ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى حراس الفضيلة (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=103)
-   -   الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=194117)

ابوالوليد المسلم 07-05-2024 08:50 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمـة ضالـة المؤمن(83)

- قل كل يعمل على شاكلته





النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار

جبل الإنسان على السعي في جلب مصالحه، والبعد عما يضره ويؤذيه، وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء، إلا أن الاختلاف وقع في تحديد المصلحة التي يسعى الإنسان لتحصيلها، والمضرة التي يحرص على البعد عنها.
وللناس معايير مختلفة في تحديد المصالح والمفاسد، بحسب عقولهم المتفاوتة، وثقافاتهم المتنوعة، وأهوائهم المتضاربة، وبيئاتهم المتعددة.
والقرآن الكريم قرر هذا التعدد في السعي مشيرا إلى أسبابه وبواعثه؛ فقال تعالى: {قُلْ كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته فَرَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} قال الإمام الطبري: «يَقُول عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّد لِلنَّاسِ: كُلّكُمْ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته: عَلَى نَاحِيَته وَطَرِيقَته {فَرَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ} هُوَ مِنْكُمْ {أَهْدَى سَبِيلًا} يَقُول: رَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ هُوَ مِنْكُمْ أَهْدَى طَرِيقًا إِلَى الْحَقّ مِنْ غَيْره.
ثم ذكر بإسناده عَنْ السلف تفسيرهم لقوله تعالى{كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته} فعن ابن عباس قال: عَلَى نَاحِيَته. وعَنْ مُجَاهِد قَالَ: عَلَى طَبِيعَته عَلَى حِدَته. وعَنْ قَتَادَة قال: عَلَى نَاحِيَته وَعَلَى مَا يَنْوِي. وقَالَ اِبْن زَيْد: عَلَى دِينه، الشَّاكِلَة: الدِّين».
وذكر القرطبي هذه الأقوال ثم قال: «وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن».
ويبين الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن الشاكلة في اللغة هي: الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها، ونشأ عليها، وأصلها شاكلة الطريق، وهي الشعبة التي تتشعب منه، وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا، وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل.
ثم بين مناسبة ختام الآية لأولها في قوله {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}، فقال: «وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله، والترغيب للمؤمنين، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون، كقوله {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}».
ويوضح الشيخ السعدي؛ أن السعيد من عمل بالتوحيد، والمخذول من عمل للعبيد، فقال: «كل من الناس يعمل على شاكلته أي: ما يليق به من الأحوال؛ إن كانوا من الصفوة الأبرار لم يشاكلهم إلا عملهم لرب العالمين، أو من كانوا من غيرهم من المخذولين لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين، ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم».
ويؤكد ابن القيم هذا المعنى ويزيد عليه فيقول: «معنى الآية: كل يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، فالفاجر يعمل على ما يليق به، وكذلك الكافر والمنافق ومريد الدنيا وجيفتها: عامل على ما يناسبه ولا يليق به سواه، ومحب الصور: عامل على ما يناسبه ويليق به. فكل امريء يهفو إلى ما يحبه، وكل امريء يصبو إلى ما يناسبه، فالمريد الصادق المحب لله: يعمل ما هو اللائق به والمناسب له، فهو يعمل على شاكلة إرادته وما هو الأليق به، والمناسب لها.
والنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها.
وهذا معنى قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه}، أي على ما يشاكله ويناسبه، فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته، وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعاداته التي ألفها وجبل عليها. فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن المنعم، والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكرالمنعم ومحبته والثناء عليه، والتودد إليه والحياء منه، والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله».
وقد جاء في السنة المطهرة إشارة إلى تنوع أعمال الناس وتفاوت سعيهم، وما ينتج عن ذلك من آثار في الدنيا والآخرة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» أخرجه مسلم.
قال النووي: «معناه كل إنسان يسعى بنفسه؛ فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما فيوبقها أي يهلكها».
قال الشيخ ابن عثيمين: «قوله: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو» أي كل الناس يخرج مبكراً في الغدوة في الصباح وهذا من باب ضرب المثل. «فَبَائِعٌ نَفْسَهُ» أي الغادي يبيع نفسه، ومعنى يبيع نفسه أنه يكلفها بالعمل، لأنه إذا كلفها بالعمل أتعب النفس فباعها.
ينقسم هؤلاء الباعة إلى قسمين: معتق و موبق، ولهذا قال: «فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا» فيكون بيعه لنفسه إعتاقاً إذا قام بطاعة الله كما قال الله عزّ وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} يشتري نفسه أي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عزّ وجل، فهذا الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله وقام بطاعته قد أعتقها من العذاب والنار.
والذي أوبقها هو الذي لم يقم بطاعة لله عزّ وجل حيث أمضى عمره خُسراناً، فهذا موبق لها أي مهلك لها.
لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة للقرآن إلى من يكون القرآن حجة له، ومن يكون حجة عليه، ذكر أن العمل أيضاً قد يكون على الإنسان وقد يكون للإنسان، فيكون للإنسان إذا كان عملاً صالحاً، ويكون عليه إذا كان عملاً سيئاً.
وانظر إلى هذا الحديث: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ» يتبين لك أن الإنسان لابد أن يعمل إما خيراً وإما شراً».
والذي يتأمل الشريعة الإسلامية يجد أن الله تعالى قد أكرم المسلمين بالهداية للدين، ففي الوقت الذي يحار الناس في معرفة سبيلهم وغايتهم، فيهلكون أنفسهم في أودية الدنيا المتشعبة، وتختلف أعمالهم ومقاصدهم، نجد النصوص الشرعية قد بينت أعلى المقاصد، وأسمى الغايات، وأوضحت السبل الموصلة إليها، والأمور المعينة عليها، كما حذرت من آفات الطريق وعقبات السبيل التي تصد الإنسان عن غايته، أو تحرفه عنها وتؤخره عن بلوغها، كما أن المآل والمصير بالنسبة للمسلم معلوم وواضح؛ إما جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وإما جهنم وبئس المصير، فالحمد لله على إحسانه وإنعامه إذ اختار لنا الإسلام دينا، ووفقنا إليه، وهو المسؤول أن يثبتنا عليه، وأن يرزقنا حسن القصد وحسن العمل، مع حسن الخاتمة وحسن العاقبة، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع


ابوالوليد المسلم 10-05-2024 12:47 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمة ضالة المؤمن (84)


-الإسلام يهدم ما قبله


من رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم باب التوبة والإنابة، ودعاهم إليه، وحثهم عليه بأنواع المرغبات من تكفير السيئات، وتبديلها حسنات، ودخول الجنات، وبيان أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده إليه.
ومن أنواع الترغيب في الإنابة والإقلاع عن المخالفات بيان أن الإسلام والحج والهجرة والتوبة تهدم ما قبلها كما قال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وءامن وعمل صالحًا ثم اهتدى}(طه- 82)، وقال صلى الله عليه وسلم :« ويــتــوب الله على من تاب» متفق عليه.
فدخول الإسلام يهدم ما فعله الإنسان من ذنوب ومعاصي قبل ذلك، كما قال تعالى:{40 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ ﯔ }، (الأنفال- 38) يبين الطبري المراد بالانتهاء:«إِنْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ كُفْرهمْ بِاَللَّهِ وَرَسُوله وَقِتَالك وَقِتَال الْمُؤْمِنِينَ فَيُنِيبُوا إِلَى الْإِيمَان, يَغْفِر اللَّه لَهُمْ مَا قَدْ خَلَا وَمَضَى مِنْ ذُنُوبهمْ قَبْل إِيمَانهمْ وَإِنَابَتهمْ إِلَى طَاعَة اللَّه وَطَاعَة رَسُوله بِإِيمَانِهِمْ وَتَوْبَتهمْ».
ويبين اِبْن الْعَرَبِيّ الحكمة الربانية من ذلك فيقول:«َهَذِهِ لَطِيفَة مِنْ اللَّه سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلْق; وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِم, وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ وَالْمَآثِمَ; فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِب مُؤَاخَذَةً لَهُمْ لَمَا اِسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَة وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَة، فَيَسَّرَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَة عِنْد الْإِنَابَة, وَبَذْل الْمَغْفِرَة بِالْإِسْلَامِ, وَهَدْم جَمِيع مَا تَقَدَّمَ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَب لِدُخُولِهِمْ فِي الدِّين, وَأَدْعَى إِلَى قَبُولهمْ لِكَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ, وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا تَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا».
وفي قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه دليل آخر على هذه الفضيلة، حيث قال:«لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: ابْسُطْ يمينك فلأبايعْك، فبسطَ يمينه، قال : فقبضتُ يدي، فقال:«مالك يا عمرو؟» قال: قلتُ: أردتُ أن أشْتَرِطَ، فقال: «تشترطُ بماذا»؟ قلتُ: أن يُغْفَر لي، قال:«أما علمتَ أن الإسلامَ يهدِم ما كان قبله؟ وأن الهجرةَ تهدِم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» أخرجه مسلم، ومعنى (الإسلام يهدم ما كان قبله) قال النووي: «أي يسقطه ويمحو أثره». فلا يطالب به.
وعَنْ ابن مسعود قَالَ : قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ» أخرجه البخاري وعند مسلم:«أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام».
ذهب ابن حجر إلى إن المراد بالإساءة في الحديث هي (الكفر)؛ لأنه غاية الإساءة وأشد المعاصي، فإذا ارتد ومات على كفره كان كمن لم يسلم فيعاقب على جميع ما قدمه، وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد هذا الحديث بعد حديث «أكبر الكبائر الشرك»، وأورد كلا في أبواب المرتدين.
وأيد ذلك بقول ابن بطال:«عرضته على جماعة من العلماء فقالوا: لا معنى لهذا الحديث غير هذا، ولا تكون الإساءة هنا إلا الكفر للإجماع على أن المسلم لا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية».
ويذهب النووي مذهبا قريبا من اختيار ابن حجر فيقول:«الصحيح فيه ما قاله جماعة من المحققين أن المراد (بالإحسان) هنا الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعا، وأن يكون مسلما حقيقيا، فهذا يغفر له ماسلف من الكفر بنص القرآن العزيز، والحديث الصحيح «الإسلام يهدم ما قبله» وبإجماع المسلمين، والمراد (بالإساءة) عدم الدخول في الإسلام بقلبه، بل يكون منقادا في الظاهر مظهرا للشهادتين، غير معتقد للإسلام بقلبه، فهذا منافق باق على كفره بإجماع المسلمين، فيؤاخذ بما عمل في الجاهلية قبل إظهار صورة الإسلام، وبما عمل بعد إظهارها؛ لأنه مستمر على كفره».
وقد أثار القرافي مسألة مهمة وهي ما الحقوق التي تسقط بالإسلام والحقوق التي لا تسقط بل يؤاخذ بها الإنسان؟
والجواب: هو التفريق بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فيقول: «أما حقوق الله تعالى فلا تلزمه وإن كان ذميا مما تقدم في كفره لا ظهار ولا نذر ولا يمين من الأيمان ولا قضاء الصلوات ولا الزكوات ولا شيء فرط فيه من حقوق الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام « الإسلام يجب ما قبله».
أما حقوق العباد فيقول:«فيلزمه ثمن البياعات، وأجر الإجارات، ودفع الديون التي اقترضها ونحو ذلك، ولا يلزمه من حقوق الآدميين القصاص ولا الغصب والنهب». ثم ثم يبين الفرق أن حقوق العباد قسمان:
1- منها ما رضي به حالة كفره واطمأنت نفسه بدفعه لمستحقه فهذا لا يسقط بالإسلام؛ لأن إلزامه إياه ليس منفرا له عن الإسلام لرضاه .
2- وما لم يرض بدفعه لمستحقه كالقتل والغصب ونحوه فإن هذه الأمور إنما دخل عليها معتمدا على أنه لا يوفيها أهلها فهذا كله يسقط ؛ لأن في إلزامه ما لم يعتقد لزومه تنفيرا له عن الإسلام، فقدمت مصلحة الإسلام على مصلحة ذوي الحقوق .
وأما حقوق الله تعالى فتسقط مطلقا رضي بها أم لا ، والفرق بينها وبين حقوق الآدميين من وجهين أحدهما) أن الإسلام حق الله تعالى والعبادات ونحوها حق لله تعالى، فلما كان الحقان لجهة واحدة ناسب أن يقدم أحدهما على الآخر، ويسقط أحدهما الآخر لحصول الحق الثاني لجهة الحق الساقط.
وأما حق الآدميين فجهة الآدميين والإسلام ليس حقا لهم، بل لجهة الله تعالى فناسب أن لا يسقط حقهم بتحصيل حق غيرهم.
(وثانيهما) أن الله تعالى كريم جواد تناسب رحمته المسامحة، والعبد بخيل ضعيف فناسب ذلك التمسك بحقه، فسقطت حقوق الله تعالى مطلقا وإن رضي بها كالنذور والأيمان أو لم يرض بها كالصلوات والصيام، ولا يسقط من حقوق العباد إلا ما تقدم الرضى به فهذا هو الفرق بين القاعدتين .
وثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين» رواه مسلم، قال الإمام النووي:«وأما قوله صلى الله عليه وسلم إلا الدَّين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى».
وكذلك الحج فقد ورد في فضله ما يدل على أنه يمحو الذنوب، ويرجع منه الإنسان كيوم ولدته أمه، لكن هذا الفضل والثواب لا يعني سقوط الحقوق الواجبة ، سواء كانت حقوقا لله تعالى، كقضاء الصلاة والصيام، وما ثبت في ذمته من زكاة وكفارات ونذر، أو كانت حقوقا للعباد كالديون ونحوها.
قال ابن تيمية:«أجمعَ المسلمون أنه ـ أي: الحج ـ لا يَسقُط حقوقُ العباد كالدَّيْن ونحوِ ذلك، ولا يَسقُط ما وجب عليه من صلاةٍ، وزكاةٍ، وصيامٍ، وحق المقتول عليه وإن حجَّ ، والصلاة التي يَجبُ عليه قضاؤُها : يَجبُ قضاؤُها، وإن حَج ، وهذا كلُّه باتفاق العلماء».
وكذلك التوبة لا تسقط حقوق العباد، قال ابن كثير:«حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقدٌ على أنها لا تسقط بالتوبة، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة، وقد يكون للقاتل أعمالٌ صالحةٌ تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يَفضلُ له أجرٌ يدخل به الجنة، أو يعوض اللهُ المقتولَ من فضله بما يشاء، من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك».
وفي الختام يستفاد مما تقدم الأدلة والأقوال أن واجب العبد أن يتوب إلى الله تعالى من جميع الذنوب والخطايا، ومن شروط التوبة أداء حقوق العباد إذا أمكن ، وإلا عوضهم بما يقدر عليه من صدقة أو دعاء أو ثناء ونحو ذلك، كما يستفاد أن الأدلة لا تفهم بمجرد اللغة العربية، بل لابد من الرجوع إلى أقوال أهل العلم، واستعمال الضوابط الشرعية والقواعد الكلية لحسن الفهم وتجنب الزلل حتى لا يقع العبد في القول على الله بغير علم، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابوالوليد المسلم 10-05-2024 06:51 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمـة ضالـة المؤمن (85)


- تلك عاجل بشرى المؤمن



إذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظا بحفظ الله عن الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره

الإنسان يحب الأخبار السارة، وينشط للبشارات والأنباء الطيبة، ولهذا فإن الإسلام دين بشارة بالخير للمؤمنين، والتبشير من وظيفة المرسلين، كما قال تعالى:{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}(الأنعام48)، والبشارة صفة القرآن الكريم، كما وصفه الله تعالى بقوله:{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (الإسراء:9).
والبشارة كما يعرفها الجرجاني بأنها:«كل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه، ويستعمل في الخير والشر، وفي الخير أغلب».
وقد جاءت البشارة في القرآن على أوجه عديدة منها ؛ بشارة أرباب الإنابة بالهداية، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (الزمر:17-18).
ومنها بشارة المتقين بالفوز كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ { 63 } لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (يونس:63-64)، ومنها بشارة الخائفين بالمغفرة كما قال عزوجل: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ . فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11)} (يس:11).
ومنها بشارة المطيعين بالجنة كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} (البقرة:25)، ومنها بشارة المؤمنين بالعطاء الأخروي كما قال عز وجل:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (يونس:2)، وقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } (الأحزاب:47).
ويوضح الشيخ ابن سعدي معنى البشارة فيقول: «والبشارة هي الخبر أو الأمر السار الذي يعرف به العبد حسن عاقبته، وأنه من أهل السعادة، وأن عمله مقبول».
ويبين -رحمه الله- مجالات البشارة ونطاقها، وأنها أخروية، ودنيوية فيقول: «أما في الآخرة فهي البشارة برضى الله وثوابه، والنجاة من غضبه وعقابه، عند الموت، وفي القبر، وعند القيام إلى البعث، يبعث الله لعبده المؤمن في تلك المواضع بالبشرى على أيدي الملائكة، كما تواترت بذلك نصوص الكتاب والسنة.
وأما البشارة في الدنيا التي يعجلها الله للمؤمنين نموذجا وتعجيلا لفضله، وتعرفا لهم بذلك، وتنشيطا لهم على الأعمال فأهمها؛ توفيقه لهم للخير، وعصمته لهم من الشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة» متفق عليه.
فإذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظا بحفظ الله عن الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره؛ فإن الله أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، وإذا ابتدأ عبده بالإحسان أتمه، فأعظم منة وإحسان يمن به عليه إحسانه الديني، فيسر المؤمن بذلك أكمل السرور، سرور بمنة الله عليه بأعمال الخير وتيسيرها؛ لأن أعظم علامات الإيمان محبة الخير، والرغبة فيه، والسرور بفعلهن، وسرور ثان بطمعه الشديد، في إتمام الله نعمته عليه، ودوام فضله».
ومن البشارات الدنيوية ما أخرجه مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ».
قال النووي: «مَعْنَاهُ هَذِهِ الْبُشْرَى الْمُعَجَّلَة لَهُ بِالْخَيْرِ, وَهِيَ دَلِيل عَلَى رِضَاء اللَّه تَعَالَى عَنْهُ, وَمَحَبَّته لَهُ, فَيُحَبِّبهُ إِلَى الْخَلْق, ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض. هَذَا كُلّه إِذَا حَمِدَهُ النَّاس مِنْ غَيْر تَعَرُّض مِنْهُ لِحَمْدِهِمْ, وَإِلَّا فَالتَّعَرُّض مَذْمُوم».
وقال ابن سعدي: «أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن آثار الأعمال المحمودة المعجلة أنها من البشرى، فإن الله وعد أولياءه وهم المؤمنون المتقون بالبشرى في هذه الحياة، وفي الآخرة، ومن ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: إذا عمل العبد عملا من أعمال الخير، ولا سيما الآثار الصالحة، والمشاريع الخيرية العامة النفع، وترتب على ذلك محبة الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له، كان هذا من البشرى بأن هذا العمل من الأعمال المقبولة، التي جعل الله فيها خيرا وبركة.
ومن البشرى في الحياة الدنيا محبة المؤمنين للعبد لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} (مريم:96)، أي: محبة منه لهم، وتحبيبا لهم في قلوب العباد.
ومن ذلك الثناء الحسن؛ فإن كثرة ثناء المؤمنين على العبد شهادة منهم له، والمؤمنون شهداء الله في أرضه.
ومن ذلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له؛ فإن الرؤيا الصالحة من المبشرات.
فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ». قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ». أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: «المبشرات: جمع مبشرة وهي البشرى، والمعنى: لم يبق بعد النبوة المختصة بي إلا المبشرات، ثم فسرها بالرؤيا».
وسأل أبو الدَّرْدَاءِ النبي صلى الله عليه وسلم عن قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (يونس:64) فَقَالَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» أخرجه الترمذي. وصححه الألباني.
والخلاصة أن البشارة للمؤمن مقدمة فضل الله تعالى عليه، وتمهيد لما هو مقدم عليه، فعليه أن يخلص العمل لله تعالى، ويحقق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك حقيقة الاستقامة التي هي من أسباب البشارة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)، وإذا حصل له شيء من البشارات فلا يعجب ولا يبطر، بل يتواضع ويشكر، ويزيد من العمل، ويكثر من الذكر، فهذا شأن العقلاء، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم حتى تتفطر قدماه عبودية وشكرا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه.. قالت عائشة : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، فقال صلى الله عليه وسلم :« يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا» أخرجه مسلم.
نسأل الله تعالى أن يتولانا برحمته، وأن يزيدنا من فضله، وأن يكرمنا بطاعته، وأن يوفقنا لشكره وحسن عبادته، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابوالوليد المسلم 12-05-2024 02:49 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمة ضالة المؤمن (86)


-الجواب الرقيق يسكت الغضب



الغضب غريزة إنسانية، فهو تغيّر يحصل عند فوران دم القلب؛ ليحصل عنه التشفي وطلب الانتقام، فالإنسان يغضب عندما يستثار، إلا أن الملاحظ في هذا الزمان انتشار سرعة الغضب بين الناس؛ ولأتفه الأسباب، فتقوم الخصومات، وتندلع المضاربات، بل قد يصل الأمر إلى ارتكاب أبشع الجرائم؛ بسبب سَوْرة الغضب وحدة الطبع.
وربما حمل صاحبه على إيذاء غيره، أو نفسه، كما بين ذلك العلماء بانطلاق لسانه بالشتم، والفحش الذي يستحي منه العاقل، ويندم قائله عند سكون الغضب، ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل، وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه، رجع إلى نفسه، فيمزق ثوبه، ويلطم خده، وربما سقط صريعا، وربما أغمي عليه، وربما كسر الآنية، وضرب من ليس له في ذلك جريمة.
والشرع المطهر يحثنا على الحلم وضبط النفس، وعدم الاسترسال مع الغضب وآثاره الخطيرة، لئلا يقع الإنسان فيما لا تحمد عقباه، ويندم حيث لا ينفع الندم، كما قال عطاء بن أبي رباح: «ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم، فتهدِمُ عملَ خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله».
فمن النصوص الشرعية التي تحثنا على الصفح والعفو، قوله تعالى في ذكر صفات عباد الرحمن المحمودة: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) } (الفرقان: 63)، قال الطبري: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ بِاللَّهِ بِمَا يَكْرَهُونَهُ مِنَ الْقَوْل، أَجَابُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْقَوْل، وَالسَّدَاد مِنَ الْخِطَاب»، ونقل عن الحسن البصري أنه قَال: «حُلَمَاء لَا يَجْهَلُونَ، وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ حَلَمُوا وَلَمْ يُسَفِّهُوا».
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الحلم والصفح، وعدم مقابلة الإساءة بمثلها، فعن أنس رضي الله عنه قال: «كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلموعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال : يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- فضحك ثم أمر له بعطاء». متفق عليه.
قال ابن حجر: «وفي الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل، من الصفح، والإغضاء، والدفع بالتي هي أحسن».
وجاء زيد بن سعنة الحبر اليهودي قبل إسلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دَيْناً عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه، وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فانتهره عمر وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر: تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي»، ثم قال: «لقد بقى من أجله ثلاث» أي: لم يحن وقت الدين، وأمر عمر يقضيه ماله، ويزيده عشرين صاعا؛ لما روعه، فكان سبب إسلامه، وذلك أن زيدا كان يقول: ما بقى من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد، إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلما، فأخبرته بهذا فوجدته كما وصف» أخرجه الحاكم وابن حبان.
ويبين النبي الكريم أن الحلم، والصفح، والعفو، من الصفات المحمودة شرعا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه.
قال النووي: «تعتقدون أن الصرعة الممدوح القوي الفاضل هو القوي الذي لا يصرعه الرجال بل يصرعهم، وليس هو كذلك شرعا، بل هو من يملك نفسه عند الغضب، فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قل من يقدر على التخلق بخلقه، ومشاركته في فضيلته بخلاف الأول، وفيه كظم الغيظ، وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة».
ولهذا تكررت الوصية منه صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال: «لا تغضب». فردد مرارا، قال: «لا تغضب». أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: «قال الخطابي معنى قوله: «لا تغضب» اجتنب أسباب الغضب، ولا تتعرض لما يجلبه، وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه، لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة.
وقيل: معناه لا تغضب؛ لأن أعظم ما ينشأ عن الغضب (الكبر)؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب، فالذي يتواضع حتى يذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب. وقيل : معناه لا تفعل ما يأمرك به الغضب.
وقال ابن التين : جمع صلى الله عليه وسلمفي قوله: «لا تغضب» خير الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه، فينتقص ذلك من الدين.
ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن أعدى عدو للشخص شيطانه ونفسه، والغضب إنما ينشأ عنهما، فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة كان لقهر نفسه عن الشهوة أيضا أقوى».
ولا شك أن عاقبة الحلم والعفو حميدة، ومآلها إلى خير، كما قال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34)، قال الطبري: « يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد[: ادْفَعْ يَا مُحَمَّد بِحِلْمِك جَهْلَ مَنْ جَهِلَ عَلَيْك، وَبِعَفْوِك عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْك إِسَاءَة الْمُسِيء، وَبِصَبْرِك عَلَيْهِمْ مَكْرُوهَ مَا تَجِد مِنْهُمْ، وَيَلْقَاك مِنْ قِبَلهمْ. ونقل عَنِ ابْن عَبَّاس أنه قَالَ: «أَمَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْد الْغَضَب، وَالْحِلْم وَالْعَفْو عِنْد الْإِسَاءَة، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمْ اللَّه مِنَ الشَّيْطَان، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوّهُمْ، كَأَنَّهُ وَلِيّ حَمِيم».
وقال عمر بن عبد العزيز: «قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغَضَب، والطمع».
وقال الحسن: «أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان، وحرَّمه على النار: مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة، والرهبة، والشهوةِ، والغَضَب».
والصبر عند الغضب، والحلم على الجاهل يكسبان الإنسان أعوانا وأنصارا، كما قال علي بن أبي طالب: «إن أول ما عوّض الحليم من حلمه أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل».
بل إن الإحسان إليه يكسره ويخزيه، كما قال ابن عباس لرجل سبّه: «يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟»، فنكسّ الرجل رأسه واستحى مما رأى من حلمه عليه.
وما أحسن ما قاله الشافعي مبينا فضل الإعراض عن سفاهة الجاهلين:
يخاطبني السفيه بكل قبح
فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما
كعود زاده الإحراق طيبا
وقال أيضا :
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرّجـت عنـه
وإن خليته كمـدا يمـوت
فالله تعالى المسؤول أن يهدينا لأحسن الأخلاق، وأقوم الصفات، وأن يعصمنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه سميع قريب مجيب.



