ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الحوارات والنقاشات العامة (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=49)
-   -   الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=302593)

ابوالوليد المسلم 25-06-2024 01:25 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (81) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
إن أعظم ما يتميَّز به دينُ الإسلام وهو الدِّين الإبراهيمي الحق دون المفترى، وهو دين جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: أنه بُني على الوحي المنزَّل من عند الله في كلِّ ما تضمنه من إصلاح الإنسان وبنائه؛ فردًا ومجتمعًا ودولة، في بناء عقيدته وإيمانه، وفي بناء عبادته ومعاملته، وفي بناء أحوال قلبه وأخلاقه كما بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، ثم ما بيَّنه الكتاب وما بينته السنة من قواعد ونظم الحياة في المجتمع والدولة، في النظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والأُسري، ونظام التكافل وكفاية الأفراد، ونظام الحرب والسِّلْم والمعاهدات، والنظام القضائي ونظام العقوبات؛ حدودًا وتعزيرات، والنظام المصرفي والمالي، والنظام التعليمي، ونظام الفتوى، ونظام الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وكل فروض الكفايات التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة مَن سبقه مِن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ببيانٍ لم ينزل قبلُه قط.
وكل حرف ومسألة في هذه الأنواع كلها التي ذكرنا في الفرد والأمة والدولة، عندنا فيه بيان من الوحي؛ فلو يحوجنا ربنا إلى غيره، ولم يتركنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد بيَّن لنا المحجة البيضاء ليلها كنهارها، فلم نحتج قط ولم يشرع لنا قط أن نأخذ عقيدتنا مِن علم الفلسفة، والمنطق اليوناني، وعلم الكلام كما أخذه غيرنا من الديانات والأمم، وأهل البدع، ولم نخترع نحن عَبْر الزمان خرافات وضلالات؛ إنما فعل ذلك أهل البدع والضلال، وظل أهل السنة يطاردونهم بالمرصاد؛ لبيان ضلالهم وبدعتهم في كلِّ المسائل العقدية.
ولم يحوجنا ربنا ولم يشرع لنا رسوله صلى الله عليه وسلم في العبادات: أن نخترع ونبتدع عبادات من عند أنفسنا أو بأهوائنا كما يفعله أهل الضلال في رقصهم ومكائهم وتصديتهم، وتعبداتهم الغالية حول قبور أنبيائهم وصالحيهم.
ولا اخترعنا أن يكون الأحبار والرهبان والعلماء أربابًا لنا من دون الله؛ يحلون الحرام أو يحرِّمون الحلال، ولا قَبِلْنَا عبر تاريخنا أن يكون الحكام والملوك، والكبراء والقياصرة والأباطرة مشرعين بشيء من دون الله، بل كل أحد لا بد أن يأتي على ما يفعله بالدليل من الوحي؛ وإلا كان باطلًا ومردودًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد"؛ حتى الإجماع فليس للعلماء أن يجمعوا إلا بناءً على دليلٍ من الوحي.
ولم يشرع لنا ربنا ورسوله صلى الله عليه وسلم قط أن نخترع في أحوال القلوب مقامات وأحوالًا من عند أنفسنا، أو مِن عند غيرنا: كفَنَاء وبَقَاء، وجَمْع وفَرْق، ومحو وصحو، وقبض وبسط، واصطلام ودهش، وهيمان وسكر، ونزعم أنها مقامات الخاصة وخاصة الخاصة التي أخذها مَن أخذها مِن أحوال الرهبان الهنود والبوذيين، والفُرس والروم، وفلاسفة اليونان، بل كفانا الله بما شرعه لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لبيان كل عبادات القلب والأخلاق المتفرعة منها فعلًا وتركًا مِن: حبٍّ وخوفٍ ورجاء، وتوكل وإنابة، ورغبة ورهبة، وتعظيم، وصبر، وشكر وإخلاص، وإخبات وافتقار إلى الله، وطمأنينة بذكره، وتوبة إلى الله وفرار إليه، وغير ذلك مما نص عليه الوحي.
وفي باب التروك: ترك الكبر والعجب، والاختيال والفخر، والعجز والكسل، والجبن والبخل، والكفر والفقر، والشرك والشك والنفاق، والفسوق والشقاق، وسيئ الأخلاق، والرياء والسمعة، والقسوة والغفلة، والذلة والعيلة والمسكنة، والعمى والصمم والبكم، والحسد، وإرادة الدنيا وزينتها، والتنافس عليها وعلى رياستها، وغير ذلك، وكل ذلك بالوحي لا بالرأي ولا بالهوى، ولا بالتقليد الأعمى؛ بل إما الدليل من الوحي، وإما الرد والإبطال.
ولا تركنا سبحانه أن نخترع السياسات التي تُنظَّم بها حياة الناس؛ إلا ما كان من تحقيق للمصلحة ودفع للمفسدة بالطرق المشروعة من الوحي أيضًا، وتحت مظلة أحكامه؛ دون ما اخترعه المكيافيلية والظَّلَمَة عبر الزمان.
وهذه المسألة العظيمة الأهمية في وقتنا الحاضر كما هي في كل وقت، لكن نحن الآن في مواجهة حاسمة وخطيرة، وإرادة عالمية في ترك المسلمين الوحي في العقيدة إلى البدع والضلالات؛ للتمكين من بناء وَهْم وخرافة الدين الإبراهيمي الجديد، وتركهم العبادة والعمل للتمكين مِن هدم أعظم سياج واقٍ للمسلمين من التأثر بأعدائهم، وتحوُّل أعمال مجتمعاتهم وأبنائهم وبناتهم إلى الشهوات المغرية؛ إما باسم الترفيه والتمتع بمتع الحياة، أو عدم التطرف وبناء الشبكات الإسلامية المعتدلة التي يرى أصحابها أن الذي يحافظ على الصلوات الخمس؛ فهو متطرف، وأن الاعتدال هو أن يصلي أحيانًا ويترك أحيانًا، وأن الذي يحضر المسجد خمس مرات في اليوم فهو متطرف، وإنما الاعتدال أن يذهب إلى الجمعة أحيانًا ويترك أحيانًا، وهكذا... !
وفي السلوك إلى خزعبلات الصوفية العالمية -كما يسمونها!-، والتي تروِّج إلى وحدة الوجود ووحدة الأديان، وتفسد الأخلاق والأعمال باسم هذه الأحوال؛ فلا بد أن نعود إلى الوحي المنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي تضمن الكُتُبَ الأولى، وجمع كل خير فيها وزاد عليها ما لم ينزل مثله من قبل قط، والحمد لله رب العالمين. والله المستعان.
قال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "روى محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: قال سكن وعدي بن زيد: يا محمد، ما نعلم أن الله أنزل على بَشَرٍ مِن شيءٍ بعد موسى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله في ذلك من قولهما: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى آخر الآيات. وروى ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ) إِلَى قَوْلِهِ (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا)، فما تلاها عليهم -يعني على اليهود- وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة، جحدوا كل ما أنزل الله وقالوا: ما أنزل الله على بَشَرٍ من شيء، ولا موسى ولا عيسى، ولا على نبي من شيء. قال: فحل حبوته، وقال: ولا على أحدٍ! فأنزل الله عز وجل: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)، وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب القرظي نظر؛ فإن هذه الآية التي في سورة الأنعام مكية، وهذه الآية التي في سورة النساء مدنية، وهي رد عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، قال الله تعالى: (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ)، ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه، وما هم عليه الآن من الكذب والافتراء.
ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين، فقال: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا)، والزبور: اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام، وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام عند قصصهم مِن سورة الأنبياء إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية إن شاء الله.

ابوالوليد المسلم 25-06-2024 01:26 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (82) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (2)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أي: من قبل هذه الآية، يعني: في السور المكية وغيرها. وهذه تسمية الأنبياء الذين نَصَّ الله على أسمائهم في القرآن، وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكذا ذو الكفل عند كثيرٍ من المفسرين، وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ) أي: خلقًا آخرين لم يُذكَروا في القرآن، وقد اختلف في عِدَّة الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه الله في تفسيره، بسنده عن أبي ذر قال: قلتُ: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا"، قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير"، قلت: يا رسول الله، مَن كان أولهم؟ قال: "آدم". قلت: يا رسول الله، نبي مرسل؟ قال: "نعم، خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلًا".
ثم قال: "يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، ونوح، وخنوخ -وهو إدريس، وهو أول مَن خَطَّ بالقلم- وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر، وأول نبي مِن بني إسرائيل: موسى، وآخرهم: عيسى. وأول النبيين آدم، وآخرهم نبيك صلى الله عليه وسلم ".
وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه: "الأنواع والتقاسيم" وقد وسمه بالصحة، وخالفه أبو الفرج بن الجوزي، فذكر هذا الحديث في كتابه: "الموضوعات"، واتهم به إبراهيم بن هشام هذا (قلتُ: يعني الراوي عن أبيه عن جده عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر)، ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث، فالله أعلم.
(قلتُ: هذا الحديث بهذه الألفاظ ضعيف بلا شك، ولا يمكن أن يصحح، ولا أن يحسن؛ خصوصًا في ذكر أن إدريس هو خنوخ، وأنه أول مَن خط بالقلم، فكل هذه إسرائيليات، وكذا ذكر الأربعة السريانية، ومنهم: آدم؛ فإن هذا كله لا يثبت قط عن الرسول صلى الله عليه وسلم)، وقد روي الحديث من وجه آخر عن صحابي آخر، فقال ابن أبي حاتم: ذكر سند ضعيف عن أبي أمامة قال: قلت: يا نبي الله، كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا".
معان بن رفاعة السلامي ضعيف، وعلي بن يزيد ضعيف، والقاسم أبو عبد الرحمن ضعيف أيضًا.
وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي: عن يزيد الرقاشي (ضعيف)، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث الله ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلاف إلى سائر الناس".
قال: وهذا أيضًا إسناد ضعيف فيه الربذي ضعيف، وشيخه الرقاشي أضعف منه أيضًا، والله أعلم.
وروى أبو يعلى: عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا".
وقد رويناه عن أنس من وجه آخر، وذكر السند الذي أخبره به أبو عبد الله الذهبي، أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت على إثر من ثلاثة آلاف نبي من بني إسرائيل"، وهذا غريب من هذا الوجه وإسناده لا بأس به، رجاله كلهم معروفون إلا أحمد بن طارق هذا، فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح، والله أعلم. (قلت: ومثل هذا لا يقال إسناده لا بأس به، فالمجهول لا يصح حديثه).
قال: وحديث أبي ذر الغفاري الطويل في عدد الأنبياء عليهم السلام، قال محمد بن الحسين الآجري بسنده عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فجلست إليه فقلت: يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة. قال: "الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل"، قال: قلت: يا رسول الله، فأي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله، وجهاد في سبيله"، قلت: يا رسول الله، فأي المؤمنين أفضل؟ قا: "أحسنهم خلقا". قلت: يا رسول الله، فأي المسلمين أسلم؟ قال: "من سلم الناس من لسانه ويده". قلت: يا رسول الله، فأي الهجرة أفضل؟ قال: "من هجر السيئات". قلت: يا رسول الله، أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت". قلت: يا رسول الله، فأي الصيام أفضل؟ قال: "فرض مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة". قلت: يا رسول الله، فأي الجهاد أفضل؟ قال: "من عقر جواده وأهريق دمه". قلت: يا رسول الله، فأي الرقاب أفضل؟ قال: "أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها". قلت: يا رسول الله فأي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد من مقل، وسر إلى فقير". قلت: يا رسول الله، فأي آية ما أنزل عليك أعظم؟ قال: "آية الكرسي"، ثم قال: "يا أبا ذر، وما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة". قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا" قال: قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: " ثلاثمائة، وثلاثة عشر جم غفير كثير طيب". قلت: فمن كان أولهم؟ قال: "آدم". قلت: أنبي مرسل؟ قال: "نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسواه قبيلًا ثم قال: "يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، وخنوخ -وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم- ونوح. وأربعة من العرب: هود، وشعيب، وصالح، ونبيك يا أبا ذر. وأول أنبياء بني إسرائيل: موسى، وآخرهم: عيسى. وأول الرسل: آدم، وآخرهم: محمد". قال: قلت: يا رسول الله، كم كتابًا أنزله الله؟ قال: "مائة كتاب وأربعة كتب، وأنزل الله على شيث خمسين، صحيفة، وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان"، قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: "كانت مواعظ كلها: يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من كافر. وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألا يكون ضاغنًا (أي: خارجًا من بيته) إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش (أي: إصلاح)، أو لذة في غير محرم.
وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه". قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟ قال: "كانت عِبَرًا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، وعجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم هو لا يعمل"، قال: قلت: يا رسول الله، فهل في أيدينا شيء مما في أيدي إبراهيم وموسى، وما أنزل الله عليك؟ قال: "نعم، اقرأ يا أبا ذر: قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى . بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى . إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى"، قال: قلت يا رسول الله، فأوصني. قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس أمرك"، قال: قلت يا رسول الله، زدني. قال: "عليك بتلاوة القرآن، وذكر الله، فإنه ذكر لك في السماء، ونور لك في الأرض"، قال: قلت: يا رسول الله، زدني. قال: "إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه"، قلت: زدني. قال: "عليك بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي"، قلت: زدني. قال: "عليك بالصمت إلا من خير، فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك". قلت: زدني. قال: "انظر إلى مَن هو تحتك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فإنه أجدر لك ألا تزدري نعمة الله عليك"، قلت: زدني. قال: "أحبب المساكين وجالسهم، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك"، قلت: زدني. قال: "صل قرابتك وإن قطعوك "، قلت: زدني. قال: "قل الحق وإن كان مُرًّا"، قلت: زدني. قال: "لا تخف في الله لومة لائم"، قلت: زدني. قال: "يردك عن الناس ما تعرف عن نفسك، ولا تجد عليهم فيما تحب، وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك، أو تجد عليهم فيما تحب"، ثم ضرب بيده صدري، فقال: " يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وهذا الحديث رغم ضعفه؛ إلا أنه فيه من المواعظ الجسيمة والحِكَم البليغة التي لها شواهد كثيرة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وللحديث بقية إن شاء الله.

ابوالوليد المسلم 25-06-2024 01:27 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (83) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (3)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر حديث أبي ذر الطويل: "وروى الإمام أحمد عن أبي المغيرة بسنده عن أبي أمامة: أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أمر الصلاة، والصيام، والصدقة، وفضل آية الكرسي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل الشهداء، وأفضل الرقاب، ونبوة آدم، وأنه مكلَّم، وعدد الأنبياء والمرسلين، كنحو ما تقدَّم.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت في كتاب أبي بخطه -وذكر السند عن أبي الوداك- قال: قال أبو سعيد: هل تقول الخوارج بالدجال؟ قال: قلت: لا. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني خاتم ألف نبي أو أكثر، وما بعث نبي يتبع إلا وقد حَذَّر أمته منه، وإني قد بُيِّن لي فيه ما لم يُبيَّن، وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى، كأنها نخامة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه مِن كلِّ لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تدخن.
وقد رويناه في الجزء الذي فيه رواية أبي يعلى الموصلي بسنده عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر، ما بَعَث الله من نبي إلى قومه إلا حذرهم الدجال... وذكر تمام الحديث. هذا لفظه بزيادة: "ألف"، وقد تكون مقحمة، والله أعلم. وسياق رواية الإمام أحمد أثبت وأولى بالصحة، ورجال إسناد هذا الحديث لا بأس بهم، (قلتُ: بل هذا الإسناد لا يصح، مجالد فيه حديثه لين، وأبي الوداك صدوق يهم؛ فمثل هذا لا يُصَحَّح).
وقد روي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه، رواه الحافظ أبو بكر البزار عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لخاتم ألف نبي أو أكثر، وإنه ليس منهم نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال، وإني قد بُيِّن لي ما لم يُبيَّن لأحدٍ منهم، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور. (قلتُ: فيه مجالد أيضًا، وهو لين الحديث).
قوله تعالى: (‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا): هذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة؛ ولهذا يقال له: الكليم. وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه عن عبد الجبار بن عبد الله قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلا يقرأ: (‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا) (قلتُ: أي: بنصب لفظ الجلالة الله ليكون موسى هو الذي تكلَّم)، فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر، قرأتُ على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن، على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا) (قلتُ: أي: برفع اسم الجلالة).
وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على مَن قرأ كذلك؛ لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلَّم موسى عليه السلام أو يكلِّم أحدًا من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: "وكلم اللهَ موسى تكليمًا"، فقال له: يا ابن اللخناء؛ فكيف تصنع بقوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ‌وَكَلَّمَهُ ‌رَبُّهُ) (الأعراف: 143)، يعني: أن هذا لا يحتمل التحريف، ولا التأويل.
وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كلَّم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء. وهذا حديث غريب، وإسناده لا يصح، وإذا صح موقوفًا كان جيدًا (قلتُ: يعني أنه يكون من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب).
وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان على موسى يوم كلَّمه ربه جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي. (قلتُ: وهو أيضًا حديث ضعيف).
وقال ابن مردويه بإسناده عن جويبر، عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة، في ثلاثة أيام، وصايا كلها، فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب. وهذا أيضا إسناد ضعيف، فإن جويبرًا ضعيف، والضحاك لم يدرك ابن عباس رضي الله عنهما.
فأما الأثر الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله قال: لما كلَّم الله موسى يوم الطور، كلَّمه بغير الكلام الذي كلَّمه يوم ناداه، فقال له موسى: يا رب، هذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال: لا يا موسى، إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسنة كلها، وأنا أقوى من ذلك. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى، صف لنا كلام الرحمن. قال: لا أستطيعه. قالوا: فشبه لنا. قال: ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنها قريب منه، وليس به. وهذا إسناد ضعيف، فإن الفضل الرَّقَاشِي ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ (قلتُ: أي: ضعيف جدًّا).
وروى عبد الرزاق عن كعب قال: إن الله لما كلم موسى كلمه بالألسنة كلها سوى كلامه، (قلتُ: في رواية ابن جرير بالألسنة كلها قبل كلامه، يعني قبل كلام موسى)، فقال له موسى: يا رب، هذا كلامك؟ قال: لا ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له. قال: يا رب، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأشد خلقي شبهًا بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق. فهذا موقوف على كعب الأحبار، وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل، وفيها الغث والسمين. (قلت: وهذا والله أعلم مصدر عامة هذه الأخبار؛ فهي من الإسرائيليات ومن النكارة فيها: إنكار أن يكون موسى سَمِع كلام الله الذي كلَّمه به).
وقوله: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي: يبشرون مَن أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون مَن خالف أمره، وكذَّب رسله بالعقاب والعذاب.
وقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أي: أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبيَّن ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه؛ لئلا يبقى لمعتذرٍ عذر، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ ‌بِعَذَابٍ ‌مِنْ ‌قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) (طه: 134)، وكذا قوله تعالى: (‌وَلَوْلَا ‌أَنْ ‌تُصِيبَهُمْ ‌مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص: 47).
وقد ثَبَت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين"، وفي لفظ آخر: من أجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه. (قلتُ: وهذا الحديث مِن أوضح الأدلة على عُذْر مَن لم تبلغه الحجة الرسالية؛ فهو دليلنا على مَن خالفنا في قضية العذر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ)" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية إن شاء الله.



ابوالوليد المسلم 14-07-2024 11:27 AM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (84) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (4)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
في الآية فوائد:
الأولى: أن الدِّين الحق مبنيٌّ على الوحي المنزَّل من عند الله على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فكل دعوة تقوم على الوحي الذي يجمعه الله فيما أوحاه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، في الكتاب والسنة؛ فهي التي تستحق نسبتها إلى الأنبياء، وخاصة خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكل دعوة قامت على آراء الرجال؛ سواء في العقيدة أو العمل أو السلوك، فهي دعوة غريبة عن دين الأنبياء، فمَن قامت دعوته على عِلْم الكلام والفلسفة، وما سموه وظنوه العقل وما هو بعقل، في أمور العقيدة؛ فهي بدعة منكرة.
ولا يغرنك مَن يقول: إنها بدعة حسنة! ويزعم الحاجة إليها بعد حدوث هذه العلوم الأجنبية عن الدِّين، فمَن قال ذلك؛ فقد ادَّعى أن الدِّين لم يكتمل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتِ بالحق والهدى، فقد كانت هذه العلوم موجودة في زمنه صلى الله عليه وسلم وقبله بمددٍ طويلةٍ، ولم يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلوم قط في دعوته، ولا حَثَّ صحابته على تعلمها، ولا استعملها صحابته في دعوتهم وجهادهم في سبيل الله، بل دعوا الناس دائمًا بالآيات والأحاديث؛ فهدى الله بهم الأمم، ودخل الناس في دين الله أفواجًا وفتحت الأمصار بذلك.
ومَن قامت دعوته على التقليد الأعمى في العبادة والمعاملة، بزعم اتباع الأئمة الأربعة، وغير الأربعة، كما صارت إليه المذاهب في العصور المتأخرة؛ لا دخل لهم بالنصوص والاستدلال بها، بل العِلْم عندهم والفقه هو التخريج على أقوال الإمام، بل صارت أقوال الإمام عند المتأخرين لا يجوز للناس الأخذ بها ولو نص عليها في كتبه، بل يجب اتباع المقلِّدين مِن مذهبه الذين سموهم: أصحاب معتمد المذهب! فهذه الدعوة أيضًا حين تخلَّت عن النصوص وعارضتها بأقوال المشايخ صارت بدعة منكرة.
ومَن بَنَى دعوته في التزكية والإحسان وتهذيب النفس على مقامات وأحوال الصوفية المخترعَة، والتي تنتهي عندهم إلى الفناء ووحدة الوجود؛ فهذه دعوة ضلال وغي، لا هداية ورشد، وهي شر البدع؛ خصوصًا مَن وَصَل في الغلوِّ في المشايخ إلى درجة عبادة قبورهم، وطلب قضاء الحاجات، ودفع الكربات والمضرات منهم، واستغاث بهم وحَلَف بهم، وطاف بقبورهم؛ فهذا هو الشرك الأكبر، وإن كان الجهل بآثار الرسالة في المتأخرين، وقِلَّة العلم قد انتشرت؛ فلا بد مِن إقامة الحجة، واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع قبل تكفير المعين منهم، كما نَصَّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة دعاء الأموات وغيرهم -كما سيأتي بيانه إن شاء الله-.
وأشد من ذلك خطرًا وبدعة وضلالًا: القول بوحدة الوجود، وأن الكونَ كله شيءٌ واحدٌ؛ فهذا الكفر الأكبر الذي هو شر مِن كفر المشركين، واليهود والنصارى، الذين كَفَّرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم في محاجة قومه: (‌لَئِنْ ‌لَمْ ‌يَهْدِنِي ‌رَبِّي ‌لَأَكُونَنَّ ‌مِنَ ‌الْقَوْمِ ‌الضَّالِّينَ) (الأنعام: 77)، فدلَّ ذلك على أن الهدى هو مِن عند الله في الوحي المنزَّل، وإلا كان الضلال، وهو يرشد قومه إلى أن أصنامهم لا تهديهم ولا تبيِّن لهم شرعة ولا منهاجًا، حتى يخترعَ أحبارُهم ورهبانُهم وسدنتُهم هذه الشرعة والمنهاج، كما قال تعالى عن العِجْل الذي عبده بنو إسرائيل: (‌أَلَمْ ‌يَرَوْا ‌أَنَّهُ ‌لَا ‌يُكَلِّمُهُمْ ‌وَلَا ‌يَهْدِيهِمْ ‌سَبِيلًا ‌اتَّخَذُوهُ ‌وَكَانُوا ‌ظَالِمِينَ) (الأعراف: 148).
فلا بد في الهداية من مرجعية الوحي، وعلى كلِّ أحدٍ أن ينظر في نصيبه اليومي من الوحي؛ كتابًا وسُنَّة؛ فهل تعلمتَ اليوم آية وتفسيرها، وقرأتها وتدبرتها، وعَلِمت ما فيها من العقيدة والأحكام والتزكية؟! وهل تعلمت حديثًا وشرحه، وطبَّقتَ ذلك عمليًّا في نظام حياتك اليومية؟!
ولتحذر -أخي الكريم- أن تكون مجردَ مقلدٍ لمشايخك، وللدعاة الذين تسمع لهم؛ فإنهم لن يغنوا عنك شيئًا إن لم تحصِّل نصيبك من الوحي.
الفائدة الثانية: دين الأنبياء واحد، وهو دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهو دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي قال: "نحن معشر الأنبياء إخوة لعلات، دينهم واحد وأمهاتهم شتى"، أي: شرائعهم مختلفة، وهذا الدِّين مبنيٌّ على الوحي، وقد مَرَّ بك -أيها القارئ الكريم- حديثُ أبي ذر الطويل، وما فيه من ذكر ما كان في صحف إبراهيم، وما فيها من المواعظ الجسيمة العظيمة، كما ذكر ذلك الحافظ المنذري بعد أن ساقه في الترغيب والترهيب، وهو إن كان ضعيف الإسناد؛ إلا أن ما فيه قد دَلَّ عليه الوحي قطعًا؛ كتابًا وسُنَّة، فنحن نقبل ما فيه مِن الحق وإن لم يصح إسنادُه.
والوحي جاء بالتوحيد، قال الله -تعالى- لموسى -عليه الصلاة والسلام- الذي خصَّه بالتكليم، ونص على ذلك في هذه الآيات، فقال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، فقال في أول ما كلمه: (‌إِنَّنِي ‌أَنَا ‌اللَّهُ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌أَنَا ‌فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي . إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى . فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) (طه: 14-16).
فعبادة الله وحده، والإيمان باليوم الآخر والاستعداد له، هو أساس ما أوحاه الله للأنبياء، وقد أكثر الله من ذكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبراءته من الشرك وأهله في غير موضعٍ من الكتاب العزيز، وهذا الذي يهدم فكرة الدِّين الإبراهيمي الجديد المزعوم، القائم على المساواة بين الشرك والتوحيد، وتجويز عبادة غير الله، وتصحيح دين مَن كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء، فحقيقة هذا الدين المخترع: هدم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والكفر بالوحي الذي أوحاه إلى أنبيائه ورسله، وخاصة القرآن العظيم.
ولينتبه المسلمون إلى أن عنوان: "الدين الإبراهيمي الجديد" يرفضه الناس في بلاد المسلمين رسميًّا، لكنَّ الخطرَ هو قبول الأفكار التي تضمَّنها هذا الدين، بل والدعوة إليها، كما يكرِّرون في مؤتمراتهم وملتقياتهم على نشر القِيَم المشتركة بين الأديان، ويهملون القِيَم الفارقة بين الحق والباطل، التي أنزلها الله وسمَّاها الفرقان، قال الله تعالى: (‌وَأَنْزَلَ ‌الْفُرْقَانَ) (آل عمران: 4)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ‌وَيُكَفِّرْ ‌عَنْكُمْ ‌سَيِّئَاتِكُمْ) (الأنفال: 29).
فلا بد مِن نشر الفرقان، ولا بد أن نعرف صفةَ مَن كَذَّب الرسل في الكتاب والسنة؛ فهم قد وُصِفوا ووسموا بالشرك والكفر، وتوعَّدهم اللهُ بالنار، ومَن تأمل ما يُسمَّى بوثيقة الأُخوة الإنسانية، ووثيقة مكة، ومخرجات مؤتمر نشر القِيَم المشتركة بين الأديان، وبيانات لقاءات قادة الأديان؛ يجد هذا المعنى مقبولًا واضحًا جليًّا في كل ذلك، بل مصرِّحًا به!
فالحذر الحذر أيها المسلمون من هذا الخطر الداهم.
وللحديث بقية إن شاء الله.



ابوالوليد المسلم 21-07-2024 07:23 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (85) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (5)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
الفائدة الثالثة:
دَلَّت الآية الكريمة على نبوة ورسالة جميع الأنبياء الذين ذُكِروا في هذه الآيات، ومدحهم والثناء عليهم، وأنهم حجة الله على عبادة بتوحيده وعبادته وطاعته؛ لذلك ثبتت عصمتهم وتضمَّنت الرد على مَن طعن فيهم، واتهمهم بالشرك وعبادة الأصنام، وفعل الفواحش والكبائر، بل والصغائر على الصحيح، وأسوأ وأخبث وأكثر مَن يفعل ذلك هم اليهود؛ وذلك ليستحلوا لأنفسهم ما فعلوه من الكفر والفواحش، والفسوق والعصيان؛ لأنه إذا فعلها الأنبياء فلا لوم على غيرهم!
ومِن أسوأ ذلك: ما نسبوه إلى النبيين الكريمين داود وسليمان -عليهما السلام-، وهو مجمع عند أهل الإسلام على استحالته على الأنبياء؛ ففي سفر الملوك الفصل الأول (11/ 33-34): "وأحب الملك سليمان نساء أجنبيات كثيرة من الأمم التي قال الرب لبني إسرائيل في شأنها: لا تذهبوا إليهن، ولا يذهبن إليكم، فإنهن يستملن قلوبكم إلى اتباع آلهتهم، فتعلَّق بهن سليمان حبًّا لهن، وكان له سبع مائة زوجة وثلاث مائة جارية، فأزاغت نساؤه قلبه.
وفي زمن الشيخوخة تمكَّن أزواجه من إمالة قلبه إلى اتباع آلهة أخرى، فلم يكن قلبه مخلصًا للرب إلهه، كما كان قبل داود أبيه، فتبع سليمان عَشتَروتَ إلهَةَ الصَّيدونيِّينَ ومَلكومَ إلهَ بَني عَمونَ، ووضع الشرَّ في عيني الرب، ولم يتبع الرب اتباعًا تامًّا مثل أبيه داود؛ حينئذٍ بنى سليمان مشرفًا لكاموش صنم قبيلة موآب في الجبل المقابل لأورشليم، ولمولك صنم بني عمون، وكذلك صنع لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يحرقن البخور ويذبحن لآلهتهن، فغضب الرب على سليمان، لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين، وأمره في ذلك أن لا يتبع آلهة أخرى‏".
فهذا الضلال المبين والكفر المستبين بالرسل والنبيين من أعظم ضلالات أهل الكتاب؛ لأن ادِّعاء أن قلب سليمان مال إلى اتباع آلهة أخرى، ولم يكن قلبه مخلصًا للرب إلهه، فيه نسبة الشرك الذي برأه الله منه، ومِن السحر الذي زعمه ونسبه إليه اليهود بقوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ‌عَلَى ‌مُلْكِ ‌سُلَيْمَانَ ‌وَمَا ‌كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة: 102).
ومن أعظم جرائم اليهود وكفرهم: ما نسبوه إلى نبي الله داود صلى الله عليه وسلم الذي خصَّه الله بذكره في هذه الآيات؛ لأنه آتاه كتابًا هو الزبور، وهو كلام الله عز وجل، فنسبوا إليه فعل الزنا مع امرأة أحد قادته "أوريا الحوثي" الذي أنجب منها سليمان بعد التسبب في قتل زوجها.
بل التفاصيل الكثيرة في "سفر صموئيل" الذي يعد ضمن العهد القديم يستحيي الإنسانُ من ذكرها أو كتابتها! ومَن أراد أن يطلع على هذا الباطل في كتبهم فليراجعها، وهو مِن الكذب الصريح على أنبياء الله، وهو من أدلة تحريف ما يسمَّى بالكتاب المقدس، وخطأ مَن يقول: إن تحريف أهل الكتاب لكتبهم هو تحريف المعاني دون تغيير الألفاظ؛ فإن ما نسبوه للأنبياء لا يجوز لمسلم أن يعتقد صحته، فضلًا أن يعتقد ثبوته في كتب الله المنزلة، وقد أخطأ خطأ بيِّنًا مَن قال مِن المفسرين: إن القرآن أشار إلى هذه القصة في سورة ص في قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ ‌فَفَزِعَ ‌مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ . إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ . قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (ص: 21-24).
فإن أقصى ما تحتمله الآيات أنه مجرد طلب لا فعل معه إطلاقًا، وإنما غلبه في الخطاب لا في الفعل، كما قال الحسن: لم يزد على أن قال: انزل لي عنها. ومِن أهل العلم مَن يقول: إن فتنة داود إنما كانت في أنه حكم لأحد الخصمين على الآخر دون أن يسمع من الآخر، وإن كان قول الحسن أقرب إلى ظاهر وسياق الآيات، لكن دون أن يُنسَب إليه فعل، ومثل هذا الطلب يكون خلاف الأولى لا يليق بالأنبياء؛ فلذلك تاب إلى الله عز وجل منه، وعلى أي حال فلا يوجد في أهل الإسلام مَن يصحح زنا نبي كريم من أنبياء الله صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وأن ابنه النبي سليمان هو ابن زنا!
بل نقول: إن مجموع الأدلة على أن اعتقاد زنا نبي أو أنه ابن زنا، أو أن امرأته تزني؛ كل ذلك من الكفر، كما دلَّ على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (‌وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) (النساء: 156)، فبيَّن كفر اليهود؛ لأنهم نسبوا أن المسيح صلى الله عليه وسلم ابن زنا، ومَن قال ذلك كفر بإجماع المسلمين.
وقد دَلَّت قصة الإفك على كفر مَن زعم زنا زوجة مِن زوجات نبينا صلى الله عليه وسلم على الصواب مِن أقوال العلماء، فمَن اتهم عائشة أو غيرها بفعل الفاحشة؛ فهو كافر؛ لأنه ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الدياثة! والأنبياء منزهون عن ذلك بالإجماع.
فهذه حقيقة عقيدة اليهود في أنبيائهم وملوكهم الذين يسعون اليوم ويزعمون أنهم يريدون إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، أو تحويل المسجد الأقصى إلى هيكلهم بالاقتحامات المستمرة، بالتدريج ونفخ البوق فيه، وإقامة طقوس الرقص، والقفز داخل أسواره وحدوده، نسأل الله أن يطهر المسجد الأقصى من دنسهم وكفرهم، وأن يرده إلى المسلمين.
وإنما بنى سليمان صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى، وليس الهيكل المزعوم، ومعنى أنه بناه أي: جدَّد بناءه؛ لأن بناءه الأول كان في عهد إبراهيم أو إسحاق أو يعقوب عليهم السلام؛ لأنه كان بعد بناء الكعبة بأربعين عامًا كما ثبت ذلك في حديث أبي ذر في صحيح مسلم، وقد ثبت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بنى سليمان عليه السلام المسجد سأل الله ثلاثًا فأعطاه إياها، فسأل الله حكمًا يوافق حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وأنه مَن قصد هذا المسجد فصلَّى فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فسليمان صلى الله عليه وسلم بريء مِن اليهود، وممَّن يعتقد عليه الكفر والشرك، وداود عليه الصلاة والسلام الذي ينسبون نجمة عَلَمهم إليه، ويسمونها نجمة داود بريء منهم لما نسبوا إليه مِن أنواع الفواحش والظلم والقتل!
نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله أن ينصر المسلمين على هؤلاء المشركين، وإن انتسبوا إلى الأنبياء.



