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه» .

فوائد:

الأولى: روى الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرءون آية في كتابكم، لو علينا، معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال: قوله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فقال عمر: والله! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله [ ص: 1833 ] عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة.

قال ابن كثير: وقد روي هذا من غير وجه عن عمر. وروى ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذئب قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال: اليوم أكملت لكم دينكم فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه. نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة. وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وروى ابن جرير القصة أيضا عن ابن عباس، وأنه قال: نزلت يوم عيدين اثنين. يوم عيد ويوم جمعة... وروى ابن مردويه عن ابن الحنفية عن علي قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة: اليوم أكملت لكم دينكم . ورواه أيضا عن سمرة. وروى ابن جرير نحوه عن معاوية. وروي عن السدي قال: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. فقالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة. فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن. فنزلت. فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي.

وقال ابن جرير وغيره: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.

وقال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وكيع: حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت: اليوم أكملت لكم دينكم - وذلك يوم الحج الأكبر - بكى عمر. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا.

فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال: صدقت.


قال ابن كثير: ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء» . انتهى.

قلت: والحديث المذكور رواه مسلم عن أبي هريرة. والترمذي عن ابن مسعود. [ ص: 1834 ] وابن ماجه عنهما أيضا وعن أنس، والطبراني عن سلمان وسهل وابن عباس.

هذا، وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس. ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع. وروى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري; أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم.

حين قال لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه. ثم رواه عن أبي هريرة وفيه: إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة - يعني مرجعه صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع.

قال ابن كثير: ولا يصح لا هذا ولا هذا. بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية، أنها نزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة، كما قدمنا عن عمر وعلي ومعاوية وابن عباس وسمرة رضي الله عنهم، وعن ثلة من التابعين.

الثانية: استدل نفاة القياس بهذه الآية، على أن القياس باطل؛ وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع، إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملا، وإذا حصل النص في جميع الوقائع، فالقياس - إن كان على وفق ذلك النص - كان عبثا وإن كان على خلافه كان باطلا.

وأجاب عنه مثبتو القياس بما بسطه الرازي. فانظره.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:30 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1835 الى صـ 1847
الحلقة (288)



الثالثة: قال صاحب "فتح البيان": لا معنى للإكمال في الآية إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع. إما بالنص على كل فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة. ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله: [ ص: 1835 ] ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تركتكم على الواضحة، ليلها كنهارها» . وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين. وبما يفيد هذا المعنى، ويصحح دلالته، ويؤيد برهانه، ويكفي في دفع الرأي، وأنه ليس من الدين - قول الله تعالى هذا؛ فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيه صلى الله عليه وسلم، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه لأنه إن كان من الدين - في اعتقادهم - فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه رد للقرآن. وإن لم يكن من الدين، فأي فائدة في الاشتغال بما ليس منه؟ وما ليس منه فهو رد بنص السنة المطهرة. كما ثبت في "الصحيح" - وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبدا. فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي، وترغم به آنافهم، وتدحض به حجتهم. فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه. ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل. فمن جاء بشيء من عند نفسه [ ص: 1836 ] وزعم أنه من ديننا قلنا له: إن الله أصدق منك: ومن أصدق من الله قيلا . اذهب لا حاجة لنا في رأيك. وليت المقلدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويريحوا. وقد أخبرنا الله في محكم كتابه أن القرآن أحاط بكل شيء فقال: ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال: تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم وقال: لتحكم بين الناس بما أراك الله وقال: إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [ ص: 1837 ] وقال: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون وفي آية: هم الظالمون وفي أخرى: هم الفاسقون وأمر عباده أيضا في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وهذه أعم آية في القرآن، وأبينها في الأخذ بالسنة المطهرة، وقال: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) . وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز. [ ص: 1838 ] وقال: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة

والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله وطاعة رسوله لا يأتي بعائدة. ولا فائدة زائدة، فليس أحد من المسلمين يخالف في ذلك. ومن أنكره فهو خارج عن حزب المسلمين. وإنما أوردنا هذه الآيات الكريمة، والبينات العظيمة تليينا لقلب المقلد الذي قد جمد، وصار كالجلمد. فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر القرآنية، ربما امتثلها وأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، طاعة لأوامره. فإن هذه الطاعة، وإن كانت معلومة لكل مسلم، لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع الفرقانية والزواجر المحمدية، فإذا ذكر بها ذكر. ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه. فإنه يقع في قلبه، أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه. وما كان مخالفا له فليس من الإسلام في شيء. فإذا راجع نفسه رجع.

ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب، ثم سمع - قبل أن يتمرد بالعلم ويعرف ما قاله الناس - خلاف ذلك المألوف، استنكره وأباه قلبه، ونفر عنه طبعه. وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر. ولكن إذا وازن العاقل بعقله، بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلد - ولا مستند لذلك العالم فيها، بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل - وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن والسنة; أفاده العقل بأن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل، لا جامع بينهما، لأن من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة: أولها وآخرها، [ ص: 1839 ] وحيها وميتها...! والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره. والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة، واسترواء النص، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة. فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها. فهم رواة وهو مسترو، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي; والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية. لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة. وذلك في سؤاله يطالب بالحجة لا بالرأي، فهو قابل لرواية الغير لا لرأيه. وهما من هذه الحيثية متقابلان، فانظر كم الفرق بين المنزلتين؟ والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة. وهو مبسوط في مواطنه، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ، وبالله التوفيق. انتهى كلامه.

الرابعة: قال بعض الزيدية: ثمرة الآية تعظيم هذا اليوم المذكور، وأنه يلزم الشكر لله تعالى على التمسك بملة الإسلام.

وقوله تعالى: فمن اضطر متصل بذكر المحرمات. وما بينهما اعتراض بما يوجب أن يجتنب عنه. وهو أن تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل، والنعمة التامة، والإسلام المرضي. ومعناه: فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات: الميتة وما بعدها، أي: أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة وما بعدها: في مخمصة أي: مجاعة يخاف معها الموت أو مبادئه - و (المخمصة): مصدر مثل المغضبة والمعتبة. يقال: خمصه الجوع خمصا ومخمصة، وخمص البطن (مثلثة الميم) خلا غير متجانف لإثم أي: غير منحرف إليه بالأكل فوق الضرورة، أو العصيان بالسفر. كقوله تعالى: غير باغ ولا عاد [ ص: 1840 ] فإن الله غفور رحيم لتناوله الحرام - فلا يؤاخذه به: رحيم أي: بإعطائه الرخصة فيه لعلمه بحاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي "المسند" و "صحيح" ابن حبان عن ابن عمر - مرفوعا - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» . لفظ ابن حبان. وفي لفظ لأحمد: «من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة» ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها. وقد يكون مندوبا، وقد يكون مباحا، بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق، أو له أن يشبع ويتزود؟ على أقوال. وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما - كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم - بل متى اضطر إلى ذلك جاز له. وقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي; أنهم قالوا: يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة. فمتى تحل لنا بها [ ص: 1841 ] الميتة؟ فقال: «إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا، فشأنكم بها.» . إسناده صحيح على شرط الشيخين، والاصطباح: شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة، وما كان منه بالعشي فهو الاغتباق، ومعنى لم تحتفئوا: أي: تقتلعوا. وفي اللفظة عدة روايات، وروى أبو داود عن الفجيع العامري: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما يحل لنا من الميتة؟ قال: ما طعامكم؟، قلنا: نصطبح ونغتبق! قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية، قال: ذاك، وأبي! الجوع. فأحل لهم الميتة على هذه الحال» . تفرد به أبو داود. وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم. فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم. وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق. والله أعلم.

وروى أبو داود عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده. فقال رجل: [ ص: 1842 ] إن ناقة لي ضلت. فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت. فقالت له امرأته: انحرها! فأبى، فنفقت، فقالت اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتاه، «فسأله، فقال له: هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا! قال: فكلوها! قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك!» تفرد به.

وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة، يغلب على ظنه الاحتياج إليها. والله أعلم. أفاده ابن كثير. وقوله: (فنفقت). أي: ماتت. (من باب نصر وفرح) قال ابن بري: أنشد ثعلب:


فما أشياء نشريها بمال فإن نفقت فأكسد ما تكون؟


تنبيه:

قال بعض المفسرين: ليس في هذه الآية بيان لتقديم أحدها. والفقهاء يقولون: يقدم الأخف تحريما، فميتة المأكول على ميتة غيره. انتهى.

وفي "رحمة الأمة" أن المضطر إذا وجد ميتة وطعام الغير، ومالكه غائب، أن له أكله بشرط الضمان، دون الميتة. عند مالك وأكثر أصحاب الشافعي وجماعة من الحنفية. وعند أحمد وآخرين: يأكل الميتة.

قال ابن كثير: قد استدل بقوله تعالى: غير متجانف لإثم من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي. والله أعلم.
[ ص: 1843 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[4] يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب .

يسألونك ماذا أحل لهم أي: من المطاعم: قل أحل لكم الطيبات أي: ما ليس بخبيث منها. وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة. و (الطيب) في اللغة هو المستلذ. و (الحلال) المأذون فيه، يسمى طيبا تشبيها بما هو مستلذ. لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة: وما علمتم من الجوارح عطف على (الطيبات) بتقدير مضاف. أي: وصيد ما علمتموه. أو مبتدأ، على أن (ما) شرطية وجوابها (فكلوا). و (الجوارح): الكواسب من سباع البهائم والطير - كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين - لأنها تجرح لأهلها أي: تكسب لهم. الواحدة جارحة. تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. وفلان لا جارح له؛ أي: لا كاسب. ومنه قوله تعالى: ويعلم ما جرحتم بالنهار أي: كسبتم. وقيل: سميت (جوارح) لأنها تجرح الصيد عند إمساكه. وقوله تعالى: مكلبين أي: معلمين لها أن تستشلي إذا أشليت، وتنزجر إذا زجرت، وتجتنب عند الدعوة، ولا تنفر عند الإرادة، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن. إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم، فلا يحل صيدها.