اعداد: د.وليد خالد الربيع


ابوالوليد المسلم 16-05-2024 03:43 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمـة ضالـة المؤمن (87)


- اقرأ باسم ربك الذي خلق



تكرر لفظ العلم ومشتقاته في القرآن الكريم مئات المرات، مقترنا في مواضع كثيرة بالأمر بالتدبر في الآيات الكونية والشرعية؛ مما يؤكد بقوة أهمية العلم والتعليم في الإسلام، ولا أصرح دلالة على ذلك من قوله تعالى مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في أول وحي نزل عليه: {قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.} (العلق: 1- 5).
قال ابن كثير: «فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على - أن من كرمه تعالى - أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة. والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال: {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}، وفي الأثر:» قيدوا العلم بالكتابة».
وهذا الخطاب الرباني وإن كان موجها للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه تكليف للأمة عامة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوله‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ‏}‏ وإن كان خطابًا للنبى صلى الله عليه وسلم ولا، فهو خطاب لكل أحد، سواء كان قوله‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏} هـو خطاب للإنسـان مطلقًـا، والنبى صلى الله عليه وسلم أول مـن سمع هـذا الخطاب، أو من النوع، أو هو خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم خصوصًا، كما قد قيــل في نظائــر ذلك‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء: 79)،‏‏ قيل‏:‏ خطاب له، وقيل‏:‏ خطاب للجنس، وأمثال ذلك‏.‏‏ فإنه وإن قيل‏:‏ إنه خطاب له، فقد تقرر أن ما خوطب به من أمر ونهي فالأمة مخاطبة به، ما لم يقـم دليل التخصيص‏.‏‏ فقوله في هذه السورة‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ‏}‏، كقوله في آخرها‏:‏ ‏{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}،‏ هذا متناول لجميع الأمة‏.‏»
وللأسف فإن واقع بعض المسلمين اليوم يتنافى مع هذا الأمر الرباني، كما تؤكد ذلك الإحصائيات والتقارير، ففي صحيفة الشرق الأوسط نُشر تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004 الذي أشرف عليه المئات من الخبراء والباحثين، ووصلوا إلى أن ثلث الرجال ونصف النساء لا يقرؤون.
وفي تقريرمنظمة اليونسكو عن القراءة في الوطن العربي يقول: إن المواطن العربي يقرأ ست دقائق في السنة، مع ملاحظة أن هذه الإحصائية محذوف فيها (قراءة الصحف والمجلات، والكتب الدراسية، وملفات العمل وقراءة التقارير، وقراءة الكتب للتسلية).
من الإحصائيات اللافتة أن كل 20 عربياً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة، بينما يقرأ كل ألماني 7 كتب في السنة، أي يقرأ 20 ألمانياً 140 كتاباً في السنة، في حين يقرأ 20 عربياً كتاباً فقط لا غير.
ولهذا يقرر العقاد هذه الحقيقة المرة بقوله: «إن القراءة لم تزل عندنا سخرة، يساق إليها الأكثرون طلبا لوظيفة أو منفعة، ولم تزل عند أمم الحضارة حركة نفسية كحركة العضو الذي لا يطيق الجمود».
ويذهب د. عبد الكريم بكار إلى أن القراءة أصبحت عبئا على بعض الناس حتى تفنن في خلق الأعذار فيقول: «لأن القراءة لا تتمتع بأي أهمية لدى الكثيرين من أبناء الأمة، فإننا نجد لدى الكثير ممن نقابلهم براعة نادرة في اختلاق الأعذار التي تجعل جفاءهم للكتب أمرا طبيعيا».
فالآية الكريمة فيها تكليف الأمة بالقراءة بأسلوب بليغ، كما نبه إليه الشيخ ابن عاشور؛ حيث قال عن افتتاح السورة بكلمة (اقرأ): «وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن.والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال، فالمطلوب بقوله: (اقرأ) أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال».
ومن عناية الإسلام بالقراءة أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى بعض أسرى بدر بتعليم عدد من صبيان المدينة، فعن ابن عباس كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. قال: فجاء يوماً غلام يبكي إلى أبيه فقال: ما شأنك؟ قال ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بِذِحْل بدر(يعني: بثأر) والله لا تأتيه أبداً. أخرجه الإمام أحمد وحسنه شعيب الأرناؤوط.
والقراءة كما يعرفها الفيروزآبادي هي(الدراسة والتفقه)، فالقراءة عنده تشتمل على أمرين: تتبع الكلمات بالنظر، مع الفهم والاستيعاب.
وقد اتسع مفهوم القراءة ليصبح أداة لتنمية خبرات القارئ العلمية والثقافية، ورافدا لربط الإنسان بعالمه، ووسيلة لحل مشكلاته، وسبيلا للترفيه والاستمتاع.
فقراءة الكتب النافعة، ومطالعة المؤلفات المفيدة سبيل لتحصيل العلم، والنأي بالنفس عن الجهل، وامتثال الأمر الشرعي في قوله صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» أخرجه ابن ماجه، وابن عبدالبر، وصححه الألباني. وتحصيل العلم يكون بسؤال أهل العلم والتفقه عليهم، وكذلك يكون بمطالعة المصنفات المفيدة المعتبرة، قال الشيخ محمد الطاهر: «تحصيل العلوم يعتمد أمورا ثلاثة: أحدها: الأخذ عن الغير بالمراجعة والمطالعة، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب، فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر، ونقلها إلى الأقطار النائية، وفي الأجيال الآتية.والثاني: التلقي من الأفواه بالدرس والإملاء. والثالث: ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات، وهذان داخلان تحت قوله تعالى:{علم الإنسان ما لم يعلم}».
وحري بالمسلم أن يتوجه لتحصيل العلم، وينفق أوقاته في طلبه، ليعبد الله تعالى على بصيرة، ويصحح اعتقاده وعمله وخلقه، ويتجنب الزلل والمعاصي والضلال.
ولابد من الاستعانة بالله تعالى في كل الأمور، ومنها تحصيل العلم؛ ولهذا قال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : {اقرأ باسم ربك}. قال ابن عاشور: «أي: قل : باسم الله، فتكون الباء للاستعانة، ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة.
وذكر احتمالا ثانيا، وهو أن تكون الباء للمصاحبة أي: اقرأ ما سيوحى إليك مصاحبا قراءتك اسم ربك، فالمصاحبة: مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله، ويكون هذا إثباتا لوحدانية الله بالإلهية، وإبطالا للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون، يقولون: باسم اللات، باسم العزى، فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوحي».
وإذا حصل للمسلم العلم النافع من القراءة والمدارسة، عليه أن يتواضع لربه الذي خلقه من علقة، وعلمه ما لم يعلم، ولهذا جاءت الإشارة إلى بدء خلق الإنسان في الآية وربط العلم بتعليم الله تعالى للإنسان، حتى لا يفخر بعلمه، ولا ينسى أصله وبدء خلقه، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابوالوليد المسلم 18-05-2024 03:14 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمـة ضالـة المؤمن (88)


- البركة مع أكابركم



أولى الإسلام كبار السن وذوي الحكمة وأصحاب الخبرة اهتماما كبيرا؛ وذلك لما لهم من التقدم في الإسلام، والحنكة في الأمور، ولما يتحلى به الكبير عادة من الرزانة والوقار، وعدم التعجل في الأمور والتهور في التصرفات كما هو الحال في الشباب إجمالا.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا» رواه الترمذي وقال: «قال بعض أهل العلم: «معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس منا» يقول: ليس من سنتنا، ليس من أدبنا».
أولى الإسلام كبار السن وذوي الحكمة وأصحاب الخبرة اهتماما كبيرا؛ وذلك لما لهم من التقدم في الإسلام، والحنكة في الأمور، ولما يتحلى به الكبير عادة من الرزانة والوقار، وعدم التعجل في الأمور والتهور في التصرفات كما هو الحال في الشباب إجمالا.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا» رواه الترمذي وقال: «قال بعض أهل العلم: «معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس منا» يقول: ليس من سنتنا، ليس من أدبنا».
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏‏ «‏ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه‏»‏‏. ‏ رواه أحمد والطبراني وإسناده حسن‏. ‏
وعن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني في (صحيح أبي داود).
ومعنى قوله: «إِنَّ مِن إجلالِ الله» أي: تبجيله وتعظيمه. ومعنى قوله: «إكرام ذي الشيبة المسلم» أي: تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام، بتوقيره في المجالس، والرفق به، والشفقة عليه، ونحو ذلك، كل هذا مِن كمالِ تعظيم الله، لحرمته عند الله.
قال ابن زين الدين: «أي من أكرم ذا الشيبة وحامل القرآن فقد أجلّه لله تعالى، أو أجلّ هو الله تعالى، وإنما كان ذلك من إجلال الله لكون الأول عبدا قديم العهد في الطاعة، والثاني قد أدرج بين جنبيه الوحي الهادي إلى الحق».
وقال طاوس: «من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد»، قال البغوي معقبا: «قلت: إذا اجتمع قوم فالأمير أولاهم بالتقديم، ثم العالم، ثم أكبرهم سنا، ولا ينبغي للعالم أن يتقدم أباه وأخاه الأكبر لما عليه من حق الوالد والأخ الأكبر».
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في هذا الباب فعن أسماء قَالَتْ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ (عام الفتح)، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ، يَعُودُهُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ [، قَالَ: «هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ», فَأَسْلَمَ. أخرجه الإمام أحمد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان، فأُوحي إليه: أن أعط السواك أكبرهما». وعن عبد الله بن كعب: «كان صلى الله عليه وسلم إذا استن أعطى السواك الأكبر، وإذا شرب أعطى الذي عن يمينه».
قال ابن بطال: «فيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام، ومن ثَم كل وجوه الإكرام».
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أراني في المنام أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لى: كبّـر، فدفعته إلى الأكبر منهما» متفق عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أمرني جبريل أن أقدم الأكابر» صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فهذه بعض الأدلة الشرعية في تقديم الكبير والمسن في وجوه الإكرام عامة، قال ابن عبد البر: «من أدب المواكلة والمجالسة أن الرجل إذا أكل أو شرب، ناول فضله الذي على يمينه كائنا من كان، وإن كان مفضولا، وكان على يساره فاضلا، وتقديم الأكبر ينزل على تقديم الشراب والطعام ابتداءً، ثم يليه من كان على يمينه». ويتقوى هذا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ حيث قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال: ابدؤوا بالكبير» أخرجه أبو يعلى وقال الحافظ في الفتح: سنده قوي.
ويتجلى توقيرالكبير في الأحوال العملية، فهو أولى بالسلام عليه فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» متفق عليه، قال ابن حجر مبينا الحكمة في هذا الترتيب: «تسليم الصغير لأجل حق الكبير؛ لأنه أمر بتوقيره والتواضع له».
كما أن الكبير أولى بالبدء بالكلام من غيره، فعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْل،ِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِم،ْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «كَبِّرْ الْكُبْرَ» الحديث متفق عليه.
قال النووي: «وفي هذا فضيلة السن عند التساوي في الفضائل ولهذا نظائر؛ فإنه يقدم بها في الإمامة، وفي ولاية النكاح ندبا وغير ذلك».
وقال ابن حجر: «المراد الأكبر في السن إذا وقع التساوي في الفضل وإلا يقدم الفاضل في الفقه والعلم إذا عارضه السن».
وانظر إلى أدب الصحابة الكرام مع الكبار واحترامهم، فقد روى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالاً هم أسن مني».
وقال ابن عمر قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً }(إبراهيم:24) فقال: «أتدرون ما هي؟» قال ابن عمر: لم يخف عليَّ أنها النخلة، فمنعني من الكلام مكان سني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هي النخلة» رواه البزار وأصله في البخاري، قال ابن حجر: «وفيه توقير الكبير، وتقديم الصغير أباه في القول وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب».
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: «البركة مع أكابركم» أخرجه الحاكم والبيهقي وصححه الشيخ الألباني.
قال المناوي في فيض القدير مبينا معنى قوله: «البركة مع أكابركم»، المجربين للأمور المحافظين على تكثيرالأجور، فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم، أوالمراد من له منصب العـلم وإن صـغر سنه فيجب إجلالهم حفظا لحرمة ما منحهم الحـق سبحانه وتعالى، وقـال شارح الشهاب: هـذا حث على طلـب البركة في الأمور والتبحبـح في الحاجات بمراجعة الأكابر لما خصوا به من سبق الوجـود وتجربة الأمور وسـالف عبادة المعبود، قـال تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} (يوسف:80)، وكان في يد المصطفى صلى الله عليه وسلم سواك فأراد أن يعطيه بعض من حضر فقـال جبريل عليه السلام: كبر كبر فأعطـاه الأكبر، وقد يكون الكبير في العلم أو الدين فيقدم على من هو أسن منه. اهـ
يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر». أخرجه الطبراني وصححه الألباني.
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه : «لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، وعن أمنائهم وعلمائهم , فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا».
فالمطلوب من المسلم أن يلجم حماس الشباب بحكمة الشيوخ، وأن يقيد اندفاع الشباب بوقار الكبار، فالغيرة الدينية بلا حكمة تهور مذموم، والاستعجال في الأمور قبل استشارة ذوي العلم والحكمة يفتح باب المهالك، ويوقع الإنسان في الزلل والندامة، والواقع خير شاهد وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع


ابوالوليد المسلم 20-05-2024 07:13 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (89)


-لا شرف مع سوء أدب



هذه الحكمة من روائع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الخليفة الراشد والصحابي الجليل، يصور من خلالها طبيعة إنسانية، وخلقا رفيعا.

فالطبيعة الإنسانية تتمثل في كون الإنسان يحب أن يكون حسن الصيت، جميل الذكر، فالشَّرَفُ في اللغة الموضع العالي الذي يُشرف على ما حوله، كما يطلق الشَّرَفُ على العُلُوُّ والمجد؛ فشرُف الشّخص علو منزلته، وسمو قدره.
والخلق الرفيع الذي اشترط هو الأدب، وهو كما عرفه المناوي بقوله: «الأدب رياضة النفوس، ومحاسن الأخلاق، ويقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل».
وقال ابن القيم: «الأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا»، فهو الأخذ بمكارم الأخلاق، وقال عبد الله بن المبارك: «قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول: إنه معرفة النفس ورعوناتها، وتجنب تلك الرعونات».
فالعاقل يحرص على أن يكون حميد السمعة، طيب الثناء، وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى سبيل ذلك ألا وهو التزام الشرع المنزل، والاستقامة على الدين الحنيف، فقال تعالى:{وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} (الخرف:44)، قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك من قريش {وسوف تسألون}، يقول: وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه، وهل عملتم بما أمركم ربكم فيه، وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه؟».
ونقل عن ابن عباس وغيره في قوله: {وإنه لذكر لك ولقومك} يقول: إن القرآن شرف لك.
قال الطاهر مبينا البلاغة في كلمة (ذكر) وأن المراد: أن هذا الدين يكسبه ويكسب قومه حسن السمعة في الأمم، فمن اتبعه نال حظه من ذلك، ومن أعرض عنه عُـدّ عِداد الحمقى، مع الإشارة إلى انتفاع المتبعين له في الآخرة، واستضرار المعرضين عنه فيها، وتحقيق ذلك بحرف الاستقبال.
والذكر يحتمل أن يكون ذكر العقل؛ أي: اهتداؤه لما كان غير عالم به، فشبه بتذكر الشيء المنسي وهو ما فسر به كثير الذكر بالتذكير، أي الموعظة، ويحتمل ذكر اللسان؛ أي: أنه يكسبك وقومك ذكرا، والمعنى: أن القرآن سبب الذكر لأنه يكسب قومه شرفا يذكرون بسببه.
وقد سأل إبراهيم عليه السلام ربه الذكر الحسن فقال تعالى على لسان إبراهيم: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء:84)، قال الطبري: «واجعل لي في الناس ذكراً جميلاً، وثناءً حسناً باقياً فيمن يجيء من القرون بعدي، قال ابن زيد: اللسان الصدق: الذكر الصدق والثناء الصالح».
قال ابن كثير: «اجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير».
وقال الله تعالى عن ذرية إبراهيم عليه السلام: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ} (ص:45-48)، أي: شرف وثناءٌ جميل يُذكَرون به، كما قال الطاهر: «ويجوز أن يكون ذكرى مرادف الذكر بكسر الذال، أي : الذكر الحسن، كقوله تعالى: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا} وتكون الدار هي الدار الدنيا».
وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (مريم:50) قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: ورزقناهم الثناء الحسن، والذكر الجميل من الناس. ونقل عن ابن عباس في قوله: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا}، يقول: الثناء الحسن.
ويبين البغوي كيفية الثناء الحسن فيقول: «يعني ثناء حسنا رفيعا في كل أهل الأديان، فكلهم يتولونهم، ويثنون عليهم».
فتحري الإنسان حسن السمعة والذكر الطيب مشروع إذا كان خالصا لوجه الله تعالى لا رياء ولا سمعة، فقد نقل ابن العربي عن الإمام مالك أنه قال: «لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا، ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح، وقد قال الله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} (طه:39)، وهي رواية أشهب عن مالك رحمه الله».
وقد قال صلى الله عليه وسلم : «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» رواه أحمد وهوصحيح.
وأما الحرص على الشرف والسمعة فذلك مفسد لدين الإنسان، وقد صور ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تصويرا بليغا في قوله: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال الشراح: «ومعناه ليس ذئبان جائعان أرسلا في جماعة من جنس الغنم بأشد إفسادا لتلك الغنم من حرص المرء على المال والجاه، فإن إفساده لدين المرء أشد من إفساد الذئبين الجائعين لجماعة من الغنم إذا أرسلا فيها».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر».
وذكر الحديث ثم قال: «فذم النبي صلى الله عليه وسلم الحرص على المال والشرف؛ وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم».
فكون الإنسان ممدوح الخلال، مأثور المحامد، إنما يكون بمدى استقامته على دين الله تعالى ظاهرا وباطنا، ووقيامه بالواجبات الدينية والدنيوية، والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، قال ابن القيم: «فإن أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب».
وقال الراغب: «حق الإنسان في كل فضيلة أن يكتسبها خلقًا، ويجعل نفسه ذات هيئة مستعدة لذلك، سواء أمكنه أن يبرز ذلك فعلًا أم لم يمكنه، وذلك بأن يكون على هيئة الأسخياء والشجعان والحكماء والعدول، وإن لما يكن ذا مال يبذله، ولا عرض له مقام تظهر فيه نجدته، ولا معاملة بينه وبين غيره تبرز فيها عدالته».
وقد قيل لبعض الحكماء: هل من جود يعم به الورى، قال: نعم، أن تحسن خلقك وتنوي لكل أحد خيرًا.
وللأسف يريد بعض الناس أن يحوز شرفا وسؤددا، وليس له رصيد من الفضائل الذاتية؛ فلا علم نافع، ولا عمل صالح، ولا تخلى عن عيوبه وسوء خلقه، إنما يتكئ على فضائل آبائه وأجداده، ويعد ذلك من حسناته ومآثره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه: من كان عمله ناقصا، لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي ألا يتكل على شرف النسب، وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل».
فلا شرف بلا أدب، ولا وجاهة بغير طاعة، ولا رصيد حقيقيا للإنسان إلا ما قدم. قال تعالى مقررا العدل الإلهي :{ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 38-39)، وقال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} (المؤمنون:101). قال ابن كثير: «لا تنفع الأنساب يومئذ، ولا يرثي والد لولده، ولا يلوي عليه».


اعداد: د.وليد خالد الربيع


ابوالوليد المسلم 25-05-2024 12:18 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (90)


- الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله



كل مسلم يحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويرغب في دخول الجنة والنجاة من النار، فهي أمنية كل مسلم، ومقصد كل تقي، وقد يتصور بعض الناس أن طريق الجنة طويل وشاق، يحتاج إلى أعمال متعبة، وجهود مضنية، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يبشرنا بأن طريق الجنة سهل ميسر قريب لمن وفقه الله تعالى وأعانه.
فقد أخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي [: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك».
قال ابن حجر: «(شراك النعل) هو السير الذي يدخل فيه إصبع الرجل، ويطلق أيضا على كل سير وقربه من القدم، ثم نقل عن ابن بطال في شرحه للحديث قال: «فيه أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقربة إلى النار، وأن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء».
قال ابن حجر: «فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها».
وقال ابن الجوزي مؤكدا هذه الحقيقة: «معنى الحديث: أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية».
ويعلل زين الدين المصري موضحا سبب قرب الجنة والنار من المكلف فيقول: «وإنما كانت الجنة والنار أقرب من شراك النعل؛ لأن سبب دخولهما مع الشخص هو العمل الصالح والسيء، وهو أقرب إليه من شراك نعله». وقال الزيداني في المفاتيح: «يعني من عمل عملا صالحا تكون الجنة قريبة منه، ومن عمل سوء تكون النار قريبة منه».
قال الشيخ ابن عثيمين: «هذا الحديث يتضمن ترغيبا وترهيبا:
يتضمن ترغيبا في الجملة الأولى وهي: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله»، وشراك النعل هو السير الذي على ظهر القدم، وهو قريب من الإنسان جدا، ويضرب به المثل في القرب، وذلك لأنه قد تكون الكلمة الواحدة سببا في دخول الجنة، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة الواحدة من رضوان الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت فإذا هي توصله إلى جنة النعيم.
ومع ذلك فإن الحديث أعم من هذا، فإن كثرة الطاعات واجتناب المحرمات من أسباب دخول الجنة، وهو يسير على من يسره الله عليه، فأنت تجد المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام يصلي براحة وطمأنينة وانشراح صدر ومحبة للصلاة، ويزكي كذلك، ويصوم كذلك، ويحج كذلك، ويفعل الخير كذلك فهو يسير عليه، سهل قريب منه، وتجده يتجنب ما حرمه الله من الأقوال والأفعال وهو يسير عليه.
وأما-والعياذ بالله-من قد ضاق بالإسلام ذرعا، وصار الإسلام ثقيلا عليه فإنه يستثقل الطاعات، ويستثقل اجتناب المحرمات، ولا تصير الجنة أقرب إليه من شراك نعله.
وكذلك النار-وهي الجملة الثانية في الحديث-وهي التي فيها التحذير، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «والنار مثل ذلك» أي: أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، فإن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا وهي من سخط الله فيهوي بها في النار كذا وكذا من السنين وهو لا يدري، وما أكثر الكلمات التي يتكلم بها الإنسان غير مبال بها، وغير مهتم بمدلولها، فترديه في نار جهنم، نسأل الله العافية».
فالذي يتأمل الإسلام العظيم يجد السهولة واليسر في كل جوانبه وأحكامه، فعقائده ميسرة ليس فيها غموض ولا تعقيد، وعباداته سهلة ليس فيها مشقة ولا إرهاق، وأخلاقه رفيعة ليس فيها مخالفة الفطرة ولا الخروج عن مقتضيات العقل القويم والعرف السليم، فكل أحوال تدعو الإنسان للدخول فيه والتعبد لله تعالى من خلال هديه وأحكامه، كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج:78)، وقال تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة:185).
فطرق الجنة كثيرة ومتنوعة، وكلها سهلة ميسرة على من يسرها الله تعالى عليه كما قال عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرا شرا يره}، قال الشيخ ابن سعدي: «وهذا شامل عام للخير والشر كله، لأنه إذا رأى مثقال الذرة-التي هي أحقر الأشياء-وجوزي عليها فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى، وهذه الآية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلا، والترهيب من فعل الشر ولو حقيرا».
وقال تعالى: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى}(الليل:5-7)، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: صدّق بـ«لا إله إلا الله» وما دلت عليه من جميع العقائد الدينية، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي» وأعطى ما أمر به من العبادات المالية كالزكاوات، والعبادات البدنية كالصلاة، والمركبة منهما كالحج والعمرة، واتقى ما نهي عنه من المحرمات والمعاصي {فسنيسره لليسرى} أي: نسهل عليه أمره، ونجعل كل خير ميسرا له وميسرا له ترك كل شر؛ لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك.(بتصرف)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبينا كثرة أبواب الخير وتنوعها: «الإيمان بضع وسبعون شعبة-أو بضع وستون شعبة-فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم مبينا تفاوت الأعمال وعظم ما يترتب عليها من المصالح أو الأضرار: «عرضت عليّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن» أخرجه مسلم.
وفي الحديث: «لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين» أخرجه مسلم، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة تدل على تنوع أعمال الخير وكثرتها لتناسب أحوال الناس واختلاف طبائعهم، فلو حمل الناس على نوع واحد من العمل لشق عليهم ولضاقت بهم السبل، لكن من سعة رحمة الله تعالى، وعظيم فضله، وكثرة إحسانه تعددت أبواب الخير، ومسالك الهدى لتشمل الناس كافة، وليدخل فيها حتى الهمّ بالخير ولو لم يفعله المكلف فيجزى على حسن قصده وصدق عزمه، فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّـن ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة»، زاد مسلم: «ومحاها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك» قال ابن رجب: «بعد هذا الفضل العظيم من الله والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات، والتجاوز عن السيئات لا يهلك على الله إلا من هلك وألقى بيده إلى التهلكة وتجرأ على السيئات، ورغب عن الحسنات وأعرض عنها».
نسأل الله العظيم أن يعيننا على أنفسنا، وأن يوفقنا للطاعة ويثبتنا عليها ويتقبلها منا.


اعداد: د.وليد خالد الربيع


ابوالوليد المسلم 12-06-2024 10:40 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (91)


- رضي الله عنهم ورضوا عنه



من أبرز معالم الشخصية الإسلامية السوية الرضا والطمأنينة والسكينة؛ وذلك لما قام بقلب المسلم من الإيمان واليقين، والقبول والانقياد، فلا يعرض له حيرة ولا شك، ولا يعارض أمر الله تعالى بعناد ولا اعتراض، وإذا وقعت منه زلة سارع إلى التوبة والإنابة.
ويعرف المناوي الرضى بأنه: «طيب النفس بما يصيبه ويفوته، مع عدم التغير». والرضوان: اسم مبالغة في معنى الرضى، وعرفه الجرجاني بأنه: «سرور القلب بمرّ القضاء».
ومن صفات الله تعالى الحسنى (صفة الرضا)، كما قال تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة: 3). قال ابن سعدي: «أي: اخترته واصطفيته لكم دينا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرا لربكم، واحمدوا الذي منّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها».
وقال تعالى:{لقد رضي الله عن المؤمنين} (الفتح: 18). قال ابن سعدي: «يخبر تعالى -بفضله ورحمته- برضاه عن المؤمنين؛ إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم واكتسبوا بها سعادة الدينا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة التي يقال لها بيعة الرضوان لرضا الله عن المؤمنين فيها».
والله تعالى أحق من يسعى العبد في طلب رضاه كما قال تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} قال الطبري: «أحق أن يرضوه بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا {إن كانوا مؤمنين} (التوبة: 62). يقول: إن كانوا مصدقين بتوحيد الله، مقرين بوعده ووعيده».
وقال ابن سعدي: «لأن المؤمن لا يقدم شيئا على رضا ربه، فدل هذا على انتفاء إيمانهم؛ حيث قدموا رضا غير الله ورسوله، وهذا محاداة لله ومشاقة له».
والإخلاص لله تعالى هو أساس الرضى وسببه، قال الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما}(النساء: 114). قال ابن سعدي: «فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت، وفي كل جزء من أجزاء الخير؛ ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص، فيكون من المخلصين وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا؛ لأن النية حصلت، اقترن بها ما يمكن من العمل».
وقال تعالى:{أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}(آل عمران: 162). قال ابن سعدي: «يخبر تعالى أنه لا يستوي من كان قصده رضوان الله والعمل على ما يرضيه، كمن ليس كذلك ممن هو مكب على المعاصي، مسخط لربه، هذان لا يستويان في حكم الله وحكمة الله وفي فطر عباد الله».
ولهذا جاء ذلك صريحا في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا: فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» أخرجه مسلم. قال الشيخ ابن سعدي: «فيه إثبات الرضى لله، وذكر متعلقاته، وإثبات الكراهة منه، وذكر متعلقاتها، فإن الله جل جلاله من كرمه على عباده، يرضى لهم ما فيه مصلحتهم، وسعادتهم في العاجل والآجل؛ وذلك بالقيام بعبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له بأن يقوم الناس بعقائد الإيمان وأصوله، وشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة، وبالأعمال الصالحة والأخلاق الزاكية، كل ذلك خالصا لله موافقا لمرضاته على سنة نبيه، ويعتصموا بحبل الله وهو دينه الذي هو الوصلة بينه وبين عباده فيقومون به مجتمعين متعاونين على البر والتقوى».
وقد مدح الله المؤمنين لالتماسهم رضى الله تعالى في أعمالهم، بخلاف المنافقين الذين يراؤون ولا يخلصون؛ فقال تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}(البقرة: 52). قال ابن كثير: «لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة، فقال: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}».
قال الطبري: «يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}» (التوبة: 111).
وقال تعالى:{ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله} (البقرة: 265). قال ابن عاشور: «عطف مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله على مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس لزيادة بيان ما بين المرتبتين من البون، وتأكيدا للثناء على المنفقين بإخلاص» (آل عمران: 15).
ورضوان الله تعالى من أعظم ما يجازى به المؤمنون يوم القيامة قال تعالى: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد}.
قال ابن عاشور: «وعطف {رضوان من الله} على ما أعد للذين اتقوا عند الله؛ لأن رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي; لأن رضوان الله تقريب روحاني،قال تعالى:{ورضوان من الله أكبر} (التوبة: 72).
قال ابن حيان: «بدأ أولا بذكر المقر، وهو الجنات التي قال فيها: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} (الزخرف: 71).ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التام من الأزواج المطهرة، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني، حيث علم برضا الله عنه، كما في الحديث أنه تعالى يسأل أهل الجنة فيقول: «هل رضيم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا». ففي هذه الآية الانتقال من عال إلى أعلى منه».
وقال الله تعالى: {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} (البينة: 8). قال ابن سعدي: «فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه، ورضوا عنه بما أعد لهم من أنواع الكرامات»، وقال القرطبي: «رضي الله عنهم أي رضي أعمالهم ; كذا قال ابن عباس، ورضوا عنه أي رضوا هم بثواب الله - عز وجل -. ذلك أي الجنة».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من لزم ما يرضي الله من امتثال أوامره واجتناب نواهيه لاسيما إذا قام بواجبها ومستحبها فإن الله يرضى عنه، كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه الله، كما قال في الحديث الصحيح: «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه..». الحديث. وذلك أن الرضا نوعان: أحدهما: بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تعد محظور {وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إليه راغبون} (التوبة:59).
والنوع الثاني: الرضا بالمصائب كالفقر والمرض والذل، فهذا رضى مستحب في أحد قولي العلماء، وليس بواجب، وقد قيل:إنه واجب، والصحيح أن الواجب هو الصبر، وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان، فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فان الله لا يرضاه كما قال:{ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر:7). وقال تعالى:{فإن ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} (التوبة:96).
وقال صلى الله عليه وسلم : «يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» أخرجه مسلم، وقال: «ما من مسلم أو إنسان أو عبد يقول حين يمسي، وحين يصبح:رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة» أخرجه ابن ماجه.
قال ابن القيم: «هذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، وإليهما تنتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته - سبحانه - وألوهيته، والرضا برسوله والانقياد له، والرضا بدينه والتسليم له، ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا، وهي سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها».
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن القصد وحسن العمل، ونسأله تعالى رضاه والجنة، ونعوذ به من سخطه والنار، والله المستعان.


اعداد: د.وليد خالد الربيع


ابوالوليد المسلم 13-06-2024 10:44 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (92)


- ساعة وساعة



يذهب بعض المسلمين - هداهم الله تعالى -ـ إلى تقسيم أوقاتهم، وتوزيع ساعاتهم إلى أوقات للطاعة وأخرى للمعصية، وساعة لله بزعمهم، وساعة لقلوبهم، مستدلين بحديث: «روحوا القلوب ساعة بساعة»، وهو حديث ضعيف كما قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الضعيفة والموضوعة، وربما رفع بعضهم شعار: (ساعة لقلبك وساعة لربك)، ثم نسبوا ذلك الشعار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً، ولا يخفى على من تأمل هذه الكلمات ما فيها من الانحراف العقدي والجرأة على الله تعالى؛ حيث أوهم هذا اللفظ أن القلب ند لله تعالى، له حظ من وقت العبد ونصيب من حياته كما لله تعالى.
والقرآن الكريم يؤكد أن حياة المسلم كلها لله تعالى كما قال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿162﴾لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، (الأنعام:162-163) قال الشيخ ابن سعدي: ومن أخلص في صلاته ونسكه استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله، وقوله: {ومحياي ومماتي} أي: ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليّ في مماتي الجميع لله رب العالمين لا شريك له في العبادة، كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير، وليس هذا الإخلاص لله ابتداعا مني، وبدعا أتيته من تلقاء نفسي، بل بذلك أمرت أمرا حتما، لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله{وأنا أول المسلمين} من هذه الأمة.
وسبب انتشار هذا المفهوم الخطأ لدى بعض المسلمين هو فهمهم المغلوط لحديث حنظلة المشهور بحديث (ساعة وساعة)، وحملهم الحديث على غير المقصود الشرعي، وتأولهم له على غير الهدي النبوي.
فقد روى مسلم عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده؛ أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة». ثلاث مرات».
فسبب ورود الحديث هو خوف حنظلة وأبي بكر رضي الله عنهما من النفاق لما يجدونه من اختلاف أحوالهم الإيمانية بين أن يكونوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندما يكونون مع أهليهم وما يتبع ذلك من المخالطة المباحة، وليس في الحديث ما يدل على تهاونهم في الطاعات، أو جرأتهم على المعاصي تحت ذريعة (ساعة وساعة).
قال النووي رحمه الله :قوله: «نافق حنظلة» معناه: أنه خاف أنه منافق؛ حيث كان يحصل له الخوف في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك نفاقا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك».
وقال القاضي عياض: فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن الحال منهم لا يقتضي بقاءهم على وتيرة واحدة، وأن مثل هذا ليس بنفاق.
فالحديث من أدلة التوازن الشرعي المطلوب من المسلم؛ حيث لا يقدم مستحب على واجب، ولا يؤدي واجب إلى ضياع ما هو أوجب منه، ويدل على لزوم مراعاة الفطرة الإنسانية، وتلبية الحاجات البشرية وفق الأحكام الشرعية دون إفراط أو تفريط، ولا غلو أو تقصير.
فقوله صلى الله عليه وسلم : «ساعة وساعة»، يوضحه الشيخ ابن عثيمين بقوله: يعني ساعة للرب -عز وجل-، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها ، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم .
وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها، أن الله عز وجل له حق فيعطي لله حقه -عز وجل-، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها، وللأهل حق فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله عزوجل براحة؛ لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها تعب، وأضاع حقوقاً كثيرة .
وهذا كما يكون في العبادة وفي حقوق النفس والأهل والضيف، يكون كذلك أيضاً في العلوم، فإذا طلب الإنسان العلم ورأى في نفسه مللاً في مراجعة كتاب ما، فلينتقل إلى كتاب آخر، وإذا رأى من نفسه مللاً من دراسة فن معين، فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر، وهكذا يريح نفسه، ويحصل علماً كثيراً، أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف، إلا ما شاء الله؛ فإن بعض الناس يكره نفسه على المراجعة والمطالعة والبحث مع التعب، ثم يأخذ عليه ويكون هذا دأبا له، ويكون ديدناً له، حتى إنه إذا فقد هذا الشيء ضاق صدره، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
والأدلة الشرعية على هذا الأصل كثيرة منها قوله تعالى في صفة عباد الرحمن:{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67)، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء:29).
وقال سبحانه مبينا المنهج المعتدل:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(القصص:77).
قال ابن كثير: أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا ولِزَوْرك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه.
قال الشيخ ابن سعدي: واستمتع بدنياك، استمتاعا لا يثلم دينك، ولا يضر بآخرتك.
وذكر البخاري عن أبي حجيفة قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء وهي زوجة متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال له: كل فإني صائم فقال :ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم .فنام ،ثم ذهب ليقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «صدق سلمان».
قال الحافظ ابن حجر: «وإن لنفسك عليك حقا» أي: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباحه الله للإنسان من الأكل والشرب والراحة التي يقوم بها بدنه ليكون أعون على عبادة ربه.
وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم التوازن والتكامل بين الواجبات والحاجات، فعن أنس قال: جاء ثلاثة نفر إلى أبيات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأنا اصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه.
قال القرطبي في المفهم: في حديث أبي ذر: «وعلى العاقل أن يكون له ساعات؛ ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب»، وهكذا الكمال، وما عداه ترهات وخيال.


