ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:37 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1874 الى صـ 1886
الحلقة (291)



[ ص: 1874 ] فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم. فتتأول هذه الآية: أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك، فسماهن باسم ما كن عليه. وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى. قال الله: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به وقوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وقوله تعالى: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله قالوا: سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز. وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول: قوله: ولا تنكحوا المشركات عام نخصه بقوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب أو نقول: أراد ب: المشركات الوثنيات وب: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ما أفاده الظاهر. أو يكون قوله: والمحصنات ناسخا لتحريم الكتابيات بقوله: ولا تنكحوا المشركات قلنا: نقابل ما ذكرتم بما روي، أن كعب بن مالك [ ص: 1875 ] أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «إنها لا تحصن ماءك» ; وروي أنه نهاه عن ذلك. وبأنا نتأول قوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب فنجمع ونقول: تخصيص المشركات ب: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب متراخ، والبيان لا يجوز أن يتراخى! قالوا: روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحل لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم، وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا» . قال في "الشفا": قال علماؤنا: هذا حديث ضعيف النقل. قالوا: قوله صلى الله عليه وسلم في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» الخبر. أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم. قلنا: الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول: كافرة فأشبهت الحربية، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة. أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس. قالوا: لا حكم للاعتبار مع الأدلة. انتهى بحروفه وهو فقه غريب.

وقوله تعالى: إذا آتيتموهن أجورهن أي: أعطيتموهن مهورهن. وتقييد الحل بإيتائها، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى، مبادرة لفراغ الذمة. فإن شغل الذمة بحق الآدمي أشد من شغلها بحق الله تعالى: محصنين متعففين: غير مسافحين أي: غير مجاهرين بالزنى: ولا متخذي أخدان مسرين به، و (الخدن) الصديق، يقع على الذكر والأنثى. وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار، لتبادره من الخدن وهو الصديق. وقيل: الأول نهي عن الزنى، والثاني نهي عن مخالطتهن. كذا في "العناية".

قال ابن كثير: كما شرط الإحصان في النساء - وهي العفة عن الزنى - كذلك شرطها في الرجال. وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا؛ ولهذا قال: غير مسافحين وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم: ولا متخذي أخدان أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن، كما تقدم في سورة النساء، سواء، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب، [ ص: 1876 ] وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف. وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى، لهذه الآية وللحديث: «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» .

وروى ابن جرير: أن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين! الشرك أعظم من ذلك. وقد يقبل منه إذا تاب.

وقوله تعالى: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين يريد ب (الإيمان) شرائع الإسلام. على أنه مصدر أريد به المؤمن به، ك (درهم ضرب الأمير). (الكفر) الإباء عنه وجحوده. والآية تذييل لقوله: اليوم أحل لكم الطيبات تعظيما لشأن ما أحله الله وما حرمه، وتغليظا على من خالف ذلك. كذلك في "العناية".
القول في تأويل قوله تعالى:

[6] يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون .

[ ص: 1877 ] يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة، وكانت مشروطة بالطهارة، بين سبحانه في هذه الآية كيفيتها.

قال بعض المفسرين: نزلت في عبد الرحمن وكان جريحا: وقيل لما احتبس صلى الله عليه وسلم في سفر ليلا - بسبب عقد ضاع لعائشة، وأصبحوا على غير ماء. انتهى.

والثاني رواه البخاري - كما في "أسباب النزول" للسيوطي - وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في (آية التيمم) ثمة. فانظره.

ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية.

الأولى: وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة أي: إرادته. فقوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة كقوله: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله وكقولك: إذا ضربت غلامك فهون عليه: في أن المراد إرادة الفعل. قال الزمخشري: فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له، وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه. فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أي: لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين يعني إنا كنا قادرين على الإعادة - كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة. فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما. ولإيجاز الكلام ونحوه، من إقامة المسبب مقام السبب، قولهم: كما تدين تدان. عبر عن الفعل المبتدأ - الذي هو سبب الجزاء - بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه.

[ ص: 1878 ] الثانية: ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا. نظرا إلى عموم: الذين آمنوا من غير اختصاص بالمحدثين. والجمهور على خلافه؛ لما روى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله! إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. قال: إني عمدا فعلته يا عمر» .

وروى البخاري عن سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام خيبر. حتى إذا كنا بالصهباء صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر. فلما صلى دعا بالأطعمة. فلم يؤت إلا بالسويق. فأكلنا وشربنا. ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب. فمضمض ثم صلى بنا المغرب ولم يتوضأ.

وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله، لكل صلاة، طاهرا أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؟ إن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة، طاهرا أو غير طاهر. فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك. كان يفعله حتى مات. قال ابن كثير: وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك. كما هو مذهب الجمهور.

[ ص: 1879 ] وقد روى ابن جرير عن ابن سيرين، أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة. وعن عكرمة: أن عليا - رضي الله عنه - كان يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية. وعن النزال بن سبرة قال: رأيت عليا صلى الظهر. ثم قعد للناس في الرحبة. ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه. ثم مسح برأسه ورجليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث، وفي رواية: أنه توضأ وضوءا فيه تجوز فقال: هذا وضوء من لم يحدث; وكذا حكى أنس عن عمر أنه فعله، والطرق كلها جيدة.

وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء - فهو غريب عنه. ثم هو محمول على من اعتقد وجوبه، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك. روى الإمام أحمد عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. قيل له: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث! ورواه البخاري وأهل السنن أيضا.

وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن جرير عن ابن عمر مرفوعا: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات. وضعفه الترمذي.

وإذا دلت هذه الأحاديث على أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، فالوجه في الخروج من ظاهر الآية، أن الخطاب فيه خاص بالمحدثين.

[ ص: 1880 ] وفي "العناية": الإجماع صرفها عن ظاهرها. فأما أن تكون مقيدة - أي: وأنتم محدثون - بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم - فلو لم يكن له مدخل في الوضوء، مع المدخلية في التيمم، لم يكن البدل بدلا. وقوله: فلم تجدوا ماء صريح في البدلية. وقيل: في الكلام شرط مقدر. أي: إذا قمتم إلى الصلاة. إن كنتم محدثين. وإن كنتم جنبا فاطهروا وهو قريب جدا. انتهى.

وزعم بعضهم; أن الوجوب على كل قائم للصلاة كان في أول الأمر ثم نسخ. واستدل على ذلك بحديث عبد الله بن حنظلة المتقدم. ونظر فيه بحديث: (المائدة من آخر القرآن نزولا) وأجيب بأن الحافظ العراقي قال: لم أجده مرفوعا. هذا، وقال الزمخشري: لا يجوز أن يكون الأمر في الآية شاملا للمحدثين وغيرهم - لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب - لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وفي "الإنصاف": من جوز أن يراد بالمشترك كل واحد من معانيه على الجمع، أجاز ذلك في الآية. ومن المجوزين لذلك الشافعي - رحمه الله تعالى - وناهيك بإمام الفن وقدوته. وإذا وقع البناء على أن صيغة (أفعل) مشتركة بين الوجوب والندب، صح تناولها في الآية الفريقين المحدثين والمتطهرين. وتناولها للمتطهرين من حيث الندب، والله أعلم.

الثالثة: قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": تمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأما ما قبل ذلك، فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة. وأنه لم يصل قط إلا بوضوء قال: وهذا مما لا يجهله عالم.

وقال الحاكم في "المستدرك": وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك! فقال: ائتوني بوضوء فتوضأ... الحديث.

[ ص: 1881 ] قال ابن حجر: وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الحكم المالكي بأنه كان قبل الهجرة، لا مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في "المغازي" التي يرويها عن أبي الأسود - يتيم عروة - عنه; أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وهو مرسل; ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا. لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، نحوه. لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. انتهى.

أي: وابن لهيعة يضعف في الحديث. الرابعة: قيل: في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة. وأيد بما رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن عبد الله بن عباس; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ فقال: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة. قال الترمذي: حديث حسن.

وروى مسلم عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى الخلاء. ثم إنه رجع فأتي بطعام، فقيل: يا رسول الله! ألا تتوضأ؟ فقال: لم أصل فأتوضأ.

[ ص: 1882 ] وأما اشتراط الوضوء للطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ومس المصحف - عنه من أوجبه - فمن أدلة أخر مقررة في فقه الحديث.

الخامسة: (وجوب غسل الوجه) والغسل: إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه، هذا هو المحكي عن أكثر الأئمة. زاد بعضهم: مع الدلك. وعن النفس الزكية: أن مجرد الإمساس يكفي وإن لم يجر. وحد الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا. ومن الأذن إلى الأذن عرضا. وقد ساق بعض المفسرين هنا مذاهب، فيما يشمله الوجه وما لا يشمله، ومحلها كتب الخلاف.

السادسة: (وجوب غسل اليدين): وهذا مجمع عليه; وأما المرفقان، تثنية مرفق (كمنبر ومجلس) موصل الذراع في العضد، فالجمهور على دخولهما في المغسول; وحكي عن زفر وبعض المالكية وأهل الظاهر عدم دخولهما. وسبب الخلاف أن المغيا ب (إلى) تارة يتضح دخوله في الغاية، وطورا لا، وآونة يحتمل.

قال الزمخشري: (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فمما فيه دليل على الخروج قوله: فنظرة إلى ميسرة لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين، معسرا وموسرا، وكذلك: ثم أتموا الصيام إلى الليل لو دخل الليل لوجوب الوصال، [ ص: 1883 ] ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله; وقوله: إلى المرافق و: إلى الكعبين لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط. فحكموا بدخولها في الغسل، وأخذ زفر وداود بالمتيقن، فلم يدخلاها. انتهى.

قال الرضي: الأكثر عدم دخول حدي الابتداء والانتهاء في المحدود. فإذا قلت: اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع، فالموضعان لا يدخلان ظاهرا في الشراء. وجوز دخولهما فيه مع القرينة; وقال بعضهم: ما بعد (إلى) ظاهر الدخول فيما قبلها. فلا تستعمل في غيره إلا مجازا. وقيل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو: أكلت السمكة إلى رأسها، فالظاهر الدخول وإلا فلا، نحو: أتموا الصيام إلى الليل. والمذهب هو الأول. ثم قيل: بأنها في الآية بمعنى (مع) كقوله تعالى: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم قال: الرضي: والتحقيق أنها بمعنى الانتهاء. أي: تضيفوها إلى أموالكم، ومضافة إلى المرافق. انتهى.

قال صاحب "النهاية": وقول من لم يدخل المرافق من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة الأثر أبين، لأن في حديث مسلم مما رواه أبو هريرة: [ ص: 1884 ] أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد. ثم اليسرى، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق. ثم اليسرى كذلك. واحتج أهل المذاهب بحديث جابر: أنه صلى الله عليه وسلم كان يدير الماء على مرفقيه. قالوا: ودلالة الآية مجملة. وهذا بيان للمجمل. وبيان المجمل الواجب يكون واجبا. انتهى.

وقال المجد ابن تيمية في "المنتقى": يتوجه من حديث أبي هريرة وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله، وهو مجمل فيه، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل الكتاب، ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال، ليجب بذلك. انتهى.

وأجابوا بأن حديث جابر رواه الدارقطني والبيهقي. وفي إسناده متروك. وقد صرح بضعفه غير واحد من الحفاظ. وحديث أبي هريرة فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب. وقولهم: (هو بيان للمجمل) فيه نظر. لأن (إلى) حقيقة في انتهاء الغاية - كما قدمنا - فلا إجمال. والله أعلم.

السابعة: قال الرازي: يقتضي قوله تعالى: إلى المرافق تحديد الأمر، لا تحديد المأمور به. يعني أن قوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق أمر بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحد فبقي الواجب هو هذا القدر فقط، أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحد؛ لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة. انتهى.

الثامنة: أشعر أيضا قوله تعالى: إلى المرافق أن ينتهى في غسل اليدين بها، ويبتدأ بالأصابع. قال الحاكم: وقد وردت السنة بذلك، وهو الذي عليه الفقهاء، ولدلالة لفظ (إلى) لأنها للغاية، وغاية الشيء آخره. وقالت الإمامية: السنة أن يبتدئ بالمرفق. وقالوا: إن (إلى) هنا بمعنى (من) قال الحاكم: هذا تقدير فاسد.

التاسعة: ذهب الجمهور إلى أن تقديم اليمين على الشمال سنة، من خالفها فاته الفضل وتم وضوؤه. وذهب العترة والإمامية - كما في "البحر" للمهدي - إلى وجوبه. واحتج عليهم [ ص: 1885 ] بأن الآية لا تفيد ذلك، فمتى غسلهما مرتبا أو غير مرتب - قدم اليمنى أو اليسرى - فقد امتثل الأمر. وأجابوا بأن الدلالة على الوجوب من السنة، فقد روى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بأيامنكم» ! وأجيب: بأن الأمر للندب لقوله: إذا لبستم وإذا توضأتم، فقرن بينه وبين اللبس. فإذن يدل على وجوب التيامن في اللبس كما يدل عليه في الوضوء، وهم لا يقولون به.

أيضا فقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء. رواه الدارقطني. وروى نحوه البيهقي وابن أبي شيبة.

وروى أبو عبيد في الطهور: أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه، فبلغ ذلك عليا فبدأ بمياسره. ورواه أحمد بن حنبل عن علي قال الحافظ ابن حجر: وفيه انقطاع. وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا. وكذلك الحديث المقترن بالتيامن في اللبس، المجمع على عدم وجوبه، صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب. ودلالة الاقتران - وإن كانت ضعيفة - لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف لاسيما مع اعتضادها بقول علي عليه السلام وفعله.

العاشرة: ذهب بعض العترة إلى أنه لا مسح على الجبائر. ففي "الأحكام" من كتبهم: إذا جبر على جرح أو كسر وخشي نزع الجبائر ضررا، لا يشرع المسح. قال: لأن الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها. والجمهور منهم ومن غيرهم: أنه يمسح، لحديث جابر: إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده. رواه أبو داود والدارقطني. وصححه ابن السكن.

[ ص: 1886 ] الحادية عشرة: (وجوب مسح الرأس):
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:40 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1887 الى صـ 1901
الحلقة (292)



والمسح إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل، والباء في قوله تعالى: برءوسكم تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم قال الزمخشري: وماسح بعض الرأس ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه. أي: فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا - وأيا ما كان - وقع به الامتثال. والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة، أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه [ ص: 1887 ] ولم ينقض العمامة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي الهيئة التي استمر عليهما صلى الله عليه وسلم. فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها. وهي: مسح الرأس مقبلا ومدبرا. وإجزاء غيرها في بعض الأحوال. ولا يخفى أن الآية لا تفيد إيقاع المسح على جميع الرأس. كما في نظائره من الأفعال. نحو: ضربت رأس زيد، وبرأسه. وضربت زيدا وضربت يد زيد. فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك، بوجود الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة. وهكذا ما في الآية. وليس النزاع في مسمى الرأس لغة، حتى يقال: إنه حقيقة في جميعه. بل النزاع في إيقاع المسح عليه. وعلى فرض الإجمال، فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع، وتارة بمسح البعض، بخلاف الوجه. فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال، بل غسله جميعا. وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما بالغاية. فإن قلت: إن المسح ليس كالضرب الذي مثلث به. قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال (مسحت الثوب أو بالثوب. أو مسحت الحائط أو بالحائط) على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط. وإنكار مثل هذا مكابرة. كذا في "الروضة".

[ ص: 1888 ] قال شمس الدين بن القيم في "الهدى": ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة. ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة - فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة - فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الرأس الشعر كله. ولم ينف التكميل على العمامة. وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره. فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه. انتهى.

قال الشوكاني: ليس النزاع إلا في الوجوب. وأحاديث التعميم، وإن كانت أصح، وفيها زيادة وهي مقبولة - لكن أين دليل الوجوب؟ وليس إلا مجرد الفعل. وهو لا يدل على الوجوب. ثم قال: وبعد هذا، فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه. ولكن دون الجزم بالوجوب، مفاوز وعقاب.

فصل

وأما قوله تعالى: وأرجلكم إلى الكعبين فقرأه بالنصب نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب. وبالجر الباقون، ومن هاتين القراءتين تشعبت المذاهب في صفة طهارة الرجلين. فمن ذاهب إلى أن طهارتهما الغسل. ومن ذاهب إلى أنها المسح. ومن مخير بينهما. ولكل من هذه المذاهب حجج وتأويلات وأجوبة ومناقشات نسوق شذرة منها. فنقول: قال الأولون: قراءة النصب ظاهرها يفيد الغسل. وقراءة الجر ظاهرها يفيد المسح. إلا أنه لما وجد ما يرجح الغسل تأولنا ما أفادته قراءة الجر في الظاهر. والمرجح للغسل أمور.

[ ص: 1889 ] منها ما في "الصحيحين" و "السنن" عن عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه، إما مرة وإما مرتين أو ثلاثا. على اختلاف رواياتهم. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.

وفي "الصحيحين" عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره. فأدركنا وقد أرهقنا العصر. فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا. قال: فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثا. وكذلك هو في "الصحيحين" عن أبي هريرة. وفي "صحيح مسلم" عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أسبغوا الوضوء. ويل للأعقاب من النار» ، وروى البيهقي والحاكم، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن الحارث بن جزء; أنه [ ص: 1890 ] سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» وروى الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير عن جابر بن عبد الله قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله، فقال: «ويل للأعقاب من النار» . قال ابن كثير: ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة؛ وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما، أو أنه يجوز ذلك، لما توعد على تركه، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل. بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف. وروى الإمام أحمد عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم، لم يصبها الماء. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء» . زاد أبو داود: والصلاة.

وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: حدثنا عمرو بن عبسة قال: «قلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء، قال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر، إلا خرت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء [ ص: 1891 ] حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله. ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء. ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمر الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء. ثم يقوم فيحمد الله ويثني بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» .