قال الزمخشري: (المكلب) مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها [ ص: 1844 ] لذلك، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف. واشتقاقه من (الكلب) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب. فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه. أو لأن السبع يسمى كلبا. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فأكله الأسد» . (الحديث حسن، أخرجه الحاكم)، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به. وانتصاب (مكلبين) على الحال من (علمتم). فإذا قلت: ما فائدة هذه الحال وقد استغني عنها ب (علمتم)؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه، مدربا فيه، موصوفا بالتكليب. وقوله تعالى: تعلمونهن حال ثانية أو استئناف، وفيه فائدة جليلة. وهي أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علما، وأنحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه. وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل. فكم من آخذ، عن غيره متقن، قد ضيع أيامه، وعض عند لقاء النحارير أنامله: مما علمكم الله أي: من علم التكليب، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل. أو مما عرفكم أن تعلموه من إتباع الصيد بإرسال صاحبه. وانزجاره بزجره. وانصرافه بدعائه. وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. انتهى.

وقال الناصر في "الانتصاف": وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم. لأن تعليمها، معناه لغة تحصيل العلم له بطرقه. خلافا لمنكري ذلك.

فكلوا مما أمسكن عليكم أي: صدن لكم وإن قتلنه بأن لم يأكلن منه: واذكروا اسم الله عليه الضمير يرجع إلى (ما علمتم من الجوارح) أي: سموا عليه عند إرساله، كما بينه حديث أبي ثعلبة وعدي الآتي. وجوز رجوعه إلى (ما أمسكن) على معنى: وسموا عليه إذا أدركتم زكاته: واتقوا الله أي: بالأكل مما فقد فيه شرط من هذه الشرائط استعجالا إليها: إن الله سريع الحساب أي: المجازاة على كل ما جل ودق.

[ ص: 1845 ] تنبيهات:

الأول: روى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين. سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: «يا رسول الله! قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها» ؟ فنزلت: يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ; قال سعيد: يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم; وقال مقاتل: ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي؟ فقال: ليس هو من الطيبات، رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن وهب: سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس؟ فقال: ليس هو من الطيبات. وروى ابن أبي حاتم في سبب نزولها أثرا آخر، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فقتلت، فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، فسكت. فأنزل الله: يسألونك الآية.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه، فليأكل مما لم يأكل» .

وعند ابن جرير عن أبي رافع قال: «جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه، فأذن له فقال: قد أذنا لك يا رسول الله! قال: أجل. ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب. قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة. حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها. ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأنزل الله عز وجل: يسألونك » . [ ص: 1846 ] ورواه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح ولم يخرجاه.

وروى ابن جرير أيضا عن عكرمة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي. فجاء عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله» ؟ فنزلت الآية: رواه الحاكم أيضا عن عكرمة. وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزولها: أنه في قتل الكلاب - أفاده ابن كثير.

قال بعض المفسرين: لما نزلت الآية، أذن صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها. وأمر بقتل العقور وما يضر. انتهى.

أقول: روى الإمام أحمد ومسلم عن جابر قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. حتى أن امرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين؛ فإنه شيطان» .

وروى الشيخان عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية» .

وعن عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها. فاقتلوا منها كل أسود بهيم» . رواه أبو داود والدارمي، وزاد [ ص: 1847 ] الترمذي والنسائي: «وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط. إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم» .

وظاهر هذه الأحاديث، أنه صلى الله عليه وسلم كان أمر بقتلها كلها. ثم رخص في استبقائها. إلا الأسود فإنه مستحق القتل.

وقول إمام الحرمين: ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم - يحتاج إلى برهان.

قال ابن عبد البر: في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية.

وكذلك للزرع؛ لأنها زيادة حافظ. وكراهة اتخاذها لغير ذلك. إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسا، فمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة، لما فيه من ترويع الناس، وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه.

ثم قال: ووجه الحديث عندي; أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعا، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك.

وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث؟ فلم يعرفه. فقال المنصور: لأنه ينبح الضيف ويروع السائل. انتهى.

وقال الخطابي: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم... إلخ» . أنه صلى الله عليه وسلم كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق، لأنه ما من خلق لله تعالى إلا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة. يقول: إذا كان الأمر على هذا، ولا سبيل إلى قتلهن، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البهم. وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهن في الحراسة.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:33 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1848 الى صـ 1862
الحلقة (289)



[ ص: 1848 ] وقال الطيبي: قوله: «أمة من الأمم» إشارة إلى قوله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم أي: أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له. قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده أي: يسبح بلسان القال أو الحال. حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وتنزيهه عما لا يجوز عليه، فبالنظر إلى هذا المعنى، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء. ولكن إذا كان لدفع مضرة - كقتل الفواسق الخمس - أو جلب منفعة - كذبح الحيوانات المأكولة - جاز ذلك.