اعداد: د.وليد خالد الربيع


ابوالوليد المسلم 18-06-2024 11:40 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمة ضالة المؤمن (92)


- ولكن ليطمئن قلبي



في مقابلة صحفية أوضح د.عادل الزايد أن الاكتئاب هو الأكثر شيوعا في الكويت ثم القلق إضافة إلى الرهاب الاجتماعي والوسواس القهري، مشيرا إلى أن الانتحار يعد من أعراض الاكتئاب الشديد، وفي مقابلة أخرى أكد د. عبد الله الحمادي أن نسبة اضطرابات القلق في الكويت أعلى من النسب العالمية.
وهذه التأكيدات من أهل الاختصاص في مقابلات قريبة منذ عامين أو أقل، وهي نابعة من إحصائيات واستقراء للأوضاع في المجتمع الكويتي، تدل على وجود خطر صامت يهدد الناس من حيث لا يشعرون، ولا تحتاج إلى كبير جهد لترى التوتر الذي يعيشه كثير من الناس، فنظرة متأملة في شوارعنا المزدحمة يوميا، واستماع مدقق في أحاديث مجالسنا تدلك على وجود نسبة كبيرة من التوتر والقلق وخيبة الأمل الذي يعاني منه الكثير.
والقرآن الكريم يرشدنا إلى علاج القلق والتوتر، فيأمرنا بالتوكل على الله تعالى وحده فقال سبحانه: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، فعن ابْن عَبَّاس أَنَّهُ رَكِبَ خَلْف رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ لَهُ: «يَا غُلام إِنِّي مُعَلِّمُك كَلِمَات احْفَظْ اللَّه يَحْفَظْك احْفَظْ اللَّه تَجِدهُ تُجَاهك وَإِذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّه وَإِذَا اِسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّة لَوْ اِجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوك لَمْ يَنْفَعُوك إِلَّا بِشَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ لَك وَلَوْ اِجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك لَمْ يَضُرُّوك إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّه عَلَيْك رُفِعَتْ الْأَقْلَام وَجَفَّتْ الصُّحُف».
ويرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى حسن الظن بالله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل»، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله» أخرجه أحمد.
ويطالبنا بالتحلي بالسكينة والوقار والطمأنينة، والطمأنينة هي السكون، يقال: اطمأن الرجل اطمئنانا وطمأنينة أي: سكن.
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد:28)، قال الطبري: وقوله: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ }، يقول: وتسكن قلوبهم وتستأنس بذكر الله، وقوله: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} يقول: ألا بذكر الله تسكن وتستأنس قلوب المؤمنين.
ويبين الشيخ ابن سعدى رحمه الله أن الطمأنينة علامة المؤمنين، وهي تحصل بالذكر والقرآن فيقول: «ذكر تعالى علامة المؤمنين، فقال: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ}؛ أي: يزول قلقها واضطرابها، وتحضُرُها أفراحها ولذَّاتها. {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}؛ أي: حقيق بها وحريٌّ أن لا تطمئنَّ لشيءٍ سوى ذكره؛ فإنَّه لا شيء ألذ للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها والأنس به ومعرفته، وعلى قَدْرِ معرفتها باللّه ومحبَّتها له يكون ذِكْرُها له، هذا على القول بأنَّ ذكرَ اللّه ذِكْرُ العبد لربِّه من تسبيح وتهليل وتكبير وغير ذلك.
وقيل: إن المراد بذِكْر اللّه كتابُه الذي أنزله ذكرى للمؤمنين؛ فعلى هذا معنى طمأنينة القلب بذكر اللّه أنها حين تَعْرِفُ معاني القرآن وأحكامه تطمئنُّ لها؛ فإنَّها تدل على الحقِّ المبين المؤيَّد بالأدلة والبراهين، وبذلك تطمئنُّ القلوب؛ فإنَّها لا تطمئنُّ إلا باليقين والعلم، وذلك في كتاب اللّه مضمونٌ على أتمِّ الوجوه وأكملها، وأما ما سواه من الكتب التي لا ترجِعُ إليه؛ فلا تطمئنُّ بها، بل لا تزال قلقةً من تعارض الأدلَّة وتضادِّ الأحكام، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء:82)، وهذا إنما يعرفه من خَبَرَ كتابَ اللّه، وتدبَّره، وتدبَّر غيره من أنواع العلوم؛ فإنَّه يجد بينها وبينه فرقاً عظيماً».
وحرص إبراهيم عليه السلام على هذه الصفة الطيبة كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة:260)، قال الطبري: معنى قوله: {ليطمئن قلبي} ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه أو ليزداد يقينا أو إيمانا». وهو قول سعيد بن جبير والضحاك وقتادة والربيع و مجاهد وإبراهيم.
قال ابن سعدي: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى في نيله أولو العرفان».
وقد بشرنا ربنا تعالى بحسن العاقبة للأنفس المطمئنة فقال تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}، قال الطبري: يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الملائكة لأوليائه يوم القيامة: يا أيتها النفس المطمئنة، يعني بالمطمئنة: التي اطمأنت إلى وعد الله الذي وعد أهل الإيمان به في الدنيا من الكرامة في الآخرة فصدقت بذلك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: المصدقة الموقنة بأن الله ربها، المسلمة لأمره فيما هو فاعل بها، وهو قول مجاهد.
قال الطاهر بن عاشور: «والمطمئنة: اسم فاعل من (اطمأن) إذا كان هادئا غير مضطرب ولا منزعج، فيجوز أن يكون من سكون النفس بالتصديق لما جاء به القرآن دون تردد ولا اضطراب بال فيكون ثناء على هذه النفس، ويجوز أن يكون من هدوء النفس بدون خوف ولا فتنة في الآخرة».
قال الشيخ ابن سعدي: {يا أيتها لنفس المطمئنة} إلى ذكر الله، الساكنة إلى حبه، التي قرت عينها بربها.
فعلى المسلم أن يحرص على طلب الطمأنينة والتحلي بالوقار، والبعد عن القلق والنزق والطيش والعجلة، فعباد الرحمن سيماهم السكينة والوقار قال تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (الفرقان:63)، قال ابن كثير: هذه صفات عباد الله المؤمنين {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} أي: بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار، كما قال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} (الإسراء:37) فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح، ولا أشر ولا بطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع تصنعا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له».
ما أحوجنا اليوم إلى سكينة الإيمان، وطمأنينة اليقين، ووقار الصالحين، ومنح أنفسنا حظها من الراحة والخلوة بالذكر، وتلاوة القرآن، والانفراد بالدعاء والمناجاة، والإقلال من الجري وراء الشهوات، والاستكثار من الملذات، والمنافسة مع الآخرين، والتزاحم بالأكتاف وراء كل وهم وسراب بالثراء العاجل، وكل عرض زائل، فما أهلك الناس إلا الدينار والدرهم، وقد أخرج مسلم عَنْ عَبْدِاللّهِ بْنِ عَمْرِو، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللّهُ بِمَا آتَاهُ».
نسأل الله تعالى القناعة وغنى النفس وطمأنينة القلب.


اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 29-06-2024 12:32 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (93)


-يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب



ارتقى الإسلام بالفرد من الغرائز البهيمية المجردة إلى الصفات الإنسانية المكرمة بما شرعه الله تعالى من أحكام محكمة، وأخلاق رفيعة وآداب سنية كما قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم}، فغالب الحيوان لا يبالي أن يتواصل من أي أنثى من نوعه ولو كانت قريبة جدا له، إلا أن الإسلام أحاط المسلم بمحرمات من النساء، وجعل علاقته بهن قائمة على أساس الاحترام وقطع الرغبة فيهن.
لأنهن من محارمه كما قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}(النساء:23).
ومن خلال الآية يمكن تقسيم المحرمات من النساء في الشريعة إلى ثلاثة أنواع:
1- محرمات بالنسب: كالأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنات الأخ، وبنات الأخت.
2- محرمات بالصهر: كزوجة الابن، وزوجة الأب، وأم الزوجة، وبنت الزوجة المدخول بأمها.
3- محرمات بالرضاع.
والرضاع في الاصطلاح: هو وصول لبن الآدمية إلى جوف الآدمي بشروط مخصوصة.
وقد ورد في الرضاع نصوص شرعية عديدة تبين أحكامه وتقرر شروطه وضوابطه؛ منها الآية المتقدمة من سورة النساء، وعن ابن عباس قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة - أي: يتزوجها - فقال: «إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» أخرجه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها وإنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة قالت عائشة: يارسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أراه فلانا» - لعم حفصة من الرضاعة - فقالت عائشة: يا رسول الله لو كان فلان حيا - لعمها من الرضاعة - دخل عليّ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعم إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة».
وعن عائشة قالت أتاني عمي من الرضاعة أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليّ بعدما نزل الحجاب - وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة- فقلت: والله لا آذن لأفلح حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني ولكن أرضعتني امرأته، قالت عائشة فلما دخل رسول الله قلت: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس جاءني يستأذن عليّ فكرهت أن آذن له حتى أستأذنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ائذني له » وفي لفظ قال: «فليلج عليك عمك» قالت عائشة: إنما أرضعتني المرأة فقال: «إنه عمك فليلج عليك»، وفي لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تحتجبي منه فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب».
ولخطورة أمر الرضاع فقد ذكر الفقهاء له شروطا عديدة حتى يتحقق وجوده وتثبت آثاره:
- الشرط الأول: أن تكون المرضعة امرأة، فلا يتحقق الرضاع بسبب لبن البهيمة.
- الشرط الثاني: أن يكون الرضاع في العامين الأولين من عمر الطفل، فلا يحرم رضاع الكبير وهو ما كان بعد الحولين، وهو مذهب جمهور الفقهاء وكبار الصحابة كعمر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وذلك لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }(البقرة:233)، وقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام»، وكان رجل في سفر فولدت امرأته فاحتبس لبنها فجعل يمصه ويمجه فدخل حلقه، فأتى أبا موسى الأشعري فسأله فقال: حرمت عليك امرأتك، فأتى ابن مسعود فلم يحرم عليه امرأته وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشر العظم».
- الشرط الثالث: التيقن من وصول اللبن إلى جوف الطفل سواء أتم الرضاع عن طريق المصّ من الثدي، أو تم صب اللبن في إناء ثم سقيه للطفل وهو (الوجور)، أو عن طريق الأنف وهو (السعوط) أما إذا حصل شك في وصول اللبن إلى جوفه فلا يثبت التحريم.
- الشرط الرابع: أن يبلغ اللبن المقدار الذي ينشر المحرمية وهو خمس رضعات مشبعات وذلك لقول عائشة: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يتلى من القرآن».
ولابد أن تكون الرضعات متفرقات بحيث يفصل بينها زمن، وهو الأحوط وهو اختيار ابن القيم وابن سعدي وابن عثيمين فلو نقلته المرضع من ثدي لآخر فلا تعد هذه رضعة.
وإذا ثبت الرضاع بشروطه يترتب عليه مجموعة من الأحكام منها:
1- ثبوت الحرمة بالرضاع، فالرضاع يشترك مع النسب في حرمة النكاح، وجواز النظر، وإباحة الخلوة، وثبوت المحرمية، ويفترقان من حيث وجوب النفقة، وثبوت الميراث، وتحمل الدية، ووجوب صلة الرحم، قال النووي: «وأجمعت الأمة على ثبوتها بين الرضيع والمرضع وأنه يصير ابنا لها، يحرم عليه نكاحها أبدا، ويحل له النظر إليها والخلوة بها والمسافرة، ولا يترتب عليه أحكام الأمومة من كل وجه، فلا يتوارثان ولا يجب على واحد منهما نفقة الآخر، ولا ترد شهادته لها، ولا يعقل عنها (دفع الدية)، ولا يسقط القصاص عنها بقتله فهما كالأجنبيين في هذه الأحكام».
2-إذا كان للمرضع زوج فإنه يكون أبا لهذا الرضيع - ذكرا كان أم أنثى - لأنه صاحب اللبن قال ابن تيمية: «وصار الرجل الذي درّ اللبن بوطئه أبا لهذا المرتضع باتفاق الأئمة المشهورين» وهو مذهب الجمهورمن الصحابة والتابعين وذلك لحديث عائشة في قصة أفلح أخي أبي القعيس.
ولو كان لرجل امرأتان فأرضعت هذه طفلا وهذه طفلة كانا أخوين ولم يجز لأحدهما التزوج من الآخر باتفاق الأئمة الأربعة، وهذه المسألة سأل عنها ابن عباس فقال: «اللقاح واحد» يعني الرجل الذي وطئ المرأتين حتى درّ اللبن بسببه واحد.
3- تنتشر الحرمة بسبب الرضاع بين الرضيع وأصول المرضع وفروعها وحواشيها فجميع أقارب المرأة أقارب الرضيع من الرضاعة؛ فأولادها: إخوته.
وأولاد أولادها: أولاد إخوته. وآباؤها وأمهاتها: أجداده وجداته، وإخوانها وأخواتها: أخواله وخالاته، وكل ما سبق عليه حرام.
وأبناء إخوانها وأبناء أخواتها: أبناء أخواله وخالاته حلال عليها إن كان المرتضع أنثى.وبنات إخوانها وأخواتها: بنات أخواله وخالاته حلال عليه الزواج منهن إن كان المرتضع ذكرا. وهكذا بالنسبة لزوج المرأة في أصوله وفروعه وإخوانه وأخواته وأبنائهم وبناتهم.
4- الحرمة تنتاول الرضيع وأولاده فقط فهم بالنسبة للمرضعة وزوجها كأبنائهما الحقيقيين في الحرمة والمحرمية، أما إخوة المرتضع الحقيقيون أو من رضاع آخر فهم أجانب بالنسبة لهذه المرضعة وزوجها وأقاربهما، فيجوز لإخوة المرتضع الحقيقيين أن يتزوجوا من أبناء المرضعة سواء من هذا الزوج أوغيره الذين هم إخوة المرتضع بالرضاع، والعكس صحيح فيجوز لإخوة المرتضع من الرضاعة أن يتزوجوا من اخواته الحقيقيات حيث إن علاقة الرضاعة قاصرة على الرضيع وفروعه دون إخوته وبقية عائلته.
قال شيخ الإسلام: «لا فرق باتفاق المسلمين بين أولاد المرأة الذين رضعوا مع الطفل وبين من ولد لها قبل الرضاعة وبعد الرضاعة باتفاق المسلمين».
فهذه نبذة موجزة عما اشتملت عليه الكلمة النبوية الجامعة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» مما استخرجه العلماء منها من شروط وآثار، نسأل الله العلم النافع والعمل الصالح.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 30-06-2024 06:31 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (94)


أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا


يعجب المرء حين يتأمل أحوال الناس، فيجد بعضهم قد تمادى في ضلاله، وأوغل في عمايته، وغلا في جهالته، لا تجدي فيه النصيحة، ولا ينفع معه الوعظ، قد أعجب برأيه، وزين له سوء عمله، يظن أن ذلك من رجاحة العقل، وقوة الشخصية، وسداد الرأي، وما درى أن ذلك قد يكون عقوبة من الله تعالى على بعض سيئاته، ومجازاة له على سوء اعتقاده أو سوء عمله.
قال ابن القيم وهو يعدد بعض العقوبات التي يمكن أن يعاقب بها الله تعالى بعض عباده فذكر منها التزيين فقال: «وأما التزيين، فقال تعالى:{وكذلك زينا لكل أمة عملهم}، وقال: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء}، وقال: {وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون}؛ فأضاف التزيين إليه منه سبحانه خلقا ومشيئة، وحذف فاعله تارة، ونسبهُ إلى سببه ومن أجراه على يده تارة.
وهذا التزيين منه سبحانه حَسَنٌ، إذ هو ابتلاء واختبار لعبيده ليتميز المطيع منهم من العاصي، والمؤمن من الكافر، كما قال تعالى:{إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا}.»
وبين رحمه الله أن التزيين قد يكون من الشيطان بإذن الله تعالى كما قال سبحانه عنه:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
قال ابن القيم: فتزيينه سبحانه للعبد عملَه السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثار سيء العمل على حسنه، فإنه لابد أن يعرّفَه سبحانه السيء من الحسن، فإذا آثر القبيح، واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زيّنَه سبحانه له، وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا، وكل ظالم وفاجر وفاسق لابد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه، فربما رآه حسنا عقوبة له، فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه، وهو حجة الله عليه، فإذا تمادى في غيِّه وظلمه ذهب ذلك النور، فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم.
ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالة، وبالتعريف الأول، فتزيين الرب تعالى عدل، وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء وظلم، وهو السبب الخارج عن العبد، والسبب الداخل فيه حبه وبغضه وإعراضه، والرب سبحانه خالق الجميع، والجميع واقع بمشيئته وقدرته، ولو شاء لهدى خلقه أجمعين، والمعصوم من عصمه الله، والمخذول من خذله الله، {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.
وهذا الصنف من الناس قد أشار إليه القرآن الكريم مبينا حاله، ومنبها على سبب ضلاله، ومحذرا من مشابهته وسوء عاقبته، فقال تعالى:{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا}(فاطر:8)
قال الشيخ ابن سعدي: أفمن حسن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان فرآه حسنا جميلا, كمن هداه الله تعالى, فرأى الحسن حسنا والسيئ سيئا؟ فإن الله يضل من يشاء من عباده, ويهدي من يشاء, فلا تهلك نفسك حزنا على كفر هؤلاء الضالين, إن الله عليم بقبائحهم وسيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.
قال الشيخ ابن عاشور: «لما جرى تحذير الناس من غرور الشيطان وإيقاظهم إلى عداوته للنوع الإنساني، وتقسيم الناس إلى فريقين: فريق انطلت عليه مكائد الشيطان واغتروا بغروره ولم يناصبوه العداء، وفريق أخذوا حذرهم منه واحترسوا من كيده وتجنبوا السير في مسالكه.
ففرع على جميع ما تقدم قوله:{ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} فأشير إلى أن وقوعه في هذه الحالة ناشئ من تزيين الشيطان له سوء عمله، فالمزين للأعمال السيئة هو الشيطان قال تعالى: {وزين لهم الشيطان أعمالهم} فرأوا أعمالهم السيئة حسنة، فعكفوا عليها ولم يقبلوا فيه نصيحة ناصح ، ولا رسالة مرسل » باختصار .
وقال تعالى:{أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله}(محمد:14)
قال الشيخ ابن سعدي: أي: «لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه، علما وعملا قد علم الحق واتبعه، ورجا ما وعده الله لأهل الحق، كمن هو أعمى القلب، قد رفض الحق وأضله، واتبع هواه بغير هدى من الله، ومع ذلك يرى أن ما هو عليه من الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين، وما أعظم التفاوت بين الطائفتين، أهل الحق وأهل الغي.
وقال تعالى:{كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}(يونس:12)، قال الإمام الطبري: يقول:كما زين لهذا الإنسان الذي وصفنا صفته ، استمراره على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر،كذلك زين للذين أسرفوا في الكذب على الله وعلى أنبيائه، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به، ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك به.
وأخبر تعالى في أكثر من موضع أن الكافرين وقعوا في سوء أعمالهم وفساد عقائدهم واتباعهم للشيطان فقال تعالى:{زين للذين كفروا الحياة الدنيا}(البقرة:212)، وقال تعالى:{بل زين للذين كفروا مكرهم}(الرعد:33)،وقال تعالى:{كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}(الأنعام:122)قال الشيخ ابن سعدي: «فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم، ويزينها في قلوبهم، حتى استحسنوها ورأوها حقا. وصار ذلك عقيدة في قلوبهم، وصفة راسخة ملازمة لهم، فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح. وهؤلاء الذين في الظلمات يعمهون،وفي باطلهم يترددون، غير متساوين».
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: التزيين: جعل الشيء زينا أو الاحتجاج لكونه زينا؛ لأن التفعيل يأتي للجعل ويأتي للنسبة كالتعليم وكالتفسيق والتزكية ، والزين شدة الحسن .
وحذف فاعل التزيين؛ لأن المزين لهم أمور كثيرة: منها خلق بعض الأشياء حسنة بديعة كمحاسن الذوات والمناظر، ومنها إلقاء حسن بعض الأشياء في نفوسهم وهي غير حسنة كقتل النفس، ومنها إعراضهم عمن يدعوهم إلى الإقبال على الأمور النافعة حتى انحصرت هممهم في التوغل من المحاسن الظاهرة التي تحتها العار لو كان باديا، ومنها ارتياضهم على الانكباب على اللذات دون الفكر في المصالح، إلى غير ذلك من أمور يصلح كل منها أن يعد فاعلا للتزيين حقيقة أو عرفا ، فلأجل ذلك طوي ذكر هذا الفاعل تجنبا للإطالة .مختصرا
- ثم بين رحمه الله تعالى أن المراد من ذكر التزيين للكفار ذمهم والتحذير من خلقهم، ثم قال: وقد استقريت مواقع التزيين المذموم فحصرتها في ثلاثة أنواع :
- الأول: ما ليس بزين أصلا لا ذاتا ولا صفة؛ لأن جميعه ذم وأذى، ولكنه زين للناس بأوهام وخواطر شيطانية وتخييلات شعرية كالخمر . الثاني: ما هو زين حقيقة لكن له عواقب تجعله ضرا وأذى كالزنا. الثالث: ما هو زين لكنه يحف به ما يصيره ذميما كنجدة الظالم.
وقد بين لنا سبحانه سبيل النجاة من تزيين الشيطان وأتباعه وذلك بالإيمان بالله تعالى وإخلاص الدين له؛ اعتقادا وقولا وعملا، ظاهرا وباطنا فقال تعالى عن محاورة الشيطان لربه:{قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال هذا صراط علي مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}
قال الطبري: وعنى بقوله: {لأزينن لهم في الأرض} لأحسنن لهم معاصيك، ولأحببنها إليهم في الأرض{ولأغوينهم أجمعين} يقول: ولأضلنهم عن سبيل الرشاد {إلا عبادك منهم المخلصين} يقول: إلا من أخلصته بتوفيقك فهديته، فإن ذلك ممن لا سلطان لي عليه ولا طاقة لي به.
وقال البغوي: {إلا عبادك منهم المخلصين} المؤمنين الذين أخلصوا لك الطاعة والتوحيد، ومن فتح اللام، أي : من أخلصته بتوحيدك واصطفيته .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص والاتباع، ويحفظنا من الشيطان وتزيينه والدنيا وزخرفها.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 09-07-2024 06:53 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمة ضالة المؤمن (95)


- ولينوا بأيدي إخوانكم



صلاة الجماعة مظهر من مظاهر العبودية لله تعالى، وصورة جميلة من صور تآخي المسلمين وترابطهم؛ حيث يجتمعون خمس مرات كل يوم وليلة لأداء فريضة الصلاة، وينتظمون في صفوف متراصة تتحد حركاتهم خلف إمام واحد، وتتجه أجسادهم إلى قبلة واحدة، وتتعلق قلوبهم بإله واحد، فهو موقف عظيم وصورة مؤثرة لمن اعتبرها وتفكر فيها.
وينغص على تلك الصورة الجميلة أحيانا تصرفات بعض المسلمين، فالمرء يعاني أحيانا من صنفين من المصلين، الأول: المفرط في أحكام تسوية الصفوف جهلا أو تجاهلا، والثاني: الفظ الغليظ الذي يريد تطبيق السنة ولكن بصورة منفرة وطريقة مزعجة.
والمتأمل فيما ورد من الحث على تسوية الصفوف ترغيبا وترهيبا، يجد العلم والحلم، فيرى التوجيه النبوي الرفيق، والتطبيق العملي الأنيق؛ حيث يتجلى الحرص على تطبيق السنة بكل دقة، مع البعد عن إيذاء المصلين بدنيا ونفسيا، والتشويش عليهم بعدم المبالاة أو بالغلظة والفظاظة.
فعن ابن عمر أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا الصلاة، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله». أخرجه أبو داود
فقوله: «أقيموا الصفوف» أي: عدلوها وسووها، وقوله: «وحاذوا بين المناكب» أي: اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين موازيا لمنكب الآخر ومسامتا له فتكون المناكب والأعناق والأقدام على سمت واحد، وقوله: «وسدوا الخلل» أي: الفرجة في الصفوف وقوله: «ولينوا» أي: كونوا لينين هينين منقادين، وقوله: «بأيدي إخوانكم» أي: إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم، حتى يستوي الصف لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، قال أبو داود: «ومعنى «ولينوا بأيدي إخوانكم»: إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتى يدخل في الصف».
وقوله: «ولا تذروا» أي: لا تتركوا «فرجات الشيطان» أي: الجني والإنسي، وقوله: «ومن وصل صفا» أي: بالحضور فيه وسد الخلل منه «وصله الله» أي: برحمته «ومن قطعه» أي: بالغيبة ، أو بعدم السد ، أو بوضع شيء مانع «قطعه الله» أي: من رحمته الشاملة وعنايته الكاملة، وفيه تهديد شديد ووعيد بليغ.
وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الهيّن اللّين في تسوية الصفوف فقال: «خياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وما من خطوة أعظم أجرا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها».
قال الخطابي: معنى لين المنكب: لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها؛ لا يلتفت ولا يحاك بمنكبه منكب صاحبه، وقد يكون فيه وجه آخر وهو: أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف ليسد الخلل أو لضيق المكان، بل يمكنه من ذلك، ولا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف، ويتكاتف الجموع».
ولأهمية الأمر فقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم تسوية الصفوف من مكملات الصلاة، فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة».
فتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد، وقد يراد بتسويتها أيضا سد الفرج فيها ، بناء على التسوية المعنوية، ولا خلاف في أن تسويتها بالمعنى الأول والثاني أمر مطلوب .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على تطبيق الصحابة لهذه السنة بنفسه فيتفقد صفوفهم قبل الصلاة كما قال البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ناحية الصف ويسوي بين صدور القوم ومناكبهم ويقول: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول» رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه وصححه الألباني.
وقال النعمان بن بشير: «كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ, حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ, ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ, حَتَّى إذَا كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ, فَرَأَى رَجُلاً بَادِياً صَدْرُهُ, فَقَالَ: «عِبَادَ اللَّهِ, لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ».
قال النووي: قيل: معناه يمسخها ويحولها عن صورها لقوله صلى الله عليه وسلم : «يجعل الله تعالى صورته صورة حمار»، وقيل: يغير صفاتها، والأظهر - والله أعلم - أن معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما يقال تغير وجه فلان عليَّ أي ظهر لي من وجهه كراهة لي وتغير قلبه علي؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن.
وانظر إلى حرص الصحابة الكرام على حسن الامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم ، فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري»، وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه، وفي السنن قال النعمان: «فلقد رأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه».
قال ابن حجر: «وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته».
وأختم بنصيحة لمن يؤذي المصلين بمزاحمتهم في الصفوف المقدمة، ويتسبب بإضاعة خشوعهم لمضايقته لهم في الصف، أو يجر المصلي إلى جنبه بفظاظة وغلظة، أو يوسع لنفسه مكانا في الصف ولو ضيق على الآخرين، أهمس في أذنه قائلا: إذا أردت فضل الصف المقدم فاحرص على الحضور مبكرا، لأن التبكير مستحب، والتأخر مذموم فقد قال صلى الله عليه وسلم : «ولا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ». أي: لا يزال قوم يعتادون التأخر عن الصف الأول، أو عن الصفوف الأولى حتى يعاقبهم الله تعالى فيؤخرهم.
وقال الشيخ ابن عثيمين: «يخشى على الإنسان إذا عود نفسه التأخر في العبادة أن يبتلى بأن يؤخره الله عز وجل في جميع مواطن الخير».
وإذا أردت فضل الصف المقدم - وهو أمر مستحب - فلا تقع في الحرام أو المكروه لتحقيق ذلك المستحب، فإيذاء الناس ممنوع شرعا كما قال صلى الله عليه وسلم : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المسلمين»، وقال أيضا: «والله يكره أذى المؤمن».
قال الشيخ ابن عثيمين: «إيذاء المسلمين محرم، وأنواع الأذى كثيرة منها أن يؤذي جاره ، ومنها أن يؤذي صاحبه، ومنها أن يؤذي من كان في عمل من الأعمال - وإن لم يكن بينهم صداقة - بالمضايقة وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام، والواجب على المسلم الحذر منه».
وأي أذى أكثر من مضايقة المصلي حتى لا يخشع في صلاته ويظل يحصي الدقائق والثواني حتى يحرر نفسه من ذلك الضيق والأذى الذي سببه ذلك المتأخر ممن يريد أن ينال فضل المبكر.
فالمسلم يوازن بين الأمور، ويرجح ما كان أفضل وأقرب إلى الله دون تضييع حقوق الله تعالى ولا إيذاء الخلق، وسبيل ذلك بالتعلم والتفقه في الدين، وترك الأنانية، ومراعاة الآخرين، وبالله التوفيق.

اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 09-08-2024 11:11 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (96)


- كل بدعة ضلالة



لفظ (البدعة) من الألفاظ الشرعية التي وردت في النصوص الشرعية على وجه الذم لها والتحذير منها، مثلها في ذلك مثل لفظ (الكفر) و(الشرك) و(الفسق) و(النفاق) و(الظلم)، ولما كان واجب المسلم امتثال مقتضى النصوص الشرعية والانقياد لما دلت عليه من التكاليف الدينية؛ فعلا وتركا، ظاهرا وباطنا، علما وعملا، كانت دراسة البدع ومعرفة حقيقتها وأنواعها وقواعدها من أهم المطالب التي ينبغي لطلبة العلم والدعاة إلى الله تعالى العناية بها؛ لأن اجتناب البدع والتحذير منها متوقف على معرفتها والعلم بأنواعها ومراتبها، فالعلم قبل القول والعمل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقد عرّف شيخ الإسلام ابن تيمية (البدعة) بأنها ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات.
وذهب ابن رجب الحنبلي إلى أن المراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة.
وعرفها الشاطبي بقوله: «عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه».
دلت الأدلة الكثيرة على خطورة البدع وشناعة آثارها على المباشر لها خاصة، وعلى الدين والمجتمع عامة، ومن هذه الأدلة:
1- قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة: 3)، قال الإمام مالك: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا». وقال الشاطبي: «إن المستحسن للبدع يلزمه -عادة- أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد؛ فلا يكون لقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم} معنى يعتبر عنده».
2- قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأنعام: 153)، فعن مجاهد في قوله: { ولا تتبعوا السبل} قال: «البدع والشبهات».
3- وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}(آل عمران: 106)، قال ابن عباس: «تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة».
وأما من السنة المطهرة:
1- فقد أخرج الشيخان عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» وفي لفظ مسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ». قال ابن حجر: «هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعد الدين»، وقال الشاطبي: «وهذا الحديث عدّه العلماء ثلث الإسلام؛ لأنه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه السلام ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية».
2- وأخرج مسلم عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة». قال ابن حجر: «والمراد بقوله: «كل بدعة ضلالة» ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام».
3- وعن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة» أخرجه أبو داود والترمذي.
قال ابن حجر: «وقوله: «كل بدعة ضلالة» قاعدة شرعية كلية بمفهومها ومنطوقها، أما بمنطوقها فكأن يقال: حكم كذا بدعة، وكل بدعة ضلالة، فلا تكون من الشرع؛ لأن الشرع كله هدى».
4- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته». رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني.
وقد جاءت الآثار عن الصحابة والتابعين تحذر من البدعة وخطورتها:
1- عن عمر أنه خطب الناس فقال: «أيها الناس قد سنّت لكم السنن وفرضت الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا» وصفق بإحدى يديه على الأخرى.
2- عن ابن مسعود قال: «اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم»، وقال: «أيها الناس لا تبتدعوا ولا تنطعوا ولا تعمقوا وعليكم بالعتيق خذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون».
3- وعن ابن عمر قال: «كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة».
4- وقال رجل لابن عباس: أوصني. فقال: «عليك بتقوى الله والاستقامة اتبع ولا تبتدع»، وقال: «ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن».
5- وقال سفيان الثوري: «البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها».
6- وعن الحسن قال: «صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعدا».
قال ابن مسعود: «إياكم وما يحدث الناس من البدع! فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرة، ولكن الشيطان يحدث له بدعا حتى يخرج الإيمان من قلبه»، وقال ابن القيم: «أصل كل شر يعود إلى البدع».
وخطورة الابتداع ترجع لأمور كثيرة منها: أن المبتدع معاند للشرع ومشاق له: قال الشاطبي: «لأن الشارع قد عيّن لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه خاصة وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين،فالمبتدع رادّ لهذا كله، فإنه يزعم أن ثمّ طرقا أخرى، فليس ما حصره الشارع بمحصورولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع، وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين».
فعلى المسلم أن يعتقد أن الشريعة كاملة، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بيّن جميع الدين أصوله وفروعه كما قال صلى الله عليه وسلم : «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»، فيجتهد في طلب أحكامها وفهمها وامتثالها، وهي أبواب كثيرة وآداب عديدة، فهو أولى وأجدر من الاجتهاد في البدع والمحدثات المذمومة شرعا، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 21-08-2024 03:50 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(97)

- الدعاء هو العبادة (1-2)



العبودية معنى عظيم، ومفهوم كبير، أساسها الانقياد لله تعالى وحده حبا وخوفا ورجاء، ومظاهرها متعددة وصورها متنوعة، يجمعها التذلل لله تعالى وإظهار الافتقار إليه، والاعتماد عليه سبحانه وتعالى.
والدعاء من أبرز مظاهر العبودية؛ إذ تتجلى فيه الرغبة والرهبة، والمحبة والإخلاص، والخوف والرجاء، لذا أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدعاء وحثهم على الاستكثار منه فقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر: 60).
قال ابن كثير: «هذا من فضله -تبارك وتعالى- وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة»، كما كان سفيان الثوري يقول: «يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب».
وأخرج الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر: 60).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدع الله يغضب عليه»،؛ لأن كل الخلق مفتقرون إلى الله تعالى، محتاجون إلى فضله وإنعامه، فعدم السؤال يدل على الاستغناء عن فضل الله تعالى، وهو أمر لا يليق بالعبد الفقير الضعيف، فمن فعله استحق الغضب.
ويوضح الراغب الأصفهاني إطلاقات لفظ الدعاء في القرآن فيقول: «والدعاء يطلق بمعنى النداء، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}(الإسراء: 52). ويطلق بمعنى التسمية، تقول: دعوت ابني زيدا أي: سميته، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}(النور: 63)، حثا على تعظيمه، فلا يقال: يا محمد. والدعاء بمعنى السؤال، تقول: دعوت الله تعالى، أي: سألته، قال تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}(البقرة: 69). والدعاء إلى الشيء بمعنى الحث على قصده، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ}(يونس: 25). ويطلق الدعاء بمعنى القول، كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا}(الأعراف: 5)، أي: قولهم. والدعاء بمعنى العبادة، قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا}(الأنعام: 71).
وفي السنة يطلق الدعاء على أمور منها: الدعاء بمعنى النداء كقوله صلى الله عليه وسلم : «تداعت عليكم الأمم»، والدعاء بمعنى الإدعاء في النسب، كقوله: «ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه» وهل ينتسب الإنسان لغير أبيه؟ والدعاء بمعنى السؤال كقوله صلى الله عليه وسلم : «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات: لا إله إلا الله...» الحديث. وأما الدعاء في الاصطلاح: فهو الرغبة إلى الله عز وجل بالسؤال والتضرع في تحقيق المطلوب.
كما قال الطيبي: «هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له». وقال الخطابي: «حقيقة الدعاء استدعاء العبد من ربه العناية واستمداده إياه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إليه، والبراءة من الحول والقوة التي له، وهو سمة العبودية وإظهار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله، وإضافة الجود والكرم إليه».
أنواع الدعاء: قال العلامة عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: «كل ماورد في القرآن من الأمر بالدعاء والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الداعين- يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
وهذه قاعدة نافعة، فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة: دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء.
ويدل على عموم ذلك: قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60)، أي: أستجب طلبكم، وأتقبل عملكم ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر: 60)، فسمى ذلك عبادة، وذلك لأن الداعي دعاء المسألة يطلب مسؤوله بلسان المقال، والعابد يطلب من ربه القبول والثواب، ومغفرة ذنوبه بلسان الحال.
فلو سألت أي عابد مؤمن: ما قصدك بصلاتك وصيامك وحجك وأدائك لحقوق الله وحق الخلق؟ لكان قلب المؤمن ناطقاً قبل أن يجيبك لسانه -: بأن قصدي من ذلك رضى ربي ونيل ثوابه والسلامة من عقابه، ولهذا كانت النية شرطاً لصحة الأعمال وقبولها، وإثمارها الثمرة الطيبة في الدنيا والآخرة».
فالدعاء نوعان: دعاء المسألة ودعاء العبادة:
أما دعاء المسألة فهو: طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ودفعه، فإذا توجه العبد بسؤاله ودعائه إلى الله وحده: كمن يقول: اللهم ارحمني واغفرلي، فهذا من العبادة لله والتوحيد،
وأما إذا سأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يطلب من ميت أو غائب؛ أن يطعمه، أو ينصره، أو يغيثه، أو يشفي مرضه، فهذا شرك أكبر.

وأما سؤال غير الله فيما يقدر عليه المسؤول: كأن يطلب من حي قادر حاضر أن يطعمه، أو يعينه فهذا جائز. قال ابن سعدي : ومن هذا قوله سبحانه في قصة موسى عليه السلام {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}(القصص: 15).
وأما دعاء العبادة فهو: التقرب إلى الله بجميع أنواع العبادة، الظاهرة والباطنة، من الأقوال والأعمال، والنيات والتروك، التي تملأ القلوب بعظمة الله وجلاله؛ لأن المتعبد لله طالب بلسان مقاله ولسان حاله ربَّه قبول تلك العبادة، والإثابة عليها؛ فهي العبادة بمعناها الشامل،ومن أعظم ما يدخل فيها ذكر الله، وحمده، والثناء عليه-عز وجل- بما هو أهله.
فضل الدعاء: القيام بالدعاء أداء لعبادة عظيمة، وامتثال لأمر الله تعالى وطاعة لرسوله الكريم، ومع ذلك فله فضل عظيم من ذلك:
1- أن الدعاء أكرم شيء عند الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم : «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» أخرجه الترمذي، قال الشراح: «أي: ليس شيء أفضل عند الله،لأن فيه إظهارالفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته».
2- أن الدعاء يرد القدر بإذن الله، قال صلى الله عليه وسلم : «لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل يحرم الرزق بخطيئة يعملها» أخرجه ابن ماجه، وقال صلى الله عليه وسلم : «لن ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء عباد الله» أخرجه أحمد.
قال ابن القيم: «والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء؛ يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وله مع البلاء ثلاثة مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء؛ فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه، وإن كان ضعيفا.الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه. وقد روى الحاكم من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة».
ويبين ابن القيم دلالة الحديث وعدم معارضته للقدر السابق فيقول: «إن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن سببه، ولكن قدر سببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال.
وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء. كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب، ولما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم الأمة بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأفقههم في دينه؛ كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستنصر به - أي بالدعاء - على عدوه، وكان الدعاء أعظم جنديه، وكان يقول للصحابة: لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء. وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمتم الدعاء، فإن الإجابة معه».


اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 26-08-2024 06:13 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (98)

– الدعاء هو العبادة (2-2)



الدعاء له شروط وآداب حتى يكون صحيحا حريا بالإجابة، وقد ذكر العلماء هذه الشروط أخذا من النصوص الشرعية والقواعد الكلية، فمن هذه الشروط:

1- ألا يدعوَ إلا الله عز وجل، قال الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}(البينة: 5)، وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» رواه الترمذي، والدعاء هو العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فالإخلاص شرط لقبوله.

2- تجنب الاستعجال، فإنه من آفات الدعاء التي تمنع قبول الدعاء، وفي الحديث: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي». متفق عليه، وفي لفظ مسلم: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يتعجل. قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء».
3- أن لا يكون في الدعاء إثم ولا قطيعة كما في الحديث السابق: «يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم».
4- حسن الظن بالله قال صلى الله عليه وسلم : «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي». متفق عليه ويوضحه حديث أبي هريرة فيقول النبي[: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» رواه الترمذي وحسنه الألباني .
5- حضور القلب كما قال صلى الله عليه وسلم : «واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب لاه» رواه الترمذي وحسنه الألباني.
-6 إطابة المأكل قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(المائدة: 27)، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : «أن من موانع إجابة الدعاء أكل الحرام؛ ففي الحديث المشهور ذكر صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذيَ بالحرام فأني يستجاب لذلك»؟ رواه مسلم .
قال ابن القيم: «وكذلك أكل الحرام يبطل قوته – يعني الدعاء – ويضعفها».
-7 تجنب الاعتداء في الدعاء فإنه -سبحانه وتعالى- لا يحب الاعتداء في الدعاء قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(الأعراف: 55)، ومن الاعتداء أن يسأل ما لا يحل له كمنازل الأنبياء ، أو يسأل شيئا محرما.
وأما آداب الدعاء فهي عديدة منها:
1- أن يسأل اللهَ تعالى بأسمائه الحسنى، قال الله تعالى{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }(الأعراف: 180).
2- الثناء على الله تعالى قبل الدعاء بما هو أهله، فعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدْ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ، ثُمَّ ادْعُهُ» رواه الترمذي وفي رواية له: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ»، قَالَ : ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «أَيُّهَا الْمُصَلِّي، ادْعُ تُجَبْ».
3- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كل دعاء محجوب حتى تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم » رواه الطبراني في «الأوسط» وصححه الشيخ الألباني.
4- استقبال القبلة، فعن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ» الحديث أخرجه مسلم.
قال النووي: «فِيهِ اِسْتِحْبَاب اِسْتِقْبَال الْقِبْلَة فِي الدُّعَاء ، وَرَفْع الْيَدَيْنِ فِيهِ».
5- رفع اليدين، فعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا». رواه أبو داود، وصححه الشيخ الألباني.
ويكون باطن الكف إلى السماء على صفة الطالب المتذلل الفقير، فعن مَالِكِ بْنَ يَسَارٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا». رواه أبو داود صححه الشيخ الألباني.
وهل يضم يديه عند رفعهما أو يجعل بينهما فرجة ؟ نص الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في «الشرح الممتع» أنها تكون مضمومة. ونص كلامه: «وأما التفريج والمباعدة بينهما فلا أعلم له أصلا لا في السنة ولا في كلام العلماء».
6- الجزم فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّ اللهَ لا مُكْرِهَ لَهُ» متفق عليه.
7 - التضرع والخشوع والرغبة والرهبة، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}(الأعراف: 55) وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}(الأنبياء: 90).
8- الدعاء ثلاثاً، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه في حديث طويل أنه قَالَ: وَكَانَ - أي النبي صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاثًا، وَإِذَا سأَلَ سَأَلَ ثَلاثًا».
9- إخفاء الدعاء وعدم الجهر به، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}(الأعراف: 55)، وقال الله تعالى عن عبده زكريا عليه السلام :{إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}(مريم: 3). قال ابن مفلح: «يكره رفع الصوت بالدعاء مطلقا، قال المروزي سمعت أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد - يقول: ينبغي أن يسرَّ دعاءه لقوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلً}(الإسراء:110) قال: هذا الدعاء».
وعلى المسلم أن يحذر أمورا منها الدعاء على الأهل والمال والنفس، فعن جابرقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم» رواه مسلم.
ومنها تكلّف السجع في الدعاء، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعلون إلا ذلك». يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب - أخرجه البخاري.
فهذه بعض شروط وآداب الدعاء، نسأل الله تعالى أن يوفقنا للدعاء ولا يحرمنا الإجابة، إنه سميع مجيب.


اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 16-09-2024 11:21 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(99)

- المسجد بيت كل تقي



يشغل المسجد مكانا كبيرا في حياة المسلمين، ولهذا تهفو أرواحهم له كلما خرجوا منه حتى يعودوا إليه، ويحرص المغتربون في بلاد غير المسلمين على بناء المساجد أو تخصيص الأماكن المناسبة واتخاذها مساجد لتكون المحضن الرباني لإقامة الشعائر، والحفاظ على هويتهم الإسلامية من الضياع والذوبان؛ كبارا وصغارا؛ رجالا ونساء.
فالمسجد مؤسسة كبيرة في المجتمع المسلم، لها وظائف عديدة، ولهذا كان من أول الأعمال التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو بناء المسجد ليكون نواة المجتمع، ومنه تنطلق كل أنشطة المسلمين.
والمسجد في الشرع له إطلاقان:
- الإطلاق العام: وهو أن المسجد كل موضع طاهر من الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم : «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»، وهذا من خصائص الأمة الإسلامية.
- الإطلاق الخاص: وهو أن المسجد هو المكان المهيأ للصلوات الخمس، وبذلك فهو يختلف عن المصلى المعد في الصحراء لصلاة العيد والاستسقاء.
وقد وردت نصوص عديدة في الحث على بناء المساجد وصيانتها: قال الله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}(النور: 36)، قال الزركشي:«أي تبنى»، وقال ابن عباس: «المساجد بيوت الله، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض».
وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(التوبة: 18).
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا مِنْ مَالِهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ». أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني .
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ». أخرجه التِّرْمِذِي.
وهذا الأجر يحصل ولو كان مقدار البناء صغيرا أو كان نصيب الفرد من مجموع البناء يسيرا، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا في الْجَنَّةِ». أخرجه أحمد، ومفحص القطاة: الموضع الذي تزيل عنه التراب لتضع بيضها فيه، قال الشوكاني: «والتنكير في مسجد للشيوع؛ فيدخل فيه الكبير والصغير».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب»، وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ:« أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا» أخرجهما أحمد.
ولما بال الأعرابي في المسجد أمر صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء ـ أي دلو ـ فأهريق عليه وقال للأعرابي: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن». أخرجه مسلم.
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى الْقَذَاةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ آيَةٍ، أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا». أخرجه أبو داود والتِّرْمِذِيّ.
وعدّ البصاق في المسجد خطيئة فقال صلى الله عليه وسلم : «البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها».أخرجه البخاري.
عَنْ أَبِي ذَرٍّأن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَىَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا، الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا، النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ». أخرجه مسلم.
وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب عليَّ خطيئة الليلة.
وقد رغب الشرع في لزوم المساجد وعمارتها بالطاعات، فقال صلى الله عليه وسلم : «أحب البلاد إلى الله ـ أي المواضع ـ مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» أخرجه مسلم.
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة، والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة» أخرجه الطبراني وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر، إلا تبشبش الله تعالى إليه، كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم» أخرجه ابن ماجه.
وقال صلى الله عليه وسلم : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: - فذكر منهم - ورجل قلبه معلق في المساجد».
وعمار المساجد هم جيران الله تبارك وتعالى فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله لينادي يوم القيامة: أين جيراني؟ أين جيراني؟ قال: فتقول الملائكة: ربنا ومن ينبغي أن يجاورك؟ فيقول: أين عمار المساجد؟». (السلسلة الصحيحة 6/512 رقم 2728).
و ضمن الله تعالى لمن عَمَرَ مساجد الله إن عاشوا رُزِقوا وكُفوا، وإن ماتوا أدخلهم الله الجنة، فعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة كلهم ضامن على الله إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلَم, فهو ضامن على الله، ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله».
والمسجد مرفق مهم في حياة المسلمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكانت مواضع الأئمة، ومجامع الأمة(المساجد)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوى، ففيه الصلاة والقراءة والذكر، وتعليم العلم والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات، تأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم».
وللمسجد وظيفة دينية وتربوية، فهو مكان العبادة كصلاة الجمعة والجماعة كما قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}(البقرة: 43)، وهم الجماعة، وقال عن يوم الجمعة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}(الجمعة: 9)، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحضور صلاة الجماعة فقال: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر»، وهمّ بتحريق بيوت المتخلفين عن صلاة الجمعة والجماعة لما للصلاة من أهمية كبرى في حياة المسلم.
وللمسجد وظيفة علمية ثقافية، فهو مكان العلم والتعليم، فالمسجد كان أول مدرسة لتعليم الكبار والصغار؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أصول الدين وفروعه في خطب الجمعة والعيد والاستسقاء والكسوف والخسوف، قال ابن مسعود: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الناس كل خميس، فجعل لهم أياما معلومة لبعض المواعظ.
وكان يسهر أحيانا معهم في طلب العلم في المسجد، فعن ابن عمر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدا» أخرجه البخاري.
وحث الناس على الذهاب للمسجد للتعلم فقال: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته»، وقال: «من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة الماجهدين في سبيل الله» أخرجه ابن ماجه.
وللمسجد وظيفة اجتماعية، فهو مكان يجتمع فيه المسلمون خمس مرات في اليوم، يتعارفون، ويتآلفون، ويقومون بحق بعضهم بعضا من عيادة المريض وإجابة الدعوة واتباع الجنائز ومساعدة المحتاج.
ولهذ فإن السعي إلى المسجد قربة عظيمة قال صلى الله عليه وسلم : «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط».
والمكث في المساجد من الأعمال المحببة إلى الله تعالى، فعن عبدالله بن عمرو قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعًا قد حفزه النفس، وقد حسر عن ركبتيه، فقال: «أبشروا، هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى».
فعلى المسلم أن يحرص على عمارة المساجد بالصلاة والدعاء والذكر وطلب العلم، ولا يتركها مهجورة، فهي خير البقاع وأحبها إلى الله تعالى، وهي أولى من بقية المجالس الدنيوية، والأسواق الملهية، والسعيد من وفقه الله تعالى للطاعة وثبته عليها.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 28-09-2024 05:32 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(100)

- {إنا كل شيء خلقناه بقـدر} (1-2)



الإيمان بالقدر له ارتباط كبير بالإيمان بالله وصفاته وأفعاله تعالى، وله ارتباط بعلم الله وإرادته ومشيئته وخلقه


وردت نصوص كثيرة تؤكد على أن الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة التي لا يصح إيمان المسلم حتى يقر بها، منها قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر: 49)، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}(الفرقان: 2)، وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}(الأعلى: 2 - 3).
ومن السنة المطهرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال: ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره».
عن ابن عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
: «كل شيء بقدر حتى العجز. أي: «الخيبة والخسران»، والكَيْس. أي: الجد في طاعة الرحمن».

عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء».

وعن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: دخلت على أبي وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني؛ فلما أجلسوه، قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «أول ما خلق الله القلم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة...» يا بني إن مِتَ ولست على ذلك دخلتَ النار.

فما معنى الإيمان بالقدر؟
القدر في اللغة: من الفعل ( قدر ) الشيء إذا أحاط بقدره. وفي الاصطلاح: هو ما قدره الله سبحانه وتعالى في الأزل أن يكون في خلقه بناء على علمه السابق بذلك.
هل هناك الفرق بين القضاء والقدر؟
لم يرد في النصوص الشرعية ذكر القضاء والقدر مجتمعين، بل ورد كل منهما على انفراد، مثل قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر: 49)، وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(غافر: 68).
وأما القضاء فهو في اللغة: الحكم والفصل.وفي الاصطلاح: هو ما قضى به الله تعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير.
والفرق كما قال بعض العلماء: أن القدر هو تقدير الشيء قبل قضائه، والقضاء هو الفراغ من ذلك الشيء.مثاله ولله المثل الأعلى: أن القدر مثل تقدير الخياط للثوب قبل أن يفصله، يقدره فيزيد وينقص، فإذا فصله وخاطه فقد قضاه وفرغ منه، فالتقدير سابق للقضاء، ولله المثل الأعلى.
ما حكم الإيمان بالقدر؟
الإيمان بالقدر واجب، وهو أحد أركان الإيمان الستة؛ كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم
لجبريل حين قال: ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره».

قال الشيخ ابن عثيمين: «وللإيمان بالقدر فوائد؛ منها:
أولاً: أنه من تمام الإيمان، ولا يتم الإيمان إلا بذلك.
ثانياً: أنه من تمام الإيمان بالربوبية؛ لأن قدر الله من أفعاله.
ثالثاً: رد الإنسان أموره إلى ربه؛ لأنه إذا علم أن كل شيء بقضائه وقدره؛ فإنه سيرجع إلى الله في دفع الضراء ورفعها، ويضيف السراء إلى الله، ويعرف أنها من فضل الله عليه.
رابعاً: أن الإنسان يعرف قدر نفسه، ولا يفخر إذا فعل الخير.
خامسا: تهون المصائب على العبد؛ لأن الإنسان إذا علم أنها من عند الله؛ هانت عليه المصيبة؛ كما قال تعالى: {ٹٹٹٹﭪُ}(التغابن: 11)؛ قال علقمة رحمه الله: «هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم».
سادساً: إضافة النعم إلى مُسديها؛ لأنك إذا لم تؤمن بالقدر؛ أضفت النعم إلى من باشر الإنعام، وهذا يوجد كثيراً في الذين يتزلفون إلى الملوك والأمراء والوزراء؛ فإذا أصابوا منهم ما يريدون؛ جعلوا الفضل إليهم، ونسوا فضل الخالق سبحانه.
صحيح أنه يجب على الإنسان أن يشكر الناس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من صنع إليكم معروفاً؛ فكافئوه»، ولكن يعلم أن الأصل كل الأصل هو فضل الله عز وجل جعله على يد هذا الرجل.
سابعاً: أن الإنسان يعرف به حكمة الله عز وجل؛ لأنه إذا نظر في هذا الكون وما يحدث فيه من تغيرات باهرة؛ عرف بهذا حكمة الله عز وجل؛ بخلاف من نسي القضاء والقدر؛ فإنه لا يستفيد هذه الفائدة.
كيف يتحقق الإيمان بالقدر؟
قبل ذكر كيفية الإيمان بالقدر لابد من ذكر أمور مهمة:
الأول: القدر سر الله عز وجل:
سأل رجل علي بن أبي طالب عن القدر قال له: «طريق مظلم فلا تسلكه»، قال: «أخبرني عن القدر»، قال: «بحر عميق فلا تلجه»، قال: أخبرني عن القدر قال: «سر الله فلا تكلفه».
ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد أخفى علم القدر عن خلقه فلم يطلع عليه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن هو دونهم أولى بالجهل بالقدر، فعلى المسلم أن يؤمن به ويسلم لمقادير الله ولا يتعمق في البحث فيه.
الثاني: لابد من متابعة النصوص الشرعية في باب القدر والتوقف عندها:
القدر من علم الغيب، ولا يستطيع الإنسان الخوض في الغيب بعقله دون الاستعانة بالوحي (القرآن والسنة الصحيحة)؛ حتى يعرف الحق والصواب في هذا الموضوع كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(الجن: 26 - 27)، فسبيل المسلم في هذا الموضوع اتباع النصوص الشرعية ولا يستخدم القياس العقلي؛ لأن العقل لا يقدر على الإحاطة بهذا العلم إلا من طريق الوحي، ولهذا نهى النبي
صلى الله عليه وسلم
عن الخوض في القدر بغير هداية من الوحي، فعن ابن عمرو أن النبي
صلى الله عليه وسلم
خرج ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، فكأنما تفقأ في وجهه حَبُّ الرمان من الغضب فقال لهم: «ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم»، وقال
صلى الله عليه وسلم
: «إذا ذكر القدر فأمسكوا».

الثالث: إحسان الظن بالله تعالى:
الإيمان بالقدر له ارتباط كبير بالإيمان بالله وصفاته وأفعاله تعالى، وله ارتباط بعلم الله وإرادته ومشيئته وخلقه، ولهذا يجب على المسلم أن يعظم الله سبحانه وينزهه عن الجهل والظلم والعبث، فعلى المسلم أن يتذكر أن الله تعالى له الكمال المطلق، وله العلم الكامل والعدل الكامل والحكمة الكاملة، فالله تعالى لا يجهل، ولا يظلم، ولا يعبث.
الرابع: تكوين الفهم الشامل من خلال النصوص الشرعية:
النصوص الشرعية من القرآن والسنة ذكرت كيفية الإيمان بالقدر ذكرا متكاملا في نصوص متفرقة، فلابد من جمع النصوص حتى نفهم القدر فهما شاملا لا يتناقض، أما الاعتماد على بعض النصوص وإهمال الباقي فإنه يعطي فهما ناقصا وحكما خطأ، وهذا ما وقع فيه بعض المذاهب المنحرفة في باب القدر.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 28-09-2024 05:33 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(101)
{ إنا كل شيء خلقناه بقـدر} (2-2)