قال أبو أمامة: يا عمرو! انظر ما تقول. سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟ قال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة! لقد كبر سني ورق عظمي واقترب أجلي. وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا. لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك..
قال ابن كثير: وإسناده صحيح وهو في "صحيح مسلم" من وجه آخر، وفيه: ثم يغسل قدميه كما أمره الله. فدل على أن القرآن يأمر بالغسل. وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم. ومن ههنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير عن علي، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما. إنما أراد غسلا خفيفا وهما في النعلين» . ولا مانع من إيجاد الغسل والرجل في نعلها. ويكون في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين. وهكذا ما رواه ابن جرير عن حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. وهو حديث صحيح. وقد أجاب ابن جرير عنه: بأن الثقات الحفاظ رووه عن حذيفة: فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه. قال ابن كثير: ويحتمل الجمع بينهما. بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان.

[ ص: 1892 ] وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أوس بن أبي أوس قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة» . ورواه أبو داود عنه بلفظ: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه» . ثم قال الجمهور: إن قراءة الجر محمولة على الجر الجواري. ونظيره كثير في القرآن والشعر. كقوله تعالى: عذاب يوم أليم و: (وحور عين) بالجر في قراءة حمزة والكسائي عطفا على: بأكواب وأباريق والمعنى مختلف؛ إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين. وكقولهم: جحر ضب خرب، وللنحاة باب في ذلك. حتى تعدوا، من اعتباره في الإعراب، إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك. وقد ساق شذرة من أشباهه ونظائره أبو البقاء هنا. فانظره. وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجواز (زعما بأنه خاص بالنعت والتأكيد) مردود بأنه ورد في العطف كثيرا في كلام العرب. قال الشاعر:


لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق في عقال الأسر مكبول


فخفض (موثقا) بالمجاورة للمنفلت - وحقه الرفع عطفا على (أسير). وقال:


فهل أنت - إن ماتت أتانك – راحل إلى آل بسطام بن قيس فخاطب


[ ص: 1893 ] فجر (فخاطب) للمجاورة. وحقه الرفع عطفا على (راحل). وكفى في الرد قراءة (وحور) بالجر كما قدمنا. قالوا: وشرط حسن الجر الجواري عدم الإلباس مع تضمن نكتة. وهنا كذلك. فإن الغاية دلت أنه ليس بممسوح؛ إذ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة. والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيفه حتى كأنه مسح. قال الناصر في "الانتصاف": والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان، من حيث إن كل واحد منهما إمساس بالعضو. فيسهل عطف الغسول على المسوح من ثم - كقوله: متقلدا سيفا ورمحا. وعلفتها تبنا وماء باردا - ونظائره كثيرة. وبهذا وجه الحذاق. ثم يقال: ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة؟ فيقال: فائدته الإيجاز والاختصار وتوكيد الفائدة - بما ذكره الزمخشري - أي: من أن الأرجل لما كانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطف على الرابع المسوح، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصار في صب الماء عليها. ثم قال الناصر: وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا: واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح. ونبه بهذا التشريك، الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدا، على أن الغسل المطلوب في الأرجل، غسل خفيف يقارب المسح. وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة. انتهى.

وأما من أوجب الجمع بين المسح والغسل فأخذا بالجمع بين القراءتين. ومراد من ذهب إلى [ ص: 1894 ] وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما. فحكاه من حكاه كذلك. ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء، وهو معذور. فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه. وإنما أراد ما ذكرته والله أعلم.

ثم تأملت كلامه أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله: (وأرجلكم) خفضا على المسح وهو الدلك، ونصبا على الغسل، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه. انتهى.

وأما من قال: الواجب هو المسح، فتمسك بقراءة الجر، وهو مذهب الإمامية. وأجابوا عن قراءة النصب بأنها مقتضية للمسح أيضا. وقد وقفت على كتاب "شرح المقنعة" من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث، ووجه اقتضاء النصب للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل، الذي هو المسح عليه. قال: وعلى هذا لا ينكر أن يعطف الأرجل على موقع الرؤوس لا لفظها فينصب، والعطف على الموضع جائز مشهور في لغة العرب. ثم ساق الشواهد في ذلك وقال بعد: فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون القراءة بالنصب لا تقتضي الغسل، فلا تحتمل المسح. لأن عطف الأرجل على مواضع الرؤوس في الإيجاب توسع وتجوز. والظاهر والحقيقة يوجبان عطفها على اللفظ لا الموضع، قلنا: ليس الأمر على ما توهمتم، بل العطف على الموضع مستحسن في لغة العرب، وجائز لا على سبيل الاتساع والعدول عن الحقيقة. فالمتكلم مخير بين حمل الإعراب على اللفظ تارة، وبين حمله على الموضع أخرى.

قال: وهذا ظاهر في العربية مشهور عند أهلها، وفي القرآن والشعر له نظائر كثيرة. ثم قال: على أنا لو سلمنا أن العطف على اللفظ أقوى، لكان عطف الأرجل على موضع الرؤوس أولى، مع القراءة بالنصب، لأن نصب الأرجل لا يكون إلا على أحد وجهين: إما بأن يعطف على الأيدي والوجوه في الغسل، أو يعطف على موضع الرؤوس فينصب، ويكون حكمها المسح. وعطفها على موضع الرؤوس أولى. وذلك أن الكلام إذا حصل فيه عاملان، أحدهما قريب والآخر بعيد، فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد. وقد نص أهل العربية على هذا في باب التنازع. انتهى. فتأمل جدلهم.

[ ص: 1895 ] قال الحافظ ابن كثير: وقد روي عن طائفة من السلف بالمسح: فروى ابن جرير عن حميد قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة! إن الحجاج خطبنا بالأهواز، ونحن معه. فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم. وإنه ليس شيء من ابنآدم أقرب من خبثه من قدميه؛ فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله تعالى: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم

قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما.

قال ابن كثير: إسناده صحيح إليه.

وروى ابن جرير أيضا عن عاصم عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة بالغسل. وإسناده صحيح أيضا.

وأسند أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال: الوضوء غسلان ومسحتان.

وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم قال: هو المسح. ثم قال: وروى عن ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن علي والحسن (في إحدى الروايات) وجابر بن يزيد ومجاهد (في إحدى الروايتين) نحوه. وروى ابن جرير عن أيوب قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه. وعن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح. ألا ترى أن التيمم، أن يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا؟

[ ص: 1896 ] وأما من ذهب إلى التخيير، فقال: لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل وبما يوجب المسح، دل على أنه مخير. قال في "الشفا": القراءتان لا توجبان الجمع، بل تثبتان التخيير.

ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح. كما قال ابن عباس وغيره. وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم، فإنه سن في كل فرض سننا تدعمه وتقويه. في الصلاة والزكاة والصوم والحج. وكذا في الطهارات كما لا يخفى، ومما يدل على أن واجبهما المسح، تشريع المسح على الخفين والجوربين. ولا سند له إلا هذه الآية. فإن كل سنة أصلها في كتاب الله، منطوقا أو مفهوما، فاعرف ذلك واحتفظ به، والله الهادي.

فصل

فيما قاله الصوفية - قدس الله سرهم - من أسرار طهارة هذه الأعضاء:

فأما الوجه، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها، فلا بد من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها، ولسبق الإحساس على العمل، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي: غير السمع. ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال، التي منها تلك الآثار - وهي الأيدي إلى المرافق - لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالبا إلا بتحريك المرافق، ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة، فأشبه جامع الحواس الظاهرة، وأخره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرهما. ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر، ولا بد منه في الزينة، لاسيما للمرأة، فخفف بالمسح. ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن، اقتصر على أدنى الغايات، أعني: الكعبين، لئلا تبطل فائدة تخصيص الأعضاء، وفي الفصل بين المغسولات بالممسوح إيماء إلى وجوب الترتيب، والسر فيه ما أشرنا إليه. كذا في تفسير "المهايمي".

[ ص: 1897 ] وذكر الشعراني - قدس سره - في سر ذلك، أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه، والشرع قد تبع العرف في ذلك، وإلا فكل جزء من بدن العبد - ظاهرا وباطنا - ظاهر للحق تعالى من العبد. أمر الله تعالى العبد بالتوبة فورا. مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية. لأن الماء لا يصل إلى القلب. فافهم.

ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق. وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات. ووجه قول زفر وداود، بأنهما لم يتمحضا للذراعين، لأنهما مجموع شيئين: إبرة الذراع ورأس العظمين، ثم وجه مسح جميع الرأس، بالأخذ بالاحتياط. فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة. فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة، كما ورد، إذ هي الحضرة الخاصة، وكذلك القول في حضرة الصلاة. ثم وجه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عز وجل، وكونهما حاملين للجسم كله. وممدين له بالقوة على المشي، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه، كما يسري منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمد الأغصان بالأوراق والثمار. فتعين فيهما الغسل دون المسح، ثم ذكر سر من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء؛ بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي، أو الغفلات، أو الشهوات، وإذا لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة، مثلا. وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشا. ولا حياة تقف بها بين يدي ربها. فخاطبت ربها بلا كمال حضور ولا إقبال على مناجاته. هذا حكم غالب الأبدان، أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين، فلا يحتاجون إلى تشديد في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء. ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم. فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوام الناس. ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم.

[ ص: 1898 ] وسمعت سيدي عليا الخواص، رحمه الله تعالى، يقول: نعم قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان. فإن من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدا. وزيادة البطء في زمن الطهارة، وفوات أول الوقت، كأن يغسل وجهه في الوضوء للظهر بعد صلاة الصبح. ثم يغسل يديه ربع النهار. ثم يمسح رأسه بعد زوال الشمس. ثم يغسل رجليه قبيل العصر. مع وقوع ذلك المتوضئ مثلا، في الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والضحك والغفلة. وغير ذلك من المعاصي والمكروهات. أو خلاف الأولى إن كان ممن يؤاخذ به كما يؤاخذ بأكل الشهوات. فمثل هذا الوضوء، وإن كان صحيحا في ظاهر الشرع - من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل - فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها. ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء - وجوبا أو استحبابا - وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة. ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ، الذي لم يوال، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء. فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة. فلم يصر لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته.

وقد كمل أسرار السنن بما يبهج، فلينظر في "ميزانه" رحمه الله تعالى.

وفي كلام الله تعالى من الفوائد والأسرار واللطائف، ما تضيق عنه الأسفار.

وقوله تعالى: وإن كنتم جنبا أي: بخروج مني أو التقاء ختانين: فاطهروا أي: بالماء، أي: اغتسلوا به. قال المهايمي: أي: بالغوا في تطهير البدن لأنه يتلذذ به الجميع تلذذا أغرقه في غير الله، فأثر فيه بالحدث: وإن كنتم جنبا: مرضى تخافون من استعمال الماء: أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أي: رجع من مكان البراز: أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا أي: اقصدوا: صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه تذليلا للعضوين الشريفين. وقد مر تفسير هذا وأحكامه في سورة [ ص: 1899 ] النساء ما يريد الله أي: ما يريد بالأمر بالطهارة للصلاة. أو بالأمر بالتيمم: ليجعل عليكم من حرج أي: ضيق في الامتثال أو في تحصيل الماء: ولكن يريد ليطهركم أي: عن الذنوب، أو ليجعلكم في حكم الطاهرين بالتذلل بالتراب. فإنه لما رفع التكبر فكأنما رفع الحدث الذي ينشأ عن أمثاله: وليتم نعمته عليكم أي: بشرعه ما هو مطهر لأبدانكم ومنعش لها مما لحقها، ومكفر لذنوبكم، أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بتمكينكم من عبادته بكل حال، حتى حال الحدث: لعلكم تشكرون نعمته ورخصته فيثيبكم.

وقد روى ابن جرير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه» . ورواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة مفصلا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[7] واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور .

واذكروا نعمة الله عليكم بالهداية لهذا الدين القويم لتذكركم المنعم وترغبكم [ ص: 1900 ] في شكره: وميثاقه أي: عهده الوثيق: الذي واثقكم به أي: أكد عليكم بقوله: إذ قلتم أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعنا وأطعنا حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره: واتقوا الله أي: في نقض شيء من عهوده ولو بالقلب: إن الله عليم بذات الصدور أي: بخفياتها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[8] يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .

يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله أي: مقتضى إيمانكم الاستقامة، فكونوا مبالغين في الاستقامة باذلين جهدكم فيها لله. وهي إنما تتم بالنظر في حقوق الله وحقوق خلقه فكونوا: شهداء بالقسط أي: العدل. لا تتركوه لمحبة أحد ولا لعداوة أحد: ولا يجرمنكم أي: لا يحملنكم: شنآن أي: شدة عداوة: قوم على ألا تعدلوا في حقهم. قال المهايمي: أي: فإنا لا نأمركم به من حيث ما فيه من توفية حقوق الأعداء. بل من حيث ما فيه من توفية حقوق أنفسكم في الاستقامة: اعدلوا هو أي: العدل -: أقرب للتقوى أي: لحفظ الأنفس أن تتجاوز حد استقامتها: واتقوا الله أي: أن تطلبوا حقوقه أو حقوق عباده ولو بطريق توهمون فيه العدل: إن الله خبير بما تعملون من الأعمال فيجازيكم بذلك. وقد ثبت في "الصحيحين" [ ص: 1901 ] عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نحلا. فقالت أمي: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: أكل ولدك نحلت مثله؟ قال: لا. فقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، وقال: إني لا: أشهد على جور. قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة.

قال بعض المفسرين: ثمرة الآية الدلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالقسط. يدخل فيه الشهادة بالعدل والحكم به. وكذلك الفتوى. وأن قول الحق لا يترك وجوبه بعدو ولا صديق. ولا يجوز اتباع الهوى.

قال الزمخشري وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إذا كان واجبا مع الكفار الذين هم أعداء الله، إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:42 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1902 الى صـ 1916
الحلقة (293)


القول في تأويل قوله تعالى:

[9] وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم .

وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات التي من جملتها العدل والتقوى: لهم مغفرة وأجر عظيم يعني ثوابا وافرا في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[10] والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

والذين كفروا وكذبوا بآياتنا التي منها ما تلي من الأمر بالعدل والتقوى.

أولئك أصحاب الجحيم أهل النار.
ثم بين تعالى أن من مقتضى الإيمان ملازمة شكره على ذكر نعمه، فقال سبحانه:

[ ص: 1902 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[11] يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم أي: في حفظه إياكم عن أعدائكم: إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم أي: بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك: فكف أيديهم عنكم أي: منعها أن تمد إليكم، ورد مضرتها عنكم.

قيل: الآية إشارة إلى ما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها. وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة. فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسله. ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله عز وجل. قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا: من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله. قال: فشام الأعرابي السيف. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي. وهو جالس إلى جنبه، ولم يعاقبه» .

وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا، ويذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسلوا هذا الأعرابي. وتأول هذه الآية.

وأخرج أبو نعيم في "دلائل النبوة" من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله، «أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه: أقتل لكم محمدا: فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره فقال: يا محمد! أأنظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم. فأخذه فاستله وجعل يهزه ويهم به فيكبته الله تعالى. فقال يا محمد! أما تخافني؟ قال: لا. قال: أما تخافني والسيف في يدي؟ قال: لا. يمنعني الله منك. ثم غمد السيف ورده إلى رسول الله» . فأنزل الله الآية.

[ ص: 1903 ] وقصة هذا الأعرابي ثابتة في "الصحيح". وأخرج ابن جرير عن عكرمة ويزيد بن أبي زيادة -واللفظ له- أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير، يستعينهم في عقل أصابه. فقالوا: نعم. اجلس حتى نطعمك أو نعطيك الذي تسألنا، فجلس. فقال حيي بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن. اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه. ولا ترون شرا أبدا، فجاءوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم. حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت. فأنزل الله الآية. وروى نحوه ابن أبي حاتم.

[ ص: 1904 ] قال ابن كثير: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم. انتهى.

وعلى هذه الروايات، فالمراد من قوله تعالى: اذكروا نعمة الله عليكم تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن.

وذكر الزمخشري، ومن بعده، من وجوه إشارات الآية، ما كان بعسفان من حفظه تعالى لهم من أعدائهم، لما هموا بقتلهم عند اشتغالهم بصلاة العصر، بعد ما رأوهم يصلون الظهر. فندموا على أن لا أكبوا عليهم. فرد كيد أعدائهم إذ أنزل عليهم صلاة الخوف. انتهى.

ولفظ الآية محتمل لذلك، بيد أني لم أره الآن مسندا عن أئمة الأثر.

واتقوا الله أي: في رعاية حقوق نعمته ولا تخلوا بشكرها وعلى الله خاصة دون غيره فليتوكل المؤمنون فإنه الكافي في إيصال الخير ودفع الشر لمن توكل عليه.

قال أبو السعود: والجملة تذييل مقرر لما قبله. وإيثار صيغة أمر الغائب. وإسنادها إلى المؤمنين، لإيجاب التوكل على المخاطبين بالطريق البرهاني، وللإيذان بأن ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الإيمان، داع إلى ما أمروا به من التوكل والتقوى، وازع عن الإخلال بهما.

بحث جليل في التوكل

قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية - قدس الله سره - في بعض مصنفاته: قد ظن طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب، أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل ما كان مقدرا بدون التوكل، فهو مقدر مع التوكل. ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضا. وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب. وقول هؤلاء يشبه قول من قال: إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار، وآخرون يقولون: بل الدعاء علامة وأمارة. ويقولون ذلك في جميع [ ص: 1905 ] العبادات، وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر، ويقول: إن الله يفعل عندها، لا بها. وهو قول طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر - كالأشعري وغيره، وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية. وأصل هذه البدعة من قول جهم. فإنه كان غاليا في نفي الصفات وفي الجبر، فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات، ففي تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب. حتى أنكر تأثير قدرة العبد، بل نفى كونه قادرا، وأنكر الحكمة في التوكل والرحمة. وكان يخرج إلى الجذمي فيقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة. وقوله في القدر، قد تقرب إليه الأشعري ومن وافقه من الطوائف. والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب. كما دل على ذلك الكتاب والسنة، مع دلالة الحس والعقل. والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر. والمقصود هنا الكلام على التوكل؛ فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله، من جلب المنفعة ودفع المضرة، ما لا يحصل لغيره. وكذلك الدعاء. والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة. ثم هو سبب عند الأكثرين، وعلامة عند من ينفي الأسباب: قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه والحسب: الكافي. فبين أنه كاف من توكل عليه. وفي الدعاء: يا حسيب المتوكلين! فلا يقال: هو حسب غير المتوكل كما هو حسب المتوكل، لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط كعدمه. ولأنه [ ص: 1906 ] رتب الحكم على الوصف المناسب له. فعلم أن توكله هو سبب كونه حسيبا له، ولأنه ذكر ذلك في سياق الترغيب في التوكل، كما رغب في التقوى. فلو لم يحصل للمتوكل من الكفاية ما لا يحصل لغيره، لم يكن ذلك مرغبا في التوكل. كما جعل التقوى سببا للخروج من الشدة وحصول الرزق من حيث لا يحتسب. وقال تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل، والوكيل لا يستحق المدح إذا لم يجلب لمن توكل عليه منفعة ولم يدفع عنه مضرة. والله خير من توكل العباد عليه، فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير ويدفع عنهم كل شر.