الثاني: ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أن الجوارح التي يحل صيدها، ما قبل التعليم من ذي ناب كالكلب والفهد والنمر، أو ذي مخلب كالطيور المذكورة قبل. قال في "النهاية": حتى الهر إن تعلم، واحتجوا بعموم الآية.

وروى أحمد وأبو داود عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا. فإنه أمسكه عليك» .

[ ص: 1849 ] قال البيهقي: تفرد مجالد بذكر الباز فيه، وخالف الحفاظ.

أقول: روى ابن جرير بالمسند المذكور إلى عدي قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي؟ فقال: ما أمسك عليك فكل» . وعن ابن عمر ومجاهد: «لا يحل إلا صيد الكلب فقط» . وروى ابن جرير بسنده، أن ابن عمر قال: أما ما صاد من الطير (والبزاة من الطير) فما أدركت فهو لك. وإلا فلا تطعمه. وقال ابن أبي حاتم: كره مجاهد صيد الطير كله، وقرأ قوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين أي: فإن قوله تعالى: مكلبين يشير إلى قصر ذلك على الكلب. وقال الحسن البصري والنخعي وأحمد وإسحاق: يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم. لأنه قد أمر بقتله.

الثالث: قدمنا أن انتصاب: مكلبين على الحال من: علمتم . قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو (الجوارح) أي: وما علمتم من الجوارح في حال [ ص: 1850 ] كونهن مكلبات للصيد. وذلك أن تصيد بمخالبها وأظفارها.

فيستدل بذلك، والحالة هذه، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره، أنه يحل. كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء. ولهذا قال: تعلمونهن مما علمكم الله وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا استشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه. ولهذا قال تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه فمتى كان الجارح معلما وأمسك على صاحبه - وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله - حل الصيد وإن قتله، بالإجماع.

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة. كما ثبت في "الصحيحين" [ ص: 1851 ] عن عدي بن حاتم قال: قلت: «يا رسول الله! إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله؟ فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها. فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره. قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد؟ فقال: إذا رميت بالمعراض الصيد فخرق فكله فإن أصابه بعرض، فإنه وقيذ، فلا تأكله» .

[ ص: 1852 ] وفي لفظ لهما: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله. فإن أمسك عليك فأدركته حيا. فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه، فكله وإن أخذ الكلب ذكاته» . وفي رواية لهما: «فإن أكل فلا تأكله. فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» . فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا. ولم يستفصلوا. كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا. أكل أو لم يأكل.

[ ص: 1853 ] روى ابن جرير عن سلمان الفارسي وأبي هريرة قالا: كل وإن أكل ثلثيه. وعن سعد بن أبي وقاص: «وإن أكل ثلثيه» . وعنه: «وإن لم يبق إلا بضعة» . وعن ابن عمر: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك. أكل أو لم يأكل. وحكاه عن علي وابن عباس وغير واحد من التابعين.

وروي ذلك مرفوعا أيضا. أخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا، يقال له أبو ثعلبة، قال: «يا رسول الله! إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. [ ص: 1854 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك. فقال: ذكي وغير ذكي، وإن أكل منه؟ قال: نعم. وإن أكل منه. فقال: يا رسول الله! أفتني في قوسي! فقال: كل ما ردت عليك قوسك. قال: ذكي وغير ذكي؟ قال: وإن تغيب عنك ما لم يضل أو تجد فيه أثرا غير سهمك. قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال: اغسلها وكل فيها» . هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك» .

وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، وقد توسط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم. لحديث عدي، وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم. وأما إن أمسكه، ثم انتظر صاحبه، فطال عليه، وجاع فأكل منه لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة. وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين، صحيح.

وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه "النهاية": أن لو فصل مفصل هذا التفصيل. وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب. أفاده ابن كثير.

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وسلك الناس في الجمع بين حديث عدي وأبي ثعلبة طرقا منها للقائلين بالتحريم (الأولى): حمل حديث أبي ثعلبة الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه، و (الثانية) الترجيح، فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غيرهما. ومختلف في تضعيفها. وأيضا، فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم. وهو خوف الإمساك على نفسه، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم. فإذا [ ص: 1855 ] شككنا في السبب المبيح، رجعنا إلى الأصل ولظاهر الآية المذكورة. فإن مقتضاها أن الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضا بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد: إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد، فلا تأكل. فإنما أمسك على نفسه. فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل، فكل. فإنما أمسك على صاحبه. وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس. وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع، نحوه بمعناه. ولو كان مجرد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة: (عليكم) في الآية. وأما القائلون بالإباحة، فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه، وحديث الأعرابي على بيان الجواز. قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عديا كان موسرا.

فاختير له الحمل على الأولى. بخلاف أبي ثعلبة، فإنه كان بعكسه. ولا يخفى ضعف هذا التمسك، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه. وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة: إن شرب من دمه فلا تأكل؛ فإنه لم يعلم ما علمته. وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله، دل على أنه ليس يعلم التعليم المشروط.