ابوالوليد المسلم 21-07-2024 07:32 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (86) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (6)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
الفائدة الرابعة:
دَلَّ قولُه تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) على أن الزبور وهو بمعنى الكتاب الذي يزبر، أي: يكتب، كتاب أنزله الله على داود صلى الله عليه وسلم، فيه كلامه عز وجل، وهو أحد الكتب التي نص القرآن عليها ويجب الإيمان بها إجمالًا، وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم، وصحف إبراهيم وصحف موسى، وفيها قولان: الأول: أنها التوراة كتبت في صحف. والثاني: أنها صحف آتاها الله موسى قبل التوراة، ويؤيد هذا القول قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا . فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ‌فَدَمَّرْنَاهُمْ ‌تَدْمِيرًا) (الفرقان: 35-36).
فالكتاب المذكور في هذه الآية كان قبل أمر الله موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون وقومه، والتوراة كانت بعد هلاك فرعون وجنده، ويؤيده أيضًا: أن التوراة كتبها الله لموسى بيده في الألواح، وهذه صحف، والله أعلم.
وخاتم هذه الكتب: "القرآن العظيم" مصدِّق لما في هذه الكتب والمهيمن عليها -الشاهد عليها-؛ فهو يبيِّن الحق الذي في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب، ويشهد لما فيها مِن الصدق ويبيِّن ما فيها من الباطل الذي كتبوه بأيديهم، ثم قالوا هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، ويبيِّن ما كتموه منها وما حذفوه أو ضيعوه، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ‌قَدْ ‌جَاءَكُمْ ‌رَسُولُنَا ‌يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة: 15).
ويجب الإيمان بهذه الكتب كلها إجمالًا، والإيمان بما ذكره الله من التفصيل فيها: كالتوحيد، وبعض الشرائع التي ظلت باقية، مثل: القصاص، قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وكذا الرجم كما دَلَّت عليه الأحاديث الصحيحة في سبب نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) إلى قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).
وقد دَلَّت على أن الرجم كان مكتوبًا في التوراة التي تُليت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القارئ الأعور وضع يده عليها ليخفيها؛ فأمره عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن يرفع يده، فإذا آيات الرجم تلوح؛ فهذا مما يجب الإيمان به بالتفصيل وإن لم يكن بنفس الألفاظ.
كما يبيِّن القرآن ما نُسِخ منها كتعظيم السبت، وأما ما لم يصدقه القرآن ولم يكذِّبه؛ فهذا الذي يجب أن نسكت عليه؛ فلا نصدقه ولا نكذبه، كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهانا أن نسألهم عن شيء؛ حتى لا يخبرونا بحق فنكذِّب به أو بباطل فنصدقه، وما بأيدي أهل الكتاب اليوم لا يشك عَالِم به وبشرع الله عز وجل أنه قد وقع في التوراة التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان.
والدليل على ذلك: ما تضمنته مِن صفات النقص لله عز وجل، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وإثبات الفواحش والزنا، بل الشرك للأنبياء، وغير ذلك من الرذائل كما سبق في المقال السابق عن داود وسليمان عليهم الصلاة والسلام، وهي أيضًا قد تضمنت حقًّا مما أنزله الله على الأنبياء: كالتوحيد، والإيمان باليوم الآخر، والنبوات؛ فلا يجوز إهانة شيء منها، ولا وطأه بالأقدام كما فعله بعض السفهاء.
الفائدة الخامسة:
دَلَّ قوله تعالى: (وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أن مِن الرسل مَن لم يذكروا في القرآن ولا في السنة، فمَن ذكره أهلُ الكتاب من أسماء بعض الأنبياء عندهم الذين لم يذكروا في القرآن: كإشعياء، ودانيال، وعُزير، وإن كان عزير ذكر اسمه في القرآن، لكن لم يذكر مع الأنبياء، ولا بما يدل على نبوته، بل ذُكِر في غلو أهل الكتاب فيه وادعائهم أنه ابن الله، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ ‌عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)، فلا ندري أكان نبيًّا أم لا، فيجب التوقف في هؤلاء لا نثبت ولا ننفي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ لَعِينٌ هُوَ أَمْ لَا، وَمَا أَدْرِي ‌أَعُزَيْرٌ ‌نَبِيٌّ هُوَ أَمْ لَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
الفائدة السادسة:
دَلَّ قوله تعالى: (‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا) على إثبات صفة الكلام لله سبحانه؛ فقد أكَّده الله سبحانه بقوله (تَكْلِيمًا)؛ لنفي احتمال المجاز، أو أنه كلام بعض خلقه أو ملائكته؛ مما لا يجوز لمخلوقٍ قطعًا أن يقول هذا الكلام، نحو قوله تعالى: (إِنَّنِي ‌أَنَا ‌اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي)، وقوله لموسى: (إِنِّي ‌أَنَا ‌اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، ونحوها.
وأهل الإيمان يؤمنون بأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، بكلامٍ هو صفته غير مخلوق؛ لأن صفاته سبحانه الذاتية والفعلية كلها غير مخلوقة، وصفة الكلام من صفات الذات من جهة النوع، وأما آحاد الكلام؛ فهو يكون متى شاء الله؛ ولذا يعتقدون أن الله كلَّم موسى حين كلَّمه ولم يكن كلمه قبل ذلك، وإن كان موصوفًا أزلًا سبحانه بأنه يكلِّم موسى ويقول له ما ذكره في كتابه، ولكن التكليم قد وقع حين كان موسى عند جبل الطور في حياته، كما قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).
وقد ضلتِ الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة، وغيرها؛ لنفيهم صفات الرب سبحانه وتعالى، فزعموا أن كلامه مخلوق؛ بمعنى أنه كلام خَلَقَه الله في بعض خلقه، وهذا كفر بالله سبحانه؛ لأنه يجعل كلامه كقول البشر، وقد قال تعالى عن الكافر المعاند الوليد ابن المغيرة أنه قال عن القرآن: (‌إِنْ ‌هَذَا ‌إِلَّا ‌قَوْلُ ‌الْبَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)، وقد امتُحِن في هذه المسألة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وثَبَت فيها على الحق حتى نصره الله، وصار إمامًا مِن أئمة أهل السنة في جميع العصور، رحمه الله تعالى.
وللحديث بقية إن شاء الله.


ابوالوليد المسلم 21-07-2024 07:33 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (87) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (7)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
الفائدة السابعة:
دَلَّ قوله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)، على أن إرسالَ الرُّسُل من آثار صفة العزة وصفة الحكمة لله تعالى؛ فهو لكمال عزته لم يكتفِ في إقامة الحجة على الناس وتعذيبهم بذنوبهم وشركهم وكفرهم، بالميثاق الذي أخذه عليهم وهم في ظهر أبيهم آدم عليه السلام، بأنه سبحانه وتعالى ربهم، وأن لا يشركوا به شيئًا، ولا بأنه قد فطرهم سبحانه وتعالى على التوحيد كما قال تعالى: (فَأَقِمْ ‌وَجْهَكَ ‌لِلدِّينِ ‌حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30).
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ ‌يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ ‌الْمِلَّةِ) (رواه مسلم)، وفي رواية له: (لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ ‌يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ)، وفي الحديث الصحيح أيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ ‌فَاجْتَالَتْهُمْ ‌عَنْ ‌دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) (رواه مسلم).
بل هو لا يعذبهم سبحانه إلا بعد إرسال الرسل؛ لئلا لا يكون للناس حجة بعد الرسل، والرسل تذكرهم بالميثاق الأول، وتذكرهم بالفطرة التي بُدِّلت عندهم إلى اليهودية أو النصرانية، أو المجوسية، أو غيرها؛ فإذا تذكروا بدعوة الرسل وَجَدوا أن التوحيد وتصديق الرسل هو الذي يجدونه حقًّا في قلوبهم بمقتضى هذه الفطرة، وهي أثر الميثاق الأول، وليست هي الميثاق الأول، لكنها مِن آثاره، ولا يوجد بين السَّلَف مَن ينكر الميثاق الأول، وهو الثابت في الحديث المتفق على صحته عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ؛ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، ‌فَأَبَيْتَ ‌إِلَّا ‌أَنْ ‌تُشْرِكَ بِي!).
وهذه الفطرة وهذا الميثاق الأول إنما كان حجة للميثاق الآخِر؛ لميثاق الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وليس حجة مستقلة؛ كما زعم مَن يخالف ذلك -كابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن أبي العز شارح الطحاوية رحمهم الله- ممَّن قالوا: إن في المسألة قولين للسَّلَف، وجعلوا قول الحسن في ذلك مخالفًا لكلِّ الصحابة والتابعين في ذِكْره الفطرةَ في هذه الآية، مع أن للحسن رواية صحيحة واضحة أنه يُثبِت الميثاق الأول، وهو قد بَيَّن أن الفطرة أثر للميثاق الأول كما نص عليه ابن عباس رضي الله عنهما.
فتنبه لهذه المسألة الخطيرة، مع كون هؤلاء الأئمة جميعًا يقولون: إن الحجة لا تتم إلا ببعثة الرسل؛ ولعل ختم الله تعالى الآية الكريمة بهذين الاسمين الكريمين: العزيز والحكيم في قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)، وتبيين أن بعثة الرسل من آثار العزة والحكمة؛ هو السر في ختم عيسى صلى الله عليه وسلم دعاؤه يوم القيامة: (‌إِنْ ‌تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118)؛ ففي ذلك -والله أعلم- إشارة إلى أن مَن يمكن أن يُغفَر الله لهم ممَّن أشركوا مِن النصارى إنما يكون لمَن تقم عليهم الحجة لعدم وصول الكتب لهم وتقليدهم الأحبار والرهبان، ولم يبلغهم عن عيسى صلى الله عليه وسلم، ولا عن غيره شيء خلاف ما بلغهم؛ فإن هؤلاء يكونون مِن أهل الامتحان يوم القيامة، وقد يُغفَر لبعضهم إذا استجابوا لأمر الله عز وجل، وهذا مقتضى عزته وحكمته أن لا يعذب أحدًا لم تبلغه دعوة الرسل بالتوحيد، وبالتفصيل الذي جاءوا به، والله أعلم.
ومع ثبوت هاتين الحجتين: الميثاق الأول، والفطرة لم يعذب الله أحدًا إلا بعد إرسال الرسل؛ قال تعالى: (‌وَمَا ‌كُنَّا ‌مُعَذِّبِينَ ‌حَتَّى ‌نَبْعَثَ ‌رَسُولًا) (الإسراء: 15)، أي: وتبلغ الناس دعوة هذا الرسول، كما قال تعالى: (‌وَأُوحِيَ ‌إِلَيَّ ‌هَذَا ‌الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام: 19).
وهذا الأصل مجمع عليه عند أهل السنة؛ خلافًا للمعتزلة الذين قالوا بأن الحجة العقلية -بزعمهم!- وهي: عِلْم الكلام والمنطق، وهي في الحقيقة ليست حجة عقلية، بل مجرد شبهات كلامية؛ جعلوها حجة ثابتة على العباد في أصل الدِّين وبعض فروعه، يعذَّبون عليها يوم القيامة ولو لم تبلغهم دعوة الرسل؛ إجمالًا في أصل الدِّين، وتفصيلًا في تفاصيل الإيمان وفروع الدِّين.
وللأسف قد بدَّل بعض المنتسبين إلى السنة والسلف لفظ الحجة العقلية عند المعتزلة إلى حجة الفطرة، فلم يعذروا بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وزعموا أن التوحيدَ وترك الشرك لا يلزم فيه دعوة الرُّسُل صلى الله عليهم وسلم، وفي بعض فروع الدِّين كذلك، التي زعموا أن منها: حرمة الزنا، والفواحش، والقتل، والظلم، ووجوب العدل، ونحو ذلك، وقالوا: هذه أيضًا لا يُعذر فيها بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وسيعذب الناس عليها ولو لم تبلغهم الحجة الرسالية؛ لأنهم فُطِروا على ذلك!
ولا شك أن الأمر سيختلف حسب نظر كلِّ واحدٍ في أن هذا يُعذَّب عليه أو لا يعذب عليه؛ لأنه يراه مِن الفطرة، ولا شك أن هذا هو قول المعتزلة مع تغيير الألفاظ.
وقد غَرَّ الكثيرين انتسابُ هؤلاء للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي يسير على طريقة السَّلَف، وما بينه رحمه الله من عدم تكفير المسلم الذي قد شهد الشهادتين، ولو عَبَد الصنم الذي على قبر البدوي؛ لأجل جهل مَن يصنعون ذلك وعدم مَن ينبههم، كما نص على ذلك في رسائله؛ فظن المغرورون بهؤلاء المنتسبين إلى دعوته أن في المسألة خلافًا، وجَعَلَها بعضهم من مسائل علم أصول الفقه؛ ليخرجوا من الإجماع الذي نقله غير واحدٍ من أهل العلم، في أنه لا يُكفَّر مسلمٌ قال قولًا عن جهل أو أوَّله بشبهة.
فدخل التكفير الواسع لعمومٍ مِن المسلمين؛ خصوصًا بعد ظهور قضية الحكم بغير ما أنزل الله بعد الاحتلال الغربي، وحصول كثير من مسائل موالاة الكفار؛ فاتسع باب التكفير الذي ضيَّقه الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ ‌بَاءَ ‌بِهَا ‌أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ) (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (وَلَعْنُ المُؤْمِنِ ‌كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ ‌كَقَتْلِهِ) (متفق عليه).
وبَيَّن لهم صلى الله عليه وسلم أن الله يحب العذر، بل قال: (لَيْسَ أَحَدٌ ‌أَحَبَّ ‌إِلَيْهِ ‌الْعُذْرُ مِنَ اللهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ) (متفق عليه)، فخالفوا ذلك كله، ونَشَروا هذا الفكر الخطير باسم: "السُّنَّة!"، وغَرَّهم تردد بعض أهل العلم المعاصرين في قضية العذر بالجهل، وليس بعيد أن تغيبَ مسألة عقدية أو عملية عن بعض أهل العلم؛ لأنهم نشأوا على قول طائفةٍ كبيرةٍ مِن أسلافهم لا يعذرون بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، والعِبْرَة بالأدلة التي بيَّنها غيرُهم، ومَن سبقهم مِن العلماء.
واختلط عليهم تفريق الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بين فهم الحجة وبلوغ الحجة؛ فظنوا أن مجرد تلاوة القرآن في المحاريب والمجالس والإذاعات كافٍ في إقامة الحجة، وغفلوا أن الحجة لا بد أن تكون بلسان القوم، وقد غاب عنهم أن القومَ عوام غلبت عليهم العجمة، واللغة العامية، وتلبيس شيوخ الضَّلَال عليهم حقيقة معنى الآيات؛ فهم لا يفهمونها حتى تُبيَّن لهم بلسان قومهم، وتُفَسَّر لهم بالبساطة التي يفهمونها فهنا تكون قد قامت عليهم الحجة؛ فإن أعرضوا عنها فهم الذين أعرضوا، (وَمَنْ أَظْلَمُ ‌مِمَّنْ ‌ذُكِّرَ ‌بِآيَاتِ ‌رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (السجدة: 22)، وهذا الذي ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض التوحيد: "إذا أعرض عن الحجة بعد قيامها"، وليس قبل ذلك.
وازداد الخلط عند الكثيرين بعد نشوء دعوة "سيد قطب" بقضية المجتمع الجاهلي، وقَبْله المودودي في كتابه: "المصطلحات الأربعة في القرآن" التي وَسَّعت نطاق التكفير.
ثم فَسَّر بعضُ أتباع "سيد قطب" فكره بأنه فكر: "التوقف والتَّبَيُّن"، وجعلوا عامة مجتمعات المسلمين "التي لا تنتمي إليهم" إما كفارًا؛ لأنهم خالفوا في المسائل التي جعلوها حدًّا للإسلام -النسك والولاية والحكم-، وإما طبقة متميعة لا يشغلون أنفسهم بالحكم عليها وتوقَّفوا في إسلامها، وعند الحاجة يعاملونهم كالكفار، وربما عرَّضوهم للقتل دون أتباعهم الذين حَرصوا على تجنيبهم ذلك، وزعموا أن مَن كان منهم مسلمًا في الباطن؛ فهو شهيد فترتب على ذلك جرأتهم على التسبب في قتل المسلمين؛ فضلًا عن تكفير مَن خالفهم في الأمور السياسية! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم جاء مَن هم أشدُّ غلوًّا كـ"تنظيم القاعدة"؛ الذي نَبَع منه تنظيم "داعش"؛ ساموا المسلمين قبل غيرهم أنواع القتل، والتنكيل، والتحريق بحكم الجهال مِن قضاتهم، وبدون حكم أيضًا، بل بالجرأة الفظيعة على القتل وعلى التكفير بمجرد الشبهة، ولا يزال هذا حالهم في سيناء، والشام، وغيرها.
وقد دَمَّروا بلاد العراق والشام بتشويه صورة الإسلام الحق فيها، وتشويه اسم الجهاد والخلافة والحدود والجزية حتى كَرِه كثيرٌ مِن الناس ذلك، وحصل البلاء العظيم الذي زالت به في النهاية دولتهم المزعومة، وتحولوا إلى عصابات القتل والتخريب في بلاد المسلمين، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرَّهم، وشر كلِّ ذي شر من الكفار والمنافقين والمبتدعين.
وكل ذلك بسبب إهمال هذه القاعدة القرآنية العظيمة، وهي مِن قواعد السُّنَّة كذلك، وإجماع أهل السنة في وجوب إقامة الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها، والتفريق بين تكفير المُعَيَّن الذي استوفيت فيه الشروط وانتفت الموانع، وبين تكفير النوع الذي يطلق كما أطقته النصوص.
وسوف ننقل جمعًا من الأدلة والنقول عن الأئمة والعلماء في هذه المسألة المهمة في المقال القادم إن شاء الله.


ابوالوليد المسلم 21-07-2024 07:34 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (88) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (8)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
الفائدة الثامنة:
الأدلة والنقول في إثباتِ العُذْر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وعدم تكفير مَن لم تقم عليه الحجة الرسالية التي يُكفَّر منكرها، أو إذا لم تستوفَ الشروط وتنتفي الموانع.
قال الإمام محمد بن حزم رحمه الله: "الكلام فيمَن يُكَفَّر ولا يكفَّر: اختلف الناس في هذا الباب، فذهبت طائفة إلى أن مَن خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد أو في شيء من مسائل الفتيا؛ فهو كافر. وذهبت طائفة إلى أنه كافر في بعض ذلك، فاسق غير كافر في بعضه؛ على حسب ما أدتهم إليه عقولهم وظنونهم. وذهبت طائفة إلى أن مَن خالفهم في مسائل الاعتقاد فهو كافر، وأن مَن خالفهم في مسائل الأحكام والعبادات فليس كافرًا ولا فاسقًا، ولكنه مجتهد معذور؛ إن أخطأ مأجور بنيته. وقالت طائفة بمثل هذا فيمَن خالفهم في مسائل العبادات، وقالوا فيمَن خالفهم في مسائل الاعتقادات أن كلَّ الخلاف في صفات الله عز وجل فهو كافر، وإن كان فيما دون ذلك فهو فاسق.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وأن كلَّ مَن اجتهد في شيءٍ مِن ذلك فدان بما رأى أنه الحق؛ فإنه مأجور على كل حال؛ إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد، وهذا قول ابن أبي ليلي، وأبي حنيفة، والشافعي، وسفيان الثوري، وداود بن علي رضي الله عن جميعهم.
وهو قول كلِّ مَن عرفنا له قولًا في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم لا نعلم منهم في ذلك خلافًا أصلًا؛ إلا ما ذكرنا مِن اختلافهم في تكفير مَن ترك صلاة متعمدًا حتى خرج وقتها، أو ترك أداء الزكاة، أو ترك الحج، أو ترك صيام رمضان، أو شرب الخمر، واحتج مَن كفر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء الله عز وجل".
إلى أن قال: "والحق هو أن كلَّ مَن ثبت له عقد الإسلام؛ فإنه لا يزول عنه إلا بنصٍّ أو إجماع، وأما بالدعوى والافتراء فلا؛ فوجب أن لا يكفَّر أحدٌ بقول قاله إلا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، فيستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة والسلام، وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة، أو في فتيا، وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منقولًا نقل إجماع تواتروا، أو نقل آحاد (قلتُ: مقصوده رحمه الله في ذلك أن مَن عَلِم صحة حديث ولو آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستجاز مخالفته، وعاند بعد أن علمه؛ فهو الذي يكفَّر)؛ إلا أن مَن خالف الإجماع المتيقن المقطوع على صحته فهو أظهر في قطع حجته، ووجوب تكفيره؛ لاتفاق الجميع على معرفة الإجماع، وعلى تكفير مخالفته (قلتُ: والصحيح أن الإجماع نوعان: الأول: مقطوع به، معلوم من الدِّين بالضرورة؛ فهذا يكفَّر مخالفه بمجردة مخالفته؛ لأن انتشارَ العلم به بين المسلمين "خاصهم وعامهم" يجعل الحجة به قائمة على كلِّ أحدٍ، وأما إذا كان إجماعًا مقطوعًا به، لكن لم ينتشر علمه بين المسلمين، ولا يُعلم بالضرورة؛ فهذا يضلل مخالفه؛ لأنه لم يسأل أهل الذِّكْر وهم العلماء فيما وجب عليه تعلُّمه.
والنوع الثاني من الإجماع: ما كان مظنونًا بنقل بعض أهل العلم به، وليس قطعيًّا؛ فلا يكفَّر مخالفه، لكن مخالفته لا تجوز، كما لا يجوز مخالفة الحديث الصحيح عند مَن صَحَّ عنده)؛ برهان صحة قولنا قول الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرًا).
قال أبو محمد: هذه الآية نصٌّ بتكفير مَن فعل ذلك، فإن قال قائل: أن مَن اتبع غير سبيل المؤمنين؛ فليس من المؤمنين. قلنا له -وبالله التوفيق-: ليس كلُّ مَن اتبع غير سبيل المؤمنين كافرًا؛ لأن الزنا، وشرب الخمر، وأكل أموال الناس بالباطل، ليست من سبيل المؤمنين، وقد علمنا أن مَن اتبعها؛ فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وليس مع ذلك كافرًا، ولكن البرهان في هذا قول الله عز وجل: (فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجًا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا)؛ فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلًا، ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلًا، ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان.
(قلتُ: نفي الإيمان في هذه الآية الكريمة التي احتج بها نوعان: نوع يزول معه أصل الإيمان بالكلية، وهذا فيمَن رَدَّ أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل الحُكم "أبى واستكبر، أو كَذَّب واستحل مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام"، أما النوع الثاني مِن نفي الإيمان: فهو نحو نفي الإيمان عن السارق، والزاني، وشارب الخمر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌لَا ‌يَزْنِي ‌الزَّانِي ‌حِينَ ‌يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (متفق عليه).
والدليل على ذلك: أن مَن نزلت فيه ممَّن كانت فيه خصلة النفاق ممَّن قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حُكْمٍ حَكَم به: "أن كان ابن عمتك!"؛ لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم على الرِّدَّة، ولم يأمر بمعاملته معاملة الكفار، وهذا التفريق بين النوعين يُعرَف بحال كلِّ نوعٍ منهما، والسياق الذي يدل عليه في الإباء والاستكبار، والمعاندة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، واستحلال المخالفة، أو المخالفة العملية دون أن يكون ذلك مع إباء واستكبار لشرع الله).
قال أبو محمد: وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان؛ فلا يكون كافرًا؛ إلا أن يأتي نصٌّ بتكفيره فيوقف عنده، كمَن بلغه وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقط، فيمسك عن البحث عن خبره فإنه كافر؛ فإن قال قائل: فما تقولون فيمَن قال: أنا أشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدري: أهو قرشي أم تميمي أم فارسي؟ ولا هل كان بالحجاز أو بخراسان؟ ولا أدري أحي هو أو ميت؟ ولا أدري لعله هذا الرجل الحاضر أم غيره؟ قيل له: إن كان جاهلًا، لا علم عنده بشيء من الأخبار والسِّيَر لم يضره ذلك شيئًا، ووجب تعليمه (قلتُ: يقصد المبالغة في ذلك وإلا فهذا لا يجهله مسلم ولا كافر)، فإذا عَلِم وصَحَّ عنده الحق؛ فإن عاند فهو كافر حلال دمه وماله، محكوم عليه بحكم المرتد، وقد علمنا أن كثيرًا ممَّن يتعاطى الفتيا في دين الله عز وجل، نعم وكثيرًا من الصالحين لا يدري كم لموت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أين كان، ولا في أي بلدٍ كان، ويكفيه مِن كل ذلك إقراره بقلبه ولسانه أن رجلًا اسمه محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدِّين.
قال: وكذلك مَن قال: إن ربه جسم؛ فإنه إن كان جاهلًا أو متاولًا فهو معذور لا شيء عليه، ويجب تعليمه، فإذا قامت عليه الحجة من القرآن والسنن فخالف ما فيهما عنادًا؛ فهو كافر يحكم عليه بحكم المرتد، وأما مَن قال: إن الله عز وجل هو فلان لإنسانٍ بعينه، أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه، أو أن بعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا غير عيسى بن مريم؛ فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكلِّ هذا على كلِّ أحد، ولو أمكن أن يوجد أحدٌ يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه؛ لما وجب تكفيره حتى تقوم عليه الحجة".
انتهى كلامه رحمه الله، ولنا استكمال له.


ابوالوليد المسلم 21-07-2024 07:35 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (89) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (9)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
الفائدة التاسعة:
قال ابن حزم -رحمه الله-: "وقد صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا لم يعمل خيرًا قط، فلما حضره الموت قال لأهله: إذا مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح، نصفه في البحر ونصفه في البر، فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذابًا لم يعذبه أحدًا من خلقه، وأن الله عز جل جمع رماده فأحياه وسأله: ما حملك على ذلك؟ قال: خوفك يا رب. وأن الله تعالى غفر له لهذا القول.
قال أبو محمد: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله، وقد قال بعض مَن يحرِّف الكلم عن مواضعه: أن معنى لئن قدر الله عليَّ؛ إنما هو لئن ضيَّق الله علي، كما قال تعالى: "وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه".
قال أبو محمد: وهذا تأويل باطل لا يمكن؛ لأنه كان يكون معناه حينئذٍ: لئن ضيَّق الله علي ليضيقن علي، وأيضًا: فلو كان هذا؛ لما كان لأمرهم بأن يُحرَق ويذر رماده، معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت مِن عذاب الله تعالى.
(قلتُ: هذا الحديث الصحيح الثابت المتلقَّى بالقبول من الأمة؛ دَلَّ على أن الجهل ولو في أصول الدِّين، ولو في صفات الله عز وجل والإيمان باليوم الآخر، إذا كان ناشئًا عن عدم البلاغ ولو بتقصير في طلب العلم؛ لا يكفَّر صاحبه حتى تقام عليه الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها؛ وذلك أن هذا الرجل جهل ثلاثة أصول عظيمة من أصول الدين: جهل قدرة الله عز وجل عليه، وشك في البعث بعد الموت، وشك في عِلْم الله عز وجل.
وقد دَلَّ على ذلك رواية حَسَّنها ابن حجر في فتح الباري: أن الرجل قال: لعلي أُضِلُّ الله! فهو يظن أنه بذلك يفوت من الله، وأن الله لا يدري أين هو، وكل واحدة من هذه كفر، ومع ذلك فقد نَجَى الرجلُ في نهاية الأمر، ولا يلزم من المعفرة له أن لا يعذب على تفريطه في الطاعة وعلى تقصيره في طلب العلم، فإن في رواية أحمد في مسنده عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه لهذه القصة: أن هذا الرجل هو آخر مَن يخرج مِن النار، فدل ذلك على أنه عُوِقَب ثم غُفِر له، وهذه المسألة من أهم الأمور؛ أعني مسألة مَن قَصَّر في طلب العلم، لكنه لم يبلغه عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم خِلَاف ما اعتقده).
قال أبو محمد: وأبْيَن من شيء في هذا: قول الله تعالى: "إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" إلى قوله: "ونعلم أن قد صدقتنا"؛ فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ ولم يبطل بذلك إيمانهم، وهذا ما لا مخلص منه، وإنما كانوا يكفَّرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة، وتبيُّنهم لها.
قال أبو محمد: وبرهان ضروري لا خلاف فيه، وهو: أن الأمةَ مجمعة كلها بلا خلاف مِن أحدٍ منهم، وهو أن كلَّ مَن بدَّل آية من القرآن عامدًا وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، وأسقط كلمة عمدًا كذلك، أو زاد فيها كلمة عامدًا؛ فإنه كافر بإجماع الأمة كلها، ثم أن المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى، ويبدل كلامه جاهلًا مقدِّرًا أنه مصيب، ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبيَّن له الحق، ولا يكون بذلك عند أحدٍ من الأمة كافرًا ولا فاسقًا ولا آثمًا، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك مِن القراء مَن تقوم الحجة بخبره، فإن تمادى على خطئه؛ فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة، وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة.
وقال أيضًا رحمه الله: وقال قائلهم: فإذا عذرتم للمجتهدين إذا أخطأوا، فأعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل؛ فإنهم أيضًا مجتهدون قاصدون الخير!
فجوابنا -وبالله تعالى التوفيق-: أننا لم نعذر مِن عذرنا بآرائنا، ولا كفَّرنا مَن كفرنا بظننا وهوانا، وهذه خطة لم يؤتها الله عز وجل أحدًا دونه، ولا يدخل الجنة والنار أحدٌ، بل الله تعالى يدخلها مَن شاء، فنحن لا نسمي بالإيمان إلا مَن سَمَّاه الله به؛ كل ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يختلف اثنان مِن أهل الأرض لا نقول من المسلمين، بل مِن كل ملة في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع بالكفر على أهل كل ملة؛ غير الإسلام الذي تبرأ أهله مِن كل ملة حاشا التي أتاهم بها عليه السلام فقط، فوقفنا عند ذلك، ولا يختلف أيضًا اثنان في أنه عليه الصلاة والسلام قطع باسم الإيمان على كلِّ مَن اتبعه وصدَّق بكلِّ ما جاء به، وتبرأ من كل دين سوى ذلك، فوقفنا أيضًا عند ذلك، ولا مزيد؛ فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه؛ سواء أُجمِع على خروجه منه أو لم يجمع، وكذلك مَن أجمع أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام؛ فواجب اتباع الإجماع في ذلك.
وأما مَن لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له، ولا إجماع في خروجه أيضًا عنه؛ فلا يجوز إخراجه عما قد صَحَّ يقينًا حصوله فيه، وقد نص الله تعالى على ما قلنا، فقال: "ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، وقال تعالى: "ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا أولئك هم الكافرون حقًّا"، وقال تعالى: "قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"؛ فهؤلاء كلهم كفار بالنص، وصَحَّ الإجماع على أن كل مَن جحد شيئًا صح عندنا بالإجماع: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى به؛ فقد كفر، وصح بالنص: أن كل مَن استهزأ بالله تعالى أو بمَلَك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدِّين؛ فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر، ومَن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام، أو جحد شيئًا صَحَّ عنده بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كافر؛ لأنه لم يحكِّم النبي صلى الله عليه وسلم فيما شَجَر بينه وبين خصمه.
وقال أيضًا رحمه الله: وسألوا أيضًا عما قال: أنا أدري أن الحج إلى مكة فرض، ولكن لا أدري: أهي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس؟ وأنا أدري أن الخنزير حرام، ولكن لا أدري أهو هذا الموصوف الأقرن أم الذي يحرث به؟
قال أبو محمد: وجوابنا هو: أن مَن قال هذا؛ فإن كان جاهلًا عُلِّم ولا شيء عليه؛ فإن المشببين لا يعرفون هذا إذا أسلموا حتى يعلموا، وإن كان عالمًا فهو عابث مستهزئ بآيات الله تعالى؛ فهو كافر مرتد حلال الدم والمال.
ومَن قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر لتكذيبه القرآن، وقد قذفها مسطح وحمنة فلم يكفرا؛ لأنهما لم يكونا حينئذٍ مكذبين لله تعالى، ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفرا.
وأما مَن سَبَّ أحدًا مِن الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن كان جاهلًا فمعذور، وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق، كمَن زنى وسرق، وإن عاند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب -وحاطب مهاجر يدري-: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فما كان عمر بتكفيره حاطبًا كافرًا، بل كان مخطئًا متأولًا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آية النفاق بغض الأنصار، وقال لعلي: لا يبغضك إلا منافق.
ومَن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه وجد الحرج في نفسه مما قد قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مِن إظهار الإيمان بأيديهم، ومَن عادى عليًّا لمثل ذلك فهو أيضًا كافر، وكذلك مَن عادى مَن ينصر الإسلام لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك.
وقد فَرَّق بعضهم بين الاختلاف في الفتيا والاختلاف في الاعتقاد، بأن قال: قد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتيا فلم يكفِّر بعضهم بعضًا، ولا فسَّق بعضهم بعضًا.
قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء، فقد حدث إنكار القدر في أيامهم، فما كفَّرهم أكثر الصحابة رضي الله عنهم (قلتُ: بل ظاهر كلام ابن عمر وغيره من الصحابة، تكفير غلاة القدرية الذين قالوا: لا قَدَر، وأن الأمر أنف؛ وذلك أن مقتضى قولهم: إنكار علم الله عز وجل إذ هو أول مراتب القدر. وقد قال عمرو بن عبد العزيز وغيره: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أنكروا كفروا، وإن أقروا خصموا؛ فدل ذلك على تكفير مَن أنكر علم الله عز وجل).
قال أبو محمد بن حزم: وقد اختلفوا في الفتيا على ذلك، وسُفِكَت الدماء؛ كاختلافهم في تقديم بيعة علي على النظر في قتلة عثمان رضي الله عنهم، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: مَن شاء بأهلته عند الحجر الأسود أن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في فريضة واحدة نصفًا ونصفًا وثُلُثًا (قلتُ: يعني العول الذي خالف فيه جماهير الصحابة والعلماء رضي الله عن الجميع).
قال أبو محمد: ونحن نختصر ها هنا إن شاء الله تعالى، ونوضِّح كلَّ ما أطلنا فيه، قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا"، وقال تعالى: "لأنذركم به ومن بلغ"، وقال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا"؛ فهذه الآيات فيها بيان جميع هذا الباب؛ فصح أنه لا يكفر أحدٌ حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر، فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عَمِل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حكمٌ بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل؛ فلا شيء عليه أصلًا حتى يبلغه.
(قلتُ: أما مَن لم يبلغه خبرَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن كان موحِّدًا: كبعض أهل الكتاب، وبعض مَن كان على الحنيفية يعرف ربه عز وجل ويعبده وحده، دون علم بتفصيل العبادة لم يجز تكفيره كما ذَكَر، وأما إن كان مشركًا ولم يبلغه خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خبر غيره مِن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فهو كافر معذور في الدنيا، فلا يقتل حتى يبلَّغ ويدعى إلى الإسلام، وفي الآخرة فلا يعذب، بل يمتحن؛ فإن أطاع الله عز وجل نجا).
قال: فإن بلغه وصح عنده؛ فإن خالفه مجتهدًا فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة، كما قال عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب؛ فله أجران، وإن أخطأ فله أجر"، وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء، وإن خالفه بعمله معاندًا للحق معتقدًا بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق، وإن خالفه معاندًا بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك؛ سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردنا، وهو قول إسحاق بن راهويه وغيره، وبه نقول. وبالله تعالى التوفيق" (الفصل في الملل والنحل، 140/ 3).