وقال تعالى: واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وقال: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا فأمر أن يتخذ وكيلا ونهى أن يتخذ من دونه وكيلا، لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد، والوكالة الجائزة أن يتوكل الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه. فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله. وذاك الذي يوكله لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله وقدرته. فليس له أن يتوكل عليه، وإن وكله. بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه، فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله، يحصل وإن توكل على غيره، ويحصل بلا توكل، لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلا. وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد. لأن التوكل على الخلق يشهد نفعه. وقال تعالى: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي: الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين. فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول - سواء اتبعوه أو لم يتبعوه - لم يكن للإيمان واتباع الرسول أثر في هذه [ ص: 1907 ] الكفاية. ولا كان لتخصيصهم بذلك معنى. وكان هذا نظير أن يقال: هو خالقك وخالق من اتبعك. ومعلوم أن المراد خلاف ذلك. وإذا كان الحسب معنى يختص بعض الناس، علم أن قول المتوكل: (حسبي الله) وقوله: ومن يتوكل على الله فهو حسبه أمر مختص لا مشترك. وأن التوكل سبب ذلك الاختصاص، والله تعالى إذا وعد على العمل بوعد أو خص أهله بكرامة، فلا بد أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة. وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر. فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال. لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين، فلا يكون ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلا، وإن عدم التوكل، وقد قال تعالى: وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم فعقب هذا الجزاء والحكم لذلك الوصف والعمل، بحرف (الفاء) وهي تفيد السبب، فدل ذلك على أن ذلك التوكل هو سبب هذا الانقلاب بنعمة من الله وفضل. وأن هذا الجزاء جزاء على ذلك العمل. وفي الأثر: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله. فلو كان التوكل لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة، لم يكن المتوكل أقوى من غيره. وقال تعالى: يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا وقال في أثناء السورة: ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا [ ص: 1908 ] فأمره سبحانه بتقواه واتباع ما يوحى إليه وأمره بالتوكل. كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع. كقوله: فاعبده وتوكل عليه وقوله: وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وقوله: عليه توكلت وإليه أنيب وقوله: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وقوله: هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب وقوله: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقوله في الفاتحة: إياك نعبد وإياك نستعين

[ ص: 1909 ] وعلم القرآن مجتمع في الفاتحة في هذين الأصلين: عبادة الله والتوكل عليه. وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل. فإنه من عبادة الله. كقوله: يا أيها الناس اعبدوا ربكم وقوله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وإذا قرن به التوكل كان مأمورا به بخصوصه. وهذا كلفظ الإسلام والإيمان. والإيمان والعمل، ولفظ الصلاة مع العبادة ومع اتباع الكتاب. ولفظ الفحشاء والبغي مع المنكر. ونظائر ذلك متعددة، يكون اللفظ عند تجرده وإفراده يتناول أنواعا. وقد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأمورا به لخصومه. ثم قد يقال: إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه. وقد يقال: بل الأمر به خاص وعام، كما في قوله: وملائكته ورسله وجبريل وميكال وإذا كان الله أمره بالتوكل على الله، ثم قال: وكفى بالله وكيلا علم أن الله وكيل كاف لمن توكل عليه. كما يقال في الخطب والدعاء: الحمد لله كافي من توكل عليه. وإذا كان "كفى به وكيلا" فهذا مختص به سبحانه، ليس غيره من الموجودات كفى به وكيلا، فإن من يتخذ وكيلا من المخلوقين غايته أن يفعل بعض الأمور، وهو لا يفعلها إلا بإعانة الله، وهو عاجز عن أكثر المطالب، فإذا كان سبحانه وصف نفسه بأنه "كفى به وكيلا" علم أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاج معه إلى غيره، من جلب المنافع ودفع المضار، إذ لو بقي شيء لم يكن "كفى به وكيلا" وهذا نقيض قول من ظن أن المتوكل عليه لا يحصل له بتوكله جلب منفعة ولا دفع مضرة، بل يجري عليه من القضاء ما كان يجري لو لم [ ص: 1910 ] يتوكل عليه. والذين ظنوا، أصل شبهتهم أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئا فلا بد أن يكون، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما سبق علمه فهو كائن لا محالة - صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه، وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع. وهذا غلط عظيم ضل فيه طوائف: طائفة قالت: لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها. بل من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن. ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن ولم يكفر. وهذه الشبهة سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة والنار. قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا! اعملوا، فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر لعمل أهل الشقاء. وهذا المعنى قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" في مواضع تبين أن ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تفضي إليه، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيدا، والشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيا. فالقدر تضمن الغاية وسببها. لم يتضمن غاية بلا سبب. كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة، وهذا تنبت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع. وأمثال ذلك.

وكذلك [ ص: 1911 ] في "السنن" أنه قيل له: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: «هي من قدر الله» . فبين أن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من القدر، ليس القدر مجرد دفع المكروه بلا سبب. وكذلك قول من قال: (إن الدعاء لا يؤثر شيئا والتوكل لا يؤثر شيئا) هو من هذا الجنس، لكن إنكار ما أمر به من الأعمال أمر ظاهر، بخلاف تأثير التوكل. لكن الأصل واحد. وهو النظر إلى المقدور مجردا عن أسبابه ولوازمه. ومن هذا الباب: (أن المقتول يموت بأجله) عند عامة المسلمين. إلا فرقة من القدرية قالوا: إن القاتل قطع أجله. ثم تكلم الجمهور: لو لم يقتل؟ قال بعضهم: كان يموت لأن الأجل قد فرغ، وقال بعضهم: لا يموت لانتفاء السبب. وكلا القولين قد قال به من ينسب إلى السنة، وكلاهما خطأ. فإن القدر سبق بأنه يموت بهذا السبب لا بغيره. فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب، أمكن أن يكون المقدور أنه يموت بغيره، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب، أمكن أن يكون القدر أنه لا يموت. فالجزم بأحدهما جهل فيما تعددت أسبابه، لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها، ولم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر. بخلاف ما ليس له إلا سبب واحد. مثل دخول النار، فإنه لا يدخلها إلا من عصى. فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها. وقال تعالى: فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ ص: 1912 ] فأمره إذا عزم، أن يتوكل على الله; فلو كان التوكل لا يعينه على نيل ما عزم عليه، لم يكن لأمره به عند العزم فائدة، بين أنه هو سبحانه الناصر دون غيره وقال: وعلى الله فليتوكل المؤمنون فنهى عن التوكل على غيره، وأمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره. وإلا فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر، فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى; فإنه على هذا القول: نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه. وهذا يناقض مقصود الآية. بل عند هؤلاء: قد ينصر من يتوكل على غيره ولا ينصر من يتوكل عليه، فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقرونا بقوله: إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون وكذلك قوله تعالى: أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد - إلى قوله -: قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون فبين أن الله يكفي عبده الذي يعبده، الذي هو من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، الذي هو من عباده المخلصين، الذين هو من: عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا . ومثل هذا قوله: سبحان الذي أسرى بعبده وقوله: وأنه لما قام عبد الله يدعوه [ ص: 1913 ] وقوله: وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا ونظائر ذلك متعددة. ثم أمره بقوله: قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون وقال تعالى: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون وكذلك قال عن هود لما قال قومه: إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهذا من كلام المرسلين، مما يبين أنه بتوكله على الله يدفع شرهم عنه. فنوح يقول: إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت الآية. فدعاهم، إذا استعظموا ما يفعله كارهين له، أن يجتمعوا ثم يفعلون ما يريدونه من الإهلاك. وقال: فعلى الله توكلت فلولا أنه بحقيقة هذه الكلمة - وهو توكله على الله - يعجزهم عما تحداهم به من مناجزته، لكان قد طلب منهم أن يهلكوه. وهذا لا يجوز، وهذا طلب تعجيز لهم. فدل على أنه - بتوكله على الله - يعجزهم عما تحداهم به، وكذلك هود، يشهد الله تعالى وإياهم أنه بريء مما يشركون بالله. ثم يتحداهم ويعجزهم بقوله: من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها يبين أنه توكل على من أخذ بنواصي الإنس وسائر الدواب. فهو يدفعكم عني لأني متوكل [ ص: 1914 ] عليه، ولو كان وجود التوكل كعدمه في هذا، لكان قد أغراهم بالإيقاع به، ولم يكن لذكر توكله فائدة، إذ كان حقيقة الأمر عند هؤلاء أنه لا فرق بين من توكل ومن لم يتوكل في وصول العذاب إليه. وهم كانوا أكثر وأقوى منه. فكانوا يهلكونه. وهو لو قال: فإن الله مولاي وناصري - ونحو ذلك - لعلم أنه مخبر أن الله تعالى يدفعهم، وإنما يدفعهم لإيمانه وتقواه، ولأنه عبده ورسوله. فالله مع رسوله وأوليائه، فإذا كان بسبب الإيمان والتقوى يدفع الله عن المؤمنين المتقين، علم أن العبد تقوم به أعمال باطنة وظاهرة، تجلب بها المنفعة وتدفع بها المضرة. والتوكل من أعظم ذلك. وعلم أن من ظن أن المقدور من المنافع والمضار، ليس معلقا بالأسباب. بل يحصل بدونها، فهو غالط. وكذلك من جعل ذلك مجرد أمارة وعلامة، لاقتران هذا بهذا، فقد أخطأ، فإن الله أخبر أنه فعل هذا بهذا في غير موضع من القرآن، في خلقه وأمره. كقوله: فأنـزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات وقوله: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وقوله: بما كنتم تعملون وأنكر على من ظن وجود الأسباب كعدمها في مثل قوله: أفنجعل المسلمين كالمجرمين وقوله: أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار أمثال ذلك. وهؤلاء يقولون بالجبر. قالوا: والأمر والنهي حقيقته أنه إعلام بوقوع العذاب بالعاصي بمحض المشيئة لا لسبب ونحوه، ولا بحكمة. فقلبوا حقيقة الأمر والنهي إلى الجبر. كما أبطلوا الأسباب [ ص: 1915 ] والحكمة. وأبطلوا قدرة العباد. وهم، وإن كانوا يردون على القدرية ويذكرون من تناقضهم ما يبين فساد قول القدرية، فقد ردوا باطلا بباطل، وقاتلوا بدعة ببدعة. كرد اليهود على النصارى والنصارى على اليهود مقالتهم في المسيح، وكلتا المقالتين باطلة، وكذلك تقابل الخوارج والشيعة في علي باطل، ونظائره متعددة. انتهى. فاحفظه ينفعك في مواضع كثيرة. وقوله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[12] ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل

ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل كلام مستأنف مشتمل على ذكر بعض ما صدر عن بني إسرائيل - من الخيانة ونقض الميثاق - وما أدى إليه ذلك من التبعات، مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق الذي واثقهم به. وتحذيرهم من نقضه. أو لتقرير ما ذكر من هم بني قريظة بالبطش وتحقيقه حسبما مر من الرواية ببيان أن الغدر والخيانة عادة لهم قديمة توارثوها من أسلافهم - أفاده أبو السعود.

زاد الرازي: تقرير الإلزام بالتكليف بأنه سنة الله في الذين خلوا.

وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا رئيسا. سمي بذلك لأنه يفتش حال القوم ويعلم دخيلة أمرهم: وقال الله أي: لهم. وفي الالتفات تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد: إني معكم أي: بالعلم والقدرة والنصرة: لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي [ ص: 1916 ] أي: الذين يجيئون إليكم وعزرتموهم أي: أعنتموهم ونصرتموهم بالسيف على الأعداء وأقرضتم الله أي: بالإنفاق في سبيل الخير قرضا حسنا بلا من ولا طلب ربح دنيوي، من رياء وسمعة لأكفرن أي: لأمحون عنكم سيئاتكم ذنوبكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها أي: تطرد من تحت شجرها ومساكنها الأنهار أنهار الماء واللبن والخمر والعسل فمن كفر بعد ذلك أي: بعد أخذ الميثاق والإقرار به منكم فقد ضل سواء السبيل أي: واضح السبيل، الموصل إلى كل مطلب عال.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-11-2022 09:59 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1917 الى صـ 1927
الحلقة (294)


القول في تأويل قوله تعالى:

[13] فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين

فبما نقضهم ميثاقهم [ الباء ] سببية و (ما) مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس. أي: بسبب نقضهم ميثاقهم. أو نكرة. أي: بشيء عظيم صدر منهم من نقضهم ميثاقهم المؤكد، الموعود عليه النصر والمغفرة والأجر العظيم لعناهم أي: أبعدناهم عن رحمتنا وجعلنا قلوبهم قاسية بحيث لا تلين لرؤية الآيات والنذر، ولا تتعظ بموعظة، لغلظها وقساوتها لغضب الله عليهم، وبقيت تلك القساوة واللعنة في ذريتهم: يحرفون الكلم أي: كلم الله في التوراة، بصرف ألفاظه أو معانيه عن مواضعه التي أنزلت.

قال ابن كثير: أي: فسدت فهومهم، وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل. عياذا بالله من ذلك. قال أبو السعود: والجملة استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم. فإنه لا مرتبة أعظم مما [ ص: 1917 ] يصحح الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل، والافتراء عليه. وقيل: حال من مفعول (لعناهم).

ونسوا حظا مما ذكروا به أي: تركوا نصيبا وافرا مما أمروا به في التوراة، ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته بحيث لم يكن لهم رجوع عليه. أو من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا تزال تطلع على خائنة منهم أي: خيانة. على أنها مصدر ك (لاغية وكاذبة). أو طائفة خائنة. يعني: أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم، بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها. فلا تزال ترى ذلك منهم.

قال مجاهد وغيره بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم.

إلا قليلا منهم وهم المؤمنون منهم فاعف عنهم واصفح أي: لا تعاقبهم.

قال ابن كثير: هذا موجب النصر والظفر. كما قال عمر: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا، يحصل لهم تأليف وجمع على الحق. ولعل الله يهديهم.

ولهذا قال تعالى: إن الله يحب المحسنين يعني به الصفح عمن أساء؛ فإنه من باب الإحسان.

تنبيه:

قال بعض المفسرين: في هذا دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة. وأخذ الكفيل على الحق الذي يفعل في المستقبل. وفي قوله تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم إلخ، دليل على تأكيد الميثاق، وقبح نقضه، وأنه قد يسلب اللطف المبعد من المعاصي. ويورث النسيان، ولهذا قال تعالى: ونسوا حظا مما ذكروا به وعن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. انتهى.
[ ص: 1918 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[14] ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون

ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم بعبادة الله وحده، وأن لا يشركوا به شيئا، وحفظ شرعة عيسى عليه السلام. وإنما نسب تسميتهم نصارى إلى أنفسهم - دون أن يقال (ومن النصارى) - إيذانا بأنهم في قولهم: نحن أنصار الله . بمعزل من الصدق. وإنما هو تقول محض منهم. وليسوا من نصرة الله تعالى في شيء. أو إظهارا لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم. فإن ادعاءهم لنصرته تعالى يستدعي ثباتهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه. أفاده أبو السعود. قال الناصر في "الانتصاف": وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم. ولم يتفق ذلك في غيره. ألا ترى إلى قوله تعالى: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه فالوجه في ذلك - والله أعلم - أنه لما كان المقصود في هذه الآية [ ص: 1919 ] ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى، ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة. وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها. والله أعلم.

قال الشهاب الخفاجي: الموجود في كتب اللغة والتاريخ أن النصارى نسبت إلى بلدة (ناصرة) أي: التي حبل فيه المسيح وتربى فيها. ولذلك كان يدعى عليه السلام (ناصريا). ثم قال: فلو قيل في الآية: إنهم على دين النصرانية وليسوا عليها لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلى الله عليه وسلم - لكان أقرب من وجه التسمية الذي ذكروه.

فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا أي: ألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة أي: يتعادون ويتباغضون إلى قيام الساعة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة، وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق فرقا متباينة، يلعن بعضها بعضا، ويكفر بعضها بعضا وسوف ينبئهم الله يخبرهم الله في الآخرة بما كانوا يصنعون من المخالفة وكتمان الحق والعداوة والبغضاء. ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به. وهذا وعيد شديد بالجزاء والعذاب.

لطيفة:

تطرق البقاعي - رحمه الله تعالى - في "تفسيره" هنا إلى ذكر نقباء بني إسرائيل بأسمائهم، وأن عدتهم طابقت عدة نقباء النصارى - وهم الحواريون - كما طابقت عدة نقباء الأنصار [ ص: 1920 ] ليلة العقبة الأخيرة، حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار على الحرب، وأن يمنعوه إذا وصل إليهم، وقال لهم: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا - كما اختار موسى من قومه - فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وذكر البقاعي: أن بعث النقباء من بني إسرائيل كان مرتين: الأول لما كلم تعالى موسى في برية سيناء في اليوم الأول من الشهر الثاني من السنة لخروجهم من أرض مصر. وقد فصلت في الفصل الأول من سفر (العدد). والمرة الثانية: بعثوا لجس أرض كنعان. وفصلت أيضا في الفصل الثالث عشر من سفر (العدد) ثم ذكر البقاعي: أن نقباء اليهود في جس الأرض لم يوف منهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يفنا، وأما نقباء النصارى، فخان منهم واحد - وهو يهوذا - كما مضى عند قوله تعالى: وما قتلوه وما صلبوه وأما نقباء الأنصار فكلهم وفى وبر بتوفيق الله تعالى.