الرابع: في الآية مشروعية التسمية. قال ابن كثير: قوله تعالى: واذكروا اسم الله عليه أي: عند إرساله له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: [ ص: 1856 ] «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك» . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في "الصحيحين" أيضا: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله. وإذا رميت بسهمك» . ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة، كالإمام أحمد رحمه الله، في المشهور عنه، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث. وهذا القول المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال. كما قال السدي وغيره. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في هذه الآية: «إذا أرسلت جارحك فقل: بسم الله. وإن نسيت فلا حرج» . انتهى.

قال بعض الزيدية: والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة. فمن قائل بوجوبها على الذاكر لا الناسي. لحديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» . ومن قائل بأنها مستحبة. ومن قائل بأنها شرط مطلقا. المشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة. فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث. ثم قال: لقائل أن يقول: يحتمل أن يرجع قوله تعالى: واذكروا اسم الله عليه إلى الأكل. أي: فسموا عند الأكل. فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية. انتهى. وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصه:

[ ص: 1857 ] وقال بعض الناس: المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل. كما ثبت في "الصحيحين"; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ربيبه، عمر بن أبي سلمة، فقال: «سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» . وفي "صحيح البخاري" عن عائشة; أنهم قالوا: «يا رسول الله! إن قوما يأتوننا، حديث عهد بكفر، بلحمان، لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال: سموا الله أنتم وكلوا أنتم» . وقال الترمذي: حسن صحيح.

الخامس: في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة. لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك. كذا في "الإكليل". وتقدم عن الزمخشري والناصر ما في الآية أيضا من الأخذ عن النحرير، وأن البهائم لها علم. واستدل بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة، بالسنة: كما تقدم.
[ ص: 1858 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[5] اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين

وقوله تعالى: اليوم أحل لكم الطيبات أي: من الذبائح والصيد. تكريره تأكيد للمنة. قال أبو السعود: قيل: المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد. وإنما كرر للتأكيد. ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره. والمراد بالطيبات ما مر.

تنبيه:

قال بعض مفسري الزيدية: دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ. قال في "الروضة والغدير": وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى، كما فعله علي عليه السلام وغيره من الفضلاء. فقد روي أن عليا عليه السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام. فرأى بعض أصحابه طعامه. وهو خبز شعير غير منخول، وملح جريش، وهو مختوم عليه لئلا يبدل. ومن كلامه عليه السلام: والله! لأروضن نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوما، وإلى الملح إن وجدته مأدوما. ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراهة الإدامين مجتمعين. انتهى.

وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: يعني ذبائحهم.

قال ابن كثير: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء; أن ذبائحهم حلال للمسلمين. لأنهم [ ص: 1859 ] يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه، تعالى وتقدس. انتهى.

قال المهايمي: وإن لم يعتد بذكرهم اسم الله، لكنهم لما ذكروه، أشبه ما يعتد بذكره، فأشبه طعامهم الطيبات.

مباحث:

الأول: ما ذكرناه من أن المعني بالطعام الذبائح، هو الذي قاله أئمة السلف: صحابة كابن عباس وأبي أمامة، وأتباعا كمجاهد وثمانية غيره، كما في ابن جرير وابن كثير. وفي "اللباب": أجمعوا على أن المراد: وطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم خاصة. لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم. فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى. لأن سائر الطعام لا يختلف، من تولاه من كتابي أو غيره. وإنما تختلف الذكاة. فلما خص أهل الكتاب بالذكر، دل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم. انتهى.

الثاني: استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم. وهو قول الجمهور.

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وعن مالك وأحمد، تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم. قال ابن القاسم: لأن الذي أباحه الله طعامهم. وليس الشحوم من طعامهم. ولا يقصدونها عند الذكاة. وتعقب بأن ابن عباس فسر (طعامهم) بذبائحهم، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح. والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض. وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة. وأيضا فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر. فكان يلزم، على قول هذا القائل، أن اليهودي، إذا ذبح ما له ظفر، لا يحل للمسلم أكله. ثم قال ابن حجر: وقوله تعالى: أحل لكم الطيبات [ ص: 1860 ] يستدل به على الحل، لأنه لم يخص لحما من شحم، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر، لأنها محرمة عليهم لا علينا. وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال، أن الذي حرم عليهم منها مسكوت في شرعنا عن تحريمه علينا. فيكون على أصل الإباحة. انتهى.

وفي "الصحيح" عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: «كنا محاصرين قصر خيبر. فرمى إنسان بجراب فيه شحم. فنزوت لآخذه. فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه» . وفي رواية: «أدلي بجراب من شحم يوم خيبر. فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا. والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم» .

قال الحافظ ابن حجر: فيه حجة على من منع ما حرم عليهم كالشحوم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور. وفيه جواز أكل الشحم، مما ذبحه أهل الكتاب، ولو كانوا أهل حرب. انتهى.