والإيمان بالقدر يتحقق بالإيمان بأربعة أمور:
الأول: الإيمان بعلم الله الشامل:
يؤمن المسلم بأن الله تعالى يعلم كل شيء، يعلم ما كان وما يكون وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الموجودات والممكنات والمعدومات والمستحيلات، ويعلم كل شيء عن خلقه قبل أن يخلقهم، يعلم أعمالهم وأرزاقهم ومصيرهم في الجنة أم في النار، ومن الأدلة على ذلك:
قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(الأنعام: 59). وآيات كثيرة تقرر أن الله تعالى عليم قد وسع كل شيء علما ولا يخرج عن علمه شيء مطلقا.
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(الأنعام: 27 - 28) ولا أحد يعلم ذلك إلا الله وحده سبحانه.
الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى كتب كل شيء:
يؤمن المسلم بأن الله تعالى قد كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء، قال تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍﮆ}(الأنعام: 38)، وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(يس: 12)، وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}(القمر: 52 - 53)، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا}(الحديد: 22).
وفي مسلم عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة». قال: «وكان عرشه على الماء».
وقال صلى الله عليه وسلم : «إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» أخرجه أبو داود.
تنبيه: الكتابة هنا لا تعني الإجبار على الأعمال، وإنما هي كتابة علم.
بمعنى أن الله تعالى علم ما سيكون إلى يوم القيامة فكتب هذا العلم، وعلم الله تعالى صادق وشامل لا يخطئ ولا يغيب عنه شيء، كما أن علمه سبحانه منه ما هو إجباري على الإنسان كولادته وحياته وصفاته ومرضه ونحو ذلك مما لا دخل للإنسان به، ومنه ما يتعلق بالأمور الاختيارية التي يفعلها الإنسان بمحض إرادته كشربه وأكله وعبادته أو معصيته، فكل هذا مما كتبه الله تعالى ولا يفهم من ذلك الإجبار بل كتب الله تعالى كل ما سيجري على الإنسان من أمور إجبارية واختيارية.
الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة:
دلت النصوص الكثيرة على أن كل شيء إنما يحدث بمشيئة الله تعالى، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}(القصص: 68)، وقال سبحانه: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(آل عمران: 40)، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ }(آل عمران: 6)، وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ}(النساء: 90)، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}(الأنعام: 112).
تنبيه: ضرورة التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية:
يظن بعض الناس أن معنى لفظ الإرادة والمشيئة واحد في كل المواضع التي يردان فيها في النصوص الشرعية، وأن ذلك يتضمن رضا الله ومحبته، وهذا غير صحيح، بل دلت النصوص الشرعية على أن إرادة الله تعالى نوعان؛ إرادة كونية، وإرادة دينية، فعدم التمييز بينهما يوقع لبسا في الفهم وخطأ في الحكم؛ لذا لابد من التفريق بينهما كما سيأتي:
أولاً: الإرادة الكونية القدرية:
وهي فعله سبحانه، وهي إرادة شاملة لجميع المخلوقات، فلا يخرج شيء عنها، وهذه الإرادة لا تتخلف؛ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس: 82)، وقال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(الحج: 14).
وهذه الإرادة لا علاقة لها بالمحبة، فقد يريد الله تعالى أشياء لا يحبها، لكنه أذن أن تقع في ملكه بمشيئته وإرادته مثل وجود إبليس والشياطين والكفر والكفار ونحوها من الشرور والأفات، قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(الزمر: 7) وقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}(البقرة: 205)، والكفر والفساد واقعان كما هو مشاهد، فقد أذن الله بوقوع ذلك وهو لا يحبه لحكمة يعلمها سبحانه.
ثانياً: الإرادة الشرعية الدينية:
وهي أمره ونهيه تعالى، وهذه الإرادة متعلقة بمحبته، فما أراده شرعا فهو يحبه، وما نهى عنه فهو يكرهه، قال تعالى: {يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة: 185)، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْﭤ}(النساء: 28).
وهذه الإرادة قد تتخلف ولا تقع، فقد أمر الله تعالى الناس بالإسلام فمنهم من أسلم ومنهم من كفر، وهكذا الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي منهم من استجاب ومنهم من عصى، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(التغابن: 2).
تنبيه: تعرف إرادة الله تعالى بخبره أو بوقوعها، أما قبل ذلك فلا يمكن معرفة ذلك.
يزعم بعض الناس أن هذه إرادة الله تعالى، والحق أن إرادة الله تعالى غيب اختص سبحانه بعلمه، وإنما تعلم إرادته بخبره في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتعلم كذلك إذا وقعت، فنعلم أن الله تعالى أراد كذا أو لم يرده، وليس قبل ذلك لأنه يكون من القول على الله بغير علم.
الرابع: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء:
يؤمن المسلم بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ولا خالق غيره، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}(الزمر: 62)، { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}(الفرقان: 2).
وكلمة الخلق تأتي مرة بمعنى الإيجاد كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر: 49)، وتأتي بمعنى التقدير كما قال تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}(العنكبوت: 17) أي تقدرونه وتهيئونه.
والله خالق العباد وخالق أفعالهم، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(الصافات: 96)، ومع أن الله تعالى خالق كل شيء فإن للعبد إرادة ومشيئة وقدرة بها يفعل قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا}(النبأ: 39)، وقال تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}(البقرة: 223)، وأثبت للعبد قدرة كما قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}(التغابن: 16)، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﯤ}(البقرة: 286).
ومشيئة العبد وقدرته ليست مطلقة وإنما هي تابعة لمشيئة الله تعالى وقدرته، كما قال سبحانه: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}(التكوير: 28 - 29).
وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد، فالعبد هو الذي يوصف بفعله، فهو المؤمن والكافر، وهو البر والفاجر، وهو المصلي والصائم، والله خلقه وخلق فعله؛ لأنه هو الذي خلق فيه القدرة والإرادة اللتين بهما يفعل، وخالق السبب التام خالق للمسبب والنتيجة.
ومع ذلك فالله تعالى أمد المؤمنين بأسباب وألطاف وإعانات متنوعة، وصرف عنهم الموانع كما قال صلى الله عليه وسلم : «أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة»، وكذلك خذل الفاسقين ووكلهم إلى أنفسهم؛ لأنهم أعرضوا وتولوا فولاهم ما تولوا.
والاحتجاج بالقدر على الشرك والمعاصي فعل الكفار والشيطان، كما قال تعالى عن إبليس أنه احتج بالقدر على معصيته: {قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}(الأعراف: 16). وقال تعالى عن حجة المشركين في عدم اتباع المرسلين: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴿148﴾}(الأنعام: 148).
وإنما يحتج بالقدر عند المصائب كما قال صلى الله عليه وسلم : «وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» أخرجه مسلم.
والمطلوب من المسلم العمل الصالح والأخذ بأسباب النجاة، وعدم الاتكال على القدر أو الاحتجاج به؛ وذلك لعدم علمه به، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو الجنة» فقال رجل من القوم ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: «لا، اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ: { فأما من أعطى وأتقى}(الليل: 5) الآية وفى لفظ لمسلم «فكل ميسر لما خلق له». قال ابن القيم: «النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلي أمرين هما سببا السعادة: الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر»، وقال: «والنبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة وقد تقدم قوله: “احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» وإن العاجز من لم يتسع للأمرين». ونختم هنا بسؤال وهو هل يجب أن يرضى العبد بالقدر؟ والجواب أنه لابد من التفصيل كما ذكره ابن القيم في كتابه النفيس شفاء العليل:
أولاً: القدر صفة الله تعالى، علمه وكتابته وإرادته وقدرته وخلقه فهذا من تمام الإيمان بالله ربا وإلها ومالكا ومدبرا، فيجب الرضا به.
ثانياً:القدر؛ حيث المقدر والمقضي فهو أنواع:
النوع الأول: المقدر الديني وهو شرع الله وأمره الذي قضى به وحكم به، فهذا يجب الرضا به؛ لأنه من لوازم الإسلام كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا}(الليل: 3). فإذا رضيه الله لنا فيجب علينا أن نرضى به، وقال صلى الله عليه وسلم : «من قال: رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً؛ وجبت له الجنة».
النوع الثاني: المقدر الكوني وهو فعل الله تعالى وخلقه الذي قضى أن يقع في الكون، وهو قسمان:
- الأول: ما لا يجوز الرضا به: وهو المعايب والذنوب التي يكرهها الله، فالمسلم يكره الكفر والبدع والمعاصي والكفار والفساق والظلمة، وإن كانت بقدر الله وقضائه، ولهذا شرع الله تعالى إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتغيير هذه المنكرات والمفاسد.
- الثاني: ما يستحب الرضا به: وهو المصائب والأمور التي يكرهها الإنسان كالأمراض والموت ونحوها، فالواجب هو عدم التسخط وعدم الاعتراض على قدر الله، أما الرضا فهو مقام أعلى فيستحب ولا يجب.
ولو سأل سائل:كيف يرضى العبد بالمصائب مع كرهه لها؟
فالجواب أن الشيء قد يكون محبوبا من جهة ومكروها من جهة أخرى مثل: شرب الدواء المر فالمريض يكره الدواء لأنه مر، ويرضى به لأنه محتاج إليه، ومثله صوم اليوم الحارفالمسلم يكره الجوع والعطش والحر، ويرضى به لما فيه من الأجر.




اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابوالوليد المسلم 30-09-2024 08:44 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(102)

- داووا مرضاكم بالصدقة



لا يعني التداوي بالصدقة إهمال بقية الوسائل من الاستشفاء بالقرآن والدعاء والرقية الشرعية، والأخذ بالأسباب المادية من الأدوية وغيرها


يستغرب بعض الناس عندما يسمع هذا الحديث: «داووا مرضاكم بالصدقة»، ويتساءل عن المناسبة بين الصدقة وهي عبادة مالية لها أجر في الآخرة، والشفاء وهو أمر حسي يتعلق بالأبدان في الدنيا.
وقبل إزالة الإشكال، ودفع الالتباس لابد من بيان حقيقة شرعية وهي علاقة الأسباب بالمسببات، وارتباط الوسائل بالنتائج، والموقف الشرعي من ذلك.
دل القرآن الكريم على أن كل شيء يحدث بسبب، فربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها قانون عام شامل لكل ما في العالم، ولكل ما يحصل للإنسان في الدنيا والآخرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات».
والأسباب التي تؤدي إلى مسبباتها ونتائجها قد تكون مادية عادية، وقد تكون معنوية روحية.
فالأسباب المادية العادية هي التي عرف كونها سببا بالتجارب وتكرار نشوء أشياء عن أخرى، فحكم بأنها مسببة عنها عادة بتقدير الله لا بنفسها استقلالا؛ مثل حرث الأرض وسقيها وزرعها طلبا للحبوب والثمار، وكالأدوية سبب لعلاج الأمراض، فهذه أسباب عادية ينشأ عنها مسبباتها بتقدير من الله، فإذا وجد السبب التام وانتفت الموانع ترتب عليه مسببه (نتيجته) بإذن الله وتقديره لا استقلالا.
فمن الأسباب المادية قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } (البقرة:22)، فنزول المطر سبب بإذن الله تعالى لخروج النبات والزروع من الأرض، وقال تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} (النحل:72)، فالزواج والوطء سبب لحصول الأولاد والذرية بإذن الله تعالى، وهكذا بقية الأسباب التي يباشرها الناس لتحصيل مصالحهم.
أما الأسباب المعنوية الروحية فمصدر معرفتها الشرع، كالرقى والأذكار الشرعية، واللجوء إلى الله وصدق التوكل عليه، والدعاء لتفريج كربة وشفاء مرض، وغير ذلك من الشدائد، قال ابن القيم: «ومن أعظم العلاج فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع إلى الله والتوبة، وتأثيره أعظم من الأدوية، لكن بحسب استعداد النفس وقبولها».
فهذه الأسباب المعنوية قد وردت الأدلة بِعَدِّها أسبابا لجلب نفع ودفع ضر، فمن الأسباب المعنوية قوله تعالى: { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا} (الأنفال:29)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطلاق:2)، وقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌﭳ} (إبراهيم:7)، وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {فقُلْتُ اسْتغْفِرُوا ربّكُمْ إِنّهُ كان غفّارا (10) يُرْسِلِ السّماء عليْكُمْ مِدْرارا (11) ويُمْدِدْكُمْ بِأمْوالٍ وبنِين ويجْعلْ لكُمْ جنّاتٍ ويجْعلْ لكُمْ أنْهارا} (نوح:10-12)، ونحوها من آيات تدل على أن الطاعة سبب لحصول الرزق والبركة في الدنيا قبل الآخرة.
وكذلك فإن الأحكام الأخروية مرتبطة بالأسباب؛ فدخول الجنة متوقف على الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزخرف:72)، ودخول النار بسبب الكفر والمعاصي كما قال تعالى: {وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْد بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (السجدة:14).
والأحكام الشرعية الدنيوية مرتبطة بالأسباب أيضا قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (المائدة:38)، وقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (البقرة:178)، مما يدل على أن أفعال العباد سبب لثبوت الأحكام الشرعية في الدنيا.
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الدواء وهو سبب للشفاء بإذن الله فقال صلى الله عليه وسلم : «تداووا عباد الله ولا تداووا بحرام»، وسأله بعض الصحابة: «أرأيت رقى نسترقي بها وتقى نتقي بها وأدوية نتداوى بها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله».
ومن هنا يأتي هذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «داووا مرضاكم بالصدقة» وهو حديث حسنه الألباني في صحيح الجامع، وهو يدل على أن الصدقة سبب معنوي لشفاء الأمراض، قال المناوي: «إن الصدقة دواء منجح، ونبه بها على أخواتها من القرب كعتق وإغاثة لهفان وإعانة مكروب»، وقال أيضا: «وهذا هو الطب الحقيقي الذي لا يخطئ، ولكن لا يظهر نفعه إلا لمن رق حجابه، وكمل استعداده ولطفت بشريته».
وقال الإمام ابن القيم: «فإن للصدقة تأثيرا عجيبا في دفع البلاء، ولو كانت من فاجر أو ظالم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه».
وقال أيضا: «هاهنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة، والدعاء، والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه، وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمور كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية».
والصدقة سبب للشفاء كما ورد في السنة، لكن لكل سبب شروط وموانع، قال الشاطبي: «وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغي، ولا استكملت شرائطها، ولم تنتف موانعها فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أم أبي، لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره، وأيضا فإن الشارع لم يجعلها أسبابا مقتضية لمسبباتها إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها».
وقال شيخ الإسلام: «فلابد من تمام الشروط وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وليس شيء من الأسباب مستقلا بمطلوبه، بل لابد من انضمام أسباب أخرى إليه، ولابد أيضا من صرف الموانع ومعارضات عنه حتى يحصل المقصود، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك».
ولاشك أن أهم شروط الصدقة الإخلاص، وطيب الكسب، وتكون في أنفع المصالح للمحتاجين.
ولا يعني التداوي بالصدقة إهمال بقية الوسائل من الاستشفاء بالقرآن والدعاء والرقية الشرعية، والأخذ بالأسباب المادية من الأدوية وغيرها، لكن المريض قد يحتاج الجمع بين أكثر من طريقة، والمسلم مأمور بالأخذ بالأسباب المشروعة مع الاعتقاد بأن النتائج تقع بإذن الله، فالله سبحانه قدر النتائج بأسبابها، فهو خالق السبب وما ينتج عنه، وذلك كله من قدره سبحانه، فهو سبحانه قدر أن يكون الشفاء من الأمراض بأسبابها من الأدوية والصدقة والدعاء ونحوها، وحصول الرزق بطلبه، ودخول الجنة بالإيمان والعمل الصالح، وطول العمر بصلة الرحم والدعاء والمحافظة على الصحة وفعل البر ونحو ذلك.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 08-10-2024 12:21 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (103)




-{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} (النساء: 32)



الإنسان بطبعه يحب الاستكثار من الخير، ويسعى للوصول إلى مقاصده ومطلوباته، وبعض الناس يتجاوز حدود الطموح المشروع إلى طلب ما في أيدي الآخرين، والرغبة في تحصيل ما لدى غيره، أو على الأقل تمني زواله منه، وبعضهم يتطلع إلى أمور ممنوعة شرعا أو حسا وواقعا؛ لذا جاء قوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}، ليقرر قضية كلية، وقاعدة دينية تحدد ضوابط الطموح وتكبح جماح الرغبات.
ويبين ابن حجر معنى التمني فيقول: «التمني إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خير من غير أن تتعلق بحسد فهي مطلوبة وإلا فهي مذمومة.
وقد قيل: إن بين التمني والترجي عموما وخصوصا، فالترجي في الممكن، والتمني في أعم من ذلك، وقيل: التمني يتعلق بما فات، وعبر عنه بعضهم: بطلب ما لا يمكن حصوله».
وذكر الشيخ ابن عاشور أنواع التمني وحكم كل منها فقال: «والتمني هو طلب حصول ما يعسر حصوله للطالب، وذلك له أحوال:
منها أن يتمنى ما هو من فضل الله غير ملتفت فيه إلى شيء في يد الغير، ولا مانع يمنعه من شرع أو عادة، سواء كان ممكن الحصول كتمني الشهادة في سبيل الله، أم كان غير ممكن الحصول كقول النبي صلى الله عليه وسلم : «ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل»، وقوله صلى الله عليه وسلم : «ليتنا نرى إخواننا»، يعني المسلمين الذين يجيئون بعده.
ومنها أن يتمنى ما لا يمكن حصوله لمانع عادي أو شرعي، كتمني أم سلمة أن يغزو النساء كما يغزو الرجال، وأن تكون المرأة مساوية للرجل في الميراث.
ومنها أن يتمنى تمنيا يدل على عدم الرضا بما ساقه الله والضجر منه، أو على الاضطراب والانزعاج، أو على عدم الرضا بالأحكام الشرعية.
ومنها أن يتمنى نعمة تماثل نعمة في يد الغير مع إمكان حصولها للمتمني بدون أن تسلب من التي هي في يده؛ كتمني علم مثل علم المجتهد أو مال مثل مال قارون.
ومنها أن يتمنى ذلك لكن مثله لا يحصل إلا بسلب المنعم عليه به كتمني ملك بلدة معينة أو زوجة رجل معين.
ومنها أن يتمنى زوال نعمة عن الغير بدون قصد مصيرها إلى المتمني.
فالتمني الأول والرابع غير منهي عنهما، وقد ترجم البخاري في صحيحه: «باب تمني الشهادة في سبيل الله وباب الاغتباط في العلم والحكمة، وذكر حديث: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس».
وأما التمني الثاني والثالث فمنهي عنهما؛ لأنهما يترتب عليهما اضطراب النفس وعدم الرضا بما قسم الله والشك في حكمة الأحكام الشرعية.
وأما التمني الخامس والسادس فمنهي عنهما لا محالة، وهو من الحسد، وفي الحديث: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها»، ولذلك نهي عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، إلا إذا كان تمنيه في الحالة الخامسة تمني حصول ذلك له بعد من هي بيده بحيث لا يستعجل موته.
والسادس أشد وهو شر الحسدين إلا إذا كان صاحب النعمة يستعين به على ضر يلحق الدين أو الأمة أو على إضرار المتمني.
وقد عقد البخاري ترجمة في صحيحه فقال: (باب ما يكره من التمني) وذكر الآية المتقدمة.
قال ابن حجر: «قال ابن عطية: يجوز تمني ما لا يتعلق بالغير، أي مما يباح، وعلى هذا فالنهي عن التمني بخصوص بما يكون داعية إلى الحسد والتباغض، وعلى هذا محصل قول الشافعي: «لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون كذا». ولم يرد أن كل التمني يحصل به الإثم».
وقد ذكر ابن كثير بعض الآثار التي تشير إلى سبب نزول قوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}، فعن مجاهد قال : قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث. فأنزل الله عز وجل : {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}، وقال السدي: فإن الرجال قالوا: نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء: نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي».
وعن ابن عباس قال: «ولا يتمنى الرجل فيقول: «ليت لو أن لي مال فلان وأهله فنهى الله عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله»، قال ابن كثير: «وهو الظاهر من الآية، ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: {واسألوا الله من فضله} أي: لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، والتمني لا يجدي شيئا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم; فإني كريم وهاب».
ويبين ابن عاشور خطورة التمني فيقول: «وقد أصبح هذا التمني في زماننا هذا فتنة لطوائف من المسلمين سرت لهم من أخلاق الغلاة في طلب المساواة، فصاروا يتخبطون لطلب التساوي في كل شيء، ويعانون إرهاقا لم يحصلوا منه على طائل.
وقد كان التمني من أعظم وسائل الجرائم، فإنه يفضي إلى الحسد، وقد كان أول جرم حصل في الأرض نشأ عن الحسد، ولقد كثر ما انتهبت أموال، وقتلت نفوس للرغبة في بسط رزق، أو فتنة نساء، أو نوال ملك، والتاريخ طافح بحوادث من هذا القبيل».
ثم بين أن النهي في الآية إما نهي تنزيه لتربية المؤمنين على أن لا يشغلوا نفوسهم بما لا قبل لهم بنواله، ويكون قوله: {واسألوا الله من فضله} إرشادا إلى طلب الممكن؛ إذ قد علموا أن سؤال الله ودعاءه يكون في مرجو الحصول، وإلا كان سوء أدب.
وإما نهي تحريم، وهو الظاهر من عطفه على المنهيات المحرمة، فيكون جريمة ظاهرة، أو قلبية كالحسد، بقرينة ذكره بعد قوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (النساء: 29)، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ }(النساء: 29).
قال السعدي: «ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة, وغير الممكنة. فلا تتمنى النساء خصائص الرجال, التي بها فضلهم على النساء, ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكامل تمنيا مجردا؛ لأن هذا هو الحسد بعينه, تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك, ويسلب إياها، ولأنه يقتضي السخط على قدر الله, والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة, التي لا يقترن بها عمل, ولا كسب.
وإنما المحمود أمران: أن يسعى العبد على حسب قدرته, بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية. ويسأل الله تعالى من فضله.فلا يتكل على نفسه, ولا على غير ربه.
ولهذا قال تعالى : {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} (النساء: 32). أي: من أعمالهم المنتجة للمطلوب. {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ }(النساء: 32). فكل منهم لا يناله, غير ما كسبه, وتعب فيه. {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء: 32). أي: من جميع مصالحكم في الدين والدنيا.
فهذا كمال العبد, وعنوان سعادته, لا من يترك العمل, أو يتكل على نفسه, غير مفتقر لربه, أو يجمع بين الأمرين, فإن هذا مخذول خاسر».
فالمسلم يضبط مشاعره وسلوكه بضوابط الشرع، فلا يتمنى ما ليس له شرعا، ولا يضيع وقته في الأحلام المجردة والأمنيات الخيالية، بل يسعى جادا مستعينا بالله تعالى لتحقيقه مقاصده ومطلوباته، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 28-10-2024 04:56 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(104)

- الرحم شجنة من الرحمن



أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال


خلق الله تعالى الإنسان من والدين، وجعل له أقارب وأرحاما، وأوجب عليه بر والديه، وشرع له صلة رحمه، ولعظم صلة الرحم نسبها الله تعالى إلى نفسه، ووردت نصوص كثيرة بالأمر بصلتها وبيان فضل ذلك، كما أنها تحرم قطع الرحم وتؤكد عقوبة ذلك أيضا.
والرحم في اللغة: رحم المرأة، ومنه استعير الرحم للقرابة؛ لكونهم خارجين من رحم واحدة كما يقول الأصبهاني.
وأما صلة الرحم فمعناها كما يقول النووي: «هي الإحسان إلى الأقارب على حسب الواصل والموصول؛ فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالخدمة، وتارة تكون بالزيارة والسلام وغير ذلك».
وأما حكم صلة الرحم فقد قال القاضي عياض: «لا خلاف أنّ صلة الرّحم واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة والأحاديث تشهد لهذا، ولكنّ الصّلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة بالكلام ولو بالسّلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة فمنها واجب، ومنها مستحبّ. ولو وصل بعض الصّلة، ولم يصل غايتها لا يسمّى قاطعا، ولو قصّر عمّا يقدر عليه وينبغي له لا يسمّى واصلا».
والمعنى الجامع لصلة الرحم كما يوضحه ابن حجر بأنه: «إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الحاجة»، وأقل الخير الصلة بالسلام كما قال صلى الله عليه وسلم : «بلوا أرحامكم ولو بالسلام» أخرجه البزار وحسنه الألباني.
وقال الخطابي وغيره: «بللت الرحم بلا وبللا وبلالا أي: نديتها بالصلة». وقال الطيبي في معنى الحديث: «شبه الرحم بالأرض التي إذا وقع عليها الماء وسقاها حق سقيها أزهرت ورؤيت فيها النضارة فأثمرت المحبة والصفاء، وإذا تركت بغير سقي يبست وبطلت منفعتها فلا تثمر إلا البغضاء والجفاء».
ومن الآيات التي تقرر أهمية صلة الرحم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(النساء: 1).
قال ابن سعدي: «افتتح تعالى هذه السورة, بالأمر بتقواه, والحث على عبادته, والأمر بصلة الأرحام, والحث على ذلك. وقرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام, والنهي عن قطيعتها, ليؤكد هذا الحق، وأنه كما يلزم القيام بحق الله, كذلك يجب القيام بحقوق الخلق, ولاسيما الأقربين منهم, بل القيام بحقوقهم, هو من حق الله الذي أمر به».
وقال تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(الأنفال: 75).
قال ابن عاشور: «فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء ولاية الإيمان، وأولو الأرحام منهم بعضهم لبعض أولياء ولاية النسب، ولولاية الإسلام حقوق مبينة بالكتاب والسنة، ولولاية الأرحام حقوق مبينة أيضا، بحيث لا تزاحم إحدى الولايتين الأخرى».
وصلة الرحم مما أمر به الله تعالى كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}(الرعد: 21). قال القرطبي: «ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات»، وقال صلى الله عليه وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه» أخرجه البخاري.
وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}(محمد: 22). قال ابن كثير: «وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال».
ومما جاء في السنة في بيان صلة الرحم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرحم شجنة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته» أخرجه البخاري، وفي رواية الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله».
قال ابن حجر: «الشجنة بكسر المعجمة وسكون الجيم، وجاء بضم أوله، وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، والشجن بالتحريك واحد الشجون، وهي طرق الأودية، ومنه قولهم: «الحديث ذو شجون» أي: يدخل بعضه في بعض.
وقوله: (من الرحمن) أي: أخذ اسمها من هذا الاسم، وفي حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا: «أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي» المعنى أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها، فالقاطع لها منقطع من رحمة الله».
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فقال: مه ؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك»، ثم قال أبو هريرة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}(محمد: 22). متفق عليه.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله». أخرجه مسلم.
قال القرطبي: «فمقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من صلى الصبح فهو في ذمة الله، وإن من يطلبه الله بشيء من ذمته يدركه ثم يكبه على وجهه في النار» أخرجه مسلم.
ومن فضل صلة الرحم أنها سبب لزيادة العمر بإذن الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم : «من سره أن يُبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه». متفق عليه.
قال ابن سعدي: «هذا الحديث فيه الحث على صلة الرحم، وبيان أنها كما أنها موجبة لرضى الله وثوابه في الآخرة، فإنها موجبة للثواب العاجل بحصول أحب الأمور للعبد، وأنها سبب لبسط الرزق وتوسيعه، وسبب لطول العمر، وذلك حق على حقيقته؛ فإنه تعالى هو الخالق للأسباب ومسبباتها.وقد جعل الله لكل مطلوب سببا وطريقا ينال به، وهذا جار على الأصل الكبير، وأنه من حكمته وحمده جعل الجزاء من جنس العمل، فكما وصل رحمه بالبر والإحسان المتنوع، وأدخل على قلوبهم السرور، وصل الله عمره، ووصل رزقه، وفتح له من أبواب الرزق وبركاته ما لا يحصل له بدون هذا السبب الجليل».
ومما جاء في التحذير من قطيعة الرحم قوله عليه السلام: «لا يدخل الجنة قاطع رحم» متفق عليه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» أخرجه أحمد وصححه الألباني.
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» أخرجه البخاري.
قال الطيبي: «المعنى ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه».
قال ابن حجر: «لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات: واصل ومكافئ وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل. وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا».
فعلى المسلم أن يحرص على صلة رحمه والحذر من القطيعة وبالله التوفيق


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 08-11-2024 12:13 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمة ضالة المؤمن(105)

{ويدرؤن بالحسنة السيئة}



حث النبي صلى الله عليه وسلم الناس على الصفح والعفو فقال: «ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم» أخرجه أحمد


أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين في القرآن الكريم والسنة المطهرة بصفات عديدة، وأخلاق كريمة، تدل على حبه سبحانه لها، وندبه عباده للتحلي بها، ومن جملة ما مدح الله تعالى عباده الصالحين بأنهم يدفعون إساءة من أساء إليهم من الناس بالإحسان إليهم، كما قال تعالى: {{والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار}(الرعد: 22)}(الرعد: 22)، قال ابن زيد: «يدفعون الشر بالخير، فلا يكافئون الشر بالشر، ولكن يدفعونه بالخير»، وقال الحسن: «إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا»، وقال القتبي: «إذا سفه عليهم حلموا»، وقال ابن جبير: «يدفعون المنكر بالمعروف».
قال الشيخ ابن سعدي: «أي: من أساء إليهم بقول أوفعل لم يقابلوه بفعله، بل قابلوه بالإحسان إليه، فيعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويصلون من قطعهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان، فما ظنك بغير المسيء».
وقال ابن كثير: يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا، وصفحا وعفوا كقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}(فصلت: 34- 35)، ولهذا قال مخبرا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهؤلاء الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار.
وحيث إن الإساءة متجددة وقد تحصل مرة بعدة أخرى، جاء التعبير القرآني بالفعل المضارع {ويدرؤون بالحسنة السيئة} كما يقول ابن عاشور إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء; لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت، فوصف لهم دواء ذلك بأن يدفعوا السيئات بالحسنات.
ولا شك أن المسلم معرض للإساءة قليلة كانت أم كثيرة، مقصودة كانت أم عفوية وعلى كل حال فله ثلاثة مواقف من هذه الإساءة، كما ذكر الشيخ ابن سعدي أن مراتب العقوبات على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم.
فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقصاً، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله. مع مراعاة ما يجوز في المقابلة بالسيئة وما لا يجوز، فلا يجوز أن يقتص المسلم من غيره بأمر محرم، فلا يكذب على من كذب عليه، ولا يسرق من سرقه، ولايعتدي على عرض من اعتدى على عرضه؛ لأن هذه محرمات لحق الله تعالى، وإنما يستوفي حقه بالطرق المشروعة بالتراضي أو التقاضي.
ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}(الشورى: 40). يجزيه أجرا عظيما، وثوابا كثيرا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورا به.
وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل.
وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(الشورى: 40).
الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم.
وقال بعضهم: لما كانت الأقسام ثلاثة: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية فذكر المقتصد وهو الذي يفيض بقدر حقه لقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}(الشورى: 40)، ثم ذكر السابق بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ثم ذكر الظالم بقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين} (الشورى: 40) فأمر بالعدل ، وندب إلى الفضل ، ونهى من الظلم.
وقال الشيخ ابن سعدي: «يقول تعالى - مبيحا للعدل ونادبا للفضل والإحسان- {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ}(النحل: 126)، من أساء إليكم بالقول والفعل { فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }(النحل: 126)، من غير زيادة منكم على ما أجراه معكم {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ}(النحل: 126)، عن المعاقبة وعفوتم عن جرمهم {لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}(النحل: 126)، من الاستيفاء، وما عند الله خير لكم وأحسن عاقبة».
والقرآن الكريم يؤكد هذا المعنى في آيات كثيرة منها قوله سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ َ}(المؤمنون: 96)، قال ابن سعدي: «هذا من مكارم الأخلاق، التي أمر الله رسوله بها فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}(المؤمنون: 96)، أي: إذا أساء إليك أعداؤك، بالقول والفعل، فلا تقابلهم بالإساءة، مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته، ولكن ادفع إساءتهم إليك بالإحسان منك إليهم، فإن ذلك فضل منك على المسيء، ومن مصالح ذلك، أنه تخف الإساءة عنك، في الحال، وفي المستقبل، وأنه أدعى لجلب المسيء إلى الحق، وأقرب إلى ندمه وأسفه، ورجوعه بالتوبة عما فعل، وليتصف العافي بصفة الإحسان، ويقهر بذلك عدوه الشيطان، وليستوجب الثواب من الرب، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}(الشورى: 40).
ومنها قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا }(الفرقان: 63) قال ابن كثير: «أي: إذا سفه عليهم الجهال بالسيئ، لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما».
وقال سبحانه: {أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }(القصص: 54)، قال الطاهر: «وعد الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال، وذكر منها درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير، وأدعاها إلى حسن المعاشرة».
وقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}(فصلت: 34).
قال الشيخ الطاهر: «وإنما أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم - بذلك لأن منتهى الكمال البشري خلقه كما قال صلى الله عليه وسلم : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وقالت عائشة لما سئلت عن خلقه: «كان خلقه القرآن»؛ لأنه أفضل الحكماء».
وحث النبي صلى الله عليه وسلم الناس على الصفح والعفو فقال: «ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم» أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر.
وقال أبو بكر: «بلغنا أن الله تعالى يأمر مناديا يوم القيامة فينادي: من كان له عند الله شيء فليقم، فيقوم أهل العفو، فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس».
ففي هذا الزمان نحتاج إلى التحلي بهذا الخلق الكريم، فيعفو بعضنا عن بعض، ويسمو بأخلاقه فيقابل الإساءة بالإحسان فذلك أفضل أخلاق المؤمن العفو كما قال الحسن، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 10-11-2024 06:53 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(106)

- الميزان بيد الرحمن



قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويضع آخرين» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.