وقد اقتص البقاعي أسماء نقباء الفرق الثلاث، ولمعة من نبئهم. فانظره، والله أعلم.

ثم خاطب تعالى الفريقين من أهل الكتاب إثر تشديد النكير عليهم بتحريف كتبهم ونبذهم الميثاق، ودعاهم إلى الحنفية حتى يكونوا على نور من ربهم. فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[15] يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين

يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي: من نحو بعثته صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم في التوراة، وبشارة عيسى به، إظهارا للحق ويعفو عن كثير أي: مما تخفونه. لا يبينه. مما لا ضرورة في بيانه، صيانة لكم عن زيادة الافتضاح. أو يعفو فلا يؤاخذ. وفي هذه الآية بيان معجزة له صلى الله عليه وسلم. فإنه [ ص: 1921 ] لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد، فإخباره بأسرار ما في كتابهم إخبار عن الغيب، فيكون معجزا قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يريد القرآن. لكشفه ظلمات الشرك والشك. ولإبانته ما كان خافيا على الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز. أو النور، محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يهتدى به، كما سمي سراجا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[16] يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم

يهدي به الله من اتبع رضوانه أي: رضاه بالإيمان به سبل السلام أي: طرق السلامة والنجاة من عذاب الله ويخرجهم من الظلمات إلى النور أي: ظلمات الكفر والشبه إلى نور الإيمان والدلائل القطعية بإذنه أي: بتوفيقه وإرادته ويهديهم إلى صراط مستقيم وهو الدين الحق السوي في الاعتقادات والأعمال، العري عن الإفراط والتفريط فيها. ثم أشار إلى إفراط بعض النصارى في حق عيسى، وتفريطهم في حق الله جل شأنه فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[17] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير

لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم في هذه الآية وجهان:

[ ص: 1922 ] الأول: إن ما أفادته من الحصر - وإن لم يصرحوا به - إلا أنه نسب إليهم لأنه لازم مذهبهم لأن معتقدهم مؤد إليه.

قال الرازي: لأنهم يقولون: إن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام. فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتا أو صفة. فإن كان ذاتا فذات الله تعالى قد حلت في عيسى واتحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول. وإن قلنا: إن الأقنوم عبارة عن الصفة، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول. ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى، يلزم خلو ذات الله عن العلم. ومن لم يكن عالما لم يكن إلها. فحينئذ يكون الإله هو عيسى. على قولهم. فثبت أن النصارى - وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول - إلا أن حاصل مذهبهم ليس إلا ذلك. انتهى.

وبطلان الاتحاد معلوم بالبداهة.

قال العلامة العضد في (الموقف الثاني): المقصد الثامن: الاثنان لا يتحدان. وهذا حكم ضروري. فإن الاختلاف بين الماهيتين والهويتين اختلاف بالذات فلا يعقل زواله. وهذا ربما يزاد توضيحه فيقال: إن عدم الهويتان فلا اتحاد، بل وحدث أمر ثالث غيرهما - وإن عدم أحدهما - فلا يتحد المعدوم بالموجود، وإن وجدا فهما اثنان كما كانا، فلا اتحاد أيضا. انتهى.

الوجه الثاني: إنه عني بهذه الآية قوم يقولون بأن حقيقة الله هو المسيح لا غير.

قال الزمخشري: قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك. انتهى.

قال الإمام الشهرستاني في "الملل والنحل" عند ذكر فرق النصارى:

ومنهم اليعقوبية أصحاب يعقوب. قالوا بالأقانيم الثلاثة - كما ذكرنا - إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحما ودما فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده بل هو هو. وعنهم أخبرنا القرآن الكريم: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم فمنهم [ ص: 1923 ] من قال: المسيح هو الله. ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت فصار ناسوت المسيح مظهر الحق. لا على طريق حلول جزء فيه. ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة بل صار هو هو. وهذا كما يقال: ظهر الملك بصورة الإنسان. أو ظهر الشيطان بصورة حيوان.. إلخ.

وذكر الإمام الماوردي في "أعلام النبوة": إن أوائل النسطورية قالوا: إن عيسى هو الله. انتهى.

وذكر الإمام ابن إسحاق في "السيرة": إن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا من النصرانية على دين ملكهم، مع اختلاف من أمرهم. يقولون: هو الله: ويقولون: هو ولد الله. ويقولون: هو ثالث ثلاثة - يعني هو تعالى وعيسى ومريم - وكذلك قول النصرانية. ثم قال: ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن.

قل - أي: تبكيتا لهم، وإظهارا لفساد قولهم -: فمن يملك من الله شيئا أي: من يستطيع إمساك شيء من قدرته تعالى: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم أي: يميته: وأمه ومن في الأرض جميعا أي: فضلا عن آحادهم. احتج بذلك على فساد قولهم. وتقريره: أن المسيح حادث بلا شبهة؛ لأنه تولد من أم. ولذا ذكرت الأم للتنبيه على هذا. ومقهور قابل للفناء أيضا كسائر الممكنات. ومن كان كذلك كيف يكون إلها؟

قال أبو السعود: وتعميم إرادة الإهلاك للكل - مع حصول المطلوب يقصرها على المسيح - لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز، ببيان أن الكل تحت قهره تعالى وملكوته. لا يقدر أحد على دفع ما أريد به. فضلا عن دفع ما أريد بغيره. وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك. كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز وعدم استحقاق الألوهية.

[ ص: 1924 ] ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما من الخلق والعجائب - وهذا تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى. إثر بيان انتفائها عن غيره: يخلق ما يشاء جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبهة في أمر المسيح - لولادته من غير أب، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص - أي: يخلق ما يشاء من أنواع الخلق كما شاء بأب أو بغير أب...!

قال السمرقندي: وإنما قال: يخلق ما يشاء لأن النصارى أهل نجران كانوا يقولون: لو كان عيسى بشرا كان له أب. فأخبرهم الله تعالى أنه قادر على أن يخلق خلقا بغير أب.

والله على كل شيء من خلق الخلق، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه -: قدير
القول في تأويل قوله تعالى:

[18] وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير

وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه حكاية لما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة. وبيان لبطلانها بعد بطلان ما صدر عن أحدهما. أي: قالوا: نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والكرامة. ونحن أحباؤه لأننا على دينه.

قال ابن كثير: ونقلوا عن كتابهم أن الله قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكري. فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه. وقد رد عليه غير واحد ممن أسلم من عقلائهم. وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام. كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من النبوة [ ص: 1925 ] ما ادعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا بذلك معزتهم لديه، وحظوتهم عنده...! انتهى.

وقال الجلال الدواني في "شرح عقائد العضد": وما نقل عن الإنجيل - فعلى فرض صحته وعدم التحريف - يكون إطلاق الأب عليه بمعنى المبدأ. فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء. وأنت تعلم أن المتشابهات في القرآن وغيره من الكتب الإلهية كثيرة. ويردها العلماء بالتأويل إلى ما علم بالدليل. فلو ثبت ذلك لكان من هذا القبيل. انتهى. وقال الدهلوي في "الفوز الكبير": إن الله عز وجل شرف الأنبياء وتابعيهم في كل ملة بلقب المقرب والمحبوب. وذم الذين ينكرون الملة بصفة المبغوضية. وقد وقع التكلم في هذا الباب بلفظ شائع في كل قوم، فلا عجب أن يكون قد ذكر الأبناء مقام المحبوبين، فظن اليهود أن ذلك التشريف دائر مع اسم اليهودي والعبري والإسرائيلي. ولم يعلموا أنه دائر على صفة الانقياد والخضوع وتمشية ما أراد الحق سبحانه ببعثة الأنبياء لا غير. وكان ارتكز من هذا القبيل في خاطرهم كثير من التأويلات الفاسدة المأخوذة من آبائهم وأجدادهم، فأزال القرآن هذه الشبهات على وجه أتم. انتهى.

قل فلم يعذبكم بذنوبكم أي: لو كنتم أبناءه وأحباءه لما عذبكم، لكن اللازم منتف إذ عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ، واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياما معدودة.

لطيفة:

قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا عليه الصوفي هذه الآية: قل فلم يعذبكم بذنوبكم وهذا الذي قاله حسن. وله شاهد في "المسند" للإمام أحمد حيث قال: حدثنا ابن أبي عدي. [ ص: 1926 ] عن حميد، عن أنس قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، وصبي في الطريق. فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني! وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله! ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار، قال: فخفضهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا، ولا يلقي الله حبيبه في النار» . قال ابن كثير: تفرد به أحمد. انتهى.

وقال السمرقندي: في الآية دليل أن الله تعالى إذا أحب عبده يغفر ذنوبه ولا يعذبه بذنوبه. لأنه تعالى احتج عليهم فقال: فلم يعذبكم لو كنتم أحباء إليه؟ وقد قال في آية أخرى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ففيها دليل أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم، ولا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص

وقوله تعالى: بل أنتم بشر عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي: لستم كذلك بل أنتم بشر: ممن خلق أي: من جنس من خلقه من غير مزية لكم عليهم: يغفر لمن يشاء لمن تاب من اليهودية والنصرانية: ويعذب من يشاء من مات على اليهودية والنصرانية: ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير أي: المرجع، مصير من آمن ومن لم يؤمن. فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
[ ص: 1927 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[19] يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير

يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم أي: ما أمرتم به وما نهيتم عنه على فترة من الرسل متعلق ب (جاءكم) أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل، وانقطاع من الوحي. إذ لم يكن بينه وبين عيسى رسول. ومدة الفترة بينهما خمسمائة وتسع وستون سنة أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف. أي: كراهة أن تعتذروا بذلك يوم القيامة، وتقولوا: ما جاءنا من رسول - بعد ما درس الدين - يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز. وينذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم. وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل - كما سنبينه -: فقد جاءكم بشير ونذير متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة وتبين أنه معلل به. أي: لا تعتذروا (بما جاءنا) فقد جاءكم بشير أي بشير، ونذير أي نذير والله على كل شيء قدير من إرسال الرسل، والثواب لمن أجاب الرسل، والعقاب لمن لم يجبهم.

قال البقاعي: وفي الختم بوصف القدرة، وإتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوة والملك، بعد ما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل، إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبي، يلزم منه إنكارهم للقدرة.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 05-11-2022 10:02 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1928 الى صـ 1943
الحلقة (295)



تنبيه:

قال ابن كثير: كانت الفترة بين عيسى ابن مريم - آخر أنبياء بني إسرائيل - وبين محمد [ ص: 1928 ] خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق. كما ثبت في "صحيح البخاري"، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أولى الناس بابن مريم ليس بيني وبينه نبي» . وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان. كما حكاه القضاعي وغيره. انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": استدل به - يعني بحديث أبي هريرة - على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم. وفيه نظر؛ لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية - المذكورة قصتهم في سورة (يس) - كانوا من أتباع عيسى. وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين، وكانا بعد عيسى. والجواب: أن هذا الحديث يضعف ما ورد من ذلك. فإنه صحيح بلا تردد. وفي غيره مقال. أو المراد: أنه لم يبعث بعد عيسى نبي بشريعة مستقلة. وإنما بعث بعده، من بعث، بتقرير شريعة عيسى. وقصة خالد بن سنان أخرجها الحاكم في "المستدرك" من حديث ابن عباس، ولها طرق جمعتها في ترجمتها في كتابي في "الصحابة". انتهى.

وقد ذكرت في كتابي "إيضاح الفطرة في أهل الفترة" في الباب الحادي عشر من كان في الفترة من الأنبياء على ما روي. فارجع إليه.

قال ابن كثير: والمقصود من هذه الآية، أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، [ ص: 1929 ] وطموس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عباد الأوثان والنيران والصلبان. فكانت النعمة به أتم النعم، والحاجة إليه أمر عام، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد. إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين. كما روى أحمد عن عياض المجاشعي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم [ ص: 1930 ] فقال في خطبته: «وإن ربي، أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا. كل مال نحلته عبادي حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم. عجميهم وعربيهم. إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظانا...» انتهى.

وقال الأستاذ النحرير الشيخ محمد عبده مفتي مصر في "رسالة التوحيد" في بحث رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ما نصه: ليس من غرضنا في هذه الوريقات أن نلم بتاريخ الأمم عامة، وتاريخ العرب خاصة، في زمن البعثة المحمدية، لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسة إلى قارعة تهز عروش الملوك، وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم، وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان السماء، إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء. وإلى نار تنقض من سماء الحق على أدم الأنفس البشرية لتأكل ما اعشوشبت به من الأباطيل القاتلة للعقول. وصيحة فصحى تزعج الغافلين، وترجع بألباب الذاهلين، وتنبه المرؤوسين إلى أنهم ليسوا بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين، والهداة الضالين، والقادة الغارين، وبالجملة تؤوب بهم إلى رشد يقيم الإنسان على الطريق التي سنها الإله: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا . ليبلغ بسلوكها كماله، ويصل على نهجها إلى ما أعد في الدارين له. ولكنا نستعير من التاريخ كلمة يفهمها من نظر فيما اتفق عليه مؤرخو ذلك العهد، نظر إمعان وإنصاف.

[ ص: 1931 ] كانت دولتا العالم (دولة الفرس في الشرق، ودولة الرومان في الغرب) في تنازع وتجالد مستمر، دماء بين العالمين مسفوكة، وقوى منهوكة، وأموال هالكة، وظلم من الإحن حالكة. ومع ذلك، فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنن في الملاذ بالغة حد ما لا يوصف في قصور السلاطين والأمراء، والقواد ورؤساء الأديان من كل أمة، وكان شره هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حد. فزادوا في الضرائب، وبالغوا في فرض الإتاوات، حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم. وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها، وانحصر سلطان القوي في اختطاف ما بيد الضعيف. وفكر العاقل، في الاحتيال لسلب الغافل، وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر والذل والاستكانة والخوف والاضطراب، لفقد الأمن على الأرواح والأموال. غمرت مشيئة الرؤساء إرادة من دونهم. فعاد هؤلاء كأشباح اللاعب. يديرها من وراء حجاب، ويظنها الناظر إليها من ذوي الألباب، ففقد بذلك الاستقلال الشخصي، وظن أفراد الرعايا أنهم لم يخلقوا إلا لخدمة ساداتهم وتوفير لذاتهم، كما هو الشأن في العجماوات مع من يقتنيها. ضلت السادات في عقائدها وأهوائها، وغلبتها على الحق والعدل شهواتها. ولكن بقي لها من قوة الفكر أردأ بقاياها. فلم يفارقها الذر من أن بصيص النور الإلهي، الذي يخالط الفطر الإنسانية، قد يفتق الغلف التي أحاطت بالقلوب، ويمزق الحجب التي أسدلت على العقول. فتهتدي العامة إلى السبيل، ويثور الجم الغفير على العدد القليل، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن ينشئوا سحبا من الأوهام. ويهيئوا كسفا من الأباطيل والخرافات، ليقذفوا بها في عقول العامة. فيغلظ الحجاب، ويعظم الرين، ويختنق بذلك نور الفطرة. ويتم لهم ما يريدون من المغلوبين لهم.

وصرح الدين، بلسان رؤسائه، أنه عدو العقل وعدو كل ما يثمره النظر. إلا ما كان تفسيرا لكتاب مقدس. وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب، ومدد لا ينفد.

هذه حالة الأقوام كانت في معارفهم، وذلك كان شأنهم في معايشهم. عبيد أذلاء، [ ص: 1932 ] حيارى في جهالة عمياء، اللهم إلا بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية، والشرائع السابقة، آوت إلى بعض الأذهان، ومعها مقت الحاضر، ونقص العلم بالغابر، ثارت الشبهات على أصول العقائد وفروعها، بما انقلب من الوضع، وانعكس من الطبع، فكان يرى الدنس في مظنة الطهارة، والشره حيث تنتظر القناعة، والدعارة حيث ترجى السلامة والسلام. مع قصور النظر عن معرفة السبب، وانصرافه لأول وهلة إلى أن مصدر كل ذلك هو الدين. فاستولى الاضطراب على المدارك. وذهب بالناس مذهب الفوضى في العقل والشريعة معا. وظهرت مذاهب الإباحيين والدهريين في شعوب متعددة، وكان ذلك ويلا عليها، فوق ما رزئت به من سائر الخطوب. وكانت الأمة العربية قبائل متخالفة في النزعات، خاضعة للشهوات، فخر كل قبيلة في قتال أختها. وسفك دماء أبطالها، وسبي نسائها. وسلب أموالها. تسوقها المطامع إلى المعامع. ويزين لها السيئات، فساد الاعتقادات. وقد بلغ العرب من سخافة العقل حدا صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها. فلما جاعوا أكلوها. وبلعوا من تضعضع الأخلاق وهنا قتلوا فيه بناتهم تخلصا من عار حياتهن. أو تنصلا من نفقات معيشتهن. وبلغ الفحش منهم مبلغا لم يعد معه للعفاف قيمة.

وبالجملة: فكانت ربط النظام الاجتماعي قد تراخت عقدها في كل أمة. وانفصمت عراها عند كل طائفة.

أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم رجل منهم يوحي إليه رسالته؟ ويمنحه عنايته؟ ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم. التي أظلت رؤوس جميع الأمم؟ نعم، كان ذلك، وله الأمر من قبل ومن بعد. انتهى.