وقال الحافظ ابن كثير: استدل على المالكية الجمهور بهذا الحديث. وفي ذلك نظر. لأنه قضية عين. ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما. والله أعلم.

وأجود منه في الدلالة ما ثبت في "الصحيح" أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 1861 ] شاة مصلية. وقد سموا ذراعها - وكان يعجبه الذراع - فتناوله فنهش منه نهشة. فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره. وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور، فمات. فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها زينب. ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟ وفي الحديث الآخر: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة. يعني ودكا زنخا» .

الثالث: تمسك ابن العربي - من أئمة المالكية - بهذه الآية على حل ما يقتله الفرنج، وإن رأينا ذلك، لأنه من طعامهم. نقله عنه الشيخ خليل في "توضيحه" واستبعده. وقال الإمام ابن زكري: صنف ابن العربي في إباحة مذكى النصراني بغير وجه ذكاتنا. والمحققون على تحريمه. وقد أوضح ذلك الفقيه محمد الدليمي السوسي المالكي في "فتاويه"، وقد سئل عن ذبيحة الكتابي: هل تحل المذكى كيف كانت. سواء وافقت ذكاتنا أم لا؟ بقوله مجيبا: [ ص: 1862 ] قال الإمام ابن العربي: إذا سل النصراني عنق دجاجة حل للمسلم أكلها. لأن الله تعالى أحل لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم. وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم، حل لنا أكله. ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا. وذلك رخصة من الله تعالى وتيسير منه علينا. ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرم الله تعالى على الخصوص. فإنه، وإن كان طعامهم الذي يستحلونه، فلا يحل لنا أكله. انتهى.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:35 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1863 الى صـ 1873
الحلقة (290)



الرابع: قال الرازي: نقل عن بعض أئمة الزيدية; أن المراد ب (الطعام) في الآية الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. انتهى.

وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض الزيدية قال فيه: اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء: ما أريد ب (الطعام)؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله، ورواية عن زيد: إن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز. لقوله تعالى: إلا ما ذكيتم وهذا خطاب للمسلمين، والرواية الثانية عن زيد وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والجعفرية والإمامية. واختاره الأمير ح والأمير يحيى: جواز ذبائح أهل الكتاب. ويفسرون (الطعام) بالذبائح وغيرها. وهذا مروي عن الحسن والزهري والشعبي وعطاء وقتادة وأكثر المفسرين. وأخذوا بالعموم في إطلاق (الطعام). فأجاب الأولون بأن (الطعام) يطلق على الحبوب يقال: سوق الطعام. قال القاضي: الأقرب الحل. لأن ذلك بفعلهم يصير طعاما. ولأنه خص أهل الكتاب. أجيب: بأنه خصهم لئلا يظن أن طعامهم الذي لم يذكوه محرم. ثم عند الهادي والقاسم، عليهما السلام، تنجس رطوباتهم. لقوله تعالى: إنما المشركون نجس فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم، إلا ما أخذناه قهرا. وعند المؤيد بالله ومن معه: إن رطوبتهم طاهرة. والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار. انتهى.

وفي "الروضة الندية" ما نصه: وأما ذبيحة أهل الذمة، فقد دل على حلها القرآن الكريم بهذه الآية. ومن قال: إن اللحم لا يتناوله (الطعام) فقد قصر في البحث، ولم [ ص: 1863 ] ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب. كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سما، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها. ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع. فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح. قلت: إن صح شيء من هذا، فالكلام في ذبيحته، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه. وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابي مانعا، لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى.

الخامس: أريد ب: أهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - وهم متنصرو العرب من بني تغلب - فلا تحل ذبيحته. روي عن علي بن أبي طالب قال: لا تأكل من ذبائح نصارى بني تغلب؛ فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. وبه قال ابن مسعود. وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب؟ فقال: لا بأس به. ثم قرأ: ومن يتولهم منكم فإنه منهم . هذا قول الحسن وعطاء والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد - كذا في "اللباب".

قال ابن كثير: وأما المجوس فإنهم - وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب - فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. خلافا لأبي ثور، إبراهيم بن خالد الكلبي (أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد بن حنبل) ولما قال ذلك، واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك. حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه - يعني في هذه المسألة - وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب.

[ ص: 1864 ] ولكن لم يثبت بهذا اللفظ. وإنما الذي في "صحيح" البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فدل بمفهوم المخالفة، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل...!

السادس: قيل: هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى. وعن ابن عمر: لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله تعالى، لا يحل ذلك. وهو قول ربيعة. وسئل الشعبي وعطاء، عن النصراني يذبح باسم المسيح؟ فقال: يحل. فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال الحسن: إذا ذبح اليهودي أو النصراني وذكر اسم الله، وأنت تسمع، فلا تأكل. وإذا غاب عنك فكل. فقد أحله الله لك. كذا في "اللباب". وقول الحسن - في هذا البحث - هو الحسن.