ابوالوليد المسلم 15-08-2024 08:32 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (90) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (10)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
الفائدة العاشرة:
قوله سبحانه وتعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا):
قال ابن كثير رحمه الله: "هذا إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسل إليه".
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: "ظاهر هذه الآية الكريمة أن الله لا يعذب أحدًا من خلقه حتى يبعث إليه رسولًا ينذره ويحذره، فيعصي ذلك الرسولَ، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلوغ لقوله تعالى: "وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومَن بلغ"، وقوله: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا"، وقوله: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"، ومثل هذا في القرآن متعدد؛ بيَّن سبحانه أنه لا يعاقب أحدًا حتى يبلغه ما جاء به الرسول، ولا يعذبه الله على ما لم يبلغه؛ فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان إلا بعد بلوغ الحجة؛ فإنه لا يعذبه على بعض شرائعه إلا بعد البلوغ" (مجموع الفتاوى 2/ 41-42).
وقال تعالى: "وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبيِّن لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم"؛ ففي هذه الآية بيَّن سبحانه وتعالى أنه لا يضل قومًا حتى تبلغهم الحجج البينات التي يعرفون بها ما يلزمهم أن يتقوه مما يغضب الله عز وجل. وقال تعالى: "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير . قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير".
والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على أن العذاب إنما يكون بعد بلوغ الحجة والنذارة التي جاءت بها رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن أدلة السنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار"، فمَن لم تبلغه دعوة الإسلام؛ فهو معذور، ومَن آمن به صلى الله عليه وسلم ثم لم تبلغه بعد أخباره وأوامره؛ فهو معذور كذلك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: "إذا أنا مت، فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله إن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، ففعلوا به ذلك! فقال الله له: ما حملك على ما فعلتَ؟ قال: خشيتك. فغفر له"؛ فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين؛ لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك" (مجموع الفتاوى، 3/ 231).
وقال رحمه الله: "كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: "إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قَدَر الله علي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له"؛ فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل مِن هذين الاعتقادين كفر يكفر مَن قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله، وبأمره ونهيه، ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له من خشيته" (كتاب الاستقامة، ص 164- 165).
وقد نقلنا كلام ابن حزم رحمه الله في المقالة السابقة، وهذه نُقُول عن شيخ الإسلام ابن تيمية توافق ابن حزم في ذلك.
وروى أبو داود والنسائي وأحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود وصحيح سنن ابن ماجه، عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث أبا جهم بن حذيفة مصدِّقًا فَلَاجَّهُ رجل في صدقته -أي: جادله- فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: القود يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكم كذا وكذا، فلم يرضوا، فقالوا: القود يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا فرضوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني خاطب العشية على الناس فمخبرهم برضاكم، قالوا: نعم. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود ففرضتُ عليهم كذا وكذا فرضوا، أرضيتم؟ قالوا: لا، فهَمَّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم، فكفوا عنهم، فدعاهم فزادهم، فقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم. قال: إني خاطب على المنبر فمخبرهم برضاكم، قالوا: نعم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرضيتم؟ فقالوا: نعم".
قال ابن حزم رحمه الله: "وفي هذا الخبر عذر الجاهل، وأنه لا يخرج من الإسلام بما لو فعله العالم الذي قامت عليه الحجة؛ لكان كافرًا؛ لأن هؤلاء الليثيين كذَّبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه كفر مجرد بلا خلاف، لكنهم بجهلهم وأعْرَابِيَّتهم عُذِروا بالجهالة فلم يُكَفَّروا" (المحلى، 10/ 410).
فهم كَذَبوا وكَذَّبوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنهم رضوا"، لكن هذا في أمر دنيوي، وهم قوم لا يعلمون ما يجوز وما لا يجوز في حق الأنبياء؛ فبذلك عُذِروا ولم يكفروا، وهذا فيه الرد على مَن يزعم أن العذر بالجهل في أمر الآخرة فقط دون أمر الدنيا، وأنه في الدنيا لا بد وأن يكفر مَن قال كفرًا أو فعل كفرًا، ولو كان مسلمًا في الأصل، وهذا كلام باطل؛ فقد دَلَّت هذه الأحاديث على إعمال العذر بالجهل في الدنيا، وفي الآخرة كذلك، ومَن لم يكن عنده "لا إله إلا الله" لم يثبت له الإيمان أصلًا، ومع ذلك وَجَب أن لا يُقاتَل أو يُقتَل حتى نبلغه: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فإن أَبَى، وأَبَى الجزية قُوتِل.
ودل ذلك أيضًا: على أن الكافرَ الذي لم يدخل في الإسلام، ولم تبلغه الحجة؛ لم يُقتَل في الدنيا، وإن مات على كفره قبل بلوغها؛ فإنه يُمتحَن يوم القيامة.
وعن عائشة رضي الله عنها -كما في صحيح مسلم- في حديث استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع، قالت: "مهما يكتم الناس يعلمه الله"؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم".
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" (مجموع الفتاوى، 11/ 412).
قلتُ: وهذا الحديث يحتمل وجهين في الضبط، قالت: "مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: نعم"؛ كأنها تقرر ذلك، ويؤيده الرواية الأخرى: "قالت: نعم"؛ فكأنها تقرر ذلك في نفسها، ولكن الغرض هنا: نَقْلُ شيخ الإسلام ابن تيمية الذي حمله على الوجه الآخر، أنها كانت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: "نعم"، وهو جعلها بذلك جاهلة بهذا الأمر الذي لم يبلغها؛ لصغر سنها.
وللحديث بقية إن شاء الله.


ابوالوليد المسلم 15-08-2024 08:33 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (91) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (11)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
الفائدة الحادية عشرة:
ومِن أدلة العذر بالجهل في التكفير والتعذيب: حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ ‌حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ -وَكَانُوا أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ-، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِشَجَرَةٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، اجعل لنا ذات أنواط كَمَا لَهُمْ ‌ذَاتُ ‌أَنْوَاطٍ، وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكِفُونَ حَوْلَهَا، وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يَدْعُونَهَا ‌ذَاتَ ‌أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ! قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (الأعراف: 138)، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
وهذا الحديث دليل ظاهر على عدم تكفير مَن وقع في شركٍ جاهلًا، وقد أقسم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن طلبهم كطلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً)، ولا نزاع أن طلبَ عبادة غير الله شركٌ أكبر ناقلٌ عن الملة، وقد بَيَّن أبو واقد الليثي رضي الله عنه سببَ قولهم للرسول صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلْ لَنَا ‌ذَاتَ ‌أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ‌ذَاتُ ‌أَنْوَاطٍ"، والذي غضب منه النبي صلى الله عليه وسلم وغَلَّظ عليهم فيه، وهو: أنهم حدثاء عهد بشرك، وهذا مظنة الجهل وعدم العِلْم؛ فإن كبار الصحابة رضي الله عنهم لم يقولوا ذلك، ولا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من الشرك.
وقد اختلف العلماء في هذا الحديث؛ هل ما وَقَع منهم هو مِن الشرك الأصغر أم من الأكبر، وقد ذَهَب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في "كتاب التوحيد" إلى أنه مِن الشرك الأصغر، وذهب في "كشف الشبهات" إلى أنه من الشرك الأكبر، ولكن مَنَع مِن تكفيرهم: "الجهل"؛ فقال في فوائد هذا الحديث في "كشف الشبهات": "وفيه: أن المسلم، بل العَالِم قد يقع في شيء مِن الشرك، وهو لا يدري؛ فإذا نُبِّه وتاب مِن ساعته لم يكفر"، وهذا ترجيح الشيخ حامد الفقي رحمه الله في أن هذا مِن الشرك الأكبر، ومنع مِن تكفيرهم: أنهم حدثاء عهد بشرك؛ أي: الجهل هو المانع.
وهذا ظاهر الحديث، ولأنهم طَلَبوا ما يفعله المشركون، والمشركون إنما يتبرَّكون بها التبرك الشركي، وظاهر سؤالهم مثل سؤال المشركين، وعليه قَسَمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه مِثْلُ قولِ بني إسرائيل لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ).
وعلى أي حال؛ فإذا ثَبَت العذر بالجهل في مسائل من التوحيد، ولو كانت من باب الشرك الأصغر -مع أن هذا خلاف الظاهر-؛ فهي دليل على العذر بالجهل عمومًا، فيدخل في ذلك مسائل الشرك الأكبر أيضًا، كما فَهِم العلماء ذلك.
ومن النُّقُول في ذلك:
قول الإمام الشافعي رحمه الله: "لله تعالى أسماء وصفات، جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيُّه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحدًا مِن خلق الله قامت عليه الحجة ردُّها؛ لأن القرآن نَزَل بها، وصَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القولُ بها فيما رَوَى عنه العدول؛ فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه؛ فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدرَك بالعقل، ولا بالرؤية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نَفَى عن نفسه، فقال: (‌لَيْسَ ‌كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11)" (نَقَل هذا القول عنه ابن حجر في "فتح الباري، 13 /407").
وقال الإمام الخطابي رحمه الله -بعد أن ذكر أن مانعي الزكاة على الحقيقة أهلُ بغي-: "فإن قيل: كيف تأولتَ أمرَ الطائفة التي مَنَعَت الزكاة على الوجه الذي ذكرت، وجعلتهم أهل بغي، وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرضَ الزكاة، وامتنعوا عن أدائها، يكون حكمهم حكم أهل البغي؟ قلنا: لا؛ فإن مَن أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافرًا بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عُذِروا لأسبابٍ وأمورٍ لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها: قُرْب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، ومنها: أن القومَ كانوا جهالًا بأمور الدِّين، وكان عهدهم بالإسلام قريبًا فدخلتهم الشبهة فَعُذِروا.
وأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين عِلْم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل؛ فلا يعذر أحدٌ بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كلِّ مَن أنكر شيئًا مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدِّين إذا كان علمه منتشرًا: كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريمِ: الزنا، والخمر، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام؛ إلا أن يكونَ رجلًا حديثَ عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده، فإنه إذا أنكر شيئًا منها جهلًا به لم يُكفَّر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدِّين عليه، فأما ما كان الإجماع فيه معلومًا من طريق علم الخاصة: كتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمدًا لا يرث، وأن للجدة السدس، وما شابه ذلك من الأحكام؛ فإن مَن أنكرها لا يكفر، بل يُعذَر فيها؛ لعدم استفاضة علمها في العامة" (نقله النووي في شرح مسلم، 1 /205).
أقول: قتال مانعي الزكاة وإن كان عند الجمهور قتالَ أهل بغي؛ إلا أنهم يفارقون مَن خَرَجوا على الإمام بتأويل سائغ؛ فإن مانعي الزكاة قد قَصَّروا في طلب العلم، وليس امتناعهم مِن أداء الزكاة لأبي بكر والخروج عليه كأهل الجمل وصفين، ولا شك في ذمِّ مانعي الزكاة، ومثلهم الخوارج؛ فهم فُسَّاق وأهل بهت مستحقون للعقوبة في الدنيا والآخرة، وأما أهل الجمل وصفين وكلُّ مَن يخرج على الإمام بتأويل سائغ؛ فإنه لا يُفسَّق، ولا يجوز قتاله حتى يُسعى في الصلح؛ فإن أصرَّ على بغيه قُوتِل، فإذا انتهى القتال وَجَب الإصلاح؛ لقول الله عز وجل: (‌وَإِنْ ‌طَائِفَتَانِ ‌مِنَ ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 9-10).
ولا شك أن مانعي الزكاة والخوارج لم يذكرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مِن بعده بلفظ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وإنما قال صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: (‌كِلَابُ ‌أَهْلِ ‌النَّارِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال: (‌يَمْرُقُونَ ‌مِنَ ‌الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) (متفق عليه)؛ فرغم أننا لا نكفِّرهم وهو قول جماهير العلماء إلا أنهم قوم بهت فساق مبتدعون، يستحقون العقوبة في الدنيا والآخرة.
ولكلام الإمام الخطابي رحمه الله فوائد أخرى، نذكرها في المقال القادم إن شاء الله.


ابوالوليد المسلم 15-08-2024 08:34 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (92) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (12)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
الفائدة الثانية عشرة:
مِن فوائد كلام الإمام الخطابي رحمه الله في مانعي الزكاة:
أولًا: أحكام الشريعة تتفاوت مِن زمن إلى زمن، ومن قوم إلى قوم حسب الظهور والخفاء، فليست كلُّ أحكام الشريعة بمنزلة واحدة في كل زمن كلها ظاهرة، أو هناك منها أمور خفية، والعبرة في هذا بانتشار العلم واستفاضته في العامة، فكما كان علم وجوب الزكاة ليس منتشرًا في زمن مانعي الزكاة وقتالهم في عهد أبي بكر رضي الله عنه، والآن سار منتشرًا فهناك أمور كانت منتشرة في ذلك العهد ولم تعد منتشرة في زماننا، وبناءً على ذلك: فمَن يزعم أن العذر بالجهل يكون في الأمور الخفية فقط، كبعض مسائل الفروع دون مسائل التوحيد، ولو أقرَّ بأنها الآن غير منتشرة على الأقل في كثيرٍ من أقطار المسلمين، وأن الضلالات والبدع والشركيات هي المنتشرة؛ فقد أخطأ خطأ بينًا، ولو كان منتسبًا إلى العلم والسُّنَّة.
ثانيًا: الأمور المجمع عليها نوعان: أحدهما: ما انتشر علمه في الأمة، وهو الذي لا يعذر أحدٌ بتـأويل فيه، ولا يُقبل ادعاؤه الجهل به إلا بقرينة تدل على ذلك.
النوع الثاني: ما لم ينتشر علمه بين عامة المسلمين، وإنما يعرفه العلماء، فيعذر المخالف فيه في عدم التكفير لا في استحقاق العقوبة؛ لأن مانعي الزكاة الموصوف حالهم عُذِروا في عدم التكفير، وهم مستحقون للعقوبة في الدنيا والآخرة؛ في الدنيا بالقتال، وفي الآخرة بعقاب الله عز وجل لهم بما شاء، وإن كان معهم أصل الدِّين والإيمان فلا يخلدون في النار، على الصحيح الراجح من أقوال أهل العلم، وهو قول جماهير الأمة.
وسبب عقابهم في الدنيا والآخرة: تقصيرهم في طلب العلم الواجب عليهم، وعدم رجوعهم إلى العلماء من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا شأن كل متمكِّن من طلب العلم فلم يطلبه وقصَّر في ذلك، وخالف في أمرٍ هو مقطوع به في الدِّين، ومجمع عليه، لكنه لم يصله علمه ولم تقم عليه الحجة؛ فهو آثم بتقصيره في طلب العلم وإن لم يكن خارجًا من الملة بترك طلب العلم، وإنما الإعراض المكفِّر إذا قامت عليه الحجة؛ فسد أذنيه، وأعمى قلبه؛ لأنه لا يريد أن يسمعه من فلان أو فلان، مع أن الذي يقيم عليه الحجةَ عَالِمٌ بها يبيِّن له البيِّنات من نصوص الكتاب والسنة.
وقد أخطأ خطأ بيِّنًا مَن جعل المتمكِّن من طلب العلم لا عُذْر له في التكفير، كما قاله بعض المعاصرين مِن المتكلمين والقائلين بالعذر بالجهل، لكن يجعلونه فيمَن لم يتمكَّن من طلب العلم، وبعض المشايخ يكفِّرون مَن يقعون في الشرك في بلادٍ كثيرةٍ بوجود بعض الدُّعَاة، وأنهم لو سألوا بعض الدعاة لأجابوهم! فإذ لم يسألوهم وظلوا على حالهم مِن اتباع علماء السوء، وأحبار السوء الذين يزيِّنون لهم الشرك؛ فزعم أنهم غير معذورين!
وهذا القول غير سديد؛ فالخوارج قد كانوا مستحقين للعقوبة في الدنيا والآخرة، وهم كلاب النار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه هو الذي ناظرهم، ثم ابن عباس رضي الله عنهما، ومع ذلك فلم يكفِّرهم علي رضي الله عنه، وسلوكه مع الخوارج كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية يدل على أنه لم يكن يكفرهم، بل قال مِن الكفر فروا، وإن كانوا مستحقين للعقوبة؛ لعدم رجوعهم إلى أهل العلم وسؤالهم إياهم، مع أن الأقوال التي قالها الخوارج هي في الحقيقة هي أقوال كفرية، لكن المُعَيَّن الجاهل أو المتأول لا يُكفَّر عند الصحابة ومَن بعدهم مِن أئمة العلم، كما نقلنا كلام الخطابي عن مانعي الزكاة، ومثلهم الخوارج، وكذلك الرافضة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ إلا الغلاة منهم؛ فإنهم مخالفون للمعلوم من الدِّين بالضرورة، بوحدانية الله وإلهيته وعدم إلهية أحدٍ من البشر، أو نبوة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا عيسى ابن مريم عليه السلام.
فقد روى البخاري معلقًا في كتاب الحدود في باب: "هل يأمر الإمام رجلًا فيضرب الحد غائبًا عنه": أن رجلًا زنا بجارية امرأته فجلده عمر ولم يرجمه؛ فدلَّ هذا دلالة واضحة على استحقاقه العقوبة؛ لتقصيره في طلب العلم، لكنه ليس كافرًا إذ جهل أن إحلال امرأته جاريته له وهي على ملكها لا يحلها له، فمنع إقامة حدِّ الزنا وهو محصن لأجل الجهل، وجلده مائة، وهذا فيمَن كان جاهلًا بحرمة الزنا بهذه الطريقة، وليس جاهلًا قدر العقوبة كماعز، فإن ماعزًا كان جاهلًا بقدر الحد، وظن أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لن يقتله، وقال: "يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومي غروني، وقالوا: إن رسول الله ليس بقاتلك"، لكنه كان يعلم الزنا وحرمته، فقال: "أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا".
ثالثًا: الأصل فيما انتشر علمه بين المسلمين تكفير منكره؛ إلا أن تدل القرينة على عدم علمه، مثل أن يكون نشأ ببادية بعيدة أو بلاد لم ينتشر فيها العلم، وليس المقصود بالبادية الحصر، بل كل بلد لم ينتشر فيها العلم فيه بمسألة معينة فلا يكفَّر منكرها، وكذلك إذا كانت هناك قرينة قُرب العهد بالإسلام، وكذلك قرينة انتشار البدع والضلالات في بلاد نشأ الناس فيها عليها ولا يعرفون الحق الذي يناقض ما هم عليه؛ فهؤلاء لا يُكفَّرون قبل قيام الحجة.
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: "لا خلاف بين أهل العلم في كفر مَن تركها -أي: الصلاة- جاحدًا لوجوبها إذا كان ممَّن لا يجهل مثلُه ذلك" (قلتُ: وهذا هو المهم في هذه المسألة؛ أن يكون مثله يجهل ذلك أم لا، ولم يقل: إذا كان ممَّن لا يجهل هو ذلك؛ وذلك لأن مَن تأول في المعلوم من الدِّين بالضرورة تأويلًا لا يُقبل؛ لأن مثله لا يجهل ذلك، لا يكون معذورًا).
فإن كان ممَّن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام، والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يُحكم بكفره، وعرِّف ذلك وتثبت له أدلة وجوبها، فإن جحدها بعد ذلك كفر، وإما إذا كان الجاحد ناشئًا في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفَّر بمجرد جحدها" (انتهى من المغني لابن قدامة، 10/ 82).
ونحب أن ننبِّه هنا: على أن مَن أنكر وجوبَ الصلوات الخمس، وقال بوجوب صلاتين فقط في اليوم اعتمادًا على إنكار السُّنَّة؛ فهو كافرٌ بلا نزاعٍ بين أهل العلم.


ابوالوليد المسلم 15-08-2024 08:35 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (93) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (13)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا مع أني دائمًا ومَن جالسني يعلم ذلك أني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسَب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية؛ إلا إذا عُلِم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي مَن خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية" (مجموع الفتاوى).
وقال أيضًا: "لكن ليس كلُّ مَن تكلَّم بالكفر يكفر حتى تقوم عليه الحجة المثبتة لكفره، فإذا قامت عليه الحجة كفر حينئذٍ" (مجموع الفتاوى).
وقال أيضًا: "وليس لأحدٍ أن يكفِّر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتُبَيَّن له المحجة، ومَن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة" (مجموع الفتاوى).
وقال أيضًا: "وإذا عرف هذا؛ فتفكير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه؛ إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يثبت بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر" (مجموع الفتاوى).
وقال أيضًا: "فإن هذا فيه تعطيل صفات الخالق وجحد كماله، ما هو مِن أعظم الإلحاد وهو قول الجهمية الذين كفَّرهم السلف والأئمة تكفيرًا مطلقًا، وإن كان الواحد المعين لا يكفَّر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها" (مجموع الفتاوى).
وقال أيضًا: "ومَن قال: إن لقول هؤلاء سرًّا خفيًّا وباطنَ حقٍّ، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق؛ فهو أحد رجلين: إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال؛ فالزنديق يجب قتله، والجاهل يُعَرَّف حقيقة الأمر، فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وَجَب قتله" (مجموع الفتاوى).
وقال أيضًا: "ونحن نعلم بالضرورة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدًا من الأحياء والأموات، ولا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم؛ لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعانة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت، ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرَّمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبيَّن لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم" (مجموع الفتاوى).
ومما ذكر رحمه الله تعالى في معرض جوابه عن السؤال التالي: ما تقول السادة العلماء أئمة الدِّين رضي الله عنهم أجمعين، في قوم يعظِّمون المشايخ، بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرعون إليهم، ويزورون قبورهم ويقبلونها ويتبركون بترابها، ويوقدون المصابيح طوال الليل، ويتخذون لها مواسم يقدِمون عليها من البعد يسمونها ليلة المحيا، فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها النذور ويصلون عندها.
قوله: "الحمد لله رب العالمين، مَن استغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في الشدائد والكربات، ويطلب منه قضاء الحوائج، فيقول: يا سيدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجوارك؟ أو يقول عند هجوم العدو عليه: يا سيدي فلان، يَستوحِيْه ويستغيث به؟ أو يقول ذلك عند مرضه وفقره، وغير ذلك من حاجاته؛ فإن هذا ضال جاهل مشرك عاصٍ لله باتفاق المسلمين؛ فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعَى ولا يطلب منه شيء؛ سواء كان نبيًّا، أو شيخًا، أو غير ذلك... وهذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينتهِ، وجب قتله كقتل أمثاله من المشركين، ولم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يُصلَّ عليه، وأما إن كان جاهلًا لم يبلغه العلم، ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، فإنه لا يحكم بكفره، ولا سيما وقد كثر هذا الشرك في المنتسبين إلى الإسلام، ومَن اعتقد مثل هذا قربة وطاعة؛ فإنه ضال باتفاق المسلمين، وهو بعد قيام الحجة كافر.
والواجب على المسلمين عمومًا، وعلى ولاة الأمور خصوصًا: النهي عن هذه الأمور، والزجر عنها بكلِّ طريق، وعقوبة مَن لم ينتهِ عن ذلك العقوبة الشرعية. والله أعلم" (جامع المسائل).
وقال رحمه الله تعالى: "ومنهم مَن يطلب مِن الميت ما يطلب مِن الله فيقول: اغفر لي، وارزقني، وانصرني، ونحو ذلك كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى، إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك مَن عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين، فإنه مِن الشرك الذي حرَّمه الله ورسوله، بل من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وأن أصحابها إن كانوا يعذرون بالجهل، وأن الحجة لم تقم عليهم، كما يعذر مَن لم يبعث إليه رسول، كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى ‌نَبْعَثَ ‌رَسُولًا) (الإسراء: 15).
وقال: "كذلك مَن دعا غير الله وحج إلى غير الله؛ هو أيضًا مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالمًا بأن هذا شرك محرم، كما أن كثيرًا من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم، وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره، وهم يتقرَّبون إليها ويعظمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضًا، ولا يعلمون أن ذلك محرَّم، فكثير مِن أنواع الشرك قد يخفى على بعض مَن دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك، فهذا ضال وعمله الذي أشرك فيه باطل، لكن لا يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة، قال تعالى: (فَلَا ‌تَجْعَلُوا ‌لِلَّهِ ‌أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22)".
وقال رحمه الله: "والتحقيق في هذا: أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يُرى في الآخرة! ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيُطلَق القول بتكفير القائل كما قال السلف: مَن قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومَن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يُكَفَّر الشخص المعيَّن حتى تقوم عليه الحجة" (مجموع الفتاوى).
وللحديث بقية إن شاء الله.


ابوالوليد المسلم 15-08-2024 08:36 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (94) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (14)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165).
نُقُول أهل العلم في شروط إقامة الحجة الرسالية قبل تكفير المعين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ففي الجملة: الأجر هو على اتباعه الحق بحسب اجتهاده، ولو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قَدَر على معرفته، لكنه لم يقدر؛ فهذا كالمجتهدين في جهة الكعبة، وكذلك كل من عبد عبادة نهي عنها ولم يعلم بالنهي، لكنها من جنس المأمور به، مثل مَن صلَّى في أوقات النهي وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهي، أو تمسك بدليل خاص مرجوح، مثل: صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر؛ لأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلاهما.
ومثل صلاة رويت فيها أحاديث ضعيفة أو موضوعة كألفية نصف شعبان وأول رجب وصلاة التسبيح، كما جوزها ابن المبارك، وغير ذلك -(قلتُ: أما صلاة التسابيح؛ فقد صحح أحاديثها جماعة من العلماء، وهي ليست في الضَّعْف مثل: ألفية نصف شعبان وأول رجب؛ فإنها موضوعة بلا شك، أما صلاة التسابيح فحديثها حسنة، وإن كان غيرها أولى منها إذا كان فيها تطويل للقراءة، وأما مَن لا يحسن تطويل القراءة؛ فصلاة التسابيح مشروعة له)-.
قال: فإنها إذا دخلت في عموم استحباب الصلاة ولم يبلغه ما يوجب النهي أُثِيب على ذلك، وإن كان فيها نهي من وجه لم يعلم بكونها بدعة تُتخذ شعارًا، ويُجتمع عليها كل عام؛ فهو مثل أن يحدث صلاة سادسة؛ ولهذا لو أراد أن يصلي مثل هذه الصلاة بلا حديثٍ لم يكن له ذلك، لكن لما روي الحديث اعتقد أنه صحيح فغلط في ذلك؛ فهذا يغفر له خطؤه ويُثَاب على جنس المشروع، وكذلك مَن صام يوم العيد ولم يعلم بالنهي، بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك، فإن هذا لا ثواب فيه وإن كان الله لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة، كما قال -تعالى-: (‌وَمَا ‌كُنَّا ‌مُعَذِّبِينَ ‌حَتَّى ‌نَبْعَثَ ‌رَسُولًا) (الإسراء: 15)، لكنه وإن كان لا يعذب؛ فإن هذا لا يُثَاب، بل هذا كما قال -تعالى-: (‌وَقَدِمْنَا ‌إِلَى ‌مَا ‌عَمِلُوا ‌مِنْ ‌عَمَلٍ ‌فَجَعَلْنَاهُ ‌هَبَاءً ‌مَنْثُورًا) (الفرقان: 23)، قال ابن المبارك: هي الأعمال التي عُمِلَت لغير الله. وقال مجاهد: هي الأعمال التي لم تُقبَل. وقال -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ‌فِي ‌يَوْمٍ ‌عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) (إبراهيم: 18).
فهؤلاء أعمالهم باطله لا ثواب فيها، وإذا نهاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنها فلم ينتهوا عُوقِبوا، فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول، وأما بطلانها في نفسها؛ فلأنها غير مأمور بها، فكل عبادة غير مأمور بها؛ فلا بد أن يُنهَى عنها، ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت مِن جنس المشروع فإنه يُثَاب عليها، وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسَب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به، وهذا لا يكون مجتهدا؛ لأن المجتهد لا بد أن يتبع دليلًا شرعيًّا، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله، وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء، والذين فعلوا ذلك قد فعلوه؛ لأنهم رأوه ينفع أو لحديث كذب سمعوه، فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون، وأما الثواب بالتقرب إلى الله فلا يكون بمثل هذه الأعمال" (مجموع الفتاوى، 20 / 32-32).
(قلتُ: ومعنى قوله: "قد يكون ثوابهم أنهم أرجح من أهل جنسهم"؛ يعني بذلك أن أهل الكتاب مع كفرهم أرجح من عُبَّاد الأوثان، وكلهم من جنس واحد في الشرك، لكن الذين يقرون بالوحدانية في الجملة وبالنبوة والكتب المنزَّلة، أرجح من جنسهم، وأهون شرًّا منهم).
وقال -رحمه الله-: "ومَن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضًا كافر، إذا قامتْ عليه الحجة التي يكفر تاركها" (مجموع الفتاوى 1 /112).
وقال -رحمه الله-: "وهكذا الأقوال التي يُكفَّر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكَّن مِن فهمها، وقد يكون قد عَرَضَت لها شبهات يعذره الله بها، فمَن كان مِن المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان؛ سواء كان في المسائل النظرية أو العملية؛ هذا الذي عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفَّر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفَّر بإنكارها؛ فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع؛ فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم مِن أهل البدع وعنهم تلقَّاه مَن ذكره مِن الفقهاء في كتبهم" (مجموع الفتاوى 23/ 346).
قلتُ: (وهذا النقل والذي قبله واضح تمام الوضوح في بيان أن العذر بالجهل في أحكام الدنيا كما هو في أحكام الآخرة؛ فهو يتكلم عن التكفير وعن العقوبة في الآخرة، وفي هذا الرد الواضح على مَن يزعمون أن العذر بالجهل يكون في أحكام الآخرة دون أحكام الدنيا، فيحكمون على مَن نطق الشهادتين أو وُلِد مسلمًا وثَبَت له الإسلام ووقع في أشياء من الشرك جاهلًا بأنه كافر في الدنيا ويعامل كالكفار، ويكون في أحكام الآخرة معذورًا ممتحنًا فهذا الكلام باطل يخالف ما نَصَّ عليه شيخُ الإسلام بناءً على ما ثَبَت من الأدلة التي سبق أن ذكرناها في أول هذه المسائل.
ثم هو ينص على أن بدعة تقسيم المسائل في قضية العذر بالجهل وإقامة الحجة، إلى مسائل أصول ومسائل فروع، كما يقوله بعض أهل زماننا مِن أن مسائل الشرك لا يُعذَر فيها بالجهل ولو ثبت أنه لم تقم عليه الحجة، وإنما العذر بالجهل في المسائل الخفية؛ هذا القول باطل مأخوذ عن المعتزلة، ليس عند أئمة السنة.
وإن كان التقسيم إلى مسائل أصول وفروع؛ لتسهيل التعلُّم، وتوضيح الأقسام، تقسيم اصطلاحي لا مشاحة فيه طالما لم يبنى عليه حكم، أما أن يبني عليه حكم فيقال هذه المسائل لا عذر بالجهل فيها، ولا تلزم إقامة الحجة الرسالية فيها؛ فهذا القول باطل محدث لا شك في بدعته).
قال -رحمه الله-: "والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية، كمَن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبيِّن المراد، ولم يعرفه، مثل مَن اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يُرَى؛ لقوله -تعالى-: (‌لَا ‌تُدْرِكُهُ ‌الْأَبْصَارُ) (الأنعام: 103)، ولقوله: (‌وَمَا ‌كَانَ ‌لِبَشَرٍ ‌أَنْ ‌يُكَلِّمَهُ ‌اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) (الشورى: 51)، كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يدلان بطريق العموم.
وكما نُقِل عن بعض التابعين: أن الله لا يُرَى وفسَّروا قوله: (‌وُجُوهٌ ‌يَوْمَئِذٍ ‌نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 22-23)، بأنها تنتظر ثواب ربها، كما نقل عن مجاهد وأبي صالح، أو مَن اعتقد أن الميت لا يعذَّب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله: (‌وَلَا ‌تَزِرُ ‌وَازِرَةٌ ‌وِزْرَ ‌أُخْرَى) (الأنعام: 164) يدل على ذلك؛ وأن ذلك يقدَّم على رواية الراوي؛ لأن السمع يغلط، كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف، أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله: (‌فَإِنَّكَ ‌لَا ‌تُسْمِعُ ‌الْمَوْتَى) (الروم: 52) يدل على ذلك.


ابوالوليد المسلم 15-08-2024 08:37 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (95) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (15)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165).
ونستكمل في هذا المقال النقول عن أهل العلم في مسألة وجوب إقامة الحجة الرسالية، والعذر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -عن طوائف من أهل البدع: كالخوارج، والرافضة، وغيرهم-: "وأما تكفيرهم وتخليدهم: ففيه أيضًا للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يُعلَم أنها مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضًا.
وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له. وقد بسطتُ هذه القاعدة في (قاعدة التكفير)؛ ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: (إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ)، مع شكه في قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفِّر العلماء مَن استحل شيئًا مِن المحرمات؛ لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة.
وكثير مِن هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعِث بذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفِّر مَن قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها دون غيره. والله أعلم" (مجموع الفتاوى 28 /500-501).
(قلتُ: وهذا دليل واضح على العذر بالجهل في مسائل التكفير في أحكام الدنيا والعذاب في الآخرة عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله).
وقال -رحمه الله-: "والتكفير هو مِن الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا.
وكنتُ دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: (إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت. قَالَ خَشْيَتُك: فَغَفَرَ لَهُ).
فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغُفِر له بذلك" (مجموع الفتاوى 3/ 231).
وقال أيضًا في الرد على البكري: "ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنتُ كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال" (الرد على البكري 2/ 494).
وبهذه النقول الواضحة عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مسائل من أصول العقيدة، وفي توحيد الألوهية، والأسماء والصفات تعرف خطأ مَن قال: إن العذر بالجهل مقصور على المسائل التي قد تخفى، مثل: مسائل المعاملات، وبعض شئون الصلاة!
وكذلك مَن يجعل الناسَ في نحو مجاهل إفريقيا وغيرها ممَّن دخل في الإسلام وأتي بشيء من الشركيات معذورًا؛ بمعنى أن حكمه حكم أهل الفترة الذين يُمتحَنون في القيامة، كما قد يُفهَم مِن بعض فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية قديمًا، فالظاهر، بل المنصوص عليه مِن كلام أهل العلم: التفرقة بين مَن دخل في الإسلام وصَدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالًا ونطق الشهادتين، وبين مَن لم يدخل فيه أصلًا ممَّن لم تبلغه الدعوة ولم يأتِ بـ"لا إله إلا الله وأصل التوحيد"؛ فالذي دَخَل في الإسلام ونطق الشهادتين وصدَّق الرسولَ صلى الله عليه وسلم إجمالًا عنده أصل الإيمان والدين، والثاني كافر معذور لعدم بلوغ الرسالة؛ فلا يصح أن يجعل الأول من أهل الامتحان وهو قد آمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما وقع فيه مِن الشرك؛ فإن حكمه يسقط في حقه؛ لعذره بعدم بلوغ الحجة الرسالية، ولو كان مُقَصِّرًا في طلب العلم -مع تمكُّنه من ذلك-؛ لكان آثمًا، لكن لا يُعَامَل معاملة الكافر.
وأما قضية الخفاء والظهور التي اشترطها بعض مشايخ الدعوة النجدية -كالشيخ: أبي بطين غفر الله له-؛ فإن الظهور والخفاء أمر نسبي، فما يظهر لهؤلاء القوم يكون خافيًا عند آخرين، وما يظهر في هذا البلد يكون خافيًا في بلد أخرى وما يظهر لقوم نشأوا في وسط أهل البدع يختلف عن الذي ظهر لقوم نشأوا في وسط أهل السنة، وإن كنا لا نقصد بأن هذا الأمر نسبي: أن كلَّ الأمور كذلك، فلا يكون فيها مطلق، بل هناك ما يقطع ويقطع كل أحدٍ بانتشاره بين المسلمين، والذي لا يقبل دعوى الجهل فيه إلا بقرينة -كما سبق أن بيَّنَّا-، وذلك مثل: تعظيم القرآن، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الدين عند الله الإسلام، ونحو ذلك مما انتشر علمه بين المسلمين؛ فمن كان ناشئًا اليوم في بلادنا ثم جحد وجوب الصلاة مثلًا أو بعضها -كمَن يفتي بأن الصلوات الخمس ليست واجبة، وإنما تجب صلاة في الصباح وفي المساء-؛ فهذا لا شك في كفره؛ لأنه مخالف للمعلوم للدِّين بالضرورة الذي انتشر علمه بين المسلمين.
وكذلك مَن قال عن أحكام الإسلام في الجلد والرجم والقطع: إنها من نفايات القرون الوسطى الوحشية! أو قال بأن الزنا واللواط طالما كانا بالتراضي؛ فهو من حقوق الناس يجوز لهم أن يفعلوهما إذا تراضوا عليها؛ فلا شك في ردة مَن قال ذلك مِن ساعته؛ لأن الحجة بمثل ذلك قائمة على كلِّ أحدٍ، ولا يتصور خفاؤها.
وفي بعض بلاد المسلمين التي انتشرت فيها دعوة التوحيد، والتحذير من شرك عبادة القبور، تكون هذه المسائل منتشرة في تلك البلاد؛ أما في غيرها، فكثير من بلاد المسلمين اليوم ينتشر فيها الجهل والتلبيس بالباطل مِن علماء سوء الذين يلبِّسون على العوام، وخاصة في مسائل الغلو في الصالحين، فيلتبس الأمر عندهم بحب الصالحين بالغلو فيهم وصرف العبادات لهم من دون الله، وكذلك قضية الحكم بالشريعة دون القوانين الوضعية؛ هناك في بعض البلاد -أو كثير منها- تلبيس على الناس في هذا الأمر، ونحو ذلك مما يشك فيه مَن خالط هؤلاء الناس، فلا يمكنه تكفير أعيانهم حتى تبلغهم الحجة الرسالية التي يكفر منكرها.
والحجة الرسالية تنقسم إلى أقسام؛ فهناك الحجة التي انتشر علمها فهي مِن المعلوم من الدين بالضرورة، فهذه يكفر مخالفها، وهناك حجة رسالية قطعية غير معلومة من الدين بالضرورة كالتي انتشرت عند العلماء، لكن لم تبلغ عامة الناس؛ فهذه يضلل مَن خالفها ويبدع ويأثم؛ لأنه خالف أهل العلم وترك سؤالهم وقصر، وهناك حجة رسالية لم يُجمَع عليها وليست قطعية ككثير من مسائل الأحكام، وكل فريق يحتج بحجة رسالية بفهمه لنصوص الكتاب أو السنة، ومع ذلك فلا يضلل ولا يبدع المخالف؛ لأن هذه الحجة ليست قطعية ولا منتشرة العلم، وإنما هي محل اجتهاد.
فالمقصود بالحجة الرسالية التي يكفر منكرها: النوع الأول، وهو المعلوم من الدين بالضرورة، والنوع الثاني إذا علمه صاحبه وأقر بعلمه؛ فهذا الذي يعامل بناءً على ذلك. والله أعلم.
وللحديثة بقية إن شاء الله.