ثم أشار إلى تفريطهم في أمر الله الوارد على لسان موسى، وتفريطهم في حقه مع حثه إياهم على شكر الله. ليسارعوا إلى امتثال أمره، فقال:
[ ص: 1933 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[20] وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين

وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم أي: التي هي فوق نعمه على من سواكم، فلا تفرطوا في أمره إذ لم يفرط في حقكم إذ جعل فيكم أنبياء أي: وهم أكمل الخلائق ومكملوهم، ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء وجعلكم ملوكا يعني: وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط مملوكين، فأنقذكم الله. فسمى إنقاذهم ملكا وآتاكم أعطاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين من أنواع الإكرام التي خصكم بها - كفلق البحر لهم، وإهلاك عدوهم، وتوريثهم أموالهم، وإنزال المن والسلوى عليهم، وإخراج المياه العذبة من الحجر، وإظلال الغمام فوقهم... - فمقتضى هذه النعم المبادرة إلى امتثال أوامر المنعم، شكرا له. ثم أخبر تعالى عن تحريض موسى عليه السلام لقومه على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي استحوذ عليه الجبابرة، وأنهم نكلوا وعصوا أمره، فعوقبوا بالتيه لتفريطهم، فقال سبحانه مخبرا عن موسى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[21] يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين

يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة يعني: أرض بيت المقدس التي كانت مقدسة بمساكنة من مضى من الأنبياء. ثم تلوثت بمساكنة الأعداء من جبابرة الكنعانيين. فأراد تطهيرها بإخراجهم وإسكان قومه التي كتب الله لكم أي: التي وعدكموها على لسان [ ص: 1934 ] أبيكم إبراهيم، بأن تكون ميراثا لولده بعد أن جعلها مهاجره ولا ترتدوا على أدباركم أي: لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا وهلعا فتنقلبوا خاسرين أي: فترجعوا مغبونين بالعقوبة.
[ ص: 1935 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[22] قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون

قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين أي: متغلبين ليس لنا مقاومتهم وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها أي: من غير صنع من قبلنا؛ فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها فإن يخرجوا منها أي: بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها فإنا داخلون
القول في تأويل قوله تعالى:

[23] قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين

قال رجلان هما يوشع بن نون وكالب بن يفنا من الذين يخافون أي: يخافون الله تعالى دون العدو، ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه.

وقال العلامة البقاعي: أي: من الذين يوجد منهم الخوف من الجبارين. ومع ذلك لم يخافا أنعم الله عليهما أي: بالتثبيت والثقة بوعده تعالى ومعرفة مقام أوامره تعالى: ادخلوا عليهم الباب أي: باب بلدهم، أي: باغتوهم وامنعوهم من البروز إلى الصحراء، لئلا يجدوا للحرب مجالا فإذا دخلتموه - أي: باب بلدهم -: فإنكم غالبون عليهم وعلى الله فتوكلوا أي: لا على قوة أنفسكم إن كنتم مؤمنين أي: بكمال قدرته ووعده النصر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[24] قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون

قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا - أي: الجبابرة -: فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون
القول في تأويل قوله تعالى:

[25] قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين

قال أي: موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد، على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى: رب إني لا أملك أي: أحدا ألزمه قتالهم إلا نفسي وأخي هارون. قال المهايمي: أي: ومن يؤاخيني ويوافقني كهارون ويوشع وكالب فافرق أي: فاحكم بما يميز بين المحق والمبطل لتفرق بيننا وبين القوم الفاسقين أي: الخارجين عن أمرك، وهو في معنى الدعاء عليهم. وقد استجاب الله دعاءه، وفرق بأن أضلهم ظاهرا كما ضلوا باطنا. كما بينه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[26] قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين

قال فإنها أي: الأرض المقدسة محرمة عليهم أي: بسبب أقوالهم هذه [ ص: 1936 ] وأفعالهم. لا يدخلونها ولا يملكونها. ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد، فالتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد أربعين سنة يتيهون في الأرض أي: يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلهم، و (التيه) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضل عن وجه مقصده فلا تأس أي: تحزن على القوم الفاسقين أي: الخارجين من قيد الطاعات. قال العلامة البقاعي: ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين ولدوا في التيه. وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت على طلب الوفاء بها، وافتتحت بها، وصرح بأخذها عليهم في قوله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل الآيات. وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعلونه معه، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق، وترغيب لمن أطاع منهم، وترهيب لمن عصى. ومات في تلك الأربعين، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة. وكان الغمام يظلهم من حر الشمس. ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم. وغير هذا من النعم، لأن المنع بالتيه كان تأديبا لهم. لا غضب؛ إذ أنهم تابوا. ثم ساق البقاعي - رحمه الله - شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرق. ونحن نأتي على ملخصها تأثرا له، فنقول:

جاء في سفر "العدد" في الفصل الثالث عشر: إن شعب بني إسرائيل لما ارتحلوا من حصيروت ونزلوا ببرية فاران، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالا يجسون أرض كنعان. من كل سبط رجلا واحدا، وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل، فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض. أجيدة أم رديئة؟ وإلى أهلها، أشديدون أم ضعفاء؟ قليلون أم كثيرون؟ وأن يوافوه بشيء من ثمرها. فساروا واجتسوا الأرض من برية صين إلى رحوب عند مدخل حماة، ثم رجعوا بعد أربعين يوما. وكان موسى وقومه في برية فاران في قاديش، فأروهم ثمر الأرض، وقصوا عليهم ما شاهدوه من جودة الأرض، وأنها تدر لبنا وعسلا. ومن [ ص: 1937 ] شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم; فاضطرب قوم موسى. فأخذ كالب - أحد النقباء - يسكتهم عن موسى ويقول: نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها. وخالفه بقية النقباء وقالوا: لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشد منا. وهولوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا: شاهدنا أناسا طوال القامات، سيما بني عناق. فصرنا في عيوننا كالجراد. وكذلك كنا في عيونهم. فعند ذلك ضج قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا: ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية. ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة. وخير لنا أن نرجع إلى مصر. وقالوا: لنقم لنا رئيسا ونرجع إلى مصر. فلما شاهد موسى ذلك منهم وقع هو وأخوه هارون على وجوههما أمام الإسرائيليين. ومزق، من النقباء، يوشع بن نون وكالب ثيابهما. وكلما بني إسرائيل قائلين: إن الأرض التي مررنا فيها جيدة، وإذا كان ربنا راضيا عنا فإنه يدخلنا إياها. فلا تتمردوا ولا تخافوا أهلها فسيكونون طعمة لنا. إذ الرب معنا. فلما سمع بنو إسرائيل كلام يوشع وكالب قالوا: ليرجما بالحجارة، وكاد حينئذ أن يحيق ببني إسرائيل العذاب الإلهي، لولا تضرع موسى إلى ربه بأن يعفو عنهم، كيلا يكونوا أحدوثة عند أعدائهم المصريين، فعفا تعالى عنهم. وأعلم موسى; أن قومه لن يروا الأرض التي أقسم عليها لآبائهم، وأنهم يموتون جميعا في التيه. إلا كالبا. فإنه لحسن انقياده سيدخل الأرض، وكذلك يوشع، وأعلمه تعالى أيضا بأن أطفال قومه الذين سيهلكون في التيه يكونون رعاة فيه أربعين سنة بعدد الأيام التي تجس النقباء فيها أرض الكنعانيين. كل يوم وزره سنة ليعرفوا انتقامه، عز سلطانه ثم هلك النقباء العشرة، الذين شنعوا لدى قومهم تلك الأرض، بضربة عجلت لهم. ثم هم قوم موسى بالصعود إلى الكنعانيين لما أخبرهم موسى بما أعلمه تعالى. فنهاهم موسى وقال لهم: لا فوز لكم الآن بالنصر الرباني، وإن فعلتم فإن العدو يهزمكم وتسقطون تحت سيفه. فتجبروا وصعدوا إلى رأس الجبل. فنزل العمالقة والكنعانيون عليهم وحطموهم، ثم بعد انقضاء الأربعين سنة فتحت الأرض المقدسة على يد يوشع، كما شرح في "سفره"، والله أعلم.

[ ص: 1938 ] تنبيهات:

الأول: قوله تعالى: أربعين سنة ظرف متعلق ب (يتيهون). واحتمال كونه ظرفا ل (محرمة) كما ذكره غير واحد - لا يصح إلا بتكلف; لما شرحناه من سياق القصة.

الثاني: قال الحاكم: دل قوله تعالى: فلا تأس على القوم الفاسقين على أن من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه، بل يحمد الله إذا أهلك عدوا من أعدائه.

الثالث: قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين ههنا أخبارا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام. وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع. وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع. تحرير الحساب. وهذا شيء يستحيى من ذكره. ثم هو مخالف لما ثبت في "الصحيحين": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن» . ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته. وهذا كذب وافتراء، فإن الله تعالى ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وقال تعالى: فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين وقال تعالى: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وإذا كان ابن نوح، الكافر، غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق، نظر. والله أعلم.

[ ص: 1939 ] الرابع: قال ابن كثير: تضمنت هذه القصة تقريع اليهود، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم. هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم، فرعون، من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون، لتقر به أعينهم (وما بالعهد من قدم). ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم، وظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل. وقال - رحمه الله - قبل ذلك: وما أحسن ما أجاب به الصحابة - رضي الله عنهم - يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين [ ص: 1940 ] استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان. فلما فات اقتناص العير، واقترب منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض واليلب. فتكلم أبو بكر - رضي الله عنه - فأحسن، ثم تكلم من الصحابة، من المهاجرين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أشيروا علي أيها المسلمون! وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار. لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك. ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا. إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك. فسر على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه لذلك.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون أنا صاحبه، أحب إلي مما عدل به. أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: والله! يا رسول الله! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون . ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن يسارك، ومن بين يديك، ومن خلفك.

[ ص: 1941 ] فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك. وسره ذلك.
وهكذا رواه البخاري في "المغازي".

الخامس: استنبط العمرانيون من هذه الآية أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل، والانقياد لسواهم.

قال الحكيم بن خلدون في "مقدمة العبر" في الفصل 19 تحت العنوان المذكور: إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها. فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا (ألفوا) للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة، واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام، وأخبرهم أن الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، قالوا: إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها . أي: يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا، وتكون من معجزاتك يا موسى، ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له: فاذهب أنت وربك فقاتلا وما ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد، وما رئموا من الذل للقبط أحقابا حتى ذهبت العصبية منهم جملة. مع أنهم [ ص: 1942 ] لم يؤمنوا حق الإيمان بما أخبرهم به موسى، من أن الشام لهم، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم، بحكم من الله قدره لهم. فأقصروا عن ذلك وعجزوا، تعويلا على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلة. وطعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك وما أمرهم به. فعاقبهم الله بالتيه. وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة. لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصرا، ولا خالطوا بشرا، كما قصه القرآن، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهر من مساق الآية ومفهومها: أن حكمة ذلك التيه مقصودة. وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به. وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر، ولا يسام بالمذلة. فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب، يظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم، وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية. وأنها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة. وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله.

ثم بين تعالى وخيم عاقبة البغي والحسد، في جزاء ابني آدم لصلبه. تعريضا باليهود. وأنهم إن أصروا على بغيهم وحسدهم فسيرجعون بالصفة الخاسرة في الدارين، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[27] واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين

واتل عليهم أي: على هؤلاء البغاة الحسدة من اليهود وأشباههم نبأ ابني آدم هابيل وقابيل، ملتبسا بالحق أي: الصدق والصحة موافقا لما في كتبهم: [ ص: 1943 ] إذ قربا قربانا أي: ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسيكة أو صدقة. وكان هابيل راعي غنم، وقابيل يحرث الأرض. فقدم هابيل شيئا من أبكار غنمه ومن سمانها. وقدم قابيل شيئا رديئا من ثمر الأرض: فتقبل من أحدهما وهو هابيل: ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل: قال قابيل لهابيل: لأقتلنك على قبول قربانك: قال إنما يتقبل الله من المتقين أي: إنما أتيت من قبل نفسك، لانسلاخها من لباس التقوى. لا من قبلي. فلم تقتلني؟ وما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان; وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم!

وعن عامر بن عبد الله: أنه بكى حين حضرته الوفاة: فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول: إنما يتقبل الله من المتقين كذا في "الكشاف".

وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر.

قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة. فيمرون إلى الجنة.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 05-11-2022 10:05 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1944 الى صـ 1957
الحلقة (296)


القول في تأويل قوله تعالى:

[28] لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين

لئن بسطت أي: مددت: إلي يدك لتقتلني أي: ظلما: ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك أي: دفعا: إني أخاف الله رب العالمين أي: من أن أصنع كما تريد أن تصنع.

[ ص: 1944 ] وفي "الصحيحين": عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل. فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» . وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي في حديث سعد بن أبي وقاص قال: «قلت: يا رسول الله! أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن كابن آدم - وتلا -: لئن بسطت الآية» .

[ ص: 1945 ] قال المهايمي في تفسير هذه الآية: أي: إني - وإن لم أكن في الدفع ظالما - أخاف الله أن يكره مني هدم بنيانه الجامع ليظهر فيه من حيث كونه رب العالمين. انتهى.

وهو منزع صوفي لطيف.

وقال أبو السعود: فيه من إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى، على أبلغ وجه وآكده، ما لا يخفى. كأنه قال: إني أخافه تعالى إن بسطت يدي إليك لأقتلك، أن يعاقبني. وإن كان ذلك مني لدفع عداوتك عني. فما ظنك بحالك وأنت البادئ العادي؟ وفي وصفه تعالى بربوبية العالمين تأكيد للخوف. قيل: كان هابيل أقوى منه. ولكن تحرج عن قتله واستسلم خوفا من الله تعالى. لأن القتل للدفع لم يكن مباحا حينئذ. وقيل: تحريا لما هو الأفضل، حسبما قال صلى الله عليه وسلم: «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» . ويأباه التعليل بخوفه تعالى، إلا أن يدعى أن ترك الأولى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة، مبالغة في التنزه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[29] إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين

إني أريد أي: باستسلامي لك وامتناعي عن التعرض لك: أن تبوء أي: ترجع إلى الله ملتبسا: بإثمي أي: بإثم قتلي: وإثمك أي: الذي كان منك قبل قتلي، أو الذي من أجله لم يتقبل قربانك: فتكون أي: بالإثمين: من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين قال الناصر في "الانتصاف": فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه: إني لا أريد أن [ ص: 1946 ] أقتلك فأعاقب. ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين، إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم - وكان غير مريد للأول، اضطر إلى الثاني، فلم يرد إذا إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل - ولم تكن حينئذ مشروعة - فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا، كما يتمنى الإنسان الشهادة. ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتله ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك; أنه لا فرق في حصول درجة الشهادة وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالإيمان، فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيدا. أعني بقي الإثم على قاتله، أو حبط عنه، إذ ذلك لا ينتقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصودا لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه، فدل على أنه أمر لازم تبع، لا مقصود. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[30] فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين

فطوعت له نفسه قتل أخيه أي: رخصت وسهلت له نفسه. والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه. أي: الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه: فقتله فأصبح من الخاسرين دينا، إذ صار كافرا حاملا للدماء إلى يوم القيامة. ودنيا، إذ صار مطرودا مبغضا للخلائق.

وقد أخرج الجماعة - غير أبي داود - عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها. لأنه كان أول من سن القتل» . انتهى.

ولما قتله لم يدر ما يصنع له من إفراط حيرته.
[ ص: 1947 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[31] فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين

فبعث أي: أرسل: الله غرابا فجاء: يبحث أي: يحفر بمنقاره ورجله متعمقا: في الأرض

قال القتيبي: هذا من الاختصار. ومعناه: بعث غرابا يبحث التراب على ميت. وكذا رواه السدي عن الصحابة; أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا. فقتل أحدهما الآخر. فحفر له. ثم حثى عليه حثيا.

ليريه الضمير المستكن إما لله تعالى أو للغراب. والظاهر، للقاتل أخاه: كيف يواري أي: يستر في التراب: سوءة أخيه أي: جسده الميت. وسمي سوأة لأنه مما يسوء ناظره: قال يا ويلتا كلمة جزع وتحسر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والويل والويلة الهلكة: أعجزت أي: أضعفت عن الحيلة: أن أكون مثل هذا الغراب أي: الذي هو من أخس الحيوانات. والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب: فأواري أي: أغطي: سوءة أخي فأصبح أي: صار: من النادمين أي: على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله. فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضل منها وأدنى.

وفي " التنوير ": ولم يكن نادما على قتله.

وقال أبو الليث عن ابن عباس: لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه.

[ ص: 1948 ] تنبيهات:

الأول: ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب. ولا مانع من ذلك. إذ مثله مما يجوز خفاؤه. لاسيما والعالم، في أول طور النشأة، وأنه أول قتيل، فيكون أول ميت.

ونقل الرازي احتمال أن يكون عالما بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه. فواراه تحت الأرض، والله أعلم.

الثاني: في الآية دلالة على أن الندم، إذا لم يكن لقبح المعصية، لم يكن توبة. قال الرازي: ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة. فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.

الثالث: الآية أصل في دفن الميت.

الرابع: قال ابن جرير: زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل، قال له الله: يا قابيل! أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري. ما كنت عليه رقيبا. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها، حتى تكون فزعا تائها في الأرض. انتهى.

الخامس: روى ابن جرير بسنده عن علي بن أبي طالب قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال:

[ ص: 1949 ]
تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم
وقل بشاشة الوجه المليح


فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام:


أبا هابيل! قد قتلا جميعا وصار الحي كالميت الذبيح


وجاء بشرة قد كان منها على خوف، فجاء بها يصيح


أقول: قد اشتهر البيتان الأولان. وقد فند نسبتهما إلى آدم غير واحد.

قال الزمخشري: روي أن آدم رثاه بشعر. وهو كذب بحت. وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. انتهى.

قال الشراح: (المليح) في النظم المذكور، إن رفع فخطأ. لأنه صفة الوجه المجرور، وإن خفض فإقواء وهو عيب قبيح، وإن كثر. وقول من قال (الوجه فاعل قل. وبشاشة منصوب على التمييز بحذف التنوين، إجراء للوصل مجرى الوقف) ألحن، وقيل: إن آدم عليه الصلاة والسلام رثاه بكلام منثور بالسرياني. فلم يزل ينقل إلى أن وصل إلى يعرب بن قحطان - وهو أول من خط بالعربية - فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا. انتهى.

قال الخفاجي. لا شك أن لوائح الوضع عليه رائحة لركاكته، لكن ما استصعبوه من الإقواء، وترك التنوين، ليس بصعب، لما في أشعار الجاهلية والشعراء من أمثاله. مع أنه قد يخرج بأنه نعت جرى على المحل. لأن الوجه فاعل المصدر، وهو (بشاشة).

السادس: حكمة تخصيص الغراب كون الغراب دأبه المواراة.

قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء. فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه. انتهى.