وفي "النهاية" من كتب الزيدية: أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم. فكرهه مالك، وأباحه أشهب، وحرمه الشافعي. وذلك لتعارض عموم قوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب وعموم قوله تعالى: وما أهل به لغير الله فتخصيص [ ص: 1865 ] كل واحد للآخر محتمل. ثم قال: والجمهور على تحريم ذبيحة المرتد. وأجازها إسحاق، وكرهها الثوري. وسبت الخلاف: هل المرتد يتناول اسم (الكتاب) أم لا؟ قال: وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب، هل اسم (الكتاب) يتناول المتنصر والمتهود من العرب، كما روي عن ابن عباس؟ أو لا يتناول، كما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام. انتهى.

وقوله تعالى: وطعامكم حل لهم يعني: ذبائحكم حلال لهم. فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين. كذا في "التفسير" المنسوب لابن عباس.

ونقل بعض مفسري الزيدية عن ابن عباس وأبي الدرداء، وبقية التابعين السالف ذكرهم، وأكثر المفسرين والفقهاء، أن المراد ذبائح المسلمين.

وقال الزجاج: تأويله: حل لكم أن تطعموهم. لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة.

وقال ابن كثير: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم. وليس إخبارا عن الحكم عندهم. اللهم! إلا يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه. سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى. أي: ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمجازاة. كما ألبس [ ص: 1866 ] النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبي ابن سلول حين مات ودفنه فيه. قالوا: لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه. فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك. فأما الحديث الذي فيه «لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم. انتهى.

وقال الرازي: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا. وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين. انتهى.

وقال البرهان البقاعي في "تفسيره": وقوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم أي: تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية. ولما كان هذا مشعرا بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم. زاده تأكيدا بقوله: وطعامكم حل لهم أي: فلا عليكم في بذله لهم، ولا عليهم في تناوله. انتهى.

وفي "أمالي" الإمام السهيلي رحمه الله تعالى: قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ فعنه جوابان: أحدهما أن المعنى: انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم، فإن أطعموكموه فكلوه، ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم. ثم نسخ ذلك في شرعنا. والآية بيان لنا لا لهم، أي: اعلموا أن ما كان محرما عليهم، مما هو حلال قد أحل لهم أيضا. ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا: [ ص: 1867 ] هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله لكم طعامنا - كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا، لا غيره. فالمعنى - طعامهم حل لكم، إذا كان الطعام الذي أحللته لكم. وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره.

الثاني: للنحاس والزجاج والنقاش وكثير من المتأخرين، أن المعنى: جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم. لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم. لأن دينهم باطل. إلا أنه لم يقل: وإطعامكم، بل (طعامكم) - والطعام المأكول - وأما الفعل فهو الإطعام. فإن زعموا أن (الطعام) يقوم مقام (الإطعام) توسعا، قلنا: بقي اعتراض آخر. وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ. وهو ممتنع بالإجماع. لا يجيزون (إطعام زيد حسن للمساكين) ولا (ضربك شديد زيدا) فكيف جاز (وطعامكم حل لهم)؟ انتهى.

قال الناصر في "الانتصاف": وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة. لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله: وطعامكم حل لهم كما علق الحكم بالمؤمنين. وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله: لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن فإن لقائل أن يقول: في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم. ولا يستطيع ذلك في آية (المائدة) هذه. لأن الحكم فيها مثبت، والله أعلم.

ثم قال: ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة - أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أي: لا جناح عليكم - أيها المسلمون! - أن تطعموا أهل الكتاب. انتهى.

والمحصنات من المؤمنات عطف على (الطيبات) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه. أي: حل لكم. والمراد ب (المحصنات) العفيفات عن الزنى. كما قال تعالى في الآية الأخرى: محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان وهو المروي عن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم ومجاهد. وحكى ابن جرير رواية أخرى عن مجاهد أنه قال: [ ص: 1868 ] المحصنات الحرائر. فقيل: عني بهن غير الإماء. وقيل: أراد بهن العفيفات، كقول الجمهور. وذلك لأن الحر يطلق على خلاف العبد، وعلى خيار كل شيء، كما في "القاموس".

قال الزمخشري: وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم. والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق. وكذلك نكاح غير العفائف منهن. انتهى.

أقول: جواز نكاح الأمة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة، لآية: ومن لم يستطع منكم طولا إلخ. وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون. وذهب الإمام أحمد إلى تحريم نكاح الزانية على زان وغيره، حتى تتوب وتنقضي عدتها. لقوله تعالى: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ولما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات، والطبراني في "الكبير" و "الأوسط" من حديث عبد الله بن عمرو: أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه. فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك

وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه، من حديث ابن عمر: أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة. وكان بمكة بغي يقال لها عناق. وكانت صديقته. قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال فسكت عني. فنزلت الآية: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال: لا تنكحها.

[ ص: 1869 ] وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله» . قال ابن القيم: أخذ بهذه الفتاوى - التي لا معارض لها - الإمام أحمد ومن وافقه - وهي من محاسن مذهبه - فإنه يجوز أن ينكح الرجل زوجا تحبه. ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا قد ذكرناها في موضع آخر.