ابوالوليد المسلم 28-08-2024 02:06 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (96) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (16)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165).
نستكمل النقول في عن أهل العلم في مسألة شرط إقامة الحجة الرسالية قبل تكفير الشخص المعين إن وقع في شرك أو كفر، إذا لم يكن معلومًا من الدِّين بالضرورة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان -في وجوه تفاضل الإيمان-: "وهؤلاء، يعني مَن معهم إيمان مجمل يثابون على إسلامهم وإقرارهم بالرسول صلى الله عليه وسلم مجملًا، وقد لا يعرفون أنه جاء بكتاب، وقد لا يعرفون أنه جاءه مَلَك، ولا أنه أخبر بكذا، وإذا لم يبلغه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك لم يكن عليهم الإقرار المفصَّل به ولكن لا بد من الإقرار بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه صادق في كلِّ ما يخبر به عن الله" (كتاب الإيمان مجموع الفتاوى، 7/ 270).
فتأمل -أيها القارئ الكريم-: كيف افترض شيخ الإسلام هذا الفرض البعيد للغاية الذي لا يكاد يوجد حتى في الكفار، وهو: عدم المعرفة بنزول جبريل صلى الله عليه وسلم أو بوجود القرآن؛ فضلًا عما يحتويه القرآن من العقائد والأعمال، فأخبر أن مَن أقرَّ مجملًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وصدَّقه يُثَاب على ذلك.
وقال أيضًا: "وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة؛ مَن كان منهم منافقًا فهو كافر في الباطن، ومَن لم يكن منافقًا، بل كان مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرًا في الباطن وإن أخطأ التأويل كائنًا ما كان خطؤه، وقد يكون في بعضهم شعبة مِن شعب النفاق، ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار" (مجموع الفتاوى، 7 /218).
وهذا النقل عنه رحمه الله يؤكِّد: أن الثنتين وسبعين فرقة، كلها مِن فِرَق الأمة ومِن أهل القبلة، يُعَاملون كمسلمين حتى الروافض والخوارج؛ إلا مَن غلا مِن الرافضة فألَّه أحدًا دون الله: كالنصيرية الذين يؤلِّهون علي بن أبي طالب، والدروز الذين يؤلهون الحاكم بأمر الله، أو القائلين بنبوة أحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم: كالبابية والبهائية، أو القائلين بتحريف القرآن!
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله -في وجوه تفاضل الإيمان أيضًا-: "بل قلبه جازم أنه -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- لا يخبر إلا بصدق، ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك أو يفسَّر له معناه، أو يظهر له بوجه من الوجوه، فيصدق بما كان مكذبًا به، ويعرف ما كان منكِرًا؛ هذا تصديق جديد وإيمان جديد، ازداد به إيمانًا، ولم يكن قبل ذلك كافرًا، بل جاهلًا.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله -في كتاب: "كشف الشبهات" تعليقًا على حديث ذات أنواط-: "وهذه القصة تفيد أن المسلم، بل العَالِم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التَّعَلُّم والتحرز، ومعرفة أن قول الجاهل: "التوحيد فهمناه!"؛ من أكبر الجهل، ومكائد الشيطان.
وتفيد أيضًا: أن المسلم المجتهد إذا تكلَّم بكلامِ كفرٍ، وهو لا يدري؛ فنُبِّه على ذلك وتاب من ساعته أنه لا يكفَّر، كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وتفيد أيضًا: أنه ولو لم يكفر؛ فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" (انتهى من كشف الشبهات).
وهذه الأخير هو معنى قوله على هذا الحديث في كتاب التوحيد في المسألة السابعة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: "الله أكبر! إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم"؛ فغلظ الأمر بهذه الثلاث، وليس المقصود عدم العذر في تكفيرهم، بل عدم العذر في التغليظ عليهم".
فهم مقصِّرون يستحقون التغليظ وإن لم يكفَّروا، وظاهر قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات أنه يجعل مسألة التبرك بالأحجار والأشجار -التي طلبها بعض حدثاء العهد بالإسلام من الصحابة في غزوة حنين- مِن الشرك الأكبر، وهم لم يكفروا؛ لأنهم جهال، وحدثاء عهد بالشرك، وهذا الذي رجَّحه الشيخ حامد الفقي، وهو الصحيح الظاهر حتى لو كان طلبًا من غير فعل؛ لأن طلبَ الكفر والعزم عليه في المستقبل كفر، ولو لم يفعله، وإن كان فعله أشد من مجرد الطلب، ولقد حَلَف النبي صلى الله عليه وسلم على مساواة هذا القول، بقول مَن قال: "اجعل لنا إلهًا"، ولا شك أن هذا القول كفر أكبر.
والحقيقة: أن الطلبَ كفر، والعمل كفر، وشرك أكبر، لكن منع مِن تكفير المعينين أنهم حدثاء عهد بالإسلام كما دَلَّ عليه الحديث، حيث قال: "خرجنا إلى حنين ونحن حدثاء عهد بشرك".
وهذا النقل الصريح عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يوضِّح لنا مذهبه في مسألة العذر بالجهل، وهو عدم التكفير إذا كان الشخص مثله يجهل ذلك، حتى في مسائل التوحيد؛ خلافًا لمَن يتوهم خلاف ذلك عنه، ويزعم أنه لم يكفِّرهم، ولكن لم يحكم بإسلامهم.
وهو قد قال رحمه الله: "وفيه أن المسلم، بل العَالِم قد يقع في أنواعٍ مِن الشرك لا يدري عنها"، وهذا يدل على أنه يحكم لهم بالإسلام؛ خلافًا لبعض أتباعه ممَّن يزعم أنه لم يحكم بإسلامهم، ونسبوا إليه مسألة مبتدعة لم يقل بها عَالِم؛ أن يُتوقف عن تكفير إنسان ثَبَت إسلامه، وفي نفس الوقت نمتنع عن إثبات حكم الإسلام له؛ فليس بمسلم ولا بكافر؛ فهذا قول محدث باطل، لا يقول به أحدٌ مِن أهل العِلْم.
وكذلك صَرَّح في بعض رسائله بالعذر بالجهل حيث قال: "وإذا كنا لا نكفِّر مَن عبد الصنم الذي على قبر البدوي مِن العوام؛ لأجل جهلهم، وعدم مَن ينبههم؛ فكيف نكفِّر مَن لم يكفِّر ولم يقاتل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!" (نقلًا عن منهاج أهل الحق والاعتدال، في المجلد الرابع من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود).
وهذا الكلام الواضح في أنه لا يكفِّر، ولا يُقَاتِل إلا بعد قيام الحجة، وقد زاد ذلك توضيحًا، فقال رحمه الله: "تكفير مَن بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله، ثم أبغضه ونَفَّر الناس عنه، وجاهد مَن صَدَّق الرسول فيه، ومَن عرف الشرك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعِث بإنكاره، وأقر بذلك ليلًا أو نهارًا، ثم مدحه وحسَّنه للناس، وزعم أن أهله لا يخطئون؛ لأنهم السواد الأعظم! وأما ما ذكره الأعداء عني: أني أكفِّر بالظن وبالموالاة أو أكفِّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة؛ فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله" (رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 6/ 1-25).
وقال رحمه الله: "وأما التكفير، فأنا أكفِّر مَن عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سَبَّه ونهى الناس عنه، وعادى مَن فعله؛ فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك" (المصدر السابق، ص 38).
وقال رحمه الله: "وإنما نكفِّر مَن أشرك بالله في إلهيته بعد ما نبيِّن له الحجة على بطلان الشرك" (المصدر السابق، ص 60).
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: "والشيخ محمد رحمه الله مِن أعظم الناس توقفًا وإحجامًا عن إطلاق الكفر؛ حتى إنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له مَن ينصحه، ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها".
وهذه النقول كلها تؤكِّد بطلان ما نسبه البعض للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، مِن أنه يكفِّر الأمة منذ قرون، أو أنه سببٌ في نشر فكر التكفير بين الناس، وأنه وَقَع فيما وَقَع فيه الخوارج؛ فهذه الأقوال الباطلة لا بد مِن ردِّها عن الشيخ، وكتبه مليئة ببيان مذهبه الموافق للسلف في هذه المسألة؛ فليتقِ الله مَن يطعن في الشيخ بزعم أنه الذي نَشَر فكر التكفير!
مسألة مهمة:
هل الخلاف في العذر بالجهل: خلاف في العقيدة أم خلاف في أصول الفقه؟
الجواب: أن هذه المسألة يترتَّب عليها تكفيرُ عددٍ هائلٍ مِن المسلمين؛ فهي مِن مسائل الاعتقاد بلا شك، كما أن أصلَ المسألة مأخوذ عن المعتزلة الذين يقولون بعدم وجوب الحجة الرسالية طالما قامت الحجة العقلية، وإن غَيَّر اللفظ بعض المعاصرين فقالوا: "دليل الفطرة!"، وبعضهم يقول: "دليل ميثاق الذر!"؛ فلا يشترطون الحجة الرسالية، ولا شك أن هذه المسألة فرع على التحسين والتقبيح العقليين التي قال بها المعتزلة، وحاكموا الناس إليها دون رجوع إلى ما ثَبَت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذا فالمسألة خطيرة، وليست مجرد خلاف في أصول الفقه في قضايا عوارض الأهلية -كما زعمه البعض!-؛ فإن هذا ليس كذلك، بل هي مسألة عقدية حول تكفير المخالفين مِن أهل البدع، وكذا تكفير مَن وقع في الشرك جاهلًا أو مخطئًا؛ لذلك لا بد من الحذر
كما أن التطبيق العملي الذي وَقَع مِن جماعات التكفير لما ظنوه مذهبًا للشيخ محمد بن عبد الوهاب أو بعض أتباعه؛ أدَّى إلى انتشار فكر خبيث مدمِّر، سُفِكَت به الدماء، وانتهكت به الحرمات؛ فكيف يهوَّن مِن شأن هذه المسألة الخطيرة بزعم أنها ليست من مسائل العقيدة، بل هي كذلك منها، وهي مِن ميراث فكر الخوارج والمعتزلة من الوعيدية.
ونكتفي بهذه النقول في هذه المسألة المهمة؛ لعل أن يكون فيها عِبْرَة لمَن اعتبر، وموعظة لمَن تجرأ على تكفير المسلمين.


ابوالوليد المسلم 28-08-2024 02:08 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (97) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (1)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
إن الدعوة إلى الله، وتوحيده وعبادته، والبراءة مِن كلِّ ما يُعبَد مِن دونه هي تكميل واجب لعقيدة المؤمن؛ طالما قدر على شيء من هذه الدعوة، كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (‌قُلْ ‌هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وهذا المعنى العظيم قد وضَّحه وبيَّنه كلُّ الأنبياء صلوات الله وسلامهم عليهم؛ ليكونوا قدوة للمؤمنين عبر الزمان في دعوتهم وقيامهم بهذه المهمة العظيمة؛ التي بها يحافظون على أنفسهم ودينهم وهويتهم مما يُرَاد بها مِن تلبيس وطمس وتغيير؛ يريده الشيطان وأتباعه، كما توعَّد بني آدم فقال: (‌وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119).
وأشد هذا التغيير: تغيير الملة من الحنيفية إلى اليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية، أو إلى ما هو أسوأ من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (‌كُلُّ ‌مَوْلُودٍ ‌يُولَدُ ‌عَلَى ‌الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) (متفق عليه)، وفي رواية: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى ‌هَذِهِ ‌الْمِلَّةِ... ) (رواه مسلم).
وقد قام إبراهيم صلى الله عليه وسلم بهذا الواجب في جميع مراحل حياته، وفي كلِّ مكان نَزَل به؛ فمنذ كان فتى شابًا؛ دعا أباه وقومَه إلى الله وحده، وعبادته، وأظهر البراءة مِن ضلالهم وشركهم، وعبادتهم غير الله، ثم لما ذهب إلى مصر دعا إلى الله عز وجل، ولما ذهب إلى الشام وأقام بها في القدس دعا إلى الله عز وجل، ونشَّأ أولاده وأحفاده وأهله على توحيد الله سبحانه وتعالى.
ولما أمره الله عز وجل أن يعمِّرَ مكة، عمَّرها على توحيد الله سبحانه وتعالى والبراءة من الشرك، وبنى بيته الحرام على ذلك، ووَرَّث أبناءه هذا الإسلام الذي جدَّده الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكمله الله عز وجل لنا وارتضاه لنا دينًا، فاللهم لك الحمد كما تقول وخيرًا مما نقول، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وإلى تفسير الآيات ثم فوائدها.
قال ابن كثير رحمه الله: "قال الضحاك عن ابن عباس: إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنما كان اسمه تارح. رواه ابن أبي حاتم. (قلتُ: هذا أثر ضعيف منقطع؛ فإن الضحاك لم يلقَ ابن عباس). وروى بسنده عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) يعني بآزر: الصنم، وأبو إبراهيم اسمه: تارح، وأمه اسمها: مَثَانِي، وامرأته: اسمها سارة، وأم إسماعيل اسمها: هاجر، وهي سرية إبراهيم. وهكذا قال غير واحد من علماء النَّسَب: إن اسمه تارح. وقال مجاهد والسدي: آزر اسم صنم. قلت: كأنه غلب عليه آزر؛ لخدمته ذلك الصنم، فالله أعلم.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: هو سب وعيب بكلامهم، ومعناه: معوج" ولم يسنده ولا حكاه عن أحدٍ.
وقد قال ابن أبي حاتم: ذُكِر عن معتمر بن سليمان، سمعتُ أبي يقرأ: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) قال: بلغني أنها أعوج، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم -عليه السلام-.
ثم قال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر. ثم أورد على نفسه قول النَّسَّابين أن اسمه تارح، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان كما لكثيرٍ مِن الناس، أو يكون أحدهما لقبًا، وهذا الذي قاله جيد قوي، والله أعلم. (قلتُ: ونحن لا يلزمنا قول النَّسَّابين الذين لا يعتمدون على أسانيد بينهم وبين زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وإنما هي حكايات أخذوها عن أهل الكتاب الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما لم يَرِد فيه عندنا عِلْم من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس منه؛ لأن الكتاب قد نَصَّ على أن إبراهيم قد كَلَّم أباه آزر في المواضع المختلفة، فيجب التسليم لذلك، وعدم معارضته بقول النَّسَّابين).
واختلف القراء في أداء قوله تعالى: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) فحكى ابن جرير عن الحسن البصري وأبي يزيد المدني، أنهما كانا يقرآن: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرُ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) معناه: يا آزرُ، أتتخذ أصنامًا آلهة؟!
وقرأ الجمهور بالفتح؛ إما على أنه عَلَم أعجمي لا ينصرف، وهو بدل من قوله: (لِأَبِيهِ) أو عطف بيان، وهو أشبه. وعلى قول مَن جعله نعتًا لا ينصرف أيضًا: كأحمر وأسود؛ فأما مَن زعم أنه منصوب؛ لكونه معمولًا لقوله: (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا) تقديره: يا أبت، أتتخذ آزر أصنامًا آلهة؛ فإنه قول بعيد في اللغة، فإن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله؛ لأن له صدر الكلام، كذا قرَّره ابن جرير وغيره. وهو مشهور في قواعد العربية.
والمقصود: أن إبراهيم عليه السلام وَعَظ أباه في عبادة الأصنام وزجره عنها، ونهاه فلم ينتهِ، كما قال: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) أي: أتتأله لصنمٍ تعبده من دون الله؟! (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ) أي: السالكين مسلكك (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: تائهين لا يهتدون أين يسلكون، بل في حيرة وجهل، وأمركم في الجهالة والضلال بيِّنٌ واضحٌ لكلِّ ذي عقلٍ سليمٍ.
وقال تعالى: (‌وَاذْكُرْ ‌فِي ‌الْكِتَابِ ‌إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم: 41-48)، فكان إبراهيم عليه السلام، يستغفر لأبيه مدة حياته، فلما مات على الشرك وتبيَّن إبراهيم ذلك؛ رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه، كما قال تعالى: (‌وَمَا ‌كَانَ ‌اسْتِغْفَارُ ‌إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114).
وثبت في الصحيح: أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم (يَلْقَى أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي، فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى ‌مِنْ ‌أَبِي ‌الْأَبْعَدِ؟! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ -ضبع- مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ) (رواه البخاري)" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرفٍ يسيرٍ).
وللحديث بقية إن شاء الله.


ابوالوليد المسلم 28-08-2024 02:09 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (98) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (2)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (وَكَذَ?لِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: نبيِّن له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله عز وجل، في ملكه وخلقه، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، كقوله: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (يُونُسَ: 101)، وَقَالَ: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (الْأَعْرَافِ: 185)، وَقَالَ: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (سَبَأٍ: 9).
فَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وعَطاء، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، والسُّدِّي، وَغَيْرِهِمْ قَالُوا -وَاللَّفْظُ لِمُجَاهِدٍ-: فُرِجَتْ لَهُ السَّمَوَاتُ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ، حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ إِلَى الْعَرْشِ، وَفُرِجَتْ لَهُ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ -وَزَادَ غَيْرُهُ-: فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْعِبَادِ عَلَى الْمَعَاصِي فَيَدْعُوَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: إِنِّي أَرْحَمُ بِعِبَادِي مِنْكَ، لَعَلَّهُمْ أَنْ يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ، عَنْ مُعَاذٍ، وَعْلَيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) فَإِنَّهُ -تعالى- جَلا لَهُ الْأَمْرَ؛ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْخَلَائِقِ، فَلَمَّا جَعَلَ يَلْعَنُ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ، قَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا، فَرَدَّهُ اللَّهُ -كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ- فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَشَفَ لَهُ عَنْ بَصَرِهِ، حَتَّى رَأَى ذَلِكَ عَيَانًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ بَصِيرَتِهِ حَتَّى شَاهَدَهُ بِفُؤَادِهِ وَتَحَقَّقَهُ وَعَرَفَهُ، وَعَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ وَالدَّلَالَاتِ الْقَاطِعَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ: (أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي يَا رَبِّ، فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفِي، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيِي، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ … ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وَقَوْلُهُ: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) قِيلَ: "الْوَاوُ" زَائِدَةٌ، تَقْدِيرُهُ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، كَقَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الْأَنْعَامِ: 55). وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا، أَيْ نُرِيهِ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَالِمًا وَمُوقِنًا.
وَقَوْلُهُ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أَيْ: تَغَشَّاهُ وَسَتَرَهُ (رَأَى كَوْكَبًا) أَيْ: نَجْمًا، (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) أَيْ: غَابَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: "الْأُفُولُ" الذَّهَابُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُقَالُ: أَفَلَ النَّجْمُ يأفلُ ويأفِل أُفُولًا وأفْلا إِذَا غَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي تَقُودُها نُجُومٌ وَلَا بِالْآفِلَاتِ الدَّوَالِكِ
وَيُقَالُ: أَيْنَ أَفَلْتَ عَنَّا؟ بِمَعْنَى: أَيْنَ غِبْتَ عَنَّا؟
قَالَ: (قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ) قَالَ قَتَادَةُ: عَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا) أَيْ: طَالِعَا (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي) أَيْ: هَذَا الْمُنِيرُ الطَّالِعُ رَبِّي (هَذَا أَكْبَرُ) أَيْ: جِرْمًا مِنَ النَّجْمِ وَمِنَ الْقَمَرِ، وَأَكْثَرَ إِضَاءَةً. (فَلَمَّا أَفَلَتْ) أَيْ: غَابَتْ، (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أَيْ: أَخْلَصْتُ دِينِيَ وَأَفْرَدْتُ عِبَادَتِي (لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) أَيْ: خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ. (حَنِيفًا) أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ: مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: هَلْ هُوَ مَقَامُ نَظَرٍ أَوْ مُنَاظَرَةٍ؟ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَقَامُ نَظَرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ الَّذِي وَلَدَتْهُ فِيهِ أُمُّهُ، حِينَ تَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ النَّمْرُودَ بْنَ كَنْعَانَ، لَمَّا أنْ قَدْ أُخْبِرَ بِوُجُودِ مَوْلُودٍ يَكُونُ ذَهَابُ مُلْكِكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ عامئذٍ. فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَحَانَ وَضْعُهَا، ذَهَبَتْ بِهِ إِلَى سَرَبٍ ظاهر البلد، فولدت فيه إِبْرَاهِيمَ وَتَرَكَتْهُ هُنَاكَ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ -كَمَا ذَكَرَهَا غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ-.
وَالْحَقُّ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ، مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ وَالْأَصْنَامِ؛ فَبَيَّنَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْأَرْضِيَّةِ، الَّتِي هِيَ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.
وَبَيَّنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ السَّبْعَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ، وَهِيَ: الْقَمَرُ، وَعُطَارِدُ، وَالزَّهْرَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْمِرِّيخُ، وَالْمُشْتَرَى، وَزُحَلُ، وَأَشُدُّهُنَّ إِضَاءَةً وَأَشْرَقُهُنَّ عِنْدَهُمُ الشَّمْسُ، ثُمَّ الْقَمَرُ، ثُمَّ الزُّهَرَةُ؛ فَبَيَّنَ أَوَّلًا: أَنَّ هَذِهِ الزُّهْرَةَ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ مَقَدَّرَةٌ بِسَيْرٍ مُعَيَّنٍ، لَا تَزِيغُ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا تَصَرُّفًا، بَلْ هِيَ جِرْمٌ مِنَ الْأَجْرَامِ خَلَقَهَا اللَّهُ مُنِيرَةً؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ تَسِيرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ حَتَّى تَغِيبَ عَنِ الْأَبْصَارِ فِيهِ، ثُمَّ تَبْدُو فِي اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، وَمِثْلُ هَذِهِ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْقَمَرِ فَبَيَّنَ فِيهِ مِثْلَ مَا بَيَّنَ فِي النَّجْمِ.
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّمْسِ كَذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَفَتِ الْإِلَهِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ أَنْوَرُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْأَبْصَارُ، وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أَيْ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَتِهِنَّ وَمُوَالَاتِهِنَّ، فَإِنْ كَانَتْ آلِهَةً، فَكِيدُونِي بِهَا جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ، (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: إِنَّمَا أَعْبُدُ خَالِقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعَهَا وَمُسَخِّرَهَا وَمُقَدِّرَهَا وَمُدَبِّرَهَا، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ، كَمَا قَالَ -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الْأَعْرَافِ: 54)" (انتهى من تفسير ابن كثير).
قلتُ: والذي اختاره ابن كثير -رحمه الله- مِن أن إبراهيم عليه السلام كان مُنَاظِرًا لقومه، يقيم عليهم الحجة وليس ناظرًا باحثًا عن ربه -سبحانه-؛ هو الصواب؛ فهو كان يقول ذلك تعريضًا لإقامة الحجة على قومه.
وللحديث بقية إن شاء الله.


ابوالوليد المسلم 28-08-2024 02:10 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (99) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (3)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن رجَّح أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان مُنَاظِرًا لقومة، وليس ناظرًا باحثًا عن الله: "وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرًا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه: (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ . إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) (الأنبياء:51-52) الآيات؟! وقال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌كَانَ ‌أُمَّةً ‌قَانِتًا ‌لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123)، (قلتُ: الاحتجاج بالآيتين ظاهر؛ لأن الله نَفَى عن إبراهيم أن يكون كان مِن المشركين؛ فَدَلَّ ذلك على أنه مِن أول أمره على رُشْدٍ، ولم يكن مِن المشركين قط على عموم الآية)، وقال -تعالى-: (‌قُلْ ‌إِنَّنِي ‌هَدَانِي ‌رَبِّي ‌إِلَى ‌صِرَاطٍ ‌مُسْتَقِيمٍ ‌دِينًا ‌قِيَمًا ‌مِلَّةَ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌حَنِيفًا ‌وَمَا ‌كَانَ ‌مِنَ ‌الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161).
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ)، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله -تعالى-: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ)، وقال الله في كتابه العزيز: (‌فِطْرَتَ ‌اللَّهِ ‌الَّتِي ‌فَطَرَ ‌النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: 30)، وقال -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌أَخَذَ ‌رَبُّكَ ‌مِنْ ‌بَنِي ‌آدَمَ ‌مِنْ ‌ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (الأعراف: 172)، ومعناه على أحد القولين كقوله: (‌فِطْرَتَ ‌اللَّهِ ‌الَّتِي ‌فَطَرَ ‌النَّاسَ عَلَيْهَا) -كما سيأتي بيانه- (قلتُ: القولُ الذي ذكره ابن كثير في أمر الميثاق أنه الفطرة؛ ليس صحيحًا، بل الصواب -الذي عليه السلف جميعًا-: أنه هناك ميثاق أخذه الله عز وجل على جميع بني آدم حين أخذهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وأخذ عليهم أن لا يشركوا به شيئًا، ومِن ضمنهم إبراهيم كما دَلَّ عليه العموم، وأَثَر هذا الميثاق هو الفطرة، وليس أن الميثاق هو الفطرة؛ لمخالفة ذلك لظاهر القرآن والسنة، بل لنصهما).
قال: فإذا كان هذا في حقِّ سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل -صلى الله عليه وسلم- الذي جعله الله (‌أُمَّةً ‌قَانِتًا ‌لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ناظرًا في هذا المقام؟! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا شك، ولا ريب.
ومما يؤيِّد أنه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك، لا ناظرًا: قوله -تعالى-: (‌وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (الأنعام: 80).
يقول -تعالى- عن خليلة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حين جادله قومُه فيما ذهب إليه من التوحيد، وناظروه بِشُبَه من القول أنه قال: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) أي: تجادلونني في أمر الله، وأنه لا إله إلا هو، وقد بَصَّرَني وهداني إلى الحق، وأنا على بينةٍ منه؟! فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة؟!
وقوله: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) أي: ومِن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه: أن هذه الآلهة التي تعبدونها؛ لا تؤثِّر شيئًا، وأنا لا أخافها، ولا أباليها؛ فإن كان لها صنع، فكيدوني بها ولا تُنظِرون، بل عاجلوني بذلك.
وقوله -تعالى-: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) استثناء منقطع؛ أي: لا يضر ولا ينفع إلا الله -عز وجل- (قلتُ: (إِلَّا) بمعنى لكن، أي لكن إن شاء ربي شيئًا مِن الضرر؛ فعندئذٍ يقع ذلك).
(وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) أي: أحاط علمه بجميع الأشياء، فلا يخفى عليه خافية.
(أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) أي: فيما بيَّنته لكم، فتعتبرون أن هذه الآلهة باطلة، فتنزجروا عن عبادتها؟ وهذه الحجة نظير ما احتج به نبي الله هود -عليه السلام- على قومه عاد، فيما قص عنهم في كتابه حيث يقول: (‌قَالُوا ‌يَا هُودُ ‌مَا ‌جِئْتَنَا ‌بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ . إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود:53-56)، وقوله: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) أي: كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدون من دون الله، (وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) قال ابن عباس وغير واحد من السلف: أي: حجة، وهذا كقوله -تعالى-: (‌أَمْ ‌لَهُمْ ‌شُرَكَاءُ ‌شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (الشورى: 21)، وقال: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ‌مَا ‌أَنْزَلَ ‌اللَّهُ ‌بِهَا ‌مِنْ ‌سُلْطَانٍ) (النجم: 23).
وقوله: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)أي: فأي الطائفتين أصوب؟ الذي عبد مَن بيده الضر والنفع أو الذي عبد مَن لا يضر ولا ينفع بلا دليل؟! أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة؟! قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئًا؛ هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.
روى البخاري عن عبد الله، قال: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! فَنَزَلَتْ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13) (قلتُ: أي: نزلت أن يجيبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالآية التي كانوا يعلمونها قبل ذلك، كما دَلَّت عليه الروايات الأخرى في الصحيحين، وغيرهما).
وروى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله قال: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شَقَّ ذَلِكَ على الناس، فقالوا: يا رسول الله أينا لم يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ).
وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله قال: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالُوا: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَيْسَ كما تظنون، إنما قال لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وروى عن عبد الله بن مسعود: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فنزلت: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (رواه البخاري)، وفي لفظ قالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: (ليس بالذي تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ)، ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعًا قال: (لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال: "بشرك".
وقال وروي عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأُبَي بن كعب، وسلمان، وحذيفة، وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن شرحبيل، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومجاهد، وعكرمة، والنخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغير واحد، نحو ذلك.
وللحديث بقية إن شاء الله.


ابوالوليد المسلم 28-08-2024 02:11 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (100) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (4)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال ابن مردويه بسنده عن عبد الله قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قيل لي: أنت منهم" (قلتُ: هذه فضيلة عظيمة لابن مسعود -رضي الله عنه-).
وروى الإمام أحمد بسنده عن جرير بن عبد الله قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا بَرَزْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِذَا ‌رَاكِبٌ ‌يُوضِعُ ‌نَحْوَنَا -(قلتُ: أي: يسرع نحونا)-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَأَنَّ هَذَا الرَّاكِبَ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ. فَانْتَهَى إِلَيْنَا الرَّجُلُ، فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِي وَوَلَدِي وَعَشِيرَتِي. قَالَ: فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أريدُ رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَقَدْ أَصَبْتَهُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ. قَالَ: قَدْ أَقْرَرْتُ. قَالَ: ثُمَّ إن بَعِيرَه دَخَلَتْ يَدُهُ فِي جُحْرِ جُرْذَان، فَهَوَى بِعِيرُهُ -(قلتُ: أي: في جحر فئران فسقط بعيره)- وَهَوَى الرَّجُلُ، فَوَقَعَ عَلَى هَامَتِهِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ. فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُبِضَ الرَّجُلُ!
قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَا رَأَيْتُمَا إِعْرَاضِي عَنِ الرَّجُلِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ مَلَكَيْنِ يَدُسَّانِ فِي فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَاتَ جَائِعًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَذَا مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) ثُمَّ قَالَ: دُونَكُمْ أَخَاكُمْ. قَالَ: فَاحْتَمَلْنَاهُ إِلَى الْمَاءِ، فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، وَحَمَلْنَاهُ إِلَى الْقَبْرِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى جَلَسَ عَلَى شَفِير الْقَبْرِ، فَقَالَ: الْحِدُوا وَلَا تَشُقُّوا، فَإِنَّ اللَّحْدَ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا"، ثم رواه أحمد بنحوه، وقال فيه: "هذا ممَّن عَمِل قليلًا، وأجر كثيرًا".
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس قال: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَسِيرٍ سَارَهُ، إِذْ عَرَضَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي وَتِلَادِي وَمَالِي لِأَهْتَدِيَ بِهُدَاكَ، وَآخُذَ مِنْ قَوْلِكَ، وَمَا بَلَغْتُكَ حَتَّى مَا لِي طَعَامٌ إِلَّا مِنْ خَضِر الْأَرْضِ، فاعْرِضْ عَلَيّ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَبِلَ، فَازْدَحَمْنَا حَوْلَهُ، فَدَخَلَ خُفُّ بَكْرِهِ -(أي: بعيره)- فِي بَيْتِ جُرْذَان، فَتَرَدَّى الْأَعْرَابِيُّ، فَانْكَسَرَتْ عُنُقُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: صَدَقَ وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لَقَدْ خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَتِلَادِهِ وَمَالِهِ لِيَهْتَدِيَ بِهُدَايَ وَيَأْخُذَ مِنْ قَوْلِي، وَمَا بَلَغَنِي حَتَّى مَا لَهُ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ خَضِرِ الْأَرْضِ، أَسَمِعْتُمْ بِالَّذِي عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا هَذَا مِنْهُمْ! أَسَمِعْتُمْ بِالَّذِينِ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ؟ فَإِنَّ هَذَا مِنْهُمْ. وفِي لَفْظٍ قَالَ: "هَذَا عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا".
وَرَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَمُنِعَ فَصَبَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ، وَظُلِمَ فَغَفَرَ. وَسَكَتَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَهُ؟ قَالَ: (أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).
وَقَوْلُهُ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) أَيْ: وَجَّهْنَا حُجَّتَهُ عَلَى قَوْمِهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُ: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وَقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ، وَحَكَمَ لَهُ بِالْأَمْنِ وَالْهِدَايَةِ فَقَالَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)؛ قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ (نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ)، وَبِلَا إِضَافَةٍ (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)، كَمَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ -(قلتُ: أي: فيها أيضًا القراءتان بالإضافة وبالتنوين)-، وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أَيْ: حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، (عَلِيمٌ) أَيْ: بِمَنْ يَهْدِيهِ وَمَنْ يُضِلُّهُ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ، كَمَا قَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) (يونس: 96، 97)؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
ثم ذكر -تعالى- أنه وَهَب لإبراهيم إسحاق، بعد أن طَعَن فِي السِّنِّ، وَأَيِسَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ "سَارَةُ" مِنَ الْوَلَدِ، فَجَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، فَبَشَّرُوهُمَا بِإِسْحَاقَ، ‌فَتَعَجَّبَتِ ‌الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هُودٍ: 72، 73)، فَبَشَّرُوهما مَعَ وُجُودِهِ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِأَنَّ لَهُ نَسْلًا وَعَقِبَا، كَمَا قَالَ: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصَّافَّاتِ: 112)، وَهَذَا أَكْمَلُ فِي الْبِشَارَةِ، وَأَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ، وَقَالَ: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هُودٍ: 71) أَيْ: وَيُولَدُ لِهَذَا الْمَوْلُودِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا، فَتَقَرُّ أَعْيُنُكُمَا بِهِ كَمَا قَرَّتْ بِوَالِدِهِ، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِوَلَدِ الْوَلَدِ شَدِيدٌ لِبَقَاءِ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ، وَلَمَّا كَانَ وَلَدُ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَعْقب لِضَعْفِهِ، وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ وَبِوَلَدِهِ بَاسِمِ "يَعْقُوبَ"، الَّذِي فِيهِ اشْتِقَاقُ الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَكَانَ هَذَا مُجَازَاةً لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ اعْتَزَلَ قَوْمَهُ وَتَرَكَهُمْ، وَنَزَحَ عَنْهُمْ وَهَاجَرَ مِنْ بِلَادِهِمْ ذَاهِبًا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، عَنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ بِأَوْلَادٍ صَالِحِينَ مِنْ صُلْبِهِ عَلَى دِينِهِ، لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا) (مريم: 49)، وَقَالَ هَاهُنَا: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا)" (تفسير ابن كثير، 3/ 297).