والغراب هو الطائر الأسود المعروف. وقسموه إلى أنواع. وفي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم غير اسم غراب لما فيه من البعد. ولأنه من أخبث الطيور. والعرب تقول: أبصر من غراب، [ ص: 1950 ] وأحذر من غراب، وأزهى من غراب، وأصفى عيشا من غراب، وأشد سوادا من غراب، وهذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب. وإذا نعتوا أرضا بالخصب قالوا: وقع في أرض لا يطير غرابها. ويقولون: وجد تمرة الغراب، وذلك أنه يتبع أجود التمر فينتقيه. ويقولون: أشأم من غراب وأفسق من غراب. ويقولون: طار غراب فلان، إذا شاب رأسه.

وغراب غارب على المبالغة. كما قالوا: شعر شاعر، وموت مائت. قال رؤبة:


فازجر من الطير الغراب الغاربا


قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلا والغراب أشأم منه. وللبديع الهمذاني فصل بديع في وصفه. ذكره في "المضاف والمنسوب" وأورد ما يضاف إليه الغراب ويضاف إلى الغراب. والأبيات في غراب البين كثيرة، ملئت بها الدفاتر.

وحقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطي - قاضي غرناطة - في شرحه على "مقصورة حازم" أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل التي تنقلهم من بلاد إلى بلاد.

وأنشد في ذلك مقاطيع. منها:


غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غرابا ينعق


ما الذنب إلا للأباعر إنها مما يشتت جمعهم ويفرق


إن الغراب بيمنه تدنو النوى وتشتت الشمل الجميع الأينق


[ ص: 1951 ] وأنشد ابن المنساوي لابن عبد ربه:


زعق الغراب فقلت: أكذب طائر إن لم يصدقه رغاء بعير


كذا في "تاج العروس" شرح القاموس.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[32] من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون

من أجل ذلك أي: بسبب قتل قابيل هابيل ظلما: كتبنا أي: فرضنا وأوحينا: على بني إسرائيل وإنما خصوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك. وقوله تعالى: أنه من قتل نفسا بغير نفس أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص: أو فساد في الأرض أي: أو بغير فساد يوجب إهدار دمها - كالكفر مع الحراب، والارتداد، وقطع الطريق الآتي بعد، وزنا المحصن -: فكأنما قتل الناس جميعا أي: من حيث هتك حرمة الدماء، وسن القتل، وجرأ الناس عليه. أو من حيث إن قتل الواحد وقتل الجميع سواء، في استجلاب غضب الله تعالى والعذاب العظيم: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا أي: ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة. فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا.

والمقصود منه: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها، وترغيبا في المحاماة عليها: أفاده البيضاوي.

وقال أبو مسلم في معنى الآية: من قتل وجب على المؤمنين معاداته. وأن يكونوا [ ص: 1952 ] خصومه، كما لو قتلهم جميعا. لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم. ومن أحيا وجب موالاته عليهم، كما لو أحياهم. انتهى.

وقيل للحسن البصري: هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم. وما جعل دماءهم أكرم من دمائنا.

أقول: القاعدة في ذلك; أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم، ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه، فهو حق. وقد أوضح ذلك الإمام الشاطبي في "الموافقات" فانظره فإنه مهم. وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك. وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين! فقال: يا أبا هريرة! أيسرك أن تقتل الناس جميعا إياي معهم؟ قلت: لا! فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك، مأجورا غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمزة! نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟ قال: بل نفس أحييها. قال: عليك بنفسك» .

[ ص: 1953 ] ولقد جاءتهم يعني: بني إسرائيل: رسلنا بالبينات أي: الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم، تأكيدا لوجوب مراعاته، وتأييدا لتحتم المحافظة عليه ثم إن كثيرا منهم أي: من بني إسرائيل: بعد ذلك أي: بعد ما كتبنا عليهم، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم: لمسرفون يعني: بالفساد والقتل. لا يبالون بعظمة ذلك.

قال ابن كثير: هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها. كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع، ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه. وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك في (سورة البقرة) حيث يقول: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم الآيات.

وقال الرازي: المقصود من شرح هذه المبالغة - يعني قوله تعالى: فكأنما قتل الآية. - أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى. ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا [ ص: 1954 ] على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأكابر أصحابه - كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة، في هذه المبالغة العظيمة، مناسبا للكلام ومؤكدا للمقصود. ولما ذكر الله تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد - أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[33] إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم

إنما جزاء أي: مكافأة: الذين يحاربون الله ورسوله أي: يخالفونهما ويعصون أمرهما: ويسعون في الأرض فسادا أي: يعملون في الأرض بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى: أو ينفوا من الأرض أي: يطردوا منها وينحوا عنها. وهو التغريب عن المدن، فلا يقرون فيها: ذلك أي: الجزاء المذكور: لهم خزي ذل وفضيحة: في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى:

[34] إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم

إلا الذين تابوا أي: من المحاربين: من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم

[ ص: 1955 ] وفي هذه الآية مسائل:

الأولى - روى ابن جرير وأبو داود والنسائي عن ابن عباس، أنها نزلت في المشركين. وروى ابن جرير عن أبي، أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. وظاهر أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات. كما روى الشيخان وأهل السنن وابن مردويه وهذا لفظه: عن أنس بن مالك; أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها. فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ففعلوا فصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي وساقوا الإبل. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة. قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا، حتى ماتوا. ونزلت: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية. ولمسلم عن أنس قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 1956 ] أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء. وعند البخاري: قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وبعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.

الثانية - زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخا لعقوبة العرنيين المتقدمة.

قال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد: ما كان سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا. فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو - يعني الأوزاعي - فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بلى. كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم. ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم. فرفع عنهم السمل. وروى ابن جرير أيضا في القصة عن سعيد بن جبير قال: فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد، قال: [ ص: 1957 ] ونهى عن المثلة، قال: «لا تمثلوا بشيء.» والنهي عن المثلة مروي في الصحيح والسنن.

الثالثة - احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء، في ذهابهم إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء. لقوله: ويسعون في الأرض فسادا وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال. فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المنتهب. لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس. وقال الأكثرون: إن حكم من في البنيان والصحراء واحد، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء. لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالبا إلا بعض ماله; وهذا هو الصواب.

حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ويأخذ ما معه: إن هذه محاربة. ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول. ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-11-2022 10:08 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1958 الى صـ 1976
الحلقة (297)



[ ص: 1958 ] وإنما كان ذلك محاربة، لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد، لأنه لا يدري به.

وقيل: إن المحارب هو المجاهر بالقتال، وإن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي أمر الدم. والأول أشبه بأصول الشريعة.

الرابعة - ظاهر الآية: أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع. فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس، في الآية: من شهر السلاح في قبة الإسلام، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله. وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء [ ص: 1959 ] والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك. كما رواه ابن جرير، وحكي مثله عن أنس.

قال ابن كثير: ومستند هذا القول ظاهر. وللتخيير نظائر من القرآن. كقوله في جزاء الصيد: فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما وقوله في كفارة الترفه: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وقوله في كفارة اليمين: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة وهذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال [ ص: 1960 ] الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال.

أخرج الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية عن ابن عباس بنحوه، وعن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة انتهى.

وفي "النهاية" من فقه الزيدية: يرجع في المحارب إلى رأي الإمام، فإن كان له رأي قتله أو صلبه - لأن القطع لا يدفع المضرة - وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوة قطعه من خلاف، وإن عدم القوة والرأي ضرب ونفي; وهذا معنى التخيير بين هذه الأمور، أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام، على ما ذكر. انتهى.

ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلا مهما في المحاربين في كتابه "السياسة الشرعية" وقد مثلهم بقطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة، من الأعراب أو التركمان أو الأكراد أو الفلاحين أو فسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم. ثم ساق رواية الشافعي المتقدمة عن ابن عباس وقال:

هذا قول كثير من أهل العلم - كالشافعي وأحمد رضي الله عنهما - وهو قريب من قول أبي حنيفة - رحمه الله - ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله [ ص: 1961 ] مصلحة فيهم وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيهم. ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال. مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال. كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا. والأول قول الأكثر. فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال، بإجماع العلماء. ذكره ابن المنذر. ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول. بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما، أو لخصومة، أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة. فإن هذا دمه لأولياء المقتول. إن أحبوا قتلوا. وإن أحبوا عفوا. وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص. وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السراق. فكان قتلهم حد الله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء. حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل. مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا، أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا. فقد اختلف الفقهاء: هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل للفساد العام حدا، كما يقطع إذا أخذ أموالهم. وكما يحبس بحقوقهم. وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له، فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط. والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة. والردء والمباشر سواء. وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين. فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل ربيئة المحاربين. والربيئة هو الناظور الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء.

ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته. والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض، حتى صاروا ممتنعين، فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ويرد [ ص: 1962 ] متسريهم على قاعدتهم» . يعني: أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت، لأنها بظهره وقوته تمكنت. لكن تنفل عنه نفلا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية، إذا كانوا في بدايتهم، الربع بعد الخمس. فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية، نفلهم الثلث بعد الخمس. وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية؛ لأنها في مصلحة الجيش. كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير يوم بدر، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش. فأعوان الطائفة المتمنعة وأنصارها منها، فيما لهم وعليهم. وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية. كقيس ويمن ونحوهما، هما ظالمتان. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» . قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه» . أخرجاه في "الصحيحين" وتضمن كل طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل. لأن الطائفة الواحدة المتمنع بعضها ببعض كالشخص الواحد. وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراب كثيرا - فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء. كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. وهذا معنى قوله تعالى: أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف تقطع اليد التي يبطش بها، والرجل التي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله [ ص: 1963 ] بالزيت المغلي ونحوه، لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه. وكذا تحسم يد السارق بالزيت. وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل. فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم، إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل، ذكروا بذلك جرمه، فارتدعوا. بخلاف القتل، فإنه قد ينسى. وقد يؤثر في بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف. فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله. وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا، ثم أغمدوه أو هربوا، وتركوا الحراب، فإنهم ينفون. فقيل (نفيهم) تشريدهم. فلا يتركون يأوون في بلد. وقيل: هو حبسهم. وقيل: هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك. والقتل المشروع ضرب الرقبة بالسيف ونحوه. لأن ذلك أوحى (أي: أسرع) أنواع القتل. وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح. وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» . رواه مسلم. وقال: «إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان» . وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم، وهو بعد القتل، عند جمهور العلماء. ومنهم من قال: يصلبون ثم يقتلون وهم مصلوبون. وقد جوز بعض الفقهاء قتلهم بغير السيف حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل.

الخامسة: تتمة الآية. أعني قوله تعالى: ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم تدل على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة مطلقا. ولا يكون الحد المذكور طهرة لهم، ولو كانوا مسلمين.

[ ص: 1964 ] قال السيوطي في "الإكليل": قال ابن الفرس: ظاهره أن عقوبة المحارب لا تكون كفارة له، كما تكون في سائر الحدود.

وقال العارف الشعراني في "ميزانه": سمعت شيخنا، شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول: لم يرد لنا أن أحدا يؤخذ بذنبه في الدنيا والآخرة معا، إلا المحاربين، لقوله تعالى: ذلك لهم خزي الآية.

وقال ابن كثير: هذا يرجح رواية نزولها في المشركين. فأما أهل الإسلام ففي "صحيح مسلم" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخذ على النساء، ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا. فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته، ومن ستره الله فأمره إلى الله. إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

السادسة: دل قوله تعالى: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم على أن توبة المحاربين، قبل الظفر بهم، تسقط عنهم حد المحاربين المذكور في الآية. سواء كانوا مشركين أو مسلمين. وهو مروي عن علي وأبي هريرة والسدي وغيره. وقد قال الهادي: إذا تاب المحارب قبل الظفر به، سقط عنه كل تبعة من قتل أو دين، لعموم الآية.

قال ابن كثير: أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك فظاهر. أي: فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم، سقط عنهم جميع الحدود المذكورة. فلا يطالبون بشيء مما أصابوا من مال أو دم. قال أبو إسحاق: جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم، ليكون ذلك داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام. وأما المحاربون المسلمون، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل. وهل يسقط قطع اليد؟ فيه قولان للعلماء. وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة [ ص: 1965 ] كما روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة - وكان قد أفسد في الأرض وحارب - فكلم رجالا من قريش منهم: الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر؛ فكلموا عليا فيه فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فخلفه في داره ثم أتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا - فقرأ حتى بلغ: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فقال: اكتب له أمانا. قال سعيد بن قيس: فإنه جارية بن بدر. وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي، فقال حارثة بن بدر:


ألا أبلغا همدان إما لقيتها على النأي لا يسلم عدو يعيبها

لعمر أبيها إن همدان تتقي الـ
إله ويقضي بالكتاب خطيبها


وروى ابن جرير - من طريق سفيان الثوري عن السدي، ومن طريق أشعث - كلاهما. عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى - وهو على الكوفة في إمرة عثمان رضي الله عنه - بعد ما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى! هذا مقام العائذ بك. أنا فلان بن فلان المرادي. كنت حاربت الله ورسوله، وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي. فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان. وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، وإنه تاب من قبل أن يقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، (فإن يك صادقا فسبيل من صدق. وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه). فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله. ثم قال ابن جرير: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: قال الليث. وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الآمر عندنا، [ ص: 1966 ] أن عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائبا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم فوقف عليه فقال: يا عبد الله! أعد قراءتها. فأعادها عليه. فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر. فاغتسل. ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه. فلما أسفر عرفه الناس فقاموا إليه. فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم - في إمرته على المدينة في زمن معاوية - فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال: فترك من ذلك كله. قال: وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر. فلقوا الروم. فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم. فاقتحم على الروم في سفينتهم. فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى. فمالت بهم وبه. فغرقوا جميعا.

هذا، وفي تفسير بعض الزيدية - نقلا عن زيد والنفس الزكية والمؤيد بالله وأبي حنيفة ومالك والشافعي - أن توبة المحارب تسقط الحدود لله، دون حقوق بني آدم من قتل أو مال، لقوله تعالى: كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [ ص: 1967 ] وقوله تعالى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وقوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى ترد» ، وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» . قال في "شرح الإبانة": وروى زيد بن علي بإسناده إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام; أن قاطع الطريق، إذا تاب قبل أن يؤخذ وظفر به الإمام. ضمن المال واقتص منه. ثم قال: أما الكافر فلا خلاف أن توبته تسقط عنه جميع الحدود. انتهى.

وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل.

وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله.
[ ص: 1968 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[35] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا - أي اطلبوا -: إليه الوسيلة أي: القربة - كذا فسره ابن عباس ومجاهد وأبو وائل والحسن وزيد وعطاء والثوري وغير واحد. وقال قتادة: أي: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وقرأ ابن زيد: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة . قال ابن كثير: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة، لا خلاف بين المفسرين فيه. وفي "القاموس وشرحه": الوسيلة والواسلة: المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والوصلة. وقال الجوهري: الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير. والتوسيل والتوسل الواحد. يقال: وسل إلى الله تعالى توسيلا، عمل عملا تقرب به إليه، كتوسل. و (إلى) يجوز أن يتعلق ب (ابتغوا) وأن يتعلق ب (الوسيلة).

قدم عليها للاهتمام به: وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون أي: بسبب المجاهدة في سبيله. وقد بين كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس.

تنبيه:

ما ذكرناه في تفسير "الوسيلة" هو المعول عليه. وقد أوضحه إيضاحا لا مزيد عليه، تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة في "كتاب الوسيلة" فرأينا نقل شذرة منه؛ إذ لا غنى للمحقق في علم التفسير عنه.

قال رحمه الله بعد مقدمات:

إن لفظ الوسيلة والتوسل، فيه إجمال واشتباه، يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه. وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. فإن كثيرا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، [ ص: 1969 ] حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب. فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وفي قوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه، هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب واستحباب. وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.

والثاني - لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة» . وقوله: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» . فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 1970 ] خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة. وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله. وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول صلى الله عليه وسلم. وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة. لأن الجزاء من جنس العمل. فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم. فإن الشفاعة نوع من الدعاء. كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به. كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين. ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ، فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين. ويراد به معنى ثالث لم ترد به السنة. فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء، فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني: دعاؤه وشفاعته كما تقدم. فهذان جائزان بإجماع المسلمين. ومن هذا قول عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. أي: بدعائه وشفاعته. وقوله تعالى: وابتغوا إليه الوسيلة أي: القربة إليه بطاعته. وطاعة رسوله طاعته; قال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. وأما التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، [ ص: 1971 ] ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس. فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته. بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له، فإنه مشروع دائما.

فلفظ التوسل يراد به ثلاث معان:

أحدهما: التوسل بطاعته. فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.

والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.

والثالث: التوسل به. بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته. فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا في مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة. أو عن من ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز. ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى ب "شرح الكرخي" في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة. قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو إلا به. وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك. وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله. فلا أكره هذا. وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز. لأنه لاحق للخلق على الخالق. فلا تجوز وفاقا.

وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه - من أن الله لا يسأل بمخلوق - له معنيان: أحدهما هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى. وهذا بخلاف [ ص: 1972 ] إقسامه سبحانه بمخلوقاته: ك: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والشمس وضحاها والنازعات غرقا والصافات صفا - فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته، ما يحسن معه إقسامه. بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها. كما في "السنن" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» . وقد صححه الترمذي وغيره. وفي لفظ: «فقد كفر» . وقد صححه الحاكم. وقد ثبت عنه في "الصحيحين" أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله. وقال: لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» . وفي "الصحيحين" عنه أنه [ ص: 1973 ] قال: «من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله» . وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة، أو بما يعتقد هو حرمته - كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وسراويل الفتوة وغير ذلك... - لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحنث بذلك. والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. وقد حكى إجماع الصحابة على ذلك. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[36] إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم

إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض

من الأموال وغيرها: جميعا ومثله معه ليفتدوا به أي: ليفادوا به أنفسهم: من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وإنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه.

[ ص: 1974 ] وقد روى البخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك: أن لا تشرك بي. فيؤمر به إلى النار» . ورواه مسلم وغيره بنحوه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[37] يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم

يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم دائم لا ينقطع. وهذا كما قال تعالى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها الآية.