وأخرج ابن ماجه والترمذي وصححه، من حديث عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: «استوصوا في النساء خيرا، فإنما هن عندكم عوان. ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك. إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فإن فعلن، فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا» . وأخرج أبو داود والنسائي، من حديث ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: غربها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال: فاستمتع بها» . قال المنذري: ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين.

قال ابن القيم: عورض بهذا الحديث المتشابه، الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا. واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه، فقالت طائفة: المراد ب (اللامس) [ ص: 1870 ] ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة. وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر. وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام، وقالت طائفة: بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فإنه لما أمر بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما، فأمره حينئذ بإمساكها. إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت. وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية. وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك. ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى. ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة. فأمره بفراقها، تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه. فلما أخبره بأن نفسه تتبعها، وأنه لا صبر له عنها، رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك. والله تعالى أعلم. وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور.

فائدة:

أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها، أنه يفرق بينهما وترد عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم.

والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي: هن أيضا حل لكم. والجمهور: على أن المراد ب (المحصنات) العفائف عن الزنى، كما قدمنا.

قال ابن كثير: وهو الأشبه. لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل، حشفا وسوء كيلة.

وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف - ممن فسر (المحصنات) بالعفيفات; أن الآية تعم كل كتابية عفيفة. سواء كانت حرة أو أمة. ومن فسرها ب (الحرائر) قال: لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحال، إذ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق، على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولد المسلم.

تنبيهات:

[ ص: 1871 ] الأول: ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية. وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين.

ورواية عن زيد والصادق والباقر، واختاره الإمام يحيى وقال: إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة، وأن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه، وهي نصرانية. وأن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية. كذا نقله المفسرون. وروى البيهقي وعبد الرزاق وابن جرير عن عمر أنه قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. وروى عبد الرزاق أيضا عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب كتب إلى حذيفة بن اليمان وهو بالكوفة، ونكح امرأة من أهل الكتاب، فكتب: أن فارقها فإنك بأرض المجوس، فإني أخشى أن يقول الجاهل: قد تزوج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس... ففارقها.

وروى عبد الرزاق والبيهقي عن قتادة: أن حذيفة نكح يهودية. فقال عمر: طلقها فإنها جمرة. فقال: أحرام هي؟ قال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن...

وروى عبد الرزاق عن زيد بن وهب قال: كتب عمر بن الخطاب: إن المسلم ينكح النصرانية، والنصراني لا ينكح المسلمة. وروي أيضا عن جابر قال: نساء أهل الكتاب لنا حل، ونساؤنا عليهم حرام. وروي أيضا عن معمر عن الزهري قال: نكح رجل من قومي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أهل الكتاب. وروي عن ابن عمر كراهية ذلك. ويحتج بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وكان يقول: لا أعلم شركا [ ص: 1872 ] أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وأجاب الجمهور بأنه عام خص بهذه الآية، إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات، وإلا، فلا معارضة بين الآيتين. لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع. كقوله تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة وكقوله: وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم

الثاني: استدل بعموم الآية من جوز نكاح الحربيات الكتابيات. وروي عن ابن عباس: أن الإذن في الذميات خاصة، ويقرأ: قاتلوا الذين - إلى قوله -: حتى يعطوا الجزية قال: فمن أعطى، حل. ومن لا، فلا. وهذا الاستدلال دقيق جدا. فليتأمل!.

الثالث: قال المهايمي: لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهه بالطيب - كما قدمنا - اعتبر في باب النكاح، فأحل المحصنات منهم، واحتمل كفرهن لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار. وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوة، ولا شبهة لهم في أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن حجة، ضعفت دعوتهم إليها، فلم يعتد بها. على أن الرجل مستول على المرأة. فلا تؤثر فيه تأثير الرجل؛ فلذلك لم يصح تزويج المسلمة بالكتابي. على أن فيه إذلالا للمسلمة فلا تحتمل.

الرابع: ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من (المحصنات) المؤمنات منهن. ذهابا إلى تحريم نكاح الكافرة. قال بعض مفسري الزيدية، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم: وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية - وهو مروي [ ص: 1873 ] عن ابن عمر: إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة، كتابية كانت أو غيرها. واحتجوا بقوله في سورة البقرة: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قالوا - يعني الأكثرين -: هذا في المشركات لا في الكتابيات، قلنا: اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم إلى قوله: سبحانه عما يشركون وعن ابن عمر: لا أعلم شركا أعظم من قول النصرانية: إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد كثر الله المسلمات. وإنما رخص لهم يومئذ. قالوا: إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدل على أنهما غيران، حيث قال تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين قلنا: هذا كقوله تعالى: الوصية للوالدين والأقربين قالوا: الآية مصرحة بالجواز في قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قلنا: في سورة النور: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين وقوله في سورة النساء: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




الساعة الآن : 12:09 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 329.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 329.09 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.15%)]