الله تبارك وتعالى ملك عظيم، ورب جليل، له الحكمة البالغة، والمشيئة النافذة، والقدرة التامة، خلق كل شيء بأمره، وأحاط بكل موجود علمه، له الخلق والأمر، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، فهو على كل شيء قدير، وكل مخلوق إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، وأدلة الكتاب العزيز والسنة المطهرة عامرة بتقرير هذه الحقيقة، وتأكيد هذه العقيدة، فمن ذلك قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. آل عمران
قال ابن سعدي: «يقول الله لنبيه[ {قل اللهم مالك الملك}، أي: أنت الملك المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها، فقال: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع،ثم قال تعالى: {وتعز من تشاء} بطاعتك {وتذل من تشاء} بمعصيتك {إنك على كل شيء قدير} لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك».
وقال تبارك وتعالى: {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن}، قال ابن كثير: «وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن».
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الشأن المذكور في الآية فقال: «من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين» أخرجه ابن أبي عاصم وصححه الألباني.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويضع آخرين» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
قال المناوي: «أي جميع ما كان وما يكون بتقدير خبير بصير، يعلم ما يؤول إليه أحوال عبادة فيقدر ما هو أصلح لهم، فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط كما تقتضيه الحكمة الربانية».
وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار»، وقال: «أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يده» وقال: «عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع».
قال ابن حجر: «قوله: (وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع) أي يخفض الميزان ويرفعه، وفي حديث أبي موسى عند مسلم وابن حبان: «إن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام، يخفض القسط ويرفعه» وظاهره أن المراد بالقسط: الميزان، وهو مما يؤيد أن الضمير المستتر في قوله «يخفض ويرفع» (للميزان)».
وقال الداودي: معنى الميزان أنه قدر الأشياء ووقتها وحددها فلا يملك أحد نفعا ولا ضرا إلا منه وبه».
وقال النووي: «وقيل هو عبارة عن تقدير الرزق؛ يقتره على من يشاء، ويوسعه على من يشاء، وقد يكونان عبارة عن تصرف المقادير بالخلق بالعز والذل».
والله تعالى يرفع بعض خلقه درجات ومراتب على بعض كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قال ابن سعدي: «{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} في القوة والعافية، والرزق والخَلْق والخُلُق».
وقال الطبري: «يقول: وخالف بين أحوالكم, فجعل بعضكم فوق بعض, بأن رفع هذا على هذا، بما بسط لهذا من الرزق ففضّله بما أعطاه من المال والغِنى، على هذا الفقير فيما خوَّله من أسباب الدنيا, وهذا على هذا بما أعطاه من الأيْد والقوة على هذا الضعيف الواهن القُوى, فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا، وخفض من درجة هذا عن درجة هذا».
وقد يكون الرفع بالنبوة والاصطفاء على سائر الناس كما قال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس}، ورفع الرسل بعضه على بعض كما قال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}.
قال ابن سعدي: «يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس، ودعائهم الخلق إلى الله، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين {وآتينا عيسى ابن مريم البينات}، الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه».
وقد يكون الرفع بالإيمان والعلم النافع والعمل الصالح كما قال تعالى: {نرفع درجات من نشاء} قال القرطبي: «أي بالعلم والفهم والإمامة والملك».
وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: يرفع الله المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم، فيما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به.
وعن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال له عمر: من استعملت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ فقال: مولى من موالينا. فقال عمر بن الخطاب: فاستخلفت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض. فقال عمر: «أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما ويضع به آخرين» (أخرجه مسلم).
فخزائن كل شيء بيد الله سبحانه، والمسلم يسأل الله من فضله، ولا يتطلع إلى ما عند غيره، ويأخذ بالأسباب الشرعية للرفعة الحقيقة في الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 10-11-2024 07:09 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(107)

- {قل الروح من أمر ربي}


شيخ الإسلام ابن تيمية: والروح المدبرة للبدن هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت
أقام الله تعالى آيات كثيرة، وشواهد عديدة على تفرده بالخلق والملك والتدبير، وأنه سبحانه وحده المستحق للعبادة والألوهية، فالآيات الكونية، والبراهين الحسية ناطقة بذلك، ومن أعظم الحجج وأقوى الدلائل الإنسان نفسه، كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(الذاريات: 21)، قال الطبري: «معنى ذلك: وفي أنفسكم أيها الناس آيات وعبر تدلكم على وحدانية صانعكم، وأنه لا إله لكم سواه؛ إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم (أفلا تبصرون) يقول: أفلا تنظرون في ذلك فتتفكروا فيه، فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم»؟!
والإنسان كما هو معلوم مركب من بدن وروح، وقد وقف كثير من العلماء على أسرار كثيرة من بدن الإنسان، ولا يزال يخفى عليهم الكثير من عجيب صنع الله -تعالى- وكمال قدرته، إلا أن السر الأعظم لا يزال خافيا عليهم وهو حقيقة الروح التي تقوم بهذا البدن، وبفقدها يفقد الإنسان وجوده، فقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}(الإسراء: 85).
قال ابن كثير: «وقوله: {قل الروح من أمر ربي} أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى.
والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى».
ويوضح الطاهر بن عاشور سبب سؤالهم عن حقيقة الروح، وبيان ماهيتها؛ وذلك لأنها شغلت الفلاسفة وحكماء المتشرعين، لظهور أن في الجسد الحي شيئا زائدا على الجسم، به يكون الإنسان مدركا، وبزواله يصير الجسم مسلوب الإرادة والإدراك، فعلم بالضرورة أن في الجسم شيئا زائدا على الأعضاء الظاهرة والباطنة غير مشاهد؛ إذ قد ظهر بالتشريح أن جسم الميت لم يفقد شيئا من الأعضاء الباطنة التي كانت له في حال الحياة.
وإذ قد كانت عقول الناس قاصرة عن فهم حقيقة الروح، وكيفية اتصالها بالبدن، وكيفية انتزاعها منه، وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع، أجيبوا بأن الروح من أمر الله، أي أنه كائن عظيم من الكائنات المشرفة عند الله، ولكنه مما استأثر الله بعمله، فلفظ (أمر) يحتمل أن يكون مرادف الشيء، فالمعنى: الروح بعض الأشياء العظيمة التي هي لله، فإضافة أمر إلى اسم الجلالة على معنى لام الاختصاص، أي أمر اختص بالله اختصاص علم.
ويرى رحمه الله أن صرف السائلين عن الجواب عن حقيقة الروح كان لغرض صحيح اقتضاه حالهم، وحال زمانهم ومكانهم، وأن ذلك لا يمنع من البحث في حقيقة الروح كما ذهب إليه جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء، منهم أبو بكر بن العربي في العواصم، والنووي في شرح مسلم أن هذه الآية لا تصد العلماء عن البحث عن الروح; لأنها نزلت لطائفة معينة من اليهود، ولم يقصد بها المسلمون.
و(الروح) تطلق في القرآن الكريم ويراد بها تارة القرآن كما قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}(الشورى: 52)، وتطلق على الوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله كما قال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ}(غافر: 15)، وسمي روحا لما يحصل به من الحياة النافعة، وتطلق الروح على جبريل عليه السلام كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}(الشعراء: 193)، وتطلق الروح على النفس التي في بدن الإنسان وذلك لحصول الحياة بها، وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج؛ فلكثرة خروجها ودخولها في البدن، فإن العبد كلما نام خرجت منه، فإذا استيقظ رجعت إليه، فإذا مات خرجت خروجا كليا، فإذا دفن عادت إليه، فإذا سئل خرجت، فإذا بعث عادت إليه.
و(النفس) في القرآن الكريم والسنة المطهرة يراد بها الذات الإنسانية، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}(آل عمران: 30)، وفي الحديث: «ما من نفس تموت وهي تشهد أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله، يرجع ذلك إلى قلب موقن، إلا غفر الله له» أخرجه ابن ماجه، وحسنه للألباني.
والقرآن الكريم يخاطب الناس مبينا لهم مبدأ نفوسهم فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}(النساء: 1)، وذكر لهم مصير أنفسهم فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا}(آل عمران: 145)، وأكد سبحانه أن النفس الإنسانية هي محور التكاليف الشرعية كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(البقرة: 286)، وبين أن جزاء الأنفس يوم القيامة بحسب ما قدمت في الدنيا فقال تعالى: {اللَّـهُ كُلَّ نَفسٍ ما كَسَبَت إِنَّ اللَّـهَ سَريعُ الحِسابِ}(إبراهيم: 51).
والنفس الإنسانية فطرها الله تعالى على قبول الحق والانقياد له، كما أنها تتأثر بالباطل وتنساق له كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا - َدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}(الشمس: 7 - 10)، فترتقي النفس الإنسانية إذا اتبعت هدى الله إلى أعلى الدرجات، وتنحط إذا أعرضت عن دينه إلى أسفل الدركات.
وقد اختلف العلماء في حقيقة النفس، فهل هي الروح؟ أم هي غيرها؟ والأظهر من تلك الأقوال ما قرره شارح العقيدة الطحاوية فقال: «فالتحقيق أن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما يسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والروح المدبرة للبدن هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت»، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}(الزمر: 42)، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» أخرجه مسلم، مما يؤكد أن النفس هي الروح التي تكون في البدن وتقبض عند الموت.
وأما حقيقة الروح التي في البدن فقد اختلف فيها اختلافا كثيرا، وأحسن ما قيل في ذلك ما ذكره ابن القيم في كتابه الروح؛ حيث ساق ستة أقوال نقلها عن الرازي واختار آخرها وقال: «السادس: إنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني، علوي، خفيف، حي، متحرك ينفذ في الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء، وإفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية.
وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح».
قال رحمه الله: «وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب السنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة»، ثم أورد رحمه الله مائة واثنين وعشرين وجها على صحة ما ذكر.
وقال رحمه الله : «فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات».


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 18-11-2024 04:58 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(108)

- من نذر أن يطيع الله فليطعه



يشترط في النذر أن يصدر من ذي أهلية ـ وهو المكلف البالغ العاقل ـ لأنه تصرف قولي يترتب عليه أثر شرعي فلابد من الأهلية

يستغرب بعض الناس حين يسمع أن الله تعالى أثنى على الموفين بالنذر في قوله تعالى:{يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا}، ثم يقال له إن النذر مكروه شرعا؛ لأن النبي[ نهى عنه، ولتوضيح الأمر فلابد من وقفات مع النذر لبيان حقيقته وحكمه وأنواعه.
فالنَّذْر في اللغة: مَصْدَرُ الفعل نَذَرْتُ، أَيْ: أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا.
وفي الاصطلاح:هو إلْزَامُ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ شَيْئًا غَيْرَ لَازِمٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ. فحقيقة النذر أن يوجب المسلم على نفسه شيئا لم يكن واجبا عليه شرعا، كنوافل العبادات من صلاة وصيام ونحوهما، أو أمر من المباحات كشرب الماء أو ركوب السيارة مثلا.
والنذر جائز شرعا كما دل على ذلك القرآن الكريم والسنة المطهرة والإجماع.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه} قال ابن كثير: «يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده»، وهذا يستلزم مشروعية النذر.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فعن عَائِشَةُ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ». أخرجه البخاري، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ .
وَلَا يُسْتَحَبُّ النذر بل هو مكروه، فعن ابْنَ عُمَرَ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ النَّذرِ وقَال:” لا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ “ متفق عليه
قال ابن قدامة: «وَهَذَا نَهْيُ كَرَاهَةٍ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا مَدَحَ الله تعالى الْمُوفِينَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ أَشَدُّ مِنْ طَاعَتِهِمْ فِي وَفَائِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّذْرَ لَوْ كَانَ مُسْتَحَباً، لَفَعَلَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَفَاضِلُ أَصْحَابِه».
وبين النووي سبب الكراهة فقال: «قال المازري: يحتمل أن يكون سبب النهي عن النذر كون الناذر يصير ملتزما له، فيأتي به تكلفا بغير نشاط. قال: ويحتمل أن يكون سببه كونه يأتي بالقربة التي التزمها في نذره على صورة المعاوضة للأمر الذي طلبه فينقص أجره، وشأن العبادة أن تكون متمحضة لله تعالى، وقال القاضي عياض: ويحتمل أن النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النذر يرد القدر ويمنع حصول المقدر، فنهى عنه خوفا من جاهل يعتقد ذلك». ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : «لا تنذروا، فإن النذر لا يغني من القدر شيئاً، وإنما يستخرج به من مال البخيل»، قال النووي: «معناه أنه - أي البخيل - لا يأتي بهذه القربة تطوعا محضا مبتدأ، وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء مريض وغيرها مما تعلق النذر به».
وبين صلى عليه وسلم أن النذر لا يغير من القدر شيئا، فلا يقدم ولا يؤخر فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يأتي ابنَ آدم النذرُ بشيء لم يكن قدر له، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له ، فيستخرج الله به من البخيل، فيؤتى عليه ما لم يكن يؤتى عليه من قبل».متفق عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين مبينا جواب الإشكال: «إن الله لم يثن على الناذرين، وإنما أثنى على الموفين، وفرق بين الأمرين، فقوله تعالى: {يوفون بالنذر}معناه أنهم إذا نذروا شيئا لم يهملوه بل قاموا به».
والنذر عبادة يجب أن يكون لله وحده، ولهذا أثنى على من نذر لله تعالى وأوفى بنذره، وصرفه لغير الله تعالى شرك، قال شيخ الإسلام:”وأما النذر للموتى من الأنبياء والمشايخ وغيرهم أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى”.
ويشترط في النذر أن يصدر من ذي أهلية ـ وهو المكلف البالغ العاقل ـ لأنه تصرف قولي يترتب عليه أثر شرعي فلابد من الأهلية.
كما يشترط فيه القدرة الحسية والشرعية لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك» أخرجه أحمد والنسائي، فلو نذر أن يصوم أمس فلا ينعقد النذر لتعذره حسا، ولو نذر أن يصوم يوم العيد فلا ينعقد لأنه ممنوع شرعا.
وذكر العلماء للنذر أنواعاً عديدة منها:
- أَحَدُهَا : نَذرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ: وَهُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ الناذر مَخْرَجَ الْيَمِينِ، لِيحَثِّ نفسه أو غيره عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُ، غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ لِلنَّذرِ، وَلا الْقُرْبَةِ، كأن يقول: إن فعلت كذا فعليّ صوم أو حج أو صدقة، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ فيخير بين ما التزمه أو كفارة اليمين، ودليل ذلك ما ثبت عن الصحابة الكرام:
فعن عائشة أنها سئلت عن رجل جعل كل مال له في رتاج الكعبة، في شيء كان بينه وبين عمة له ، قالت عائشة :” يكفره ما يكفر اليمين “.
وعن ابن عباس قيل له: ما تقول في امرأة جعلت بردها عليها هدياً إن لبسته ؟ فقال ابن عباس: في غضب أم في رضا؟ قالوا: في غضب قال: «إن الله تعالى لا يـُتـقرَّب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها».
ومثله عن عمر وابن عمر وغيرهم، ووجه الدلالة أن الصحابة سموا نذر اللجاج والغضب (يميناً) لما فيه من معنى اليمين، ثم أوجبوا فيه كفارة اليمين، ولم يلزموا الحالف ما التزمه من الحج والصيام والصدقة، لأنه لم يلتزمه على وجه القربة، بل كان في الغضب بقصد الحض أو المنع .
- الثَّانِي: نَذرُ الطَاعَةٍ وَالتُبَرَّرُ:وَهو أن يلتزم الناذر ما يعد طاعة لله تعالى كالصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْحَج وَالْعُمْرَة وَالصَّدَقَة وَالِاعْتِكَاف، سَوَاءٌ: نذرَهُ مُطْلَقاً بِأَنْ يَقُولَ ابْتِدَاءً: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: إنْ شَفَانِي اللَّهُ، أَوْ شَفَى فُلاناً، أَوْ سَلِمَ مَالِي الْغَائِبُ ونحوه، فَأَدْرَكَ مَا أَمَّلَ بُلُوغَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَلْزَمه الْوَفَاءُ بِهِ، وذكر ابن قدامة والنووي الإجماع على ذلك لقَوْلُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ»، وَذَمُّه الَّذِينَ يَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ كما بوب البخاري (باب إثم من لا يفي بالنذر) وذكر حديث: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون» الحديث، قال ابن بطال: «سوّى بين من يخون أمانته ومن لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة فيكون ترك الوفاء بالنذر مذموما».
- الثَّالِثُ : نَذرُ الْمَعْصِيَةِ: كأن يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ أَقْتُلَ النَّفْسَ الْمُحَرَّمَةَ، قال ابن قدامة: «لا يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ إجْمَاعاً؛ وَلِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ»؛ وَلِأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحِلُّ فِي حَالٍ.
ويَجِبُ عَلَى النَّاذِرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لقوله صلى الله عليه وسلم : «لَا نَذرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ». أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني
- الرابع: نذر المباح: وهو نذر ما لم يرد فيه ترغيب من جهة الشارع، كما لو قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَرْكَبَ دَابَّتِي، أَوْ أَسْكُنَ دَارِي وَمَا أَشْبَهَهُ، لَمْ يَكُنْ هَذَا نَذْرَ طَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ فهذا ينعقد ويَتَخَيَّرُ النَّاذِرُبَيْنَ فِعْلِهِ فَيَبَرُّ بِذَلِكَ أو يكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ .
لِمَا أخرجه أبو داود أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِك بِالدُّفِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «أَوْفِ بِنَذرِك».
- الخامس: النَّذْرُ الْمُبْهَمُ أو المطلق: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَى نَذرٌ، دون أن يبين ما التزمه من أعمال ، فَهَذَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «كَفَّارَةُ النَّذرِ إذَا لَمْ يُسَمِّهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» أخرجه الترمذي وأبو داود .



اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 29-11-2024 12:25 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمة ضالة المؤمن(109)

- المؤذنون أمناء المسلمين



يدبر الشيطان لعظم أمر الأذان لما اشتمل عليه من قواعد التوحيد، وإظهار شعائر الإسلام وإعلانه، وقيل: ليأسه من وسوسة الإنسان عند الإعلان بالتوحيد

يتمتع المسلمون في العالم الإسلامي بنعمة عظيمة، لا يشعر بقيمتها إلا من فقدها، وهي سماع الأذان خمس مرات في اليوم والليلة، فالمسلمون في البلاد غير الإسلامية يغبطون إخوانهم على هذه النعمة الكريمة؛ حيث حرموا منها في مهاجرهم، فنحن نتلذذ بسماع الأذان من المساجد يعلو مناديا بالتوحيد والتعظيم لله تعالى.
وقد شرع الأذان لحكم عظيمة، قال أبو العباس القرطبي في المفهم: «الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة؛ لأنه بدأ بالأكبرية، وهي تتضمن وجود الله وكماله، ثم ثنى بالتوحيد ونفي الشريك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ثم بإثبات الدعوة على الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة؛ لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة على المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدا، ويحصل بالأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وبإظهار شعار الإسلام».
وللمؤذنين في الإسلام مكانة عالية، وأجور وفيرة بإذن الله تعالى ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المؤذنون أمناء المسلمين على صلاتهم وحاجتهم»أخرجه
البيهقي وحسنه الألباني. قال المناوي: «لأنهم يعتمدون عليهم في دخول الوقت، (وحاجتهم) المراد به حاجة الصائمين إلى الإفطار».
وقال صلى الله عليه وسلم : «المؤذنون أمناء المسلمين على فطرهم وسحورهم» أخرجه الطبراني وحسنه الألباني. قال المناوي: لأنهم بأذانهم يفطرون من صيامهم، وبه يصلون، فعليهم بذل الوسع في تحرير دخول الوقت، فمن قصر منهم فقد خان.
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم للمؤذنين فقال: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم ارشد الأئمة واغفر للمؤذنين» أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.
قال المباركفوري: «أراد بالضمان هاهنا الحفظ والرعاية لا ضمان الغرامة؛ لأنه يحفظ على القوم صلاتهم، وقيل: إن صلاة المقتدين به في عهدته، وصحتها مقرونة بصحة صلاته، فهو كالمتكفل لهم بصحة صلاتهم، (والمؤذن مؤتمن) أراد أنه أمين على مواقيت الصلاة، وقيل: أمين على حرم الناس؛ لأنه يشرف على المواضع العالية، والحديث استدل به على فضيلة الأذان وعلى أنه أفضل من الإمامة؛ لأن الأمين أرفع حالا من الضمين.
وقوله: «اللهم أرشدالأئمة» أي: أرشدهم للعلم بما تكفلوه والقيام به والخروج من عهدته، «واغفر للمؤذنين» أي: ما عسى يكون لهم تفريط في الأمانة التي حملوها من جهة تقديم على الوقت أو تأخير عنه سهوا».
وبين النبي صلى الله عليه وسلم عظم أجر المؤذنين في الآخرة فقال: «المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة» أخرجه مسلم، قال المناوي: «أي أكثرهم: تشوقا إلى رحمة الله؛ لأن المتشوق يطيل عنقه إلى ما تشوق إليه، أو معناه أكثر ثوابا».
ونقل النووي عن النضر بن شميل أنه قال: «إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق»، قال النووي: «وقيل معناه: أنهم سادة ورؤساء، والعرب تصف السادة بطول العنق، وقيل معناه: أكثر أتباعا، وقال ابن الأعرابي: معناه: أكثر الناس أعمالا، قال القاضي عياض وغيره: ورواه بعضهم»إعناقا» بكسر الهمزة أي: إسراعا إلى الجنة، وهو من سير العَنَق».
وقال صلى الله عليه وسلم : «المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس، وشاهد الصلاة يكتب له خمس وعشرون صلاة، ويكفر عنه ما بينهما» أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم : «المؤذن يغفر له مدى صوته، وأجره مثل أجر من صلى معه» أخرجه الطبراني وصححه الألباني.
قال المناوي: «أي: غاية صوته، أي يغفر له مغفرة طويلة عريضة على طريق المبالغة،أي: يستكمل مغفرة الله إذا استوفى وسعه في رفع الصوت».
والأذان يطرد الشيطان كما قال صلى الله عليه وسلم : «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين»، قال النووي: «قال العلماء: إنما أدبر الشيطان عند الأذان لئلا يسمعه فيضطر إلى أن يشهد له بذلك يوم القيامة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» أخرجه البخاري.
وقيل: إنما يدبر الشيطان لعظم أمر الأذان لما اشتمل عليه من قواعد التوحيد، وإظهار شعائر الإسلام وإعلانه، وقيل: ليأسه من وسوسة الإنسان عند الإعلان بالتوحيد».
وعن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك، وإلا أغار، فسمع رجلا يقول:الله أكبر، الله أكبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «على الفطرة» ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خرجت من النار» فنظروا فإذا هو راعي معزى. أخرجه مسلم
قال النووي: قوله: «على الفطرة» أي: على الإسلام، وقوله: «خرجت من النار» أي: بالتوحيد، واحتج به على أن الأذان مشروع للمنفرد.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» متفق عليه. قال النووي: «النداء: هو الأذان، والاستهام: الاقتراع، ومعناه: أنهم لو علموا فضيلة الأذان وقدرها وعظيم جزائه، ثم لم يجدوا طريقا يحصلونه به لضيق الوقت عن أذان بعد أذان، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد ، لاقترعوا في تحصيله».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الصحيح أن الأذان فرض كفاية، فليس لأهل مدينة ولا قرية أن يدعوا الأذان والإقامة»؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به مالكا بن الحويرث في قوله: «فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» أخرجه البخاري، ولمداومته[ على فعله؛ لأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، وبناء على هذا فمن صلى بغير أذان ولا إقامة فصلاته صحيحة لما رواه علقمة والأسود قالا: «دخلنا على ابن مسعود فصلى بنا بلا أذان ولا إقامة».
وأخرج ابن أبي شيبة آثارا عن الصحابة في فضل المؤذنين منها قول عمر: «لو أطقت الأذان مع الأذان مع الخليفى لأذنت»، وقال سعد بن أبي وقاص: «لأن أقوى على الأذان أحب إلي من أن أحج وأعتمر وأجاهد»، وقال ابن عمر لرجل: ما عملك؟ قال: الأذان، قال: نعم العمل، يشهد لك كل شيء سمعك»، وعن عائشة قالت: «ما أرى هذه الآية نزلت إلا في المؤذنين: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}.
فهنيئا للمؤذنين المخلصين ما أعد الله تعالى لهم من المثوبة والكرامة لما بذلوا من جهد في حفظ أوقات العبادة على المسلمين، ومتعنا الله تعالى بسماع الأذان ورزقنا إجابته، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 27-12-2024 05:37 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (110)




{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}




طهارة النفس تتحقق بإصلاح الفكر بالتعلم حتى يميز الحق والباطل في الاعتقاد، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الفعال


اهتم القرآن الكريم بشخصية المسلم اهتماما كبيرا تمثّل في النصوص الشرعية، والمبادئ العامة، والأحكام التفصيلية التي تناولت الجوانب العقدية والعملية والأخلاقية للمسلمين.
فالقرآن الكريم في بنائه للشخصية الإسلامية المتميزة لم يترك تحديد سمات تلك الشخصية ومعالمها لاجتهادات البشر أو أهوائهم أو عاداتهم وتقاليدهم، بل بيّن بكل وضوح صفات تلك الشخصية التي يريد للمسلمين أن يكونوا عليها ويتصفوا بها، من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ذكرت صفات المؤمنين، وسمات المتقين، على سبيل الإجمال تارة، وعلى سبيل التفصيل تارة أخرى؛ بحيث تكون تلك الصفات والسمات معايير عامة وتفصيلية لبناء الشخصية الإسلامية، تحدد بدقة مدى قرب المسلم أو بعده من تلك الشخصية المطلوبة، وهذا من جملة بيان القرآن الكريم الذي امتن الله -تعالى- به على عباده فقال سبحانه: { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(النساء: 176).
والمجاهدة من أبرز معالم الشخصية الإسلامية، والمقصود بالمجاهدة العمل على تزكية النفس بترسيخ الفضائل، والتخلص من الرذائل، ويذهب الشيخ ابن عثيمين إلى معنى أوسع وأشمل فيقول: المجاهدة تعني مجاهدة الإنسان نفسه ومجاهدة غيره، فأما مجاهدة الإنسان نفسه فإنها من أشق الأشياء، ولا تتم مجاهدة الآخر إلا بمجاهدة النفس أولاً، ومجاهدة النفس تكون بأن يجاهد الإنسان نفسه على شيئين: على فعل الطاعات، وعلى ترك المعاصي؛ لأن فعل الطاعات ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه، وترك المعاصي كذلك ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه، فتحتاج النفس إلى مجاهدة ولاسيما مع قلة الرغبة في الخير، فإن الإنسان يعاني من نفسه معاناةً شديدة؛ ليحملها على فعل الخير».
- والمجاهدة في اللغة: مصدر جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة، وأصل المادة يدل على المشقة، قال ابن فارس: الجيم والهاء والدال أصله المشقة، ثم يحمل عليه ما يقاربه، يقال : جهدت نفسي وأجهدت، والجهد: الطاقة، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}(التوبة: 79).
- وأما المجاهدة في الاصطلاح: ففي التعريفات للجرجاني (المجاهدة): محاربة النفس الأمارة بالسوء بتحميلها ما يشق عليها بما هو مطلوب في الشرع، وزاد المناوي: هي حمل النفس على المشاق البدنية ومخالفة الهوى.
وقال ابن حجر: المراد بالمجاهدة: كف النفس عن إرادتها من الشغل بغير العبادة.
والمسلم -كما يصوره القرآن الكريم- ساع في تكميل نفسه بالفضائل وتطهيرها من الرذائل، كما أنه يسعى في تكميل غيره بالدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو في جهاد مستمر، وتزكية دائمة، ولهذا فإنه يستحق هداية الله وتوفيقه كما وعده الله -عز وجل- في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت: 69).
قال الطاهر: ومعنى جاهدوا فينا؛ جاهدوا في مرضاتنا والدين الذي اخترناه لهم والهداية: الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي، أي لنزيدنهم هدى. وسبل الله: الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه، شبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرم للضيف.
والمراد بالمحسنين جميع الذين كانوا محسنين، أي كان عمل الحسنات شعارهم وهو عام . وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم في عداد من مضى من الأنبياء والصالحين. وهذا أوقع في إثبات الفوز لهم مما لو قيل: فأولئك المحسنون؛ لأن في التمثيل بالأمور المقررة المشهورة تقريرا للمعاني».
ويقول القرطبي: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} أي جاهدوا الكفار فينا؛ أي: في طلب مرضاتنا. وقال السدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال . قال ابن عطية : فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين وقمع الظالمين، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر.
وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون. وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوْا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ}(البقرة: 282).
وقال عبد الله بن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا». وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال.
وقال في البحر المحيط: {والذين جاهدوا فينا}: أطلق المجاهدة، ولم يقيدها بمتعلق، ليتناول المجاهدة في النفس الأمارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين، وما ورد من أقوال العلماء، فالمقصود بها المثال. قال ابن عباس: جاهدوا أهواءهم في طاعة الله، وشكر آلائه، والصبر على بلائه.{لنهدينهم سبلنا}: لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير، كقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(محمد: 17). وقال السدي: جاهدوا فينا بالثبات على الإيمان، لنهدينهم سبلنا إلى الجنة.
وقال ابن بطال: جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال الله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿40﴾فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ }(النازعات: 40 - 41) الآية، ويقع بمنع النفس عن المعاصي، وبمنعها عن الشبهات، وبمنعها من الإكثار من الشهوات المباحة لتتوفر لها في الآخرة، قال ابن حجر: ولئلا يعتاد الإكثار فيألفه فيجره إلى الشبهات فلا يأمن أن يقع في الحرام.
كما أن مجاهدة النفس أساس لتهيؤ الإنسان للخلافة في الأرض، كما قال الراغب الأصفهاني: لا يصلح لخلافة الله، ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه إلا من كان طاهر النفس، قد أزيل رجسها ونجسها؛ فللنفس نجاسة كما أن للبدن نجاسة، لكن نجاسة البدن قد تدرك بالبصر، ونجاسة النفس لا تدرك إلا بالبصيرة، وإياها قصد تعالى بقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ}(التوبة: 28).
وقال -رحمه الله- مبينا وسيلة طهارة النفس: الذي يطهر به النفس حتى يترشح لخلافة الله تعالى، ويستحق به ثوابه هو العلم والعبادات الموظفة التي هي سبب الحياة الأخروية، كما أن الذي يطهر البدن هو الماء الذي هو سبب الحياة الدنيوية، ولذلك سماها الحياة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24)، فسمى العلم والعبادة حياة من حيث إن النفس متى فقدتهما هلكت هلاك الأبد.
وطهارة النفس تتحقق بإصلاح الفكر بالتعلم حتى يميز الحق والباطل في الاعتقاد، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الفعال، وإصلاح الشهوة بالعفة حتى تسلس بالجود، والمواساة المحمودة بقدر الطاقة، وإصلاح الحمية بإسلاسها حتى يحصل التحكم وهو كف النفس عن قضاء وطر الخوف وعن الحرص المذمومين، وبإصلاح هذه القوى الثلاث يحصل للنفس العدالة والإحسان.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 06-01-2025 03:13 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(111)




- الوالد أوسط أبواب الجنة



إن كان الجهاد فرض كفاية فجمهور الفقهاء يرون وجوب استئذان الوالدين قبل الخروج وعليه ترك الخروج إذا منعاه من ذلك


بر الوالدين من أعظم الواجبات على العباد بعد القيام بواجب العبودية لله تعالى، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على تقرير هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام:
فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان: 14)
وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (الأحقاف: 15).