روى ابن مردويه عن يزيد بن صهيب الفقير، عن جابر بن عبد الله. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة» . قال: فقلت لجابر بن عبد الله، يقول الله: يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها قال: اتل أول الآية: إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به الآية. ألا إنهم الذين كفروا. [ ص: 1975 ] وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجه آخر. عن يزيد الفقير عن جابر وهذا أبسط سياقا.

[ ص: 1976 ] زاد ابن أبي حاتم: قال جابر: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قد جمعته قال: أليس الله يقول: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ؟ فهو ذلك المقام، فإن الله تعالى يحبس أقواما بخطاياهم في النار ما شاء، لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم.

ولما أوجب تعالى - في الآية المتقدمة - قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة - بين أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضا، فقال سبحانه:
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-11-2022 10:10 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1977 الى صـ 1990
الحلقة (298)



القول في تأويل قوله تعالى:

[38] والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم

والسارق أي: من الرجال: والسارقة أي: من النساء: فاقطعوا أيديهما يعني يمين كل منهما، والمقطع الرسغ، كما بينته السنة: جزاء بما كسبا أي: يقطع الآلة الكاسبة: نكالا أي: عقوبة: من الله أي: على فعل السرقة المنهي عنه من جهته تعالى، لا في مقابلة إتلاف المال، فإنه غير السرقة. فلذلك لا يسقط بعفو المالك، بخلاف العفو عن المال. ولا يبالي فيه بعزة السارق، لأنه تعالى غالب على أمره يمضيه كيف يشاء، كما قال: والله عزيز أي: فلا يبالي - مع عزته الموجبة لامتثال أمره - عزة من دونه: حكيم في شرائعه، فيختل أمر نظام العالم بمخالفة أمره، إذ فيه نفع عام للخلائق.

[ ص: 1977 ] وفي الآية مسائل:

الأولى - قال أبو السعود: لما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال، صرح بالسارقة أيضا، مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريقة الدلالة. لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر. انتهى.

ولما كانت غلبة السرقة في الرجال، لقوتهم بدأ بالسارق. كما أن غلبة الزنى لما كانت في النساء لفرط شهوتهن - قال في آية الزنى: الزانية والزاني

الثانية: - قال ابن كثير: روى الثوري بسنده إلى ابن مسعود، أنه كان يقرؤها: والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما. وهذه قراءة شاذة. وكان الحكم عند جميع العلماء موافقا لها لا بها، بل هو مستفاد من دليل آخر; وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى. كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه، وزيادات هي من تمام المصالح، ويقال: إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش، قطعوا رجلا يقال له (دويك) مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة، كان قد سرق كنز الكعبة، ويقال: سرقه قوم فوضعوه عنده.

الثالثة: ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به، سواء كان قليلا أو كثيرا، لعموم هذه الآية: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا. بل أخذوا بمجرد السرقة.

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما أخاص أم عام؟ فقال: بل عام. وهذا يحتمل أن يكون موافقة لابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء، ويحتمل ذلك، فالله أعلم.

[ ص: 1978 ] وتمسكوا بما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» .

وأما الجمهور فاعتبروا النصاب، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره.

فعند الإمام مالك: النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة. فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه، وجب القطع. واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم. أخرجاه في "الصحيحين" قال مالك رحمه الله: وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قومت بثلاثة دراهم. وهو أحب ما سمعت في ذلك.

قال أصحاب مالك: ومثل هذا الصنيع يشتهر ولم ينكر. فمن مثله يحكى الإجماع السكوتي. وفيه دلالة على القطع في الثمار، خلافا للحنفية، وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم، وللشافعية في اعتبار ربع دينار، والله أعلم.

وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار، أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا، والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان من طريق الزهري عن عمرة عن عائشة [ ص: 1979 ] رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» . ولمسلم عنها أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» . قال الشافعية: هذا الحديث فاصل في المسألة، ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما سواه. قالوا: وحديث ثمن المجن، وإن كان ثلاثة دراهم، لا ينافي هذا؛ لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهما. فهي ثمن ربع دينار فأمكن الجمع بهذا الطريق. ويروى هذا المذهب عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وبه يقول عمر بن عبد العزيز والليث والأوزاعي وإسحاق (في رواية عنه) وأبو ثور وداود الظاهري، رحمهم الله.

وذهب الإمام أحمد وإسحاق (في رواية) إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي. فمن سرق واحدا منهما أو ما يساويه قطع، عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة. ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك. وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهما. وفي لفظ للنسائي: لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن. قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار. فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم، والله أعلم.

وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه، وكذا سفيان الثوري، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة. واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثمنه عشرة دراهم، وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: [ ص: 1980 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن» .

وكان ثمن المجن عشرة دراهم. قالوا: فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن. فالاحتياط الأخذ بالأكثر، لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما بلغ قيمة واحد منهما. يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر، رحمهم الله تعالى.

وقال بعض السلف: لا تقطع الخمس إلا في خمس. أي: في خمسة دنانير أو خمسين درهما. وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله.

وقد أجاب الجمهور - عما تمسك بها الظاهرية من حديث أبي هريرة: يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده - بأجوبة:

أحدها - أنه منسوخ بحديث عائشة. وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من بيان التاريخ.

والثاني - أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن. قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه.

والثالث: - أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده. ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في الكثير والقليل. فلعن السارق يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة.

وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري، لما قدم بغداد، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار في ذلك شعرا فقال:


يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار؟


[ ص: 1981 ] وقد أجابه الناس في ذلك; فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أنه قال: لما كانت أمنية، كانت ثمينة. ولما خانت هانت، ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة. فإن في باب الجنايات، ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار، لئلا يجنى عليها. وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال: جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم أي: مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك. كذا في تفسير ابن كثير.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس سره في كتابه "السياسة الشرعية": وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع. قال الله تعالى: والسارق والسارقة الآية.. ولا يجوز بعد ثبوت الحد عليه بالبينة أو الإقرار، تأخيره. لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره. بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها. فإن إقامة الحدود من العبادات كالجهاد في سبيل الله. وينبغي أن يعرف أن إقامة الحد رحمة من الله بعباده. فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا إشفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق. بل بمنزلة الوالد إذا أدب ولده. فإنه لو كف عن تأديب ولده، كما تستر به الأم رقة ورأفة، لفسد الولد. وإنما يؤدبه رحمة وإصلاحا بحاله. مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب. وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه. وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك. بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه، وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة. فكذلك شرعت الحدود. وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها، فإن من كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات، بجلب المنفعة لهم ورفع المضرة عنهم وابتغائه بذلك وجه [ ص: 1982 ] الله تعالى وطاعة أمره - ألان الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير. وكفاه العقوبة اليسيرة. وقد يرضى المحدود إذا قام عليه الحد. وأما إذ كان غرضه العلو عليهم وإقامة بأسه ليعطوه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال - انعكس عليه مقصوده.

ويروى أن عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ساسهم سياسة صالحة، فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب، فسأل أهل المدينة عن عمر: كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه هيبة له! قال: كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا! قال كيف أدبه؟ قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة... قال: هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه! هذا أمر من السماء.

وإذا قطعت يده حسمت، ويستحب أن تعلق في عنقه. فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى. فإن سرق ثالثا أو رابعا، ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء:

أحدهما: تقطع أربعته في الثلاثة والرابعة، وهو قول أبي بكر، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، والكوفيين وأحمد في إحدى الروايتين.

والثاني: أنه يحبس. وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى. وتتمة مباحث السرقة مقررة في كتب السنة.

الرابعة: قرأ الجمهور برفع (السارق والسارقة) على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: وفيما يتلى عليكم - أو فرض عليكم - السارق والسارقة، أي: حكمهما، أو الخبر قوله تعالى: فاقطعوا أيديهما والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط. إذ المعنى: الذي سرق والتي سرقت. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة الرفع؛ لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلا بتأويل وإضمار، كذا اشتهر عن سيبويه.

قال الناصر في "الانتصاف": المستقرأ من وجوه القراءات أن العامة لا تتفق فيها أبدا [ ص: 1983 ] على العدول عن الأفصح.

وجدير بالقرآن أن يجري على أفصح الوجه، وأن لا يخلو من الأفصح، وما يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها. وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتماله على الشاذ الذي لا يعد من القرآن. ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل. قال سيبويه في ترجمة "باب الأمر والنهي" بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب: وملخصها أنه متى بني الاسم على فعل الأمر، فذلك موضع اختيار النصب. ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيها النصب: وأما قوله عز وجل: والسارق والسارقة الآية. وقوله: الزانية والزاني فاجلدوا فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله: مثل الجنة التي وعد المتقون ثم قال بعد: فيها كذا وكذا. يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها. ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل. وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه. فلا يلزم فيه اختيار النصب.

عاد كلامه قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده. فذكر أخبارا وقصصا. فكأنه قال: ومن القصص: مثل الجنة. فهو محمول على هذا الإضمار. والله أعلم. وكذلك: [ ص: 1984 ] الزانية والزاني لما قال جل ثناؤه: سورة أنـزلناها وفرضناها قال في جملة الفرائض: الزانية والزاني - ثم جاء -: فاجلدوا . بعد أن مضى فيهما الرفع، يريد سيبويه: لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئا.

عاد كلامه قال: كما جاء: وقائلة خولان فانكح فتاتهم. فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر; وكذلك: والسارق والسارقة وفيما فرض عليكم السارقة والسارق. فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث. وقد قرأ ناس: والسارق والسارقة. بالنصب، وهو في العربية ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع.

يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم. وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع القراءتين مختلف؟ وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب. فالنصب أرجح من الرفع حيث ينبني الاسم على الفعل. والرفع متعين (لا أقول: أرجح) حيث بني الاسم على كلام متقدم.

ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار. ولو كان كما ظنه الزمخشري، لم يحتج سيبويه إلى تقدير بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره، فالملخص على هذا: أن النصب على وجه واحد، وهو بناء الاسم على فعل الأمر. والرفع على وجهين: أحدهما ضعيف؛ وهو الابتداء وبناء الكلام على الفعل. والآخر قوي بالغ كوجه النصب - وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق. وحيثما تعارض لنا وجهان [ ص: 1985 ] في الرفع، أحدهما قوي والآخر ضعيف، تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رضي الله عنه. والله أعلم. انتهى.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[39] فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم

فمن تاب أي: رجع من السراق إلى الله: من بعد ظلمه أي: سرقته: وأصلح أي: عمله: فإن الله يتوب عليه أي: يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة: إن الله غفور رحيم أي: مبالغ في المغفرة ولذلك يقبل توبته. وهو تعليل لما قبله.

قال أبو السعود: وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وتأييد استقلال الجملة.

وكذا في قوله عز وجل:
القول في تأويل قوله تعالى:

[40] ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير

ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض فإن عنوان الألوهية مدار أحكام ملكوتهما. والاستفهام لتقرير العلم. والمراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه. أي: ألم تعلم أن له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما: يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وتقديم التعذيب لأن السياق للوعيد. فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر: والله على كل شيء قدير ومنه التعذيب والمغفرة.

[ ص: 1986 ] تنبيه:

ذهب الجمهور إلى أن توبة السارق تسقط عنه حدود الله. وأما حق الآدمي من القطع ورد المال أو بدله فلا يسقط بتوبته.

وقال أبو حنيفة: متى قطع، وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها. وقد بينت السنة أنه إن عفي عنه قبل الرفع إلى الإمام، سقط القطع.

روى ابن ماجه عن ثعلبة الأنصاري: أن عمر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني. فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده. قال ثعلبة (أحد رجال السند): أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك. أردت أن تدخلي جسدي النار.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا. يا رسول الله! إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها (يعني أهلها) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقطعوا يدها» . فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟! قال: «نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك» . فأنزل الله عز وجل في سورة المائدة: فمن تاب من بعد ظلمه الآية.

قال ابن كثير: وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت. وحديثها ثابت في الصحيحين [ ص: 1987 ] من رواية الزهري عن عائشة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح. ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه. قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها، تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتكلمني في حد من حدود الله؟ قال أسامة: استغفر لي يا رسول الله؟

فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد. فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك. وتزوجت.

قالت عائشة: فكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجاتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهذا لفظ مسلم. وفي لفظ له عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. وعن ابن عمر قال: كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. رواه الإمام أحمد. وأبو داود والنسائي، وهذا [ ص: 1988 ] لفظه. وفي لفظ له: إن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا بلال! فخذ بيدها فاقطعها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[41] يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم

يا أيها الرسول لا يحزنك نهي. قال أبو البقاء: والجيد فتح الياء وضم الزاي. ويقرأ بضم الياء وكسر الزاي من (أحزنني) وهي لغة. الذين يسارعون في الكفر أي: في إظهاره بما يلوح منهم آثار الكيد للإسلام ومن موالاة الكافرين: من الذين قالوا آمنا بأفواههم أي: بألسنتهم. متعلق ب (قالوا): ولم تؤمن قلوبهم وهم المنافقون، أي: لا تبال بهم فإني ناصرك عليهم: ومن الذين هادوا عطف على: من الذين قالوا وهم يهود بني قريظة، كعب وأصحابه: سماعون للكذب خبر لمحذوف، أي: هم سماعون. واللام إما لتقوية العمل، وإما لتضمين السماع معنى القبول، وإما لام كي، والمفعول محذوف; والمعنى: هم مبالغون في سماع الكذب الذي افترته أحبارهم أو في قبوله. أو سماعون أخباركم ليكذبوا عليكم بالزيادة والنقص إرجافا وتهويلا.

[ ص: 1989 ] وفي " الإكليل ": أن قوله تعالى: سماعون للكذب يدل على أن سامع المحظور كقائله في الإثم.

سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي: لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنه إفراطا في البغضاء. أي: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك. قيل: هم يهود خيبر. والسماعون، بنو قريظة: يحرفون الكلم أي: كلم التوراة في الأحكام: من بعد مواضعه أي: التي وضعه الله عليها.

قال ابن كثير: أي: يتناولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. يقولون إن أوتيتم هذا أي: إن أوتيتم هذا المحرف المزال عن مواضعه من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام: فخذوه أي: اعملوا به فإنه الحق: وإن لم تؤتوه بأن أفتاكم الرسول بخلافه: فاحذروا أي: من قبوله، وإياكم وإياه! فإنه الباطل والضلال. قال ابن كثير: قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد. فإن حكم بالدية فاقبلوه. وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.

والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا. وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم. فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه. فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله. ويكون نبيا من أنبياء الله قد حكم بذلك.

وقد وردت الأحاديث بذلك: فروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في شأن الرجم» ؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم؛ إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها. فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ [ ص: 1990 ] ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا آية الرجم. فقالوا: صدق، يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة. وأخرجاه في الصحيحين. وهذا لفظ الموطأ.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-11-2022 10:14 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1991 الى صـ 2002
الحلقة (299)



وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود. فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى! هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا، والله! ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا. فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» . قال: فأمر به فرجم. قال: فأنزل الله عز وجل: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله -: يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه . أي: يقولون: ايتوا محمدا. فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه. وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. قال الحافظ ابن كثير: انفرد بإخراجه مسلم [ ص: 1991 ] دون البخاري. وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وكذلك روى أبو بكر الحميدي في "مسنده" نحوه في سبب نزولها عن جابر. وأبو داود أيضا، عن ابن عمر.

ومن يرد الله فتنته أي: ضلالته: فلن تملك له من الله شيئا أي: في دفع ضلالته: أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم أي: من دنس الفتنة ووضر الكفر لانهماكهم فيهما. وإصرارهم عليهما، وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية: لهم في الدنيا خزي أي: فضيحة وهتك ستر، بظهور نفاقهم بالنسبة للمنافقين. وذل وجزية وافتضاح، بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة بالنسبة لليهود: ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو النار.
القول في تأويل قوله تعالى:

[42] سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين

سماعون للكذب أي: بالباطل. خبر لمحذوف. وكرر تأكيدا لما قبله وتمهيدا لقوله: أكالون للسحت أي: الحرام. وهو الرشوة كما قال ابن مسعود.

قال الزمخشري: السحت كل ما لا يحل كسبه. وهو من (سحته) إذا استأصله. [ ص: 1992 ] لأنه مسحوت البركة. كما قال تعالى: يمحق الله الربا والربا باب منه. وقرئ: (السحت) بالتخفيف والتثقيل، و (السحت) بفتح السين على لفظ المصدر من (سحته)، و (السحت) بفتحتين، و (السحت) بكسر السين، وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. انتهى.

وفي "اللباب": السحت كله حرام تحمل عليه شدة الشره. وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه لا محالة. ومعلوم أن حال الرشوة كذلك. فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم. عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم.

أخرجه الترمذي. وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

قال ابن مسعود: الرشوة في كل شيء. فمن شفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما. فأهدي بها إليه، فقبل، فهو السحت. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن! ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم؟ فقال: الأخذ على الحكم كفر! قال الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون

فإن جاءوك يعني اليهود لتحكم بينهم: فاحكم بينهم لأنهم اتخذوك حكما: أو أعرض عنهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم، أي: فأنت بالخيار. وقد استدل بالآية من قال: إن الإمام مخير في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم. وعن بعض السلف: إن التخيير المذكور نسخ بقوله تعالى: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله والتحقيق أنها محكمة، والتخيير باق.

وهو مروي عن الحسن [ ص: 1993 ] والشعبي والنخعي والزهري، وبه قال أحمد. لأنه لا منافاة بين الآيتين. فإن قوله تعالى: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فيه التخيير. وقوله تعالى: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله فيه كيفية الحكم، إذا حكم بينهم: وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا أي: فلن يقدروا على الإضرار بك، لأن الله تعالى عاصمك من الناس: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط أي: بالعدل الذي أمرت به، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل: إن الله يحب المقسطين أي: العادلين فيما ولوا وحكموا.

روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[43] وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين

وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه. مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذين يدعون الإيمان به.