ابوالوليد المسلم 15-09-2024 02:41 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (101) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (5)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
فيه فوائد:
الأولى: اهتمام الأنبياء -صلى الله عليهم وسلم- بدعوة أسرهم وأقاربهم؛ فإبراهيم بدأ بدعوة أبيه، وهكذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما وَقَف على الصفا، ونادى قريش فعم وخص، وقال: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ‌لَا ‌أُغْنِي ‌عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، ‌يَا ‌صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ، ‌لَا ‌أُغْنِي ‌عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، سَلِينِي بِمَا شِئْتِ ‌لَا ‌أُغْنِي ‌عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) (رواه مسلم).
فعلى الداعي إلى الله أن يهتم بدعوة أهله وأسرته، وألا ينشغل عنهم بدعوة الآخرين قبل دعوتهم، قال الله -تعالى-: (‌يَا أَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌قُوا ‌أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6)، قال علي بن أبي طالب: "علِّموهم وأدبوهم".
فإهمال البيت حتى يحصل فيه مِن ترك الالتزام بالدِّين مِن بعض أفراده، خطر عظيم على مستقبل الدعوة وقبولها بين الناس، وإن كنا بلا شك نوقن بأن الهداية من الله، وإن وجود أبناء الأبناء وآباء الأنبياء على غير التوحيد والإيمان أمرًا قد ذكره الله لنا في القرآن مواساة وتصبيرًا لمَن كان بعض أهله على غير الحق، لكن هذا بعد بَذْل الوسع واستفراغ الجهد في دعوة الأسرة، والحرص على طاعتهم لله -عز وجل-، لكن مع التقصير يكون الداعي مسئولًا عن ذلك، وتكون دعوته مطعونًا فيها عند الناس؛ فلا بد من الاهتمام بذلك.
الفائدة الثانية: إنكار إبراهيم صلى الله عليه وسلم على قومه عبادة الأصنام قبل أن ينظر في النجم والقمر والشمس، يدل دلالة واضحة على أنه كان يناظرهم، وليس ناظرًا باحثًا عن ربِّه سبحانه وصحة ربوبيته؛ لأنه كيف يستنكر عبادة الأصنام التي ترمز عندهم إلى النجوم التي اتخذوها آلهة، ويرى ذلك ضلالًا مبينًا، ثم يذهب يبعد النجم والقمر والشمس؛ فهذا ضلال مبين مماثل لعبادة الأصنام الرمزية، ولقد دَلَّ الكتاب والسنة على أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، كان مناظرًا لقومة وليس ناظرًا؛ فأما الكتاب: قول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) (الأنبياء:51)، فآتاه الله عز وجل رشده: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ‌مَا ‌هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) (الأنبياء: 52)، فقد كان على رشده، وليس لا يزال باحثًا.
وأما السنة فهي أصرح؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة الطويل الذي رواه مسلم وغيره في مجيء الناس لإبراهيم، قال إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: "لستُ لها، لستُ لها، إني كذبتُ ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله"، وذكر منها قوله عن الكوكب: "هذا ربي"، وهذا صريح في أنه كذبها في ذات الله؛ لإقامة الحجة على قومه في بطلان عبادة آلهتهم، وليس أنه كان يقولها معتقدًا لذلك؛ وإلا لما كانت في ذات الله -سبحانه وتعالى-، فكونها في ذات الله، أي: لأجله -سبحانه وتعالى-، وكان ذلك تعريضًا في حقيقة الأمر -كما سيأتي بيانه إن شاء الله-.
فالصواب الذي لا شك فيه: أن إبراهيم كان مناظرًا لقومه ولا يعتد بقول مَن قال: إنه كان ناظرًا باحثًا عن الله.
الفائدة الثالثة: بيان القرآن أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قد دعا أباه في هذا الموضع، وفي غيره من مواضع القرآن، كقوله -تعالى-: (‌وَاذْكُرْ ‌فِي ‌الْكِتَابِ ‌إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا) (مريم: 41-42).
فمحال أن يكون الله قد أخبرنا في جميع المواضع التي ذُكِرت في القرآن، وكذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السنة، مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَلْقَى ‌إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ ‌إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟! فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ ‌لَا ‌أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ ‌إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: يَا ‌إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ) (رواه البخاري).
وكلها صريحة في أنه يخاطب أباه، وليس أنه يخاطب عمه تأدبًا، فالخبر ليس فيه تأدب، وإنما فيه الخبر عن الحقيقة؛ فلا يصح أن يكون بعد ذلك رجلًا آخر غير أبيه؛ أنه عمه كما زعم مَن ينقل عن أهل الكتاب، بل نقول: صدق الله، وكذب النسابون وأهل الكتاب، وهذه المسألة يجادل فيها كثيرٌ مِن الناس لا لمجردها، بل لاستبعادهم كفر آباء الأنبياء أو أولادهم، وكذلك فعلوا في قصة نوح مع ابنه، فزعموا أنه ليس ابنًا له؛ ولذا قال ابن عباس ردًّا على ذلك: "ما بغت أو ما زنت امرأة نبي قط".
وفي حقيقة الأمر: لو تأملوا هذه المسألة؛ لعلموا أن البشرية جميعًا هي من ذرية آدم ونوح، وهما من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهما-، وبالقطع فيهم مشركون وكفار لا يحصيهم إلا الله، وهذه المسألة عند الصوفية إنما يمهِّدون بها لنفي أحاديث كفر والدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي في الصحيح ولا وجه لردها، مثل الحديث الذي في صحيح مسلم عن أنس -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: (فِي النَّارِ)، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: (إِنَّ ‌أَبِي ‌وَأَبَاكَ ‌فِي ‌النَّار).
ومثل حديث زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- لقبر أمه، وإذن الله -عز وجل- له في الزيارة، ثم استئذانه أن يستغفر لها، فلم يأذن الله له، وهي في صحيح مسلم.
وكل هذه المحاولات لمخالفة ظاهر الكتاب والسنة هي تمهيد للغلو في آل البيت، وفي ذريتهم كذلك؛ لكي لا ينسب إلى مَن ادَّعى أنه مِن أهل البيت منكرٌ ولا باطل، ولا شرك؛ فكل ما يفعله مَن كانوا مِن أهل البيت -وجميع مَن نسبوهم إلى الولاية يدعون أنهم مِن أهل البيت-، يقولون بأنواع الشرك، والقول بوحدة الوجود، وغير ذلك مِن الضلالات، مِن: ترك الصلاة، وترك الجمع والجماعات، والاطلاع على ما في قلوب الخلق، والقدرات الهائلة، مع كونهم إنما استنكروا عليهم ترك الصلاة، وغير ذلك؛ فإذا قيل: هؤلاء من أهل البيت، وهؤلاء من ذرية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويستحيل أن يقعوا في شرك أو ضلال؛ فلا بد إذًا أن تقبلوا ما يقولون!
وكل هذا من مظاهر الغلو في آل البيت، بل وصل الأمر ببعضهم أن دافع عن أبي لهب -لعنه الله-، وجوَّز أن يكون مصيره إلى الجنة، وهذا تكذيب للقرآن!
واحتجوا بأنه يجوز عند الأشاعرة أن يعذِّب اللهُ الأنبياءَ، وأن ينعِّمَ الكفار والمشركين، بل وإبليس، وفرعون، وأن يجعلهم في أعلى الدرجات، وأن العقل لا يحيل ذلك، لكن الخبر وَرَد بغير ذلك؛ فأهملوا الجزء الأخير، وقالوا بالأُولى، وقالوا: يفعل الله ما يشاء! وكأن الله عز وجل لم يخبرنا بما شاءه لإبليس، وفرعون، وأبي لهب، وغيرهم ممَّن نص الكتاب والسنة على مصيرهم في الآخرة؛ فلا يجوز ان يخلف الله عز وجل وعده ولا وعيده، كما يزعمون بأنهم يقولون: إن إخلاف الوعيد ليس مذمومًا، وغفلوا عن أن هذا فيه كذب في الخبر، ولا يمكن أن يُحمَل عليه كلام الله، بل مَن يقول ذلك يكون كافرًا.
وبعضهم كره قراءة "سورة المسد" في الصلاة! وهذا من الضلال المبين، وبعضهم يجادل بالباطل في إيمان أبي طالب، ويزعم أنه مؤمن في الباطن، وناجٍ يوم القيامة استنادًا منهم إلى أن الإيمان هو المعرفة، مع صحة الحديث المتفق عليه في موت أبي طالب على الشرك، كما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن ابن المسيب عن أبيه قال: ‌لَمَّا ‌حَضَرَتْ ‌أَبَا ‌طَالِبٍ ‌الْوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ، آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمَا وَاللهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا ‌تَبَيَّنَ ‌لَهُمْ ‌أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113)، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين) (القصص: 56) (متفق عليه).
وذلك كله للمجادلة في أن ملة عبد المطلب التي مات عليها أبو طالب هي الشرك، وكل هذا من مظاهر تقديم آراء الشيوخ والعاطفة الجاهلة على نصوص الكتاب والسنة!
والمسألتان اللتان ضلَّ فيهما مَن انتسب إلى مذهب الأشعري في مسألة أن الإيمان هو المعرفة، والمبالغة في نفي التحسين والتقبيح العقليين حتى جوَّزوا أن يعذِّب الله الأنبياء والملائكة، وينعِّم الكفارَ، وأن ذلك جائز عقلًا، لولا الخبر؛ كلا المسألتين مِن أبطل ما نُقِل عن الأشعري -غفر الله له ورحمه-، وقد نُقِل عنه خاصة في مسألة الإيمان غيرُ ذلك؛ لأنه قال في "الإبانة" بأن الإيمان قول وعمل، وليس هو المعرفة فقط؛ فإنهم زَعَموا أن أبا طالب عَالِم بقلبه، ولكنه لم ينطق الشهادتين فهو عندنا ليس بمسلم، ولكنه عند الله مؤمن، والنجاة للمؤمنين، وهذا كله من الضلال البيِّن الذي لا بد مِن ردِّه، والله أعلى وأعلم.
وللحديث بقية إن شاء الله.


ابوالوليد المسلم 15-09-2024 02:42 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (102) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (6)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
الفائدة الرابعة:
الوضوح في الدعوة إلى الله وبيان ضلال الباطل، ضرورة من ضرورات الدعوة الربانية، وقد صَرَّح إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه بأنه يراه وقومه في ضلال مبين؛ لأنه يتخذ الأصنام التي نحتوها آلهة، وهذه أول مراتب البراءة من الشرك، وهذا فيه أوضح الردِّ على زنادقة زماننا ممَّن يأبون وصف الملل المخالفة للدين الإسلامي بالضلال والكفر، بل يعتبرون مَن يفعل ذلك تكفيريًّا ومتطرفًا، وشاذًّا، إلى غير ذلك من الأقوال المنفِّرة للناس عن الحق بتسميته بغير اسمه، وتسمية الباطل بأنه مِن: الحرية، والمساواة، وغير ذلك!
وشر من ذلك: التصريح بإيمان الكفار من اليهود والنصارى، وغيرهم، والمناداة بمساواة الأديان، وأن حقيقتها واحدة وإن عَبَدوا البقر وعبدوا الأشخاص: كبوذا، وعبدوا الصليب والمسيح، والأحبار والرهبان، وعزير؛ فكل ذلك حقيقته واحدة عندهم -نعوذ بالله من هذا الضلال-.
بل بعضهم يتبرك بأصنامهم، ويهمس في أذن بقرتهم المقدسة! يطلب منها حاجته كما يطلبون، وبعضهم يصرح بجواز تسمية قتلاهم بالشهداء، وبعضهم يصلي عليهم صلاة الجنازة التي يصليها المسلمون، ويقرا فيها الفاتحة على أرواحهم، وهي التي تنص على ضلالهم!
ولا شك أن القول بوحدة الأديان كفر صريح؛ لأنه يهدم شهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم" مِن أصلها؛ إذ تصحيح ملة مَن يعبد غير الله يهدم شهادة: "أن لا إله إلا الله"، وتصحيح ملة مَن يكذِّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- يهدم شهادة: "أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، عند القائل بذلك؛ فلا بد لأهل العلم والدعوة أن يبينوا بكلِّ جلاء ووضوح: أن كلَّ ما يخالف دين الإسلام، هو ضلال مبين.
الفائدة الخامسة:
هذا الوضوح في بيان ضلال ملل الكفر لا ينافي حسنَ الأسلوب في الدعوة، كما قال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ ‌عَنْ ‌سَبِيلِهِ ‌وَهُوَ ‌أَعْلَمُ ‌بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)؛ لأن مطالبةَ الكفار بترك دينهم الباطل لا يعني أن نسبَّهم ونسبَّ آلهتهم إذا كان يترتَّب على ذلك المفسدة الراجحة، كما قال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تَسُبُّوا ‌الَّذِينَ ‌يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (الأنعام: 108).
ولكن ليس معنى ذلك أن نوهمَ الناس باعترافنا بآلهتهم، أو صحة عبادتها، بل نتكلَّم بالكلام الحَسَن، نحو: "يا أبتِ، يا قومي، يا عمي"، كما قال إبراهيم -عليه السلام- لأبيه، وقالها كل الأنبياء -عليهم السلام- لأقوامهم: "يا قوم"، وقالها النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمه: "يا عم"؛ تذكيرًا برابطة النَّسَب أو القومية، التي تقتضي مزيدَ النصح ورعاية الحق بالدعوة إلى الحق -سبحانه-، وكما قال نوح -عليه السلام- لابنه: (يَا بُنَيَّ ‌ارْكَبْ ‌مَعَنَا) (هود: 42).
وما أروعَ الأسلوب الذي استعمله مؤمن آل ياسين في التَّلَطُّف لبيان الحق في نسبة الكلام إلى نفسه في قوله -رضي الله عنه-: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ ‌الَّذِي ‌فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (يس: 22-25).
فبيَّن الضلالَ الذي هم عليه منسوبًا إلى نفسه لو فعل فعلهم، وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان أوضح في التصريح بالضلال؛ لحاجتهم إلى ذلك التصريح في إقامة الحجة، كما كانوا يحتاجون حتى تتضحَ لهم الحجة في عجز الأصنام وعدم قدرتها في الدفاع عن نفسها إلى كسر الأصنام التي كسرها إبراهيم إلا كبيرًا لهم، لعلهم إليه يرجعون.
وقوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، فيه فوائد:
الأولى: أن الله خالق أفعال العباد، وخالق نَظَرِهم، وخالق قدرتهم، وخالق مشيئتهم؛ يري مَن شاء هدايته ملكَه -سبحانه- الظاهرَ تمام الظهور في السماوات والأرض، والله -سبحانه- كما أرى إبراهيم ضلالَ أبيه وقومه في عبادة الأصنام، فكذلك هو الذي أراه مُلْكَ الله في السماوات والأرض، ولتكون هذه الرؤيا من إبراهيم سببًا لحصول اليقين في قلبه بالوحدانية، فالله الذي أرى إبراهيم الذي رأى، وإبراهيم هو الذي أيقن، والله هو الذي جعله بهذه الأسباب التي هداه لها مِن الموقنين؛ فالعبد هو الفاعل لأفعاله، والله هو الذي جعله فاعلًا، فالعبد هو المهتدي والله هداه، والعبد هو الذي ضلَّ والله أضله، والله -عز وجل- خَلَقَ هذه النتائج بأسباب قدَّرها، وهو أيضًا الذي خلقها -سبحانه وتعالى-.
فطريقة التفكير فيما يشاهده الإنسان مِن الكون حوله هبةٌ مِن الله ومِنَّة؛ إذا أراه أدلة ملكة في خلقها، ثم في تدبيرها.
والخذلان -وهو خلق الضلال في قلب العبد- مِن خلقه أيضًا -سبحانه وتعالى-؛ فهو الذي خَذَل مَن خذل، وأضل مَن أضل؛ بحكمته، وعدله، وعلمه -سبحانه وتعالى- بالمهتدين، وعلمه بالظالمين، وعلمه بالشاكرين، وعلمه بما يناسب كل عبد؛ فهو يوفِّقه لما شاء كيف شاء، وهو -سبحانه- الذي يضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، وهو الذي جَعَل الخبيث في الأرض النكدة؛ فلا يخرجُ إلا نكدًا، وهو سبحانه وتعالى الحكيم العليم، الحَكَم العَدْل، ومَن تأمل مظاهر أسمائه وصفاته في الكون أيقن بوحدانيته، وربوبيته، وإلهيته.
والله المستعان.


ابوالوليد المسلم 15-09-2024 02:43 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (103) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (7)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، فيه فوائد:
الثانية: إن طريقة التفكير فيما يشاهده الإنسان مِن الكون حوله هبة من الله -عز وجل- ومِنَّة وتوفيق؛ إذ أراه أدلة ملكه في السماوات والأرض، في خلقها ثم في تدبيرها لحظة بلحظة، بما يظهر للقلب معاينة آثار الملك، فهذه الكائنات تعجز عن خلق نفسها؛ إذ هي مدبَّرة في حركاتها وسكناتها، فالشمس التي نراها تشرق وتغرب هي كائن جماد لا يملك لنفسه شيئًا، وكذلك القمر، وهذه الأرض بما فيها من جبال منصوبة، وأرض مبسوطة، وأنهار جارية، وأمطار نازلة؛ كل قطرة منها بقدر نزلت في وقت محدد هي لم تحدده، واستقرت في باطن الأرض في مكان لم تحدده الأرض، ولا القطرة، ولا السحابة، أو جرت في مجرى النهر؛ هي لم تصنع أخدوده، ولا حددت قوانين قوى سير الماء واندفاعه!
بل هذه الأجرام السماوية في دقتها وإتقانها مع كبر حجمها الهائل بالنسبة لنا، (‌لَخَلْقُ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ ‌أَكْبَرُ ‌مِنْ ‌خَلْقِ ‌النَّاسِ) (غافر: 57)؛ لها قوانينها في حركتها، وقَدْر يومها وليلها ونهارها وسنتها، وتكوين أجزائها وتربتها وغلافها الجوي، والتفاعلات الهائلة التي تفوق إدراكنا في باطنها؛ كتلك الانفجارات داخل الشمس، ففي كل ثانية يتولد منها طاقة هائلة تصل إلى جميع أجزاء المجموعة الشمسية بنسب متفاوتة، ولكنها مقدَّرة من حرارة وإشعاع، ونور، ومغناطيسية، وطاقات نووية، وغيرها، مما لا نحيط به علمًا؛ مما يجزم معه كلُّ عاقل بأن خالقها ومدبرها له كمال العلم، وكمال القدرة، وكمال الحكمة، وكمال الخبرة، وكمال العدل.
وكذلك فيما يجري على الأرض من موت وحياة لا يملكها أعلى المخلوقات شأنًا، في العقل والقدرة، والعلم والإدراك، وهو: الإنسان؛ إذ هو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، وقطعًا هو لا يملك كذلك ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا لما حوله مِن الكائنات الحية، وهي الموت والحياة يحدث فيها في كلِّ لحظة وفي كل دقيقة، وإن كان البعضُ قد يتصوَّر أنه يحيي ويميت، ولكنه مجرد سبب محدود للغاية، وأما مليارات عمليات الإحياء والإماتة فيستحيل أن ينسبها إنسان إلى نفسه، أو إلى غيره مِن الخلق، وهي موجودة أمامه يشهدها بكلِّ وضوح تقع في كلِّ أجزاء الأرض.
وكذلك لوازم الحياة مِن: الهواء، والغذاء، والماء، واستعمال كل هذه الطاقات المبذولة بكلِّ إتقان في الانتفاع بها داخل أجساد هذه الكائنات من خلال ملايين المواد، وملايين التفاعلات في كلِّ لحظة وثانية في كل خلية من الخلايا، ثم كل في عضو من الأعضاء، ثم كل في كل جهاز من الأجهزة، ثم في انتظام الجسم كله بما لا يحيط به مخلوق ساعة حصوله في داخله؛ فضلًا عن غيره، وهو لا يملك من ذلك ذرة واحدة، ولا خلية واحدة، ولا يملك موتها ولا حياتها، ولا يملك حركة واحدة لا يطرف إلا بأمر خالقه ومدبره، ولا يمسك بيده، ولا يتحرك برجله، ولا يفكر بعقله إلا بإذن الغني الحميد، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ‌أَنْتُمُ ‌الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر: 15-17).
وكذلك الانتفاع بالغذاء والمواد الغذائية داخل الخلايا لتحترق؛ لتخرج الطاقة التي تحرِّك هذا المخلوق وتجعله يفكِّر ويتذكَّر، ويحفظ ويتعلم، ويحلل ويستنتج؛ بأدوات لم يصنعها هو، ولا يملك منها شيئًا، مثل: عقله، وقلبه، ويده ورجله، ومخه وعظمه، وشرايينه وأوردته، وأعصابه وعضلاته، وهو يرى ذلك أمامه كما يراه كل الناس؛ لكن مَن الذي انتفع بالنظرة؟!
ومَن الذي نظر كالأبله أو الأعمى؛ لا يرى؟! (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ ‌خَلَقُوا ‌كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد: 16)، فالله الذي أرى مَن شاء ملكه في السماوات والأرض، وطَبَع على قلب مَن شاء فأضله بعدله وعلمه وحكمته؛ بإعراضه عن التفكير السديد، بعد أن أعطاه الله أدواته، فسبحانه وبحمده -ونسأل الله أن يهدينا فيمَن هدى مِن عباده الصالحين-.
وقد ذكر الله -عز وجل- امتنانه على إبراهيم بأنه أراه ملكوت السماوات والأرض، وأنه بهذه الرؤيا صار مِن الموقنين: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، وهذا اليقين إنما هو نابع مِن شهودٍ تامٍّ لربوبية الله -سبحانه وتعالى-، وأفعاله في الكون؛ التي يستحيل أن ينكرها أحدٌ، ويستحيل أن يدعيها أحدٌ، ويستحيل أن ينسبها أحدٌ إلى مجرد الصُّدَف العمياء، نعوذ بالله من الضلال!
وهذا الأمر الذي لا يقبله عاقلٌ إذا وَجَد مجرد حفرية يسيرة في أدوات حَجَريَّة منذ ملايين السنين، بل يجعلها دليلًا قطعيًّا على وجود صانعٍ لها، هو الإنسان العاقل، وأن ذلك دليل على وجود الإنسان في ذلك العمر؛ لأن القرود -فضلًا عن الطيور، فضلًا عن الضفادع والأسماك- يستحيل بكلِّ حال من الأحوال أن تصنع هذه الأدوات الحجرية، وإذا وَجَد التماثيل عَلِم أنها من صنع اليونان أو الرومان أو الفراعنة، أو غيرهم؛ فدلَّ ذلك يقينًا عنده لا يحتمل التردد على وجود صانع لها؛ فكيف بهذا الكون العظيم الذي فيه هذه المعجزات الباهرة والأحداث التي تقع في كلِّ ثانية بكمال الإتقان والإحسان؟! فلا بد لها مِن صانع -سبحانه وتعالى-.
ولذلك كانت هذه الطريقة هي التي يستعملها الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ لأنها أقصر طريقة إلى اليقين، بعيدًا عن الجدل الكلامي، والمناقشات الفلسفية التي لا تُثمِن ولا تغني من جوع؛ قال الله -عز وجل- عن فرعون: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء: 23-28).
وقال -سبحانه وتعالى-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: 53)، وقال -سبحانه-: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) (إبراهيم: 10)، وقال -سبحانه وتعالى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى: 1-3).
هذه هي طريقة الكتاب والسنة، وطريقة عقلاء هذه الأمة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شك أنها الطريقة الحقيقية التي يوصل بها إلى اليقين.
نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بكمال اليقين، وأن يزيدنا علمًا.


ابوالوليد المسلم 15-09-2024 02:45 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (104) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (8)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
الفائدة الثالثة من فوائد الآيات الكريمة:
دَلَّ قوله -تعالى-: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) على عظم منزلة اليقين؛ إذ هو مِن منازل الأنبياء الذين يرقيهم الله -عز وجل- في رؤية ملكوته ليصلوا إليه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: (ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: "منزلة اليقين"، وهو من الإيمان منزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون. وعَمَلُ القوم إنما كان عليه، وإشاراتهم كلها إليه، وإذا تزوج الصبر باليقين: وُلِد بينهما حصول الإمامة في الدين، قال الله -تعالى-، وبقوله يهتدي المهتدون: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24).
وخَصَّ -سبحانه- أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين، فقال -وهو أصدق القائلين-: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (الذاريات: 20)، (قلتُ: وقد دَلَّتِ الآيةُ على أنه لا يَرَى الآيات إلا الموقنون؛ لأن كلَّ الناس يرون ما يرون في الأرض من إحيائها بعد موتها، ونمو النبات فيها، ووجود الموت والحياة فيها وهم لا يعون أنها آيات، وإنما ينتفع بذلك مَن أيقن وحدانية الله).
قال: وخَصَّ أهلَ اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة: 4 - 5).
(قلت: وهذه الآية دليل على وجوب اليقين بالآخرة، كما يجب اليقين بالله -عز وجل- ووحدانيته، ولا هدى إلا بذلك، وذلك يحصل في قلب العبد إذا صدَّق تصديقًا جازمًا لا شك فيه؛ فأول درجات اليقين: زوال الشك، ثم قد ينتقل إلى منزلة أعلى من مجرد زوال الشك التي يكون معه فيها احتمال الفتنة إذا فُتِن؛ فالذين في درجة زوال الشك كمُسْلِمَة الأعراب الذين قال الله -عز وجل- عنهم: (‌قَالَتِ ‌الْأَعْرَابُ ‌آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات: 14-15).
وكذلك هؤلاء الذين في منزلة زوال الشك فقط، دون أن يصلوا إلى مراتب اليقين الأعلى، مثل مَن قال الله فيهم: (‌وَمِنَ ‌النَّاسِ ‌مَنْ ‌يَعْبُدُ ‌اللَّهَ ‌عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج: 11)، فهؤلاء قبل الفتنة في حالٍ ناقصٍ من اليقين، لكن ليس عندهم الشك المحبط للإيمان، لكن إذا فُتِنوا افتتنوا، فزال عنهم الإيمان، والواجب على المؤمن إذا فُتِن أن لا يفتن؛ لأن يقينه يقاوم الشبهات التي يلقيها الشيطان عند الفتنة، فهؤلاء الذين إن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، قد خَرَجوا من الإيمان عند الفتنة، وكذلك مِن هؤلاء مَن قال الله -عز وجل- عنهم مِن المنافقين: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا ‌إِلَّا ‌يَسِيرًا) (الأحزاب: 14)، فهؤلاء قبل أن تُدخَل عليهم المدينة لم يكونوا كفارًا، ولا منافقين النفاق الأكبر، بل عندهم شعبة نفاق؛ لأن المنافقين النفاق الأكبر يفرحون بأن تُدخل عليهم المدينة، ولا يتوقفون عن إعطاء الشرك إذا طُلِب منهم، بل قبل أن يطلب منهم، وأما هؤلاء فإنهم يتوقفون قليلًا ثم يعطون ذلك، فإذا قدَّر الله أن لا تدخَل عليهم بقوا على إيمانهم الضعيف الذي لم يصل إلى درجات اليقين الواجبة.
ثم بعد ذلك هناك درجة من اليقين والتصديق، هي درجة أعلى مِن ذلك، وهي درجة عدم الفتنة إذا اُفتُتِن وإن بقيتِ الوساوس؛ فالوساوس لا تقدح في أصل الإيمان، ولا الإيمان الواجب، بل هي تقدح في كماله؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَن سأله: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (ذَاكَ ‌صَرِيحُ ‌الْإِيمَانِ) (رواه مسلم)، فالذي يدافع الوسوسة عنده اليقين الواجب، وأما مَن هو في المنزلة أعلى مِن ذلك؛ فهو الذي لا تأتيه الوساوس، وقد اطمئن قلبُه بأدلة اليقين.
وأما ما هو أعلى مِن ذلك؛ فهو درجة المعاينة التي سألها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بقوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى ‌وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ ‌قَلْبِي) (البقرة: 260)، والتي أعطاها الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- دون سؤالٍ؛ قال -تعالى-: (‌أَفَتُمَارُونَهُ ‌عَلَى ‌مَا ‌يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 12-18)؛ رأى جبريل -عليه السلام-، ورأى الجنة والنار في آياتٍ أراه الله -عز وجل- إياها).
قال: وأخبر عن أهل النار: بأنهم لم يكونوا مِن أهل اليقين، فقال -تعالى-: (‌وَإِذَا ‌قِيلَ ‌إِنَّ ‌وَعْدَ ‌اللَّهِ ‌حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (الجاثية: 32).
فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره.
وروى خالد بن يزيد عن السفيانين عن التيمي عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ترضين أحدًا بسخط الله، ولا تحمدن أحدًا على فضل الله، ولا تذمن أحدًا على ما لم يؤتك الله؛ فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية كاره، وإن الله بعدله وقسطه جَعَل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط" (قلتُ: صحيح موقوفًا، وليس معناه: أن لا يشكر الإنسان الناس على ما أحسنوا إليه، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌لَا ‌يَشْكُرُ ‌اللَّهَ ‌مَنْ ‌لَا ‌يَشْكُرُ ‌النَّاسَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، ولكن المعنى أن لا تحمدهم على أنهم مصدر النعمة، وأنهم هم الذين تولوا إسداءها إليك من دون الله، وإنما هم أسباب يسرها الله -عز وجل- لكَ؛ لكي تصلك النعمة، وكذلك الذم على ما لم يؤتك الله؛ فأنت تنظر أولًا إلى أن هذا لم يكن لك برزق طالما فاتك؛ فإن (‌مَا ‌أَصَابَكَ ‌لَمْ ‌يَكُنْ ‌لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يذم الناس على تقصيرهم: كالسارق الذي سَرَق من الناس ما لا يستحق، والغاش والمختلس والمغتصب؛ فكل هؤلاء مذمومون بلسان الشرع؛ نذمهم على ذلك، ولا نظن أنهم منعوا عنا رزق الله).
قال: واليقين قرين التوكل؛ ولهذا فُسِّر التوكل بقوة اليقين. والصواب: أن التوكل ثمرته ونتيجته، ولهذا حَسُن اقتران الهدى به؛ قال الله -تعالى-: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل: 79)، فالحق هو اليقين، وقالت رسلُ الله: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) (إبراهيم: 12)، ومتى وصل اليقينُ إلى القلب؛ امتلأ نورًا وإشراقًا، وانتفى عنه كلُّ ريب وشك وسخط، وهم وغم؛ فامتلأ محبة لله وخوفًا منه، ورضًا به، وشكرًا له، وتوكلًا عليه، وإنابة إليه؛ فهو مادةُ جميع المقامات، والحاملُ لها.
واختلف فيه: هل هو كسبي أو موهبي؟ (قلتُ: أي: هل يستطيع العبد أن يكتسبه أم هو مجرد هبة من الله؟).
فقيل: هو العلم المستودع في القلوب؛ يشير إلى أنه غير كسبي.
وقال سهل: اليقين من زيادة الإيمان، ولا ريب أن الإيمان كسبي.
والتحقيق: أنه كسبي باعتبار أسبابه، موهبي باعتبار نفسه وذاته.
(قلتُ: معناه: أن العبدَ عليه أن يأخذ بالأسباب التي يحصل بها اليقين مِن النظر في ملكوت السماوات والأرض، ثم الله -عز وجل- هو الذي يخلق اليقين في قلبه، على العبد أن ينظر في أدلة الكتاب والسنة التي تأخذ بالقلب إلى اليقين، ولكن الله -عز وجل- هو الذي يري العبد الآيات، وهو الذي يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم).
وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، قال -سبحانه وتعالى-: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ . كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ . لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ . ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر).
وقال سبحانه و-تعالى-: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (الواقعة: 95).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 15-09-2024 02:46 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (105) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (9)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ).
الفائدة الثالثة:
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في شرحه "مدارج السالكين على منازل السالكين" للشيخ الهروي: أن اليقين على ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وذَكَر في علم اليقين أنه ثلاث مراتب، (قلتُ: وهي في الحقيقة ثلاثة أمور؛ لأنها كلها متلازمة وواجبة).
قال -رحمه الله-: "الأولى: قبول ما ظَهَر من الحق -تعالى-، وهي أوامره ونواهيه وشرعه، ودينه الله الذي ظَهَر لنا منه على ألسنة رسوله؛ فنتلقاه بالقبول والانقياد، والإذعان والتسليم للربوبية والدخول تحت رق العبودية.
الثاني: قبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب، الذي أخبر به الحق -سبحانه- على ألسنة رسله من أمور الميعاد وتفصيله، والجنة والنار، وما قبل ذلك من الصراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تشقق السماء وانفطارها، وانتثار الكواكب، ونسف الجبال وما قبل ذلك من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه.
فقبول هذا كله -إيمانًا وتصديقًا وإيقانًا- هو اليقين بحيث لا يُخَالِجُ القلبَ فيه شبهةٌ، ولا شك، ولا تناسٍ، ولا غفلة عنه؛ فإنه إن لم يهلك يقينه؛ أفسده وأضعفه، (قلتُ: ويدخل في ذلك: الإيمان بالغيب الذي مضى مِن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وخلق آدم وإسكانه الجنة وزوجه، وما وقع من إبليس، وما وقع من إهباطه إلى الأرض، وكذلك ما وقع للرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فإن ذلك يجب الإيقان به، كالإيقان بالأمور الغيبية المستقبلية).
الثالث: الوقوف على ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو علم التوحيد الذي أساسه: إثبات الأسماء والصفات، وضده: التعطيل والنفي، والتجهم؛ هذا التوحيد يقابله التعطيل.
وأما التوحيد القصدي الإرادي، الذي هو إخلاص العمل لله وعبادته وحده، فيقابله الشرك، والتعطيل شر من الشرك، فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها، وهو جحد لحقيقة الإلهية، فإن ذاتًا لا تسمع ولا تبصر، ولا تتكلم، ولا ترضى، ولا تغضب، ولا تفعل شيئًا، وليست داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة، ولا مجانبة له، ولا مباينة، ولا مجاورة ولا مجاوزة، ولا فوق العرش، ولا تحت العرش، ولا خلفه ولا أمامه، ولا عن يمينه ولا عن يساره؛ سواء هي والعدم! والمشرك مقر بالله وصفاته. لكن عبد معه غيره؛ فهو خير من المعطل للذات والصفات (قلتُ: أي: هو أقل شرًّا منه).
قال: فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته، ونعوت كماله، وتوحيده، وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق: علم الأمر والنهي، وعلم الأسماء والصفات والتوحيد، وعلم المعاد واليوم الآخر، والله أعلم.
(قلتُ: والظاهر أنه إنما رتبها على الدرجات الثلاث كعادته، من باب: أن علم التوحيد ومعرفة الله -عز وجل- بأسمائه وصفاته، والتعبد له بها، هو أعلى هذه العلوم على الإطلاق).
قال: الدرجة الثانية: عين اليقين، والفرق بين علم اليقين وعين اليقين كالفرق بين الخبر الصادق والعيان. وحق اليقين: فوق هذا.
وقد مثلت المراتب الثلاثة بمَن أخبرك: أن عنده عسلًا، وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه فازددتَ يقينًا، ثم ذقتَ منه؛ فالأول: علم اليقين. والثاني: عين اليقين. والثالث: حق اليقين.
فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم يقين، فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق، وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق؛ فذلك: عين اليقين، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ فذلك حينئذٍ حق اليقين" (انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله-).
قلتُ: وكلام السلف في حق اليقين ليس كما ذكره، فإن الله -عز وجل- قد ذكر حق اليقين في موضعين من كتابه؛ ذكر ذلك في سورة الواقعة، وذكر ذلك في سورة الحاقة، وكلام أهل العلم بالتفسير في حق اليقين: أنه الخبر الحق الذي هو يقين، فليس ما ذكره مع كونه صحيح المعنى هو الذي قُصِد بآيات القرآن التي ذكرت ذلك.
قال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تعالى- في سورة الواقعة: (‌إِنَّ ‌هَذَا ‌لَهُوَ ‌حَقُّ ‌الْيَقِينِ) (الواقعة: 95): "يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي أخبرتكم به أيها الناس من الخبر عن المقرَّبين وأصحاب اليمين، وعن المكذِّبين الضالين، وما إليه صائرة أمورهم؛ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، يقول: لهو الحقُّ مِن الخبر اليقين لا شكَّ فيه"، ثم رَوَى عن مجاهد: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) قال: "الخبر اليقين".
وعن قتادة: "(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ . فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) حتى ختم، إن الله -تعالى- ليس تاركًا أحدًا من خلقه حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن؛ فأما المؤمن فأيقن في الدنيا، فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه".
وقال ابن كثير -رحمه الله- في هذه الآية: "أي: إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه، ولا محيد لأحدٍ عنه".
وقال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تعالى- في سورة الحاقة: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (الحاقة: 51)، يقول: "وإنه للحقّ اليقين الذين لا شكَّ فيه أنه من عند الله، لم يتقوَّله محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-".
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي: الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه، ولا شك، ولا ريب".
فهذا كله يدل على ما ذكرنا من أن استعمال أهل العلم بالتفسير مِن السَّلَف فمَن بعدهم، هو أن حق اليقين هو الخبر أيضًا، وليس ما هو أعلى من المعاينة من الذوق، وإن كان هذا المعنى الذي ذَكَره رائقًا؛ إلا أنه ليس بالذي يدل عليه دليل اللغة، ولا كلام السلف من المفسرين، والله أعلم.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَتَأَمَّلْ حَالَ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَخَذَ تَمْرَاتِهِ وَقَعَدَ يَأْكُلُهَا، عَلَى حَاجَةٍ وَجُوعٍ وَفَاقَةٍ إِلَيْهَا، فَلَمَّا عَايَنَ سُوقَ الشَّهَادَةِ قَامَتْ؛ أَلْقَى قُوتَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ إِنْ بَقِيتُ حَتَّى آكُلَ هَذِهِ التَّمْرَاتِ، وَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ! وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-".
انتهى باختصارٍ، وقد حذفتُ فيه الإشارات غير الصحيحة التي أشار إليها الهروي، وما ذكره ابن القيم -رحمه الله- في بيان ما يجب أن يكون فيه فناء المؤمن وهو الفناء في توحيد الإلهية بحبه -سبحانه وتعالى- عن حبِّ مَن سواه وبمراده من الخلق عن مراد حظوظهم، فلم يكونوا عاملين على فناء، ولا الاستغراق في الشهود، بل فنوا بمراده عن مرادهم، ولا حاجة لنا إلى تشقيقات كلام الصوفية في مقاماتهم؛ فقد أغنانا الله -عز وجل- بالكتاب والسنة.
والحمد لله رب العالمين.