وقال تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿23﴾وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 23-24).
وقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (النِّساء: 36).
وقال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.(البقرة: 83)
وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}(الأنعام: 151).
قال القرطبي: «أمر الله تعالى بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره فقال: {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير}.
والإحسان إلى الوالدين كلمة جامعة، تعني إيصال كل خير مستطاع إليهما، ومنع كل ما يمكن منعه من أذى عنهما، واقتران ذلك بالشفقة والعطف والتودد.
يوضح ابن عباس معنى الإحسان فيقول: «البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحدّ النظر إليهما، ولا يرفع الصوت عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما».
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قال القرطبي: «فأخبرصلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام».
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنفه» ثلاثا، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة».
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه».
و‏عَنْ ‏ ‏أَبِي الدَّرْدَاءِ ‏أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ‏ ‏لِيَ امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا قَالَ ‏أَبُو الدَّرْدَاءِ: ‏‏سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏يَقُولُ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ»، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ ‏.أخرجه الترمذي
‏قوله: «الوالد أوسط أبواب الجنة» ‏‏قال القاضي: أي خير الأبواب وأعلاها، والمعنى أن أحسن ما يتوسل به إلى دخول الجنة ويتوسل به إلى وصول درجتها العالية مطاوعة الوالد ومراعاة جانبه، وقال غيره: إن للجنة أبوابا وأحسنها دخولا أوسطها، وإن سبب دخول ذلك الباب الأوسط هو محافظة حقوق الوالد انتهى. فالمراد بالوالد الجنس، أو إذا كان حكم الوالد هذا فحكم الوالدة أقوى وبالاعتبار أولى ‏‏(فأضع) ‏‏فعل أمر من الإضاعة ‏‏(ذلك الباب) ‏‏بترك المحافظة عليه ‏‏(أو احفظه) ‏‏أي داوم على تحصيله.
قال المناوي: «الوالد أوسط أبواب الجنة» أي: طاعته، وعدم عقوقه مؤدٍ إلى دخول الجنة من أوسط أبوابها، ذكره العراقي.
وقال بعضهم: خيرها، وأفضلها، وأعلاها، يقال: هو من أوسط قومه، أي من خيارهم.
ويضاد الإحسان إلى الوالدين (العقوق)، وهو كل ما يصدر من الولد مما يتأذى به أحد الوالدين من قول أو فعل إلا ما كان في ترك طاعتهما في شرك أو معصية.
وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر باتفاق الفقهاء، فقد أخرج الشيخان عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين»، وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وقول الزور وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
وطاعة الوالدين ليست مطلقة بل لها حدود بينتها النصوص الشرعية؛ فيجب على الولد طاعة والديه فيما أمرا به من المباحات فعلا أو تركا، ما لم يترتب على طاعتهما ضرر بالغ أو هلاك محقق.
فإن أمرا بمعصية سواء أكانت تركا لواجب أو فعلا لمحرم فلا طاعة لهما، لقوله صلى الله عليه وسلم : «إنما الطاعة في المعروف»، وقوله: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
فإن أمرا بترك مندوب وفي ذلك مصلحة لهما، كأن يطلبا من الولد مصاحبتهما وفي ذلك تركه لقيام الليل أو قراءة القرآن فإنه تجب طاعتهما، ودليل ذلك استجابة الله تعالى دعاء أم جريج في ابنها الصالح؛ حيث عاقبه الله لعدم تلبيته لندائها، قال النووي في فقه الحديث: «فيه قصة جريج وأنه آثر الصلاة على إجابتها فدعت عليه فاستجاب الله لها، قال العلماء: هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها؛ لأنه كان في صلاة نفل والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود لصلاته.
وإذا أمراه بترك واجب كفائي كترك غسل الميت أو ترك الجهاد ونحو ذلك، فإن تعين عليه القيام بذلك العمل لعدم وجود غيره أو لأن القائمين به لا يكفي جهدهم لإقامته فلا يطاعان في ذلك، أما إذا وجد من يكفي فإنه يجب برهما وطاعتهما.
وإذا وجب الجهاد على الولد وتعين لم يعتد بإذن الوالدين؛ لأنه صار فرض عين وتركه معصية، وكذلك كل ما وجب مثل الحج وصلاة الجماعة والسفر للعلم الواجب، قال الأوزاعي: لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض والجُمَعِ والحج والقتال لأنها عبادة تعينت عليه.
أما إن كان الجهاد فرض كفاية فجمهور الفقهاء يرون وجوب استئذان الوالدين قبل الخروج وعليه ترك الخروج إذا منعاه من ذلك، ودليلهم ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي رفاستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟» قال نعم قال: «ففيهما فجاهد»، وفي رواية لأبي داود: جاء رجل فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبواي يبكيان، قال صلى الله عليه وسلم : «فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»، وعن أبي سعيد: أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «هل لك أحد باليمن؟» قال: أبواي، قال: «أذنا لك؟» قال: لا، قال: «فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما» أخرجه أبو داود.
قال النَّووي: «هذا كلُّه دليلٌ لعظم فضيلة برِّهما وأنَّه آكد من الجهاد، وفيه حجةٌ لما قاله العلماء أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلميْن».
قال ابن قدامة: لأن بر الوالدين فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا بر الوالدين، ويحفظنا من العقوق، ويمنن علينا بالسداد والقبول.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 31-01-2025 09:39 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(112)

- الرخصة من الله صدقة، فلا تردوا صدقته


اليسر ورفع الحرج من أبرز معالم الإسلام وخصائصه العظام، وقد تجلت مظاهر التيسير في كل جوانب الشريعة الإسلامية، فمن ذلك قلة التكاليف مقارنة بالمباحات، وتشريع الرخص مراعاة للظروف الإنسانية والأعذار البشرية.
وقد جاءت النصوص الشرعية تقرر مبدأ التيسير، وتحث على الأخذ بالرخص الشرعية؛ لما في ذلك من قبول نعمة الله تعالى على عباده وعدم الإعراض عنها، ولما في الأخذ بالرخص من الإعانة على طاعة الله -تعالى- وتخفيفها على النفوس، وتحبيبها إلى القلوب.
فقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج: 78)، قال الطاهر بن عاشور: «جعله دينا لا حرج فيه؛ لأن ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل، فيسعد أهله بسهولة امتثاله، وقد امتن الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن، منها قوله تعالى {َيُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(البقرة: 185)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة».
ولأن الرخص منة من الله تعالى ونعمة فالواجب قبولها وشكر الله عليها، فعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}(النساء: 101) وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ. فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ, فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».
وقال ابن عباس: «الرخصة من الله صدقة. فلا تردوا صدقته».
والله -تعالى- يحب الأخذ بالرخص بشروطها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» أخرجه أحمد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» رواه أحمد
قال الشوكاني: «والمراد بالرخصة التسهيل والتوسعة في ترك بعض الواجبات أوإباحة بعض المحرمات، وهي في لسان أهل الأصول الحكم الثابت على خلاف دليل الوجوب أو الحرمة لعذر، وفيه أن الله يحب إتيان ما شرعه من الرخص، وفي تشبيه تلك المحبة بكراهته لإتيان المعصية دليل على أن في ترك إتيان الرخصة ترك طاعة كالترك للطاعة الحاصل بإتيان المعصية».
وغضب النبي صلى الله عليه وسلم حين أعرض الناس عن الرخص الشرعية، فعن عائشة قالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر فتنزه عنه ناس من الناس، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال: «ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه، فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية» أخرجه مسلم.
قال القرطبي: «ويستفاد من هذا الحديث النهي عن التنطع في الدين، وعن الأخذ بالتشديد في جميع الأمور، فإن دين الله يسر، وهو الحنيفية السمحة، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه، وحاصل الأمر:أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فما شدد فيه التزمناه على شدته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله -تعالى- على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا فليس على سنته».
والرخصة حكم شرعي له شروط وموانع، فلا يصح ترك الواجبات أو فعل المحرمات لأدنى عارض أو أقل مشقة، بل لابد من سؤال أهل العلم لمعرفة ضوابط الرخصة ليحقق المكلف مراد الشارع، ويجتنب الوقوع في اتباع الهوى بحجة الأخذ بالرخصة الشرعية.
يوضح ابن القيم-رحمه الله- أن الرخصة نوعان وحكمهما مختلف؛ فأحدهما: الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع نصاً، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة، وإن قيل لها عزيمة باعتبار الأمر والوجوب، فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة، وكفطر المريض والمسافر، وقصر الصلاة في السفر، وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعداً، وفطر الحامل والمرضع خوفاً على ولديهما، فليس في تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته، ولا يرده إلى غثاثة، ولا ينقص طلبه وإرادته البتة؛ فإن منها: ما هو واجب،كأكل الميتة عند الضرورة. ومنها: ما هو راجح المصلحة، كفطر الصائم المريض، وقصر المسافر وفطره.ومنها: ما مصلحته للمترخص وغيره؛ ففيه مصلحتان: قاصرة ومتعدية، كفطر الحامل والمرضع.ففعل هذه الرخص أرجح، وأفضل من تركها.
النوع الثاني: رخص التأويلات، واختلاف المذاهب، فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص. فإن من ترخص بقول أهل مكة في الصرف، وأهل العراق في الأشربة، وأهل المدينة في الأطعمة، وأصحاب الحيل في المعاملات، وأمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء، فهذا الذي تنقص برخصته رغبته، ويوهن طلبه، ويلقيه في غثاثة الرخص؛ فهذا لون والأول لون».
ويؤكد الشاطبي أهمية تحقق شرط الرخصة قبل الأخذ بها ليسلم المكلف من اتباع الهوى فيقول: «فالمشقات التي هي مظان التخفيفات في نظر الناظر على ضربين:
- أحدهما: أن تكون حقيقية، وهو معظم ما وقع فيه الترخص كوجود المشقة المرضية والسفرية، وشبه ذلك مما له سبب معين واقع.
- والثاني: أن تكون توهمية مجردة؛ بحيث لم يوجد السبب المرخص لأجله، ولا وجدت حكمته وهي المشقة وإن وجد منها شيء، لكن غير خارج عن مجاري العادات.
فأما الضرب الأول; فإما أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادا لا يطيقه طبعا أو شرعا، ويكون ذلك محققا لا مظنونا ولا متوهما أو لا ; فإن كان الأول ; فرجوعه إلى الرخصة مطلوب، ورجع إلى القسم الذي لم يقع الكلام فيه ; لأن الرخصة هنا حق لله.
وإن كان الثاني وهو أن يكون مظنونا ; فالظنون تختلف، والأصل البقاء على أصل العزيمة، ومتى قوي الظن ضعف مقتضى العزيمة، ومتى ضعف الظن قوي.
وأما الضرب الثاني، وهو أن تكون توهمية؛ بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة، نحو الظان أنه تأتيه الحمى غدا بناء على عادته في أدوارها فيفطر قبل مجيئها، وكذلك الطاهر إذا بنت على الفطر ظنا أن حيضتها ستأتي ذلك اليوم، وهذا كله أمر ضعيف جدا.
والحاصل من هذا التقسيم أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات، وهي مختلفة، وكذلك أهواء النفوس; فإنها تقدر أشياء لا حقيقة لها».
فبعض الناس للأسف يستدل بأن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه على ما يقوم به من مخالفات شرعية ظنا منه أن الشرع يرخص له في ذلك، والواجب عليه أن يتحقق من توافر شروط الرخصة وانتفاء موانعها، وإلا كان متبعا للهوى، والهوى مذموم في النصوص الشرعية، كما قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ}(الجاثية: 23)، وقال صلى الله عليه وسلم : «ثلاث مهلكات وثلاث منجيات؛ فالمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه»، وقال الشعبي: «إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار». وقال ابن عباس: «ما ذكر الله الهوى في القرآن إلا ذمه». نسأل الله -تعالى- السلامة والعافية.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 31-01-2025 09:41 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(113)

- خالِص المؤمن وخالِق الفاجر




للمسلم أخلاق كريمة، وآداب جميلة، تتجلى في تصرفاته وتعامله مع غيره؛ سواء أكان غيرة من المؤمنين الصالحين، أم من الفاسقين العاصين، أم كان من غير المسلمين، فالمسلم يلتزم حدود ما أنزل الله -تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ من العلم والعدل والرحمة الذي أرشدت إليه النصوص الشرعية، وأكدته القواعد الدينية.
وقد نقل الشَّعْبِيِّ عن صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ أنه قال لابْنِ يَزِيدَ: «خَصْلَتَانِ أُوصِيكَ بِهِمَا فَاحْفَظْهُمَا مِنِّي، خَالِصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَالِقِ الْفَاجِرَ، فَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرْضَى مِنْكَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَأَنَّهُ يَحَقُّ عَلَيْنَا أَنْ نُخَالِصَ الْمُؤْمِنَ».
فهذه الحكمة الموجزة دلت على الموقف المطلوب من المسلم حين يخالط ويتعامل مع صنفين من الناس؛ وهما المسلم الصالح، والآخر المسلم الفاجر.
أما المسلم الصالح فقد أمر الشرع بالنصح والإخلاص له، فعن تميم بن أوس الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة ثلاثا قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم.
يبين النووي كيفية النصيحة لعامة المسلمين وذلك بإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط همهم إلى الطاعات.
وقال الشيخ ابن سعدي: «وأما النصيحة لعامة المسلمين فبأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسعى في ذلك بحسب الإمكان، فإن من أحب شيئاً سعى له، واجتهد في تحقيقه وتكميله».
أما الصنف الآخر ـ وهو المسلم الفاجر ـ الذي قد يبتلى به الإنسان في عمل أو جوار أو غير ذلك من أحوال الدنيا، ويتأذى من سوء خلقه أو سلاطة لسانه، فالمطلوب من المسلم أن يتحلى بالمداراة وحسن الخلق، وأن يقف حيث أوقفه الشرع، فلا يقبل مجاراة الآخرين في أخلاقهم وسوء أعمالهم.
فعن عروة بن الزبير أنَّ عائشة أخبرته أنَّه استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقالصلى الله عليه وسلم : «ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة». فلما دخل ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلتَ ما قلتَ، ثم ألنتَ له في القول. فقال: «أي عائشة، إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله من تركه - أو ودعه - الناس اتقاء فحشه» رواه البخاري ومسلم.
قال النووي: «وفي هذا الحديث مداراة من يتقى فحشه، وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه، ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه، ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه، ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام».
والمداراة مصدر دارى، أي: لاطفه ولاينه، ومداراة الناس: أي ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم؛ لئلا ينفروا عنك .
قال ابن بطال: «المدَاراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول»، وقال ابن حجر: «المراد به الدفع برفق»، وقال المناوي: «المدَاراة: الملاينة والملاطفة».
وقال ابن القيم مبينا الفرق بين المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة: «المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، وأما المداهن فهو يتلطف به ليقره على باطله، ويتركه على هواه. فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق».
وقال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين؛ وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لا يظهر ما هو فيه والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك» .
وتأمل أدب إبراهيم عليه السلام مع أبيه الكافر كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا}(مريم: 41 - 45).
قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذا من لطف الخطاب ولينه ما لا يخفى، فإنه لم يقل: يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل. أو:ليس عندك من العلم شيء، وإنما أتى بصيغة تقتضي أنَّ عندي وعندك علمًا، وأنَّ الذي وصل إليَّ لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها».
وانظر توجيه الله -تعالى- لموسى وهارون عليهما السلام قال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولاَ لَهُ قَوْلا لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(طه: 43 - 44).
قال ابن كثير: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين».
قال الحسن البصري: «كانوا يقولون:المدَاراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كلُّه». وقال: «المؤمن يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله». وقال محمد بن السماك: «من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المدَاراة ترك المماراة». فالمسلم على بصيرة من دينه، وحكمة في تصرفه، يتخذ الموقف المناسب الذي يحقق المصالح ويدرأ المفاسد وفق الضوابط الشرعية، فعليه أن يكون حليما رفيقا في موضع الرفق، ويكون حازما صريحا في موقف الحزم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل الرفق والحزم كلا في موضعه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم مداهنا، ولا منفرا، بل كان حكيما رحيما صلى الله عليه وسلم .


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 31-01-2025 09:58 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(114)

- من أطال الأمـل أساء العمل


فطر الإنسان على حب الدنيا، والتعلق بها، والرغبة في الازدياد منها، وهو ما يعرف بالأمل، قال القرطبي: «الأمل الحرص على الدنيا، والانكباب عليها، والحب لها، والإعراض عن الآخرة».وقال ابن حجر: «الأمل بفتحتين رجاء ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى، وهو قريب المعنى من التمني».
ولاشك أن الأمل ضروري للإنسان ليقدم له الحافز للعمل والدافع للإنجاز، إلا أن المذموم هو الانشغال به عن الآخرة كما قال ابن حجر: «وفي الأمل سر لطيف؛ لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه، وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته له».
وقد جاءت النصوص الشرعية تحذر من طول الأمل وتدعو إلى الاستعداد ليوم المعاد، فقد قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(الحجر :3)
قال الطبري: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ذر يا محمد هؤلاء المشركين يأكلوا في هذه الدنيا ما هم آكلوه، ويتمتعوا من لذاتها وشهواتهم فيها إلى أجلهم الذي أجلت لهم، ويلههم الأمل عن الأخذ بحظهم من طاعة الله فيها، وتزودهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم، فسوف يعلمون غدا إذا وردوا عليه، وقد هلكوا على كفرهم بالله وشركهم حين يعاينون عذاب الله أنهم كانوا من تمتعهم بما كانوا يتمتعون فيها من اللذات والشهوات كانوا في خسار وتباب».
وقال ابن حجر: «قال الجمهور: هي عامة، وقال جماعة: هي في الكفار خاصة، والأمر فيه للتهديد وفيه زجر عن الانهماك في ملاذ الدنيا».
وقال ابن سعدي: «{‏وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ‏}‏ أي‏:‏ يؤملون البقاء في الدنيا فيلهيهم عن الآخرة، ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن ما هم عليه باطل، وأن أعمالهم ذهبت خسرانا عليهم، ولا يغتروا بإمهال الله تعالى، فإن هذه سنته في الأمم‏».
وقال صلى الله عليه وسلم : «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل». رواه الإمام أحمد وحسنه الشيخ الألباني.
يوضح المناوي مناسبة صلاح أول الأمة بالزهد واليقين فيقول: «إذ بهما يصير العبد شاكرا مفوضا مسلما متوكلا، ويهلك آخرها بالبخل والأمل؛ فإنهما لا يكونان إلا ممن فقد يقينه، وساء ظنه بربه فبخل، وتلذذ بالشهوات، وطال أمله، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا».
وطول الأمل شيء فطري في قلب الإنسان، يكبر معه ولا ينفك عنه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يزال قلب الكبير شابّاً في اثنتين: في حبّ الدّنيا وطول الأمل». رواه البخاري، ‏وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يكبر ابن ‏ ‏آدم ‏ ‏ويكبر معه اثنان؛ حب المال، وطول العمر» متفق عليه واللفظ للبخاري.
قال ابن حجر: «قوله: «لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين في حب الدنيا وطول الأمل». المراد بالأمل هنا (محبة طول العمر) فسره حديث أنس الذي بعده، وسماه شابا إشارة إلى قوة استحكام حبه للمال أو هو من باب المشاكلة والمطابقة».
قَالَ النَّوَوِيّ: «وَمَعْنَاه: أَنَّ قَلْب الشَّيْخ كَامِل الْحُبّ لِلْمَالِ مُتَحَكِّم فِي ذَلِكَ كَاحْتِكَامِ قُوَّة الشَّابّ فِي شَبَابه» .
وَقَالَ غَيْره: الْحِكْمَة فِي التَّخْصِيص بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ أَحَبّ الْأَشْيَاء إِلَى اِبْن آدَم نَفْسه, فَهُوَ رَاغِب فِي بَقَائِهَا فَأَحَبَّ لِذَلِكَ طُول الْعُمْر, وَأَحَبَّ الْمَال؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَم الْأَسْبَاب فِي دَوَام الصِّحَّة الَّتِي يَنْشَأ عَنْهَا غَالِبًا طُول الْعُمْر, فَكُلَّمَا أَحَسَّ بِقُرْبِ نَفَاد ذَلِكَ اِشْتَدَّ حُبّه لَهُ وَرَغْبَته فِي دَوَامه .
وفي كثير من الأحيان يكون أمل الإنسان طويلا، وأحلامه بعيدة دون أن يدري أن أجله أقصر من ذلك بكثير، فعن عبدالله رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: «هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار(الأعراض) فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا».أخرجه البخاري
وفي الحديث إشارة إلى الحض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل .
ولطول الأمل آثار خطيرة منها: قسوة القلب والغفلة كما قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد: 16).
قال ابن عاشور: «والتحذير منصب إلى ما حدث لأهل الكتاب من قسوة القلوب بعد طول الأمد عليهم في مزاولة دينهم، أي: فليحذر الذين آمنوا من أن يكونوا مثلهم على حدثان عهدهم بالدين، وليس المقصود عذر الذين أوتوا الكتاب بطول الأمد عليهم؛ لأن طول الأمد لا يكون سببا في التفريط فيما أطال فيه الأمد بل الأمر بالعكس، ولا قصد تهوين حصوله للذين آمنوا بعد أن يطول الأمد؛ لأن ذلك لا يتعلق به الغرض قبل طول الأمد، وإنما المقصود النهي عن التشبيه بالذين أوتوا الكتاب في عدم خشوع قلوبهم، لكنه يفيد تحذير المؤمنين بعد أن يطول الزمان من أن يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب».
وقال أبو موسى الأشعري: «لا يطولنَّ عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم». رواه مسلم
وقال علي: «إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل؛ فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة». وقال أيضا: «من أطال الأمل أساء العمل».
وقال ابن حجر: «ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب; لأن وقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى:{فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم}، وقيل: «من قصر أمله قل همه وتنور قلبه; لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة وقل همه ورضي بالقليل».
ويبين الغزالي أن طول الأمل له سببان؛ أحدهما: الجهل، والآخر: حب الدنيا، وبين علاجهما فقال: «أما الجهل فيدفع بالفكر الصافي والحكمة البالغة، وأما حب الدنيا فلا علاج له إلا بالإيمان باليوم الآخر وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثواب، ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا».
ونختم بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناءك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك». أخرجه الحاكم.


اعداد: د.وليد خالد الربيع





ابوالوليد المسلم 13-02-2025 02:50 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(115)

- المؤمن غِــرٌّ كريم



جاء الإسلام ليهذب الأخلاق ويزكي النفوس، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة: 2).

فالدين يريد من المسلم أن يكون محمود الشمائل، كريم الأخلاق، سليم الصدر، إلا إن ذلك لا يعني أن يكون غافلا أو مغفلا، بل عليه أن يكون -مع حسن خلقه- حصيفا، وافر اللب، مستحكم العقل، كيـّسا فطنا.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خبٌّ لئيم» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني.
قال في الشرح: «(المؤمن غر): بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء (كريم): أي: موصوف بالوصفين أي له الاغترار لكرمه (والفاجر): أي الفاسق (خب): بفتح خاء معجمة وتكسر وتشديد موحدة أي يسعى بين الناس بالفساد، والتخبب إفساد زوجة الغير أو عبده (لئيم): أي بخيل لجوج سيئ الخلق».
قال الخطابي موضحا معنى الحديث: «إن المؤمن المحمود هو من كان طبعه وشيمته الغرارة وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه، وأن ذلك ليس منه جهلا لكنه كرم وحسن خلق، وأن الفاجر هو من كانت عادته الخب والدهاء والوغول في معرفة الشر، وليس ذلك منه عقلا ولكنه خب ولؤم».
وقال ابن الأثير: «المؤمن غر كريم أي ليس بذي مكر فهو ينخدع لانقياده ولينه، وهو ضد الخب، يقال فتى غر وفتاة غر».
وقال المناوي: «(المؤمن غِرٌّ) أي: يغُرُّه كلُّ أحد، و يغُرُّه كلُّ شيء، ولا يعرف الشَّرَّ، وليس بذي مَكْر ولا فطنة للشَّرِّ، فهو يَنْخَدع لسَلَامة صَدْره، وحسن ظنِّه، وينخَدع لانقياده ولينه. (كريم) أي: شريف الأخلاق (والفاجر) أي: الفاسق (خبٌّ لئيم) أي: جريء، فيسعى في الأرض بالفساد، فالمؤمن المحمود: من كان طبعه الغَرَارة، وقلَّة الفِطْنة للشَّرِّ، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلًا، والفاجر من عادته الخُبث والدَّهاء والتَّوغل في معرفة الشَّرِّ، وليس ذا منه عقلًا».
وقال الطاهر بن عاشور: «وفي الحديث: «المؤمن غر كريم» أي: من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله، فإن الإيمان يزيد الفطنة؛ لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة، ألا ترى إلى قوله: «والسعيد من وعظ بغيره» مع قوله: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله، وأما معنى: «المؤمن غر كريم» فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية».
ومن الأحاديث التي تحث على سلامة الصدر وحسن النية وسلامة الدخيلة ما رواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «أي النَّاس أفضل؟ قال: «كلُّ مَخْموم القلب، صدوق اللِّسان». قالوا: صدوق اللِّسان نعرفه، فما مَخْموم القلب؟ قال: «هو النَّقيُّ التَّقيُّ، لا إثم عليه، ولا بَغْي ولا غلٌّ ولا حسد».أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
فهذا الحديث يدل على فضل سلامة الصدر وحسن الظن وطيب القلب وصدق الحديث، وأن اشتمال النفس على الإثم والبغي والغل والحسد أمر مذموم ينبغي على المسلم التوقي منه والعمل على تزكية نفسه وتطهيرها منه.
ولا بد من التفريق بين سلامة الصدر وبلادة الحس وقلة العقل وسوء التدبير، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فالقلب السَّليم المحمود، هو الذي يريد الخير لا الشَّر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشَّر، فأمَّا من لا يعرف الشَّر، فذاك نقص فيه لا يُمدح به».
وقال ابن القيِّم: «والفرق بين سَلَامة القلب والـبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيَسْلَم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف الـبَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهذا لا يُحْمد؛ إذ هو نقص، وإنَّما يَحْمد النَّاس من هو كذلك؛ لسَلَامتهم منه، والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشَّرِّ، سليمًا من إرادته، قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه : «لست بِخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ». وكان عمر أعقل من أن يُخْدع، وأورع من أن يَخْدع، وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء: 88-89)، فهذا هو السَّليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشُّبهة التي توجب اتِّباع الظَّنِّ، ومرض الشَّهوة التي توجب اتِّباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السَّليم الذي سَلِم من هذا وهذا».
وقد وصف الله تعالى المؤمنين بأنَّهم يقولون: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 10).
قال ابن عاشور: «أي سألوا الله أن يطهر نفوسهم من الغل والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطوه من فضيلة صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فضل به بعضهم من الهجرة وبعضهم من النصرة، فبين الله للذين جاؤوا من بعدهم ما يكسبهم فضيلة ليست للمهاجرين والأنصار، وهي فضيلة الدعاء لهم بالمغفرة وانطواء ضمائرهم على محبتهم وانتفاء البغض لهم، والمراد أنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضون أنفسهم عليه. وقد دلت الآية على أن حقا على المسلمين أن يذكروا سلفهم بخير، وأن حقا عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعظيمهم».
ولفضل سلامة الصدر ينعم الله تعالى به على أهل الجنة إذا دخلوها قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف: 43).
وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} (الحجر: 47).
قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وصف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد وغمر وعداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض، فجعلهم في الجنة إذا أدخلوها على سرر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم وفضله من كرامته عليه ، تجري من تحتهم أنهار الجنة».
ففي هذا الزمن الذي كثر فيه الغش والخداع، وافتخر بعض الناس وجاهر بدهائه وقدرته على استغفال الناس وخداعهم، حتى صار سوء الظن هو الأصل، والخداع هو المتوقع، نحتاج إلى إحياء تلك القيم الجميلة، والمبادئ الرفيعة التي دعا إليها الدين وحث عليها، من سلامة الصدور وحسن الظن ونقاء القلوب ، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 06:45 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (116)

– {وقد خاب من افترى}



النووي: «يقال: بهته بفتح الهاء مخففة: قلت فيه البهتان، وهو الباطل. و(الغيبة) ذكر الإنسان في غيبته بما يكره.