ابوالوليد المسلم 06-10-2024 07:04 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (106) دعوة إبراهيم --صلى الله عليه وسلم-- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (10)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
تقدَّم كلام الإمام ابن كثير -رحمه الله-، أن قوم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كانوا يعبدون الكواكب، فأراد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّن لهم بطلان عبادتها وعدم صلاحيتها للإلهية، وبيَّن ذلك بأمورٍ متتابعة؛ مَن تأملها جزم بأن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان مُنَاظِرًا لقومه يريد أن يقيم عليهم الحجة، فبيَّن لهم الأمر الأول في الكوكب -وهو الزهرة كما قالوا، أو غيرها-، وهو: الأفول والغياب.
الفائدة الثانية:
قوله: (هَذَا رَبِّي) معناه -على القول الصحيح-: أنه كان مناظرًا، وأنه نوع من التعريض؛ أي: أهذا ربي؟! أي: أهذا يصلح للعبادة؟! بحذف أداة الاستفهام، ويكون الغرض عنده هو الاستنكار، والغرض الذي يفهمونه هو التفكر في صلاحية الكوكب للعبادة، فإذا تبيَّن أنه لا يصلح بطلت عبادته وعبادة غيره من الكواكب، وهذا حقيقة التعريض، وهو: أن يقول الإنسان كلامًا يقصد به معنى صحيحًا في نفسه ويفهم السامع منه غير ذلك، وهو نوع كذب، لكنه إذا اقترن به غرض شرعي صحيح لم يكن كذبًا محرمًا.
وهذا معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة الطويل: "لستُ لها، لستُ لها، إني كذبتُ ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله"، وذكر منها قوله عن الكوكب: "هذا ربي"؛ فقد قصد معنى صحيحًا، وهو: الاستنكار، وفهموا هم غير ذلك؛ لأجل أن تقوم عليهم الحجة ببطلان هذه الآلهة.
الفائدة الثالثة:
حاجة العابد إلى محبة إلهه ومعبوده على الدوام، لا يستطيع أن يتركها وقتًا من الأوقات، وأصلا العبادة: الحب والخضوع؛ فكيف يستغني عن محبته وعبادته فترة أفوله وغيابه دون أثر لوجوده؟!
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: "الفوائد": "اعلمْ أنّ قوام السماوات والأرض والخليقة بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما إله آخر غير الله لم يكن إلهًا حقًّا؛ إذ الإله الحق لا شريك له، ولا سمي له، ولا مثل له، فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحها؛ إذ صلاحها بتأله الإله الحق كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار، ويستحيل أن تستند في وجودها إلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أن تستند في بقائها وصلاحها إلى إلهين متساويين.
إذا عُرِف هذا؛ فاعلم أن حاجةَ العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا في محبته، ولا في خوفه ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل له، والتعظيم والسجود والتقرُّب، أعظم مِن حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تُقَاس به؛ فإن حقيقةَ العبد روحُه وقلبُه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحًا فملاقيته، ولا بد لها مِن لقائه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه، وإكرامه لها، ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل، لم يدم له ذلك، بل ينتقل مِن نوعٍ إلى نوعٍ، ومِن شخصٍ إلى شخصٍ، ويتنعم بهذا في وقتٍ ثم يتعذَّب به ولا بد في وقتٍ آخر (قلتُ: قال الله -عز وجل-: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ? إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 55).
وكثيرًا ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك، وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه، فهي تدمي الجلد وتخرقه، وتزيد في ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة، وهكذا ما يتعذَّب به القلب من محبة غير الله، وهو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب، والعاقل يوازن بين الأمرين، ويؤثر أرجحهما وأنفعهما، والله الموفق المعين، وله الحُجَّة البالغة، كما له النعمة السابغة.
والمقصود: أن إلهَ العبد الذي لا بد له منه في كلِّ حالة، وكل دقيقة، وكل طرفة عين؛ فهو الإله الحق الذي كلُّ ما سواه باطل، والذي أينما كان فهو معه، وضرورته إليه وحاجته إليه لا تشبهها ضرورة ولا حاجة، بل هي فوق كل ضرورة وأعظم من كل حاجة؛ ولهذا قال إمام الحنفاء: (لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ). والله أعلم) (انتهى من كتاب الفوائد).
وهذا الذي ذكره ابن القيم في فقر العبد إلى الله إلهًا معبودًا محبوبًا، لا يستطيع أن يغيب في صلاح حالة عن محبة إلهه ومعبوده طرفة عين؛ حتى وهو نائم، فهو ينام على حبِّه ويستيقظ على ذكره، ولا نجاة لقلبه وحياة هذا القلب إلا بالله -عز وجل-؛ ولذلك بيَّن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أن تعلق إبراهيم بإله غير الله: كذلك النجم، ومثله غيره من الكواكب والنجوم، والشمس والقمر، لكنه يعدد في كلِّ مَثَل شيئًا تبطل به عبادة هذا وعبادة أمثاله؛ ذلك أنها لا تصلح لتعلق القلب بها كل لحظة وكل طرفة عين، ولا تصلح أن ينامَ العبدُ على حبِّ هذه الأشياء، ولا أن يستيقظ بذكرها؛ فإن ذلك يضره أعظم الضرر؛ خاصة أنه إذا استيقظ فوجدها غائبة؛ فكيف يحبها؟! (لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)، لا أحب الغائبين.
وقد يتصور عبدٌ أن المؤمن إيمانه بالله على الغيب قد يكون كذلك، فهو لا يرى ربه -سبحانه-؛ ولذا قلنا في أول كلامنا: أنه يغيب دون أثرٍ لوجوده، أما الله -عز وجل- فهو غيب، لكن أدلة وجوده في كل لحظة، بل نوم العبد واستيقاظه، وحياته وموته مِن أدلة وجوده، كما قال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (‌رَبِّيَ ‌الَّذِي ‌يُحْيِي ‌وَيُمِيتُ) (البقرة: 258)، وتدبير الكون في وجود البشر وغيابهم من أدلة وجوده، وربوبيته وقيوميته لهذا العَالَم وإيجاده له من العَدَم من أعظم أدلة وجوده، (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ . أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور: 36-37).
ولذلك يظل العبد المؤمن مفتقرًا إلى الله إلهًا محبوبًا، كما افتقر إليه في أصل وجوده واستمرار بقائه، واستمرار حياة بدنه؛ فكذلك لا بد له مِن تألهه وعبادته، ومحبته، والخضوع له؛ حتى يستمر قلبه حيًّا يقظًا، ذاكرًا غير غافل، لينًا غير قاسٍ؛ فلذلك يحتاج إلى عبادته كلَّ لحظة، وإنما الصلوات الخمس مشروعة؛ لتكون ذكرى للذاكرين، قال الله -تعالى-: (‌وَأَقِمِ ‌الصَّلَاةَ ‌لِذِكْرِي) (طه: 14)، وقال عز وجل: (‌وَأَقِمِ ‌الصَّلَاةَ ‌طَرَفَيِ ‌النَّهَارِ ‌وَزُلَفًا ‌مِنَ ‌اللَّيْلِ ‌إِنَّ ‌الْحَسَنَاتِ ‌يُذْهِبْنَ ‌السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود: 114).
فهي تذكِّره بحاجته المستمرة إلى الله إلهًا معبودًا، كما يتذكر فيها حاجته إلى الله ربًّا خالقًا، رازقًا مدبرًا، وكلا النوعين من الفقر داخل في قوله -عز وجل-: (‌يَا أَيُّهَا ‌النَّاسُ ‌أَنْتُمُ ‌الْفُقَرَاءُ ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌وَاللَّهُ ‌هُوَ ‌الْغَنِيُّ ‌الْحَمِيدُ) (فاطر: 15).


ابوالوليد المسلم 06-10-2024 07:05 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (107) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (11)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
الاستدلال على الربوبيةِ الحَقَّة بوجودِ الهدايةِ والإرشادِ من الربِّ، وبيانِه أحسنِ العقائد، وأحسن العبادات، وأحسن التشريعات، وأحسن الأخلاق، وأحسن أعمال القلوب، وأحسن نظام الدولة، وهذه تفاصيل السبيل الموصِّلة إلى سعادة الإنسان وفلاحه في الدنيا والآخرة، ومَن لم يُبَن منه شيء من ذلك؛ فلا يصح أن يعبد.
وهذه الطريقة مِن أعظم طُرُق الاستدلال صحة عند العقلاء، والنظر في الهداية التي يدعو إليها هذا المعبود من أعظم ما يؤثِّر في القلوب الصادقة، وانعدامها يدل على عدم استحقاق هذا المعبود للعبادة، كما قال -تعالى-: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ ‌يَرَوْا ‌أَنَّهُ ‌لَا ‌يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) (الأعراف: 148).
وقال -سبحانه وتعالى- آمرًا نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أن يخاطبَ كفار قريش: (‌قُلْ ‌هَلْ ‌مِنْ ‌شُرَكَائِكُمْ ‌مَنْ ‌يَهْدِي ‌إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس: 35)، وقال -تعالى- عن بني إسرائيل: (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ . فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ . أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) (طه: 87-89).
وقد تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع عديدة في بيان ضلال مَن عبد مَن لا يهديه إلى سبيل الخير والحق والعدل، وبيان أن ما تضمَّنه الوحي من الهدايات هو أعظم الأدلة على صدقه، وصدق مَن جاء به مقدَّمًا ذلك على الاحتجاج عليهم بالمعجزات الحسية، بل مهما أتتهم المعجزات الحسية لا يقبلونها إذا لم يقبلوا هذا الإعجاز العقلي، كما قال -تعالى-: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ . لَقَالُوا ‌إِنَّمَا ‌سُكِّرَتْ ‌أَبْصَارُنَا ‌بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (الحجر: 14-15)، وقال -تعالى-: (‌وَإِنْ ‌يَرَوْا ‌كِسْفًا ‌مِنَ ‌السَّمَاءِ ‌سَاقِطًا ‌يَقُولُوا ‌سَحَابٌ ‌مَرْكُومٌ) (الطور: 44).
فذلك بدأ الرسل بهذه الهداية كما دَلَّ على ذلك الحوار الذي جَرَى بين موسى وفرعون في غير موضع من القرآن: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ ‌خَلْقَهُ ‌ثُمَّ ‌هَدَى) (طه: 50)، وقال -سبحانه- في سورة الشعراء: (‌قَالَ ‌فِرْعَوْنُ ‌وَمَا ‌رَبُّ ‌الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء: 23-28).
فهذه الآيات تبيِّن بجلاء: أن الطريقةَ الصحيحةَ في الدعوة إلى الله، يجب أن تبدأ ببيان هداية الوحي الذي أنزله الله -سبحانه وتعالى-، ببيان أحسن العقائد، وأحسن العبادات، وأحسن الأخلاق، وأحسن التشريعات، ولله الحمد أن هذا الدِّين -دين الإسلام- لا يمكن مقارنته في شيء من ذلك بأي دينٍ على وجه الأرض.
الفائدة الثانية:
قد تَعَجَّب العقلاءُ من عظمة ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونور الكلمات التي أتى بها، وكانت سببًا لهداية مَن شاء الله هدايته، وإقرار مَن أقرَّ بذلك وإن لم يؤمن إيثارًا بدنياه؛ فممَّن هداهم الله بالهداية التي جاء بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ضماد -رضي الله تعالى عنه-؛ فقد روى مسلم في صحيحة عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: أن ضماد قدم مكه وكان من أَزْدِ شَنُوءَةَ، وكان يَرقي مِن هذه الرِّيحِ -(أي: الأرواح التي كانت قريش تزعم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تأتيه جن)-، فسمِع سُفهاءَ مِن أهلِ مكَّةَ يقولونَ: إنَّ مُحمَّدًا مجنونٌ! فقال: لو أنِّي رأَيْتُ هذا الرَّجُلَ لعَلَّ اللهَ يَشفيَه على يدي. قال: فلقِيَه، فقال: يا مُحمَّدُ إنِّي أَرقِي مِن هذه الرِّيحِ، وإنَّ اللهَ يَشفي على يدي مَن شاء؛ فهل لك أرقيك؟ فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أمَّا بعدُ) فقال -أي ضماد-: أعِدْ علَيَّ كلماتِك هؤلاء، فأعادها عليه رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ثلاثَ مرَّاتٍ، قال: فقال: لقد سمِعْتُ قولَ الكَهنةِ، وقولَ السَّحَرةِ، وقولَ الشُّعراءِ، فما سمِعْتُ مِثْلَ كلماتِك هؤلاءِ، ولقد بلغن ناعوس البحر -أي: وسطه- (أي: بلغن مبلغًا لا يبلغه أحدٌ!)، قال: هاتِ يدَك أُبايِعْك على الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (وعَلَى قومِك؟) فقال: وعلى قومي. قال: فبايَعه، فبعَث رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- سَريَّةً فمَرُّوا بقومِه، فقال صاحبُ السَّريَّةِ للجيشِ: "هل أصَبْتُم مِن هؤلاءِ شيئًا؟ فقال رجُلٌ مِن القومِ: أصَبْتُ منهم مِطهَرَةً. فقال: ردُّوها فإنَّ هؤلاءِ قومُ ضِمادٍ".
فهذا الصحابي الجليل إنما أسلم لما تأمَّل الأنوار والهدايات في مقدمة خطبة الحاجة، قبل أن يتكلَّم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بكلمةٍ واحدةٍ، غير هذه المقدمة العظيمة.
ومِن هؤلاء الذين هداهم الله -عز وجل- بهدايات القرآن: جُبَير بن مُطْعِم -رضي الله عنه-، كما روى البخاري ومسلم وغير واحد عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور، فلما بَلَغ هذه الآية: (‌أَمْ ‌خُلِقُوا ‌مِنْ ‌غَيْرِ ‌شَيْءٍ ‌أَمْ ‌هُمُ ‌الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور: 35-37)، قال: "كاد قلبي أن يطير!"، وقد كان جبير إذ ذاك كافرًا، أتى المدينة في فداء أسرى بدر في العام الثاني من الهجرة، وكان سماعه هذه الآيات من هذه السورة مِن جملة ما حَمَلَه على الدخول في الإسلام، وكاد قلبُه أن يطير ساعتها -أن يخرج من مكانه- لما تضمَّنته الآيات من دليل الحجة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 06-10-2024 07:07 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (108) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (12)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فيه فوائد:
الفائدة الثالثة:
وممَّن أقرَّ بصحة ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه لم يُسْلِم: هرقل عظيم الروم، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: أن أبا سفيان بن حرب -رضي الله عنه- أخبره: "أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ، فِي الْمُدَّةِ الَّتِي ‌مَادَّ ‌فِيهَا ‌رَسُولُ ‌اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بإيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ في مَجْلِسِهِ، وحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ ودَعَا بتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أيُّكُمْ أقْرَبُ نَسَبًا بهذا الرَّجُلِ الذي يَزْعُمُ أنَّه نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: فَقُلتُ: أنَا أقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أدْنُوهُ مِنِّي، وقَرِّبُوا أصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لهمْ إنِّي سَائِلٌ هذا عن هذا الرَّجُلِ، فإنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا الحَيَاءُ مِن أنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عنْه.
ثُمَّ كانَ أوَّلَ ما سَأَلَنِي عنْه أنْ قَالَ: كيفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلتُ: هو فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهلْ قَالَ هذا القَوْلَ مِنكُم أحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ؟ قُلتُ: لا قَالَ: فأشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهلْ يَرْتَدُّ أحَدٌ منهمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ يَغْدِرُ؟ قُلتُ: لَا، ونَحْنُ منه في مُدَّةٍ لا نَدْرِي ما هو فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: ولَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شيئًا غَيْرُ هذِه الكَلِمَةِ، قَالَ: فَهلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكيفَ كانَ قِتَالُكُمْ إيَّاهُ؟ قُلتُ: الحَرْبُ بيْنَنَا وبيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا ونَنَالُ منه. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلتُ: يقولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وحْدَهُ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، واتْرُكُوا ما يقولُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُنَا بالصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ والصِّلَةِ.
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ له: سَأَلْتُكَ: عن نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أنَّه فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذلكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا. وسَأَلْتُكَ: هلْ قَالَ أحَدٌ مِنكُم هذا القَوْلَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فَقُلتُ: لو كانَ أحَدٌ قَالَ هذا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بقَوْلٍ قيلَ قَبْلَهُ. وسَأَلْتُكَ: هلْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، قُلتُ فلوْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ، قُلتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أبِيهِ. وسَأَلْتُكَ: هلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فقَدْ أعْرِفُ أنَّه لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ علَى النَّاسِ ويَكْذِبَ علَى اللَّهِ. وسَأَلْتُكَ أشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وهُمْ أتْبَاعُ الرُّسُلِ. وسَأَلْتُكَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وكَذلكَ أمْرُ الإيمَانِ حتَّى يَتِمَّ. وسَأَلْتُكَ أيَرْتَدُّ أحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، وكَذلكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. وسَأَلْتُكَ: هلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، وكَذلكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ.
وسَأَلْتُكَ: بما يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، ويَنْهَاكُمْ عن عِبَادَةِ الأوْثَانِ، ويَأْمُرُكُمْ بالصَّلَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ" -(وفي رواية في البخاري: "‌وَهَذِهِ ‌صِفَةُ ‌نَبِيٍّ")-، فإنْ كانَ ما تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وقدْ كُنْتُ أعْلَمُ أنَّه خَارِجٌ، لَمْ أكُنْ أظُنُّ أنَّه مِنكُمْ، فلوْ أنِّي أعْلَمُ أنِّي أخْلُصُ إلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، ولو كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عن قَدَمِهِ. ثُمَّ دَعَا بكِتَابِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي بَعَثَ به دِحْيَةُ إلى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فيه بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِن مُحَمَّدٍ عبدِ اللَّهِ ورَسولِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلَامٌ علَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإسْلَامِ، أسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، (وفي رواية: "‌أَسْلِمْ ‌يُؤْتِكَ ‌اللهُ ‌أَجْرَكَ ‌مَرَّتَيْنِ")، فإنْ تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إثْمَ الأرِيسِيِّينَ، و(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى ‌كَلِمَةٍ ‌سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64).
قَالَ أبو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ ما قَالَ، وفَرَغَ مِن قِرَاءَةِ الكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ وأُخْرِجْنَا، فَقُلتُ لأصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لقَدْ أمِرَ أمْرُ ابْنِ أبِي كَبْشَةَ، إنَّه يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَرِ. فَما زِلْتُ مُوقِنًا أنَّه سَيَظْهَرُ حتَّى أدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإسْلَامَ. وكانَ ابنُ النَّاظُورِ، صَاحِبُ إيلِيَاءَ وهِرَقْلَ، سُقُفًّا علَى نَصَارَى الشَّامِ (أي: مِن الأساقفة) يُحَدِّثُ أنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إيلِيَاءَ، أصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ! قَالَ ابنُ النَّاظُورِ: وكانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ في النُّجُومِ، فَقَالَ لهمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ في النُّجُومِ مَلِكَ الخِتَانِ قدْ ظَهَرَ، فمَن يَخْتَتِنُ مِن هذِه الأُمَّةِ؟ قالوا: ليسَ يَخْتَتِنُ إلَّا اليَهُودُ، فلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، واكْتُبْ إلى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَن فيهم مِنَ اليَهُودِ. فَبيْنَما هُمْ علَى أمْرِهِمْ، أُتِيَ هِرَقْلُ برَجُلٍ أرْسَلَ به مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عن خَبَرِ رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- (هو عدي بن حاتم رضي الله عنه)، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أمُخْتَتِنٌ هو أمْ لَا، فَنَظَرُوا إلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أنَّه مُخْتَتِنٌ، وسَأَلَهُ عَنِ العَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هذا مُلْكُ هذِه الأُمَّةِ قدْ ظَهَرَ.
ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِبٍ له برُومِيَةَ (روما حاليًا)، وكانَ نَظِيرَهُ في العِلْمِ، وسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حتَّى أتَاهُ كِتَابٌ مِن صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ علَى خُرُوجِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وأنَّهُ نَبِيٌّ، فأذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ في دَسْكَرَةٍ (مكان متسع) له بحِمْصَ، ثُمَّ أمَرَ بأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ، فَقَالَ: يا مَعْشَرَ الرُّومِ، هلْ لَكُمْ في الفلاحِ والرُّشْدِ، وأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هذا النبيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وأَيِسَ مِنَ الإيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وقَالَ: إنِّي قُلتُ مَقالتي آنِفًا أخْتَبِرُ بهَا شِدَّتَكُمْ علَى دِينِكُمْ، فقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا له ورَضُوا عنْه، فَكانَ ذلكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ" (انتهى من صحيح البخاري).
فانظر كيف استدل هرقل على نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه يأمرهم بترك عبادة الأوثان، ويأمرهم بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة؟! وهذه والله أعظم الهدايات!
ولو تأملتَ مضمون رسالةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه، وإلى كسرى، وإلى المقوقس؛ لوجدتَ ما ذكرنا دليلًا باهرًا على أنه يحتج بالهداية والنور الذي جاء به مِن عند الله على توحيد الله -سبحانه وتعالى-، والبراءة من الشرك.
الفائدة الرابعة:
الواجب علينا في الدعوة إلى الله وإلى الإسلام: بيان أنه الحق بهداية القرآن ونوره، وهداية الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (قَدْ ‌جَاءَكُمْ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌نُورٌ ‌وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة: 15-16)، وقوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . ‌صِرَاطِ ‌اللَّهِ ‌الَّذِي ‌لَهُ ‌مَا ‌فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (الشورى: 52-53).
ثم المقارنة بكلِّ دين باطل: كالإلحاد، أو اليهودية، أو النصرانية، أو البوذية، أو الهندوسية، أو الشيوعية، أو الأديان الوثنية الأخرى، وتَنَاقُض عقائدها وفساد عباداتها، وجهالة تشريعاتها، وفساد حال أهلها وأن أكثرهم فاسقون؛ ففي ذلك أعظم الدليل والحُجَّة على صِحَّة دين الإسلام، وبطلان ما سواه.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 06-10-2024 07:08 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (109) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (13)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
انتقل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في المناظرة مع قومه في النظر إلى الأجرام السماوية من أقلِّها إضاءة إلى الأكبر منها، ثم إلى الأكبر مطلقًا وهي الشمس؛ ليلفت نظرهم إلى أنها رغم عِظَم نورها، وأنها الأكبر إضاءة إلا أنها تأفل وتغيب، وحاجة الإنسان إلى الإله المعبود، حاجة ضرورية فطرية لا يمكن أن يستغني عنها طرفة عين، وحاجته إلى إلهه الذي لا يغيب أشدُّ من حاجة بدنه إلى النَّفَس، والطعام والشراب، وطالما انتفتْ إلهيةُ كلِّ هذه الأجرام السماوية؛ فبالأولى انتفاء إلاهية رموزها الأرضية من الأصنام المصنوعة التي نَحَتهَا البشرُ بأيديهم، فكذا كل الملل التي تعبد أوثانًا ترمز إلى قوى عليا، كما يعبد النصارى الصليب رمزًا إلى تحرير الإنسان من الخطيئة -بزعمهم في صلب المسيح!-، وكما عَبَد المشركون الأوثان على أنها ترمز للملائكة؛ فهذا كله إذا ثبت بطلانُ إلهية هذه الأشياء السماوية، بطل عبادة رموزها الأرضية.
الفائدة الثانية:
فيه المسألة الكبرى والقضية العظمى في مسالة الإلهية، وهي: البراءة مِن كلِّ ما يُعبَد من دون الله، واعتقاد بطلان عبادة أي إله مِن دونه، وهي المسألة التي هي أصل الخلاف بين الرسل وبين أقوامهم وبين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وقومه، وبين محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- والمشركين من قريش، وغيرهم؛ لأن عامة الأمم تقرُّ بوجود الخالق -سبحانه-، وندر مَن ينكر وجوده: كالملاحدة، وفرعون، والدهرية، وأكثرهم يقر في الباطن بوجوده، ولكن يجحده لفظًا: (‌وَجَحَدُوا ‌بِهَا ‌وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل: 14)، لكن أكثر الأمم مع إقرارهم بوجود الله يتخذون آلهة من دونه منهم يعبدها على سبيل المساواة كالمجوس الذين يعبدون إلهين اثنين: إلهًا للنور، وإلهًا للظلمة، مع أنهم يفضِّلون النور على الظلمة؛ ولذا عبدوا النار التي ترمز إلى مصدر النور عندهم، وكالنصارى الذين يجعلون الأقانيم الثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس متساوية في الجوهر! وإن كان كلُّ عاقلٍ يسمع ما يسمونه: "قانون الإيمان المسيحي"، يقطع بأنه يفضِّل الآب؛ لأنه مصدر الولادة والانبثاق، ويصفونه بصفات الخلق والضبط للكون؛ فجاء في هذا القانون -عندهم-: "خالق الكل، ضابط ما يَرى وما لا يُرى"، ولا يصفون المسيح والروح القدس بهذه الصفات إلا مِن باب التلازم، ومِن المشركين مَن يتخذ آلهة دون الإله الأعظم مع إقرارهم بأن الله هو الخالق، كمشركي قريش في قولهم: (‌مَا ‌نَعْبُدُهُمْ ‌إِلَّا ‌لِيُقَرِّبُونَا ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌زُلْفَى) (الزمر: 3)، قال -تعالى-: (‌وَيَعْبُدُونَ ‌مِنْ ‌دُونِ ‌اللَّهِ ‌مَا ‌لَا ‌يَضُرُّهُمْ ‌وَلَا ‌يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (يونس: 18).
وفي الصحيح قول المشركين في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريك هو لك، ملكته وما ملك"، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم عند قولهم: "لا شريك لك": "قد قد"، أي: اكتفوا بذلك.
وكل الأديان الأرضية تجعل الآلهة المحسوسة: كالبقرة عند الهندوس، وبوذا عند البوذيين، إنما هي وسائط للإله الأكبر، وكل هؤلاء حَكَم الله بكفرهم في جميع كتبه المنزلة، وعلى ألسنة جميع رسله، قال -تعالى-: (‌وَمَا ‌أَرْسَلْنَا ‌مِنْ ‌قَبْلِكَ ‌مِنْ ‌رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25)، ولا يحصل الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت، قال -تعالى-: (‌فَمَنْ ‌يَكْفُرْ ‌بِالطَّاغُوتِ ‌وَيُؤْمِنْ ‌بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 256)؛ ولذلك بدأت كلمة: "لا إله إلا الله" بالنفي قَبْل الإثبات؛ فلا يحصل أصلُ الإيمان والإسلام إلا بالبراءة مِن كلِّ ما يعبد مِن دون الله، وبالبراءة مِن كلِّ ملة سوى الدِّين الحق؛ وذلك باعتقاد عدم إلهية ما يعبد مِن دون الله، وبغض مَن يرضى بأن يُعبَد منها، وبغض مَن يعبدها ومعاداته مِن أجل ذلك؛ لا مِن أجل المصالح الدنيوية، والتصريح ببطلان عبادتها باللسان.
ثم بذل كل جهد في إزالة عبادتها من الأرض بالقول والحجة والبيان، ثم بالقوة والسنان؛ حسب القدرة، وحسب تشريع ذلك في الشرائع المختلفة، والأوقات المختلفة.
وقد تكررت هذه المسألة عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وغيره من أنبياء الله جميعًا في مواضع كثيرة من القرآن، قال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ ‌لِأَبِيهِ ‌وَقَوْمِهِ ‌إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 26-28)، أي: جَعَلَ اللهُ كلمةَ: "لا إله إلا الله" -التي هي حقيقة: (‌إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)- كلمةً باقيةً في نَسْل إبراهيم لا يزال في ذريته مَن يقولها كما قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-.
وقال -تعالى-: ( ‌قَدْ ‌كَانَتْ ‌لَكُمْ ‌أُسْوَةٌ ‌حَسَنَةٌ ‌فِي ‌إِبْرَاهِيمَ ‌وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة: 4-5)، وقال -تعالى-: (‌قُلْ ‌إِنَّنِي ‌هَدَانِي ‌رَبِّي ‌إِلَى ‌صِرَاطٍ ‌مُسْتَقِيمٍ ‌دِينًا ‌قِيَمًا ‌مِلَّةَ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌حَنِيفًا ‌وَمَا ‌كَانَ ‌مِنَ ‌الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161).
ونفي الشرك ضرورة لتحقيق الإيمان والإسلام، وليست حقيقة الإيمان تثبت بمجرد إثبات وجود الله -كما يظنه كثيرٌ من الناس!-، بل ولا إثبات صفات كمال له دون أن يفرده بالإلهية؛ فكلا النوعين من التوحيد متلازمان: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي الذي يلتزم النوع الثاني، وهو: توحيد القصد والإرادة والطلب، وأفعال العباد، فتوحيد الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، لا بد معه -حتى ينجو الإنسان مِن النار ومِن غضب الله وسخطه-: أن يُفردَ اللهُ -عز وجل- بأفعال العبد: بالحب والخوف، والرجاء، والصبر، والشكر، والإخلاص، والإخبات، والإنابة والخضوع، وسائر عبادات القلب، والركوع والسجود والقيام والطواف، والذبح والنذر، والحلف والدعاء، والاستغاثة والاستعانة؛ فكل هذه العبادات -وغيرها- لا بد أن يُفردَ اللهُ -عز وجل- بها، ولا تصرف لأحدٍ غيره وإلا كان شركًا في الألوهية؛ حتى ولو أقرَّ بأنه هو الخالق -سبحانه-، ولقد كان اليهود والنصارى يعبدون الأحبار والرهبان مِن دون الله وهم لا يسمون ما يفعلون عبادة، لكنهم قد أحلوا لهم الحرام، وحرَّموا عليهم الحلال فاتبعوهم؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ) (رواه الترمذي والبيهقي، وصححه الألباني).
الفائدة الثالثة:
هذه الآية الكريمة تهدم هدمًا كاملًا كليًّا، ما اخترعه كفارُ زماننا وزنادقتهم ممَّا سموه زورًا وبهتانًا: "الدِّين الإبراهيمي الجديد!"، القائم على مساواة الملل، وإن بدأوا بالأديان الثلاثة: -اليهودية والنصرانية والإسلام-، لكنهم يقررون مساواة جميع الملل ويصوبونها كلها، وهي بدعة كفرية شركية اخترعها الأوروبيون منذ الثورة الفرنسية، واستغلها اليهود وروَّجوا لها؛ لهدم جميع الأديان ليبقى لهم دينهم في ظنهم، وهم لا يتأثرون بهذه الدعوات -بتوحيد الأديان والملل-؛ لأنهم لا يقبلون غير دينهم الذي يتعصبون له.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.





ابوالوليد المسلم 06-10-2024 07:09 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (110) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (14)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فيه فوائد:
الفائدة الثالثة:
هذه الآية الكريمة تهدم هدمًا كاملًا كليًّا، ما اخترعه كفارُ زماننا وزنادقتهم ممَّا سموه زورًا وبهتانًا: "الدِّين الإبراهيمي الجديد!"، القائم على مساواة الملل، وإن بدأوا بالأديان الثلاثة: -اليهودية والنصرانية والإسلام-، لكنهم يقررون مساواة جميع الملل ويصوبونها كلها، وهي بدعة كفرية شركية اخترعها الأوروبيون منذ الثورة الفرنسية، واستغلها اليهود وروَّجوا لها؛ لهدم جميع الأديان ليبقى لهم دينهم في ظنهم، وهم لا يتأثرون بهذه الدعوات -بتوحيد الأديان والملل-؛ لأنهم لا يقبلون غير دينهم الذي يتعصبون له.
وهذه الدعوة الخبيثة المنكرة التي يروَّج لها بمصطلحاتٍ مختلفةٍ: "كالعائلة الإبراهيمية" التي يظنون أنها تخدع المسلمين، والتي لا يشك مسلم في بطلانها؛ لأن الأخوة الإيمانية لا تثبت إلا لأهل الإسلام، كما قال الله -تعالى-: (‌إِنَّمَا ‌الْمُؤْمِنُونَ ‌إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10).
وأما أخوة النَّسَب إن ثبتتْ؛ فهي لا تجتمع مع المحبة مع وجود الكفر؛ لقول الله -تعالى-: (‌لَا ‌تَجِدُ ‌قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22).
ولا شك أن بناء ما يُسمَّى بـ"العائلة الإبراهيمية" في زماننا مِن: مسجدٍ، وكنيسة، وكنيس يهودي -لترسيخ هذه المبادئ الضالة المنحرفة التي تسعى لمساواة الملل- لا بد من رفضه وإبائه؛ خاصة أن بقية المخطط يهدفُ إلى إزالة الدول المعاصرة، وتكوين ما يُعرَف: بالشرق الأوسط الجديد، وتكوين الولايات المتحدة الإبراهيمية التي ستكون مبدئيًّا في ظنهم -نسأل الله أن يُخَيَّب ظنهم- اتحادًا كونفدراليًّا بين دول المنطقة، ينتهي إلى اتحادٍ فيدرالي -كما يظنون!-.
وهذا كما أن فيه هدم فكرة دين الإسلام؛ ففيه هدم فكرة الدولة القومية المعاصرة التي يمكن أن تجتمع مع الدِّين، أما مع اعتقاد أن مساواة الأديان واتحاد هذه دول مع العداوة التاريخية المبنية على العقيدة -في الحقيقة-؛ فإن هذا فيه طمس للهوية بالكلية، ولا يمكن لعاقلٍ أن يبيع دينه ودنياه لأجل إرضاء اليهود.
لذلك نقول: لا بد مِن الحذر التام مِن هذه الأفكار الخبيثة، وإنما يبحثون في تراث مَن ينتسِبون الى الإسلام، ممَّن يقول بوحدة الأديان؛ لأجل أن يروِّجوا هذه الفكرة، وهؤلاء هم الصوفية الغلافة الفلاسفة، أصحاب وحدة الوجود الذين يصوِّبون جميع الملل!
كما حكى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن شيخٍ مقدَّم في زمنهم، جاءه مَن يريد أن يسلك على يديه ويكون مريدًا؛ قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعضُ أكابر الشيوخ عند الناس -ممَّن يقصده الملوك والقضاة، والعلماء والعامة-، على طريقة ابن سبعين؛ قيل عنه أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبندر الذي للمشركين بالهند! وهذا لأنه كان يعتقد أن دينَ ‌اليهود ودين النصارى حق!
وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلك على يديك، فقال: على دين ‌اليهود والنصارى أو المسلمين؟ فقال له: ‌اليهود والنصارى ليسوا كفارًا؟! قال: لا تُشَدِّد عليهم، لكن دين الإسلام أفضل!" (الاستغاثة في الرد على البكري، ص 306).
وقال الذهبي -رحمه الله-: "قال شيخُنَا عماد الدين الواسطي، وكان مِن أكبر المُحطِّين عليه لِمَا رأى منه -أي: على ابن هود؛ الذي كان يقول بوحدة الوجود، والعياذ بالله-: أتيتُه وقلتُ له: أريد أن تُسلِّكَني. فقال لي: مِن أي الطُرق تريدُ أن تسلُك: من المُوسوية أو العيسوية أو المحمدية؟! أي: أنَّ كُلَّ الملل توصل إلى الله!" (تاريخ الإسلام، 15/ 905).
وهذا الكفر -الذي لا بد مِن ردِّه- يُنَاقِض أصلَ دين الإسلام، المعلوم من الدِّين بالضرورة: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فإن اليهود والنصارى، فضلًا عن غيرهم من الهندوس عُبَّاد البقر، والبوذيين عباد بوذا؛ كل هؤلاء لا يفردون الله بالإلهية، وذلك كما قال الله -عز وجل-: (‌وَقَالَتِ ‌النَّصَارَى ‌الْمَسِيحُ ‌ابْنُ ‌اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 30-33).
ثم هؤلاء الملل كلها تكذِّب رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أقل تقدير لا يؤمنون بنبوته العامة التي قال الله -عز وجل-: (‌وَرَحْمَتِي ‌وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف: 156-158).
فكيف يقبل عاقل هذا التناقض: أن يكون مَن كَذَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- كمَن صدَّق الرسول وآمن به؟!
كيف يكون مَن أبغضه كمَن أحبه -صلى الله عليه وسلم-؟!
كيف يكون مَن كذَّب الله بتكذيب القرآن كمَن آمن بالقرآن، وصدَّق ربَّه -عز وجل-؟!
وكيف يستوي مَن عَبَدَ غير الله وقد حَكَم الله بكفره، مع مَن أفرد الله -عز وجل- بالعبادة؟!
إن مساواة الأديان عقيدة زندقة وكفر أكبر ناقل عن الملة، تناقض بداهة العقول، وعقيدة وحدة الوجود وأن كلَّ المعبودات شيء واحد، عقيدة معلوم من دين الإسلام بالضرورة مناقضتها لـ"لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
فلا يجوز للمسلمين أن يزوروا بيتَ العائلة الإبراهيمية هذا، ولا أن يصلوا هناك؛ لأنهم يروِّجون لفكرة وحدة الأديان، وأما التعايش في سَلَامٍ بين أهل الملل بالعهد الذي شَرَعه الله -عز وجل-، فقد وَقَع دائمًا عَبْر الزمان؛ وإلا لما وُجِدَ يهود ولا نصارى، ولا هندوس، ولا بوذيون، في بلاد المسلمين التي كانت ممالك إسلامية عبر قرونٍ من الزمان!
لو لم يكن هناك تعايش لما تُرِكوا إلا وقد قُتِلوا، كما فَعَل الصليبيون في الأندلس، وكما فعلوا عندما أخذوا بيتَ المقدس، وكما فَعَل اليهودُ في فلسطين -ويفعلون- مِن قتلٍ يومي، وظلم وعدوان، وتغيير هوية البلاد.
المسلمون لم يتعرَّضوا لليهود، أو النصارى، ولا لغيرهم مِن أهل الملل؛ طالما التزموا بالعهود وبَذَلوا الجزية في ذلك الوقت، بل كان الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- عاهدهم بلا جزية، ونقضوا في كلِّ مرة.
المعايشة السلمية أمرٌ محتملٌ ومقبولٌ دون تنازلٍ عن الهوية الإسلامية، ودون تنازلٍ عن العقيدة، ودون بيوت عبادة موحَّدة، لم توجد قط في زمن المسلمين في أضعف حالاتهم؛ لأنهم لم يتنازلوا عن عقيدتهم.
نسأل اللهَ -عز وجل- أن يكفَّ شرَّ كلِّ ذي شرٍّ عن المسلمين، وأن يحفظ على المسلمين دينهم وهويتهم، وأن يردَّ كيدَ اليهود عن المسجد الأقصى وعن فلسطين، وأن يردَّ أيديهم عن أهل فلسطين، وعن غيرها من بلاد المسلمين.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 20-10-2024 03:42 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (111) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (15)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ):
الفائدة الرابعة:
الآية الكريمة تبيِّن بجلاء حقيقة دين إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهو: البراءة من الشرك وأهله، وتوجيه الوجه والقصد والإرادة لله رب العالمين لا شريك له، فالحنيفية التي صَرَّح بها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- تقتضي الميل إلى الله والإعراض عمَّن سواه مما يُعبَد من دونه، وهذه البراءة وهذا الإعراض عما يعبد من دون الله يهدم فكرة مساواة الملل؛ سواء كانت الملل المنسوبة إلى الأنبياء، أو تلك الأرضية التي اخترعها الناس دون انتساب إلى الرسول.
ومن ذلك: الدعوة إلى الدين الإبراهيمي الجديد، وما يحوم حولها، مثل: فكرة الأخوة الإنسانية التي تقوم عليها الماسونية وما شابهها من الدعوات، ونظرية الدِّين الموحد united religion التي يروج لها "بابا الفاتيكان الحالي"، ويحاولون جر المسلمين إليها.
ولا يشك مسلم في بطلان هذه الدعاوى، بل في مناقضتها لأصل دين الإسلام، بحيث يكون مَن قَبِلها هادمًا لشهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"؛ مما يقدح في دينه ويصرِّح بردته عن دين الإسلام.
قال ابن حزم -رحمه الله-: "واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا" (مراتب الإجماع).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام".
وقال أيضًا -رحمه الله-: "وقد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع: أن مَن بلغته رسالته فلم يؤمن به فهو كافر؛ لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد؛ لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة".
وقال الحجاوي -رحمه الله- في الإقناع ضمن ما يوجب الردة: "أو لم يكفِّر مَن دان بغير الإسلام: كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صَحَّح مذهبهم، أو قال قولًا يُتوصَّل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة؛ فهو كافر.
وقال الشيخ -يعني ابن تيمية رحمه الله-: مَن اعتقد أن الكنائس بيوت الله وأن الله يعبد فيها، وأن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة له ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه يحب ذلك أو يرضاه أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة؛ فهو كافر.
وقال في موضع آخر: مَن اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله؛ فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم وعرف ذلك؛ فإن أصر صار مرتدًا" (انتهى).
ففكرة الدين الإبراهيمي لا بد من مقاومتها والحذر منها، وتحذير المسلمين من قبولها، خصوصًا مع ما تتضمنه من هدم القومية والوطنية -والتي قد نختلف معها في ترتيب أولويات الولاء؛ إلا أن عامتها قد استقر الأمر فيها على الالتزام بالشريعة الإسلامية كأصل وإن تأخر التطبيق-، ولا شك أن هدمها لإقامة ما يسمونه: "بالولايات المتحدة الإبراهيمية" هو هدم وتضييع للهوية العربية والإسلامية لهذه الدول وشعوبها؛ فلا يجوز إلا محاربة هذه الفكرة وتوابعها، مثلما سموه: "بيت العائلة الإبراهيمي"؛ الذي أرادوا حسب ما أعلنوا قبول عبادات الآخرين، واعتبار المسجد والكنيس والكنيسة كلها بيوت الله، وقد نقلنا -قبل هذه الفقرة- كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيمَن اعتقد عن دور عبادتهم أنها بيوت الله.
المسألة الخامسة:
البراءة مِن الشرك تستلزم البراءة من المشركين، وليس كما يحاول بعض الناس في زماننا أن يزعم حبه للكفار، ولكنه يبغض كفرهم، محاولين التودد لأشخاصهم في ذلك! وقد بيَّن -سبحانه وتعالى- وجوب بغضهم والبراءة منهم لأشخاصهم طالما ظلوا على كفرهم، قال -عز وجل-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى? تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: 4).
وقال -سبحانه وتعالى-: (‌لَا ‌تَجِدُ ‌قَوْمًا ‌يُؤْمِنُونَ ‌بِاللَّهِ ‌وَالْيَوْمِ ‌الْآخِرِ ‌يُوَادُّونَ ‌مَنْ ‌حَادَّ ‌اللَّهَ ‌وَرَسُولَهُ ‌وَلَوْ ‌كَانُوا ‌آبَاءَهُمْ ‌أَوْ ‌أَبْنَاءَهُمْ ‌أَوْ ‌إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22).
وقد اختلط على هؤلاء -أو تعاموا عنه عمدًا- الفرق بين النصح وحب الخير للناس، وحب هدايتهم، وبين حبهم مع بقائهم على كفرهم؛ فهذا الفرق لا بد منه، فإن النصح الواجب للناس وحب هدايتهم لا يعني حبهم على كفرهم!
فنحن نحب الخير للناس؛ لأن الله يحب فعل الخير من جميع الناس، وإن كنا نعلم أنه قَدَّر خلاف ذلك، من وجود الكفر والكافرين؛ قدَّر ذلك لمصالح عظيمة لا تتحقق إلا بوجود الكفر والكافرين؛ فلا بد من الالتزام بالحقيقة الشرعية، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ ‌أَوْثَقَ ‌عُرَى ‌الْإِيمَانِ: ‌الْحُبُّ ‌فِي ‌اللَّهِ، ‌وَالْبُغْضُ ‌فِي ‌اللَّهِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).
وأما الحقيقة الكونية فنرضى عن الله -عز وجل- ربًّا مدبِّرًا، ولا نرضى عما لا يرضاه -عز وجل- من الملل والأفراد والمجتمعات الكافرة التي يبغضها -سبحانه-؛ فهو الذي خلقهم، ولكنه يبغضهم، لِمَا قام بهم من وصف الكفر.
وأما إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة؛ فإخواننا في الدين، وأما قبل ذلك فهم ليسوا إخوانًا لنا ولا أصدقاء ولا أولياء، وهذه المسألة العظيمة التي لا بد من تحقيقها في واقع الحياة حتى تظل عقيدة التوحيد واضحة ناصعة، ولا يلتبس الأمر على الناس، خصوصًا من صحح ملتهم؛ فكيف يدعوهم إلى الإسلام ويقول لهم: إن الإسلام هو الحق فادخلوا في الإسلام، وهو يقول بقاؤكم على ملتكم ينفعكم عند الله يوم القيامة، وفي الدنيا أنتم إخوان لنا على تلك الحال؟!
وأما الأخوة الإنسانية فهي أخوة في النسب، لا تقتضي حبًّا ولا موالاة ولا صداقة حتى يؤمنوا بالله وحده، ولا بد من توضيح هذه المسألة للمسلمين في وسط جو فظيع من التلبيس وإفساد العقائد الذي يمهد للناس قبول هذه الفكرة الخبيثة، مساواة الملل والدين الإبراهيمي الجديد.
نسأل الله أن يعيذ المسلمين من شر ذلك كله.


ابوالوليد المسلم 20-10-2024 03:44 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (112) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (16)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
بيَّن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لقومه وجوب الإخلاص في عبادة الله، وجعل الوجه لله أي: قصده وتوجهه إليه بالعبادة وحده لا شريك له، وهذا هو الإخلاص، والإخلاص روح العبادة التي تكون بدونه كالجسد الميت، قال ابن القيم -رحمه الله- في منزلة الإخلاص: قال الله -تعالى-ـ: (‌وَمَا ‌أُمِرُوا ‌إِلَّا ‌لِيَعْبُدُوا ‌اللَّهَ ‌مُخْلِصِينَ ‌لَهُ ‌الدِّينَ) (البينة: 5)، وقال: (‌إِنَّا ‌أَنْزَلْنَا ‌إِلَيْكَ ‌الْكِتَابَ ‌بِالْحَقِّ ‌فَاعْبُدِ ‌اللَّهَ ‌مُخْلِصًا ‌لَهُ ‌الدِّينَ) (الزمر: 2)، وقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (‌قُلِ ‌اللَّهَ ‌أَعْبُدُ ‌مُخْلِصًا لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) (الزمر: 14-15)، وقال له: (‌قُلْ ‌إِنَّ ‌صَلَاتِي ‌وَنُسُكِي ‌وَمَحْيَايَ ‌وَمَمَاتِي ‌لِلَّهِ ‌رَبِّ ‌الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162-163)، وقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك: 2)، قال الفضيل بن عياض: "هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإن كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله -تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110).
وقال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء: 125)، فٍإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه متابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقال -تعالى-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) (الفرقان: 23)، وهي الأعمال التي كانت على غير السنة، أو أريد بها غير وجه الله؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: (‌إِنَّكَ ‌لَنْ ‌تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً) (متفق عليه).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ أَيْ: لَا يَبْقَى فِيهِ غِلٌّ، وَلَا يَحْمِلُ الْغِلَّ مَعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. بَلْ تَنْفِي عَنْهُ غِلَّهُ. وَتُنَقِّيهِ مِنْهُ. وَتُخْرِجُهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْقَلْبَ يَغِلُّ عَلَى الشِّرْكِ أَعْظَمَ غِلٍّ، وَكَذَلِكَ يَغِلُّ عَلَى الْغِشِّ، وَعَلَى خُرُوجِهِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ؛ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَمْلَؤُهُ غِلًّا وَدَغَلًا، وَدَوَاءُ هَذَا الْغِلِّ، وَاسْتِخْرَاجُ أَخْلَاطِهِ بِتَجْرِيدِ الْإِخْلَاصِ وَالنُّصْحِ، وَمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ.
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً؛ أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (متفق عليه).
وَأَخْبَرَ عَنْ أَوَّلِ ثَلَاثَةٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ: قَارِئُ الْقُرْآنِ، وَالْمُجَاهِدُ، وَالْمُتَصَدِّقُ بِمَالِهِ، الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ، فُلَانٌ شُجَاعٌ، فُلَانٌ مُتَصَدِّقٌ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْمَالُهُمْ خَالِصَةً لِلَّهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ) (رواه مسلم). وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: "يَقُولُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّنْ عَمِلْتَ لَهُ. لَا أَجْرَ لَكَ عِنْدَنَا".
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ) (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج: 37)، وَفِي أَثَرٍ مَرْوِيٍّ إِلَهِيٍّ: "الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي".
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ، وَالْقَصْدُ وَاحِدٌ.
فَقِيلَ: هُوَ إِفْرَادُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ فِي الطَّاعَةِ.
وَقِيلَ: تَصْفِيَةُ الْفِعْلِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَقِيلَ: التَّوَقِّي مِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ حَتَّى عَنْ نَفْسِكَ، وَالصِّدْقُ التَّنَقِّي مِنْ مُطَالَعَةِ النَّفْسِ.
فَالْمُخْلِصُ لَا رِيَاءَ لَهُ، وَالصَّادِقُ لَا إِعْجَابَ لَهُ، معنى التنقي من مطالعة النفس، أي: مشاهدة فضائلها، وأنها مصدر هذا الخير؛ فهو بمعنى الإعجاب بالنفس، وَلَا يَتِمُّ الْإِخْلَاصُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا الصِّدْقُ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ، وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ.
وَقِيلَ: مَنْ شَهِدَ فِي إِخْلَاصِهِ الْإِخْلَاصَ، احْتَاجَ إِخْلَاصُهُ إِلَى إِخْلَاصٍ. فَنُقْصَانُ كُلِّ مُخْلِصٍ فِي إِخْلَاصِهِ: بِقَدْرِ رُؤْيَةِ إِخْلَاصِهِ، فَإِذَا سَقَطَ عَنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةُ الْإِخْلَاصِ، صَارَ مُخْلِصًا مُخْلَصًا. (المقصود من رؤية الإخلاص: أن يظن بنفسه ذلك فهذا تزكية للنفس وإعجاب بها وهذا بلا شك خطر عظيم يدل على نقص الإخلاص).
وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْعَبْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالرِّيَاءُ: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ خَيْرًا مِنْ بَاطِنِهِ. وَالصِّدْقُ فِي الْإِخْلَاصِ: أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ أَعْمَرَ مِنْ ظَاهِرِهِ.
وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ نِسْيَانُ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ بِدَوَامِ النَّظَرِ إِلَى الْخَالِقِ.
وَمِنْ كَلَامِ الْفُضَيْلِ: تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: رِيَاءٌ. وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: شِرْكٌ. وَالْإِخْلَاصُ: أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا. (معنى ترك العمل من أجل الناس، أي: أن يترك العمل الصالح؛ لأن الناس ينكرونه عليه. والعمل من أجل الناس شرك أي: أنه يعمل العمل الصالح لأجل مدحهم، والأول يكون في مجتمعات منحرفة، والثاني يكون في مجتمعات تعظم الطاعة).
قَالَ الْجُنَيْدُ: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ.
وَقِيلَ لِسَهْلٍ: أَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ؟ فَقَالَ: الْإِخْلَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِيهِ نَصِيبٌ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ: مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ قَطُّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ.
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَعَزُّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا: الْإِخْلَاصُ. وَكَمْ أَجْتَهِدُ فِي إِسْقَاطِ الرِّيَاءِ عَنْ قَلْبِي. فَكَأَنَّهُ يَنْبُتُ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ انْقَطَعَتْ عَنْهُ كَثْرَةُ الْوَسَاوِسِ وَالرِّيَاءِ" (انتهى بتصرفٍ يسيرٍ من مدارج السالكين).
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في استفتاح صلاته يقول هذه الجملة التي قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ففي الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا افتتح الصلاة قال: (وَجَّهْتُ ‌وَجْهِي ‌لِلَّذِي ‌فَطَرَ ‌السَّمَوَاتِ ‌وَالْأَرْضَ ‌حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ ‌أَنْتَ ‌الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، اللهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، اصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) (رواه مسلم بدون لفظ: مسلمًا في أول الدعاء).
ولا شك أن هذا يدل على عظم هذا الدعاء، وهذه الكلمة التي قالها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وقالها محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- تبعًا له، فلا ينبغي أن نترك هذا الدعاء على الأقل في صلاة النافلة وقيام الليل مع ما تضمنه من الجمل العظيمة التي تؤسس قواعد التوحيد والإخلاص في قلب العبد المؤمن، وقد سبق شرحه في كتابي: "تأملات إيمانية في الأدعية النبوية.


ابوالوليد المسلم 20-10-2024 03:45 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (113) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (17)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فيه فوائد:
الفائدة الثانية:
استدل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- على وجوب إفراد القصد والوجهة لله، وهو توحيد الإلهية وتوحيد الله بأفعال العباد بتوحيد الربوبية؛ توحيد الله بأفعاله -سبحانه-؛ فهو الذي فطر السموات والأرض، وخلقهما على غير مثال سابق، وهذا الاحتجاج كَثُر في القرآن، قال -تعالى- في أول أمر وَرَد في ترتيب القرآن: (‌يَا أَيُّهَا ‌النَّاسُ ‌اعْبُدُوا ‌رَبَّكُمُ ‌الَّذِي ‌خَلَقَكُمْ ‌وَالَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِكُمْ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 21-22).
فذكر وجوب إفراد الله بالعبادة، كما انفرد -سبحانه- بالخلق والرزق، ونهى عن الشرك بناءً على ذلك.
وقال -تعالى- عن المؤمن في قصة القرية المذكورة في سورة يس: (‌وَمَا ‌لِيَ ‌لَا ‌أَعْبُدُ ‌الَّذِي ‌فَطَرَنِي ‌وَإِلَيْهِ ‌تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (يس: 22-24).
فلأنه وحده الذي فطر العباد، وهو الذي يحيهم ويميتهم، فيجمعهم إليه -سبحانه-؛ فهو وحده المستحق للعبادة، وكيف يستحق غيره العبادة، وهو لا يملك رفع الضر عن عابده إن أراده الله بضر؟!
وقال -سبحانه وتعالى- في الاستدلال على وجوب إفراد الله بالعبادة: (‌أَمْ ‌خُلِقُوا ‌مِنْ ‌غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ . أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ . أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ . أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ . أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ . أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الطور: 35-43).
وهذه الحجة هي أوضح الحجج لدى عامة الخلق؛ لأن نظرهم يرشدهم قطعًا إلى وجود فاعل واحد لكل هذا العالم؛ صنعه وخلقه، ودبَّر أمره، ورزق أهله؛ فهو -سبحانه وتعالى- وحده الذي يستحق أن يُعبَد، إذا نظر العباد إلى ذلك.
ثم هناك حجة أخرى هي أعظم عند أهل الإيمان، وهي الحنيفية؛ ولذا قال: (حَنِيفًا)، وهذه هي:
الفائدة الثالثة:
الحنيف هو: المائل إلى الله، المعرض عن غير الله؛ فتضمن ذلك إثبات حب الله -سبحانه-، الذي هو روح العبادة، فالحب والخضوع والذل ركن العبادة التي لا تصح بدونهم، والعبد إذا وجد قلبه في حب الله -عز وجل- عَرَف حقيقة الألوهية، كما دَلَّ على ذلك توحيد الربوبية، مثل: ماكينة فيها موضع لترسٍ، إذا وُضِعَت تروسٌ أخرى تكسرت الماكينة، وتكسرت التروس؛ فإذا وَضَع صاحبُها الترس الذي وَجد مقاسه مناسبًا، فدارت الماكينة وأنتجت أحسن إنتاج؛ تيقَّن يقينًا أعظم من القياسات التي حسبها قبل ذلك.
فهذه قضية الحنيفية والميل إلى الله، فالقلب يشقى ويتعس بتوجهه لغير الله، ويطمئن ويسكن، ويجد أعظم اللذة في عبادته لله -سبحانه وتعالى-.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشه لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أُعطِي الدنيا وما فيها لم تُسَد تلك الفاقة أبدًا" (مدارج السالكين بتصرف يسير).
فحاجة القلب في الميل إلى الله -سبحانه وتعالى- حاجة ضرورية، أعظم من حاجة البدن إلى النَّفَس، وإلى الماء، وإلى الطعام، فكما يهلك البدن بامتناع النَّفَس والهواء، والطعام والشراب، فكذلك يموت القلب إذا لم يكن حنيفًا إلى الله -سبحانه وتعالى-، فالميل إلى الله -عز وجل- ضرورة من ضرورات حياة قلب الإنسان. نسأل الله أن يمن علينا بحياة قلوبنا".
وقال أيضًا -رحمه الله-: "كلُّ حي له إرادة ومحبة وعمل بحسبه، وكل متحرك؛ فأصل حركته: المحبة والإرادة، ولا صلاح للموجودات إلا بأن تكون حركاتها ومحبتها لفاطرها وبارئها وحده، كما لا وجود لها إلا بإبداعه وحده، ولهذا قال -تعالى-: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ ‌لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: 22)، ولم يقل -سبحانه-: "لما وجدتا ولكانتا معدومتين"، ولا قال: "لعدمتا"؛ إذ هو -سبحانه- قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد، لكن لا يمكن أن يكونا على وجه الصلاح والاستقامة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودهما ومعبود ما حوتاه وسكن فيهما، فلو كان في العالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد، فإن كل إله كان يطلب مغالبة الآخر والعلو عليه وتفرده دونه بإلهيته؛ إذ الشركة نقص في كمال الإلهية، والإله لا يرضى لنفسه أن يكون إلهًا ناقصًا، فإذا قهر أحدهما الآخر كان هو الإله وحده والمقهور ليس بإله، وإن لم يقهر أحدهما الآخر لزم عجز كل منهما ولم يكن تام الإلهية، فيجب أن يكون فوقهم إله قاهر لهما حاكم عليهما، وإلا ذهب كل منهما بما خلق، وطلب كل منهما العلو على الآخر، وفي ذلك فساد أمر السماوات والأرض ومن فيها" (الداء والدواء).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 20-10-2024 03:46 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (114) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (18)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فيه فوائد:
الفائدة الرابعة: قوله -تعالى- عن الخليل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، تأكيد على البراءة مِن المشركين بعد أن تبرأ من شركهم في أول كلامه حيث قال: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)، فكان فيها البراءة من الشرك، وهنا قال: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فكان فيها البراءة من المشركين؛ فالبراءة من الشرك كعقيدة ومنهج لا تكفي حتى يتبرأ العبدُ من المشركين؛ بأن يبغضهم ويعاديهم، ويكفر بهم أنفسهم، كما قال -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة: 4-5).
فتأمل في قول -تعالى- عن المؤمنين: (كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)؛ ليتضح لك نفس ما في هذه الفائدة العظيمة من قوله: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ ولتعلم بطلان مَن يعلن ود الكافرين ومحبتهم، ويزعم أنه لا يحب عقيدتهم وكفرَهم، وأن هذه المحبة هي مِن حسن العشرة والبر والقسط الذي أمر الله به!
وهذا من الباطل؛ فإن الله -عز وجل- قال بعد آية الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معه، قال: (‌لَا ‌يَنْهَاكُمُ ‌اللَّهُ ‌عَنِ ‌الَّذِينَ ‌لَمْ ‌يُقَاتِلُوكُمْ ‌فِي ‌الدِّينِ ‌وَلَمْ ‌يُخْرِجُوكُمْ ‌مِنْ ‌دِيَارِكُمْ ‌أَنْ ‌تَبَرُّوهُمْ ‌وَتُقْسِطُوا ‌إِلَيْهِمْ ‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌يُحِبُّ ‌الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، فأمر بالبر والقسط ثم نهى عن المحبة والموالاة، فقال: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 9)، مع أن الآيات نزلت في قومٍ كان بيننا وبينهم عهد، كما جاءت أم أسماء في الهدنة التي كانت بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمشركين في الحديبية تريد زيارة ابنتها، وتريد برها وصلتها، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نَعَمْ ‌صِلِي ‌أُمَّكِ) (متفق عليه)، ونزلت هذه الآية.
وأما الذين يريدون أن يفرِّقوا بين الشرك فيُبغَض، وبين المشركين فيُحبون ويُوادون؛ كأن الشرك شيءٌ في الهواء ليس له ارتباط بالأرض وبالأشخاص؛ فهذا مِن أبطل الباطل! كما دخل أحدهم في مداخلة هاتفية في حوارٍ كان بيني وبين أحد القساوسة، وكان يطعن في الدعوة السلفية، ويزعم أنها تأمر بقتل النصارى والاعتداء على أموالهم وكنائسهم، فدخلت في المداخلة، وقلتُ له: إن هذا الكلام كذب. فنحن لا نأمر بقتل النصارى، ولا نجيز ذلك؛ لأنهم مُعَاهَدون معصومون، ولا نعتدي على كنائسهم ولا على أموالهم، بل حمينا أنفسهم وأملاكهم ومحلاتهم أثناء الفوضى التي حَدَثَتْ بعد انهيار الشرطة في يوم 28 يناير 2011م، فتعرَّضتِ المحلات للنهب والسطو، فقلنا: أننا سنحمي بيوت وأملاك ومحلات المسلمين والنصارى ضد من يسطو عليها. فقال: دعنا من ذلك، وسأسألك سؤالًا: هل تحبني؟ فقلتُ له: لا يمكنني أن أحب مَن يكذِّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويكذب القرآن.
فدخل هذا المنتسِب للعِلْم والدعوة، وهو صوفي أشعري -فيما يزعم-، فقال للقس: إني أحبك جدًّا يا أنبا فلان، وإن كنتُ لا أوافق على دينك، أو نحو ذلك!
وكذا آخر كَثُرت كتابته في حبِّ جميع البشر؛ مسلمهم وكافرهم، وإنما نعتقد بطلان عقائدهم، ثم تدرَّج به الحالُ في مقتل الصحفية "شيرين أبو عاقلة"، فقال هو وغيره بأنها شهيدة، وأنه لا يلزم وصف الإسلام للحكم على شخصٍ بالشهادة، وجوزوا، بل استحبوا الترحم عليهم، مع أن الترحم أعظم من الاستغفار الذي نهى الله -عز وجل عنه- في القرآن! بل واستنكروا على المنكرين للترحم والدعاء للكفار، وقد رحلوا عن هذه الدنيا على الكفر؛ فلم يبقَ مِن الترحم إلا طلب الرحمة في الآخرة، وهذه ليس لها معنى إلا دخول الجنة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا ‌يَدْخُلُ ‌الْجَنَّةَ ‌إِلَّا ‌نَفْسٌ ‌مُسْلِمَةٌ) (متفق عليه).
فالاستغفار يعني عدم المعاقبة على الذنوب وسترها، وقد قال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يَغْفِرُ ‌أَنْ ‌يُشْرَكَ ‌بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، وأما الترحم فمعناه: نيل الرحمة وليس فقط ترك المعاقبة، والجنة رحمة الله في الآخرة.
وذاك الآخر الذي ترحَّم على بابا الفاتيكان حين هلك، وأثنى عليه لخدمة دينه!
وكل هذا الباطل المنكر الذي وَقَع فيه هؤلاء، وغيرهم المئات أو آلاف، وتبعهم ربما ملايين؛ بسبب فصلهم بين الشرك والمشركين، واعتبارهم محبوبين لا مانع من مودتهم وموالاتهم إذا كنا نتبرأ من الشرك!
وزعموا أن هذا من البر والقسط، وليس هذا من معنى البر ولا القسط؛ فإن الموافقة على الباطل ومحبة أهله هي مِن الموالاة التي نَهَى الله عنها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا ‌بَرِيءٌ ‌مِنْ ‌كُلِّ ‌مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
والمجمع عليه بين المسلمين: عدم جواز التوادِّ والحب، والترحم والاستغفار للمشركين؛ قال -تعالى-: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ) (المجادلة: 22).
فرغم وجود المودة الطبيعية بالأبوة والبنوة والأخوة، والعشيرة، ومع ذلك أوجب الله -عز وجل- على المؤمنين أن لا يودوا الكفار؛ بسبب كفرهم، وقال -سبحانه وتعالى-: (‌مَا ‌كَانَ ‌لِلنَّبِيِّ ‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌أَنْ ‌يَسْتَغْفِرُوا ‌لِلْمُشْرِكِينَ ‌وَلَوْ ‌كَانُوا ‌أُولِي ‌قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي: بموت أبيه على الكفر (تَبَرَّأَ مِنْهُ).
وقال -سبحانه وتعالى- في أبي طالب لما مات على الكفر، واستغفر له النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل نزول النهي: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ? وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56).
فرغم وجود المحبة الفطرية؛ لكونه عمه، ولكونه كان يدافع عنه؛ إلا أن الله نهاه عن الاستغفار والدعاء له، وأخبر أنه من أصحاب الجحيم.
ولا يتصور التفريق بين الشرك والمشركين؛ إلا في مسلم نطق الشهادتين، واعتقد التوحيد إجمالًا، ونبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إجمالًا ثم جهل، أو تأول، أو أخطأ، أو أُكْرِه على كفر أو شرك؛ فقاله أو فعله أو اعتقده؛ فهو معذور في أمر التكفير: بالخطأ، والإكراه، والنسيان، والجهل، والتأويل، وكذا الصغر، والجنون؛ لنصوص الأحاديث الصحيحة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ ‌حَتَّى ‌يَحْتَلِمَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي: الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، ‌وَمَا ‌اسْتُكْرِهُوا ‌عَلَيْهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) (الأنعام: 19)، فلا بد أن يبلغه القرآن حتى يكون منْذَرًا؛ وإلا كان معذورًا بجهله؛ لعدم البلاغ.
أما مَن بلغته الحجة، وانتفت عنه الأعذار؛ لاستيفاء شروط التكفير وانتفاء موانعه، فلا بد أن يُعامَل بناءً على ذلك الكفر، ووجبتِ البراءةُ منه، وإظهار العداوة والبغضاء أبدًا حتى يؤمنَ بالله وحده.
ولا بد أن يعلمَ في هذا المقام: أن المسالمة وترك القتال حتى ولو بالدخول في سلطان الإسلام بأوثق المواثيق: بعقد الذمة وبذل الجزية؛ فضلًا عمَّا دون ذلك من العهود: كالهدنة، والأمان، والعهد المطلق؛ هذه العهود لا تنهي العداوة والبغضاء، وإنما تنهي استباحة الدماء والأموال؛ فإن قضيةَ الموالاة ليست مرتبطة بكونهم مسالمين أو محاربين، وإن كانت العداوة للمحاربين أعظم، لكن الحب والرضا، والمتابعة والطاعة، والتشبه بهم، والصداقة لا تحصل لأحدٍ حتى يؤمن بالله وحده، ويتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، مع أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ممَّن أُمِر بقتالٍ أو استباحةِ أموال الكفار، فلا يُتصوَّر أن المقصود هو ترك القتال؛ لأنه لم يكن شرع، وإنما المأمور به ترك الموالاة، وبقاء العداوة والبغضاء وإظهارها، واعتقاد الكفر فيهم حتى يؤمنوا بالله وحده، كما نَصَّتِ الآيةُ الكريمةُ. والله أعلم.