أمرنا الشرع المطهر بصدق الحديث، ونهانا عن الكذب والبهتان، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}(التوبة: 119)، وقال صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» متفق عليه.
والكذب أنواع كما قال الراغب: «الكذب إما أن يكون اختراع قصة لا أصل لها، أو زيادة في القصة أو نقصانا يغيران المعنى، أو تحريفا يغير عبارة، فما كان اختراعا يقال له: الافتراء والاختلاق، فإن كان بزيادة والنقص يقال له ذنب وكل من أراد كذبا على غيره فإما أن يقول بحضرة المقول فيه أو بغيبته، وأعظم الكذب ما كان اختراعا بحضرة المقول فيه وهو المعبر عنه بالبهتان».
فبعض الناس يصوغ زورا، ويفتري كذبا، ويلفق الأحاديث، ويفتعل الأخبار، يتقول الأقاويل، ولا يبالي بما يترتب على ذلك من آثار خطيرة، ونتائج وخيمة على الأفراد أو المجتمع، لا سيما في وسائل الاتصال الحديثة، وشغف الناس بشبكات التواصل الاجتماعي، ومتابعة كل ما ينقل دون عناية بالتأكد من صحة الأخبار وصدق الوقائع، فصار نقل الأكاذيب، وترويج الإشاعات تسلية لمستخدمي تلك الخدمة، وشغلا لفراغ مرتادي تلك الشبكة.
وقد حذرنا الشرع المطهر من الافتراء والبهتان فقال تعالى: {وقد خاب من افترى}(طه: 61).
قال الطبري: «يقول: لم يظفر من يخلق كذبا». فالخيبة: فوت المطلوب، قال تعالى: { وخاب كل جبار عنيد}(إبراهيم: 15)، {وقد خاب من دساها} (الشمس: 10)، {وقد خاب من حمل ظلما}(طه: 111).
وقال القرطبي: «وقد خاب من افترى أي خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به».
وقال ابن سعدي: «فحين اجتمعوا من جميع البلدان، وعظهم موسى عليه السلام، وأقام عليهم الحجة، وقال لهم‏:‏ ‏{‏وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ‏}(طه: 61)‏ أي‏:‏ لا تنصروا ما أنتم عليه من الباطل بسحركم، وتغالبوا الحق، وتفتروا على الله الكذب، فيستأصلكم بعذاب من عنده، ويخيب سعيكم وافتراءكم، فلا تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون، ولا تسلمون من عذاب الله، وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب‏.» ‏
ومن أعظم الافتراء (الافتراء على الله) كما قال تعالى: {فمن افترى على الله الكذب فأولئك هم الظالمون}(آل عمران: 94)، وقال عز وجل: {انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا}(النساء: 50)، وقال سبحانه: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون}(النحل: 105)، وقال سبحانه: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون}(يونس: 17).
ومن الافتراء على الله تعالى نسبة الشريك والصاحبة والولد إليه سبحانه وتعالى، ومن زعم أنه يوحى إليه أو أنه يأتي بمثل كلام الله -عز وجل- ومن الافتراء على الله -تعالى- القول في الدين بغير علم، ومن الافتراء على الله تعالى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبة الأحاديث المكذوبة إليه وقد قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِي, فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار». متفق عليه.
ومن الافتراء المحرم الافتراء على الآخرين فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته».أخرجه مسلم
قال النووي: «يقال: بهته بفتح الهاء مخففة: قلت فيه البهتان، وهو الباطل. و(الغيبة) ذكر الإنسان في غيبته بما يكره. وأصل البهت: أن يقال له الباطل في وجهه، وهما حرامان».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة من أصحابه على أمور منها ترك الافتراء والبهتان، فعن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثَمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عنه، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ». فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.متفق عليه
قال ابن حجر: «قوله: (ولا تأتوا ببهتان) البهتان الكذب يبهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال تقع بهما؛ إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، وكذا يسمون الصنائع الأيادي. وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال: هذا بما كسبت يداك. ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحا وبعضكم يشاهد بعضا، كما يقال: قلت كذا بين يدي فلان.
ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب; لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه، فلذلك نسب إليه الافتراء، كأن المعنى: لا ترموا أحدا بكذب تُزوِّرونَه في أنفسكم ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم».
وكذلك بايع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابيات على ترك الافتراء، فعَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَةٍ نُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلامِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلُمَّ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَأْتِي بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَقَالَ: «فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ»، فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنَّا بِأَنْفُسِنَا، هَلُمَّ نُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي لا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لَمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِثْلُ قَوْلِي لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ».أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر
ومن الافتراء تغيير الحقائق والعبث بالأنساب، فقد روى البخاري عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تر، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل».البخاري
قال ابن حجر: «وفي الحديث تحريم الانتفاء من النسب المعروف والادعاء إلى غيره، وقيد في الحديث بالعلم ولا بد منه في الحالتين إثباتًا ونفيًا».
فعلى المسلم تحري الصدق في كل أحواله، والتثبت في نقل الأخبار كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}(الحجرات: 6)، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 09:21 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (117)

{أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}(الشورى: 13)



الدين في اللغة له معان منها: الطاعة كقولهم: دان له أي أطاعه وخضع له، ومنها الجزاء كما قال تعالى: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق}(النور: 25)، أي: يجازيهم على أعمالهم الجزاء الحق، ومن معاني الدين: الملة كقوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة: 3).
أما الدين في الاصطلاح العام: فهو ما يعتنقه الإنسان ويعتقده ويدين به، ويشمل ذلك الدين الصحيح والأديان الباطلة.
أما في الاصطلاح الشرعي فعرف المناوي الدين بأنه: «وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما عند الرسول»، وقال أيضا: «وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات».
والدين الصحيح هو المنزل من عند الله تعالى؛ وهو الإسلام، والإسلام في اللغة: الانقياد والخضوع والإذعان والاستسلام.وأما في الاصطلاح فله معنيان:
فالإسلام بالمعنى العام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
فالإسلام بهذا المعنى هو دين جميع الأنبياء كما قال تعالى عن نوح عليه السلام: {وأمرت أن أكون من المسلمين}(يونس: 72)، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}(البقرة: 131)، وقال تعالى عن ذرية يعقوب عليه السلام: {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون}(البقرة: 133)، وقال تعالى: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا}(المائدة: 44)، والآيات في هذا كثيرة.
وأما الإسلام بالمعنى الخاص: فهو الدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الدين الإسلامي هو الدين المقبول عند الله قال الله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام}(آل عمران: 19)، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}(آل عمران: 85).
وهذا الإسلام هو الذي امتن به على محمدصلى الله عليه وسلم وأمته فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}(المائدة: 3).
وقد أمر الله تعالى نبيهصلى الله عليه وسلم بإقامة الدين فقال تعالى: {وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين}(يونس: 105).
قال الطبري: «ويعني بقوله: {أقم وجهك للدين} أقم نفسك على دين الإسلام،{حنيفا} مستقيما عليه، غير معوج عنه إلى يهودية ولا نصرانية، ولا عبادة وثن{ولا تكونن من المشركين}(يونس: 105)، يقول: ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه الآلهة والأنداد، فتكون من الهالكين».
وقال ابن كثير: «أي: أخلص العبادة لله وحده حنيفا، أي: منحرفا عن الشرك».
وقال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(الروم: 30)، وقال سبحانه: {فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون}(الروم: 43).
قال ابن كثير: «يقول تعالى: فسدد وجهك واستمر على الذي شرعه الله لك، من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره».
وإقامة الدين مما أمرنا الله به كما أمر السابقين فقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب }(الشورى: 13).
قال ابن العربي: «المعنى: ووصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا؛ يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي: التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال، والتزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، والزنا، والإذاية للخلق، كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان كيفما كان، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات.
فهذا كله شرع دينا واحدا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذلك قوله تعالى: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} أي اجعلوه قائما، يريد دائما مستمرا، محفوظا مستقرا، من غير خلاف فيه، ولا اضطراب عليه، فمن الخلق من وفى بذلك، ومنهم من نكث به، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.
واختلفت الشرائع (يعني العملية) وراء هذا في معان حسبما أراده الله، مما اقتضته المصلحة، وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم ».
وقال الطبري: «وعنى بقوله: {أن أقيموا الدين} أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض».
وقال الطاهر: «فالمعنى أن إقامة الدين واجتماع الكلمة عليه أوصى الله بها كل رسول من الرسل الذين سماهم، وهذا الوجه يقتضي أن ما حكي شرعه في الأديان السابقة هو هذا المعنى وهو إقامة الدين المشروع كما هو، والإقامة مجملة يفسرها ما في كل دين من الفروع.وإقامة الشيء: جعله قائما، وهي استعارة للحرص على العمل به كقوله: ويقيمون الصلاة».
وقال ابن سعدي: «أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونون على البر والتقوى، ولا تعاونون على الإثم والعدوان، {وَلا تَتَفَرَّقُوا} أي: ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على ألا تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزابا، وتكونوا شيعا، يعادي بعضكم يعضا، مع اتفاقكم على أصل دينكم».
وقد أمر الله تعالى الأمم السابقة بإقامة الدين ووعدهم بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة فقال جل وعلا: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم.ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}(المائدة: 65 - 66).
قال ابن كثير: «أي: لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه، من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ; فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتما لامحالة».
وقال تعالى: {قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم }(المائدة: 68)، قال ابن كثير: «لستم على شيء حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها ومما فيها الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته».
فإقامة الدين مطلب شرعي، وحقيقته التزام أحكام الدين العقدية والعملية والأخلاقية، والعمل بها ظاهرا وباطنا، وإظهارها، والدعوة إليها ونشرها بين الناس، وإحياؤها عند نسيانها واندراسها، فبذلك يحيى الدين، وتقام أركانه، ويعلو بنيانه كما أمرنا ربنا تعالى، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 14-02-2025 12:43 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (118)

{ولا تسألون عما كانوا يعملون}




من أركان الإيمان الواجب الإيمان بالبعث والنشور؛ حيث يبعث الله تعالى عباده بعد موتهم، ويحاسبهم على أعمالهم، ويجازيهم عليها، فكل الخلائق سيسألون عن أعمالهم، قال تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين}(الأعراف: 6)، وقال سبحانه {فوربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون}(الحجر: 92 - 93)، وقال عز وجل: {وقفوهم إنهم مسئولون}(الصافات: 24)، والآيات في هذا كثيرة.
ومما سيسأل العبد عنه النعم التي آتاه الله إياها والذنوب التي وقع العبد فيها، كما قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْنِي الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَضَعُ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، وَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ كَذَا وَكَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ كُلِّهَا وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ: «فَإِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ». قَالَ: ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، قَالَ: وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.
وجاء في الحديث أن الله تعالى يسأل العبد يوم القيامة فيقول: أَيْ فُلانُ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُسَوِّدْكَ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ؟ أَلَمْ أَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ قَالَ: بَلَى أَيْ رَبِّ؟ قَالَ فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لا، فَيَقُولُ إِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي».
ولابد من العلم بأن الإنسان مسؤول عن أعماله مسؤولية فردية، فلا يسأل عن أعمال غيره ولا يجازى عليها، قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى}(النجم: 36 - 41)، وقال سبحانه: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}(الأنعام: 164).
قال الطبري: «يقول: ولا تجترح نفس إثما إلا عليها، أي: لا يؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى وركبت من الخطيئة سواها، بل كل ذي إثم فهو المعاقب بإثمه والمأخوذ بذنبه، {ولا تزر وازرة وزر أخرى}(فاطر: 18)، يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها، ولكنها تأثم بإثمها، وعليه تعاقب، دون إثم أخرى غيرها».
وقال ابن كثير: «إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله -تعالى- وحكمه وعدله، أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد، وهذا من عدله تعالى كما قال: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى}(فاطر: 18).
ويتجلى مبدأ المسؤولية الفردية يوم القيامة كما قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. مَّنِ اهْتَدَى فإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(الإسراء: 13 - 15).
ومبدأ المسؤولية الفردية يشمل الأفراد كما يشمل الأمم، فكل فرد يسأل عن عمله الذاتي قال تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُم مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ}(النور: 11)، وقال الله سبحانه: {كُلُّ امْرِئِ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}(الطور: 21).
قال الطبري: «يقول: كل نفس بما كسبت وعملت من خير وشر مرتهنة، لا يؤاخذ أحد منهم بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه».
قال ابن كثير: «لما أخبر عن مقام الفضل، وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد، بل {كل امرئ بما كسب رهين} أي: مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أبا أم ابنا».
وقال الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(المدثر: 38)، عن ابن عباس: «مأخوذة بعملها».
وقال ابن كثير: «معناه: كل نفس مرتهنة بعملها السيئ إلا أصحاب اليمين، فإنه قد تعود بركات أعمالهم الصالحة على ذراريهم».
وقال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما}(طه: 112)، قال ابن عباس: «لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم فيزاد عليه في سيئاته، ولا يظلم فيهضم في حسناته».
قال الطبري: «يقول: فلا يخاف من الله أن يظلمه، فيحمل عليه سيئات غيره، فيعاقبه عليها «ولا هضما» يقول: لا يخاف أن يهضمه حسناته، فينقصه ثوابها».
وقال تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا}(الجن: 13)، فعن ابن عباس قال: «لا يخاف نقصا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته».
وقال الطبري: «فمن يصدق بربه {فلا يخاف بخسا} يقول: لا يخاف أن ينقص من حسناته، فلا يجازى عليها; {ولا رهقا} ولا إثما يحمل عليه من سيئات غيره، أو سيئة (لم) يعملها».
ويؤكد سبحانه هذا المبدأ ولو مع الكفار فيأمرنا أن نقول لهم: {قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون}(سبأ: 25)، يوضح الطاهربن عاشور أن هذا من باب التوسع في الاحتجاج فيقول: «إذا نحن أجرمنا فأنتم غير مؤاخذين بجرمنا، وإذا عملتم عملا فنحن غير مؤاخذين به، أي: أن كل فريق مؤاخذ وحده بعمله، فالأجدى بكلا الفريقين أن ينظر كل في أعماله وأعمال ضده ليعلم أي الفريقين أحق بالفوز والنجاة عند الله».
وكذلك من آثار مبدأ المسؤولية الفردية ألا تسأل أمة عن أعمال أمة أخرى، قال تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} (البقرة: 134).
قال ابن كثير: «وقوله تعالى: {تلك أمة قد خلت} أي: مضت، {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم، {ولا تسألون عما كانوا يعملون}(البقرة: 134).
فالمطلوب من المسلم أن يعد لهذا السؤال الحتمي جوابا يخلصه من التبعة، ويدرأ عنه العذاب، وذلك بأن يعرف ما أرسل الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق في العقائد والأعمال والأخلاق أولا، ثم يعمل وفق طاقته بما يقدر عليه من ذلك الهدى، ويتوب إلى الله تعالى مما قصر فيه أو أذنب، كما قال تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}(الفرقان: 70)، ويحرص على ألا يضيع عمره ولا جهده في مراقبة الآخرين أو لومهم أو محاسبتهم وانتقادهم، بل عليه أن يشتغل بإنقاذ نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح والتوبة النصوح، فهذا من حسن إسلام المرء كما قال صلى الله عليه وسلم : «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيه» أخرجه الترمذي، وعن الحسن قال: «من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه».



اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 16-02-2025 11:24 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(119)

- {إنما يستجيب الذين يسمعون}



حقيقة الدين تقوم على الإيمان بالله تعالى والانقياد له خوفا وطمعا، رغبة ورهبة، وهذه الحقيقة واضحة في النصوص الشرعية التي تأمر العباد بطاعة لله تعالى، وتنهاهم عن الكفر به أو الإعراض عن أمره، أو التقصير في حقه سبحانه وتعالى.
فالعبادة والإسلام والدين كلها مصطلحات تدور حول هذا الأصل، وتقرر هذا الحكم، وقد أمر الله تعالى عباده بالاستجابة له في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ }(الأنفال-24)، وقوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة- 186)، وقال سبحانه: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۚ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} (الشورى-47).
قال الشيخ ابن سعدي: «يأمر تعالى عباده بالاستجابة له، بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، وبالمبادرة بذلك وعدم التسويف، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده واستدراك الفائت، وليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه، فيفوت ربه، ويهرب منه.
وهذه الآية ونحوها، فيها ذم الأمل، والأمر بانتهاز الفرصة في كل عمل يعرض للعبد، فإن للتأخير آفات».
وبين القرآن أن الناس قسمان: مستجيب لربه، وجزاؤه الحسنى، وغير مستجيب، فجزاؤه النار كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (الرعد-18).
قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: أما الذين استجابوا لله فآمنوا به حين دعاهم إلى الإيمان به، وأطاعوه فاتبعوا رسوله وصدقوه فيما جاءهم به من عند الله، فإن لهم الحسنى، وهي الجنة، وأما الذين لم يستجيبوا لله حين دعاهم إلى توحيده والإقرار بربوبيته، ولم يطيعوه فيما أمرهم به، ولم يتبعوا رسوله فيصدقوه فيما جاءهم به من عند ربهم، فلو أن لهم ما في الأرض جميعا من شيء ومثله معه ملكا لهم، ثم قبل مثل ذلك منهم، وقبل منهم بدلا من العذاب الذي أعده الله لهم في نار جهنم وعوضا، لافتدوا به أنفسهم منه يقول الله:{أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} يقول: هؤلاء الذين لم يستجيبوا لله لهم سوء الحساب، يقول: لهم عند الله أن يأخذهم بذنوبهم كلها، فلا يغفر لهم منها شيئا، ولكن يعذبهم على جميعها ».
والمستجيب لله تعالى هو الحي حقيقة، وأما المعرض عن دين الله فهو في حكم الميت الذي لا ينتفع بشيء كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (الأنعام-36).
قال القرطبي: «يستمعون» أي: سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهم المؤمنون الذين يقبلون ما يسمعون فينتفعون به ويعملون; قال معناه الحسن ومجاهد. ثم قال: {والموتى يبعثهم الله } وهم الكفار; أي: هم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجة. وقيل: الموتى كل من مات يبعثهم الله أي: للحساب; وعلى الأول بعثهم هدايتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم . وعن الحسن: هو بعثهم من شركهم حتى يؤمنوا بك يا محمد - يعني عند حضور الموت - في حال الإلجاء في الدنيا».
وأما قوله : {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} فقد قال الطبري: «ثم إلى الله يرجع المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول، والكفار الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئا، فيثيب هذا المؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الإيمان به من الثواب، ويعاقب هذا الكافر بما أوعد أهل الكفر به من العقاب، لا يظلم أحدا منهم مثقال ذرة».
قال الشيخ ابن سعدي: «يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} لدعوتك، ويلبي رسالتك، وينقاد لأمرك ونهيك {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} بقلوبهم ما ينفعهم، وهم أولو الألباب والأسماع. والمراد بالسماع هنا: سماع القلب والاستجابة، وإلا فمجرد سماع الأذن، يشترك فيه البر والفاجر. فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة الله تعالى، باستماع آياته، فلم يبق لهم عذر، في عدم القبول. {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يحتمل أن المعنى، مقابل للمعنى المذكور. أي: إنما يستجيب لك أحياء القلوب، وأما أموات القلوب، الذين لا يشعرون بسعادتهم، ولا يحسون بما ينجيهم، فإنهم لا يستجيبون لك، ولا ينقادون، وموعدهم القيامة، يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، ويحتمل أن المراد بالآية، على ظاهرها، وأن الله تعالى يقرر المعاد، وأنه سيبعث الأموات يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون. ويكون هذا، متضمنا للترغيب في الاستجابة لله ورسوله، والترهيب من عدم ذلك».
وقد يرد تساؤل عن المانع من الاستجابة لله تعالى، والجواب كما يبينه القرآن هو اتباع الهوى كما قال سبحانه:{فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوائهم } (القصص-50).
قال الشيخ ابن سعدي: «دليل على أن كل من لم يستجب للرسول، وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول، فإنه لم يذهب إلى هدى، وإنما ذهب إلى هوى».
وقال سبحانه: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص-50).
قال ابن عاشور: «إن لم يستجيبوا لدعوتك، أي إلى الدين بعد قيام الحجة عليهم بهذا التحدي، فاعلم أن استمرارهم على الكفر بعد ذلك ما هو إلا إتباع للهوى ولا شبهة لهم في دينهم».
ومن موانع الاستجابة أيضا طاعة الشيطان في وسوسته وتزيينه كما أخبر الله تعالى بأن الشيطان يتبرأ من أتباعه يوم القيامة قائلا: {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (إبراهيم-22).
قال ابن سعدي: «أي: {وَقالَ الشَّيْطانُ} الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم، مخاطبا لأهل النار ومتبرئا منهم {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}(إبراهيم-22) على ألسنة رسله فلم تطيعوه، فلو أطعتموه لأدركتم الفوز العظيم، {وَوَعَدْتُكُمْ } الخير { فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي:لم يحصل ولن يحصل لكم ما منيتكم به من الأماني الباطلة. {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} أي: من حجة على تأييد قولي، {إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ} أي: هذا نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي وزينته لكم، فاستجبتم لي اتباعا لأهوائكم وشهواتكم، فإذا كانت الحال بهذه الصورة {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب، {ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي: بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها { وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } كل له قسط من العذاب.
فحقيقة الإسلام والعبودية الحقة تقوم على الإيمان بالله تعالى والاستجابة لدينه وشرعه، وعلى قدر الاستجابة المخلصة لله -تعالى- تكون السعادة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُوْلَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِيْنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّيْنَ وَالصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِيِنَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيِقًا} (النساء:69)، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة-72).



اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 17-02-2025 09:18 AM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (120)

- من حمل علينا السلاح فليس منا


تطالعنا وسائل الإعلام يوميا بأخبار القتل وإراقة الدماء، سواء داخل الكويت أم فيما حولنا من بلاد المسلمين والعالم عموما، والمرء يعجب من تساهل بعض المسلمين بهذه الجريمة وجرأتهم عليها لأتفه الأسباب، بل أصبح حمل السلاح رمزا للرجولة، ومظهرا للقوة لدى بعض ناقصي العقول، وفاقدي الثقة، والمفلسين دينيا وأخلاقيا، ممن استرخص حرمة الدماء، وعرض نفسه لسخط الرب، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
والإسلام جعل حفظ النفوس من أهم المقاصد الشرعية التي جاءت الشرائع لحفظها بعد حفظ الدين، كما دل على ذلك النصوص المتكاثرة في حرمة قتل المسلم بغير حق، وما يترتب عليه من عقوبات قاسية في الدنيا والآخرة.
فأولاً نهى الله تعالى عن قتل النفس بغير حق فقال سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (الأنعام:151)، ووضع جزاء أخرويا شديدا كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } (النساء:93).
وعدّ الشرع القتل من كبائر الذنوب فعن ‏عبد الله بن عمرو ‏أن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال: «‏‏الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، ‏‏واليمين الغموس‏» متفق عليه.
ولشدة خطر القتل فإنه يخشى على القاتل في الآخرة من عدم المغفرة، فعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً, أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً». رواه أبو داود وصححه الألباني.
والقتل من المهلكات الجسام عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لن يزال المؤمن في فسحةٍ من دينه ما لم يُصب دماً حراماً» رواه البخاري
قال ابن حجر: وفي رواية «في فسحة من ذنبه»، فمفهوم الأول أن يضيق عليه دينه؛ ففيه إشعار بالوعيد على قتل المؤمن متعمدا بما يتوعد به الكافر، ومفهوم الثاني أنه يصير في ضيق بسبب ذنبه، ففيه إشارة إلى استبعاد العفو عنه لاستمراره في الضيق المذكور.
وقال ابن العربي: «الفسحة في الدين: سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت؛ لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب: قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول».
ولهذا فإن القتل من الذنوب الشديدة التي لا مخرج منها كما قال ابن عمر: «إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله». أخرجه البخاري
قال ابن حجر: قوله: «ورطات» وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك، فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحة أنه ورط نفسه فأهلكها، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال لمن قتل عامدا بغير حق: «تزود من الماء البارد فإنك لا تدخل الجنة»، وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر: «زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم» قال الترمذي حديث حسن. وأخرجه النسائي بلفظ: «لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا»، قال ابن العربي: «ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالتقي الصالح ؟!».
وقد حرصت الشريعة على سلامة الناس فضلا عن إيذائهم أو قتلهم فحرمت مجرد رفع السلاح في وجه المسلم ولو كان على سبيل المزاح، فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعها، وإن كان أخاه لأبيه وأمه».
قال النووي: «فيه تأكيد حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه. وقوله صلى الله عليه وسلم : «وإن كان أخاه لأبيه وأمه» مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد، سواء من يتهم فيه، ومن لا يتهم، وسواء كان هذا هزلا ولعبا، أم لا; لأن ترويع المسلم حرام بكل حال، ولأنه قد يسبقه السلاح كما صرح به في الرواية الأخرى، ولعن الملائكة له يدل على أنه حرام».
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا». متفق عليه، وفي حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم: «من سل علينا السيف فليس منا».
ويبين النووي المراد بالحديث منبها على أمر مهم وهو أن: « قاعدة مذهب أهل السنة والفقهاء وهي أن من حمل السلاح على المسلمين بغير حق ولا تأويل، ولم يستحله فهو عاص ولا يكفر بذلك. فإن استحله كفر.
فأما تأويل الحديث فقيل: هو محمول على المستحل بغير تأويل فيكفر ويخرج من الملة، وقيل: معناه ليس على سيرتنا الكاملة وهدينا».
وقال ابن حجر: «ومعنى الحديث (حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق) لما في ذلك من تخويفهم وإدخال الرعب عليهم، وكأنه كنى بالحمل عن المقاتلة أو القتل للملازمة الغالبة. ففيه دلالة على تحريم قتال المسلمين والتشديد فيه.
ومعنى قوله: «فليس منا» أي: ليس على طريقتنا، أو ليس متبعا لطريقتنا ؛ لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله أو قتله ونظيره «من غشنا فليس منا» و«ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب». وهذا في حق من لا يستحل ذلك، فأما من يستحله فإنه يكفر باستحلال المحرم بشرطه لا مجرد حمل السلاح، والأولى عند كثير من السلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعرض لتأويله ليكون أبلغ في الزجر، وكان سفيان بن عيينة ينكر على من يصرفه عن ظاهره فيقول: معناه ليس على طريقتنا، ويرى أن الإمساك عن تأويله أولى لما ذكرناه، والوعيد المذكور لا يتناول من قاتل البغاة من أهل الحق فيحمل على البغاة وعلى من بدأ بالقتال ظالما».
وكثرة القتل من علامات الساعة، وهي من المنكرات التي ستظهر وتكثر فعن أَبي مُوسَى قال:حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْجًا» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ», فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَقْتُلُ الْآنَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ, وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا, حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ, وَابْنَ عَمِّهِ, وَذَا قَرَابَتِهِ», فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَعَنَا عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «لَا، تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ, وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ لَا عُقُولَ لَهُمْ» أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني.
فمعالجة هذا الأمر الخطير يحتاج إلى تكاتف جهود الدولة والمواطنين؛ كل في مجاله، فعلى الدولة الحزم بتطبيق القوانين، والجد في جمع السلاح، وتوعية الناس بخطر السلاح وما ينشأ عنه من حوادث وخيمة على الناس بسبب الغضب والتهور، أو بسبب الخطأ وسوء الاستعمال، وعلى المواطنين تربية النشء على سعة الصدر والتسامح، ومعالجة الخلافات بغير عنف كما أدبنا أسلافنا على العفو ودرء الشر، وتنبيه الصغار على خطر ما يشاهدونه في الأفلام والألعاب الإلكترونية من عنف وإراقة دماء، تطبع في نفوسهم سهولة القتل واستمراء إراقة الدماء، بل والفخر بذلك، ثم إن أحدهم ليعض أصبع الندم ويبكي الدم على ما قد يقوم به سفها بغير علم. والله خير الحافظين وهو نعم الوكيل.



اعداد: د.وليد خالد الربيع






ابوالوليد المسلم 08-03-2025 11:31 PM

رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
 
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(121)

{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }(الجاثية:18)


تظهر على الساحة الإسلامية أحداث خطيرة، وتغيرات جسيمة، تؤثر على واقع الأفراد والمجتمعات مباشرة، ثم تجد من الناس من يتخذ مواقف معينة؛ مؤيدة أو معارضة، دون الرجوع إلى أهل العلم والحكمة والرزانة، وإنما يحتكم لعقله القاصر، وعلمه الناقص، أو ما يصل إلى هاتفه النقال من فتاوى عجيبة، أو أكاذيب مفتراة، قد تكون صادرة عن غير أهل العلم، أو قال بها أصحاب الأهواء والفتن، فيتبناها دون تمحيص بين الصواب والخطأ، أو تمييز بين الحق والباطل، ويبدأ ينقل تلك المزاعم على أنها حقائق أكيدة، وأحكام صائبة، وهو ليس من أهل العلم ولا من طلبته، بل هو معدود في معيار الفقه من المقلدين الذين يجب عليهم الرجوع إلى المؤهلين لسؤالهم عن أمر دينه.
وقد أمرنا الله -تعالى- بطاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (النساء:59)، وأمرنا باتباع كتابه ودينه فقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } (الأعراف:3).
وأمرنا أن نسأل أهل العلم الراسخين إذا تعذر علينا تحصيل العلم بأنفسناـ وهو حال الغالب من الناس ـ فقال سبحانه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (الأنبياء: 7)، وقال تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83). يقول الشيخ ابن سعدي: «هذا تأديب من الله لعباده، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة، ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم؛ أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها».
ونهى الله تعالى عن القول بلا علم، وعن العمل بلا بصيرة ، ونهانا عن اتباع من لا يعلم، ومن اتبع هواه، ولاسيما أصحاب الفتنة الذين يتبعون الشهوات والمتشابهات.
فقال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } (الإسراء:36).
قال الشيخ ابن باز-رحمه الله-: «الله ينهى عن كون الإنسان يتكلم فيما لا يعلم، (ولا تقف) يعني لا تقل في شيء ليس لك به علم، بل تثبت، فالواجب عليه أن يتثبت وأن يعتني حتى لا يتكلم إلا عن علم، ولا يفعل إلا عن علم، ولا يعتقد إلا عن علم، ولهذا قال جل وعلا:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف:33). فجعل القول على الله بغير العلم فوق هذه الأشياء كلها، فالواجب على الإنسان يتعلم حتى يكون على علم».
وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الجاثية:18).
قال الطبري: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ثم جعلناك على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا، فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، يقول: ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون بالله، الذين لا يعرفون الحق من الباطل، فتعمل به، فتهلك إن عملت به» .
ففي الآية أمر للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون، فلا يسمعوا لقولهم، ولا يعملوا بأمرهم، ولا يأمنوا لجانبهم، وإن زخرفوه بالفصاحة، وأيدوه بالشبهات المضلة التي تنطلي على السذج، ويعرفها العلماء وطلبة العلم.
ويوضح الشيخ ابن سعدي المقصود بالذين لا يعلمون فقال: «‏الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه، وهم كل من خالف شريعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين لا يعلمون‏.‏»
وقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام:{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }(يونس:89)، قال الشوكاني: «والمعنى: النهي لهما عن سلوك طريقة من لا يعلم بعادة الله سبحانه في إجراء الأمور على ما تقتضيه المصالح تعجيلا وتأجيلا».
وقال ابن سعدي: «{‏فَاسْتَقِيمَا‏}‏ على دينكما، واستمرا على دعوتكما، ‏{‏وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تتبعان سبيل الجهال الضلال، المنحرفين عن الصراط المستقيم، المتبعين لطرق الجحيم».
وقال تعالى:{‏ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف:28)‏
قال ابن سعدي: «أي‏:‏ صار تبعا لهواه؛ حيثما اشتهت نفسه فعله، وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه، فهذا قد نهى الله عن طاعته؛ لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به».
قال: «ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماما للناس، من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماما» .
وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من أصحاب الأهواء وآرائهم الشاذة ومذاهبهم الضالة فعن عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران:7) إلى قوله:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: «وَالْمُرَاد التَّحْذِير مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِه مِنْ الْقُرْآن, وَأَوَّل مَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ الْيَهُود, ثُمَّ أَوَّل مَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَام مِنْ الْخَوَارِج حَتَّى جَاءَ عن اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِمْ الْآيَة».
وأخرج الطبري بسنده أن قتادة كان إذا قرأ هذه الآية :{فأما الذين في قلوبهم زيغ} قال: إن لم يكونوا الحرورية الخوارج والسبائية ، فلا أدري من هم ؟!
وجاء في السنة المطهرة ما يبين أن اتباع العلماء سبيل النجاة، وأن اتباع الجهال سبيل الضلال، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» متفق عليه
قال النووي: «هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه أنه يموت حملته، ويتخذ الناس جهالا يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويضلون».
فالواجب على المسلم أن يسأل قبل أن يعمل، وأن يتروى قبل أن يحكم، وأن يشاور من هو أعلم منه وأكثر حكمة وتجربة قبل أن يندم، ولاسيما في الأمور العامة التي جعلها الله -تعالى- لأولي الأمراء والعلماء ، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع







الساعة الآن : 04:51 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 353.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 352.22 كيلو بايت... تم توفير 1.77 كيلو بايت...بمعدل (0.50%)]