ابوالوليد المسلم 20-10-2024 03:47 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (115) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (19)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) تضمَّن أنهم جادلوه في توحيد الله وبطلان عبادة آلهتهم؛ يريدون إثبات أن آلهتهم خير من إلهه وأولى بالعبادة منه، وقد جادلهم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بإقامة الحجة؛ رغم غرابة محاججتهم عن عقيدة باطلة، يظهر لكلِّ عاقل بطلانها، واستفهامه عن محاججتهم إياه للإنكار والتعجب! وبالفعل والله إنه لأمر عجيب أن تجدَ مَن يجادل عن الباطل، ويطلب إقامة الحجة على عبادة الأصنام المنحوتة بأيديهم التي لا تنطق، وهم يعلمون أنها لا تنطق، ولا تهدي سبيلًا! ولا أرجل لهم يمشون بها، ولا أيدي لهم يبطشون بها، ولا أعين لهم يبصرون بها، ولا آذان لهم يسمعون بها، ثم يخوِّفونه بها أن تصيبه بسوءٍ وأذى كخبلٍ أو جنونٍ، أو مرض، أو قتل، وهي لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شيئًا، كما قال قوم هود -عليه السلام- له: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (هود:54-56).
وكلما مَرَّ المرء على هذا الموضع، يتعجب فعلًا من مجادلة أهل الباطل عن باطلهم في كلِّ زمان مع وضوح الأمر، ولكنه الخذلان، وعدم التوفيق وعدم الهداية من الله، والطبع على القلوب والعقول حتى تظن الحق باطلًا والباطل حقًّا إلى هذه الدرجة!
وإلى يومنا هذا يجادلُ أهلُ الباطل عن باطلهم -رغم البيان التام-؛ فالملحدون يجادلون عن إلحادهم، رغم أن قضيةَ إثبات فعلٍ بلا فاعلٍ، أو لجمادات الطبيعة التي يشاهدون كلَّ لحظة عجزها أشد من جهالة قوم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في عبادة أصنامهم، مع أن الباحثين عن الآثار لو وجدوا تمثالًا مدفونًا في الأرض؛ لقالوا: بالتأكيد نحته الفراعنة، أو اليونان، أو الرومان، ولم يقولوا نحتته الطبيعة! فكيف بهذا الخلق العظيم؟! (‌وَفِي ‌أَنْفُسِكُمْ ‌أَفَلَا ‌تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21)، وكيف بخلق السماوات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس؟!
وعُبَّاد البقر: يجادلون إلى يومنا هذا عن فضل الأبقار واستحقاقها للعبادة؛ رغم أنها موجودة في الجاموس والإبل، وربما منافع فيهما أكثر، ومع ذلك يذبحون الجاموس، ويذبحون مَن ذبح البقرة، ويمنعون المسلمين من الصلاة في مساجدهم! رغم أن الهند كلها كانت مملكة للمسلمين، حتى جاء الاحتلال البريطاني فغيَّر وبدَّل ومكَّن الهندوس، مع أن بعض بلاد المسلمين أسسوا لهم معابد هندوسية شركية؛ لإظهار التسامح المزعوم مع الشرك بالله وعبادة غيره، بل يجامل أحدهم ويداهن في الدِّين بأن يوشوش البقرة المقدسة -بزعمهم!- كما وشوشتها المرأة التي تطلب منها ما تريد، وتدعوها من دون الله! ففعل الضال فعلها مداهنة لهم، ومجاملة للباطل!
واليهود: يجادلون عن باطلهم في تكذيب عيسى ومحمد -صلى الله عليهما وسلم-، وأن الأمة اليهودية فقط هي المستحقة للدِّين، وباقي البشر يجب أن يكونوا عبيد العبيد لهم؛ رغم أن المسلمين العرب ساميون مثلهم، وأدلة نبوة عيسى وموسى -صلى الله عليه وسلم- أعظم الأدلة، وهي موجودة عندهم في التوراة والإنجيل، ويقرأون أن الله -عز وجل- يستعلن من جبال فران، وجبال فران هي جبال الجزيرة العربية التي نزل نور الوحي فيها على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- في مكة أولًا ثم المدينة، وأجدادهم قد أتوا إلى يثرب فرارًا من بختنصر انتظارًا للنبي الموعد الذي يعلن كلَّ الحقائق عن الله -عز وجل-، وكمال الشريعة الإسلامية؛ عقيدة وعبادة ومعاملة، وأخلاقًا وسلوكًا، وتطهيرًا للقلوب من أمراضها، وإحياءً لها: بمعرفة الله ومحبته، وعبادته، وخوفه ورجائه، لا ينازع فيها عاقل، بالمقارنة إلى كل الكتب السابقة.
والنصارى: يجادلون عن باطلهم في ألوهية المسيح والروح القدس؛ رغم أنهم يقرأون نصوص التوراة والإنجيل، بل وأقوال المسيح نفسه إلى الآن في أناجيلهم بعد التحريف، بإثبات التوحيد وبطلان الشرك، ولعن المصلوبين، وقبول الله توبة التائبين قبل نزول المسيح دون ذبيحة إلهية، ودون ارتكاب جريمة أعظم من كلِّ خطايا البشر ابتداءً من الأكل من الشجرة -بزعمهم!- بصلب الإله ابن الإله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا؛ رغم أنهم سمعوا وقرأوا قول المسيح -صلى الله عليه وسلم- لما سُئِل: "أي الوصايا هي أول الكل؟ قال: الرب إلهنا رب واحد، كما هو مكتوب، رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب".
ومع كل ذلك يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ويهمون بأهل الحق كي يأخذوهم، ويوشك الله أن يأخذهم، كما أخذ مَن أرادوا أن يطفئوا نور الله في دعوة الرسل، بأخذ الرسل أو قتلهم، أو أسرهم، أو إخراجهم؛ لإبطال دعوتهم؛ فأخذهم الله؛ فكيف كان عقابه لهم؟!
ومع كل هذا، فنحن مأمورون بالجدال بالتي هي أحسن؛ إقامة لحجج الله على عبادة، كما قال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ‌بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، وقال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت: 46).
فالدعوة إلى الله، وإقامة الحجة على الناس؛ مِن أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ ‌حُجَّةٌ بَعْدَ ‌الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165)، ولأنه -عز وجل- عزيز حكيم؛ فهو يحب العذر، ولا يعذِّب أحدًا إلا بعد بلوغ الحجة وثبوت المحجة، ويقوم بإظهار الحجة والمجادلة بالتي هي أحسن ورثة الرسل مِن العلماء الأتقياء، الصالحين المصلحين.
الفائدة الثانية:
قوله -صلى الله عليه وسلم- كما في الآية الكريمة: (وَقَدْ هَدَانِ): فيه شهود فضل الله ونعمته العظيمة على عبده المؤمن بالهداية؛ هداية التوفيق والإسعاد بمعرفة التوحيد وبطلان الشرك، وإثبات النبوة والرسالة للأنبياء، ولا يدخل أحدٌ الجنةَ إلا وهو شاهد لهذه الهداية، قال تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . ‌وَنَزَعْنَا ‌مَا ‌فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 42-43).
وقد تكرَّر هذا المعنى من كلام إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وغيره من الرسل، قال -تعالى- عن إبراهيم: (قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء: 75-80)، الآيات.
وقال -سبحانه وتعالى- عن الرسل في مجادلتهم لقومهم: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم: 10-12).
وقال -سبحانه وتعالى- لنبيه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161).
وهذا الشهود لفضل الله بالإيمان تحقيق للإيمان بالقدر، فالاهتداء الذي هو فعل العبد، قد خلقه الله فيه بفضله ومنِّه، والعبد فاعلٌ الاهتداء والله فاعلٌ للهدى، الله هداه، فالله خَلَق الهدى في قلب عبده المؤمن، وخلق الضلال في قلب الضال الكافر، وهو أعلم بالشاكرين وهو أعلم بالظالمين، ولولا أن الله أضلهم ما حاجوا أنبياءهم ورسلهم في أوضح اليقينيات.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 28-11-2024 04:48 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (116)

دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (20)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فيه فوائد:
الفائدة الثالثة:
قوله -عليه الصلاة والسلام-: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، فيه دليل على حرمة الخوف من غير الله، فإن كان ما يُخَوَّف به العبدُ من الطواغيت والآلهة التي يعبدها المشركون، وهي في ظاهر حسِّ الإنسان وعقلِه مع أدلة الشرع لا تملك شيئًا، ولا تصنع شيئًا، فمَن يخافها يخافها بخوف سري وطاعة باطنة، ويتقرَّب بالخوف منها إليها؛ فهو خوف شركي ينافي أصل الإيمان.
قال -تعالى-: (‌فَلَا ‌تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، فدل على من خاف هذه الآلهة لم يكن مؤمناً وقال -تعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ ‌بِكَافٍ ‌عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 36)، فلا أضل مِن خوف عبدٍ مِن طواغيت وآلهة وأصنام، لا تملك له شيئًا؛ قد أضله الله -عز وجل- فاعتقد خوفهم!
وهذا يدخل فيه: الخوف من القبر وصاحبه؛ أن يصيبه بأذى أو ضر، إذا لم يذهب لزيارته وتعظيمه، والطواف حوله، والذل بين يديه، ودعائه، وطلب قضاء الحاجة منه!
وللأسف: هذا ينتشر بين كثيرٍ مِن عُبَّاد القبور المنتسِبين للإسلام؛ بجهلهم، واتباعهم لأحبارهم ورهبانهم وعلماء السوء الذين صوَّروا لهم أن هؤلاء المقبورين هم الذين يدبِّرون الكون، ويملكون الضر والنفع، والشفاء والمرض، والفقر والغنى، والهزيمة والنصر، والإهلاك والحفظ، وكل ذلك مِن شرك الربوبية الذي أدَّى إلى شرك الألوهية بحصول الخوف من دون الله، دون أسبابٍ ظاهرهٍ، وعادة غالبة، وهم يخوِّفون مَن يخالفهم بأن أصحاب القبور سوف يؤذونهم؛ لأنهم ينهون عن سؤالهم وعبادتهم، وكذلك مَن يخوِّفون الناس من الجن، ويدفعونهم إلى طاعتهم المزعومة بالتقرُّب إليهم بالذبح والنذر، والتذلل والتضرع، وتسميتهم أسيادًا، ودعائهم، وطلب دفع الضر ورفعه عنهم، ومقاتلة أعدائهم من الجن أو غيرهم!
وقد يستجيبون لهم في مطالب كفرية، يطلبها أولياء الشيطان وعُبَّاد الطواغيت من السحرة والكهنة، كأن يكتبوا القرآن بالنجاسة: كالبول والمني؛ مما يسمونه: السحر السفلي، وكالسجود للجن، وكرفع الصليب على رأسه وصدره؛ ليحققوا له ما يريد مِن الأمن وقضاء الحاجات!
ووالله، إن هذا الذي يفعله السحرة والكهنة والدجالون، وما يفعله الناس عندهم؛ لهو من جنس ما يفعله عباد الأوثان الذين حكى الله لنا حالهم بقوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (الجن: 6)، وقد كان أحدهم إذا نزل منزلًا يقول: "أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه"؛ فإن لم يفعل أخذوا متاعه، وربما ألقوه هو شخصيًّا بعيدًا، فزادهم ذلك التعظيم من الإنس إرعابًا للإنس وتلاعبًا بهم، وإرهاقًا لهم، بل والله إن ما يحدث عند السحرة والدجالين في زماننا؛ لهو شر من ذلك؛ فإنهم يطلبون منهم ما هو عبادة صريحة، ويطلبون منهم ما هو كفر صريح -والعياذ بالله-، وقد أبدلنا الله -عز وجل- الذِّكر الحسن العظيم من هذه التُّرهات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌نَزَلَ ‌مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ ‌بِكَلِمَاتِ ‌اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ) (رواه مسلم).
وهذا لأن اللجوء والاستعاذة إنما تكون إلى الله -عز وجل- وبالله، وبأسمائه وصفاته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وكثيرٌ من الناس -للأسف- يعلِّم أولاده الخوف من العفاريت وأنواع الجان، فينشأ الأولاد على هذا الخوف الوهمي الخطير الذي إذا اقترن بالطاعة الباطنة والتعظيم الباطن والتقرُّب إليهم، كان شركًا أكبر -والعياذ بالله- إذا فعلوه بعد البلوغ.
وأما الخوف بسبب الأمور الظاهرة: كحرب عُبَّاد الأوثان والطواغيت، ومكرهم وكيدهم؛ فإن هذا الخوف إذا انعقدت أسبابه وظهرت، كان خوفًا طبيعيًّا لا عباديًّا، ككلِّ خوفٍ مِن الأعداء، وما يؤذي من الحيوانات المفترسة، والدواب والهوام السامة، وغيرها، وهذا لا يكون شركًا، بل وقد لا يكون محرمًا، بل قد وَقَع من الأنبياء شيء منه، لكنه لا يستقر في القلب بقوة التوكل على الله، واللجوء إليه -سبحانه-، قال -تعالى- عن موسى وهارون: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى . قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 45-46)، فعلَّمهما الله -عز وجل- إذهاب ذلك الخوف باستحضار معية الله -عز وجل-، وأنه -سبحانه- الذي يسمع كلامهما وكلام أعدائهما، ويرى أعمالهما وأعمال أعدائهما، ويعلم أنهما إنما قاما لنصرة دينه، وأن أعداءه يحاربون دينه، وكما قال -سبحانه وتعالى-: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى . قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى . وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه: 67-69)، وقال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه الصلاة والسلام-: (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء: 21).
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خاف قومًا قال: (اللَّهُمَّ ‌إِنَّا ‌نَجْعَلُكَ ‌فِي ‌نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
فدلَّ على أنه قد يقع في القلب ابتداءً مع كمال الإيمان، وقد أرشد الشرع إلى التوكل على الله؛ لدفع ضرر مَن يُخْشَى ضرره، وحَذَّر مِن استقراره في القلب ونهى عنه؛ حتى لا يترك الإنسانُ اتباعَ رضوانِ الله، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 173-175).
فإذا نقص توكل العبد حتى استقر الخوف في قلبه من أعدائه؛ كان جبنًا مذمومًا، ثم لو أدَّى إلى ترك واجبٍ: كترك الجهاد بالفرار من الزحف، أو فعل محرم دون إكراهٍ معتبر شرعًا؛ كان خوفًا محرمًا، فإن كانت هذه المعصية كفرًا ولم يكن هناك إكراه معتبر؛ كان خوفًا كفريًّا، وفعله الكفر كفرًا، كمَن يتصور أن أعداءه من الظالمين يريدون منه تركَ الإسلام وسبَّ الدِّين ليتركوه دون أذى، فيعلن كفره ويسب الدِّين، ويقرِّب الذباب لأوثانهم ولو لم يعرضوه على إكراه! لحقارة النفس، وانهيار الإيمان في القلب، وانعدام التوكل على الله -والعياذ بالله من ذلك-.
اللهم إننا نجعلك في نحور الظالمين، ونعوذ بك من شرورهم. والله المستعان.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 28-11-2024 04:49 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (117)

دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (21)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
في قوله -تعالى-: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فوائد:
الفائدة الرابعة:
قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، الاستثناء هنا منقطع عند جمهور المفسِّرين، والمعنى: لا أخاف ما تشركون به؛ إلا لو شاء الله أن يصيبني بضر أو شيء؛ فهو الذي يكون، وليس للآلهة الباطلة صنع فيه، فيكون دالًّا على كمال التعلُّق بالله وصدق التوكل عليه في جلب المناقع ودفع المضار؛ لأن كلَّ مَن سواه لا يملك شيئًا؛ لا ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا؛ لا لنفسه ولا لغيره، كما قال -تعالى-: (‌وَإِنْ ‌يَمْسَسْكَ ‌اللَّهُ ‌بِضُرٍّ ‌فَلَا ‌كَاشِفَ ‌لَهُ ‌إِلَّا ‌هُوَ ‌وَإِنْ ‌يَمْسَسْكَ ‌بِخَيْرٍ ‌فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام: 17-18)، وقال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تَدْعُ ‌مِنْ ‌دُونِ ‌اللَّهِ ‌مَا ‌لَا ‌يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ . وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس: 106- 107).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، ‌رُفِعَتِ ‌الأَقْلَامُ ‌وَجَفَّتْ ‌الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -سبحانه-: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) (الفرقان: 3).
وهناك قول آخر في تفسير الآية ذكره القرطبي وغيره، فقال -رحمه الله-: "والهاء في (بِهِ) يحتمل أن تكون لله -عز وجل-، ويجوز أن تكون للمعبود. وقال: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) يعني أن الله -تعالى- لا يشاء أن أخافهم.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: "وَقَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقَدْ جَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنْ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الطَّبَرِيِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ يَخَافُ إِضْرَارَ آلِهَتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ السَّامِعُونَ أَنَّهُ لَا يَخَافُ شَيْئًا، اسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ، أَيْ: لَكِنْ أَخَافُ مَشِيئَةَ رَبِّي شَيْئًا مِمَّا أَخَافُهُ، فَذَلِكَ أَخَافُهُ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ لِقَوْمِهِ إِذْ كَانَ لَا يَخَافُ آلِهَتَهُمْ فِي حِينِ أَنَّهُ يَخْشَى رَبَّهُ الْمُسْتَحِقَّ لِلْخَشْيَةِ أنْ كَانَ قَوْمُهُ لَا يَعْتَرِفُونَ بِرَبٍّ غَيْرِ آلِهَتِهِمْ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُتَابِعُوهُ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا مُفْرَغًا عَنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَوْقَاتٍ، أَيْ: لَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ أَبَدًا، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَنْفِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى وَجْهِ عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ كَالنَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ، أَيْ: إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا أَخَافُهُ مِنْ شُرَكَائِكُمْ، أَيْ: بِأَنْ يُسَلِّطَ رَبِّي بَعْضَهَا عَلَيَّ فَذَلِكَ مِنْ قُدْرَةِ رَبِّي بِوَاسِطَتِهَا لَا مِنْ قُدْرَتِهَا عَلَيَّ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَحْوَالًا عَامَّةً، أَيْ: إِلَّا حَالَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا أَخَافُهُ مِنْهَا".
وهذا المعنى المحتمل هو مثل ظاهر قوله -تعالى- عن شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (‌قَدِ ‌افْتَرَيْنَا ‌عَلَى ‌اللَّهِ ‌كَذِبًا ‌إِنْ ‌عُدْنَا ‌فِي ‌مِلَّتِكُمْ ‌بَعْدَ ‌إِذْ ‌نَجَّانَا ‌اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (الأعراف: 89).
قال ابن جرير -رحمه الله-: "يقول جلَّ ثناؤه: قال شعيب لقومه إذ دعوه إلى العود إلى ملتهم والدخول فيها، وتوعَّدوه بطرده ومَنْ تبعه مِن قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم: (‌قَدِ ‌افْتَرَيْنَا ‌عَلَى ‌اللَّهِ ‌كَذِبًا)، يقول: قد اختلقنا على الله كذبًا، وتخرَّصنا عليه من القول باطلًا إن نحن عدنا في ملتكم، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله منها، بأن بصَّرنا خطأها وصوابَ الهدى الذي نحن عليه، وما يكون لنا أن نرجع فيها فندين بها ونترك الحق الذي نحن عليه (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنّا نعود فيها، فيمضي فينا حينئذٍ قضاء الله، فينفذ مشيئته علينا.
(وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، يقول: فإن علم ربنا وسع كل شيء فأحاط به، فلا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن؛ فإن يكن سبق لنا في علمه أنَّا نعود في ملتكم، ولا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن؛ فلا بد مِن أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا فنحن غير عائدين في ملتكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ثم ذكر بسنده عن السدي في الآية: يقول: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا)، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد عَلِم شيئًا، فإنه وسع كل شيء علمًا" (انتهى).
قلتُ: وقوله: إن الله لا يشاء الشرك، أي: شرعًا، مع أن لفظ المشيئة لم يرد في معنا الإرادة الشرعية، وإنما ورد في الإرادة الكونية، وقد كثر ذلك في كتاب الله -عز وجل-، وقال -عز وجل-: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام: 149)، وقال -سبحانه-: (‌وَلَوْ ‌شَاءَ ‌اللَّهُ ‌مَا ‌أَشْرَكُوا) (الأنعام: 107).
وهذا المعنى من معاني التوكل على الله في الثبات على الدِّين، وشهود نفوذ مشيئة الله في إيمان المؤمن وكفر الكافر، وشهود العلم والمشيئة من الله ربنا -سبحانه وتعالى- في تدبير أعمال قلوب عباده وعقائدهم، وتقليب قلوبهم، واجب من واجبات الإيمان، فنحن لا نثق في أنفسنا في الثبات على الدين إلا بالله -عز وجل-، (‌وَمَا ‌كُنَّا ‌لِنَهْتَدِيَ ‌لَوْلَا ‌أَنْ ‌هَدَانَا ‌اللَّهُ) (الأعراف: 43)، وكما قال الصحابة والنبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ ‌مَا ‌اهْتَدَيْنَا، ‌وَلَا ‌صُمْنَا ‌وَلَا ‌صَلَّيْنَا) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا ‌الْجَنَّةَ ‌عَمَلُهُ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ) (متفق عليه)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: (يَا ‌مُقَلِّبَ ‌القُلُوبِ ‌ثَبِّتْ ‌قَلْبِي ‌عَلَى ‌دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وكان أكثر قَسَمِه -صلى الله عليه وسلم-: "لا ومقلب القلوب"، وكان يقول: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ‌صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى ‌طَاعَتِكَ) (رواه مسلم).
وقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ‌لِمَا ‌يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24)، فالعبد يأخذ بالأسباب من العمل الصالح بالاستجابة لأمر الله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، في الطاعات واجتناب المعاصي، ولكنه لا يتوكل على عمله، بل على ربِّه الذي وَسِع كل شيء عِلْمًا؛ فهو وحده الذي يحول بيننا وبين الكفر والفسوق والعصيان، وكم مِن أناسٍ عَمِلوا بالطاعة ثم انقلبوا، قال الله -تعالى-: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ‌اللَّهُ ‌لَكُمُ ‌الْآيَاتِ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: 266).
وهذا مَثَل ضربه الله للفساد بعد الصلاح، وللحور بعد الكور؛ نعوذ بالله من الحور بعد الكور، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوله في دعاء العودة من السفر، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، ‌فَيَسْبِقُ ‌عَلَيْهِ ‌الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، ‌فَيَسْبِقُ ‌عَلَيْهِ ‌الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) (متفق عليه).
وهذا المعنى وإن لم يُشِر إليه أكثر المفسرين في تفسير قول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)؛ إلا أنه معنى صحيح في نفسه، عظيم الأهمية في حياة المؤمن، وفي نظره لنفسه، وخوفه من أن يقدِّر الله عليه الكفر والردة، وسوء الخاتمة، وهو يزيل العجب بالعمل، وتوهم الكمال فيه، وتزكية النفس المذمومة، كما قال الله -تعالى-: (‌أَلَمْ ‌تَرَ ‌إِلَى ‌الَّذِينَ ‌يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (النساء: 49).
فاللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك.


ابوالوليد المسلم 28-11-2024 04:50 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (118)

دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (22)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
لما كان المؤمن يخاف مِن الله وحده؛ فإن الله يؤمِّنه مِن كلِّ مَن سواه فهو يعيش في أمن مع الإيمان؛ فالأمن والإيمان قرينان، والشرك والظلم والخوف قرينان، فالمؤمن في دنياه آمن حتى لو انعقدت أسباب الخوف الطبيعي، فإن الله يدفعها عنه بالتوكل، فيعيش -بفضل الله- آمنًا، وكذلك يكون آمنًا عند احتضاره: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌قَالُوا ‌رَبُّنَا ‌اللَّهُ ‌ثُمَّ ‌اسْتَقَامُوا ‌تَتَنَزَّلُ ‌عَلَيْهِمُ ‌الْمَلَائِكَةُ ‌أَلَّا ‌تَخَافُوا ‌وَلَا ‌تَحْزَنُوا ‌وَأَبْشِرُوا ‌بِالْجَنَّةِ ‌الَّتِي ‌كُنْتُمْ ‌تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت: 30-32).
وقد ورد في تفسيرها أنها تتنزل على المؤمن عند الاحتضار، وهذا الذي رجحه ابن جرير، وورد أيضاً أنها تتنزل على المؤمن عند خروجه من القبر، والصحيح أن الآية تتضمن الموضعين.
قال ابن كثير -رحمه الله- بعد أن ذكر أقوال القائلين بأنها عند الاحتضار وعند القيامة: "وقال زيد بن أسلم: يبشِّرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث. رواه ابن أبي حاتم. وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جدا، وهو الواقع".
وكذلك يكون المؤمن آمنًا في قبره، قال الله -تعالى-: (‌يُثَبِّتُ ‌اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: 27).
وأعمال المؤمن الصالحة تدفع عنه كل أسباب الخوف والضرر.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِنَّ ‌الْمَيِّتَ ‌إِذَا ‌وُضِعَ ‌فِي ‌قَبْرِهِ ‌إِنَّهُ ‌يَسْمَعُ ‌خَفْقَ ‌نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَتَقُولُ فَعَلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ فَيَجْلِسُ، وَقَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وَقَدْ أُدْنِيَتْ لِلْغُرُوبِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، أَخْبَرَنِي عَمَّا نَسْأَلُكُ عَنْهُ، أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ؟ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا لَوْ عَصَيْتَهُ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، وَيُعَادُ الْجَسَدُ لِمَا بَدَأَ مِنْهُ، فَتَجْعَلُ نَسْمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطَّيِّبِ وَهِيَ طَيْرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (‌يُثَبِّتُ ‌اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: 27).
قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ شِمَالِهِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ خَائِفًا مَرْعُوبًا، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشَهَّدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: أَيُّ رَجُلٍ؟ فَيُقَالُ: الَّذِي كَانَ فِيكُمْ، فَلَا يَهْتَدِي لِاسْمِهِ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ قَالُوا قَوْلًا، فَقُلْتُ كَمَا قَالَ النَّاسُ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ، وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُكَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهِ لَوْ أَطَعْتَهُ فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، ثُمَّ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، فَتِلْكَ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).
وعن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في صفة بالمدينة، فقال: إني رأيت البارحة عجبًا! رأيت رجلًا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه. ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاء ذكر الله فطير الشياطين عنه. ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم. ورأيت رجلًا من أمتي يلهث عطشًا، كلما دنا من حوض مُنع وطُرد، فجاءه صيامه شهر رمضان فأسقاه وأرواه.
ورأيت رجلًا من أمتي ورأيت النبيين جلوسًا حلقًا حلقًا، كلما دنا إلى حلقة طُرد ومُنع، فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي. ورأيت رجلًا من أمتي من بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن يساره ظلمة، ومن فوقه ظلمة، وهو متحير في ذلك، فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور.
ورأيت رجلًا من أمتي يتقي وهج النار وشررها، فجاءته صدقته فصارت سترًا بينه وبين النار وظِلًّا على رأسه. ورأيت رجلًا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءته صلته لرحمه فقالت: يا معشر المؤمنين، إنه كان وَصًولًا لرحمه، فكلِّموه، فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم.
ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشته الزبانية، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم، وأدخله في ملائكة الرحمة. ورأيت رجلًا من أمتي جاثيًا على ركبتيه، وبينه وبين الله حجاب، فجاءه حسن خلقه، فأخذ بيده فأدخله على الله -عز وجل-. ورأيت رجلًا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قِبَل شماله، فجاءه خوفه من الله -عز وجل- فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه. ورأيت رجلًا من أمتي قد خف ميزانه، فجاءه أفراطه -(أي: أولاده الذين ماتوا صغارًا)- فثقلوا ميزانه.
ورأيت رجلًا من أمتي قائمًا على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه من الله -عز وجل-، فاستنقذه من ذلك ومضى. ورأيت رجلًا من أمتي قد هوى في النار، فجاءته دمعته التي قد بكى من خشية الله -عز وجل- فاستنقذته من ذلك. ورأيت رجلًا من أمتي قائمًا على الصراط، يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه بالله -عز وجل- فسَكَّن رعدته ومضى.
ورأيت رجلًا من أمتي يزحف على الصراط، يحبو أحيانًا ويتعلق أحيانًا، فجاءته صلاته عليَّ فأقامته على قدميه وأنقذته. ورأيت رجلًا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة وغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة: "أن لا إله إلا الله" ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة"، وهذا الحديث قد ضعَّفه غيرُ واحدٍ من أهل العلم؛ إلا أن له شواهد كثيرة في أحاديث متعددة؛ ولذا استحسنه رغم ضعف الإسناد جماعة من أهل العلم؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: "قال الحافظ أبو موسى: هذا حديث حسن جدًّا"، وقال في الوابل الصيب نحوًا من ذلك.
وكذلك يكون آمنًا يوم القيامة من ساعة قيامه من قبره، كما ذكرنا القول بذلك في تفسير قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)، وقد قال -تعالى-: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ ‌يَأْتِي ‌آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (فصلت: 40)، وقال -تعالى-: (‌مَنْ ‌جَاءَ ‌بِالْحَسَنَةِ ‌فَلَهُ ‌خَيْرٌ ‌مِنْهَا ‌وَهُمْ ‌مِنْ ‌فَزَعٍ ‌يَوْمَئِذٍ ‌آمِنُونَ) (النمل:89).
وأعظم أمان يأمنه المؤمن: أمان ربِّه -عز وجل-، حين ينادي عبادَه المؤمنين: (‌يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ . ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (الزخرف: 68-70).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 28-11-2024 04:51 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (119)

دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (23)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، فيه فوائد:
الفائدة الثانية:
أن الظلم وأعظمه الشرك؛ إذ هو الظلم الأكبر، فهو سبب الخوف في الدنيا، وفي القبر، وفي الآخرة، فأما في الدنيا: فحتى لو توفرت أسباب الأمن؛ فإن المشرك والظالم في خوفٍ بقدر ظلمه؛ لأن مَن لم يخف مِن الله أخافه الله من كلِّ شيء، قال الله -عز وجل-: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 151).
فتأمل كيف ذكر الله -عز وجل- أن سبب الخوف والرعب الفظيع الذي ألقي في قلوبهم هو الشرك بالله، وختم الآية بما يدل على أن الظلم هو السبب!
فدَلَّ ذلك على: أن كلَّ ظالم له مِن الخوف بقدر ظلمه نصيب، والمشركون لما كانوا ظالمين أنفسهم الظلم الأكبر، كان لهم النصيب الأكبر من الخوف؛ فهو الرعب الذي هو أشد الخوف، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (الأنفال: 12)، والله -عز وجل- قد نَصَر نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بالرعب، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (نُصِرْتُ ‌بِالرُّعْبِ ‌مَسِيرَةَ ‌شَهْرٍ) (متفق عليه).
ولقد أخبرني مَن أثق بهم عن أحد الظلمة الذي كان مشهورًا بظلم الناس وتعذيبهم، وإدخال الرعب عليهم في بيوتهم أنه أتى إليهم في الصحراء البعيدة، فنام عندهم، فلما استيقظ قال: "هذه أول ليلة أنام بغير منوم منذ ثلاث سنين!". نسال الله العافية.
هذا البلاء بسبب الظلم، أفظع وأشد مما يدخلونه في قلوب الناس من الخوف والرعب؛ رغم أن أسباب الأمن متوفرة، والحراسات عظيمة، ومع ذلك؛ فإن الشعور بالأمن إنما هو أمرٌ يقذفه الله -عز وجل- في القلب مع الإيمان، وأما مع الشرك فيكون الرعب والخوف من عند الله -عز وجل-؛ هو الذي يلقيه في القلوب، نعوذ بالله من ذلك.
وأما في القبر: فهو في أعظم فزعٍ مِن المَلَكَيْن اللذين يسألانه، وحين يقول: "لا أدري"؛ يضرب بمرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابًا، وأيضًا هو في فزع من الأصم الأعمى الذي يضربه، ومن الرجل السيئ الوجه الذي يأتيه، فيقول: "أنا عملك السيئ! أبشر بما يسوؤك".
روى الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا قُبِرَ المَيِّتُ -أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ- أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، ‌يُقَالُ ‌لِأَحَدِهِمَا: ‌الْمُنْكَرُ، ‌وَلِلْآخَرِ: ‌النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ، نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ، فَقُلْتُ مِثْلَهُ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلأَرْضِ: التَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ‌فِي ‌جَنَازَةِ ‌رَجُلٍ ‌مِنَ ‌الْأَنْصَارِ، ‌فَانْتَهَيْنَا ‌إِلَى ‌الْقَبْرِ ‌وَلَمَّا ‌يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، (وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ حِينَ يُقَالُ لَهُ: يَا هَذَا، مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟) قَالَ هَنَّادٌ: قَالَ: (وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَقُولَانِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ -زَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ-: فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ -عز وجل-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) (إبراهيم: 27)، الْآيَةُ ثُمَّ اتَّفَقَا- فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ) قَالَ: (وَيُفْتَحُ لَهُ فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ» قَالَ: (وَإِنَّ الْكَافِرَ) فَذَكَرَ مَوْتَهُ، قَالَ: (وَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ: لَهُ مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ) قَالَ: (فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا) قَالَ: (وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ) زَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ: (ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا) قَالَ: (فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، فَيَصِيرُ تُرَابًا) قَالَ: (ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)؛ فهذا أعظم الرعب والخوف الذي يصيب الكافر والظالم في قبره.
وأما في الآخرة: فقد قال -عز وجل-: (‌وَيَوْمَ ‌يُنْفَخُ ‌فِي ‌الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) (النمل: 87)، ففزع يوم القيامة أعظم الفزع، والخوف فيه أعظم الخوف، وهذا للمشرك والكافر؛ خوف لا ينتهي ولا يتوقف! نعوذ بالله مِن ذلك، ونسأل الله العافية.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 28-11-2024 04:52 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (120) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (24)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، فيه فوائد:
الفائدة الثالثة:
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لَمَّا نَزَلَتِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا ‌إِلَى ‌قَوْلِ ‌لُقْمَانَ ‌لِابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الذي شَقَّ عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه، هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء لمَن لم يظلم نفسه فشق لك عليهم، فبيَّن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله -تعالى-، وحينئذٍ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمَن يلبس إيمانه بهذا الظلم".
وهذا لا يمنع أن يؤاخذ أحدٌ بظلمه لنفسه بذنبٍ إذا لم يتب منه، كما دَلَّت عليه أدلة القرآن والسنة في أصحاب الكبائر، بل الذنوب جميعًا؛ قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ ‌نَارَ ‌جَهَنَّمَ ‌خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الجن: 23)، والآية وإن وردت في الشرك الأكبر أيضًا بدليل قوله -تعالى-: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يَغْفِرُ ‌أَنْ ‌يُشْرَكَ ‌بِهِ ‌وَيَغْفِرُ ‌مَا ‌دُونَ ‌ذَلِكَ ‌لِمَنْ ‌يَشَاءُ) (النساء: 48)؛ فهي تدل على خطر المعصية مطلقًا.
وقال الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌اجْتَنِبُوا ‌كَثِيرًا ‌مِنَ ‌الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات: 12)، وقال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا ‌بِحَرْبٍ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279).
وقال -عز وجل-: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . ‌يُضَاعَفْ ‌لَهُ ‌الْعَذَابُ ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان: 68-70)؛ فدَلَّ ذلك على استحقاق الزاني وقاتل النفس والمشرك لعذاب الله -سبحانه وتعالى-؛ إلا أنه لا يُخَلَّد في النار خلودًا أبديًّا إلا مَن مات على الشرك، كما دَلَّت عليه آية النساء: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يَغْفِرُ ‌أَنْ ‌يُشْرَكَ ‌بِهِ ‌وَيَغْفِرُ ‌مَا ‌دُونَ ‌ذَلِكَ ‌لِمَنْ ‌يَشَاءُ) (النساء: 48).
وقال -سبحانه وتعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ‌إِنَّ ‌قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا . وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا . وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء: 31-33)، إلى آخر السورة؛ فإن فيها عذاب أصحاب الذنوب، وتحمُّلهم الآثام بقدر ذنوبهم.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث في عذاب القبر: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ ‌يَمْشِي ‌بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ) (متفق عليه).
وأحاديث إخراج عصاة الموحِّدين من النار متواترة، وهي تتضمن دخول بعض الموحدين النار ثم خروجهم منها؛ لذا نقول: إن مَن سَلِم مِن أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومَن لم يسلم مِن ظلمه لنفسه كان له مطلق الأمن والاهتداء؛ بمعنى أصل الأمن، لا الأمن الكامل، أي: أنه لا بد أن يدخل الجنة، لكن قبل ذلك يحصل له مِن نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص مِن إيمانه بظلمه لنفسه.
فالظلم التام المطلق وهو الشرك، رافع لمطلق الأمن والاهتداء، ومزيل لأصلهما، ومطلق الظلم أي: ما دون الشرك رافع للأمن المطلق والاهتداء المطلق، أي: الكاملين التامين، والشرك ظلم العبد لنفسه بوضعها في غير موضعها في أعظم أمرٍ خُلِق من أجله، وهو عبودية الله -عز وجل-؛ فبدلًا من عبوديتها لله جعلها تَعْبُد مَن سواه، ولا يصح أن يُقَال: إن الشرك الأكبر ظلم لله، فالله أعلى وأعز من أن يَقْدِر العباد على ظلمه أو ضره أو نفعه، كما قال -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: (‌يَا ‌عِبَادِي ‌إِنَّكُمْ ‌لَنْ ‌تَبْلُغُوا ‌ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي) (رواه مسلم).
فعقائدهم الفاسدة لا تغيِّر من الحق شيئًا؛ قال الله -سبحانه وتعالى-: (‌وَمَا ‌ظَلَمُونَا ‌وَلَكِنْ ‌كَانُوا ‌أَنْفُسَهُمْ ‌يَظْلِمُونَ) (البقرة: 57)، وهذا الأمن والاهتداء لأهل الإيمان الخالص من الشرك يكون في الدنيا والآخرة؛ (‌أَلَا ‌بِذِكْرِ ‌اللَّهِ ‌تَطْمَئِنُّ ‌الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).
وهذه الآية -مع الحديث الشريف في سبب نزولها-: دليل على صحة العمل بمفهوم المخالفة؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- ظنوا أن مفهوم الآية: أن الذين آمنوا ولبسوا إيمانهم بظلم، أولئك ليس لهم أمن ولا اهتداء، فبيَّن لهم -صلى الله عليه وآله وسلم- أن هذا مِن العام الذي أُرِيد به الخاص؛ أن لفظة الظلم وَرَدَتْ في سياق النفي فهي في صيغة العموم، لكن أُرِيد به الخاص، وهو الظلم الأكبر بدلالة السُّنة، وهذا يتضمَّن أيضًا العمل بالعموم حتى يأتي المخصص أو يأتي الدليل الذي يدل على أنه عام أريد به الخاص.
ولا يجوز ادِّعَاء أن هذا العموم أُرِيد به الخصوص، أو أنه مخصص إلا بالدليل، وهذا الدليل ثابت من السنة، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أقرهم على العمل بالمفهوم، وأقرهم على العمل بالعموم حتى بيَّن لهم -صلى الله عليه وسلم- أنه أُرِيد به الخاص، ويبقى الاحتجاج على عذاب أصحاب الذنوب مستفادًا من دليل آخر، كما ذكرناه في بعض أدلة عذاب أصحاب الذنوب، وهي أكثر مِن أن تُحْصَى أو تُجمَع في هذا السياق.
وفي هذه الآية -مع هذا الحديث أيضًا-: دليل على أن القرآن لا يجوز تفسيرة إلا بالرجوع إلا السنة؛ فلو فُهِم بمقتضى اللغة العربية وحدها؛ لقلنا: إن أي ظلم للنفس يمنع الأمن والاهتداء بالكلية، وهذا باطل، وإنما هو على مذهب الخوراج، ولكن دَلَّت أدلة السنة بأن هذا -كما ذكرنا- من العام الذي أريد به الخاص، وكذلك دلت أدلة الكتاب والسنة على عذاب بعض أصحاب الذنوب دون أن يُخَلَّدوا في النار، فالذين يقولون: إن القرآن يفسَّر بمقتضى اللغة العربية دون رجوع إلى آيات القرآن وإلى أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ودون أقوال الصحابة، على شفا خطر عظيم، بل على بدعة ضلالة، لا بد وأن يفسَّر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين، وما اختلفوا فيه بعد ذلك فيرجَّح بمقتضى اللغة العربية، وليس أنه يُرجَع إلى تفسير القرآن إليها بمجردها دون نَظَرٍ في الأدلة الأربعة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



الساعة الآن : 02:38 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 417.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 416.04 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.42%)]