قال بعضهم: معنى: فيها حكم الله أي: في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهو حكم الله بحسب اعتقادهم أو بحسب الحقيقة. قال: ووجود هذا الحكم الخاص فيها، لا ينافي القول بوجود أشياء أخرى كثيرة فيها محرفة. وسماها التوراة: إما باعتبار عرفهم. أو باعتبار أصلها، أو لاشتمالها على أشياء كثيرة من التوراة الحقيقية. ولولا ذلك ما صح أن تسمى بذلك، كالإنجيل، مع اعتقاد تحريفها وتبديلها وعدم صحة كثير من أجزائها وكتبها...اه.

[ ص: 1994 ] ثم يتولون من بعد ذلك أي: من بعد البيان في التوراة، وحكمك الموافق لما في كتابهم: وما أولئك بالمؤمنين أي: بالتوراة كما يزعمون.

قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز طلب الرخصة بترك ما يعتقده حقا إلى ما يعتقده غير حق. وقوله تعالى: ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين يدل على أن التولي عن حكم الله يخرجه عن الإيمان.

قال بعض الزيدية: إذا كره حكم الشرع وطلب المنع، هل ذلك يخرجه عن حكم الإيمان؟ وهذا ينبغي أن يفصل فيه، فيقال: إن اعتقد صحته، أو رأى له مزية أو تعظيما. أو استهان بحكم الإسلام، فلا إشكال في كفره. وإن لم يحصل ذلك منه، بل اعتقد أنه باطل خسيس، وأنه يعظم شرع الإسلام، ولكن يميل إلى هوى نفسه، فهذا لا يكفر على الظاهر. إذ الكفر يحتاج إلى دليل قاطع.

وفي كلام الحاكم ما تقدم: أنه يخرجه عن الإيمان. فإن أوهم أنه حق أو أنه أصلح من شرع الإسلام، فهذا محتمل للكفر. لأنه كفر إبليس اللعين، بكونه اعتقد أن أمر الله تعالى له بالسجود لآدم، غير صلاح. لكونه خلقه من طين، وإبليس من النار. انتهى.

ثم أشار تعالى إلى حالة اليهود الذين كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرفونها، ويقتلون النبيين، بأنهم خالفوا ما أمرهم الله في شأنها من الهداية بها وصونها عن التحريف، فقال:
[ ص: 1995 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[44] إنا أنـزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون

إنا أنـزلنا التوراة فيها هدى أي: إرشاد إلى الحق: ونور أي: إظهار لما انبهم من الأحكام: يحكم بها النبيون من بني إسرائيل: الذين أسلموا أي: الذين كانوا مسلمين من لدن موسى إلى عيسى عليهم السلام. وسنذكر سر هذه الصفة: للذين هادوا وهم اليهود. و (هاد) بمعنى تاب ورجع إلى الحق.

قال المهايمي: للذين هادوا أي: لا لمن يأتي بعدهم. ولم يختص بالحكم بها الأنبياء بل يحكم بها: والربانيون أي: الزهاد العباد: والأحبار أي: العلماء الفقهاء: بما استحفظوا من كتاب الله أي: بسبب الذي استودعوه من كتاب الله أن يحفظوه من التغيير والتبديل وأن يقضوا بأحكامه. والضمير في (استحفظوا) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا. ويكون الاستحفاظ من الله، أي: كلفهم حفظه. أو للربانيين والأحبار، ويكون الاستحفاظ من الأنبياء: وكانوا عليه شهداء أي: رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه. أو بأنه حق وصدق من عند الله. فمعلمو اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها، لشيوعه وتداوله وتواتر العمل به.

لطيفة:

قال الزمخشري: قوله تعالى: الذين أسلموا صفة أجريت على النبيين على سبيل [ ص: 1996 ] المدح. كالصفات الجارية على القديم سبحانه. لا للتفصلة والتوضيح. وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل منها. انتهى.

قال الناصر في "الانتصاف": وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح، أن الأنبياء لا يكونون إلا متصفين بها. فذكر النبوة يستلزم ذكرها. فمن ثم حمله على المدح، وفيه نظر. فإن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يميز بها الممدوح عمن دونه. والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما؟ فإن أقل متبعيه كذلك. فالوجه - والله أعلم - أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوه بها إذا وصف لها عظيم القدر. كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها. وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وأمثاله. تنويها بمقدار الصلاح. إذ جعل صفة الأنبياء. وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته. وكذلك قيل في قوله تعالى: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا فأخبر عن الملائكة المقربين، بالإيمان. تعظيما لقدر الإيمان وبعثا للبشر على الدخول فيه، ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة. وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا. ولهذا قال: ويستغفرون للذين آمنوا يعني من البشر لثبوت حق الأخوة [ ص: 1997 ] في الإيمان بين الطائفتين فكذلك - والله أعلم - جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به. لقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف، والناظم في مدحه صلى الله عليه وسلم:


فلئن مدحت محمدا بقصيدتي فلقد مدحت قصيدتي بمحمد


والإسلام، وإن كان من أشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه، إلا أن النبوة أشرف وأجل، لاستعمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة. فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة، في سياق المدح، لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز، وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لا النزول على العكس. ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله:


شمس ضحاها هلال ليلتها در تقاصيرها زبرجدها!


فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد في سياق المدح. فمضغت الألسن عرض بلاغته، ومزقت أديم صيغته. فعلينا أن نتدبر الآيات المعجزات، حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهود لها. والله الموفق.

وقوله تعالى: فلا تخشوا الناس قال الزمخشري: نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها، وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء.

[ ص: 1998 ] وقال أبو السعود: خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات. وأما حكام المسلمين فيتناولهم النهي بطريق الدلالة دون العبارة. والفاء لترتيب النهي على ما فصل من حال التوراة وكونها معتنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام، ومن يقتدي بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملا وحفظا. فإن ذلك مما يوجب الاجتناب عن الإخلال بوظائف مراعاتها والمحافظة عليها بأي وجه كان. فضلا عن التحريف والتغيير. ولما كان مدار جراءتهم على ذلك، خشية ذي سلطان أو رغبة في الحظوظ الدنيوية، نهوا عن كل منهما صريحا، أي: إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناس كائنا من كانوا، واقتدوا في مراعاة أحكامها وحفظها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعهم: واخشون في مخالفة أمري والإخلال بحقوق مراعاتها: ولا تشتروا أي: تستبدلوا: بآياتي أي: التي فيها، بأن تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم بدلا منها: ثمنا قليلا من الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، فإنها - وإن جلت - قليلة مسترذلة في نفسها، لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها: ومن لم يحكم بما أنـزل الله أي: كائنا من كان، دون المخاطبين خاصة، فإنهم مندرجون فيه اندراجا أوليا. أي: من لم يحكم بذلك مستهينا به، منكرا له كما يقتضيه ما فعلوه اقتضاء بينا: فأولئك هم الكافرون لاستهانتهم به. والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير، وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير. حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى. فكيف وقد انضم إليه الحكم بخلافه؟ لا سيما مع مباشرة ما نهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه، وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. قاله أبو السعود.

تنبيهات:

الأول: في قوله تعالى: فلا تخشوا الناس دلالة على أن على الحاكم أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

الثاني: في قوله تعالى: ولا تشتروا إلخ دلالة على تحريم الرشا على التبديل. [ ص: 1999 ] وكتمان الحق، وأن فعل ذلك، لغرض دنيوي من طلب جاه، أو مال - محرم.

الثالث: في قوله: ومن لم يحكم بما أنـزل الله الآية. تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه، حيث علق عليه الكفر هنا، والظلم والفسق بعد.

الرابع: ما أخرجه مسلم عن البراء: أن قوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) . الثلاث الآيات في الكفار كلها. وكذا ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس: أنها في اليهود خاصة، قريظة والنضير - لا يناف تناولها لغيرهم، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكلمة: "من" وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم.

الخامس: كفر الحاكم بغير ما أنزل بقيد الاستهانة به والجحود له، هو الذي نحاه كثيرون وأثروه عن عكرمة وابن عباس.

وروى الحاكم وابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن ابن عباس وطاوس: أن من لم يحكم بما أنزل الله، هي به كفر، وليس بكفر ينقل عن الملة. كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ونحو هذا روى الثوري، عن عطاء قال: هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. رواه ابن جرير.

ونقل في "اللباب" عن ابن مسعود والحسن والنخعي: أن هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة، فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله، فقد كفر وظلم وفسق. وإليه ذهب السدي. لأنه ظاهر الخطاب. ثم قال: وقيل: هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عيانا عمدا، وحكم بغيره. وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل، فلا يدخل في هذا الوعيد.. انتهى.

[ ص: 2000 ] وقال إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن": ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا - يعني اليهود - واخترع حكما يخالف به حكم الله، وجعله دينا يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور، حاكما كان أو غيره.

السادس: روي سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات:

أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون و: أولئك هم الظالمون و: أولئك هم الفاسقون في الطائفتين من اليهود. وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتله العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتله الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويومئذ لم يظهر ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح. فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا. فأرسلت العزيزة إلى الذليلة: أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين قط، دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنا إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم. فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. ثم ذكرت العزيزة فقالت: والله! ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منهم، ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم. فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه. إن أعطاكم ما تريدون حكمتوه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله وما أرادوا. فأنزل الله تعالى: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر [ ص: 2001 ] - إلى قوله -: الفاسقون ثم قال: فيهما، والله! نزلت، وإياهم عنى الله عز وجل. ورواه أبو داود بنحوه.

وروى ابن جرير من طريق أخرى عن ابن عباس قال: إن الآيات في المائدة قوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم - إلى -: المقسطين إنما أنزلت في الدية في بني النضير وقريظة. وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف يؤدي الدية كاملة. وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية. فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم. فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء. ورواه أحمد وأبو داود والنسائي بنحوه.

وروى ابن جرير أيضا عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير. وكانت النضير أشرف من قريظة. فكان إذا قتل القرظي رجلا من النضير قتل به. وإذا قتل النضيري رجلا من قريظة، ودي بمائة وسق من التمر. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة. فقالوا: ادفعوا إليه، فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط . ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في "المستدرك" بنحوه. وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد. وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث، وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد. فنزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير.

[ ص: 2002 ] وقد أسلفنا في "المقدمة" في بحث سبب النزول، ما يزيل الإشكال في تعدد السبب. فتذكر. ومما يقوي أن سبب النزول قضية القصاص - كما قال ابن كثير - قوله تعالى بعد ذلك:
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الظالمون

وكتبنا عليهم فيها أي: فرضنا على اليهود في التوراة: أن النفس بالنفس أي: مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق: والعين مفقوءة: بالعين والأنف مجدوعا: بالأنف والأذن مقطوعة: بالأذن والسن مقلوعة: بالسن والجروح قصاص أي: ذات قصاص، أي: يقتص فيها إذا أمكن. كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وإلا - ككسر عظم وجرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته - فلا قصاص، بل فيه حكومة عدل.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-11-2022 10:19 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 2003 الى صـ 2018
الحلقة (300)


تنبيهات:

الأول: هذه الآية مما وبخت به اليهود أيضا وقرعت عليه. فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وقد خالفوا حكم ذلك عمدا وعنادا. فأقادوا النضري من القرظي، ولم يقيدوا القرظي من النضري. وعدلوا إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار، ولهذا قال هناك: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا. وقال ههنا - في تتمة الآية: فأولئك هم الظالمون لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر [ ص: 2003 ] الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه. فخالفوا وظلموا، وتعدوا على بعضهم بعضا - أفاده ابن كثير.

الثاني - قوله تعالى: والعين بالعين والمعطوفات بعده، كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل: أن النفس بالنفس لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء (كتبنا) مجرى (قلنا) وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك: (النفس بالنفس) مما يقع عليه (الكتب) كما تقع عليه (القراءة)، تقول: كتبت: الحمد لله، وقرأت: سورة أنزلناها. ولذلك قال الزجاج: لو قرئ: أن النفس بالنفس بالكسر لكان صحيحا. كذا في "الكشاف". وقد توسع الخفاجي في "العناية" في بحث الرفع - هنا - على عادته في النحويات فانظره إن شئت.

روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين نصب النفس ورفع العين، قال الترمذي: حسن غريب. وقال البخاري: تفرد ابن المبارك بهذا الحديث.

الثالث: استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا - إذا حكي مقررا ولم ينسخ; كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر أصحابه - بهذه الآية. حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم. وقد حكى الإمام أبو منصور بن الصباغ في كتابه "الشامل" اجتماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه.

الرابع: قال ابن كثير: احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة. بعموم هذه الآية الكريمة. وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 2004 ] كتب في كتاب عمرو بن حزم: أن الرجل يقتل بالمرأة.

[ ص: 2005 ] [ ص: 2006 ] [ ص: 2007 ] [ ص: 2008 ] وفي الحديث الآخر: المسلمون تتكافأ دماؤهم. وهذا قول جمهور العلماء. وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وحكي عن الحسن وعثمان البستي، ورواية عن أحمد، أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل يجب ديتها. وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أن يقتل المسلم بالكافر الذمي، وعلى قتل الحر بالعبد. وقد خالفه الجمهور فيهما. ففي "الصحيحين" عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 2009 ] «لا يقتل مسلم بكافر» . وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة. إنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ولا يقتل حر بعبد. وجاء في ذلك أحاديث لا تصح. وحكى الشافعي الإجماع. على خلاف قول الحنفية في ذلك. انتهى.

وقال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية مشروعية القصاص في النفس والأعضاء والجروح بتقدير شرعنا. كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: كتاب الله القصاص; استدل بعموم (النفس بالنفس) من قال بقتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد، والرجل بالمرأة. وأجاب ابن الفرس بأن الآية أريد بها الأحرار المسلمون، لأن اليهود المكتوب ذلك عليهم في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا أحرارا لا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم بين سائر الأنبياء. لأن الاستعباد من الغنائم. ولم تحل لغيره. وعقد الذمة لبقاء الكفار. ولم يقع ذلك في عهد نبي. بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب. وأخر ذلك في هذه الأمة رحمة. وهذا جواب مبين.

وقوله: والجروح قصاص استدل به في كل جرح قيل بالقصاص فيه - كاللسان والشفة وشجاج الرأس والوجه وسائر الجسد - وعلى أن نتف الشعر والضرب لا قصاص فيه، إذ ليس بجرح. انتهى.

[ ص: 2010 ] وقال بعض الزيدية في "تفسيره": مذهب أئمة البيت ومالك والشافعي; أنه لا يقتل المسلم بالكافر. وقال أبو حنيفة: يقتل به، لا بالحربي ولا بالمستأمن من الحربيين أخذا بعموم الآية. قلنا: هي مخصصة بقوله في سورة الحشر: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة وهذا يقتضي نفي المساواة عموما. قالوا: أراد (في الآخرة). قلنا قال الله: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا قالوا: ليس هذا على عمومه؛ فإن له أخذ الدين منه، وذلك سبيل. قلنا: قال صلى الله عليه وسلم: لا يقتل المؤمن بكافر. فعم. قالوا أراد بكافر حربي. بدليل أن في آخر الخبر: ولا ذو عهد في عهد. والمعنى: لا يقتل المؤمن ولا الكافر الذي عوهد، بالكافر الذي لا عهد له. قلنا: قد تمت الجملة الأولى وهي قوله عليه السلام: لا يقتل المؤمن بكافر. وأما قوله: ولا ذو عهد في عهد، فهذه جملة أخرى. يريد: لا يقتل ما دام في العهد. مع أن الحديث إن احتمل أنها جملة واحدة فالمراد: لا يقتل مؤمن بأحد من الكفار عموما. وكذلك المعاهد لا يقتل بأحد من الكفار عموما. فقامت الدلالة على أن المعاهد يقتل ببعض الكفار. وبقي المؤمن على عمومه. وما قلنا مروي عن علي عليه السلام وزيد. وهذه المخصصات تخصص ما ورد من العمومات في هذه المسألة. انتهى.

[ ص: 2011 ] الخامس: عموم قوله تعالى: ( العين بالعين ) كعموم قوله تعالى: النفس بالنفس فما خصص ذلك العام، خصصه هنا، لكن ننبه على أطراف:

منها -: أن اليسرى لا تؤخذ باليمنى، والوجه عدم المساواة.

ومنها -: عين الأعور تؤخذ بعين الصحيح على ما نصه في "الأحكام"، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي لعموم الآية. وقال في "المنتخب" ومالك: لا تؤخذ، لأن نورها أكثر فتطلب المساواة. واحتجوا بأنه مروي عن علي عليه السلام وعمر وابن عمر وعثمان; قال في "الشرح": وكان الإمام يحيى لا يصحح هذه الرواية عن علي عليه السلام.

ومنها -: في كيفية القصاص. فإن قلعت العين ثبت القصاص بالقلع. وإن ضرب حتى ذهب بصره ثبت القصاص. قال في "التهذيب": فقيل: بالقلع. وقيل: تحمى حديدة ثم تقرب من عينه.

وأما قوله تعالى: والأنف بالأنف فالكلام في عمومه كما تقدم. ويذكر هنا تنبيه؛ وهو أن القصاص إنما يكون إذا استؤصلت. لأن ذلك كالمفصل، لا إذا قطع بعضها. والعموم في قوله تعالى: والأذن بالأذن أيضا كما تقدم. والقصاص: إذا قطعت من أصلها لا إذا قطع البعض. ولا تؤخذ أذن الصحيح بأذن الأصم.

وكذا عموم قوله تعالى: والسن بالسن والقصاص: إذا قلع من أصله. ولا بد من المساواة. فلا يؤخذ الصحيح بالأسود ولا بالمكسور. ولا الثنية بالضرس. ونحو ذلك. كما لا تؤخذ اليمنى باليسرى.

وأما قوله تعالى: والجروح فهذا فيما تمكن فيه المساواة، ويؤمن على النفس لتحرج الأمة.

كذا في "تفسير بعض الزيدية". وتتمة فقه هذه الآية يرجع فيه إلى مطولات كتب السنة وشروحها.

[ ص: 2012 ] وقوله تعالى: فمن تصدق أي: من المستحقين: به أي: بالقصاص. أي: فمن عفا عن الجاني. والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب: فهو أي: التصدق كفارة له أي: للمتصدق يكفر الله بها ذنوبه. وقيل: فهو كفارة للجاني، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه. وهذا التأويل الثاني روي عن كثير من السلف. كما أخرجه ابن أبي حاتم. واللفظ محتمل. إلا أن الأخبار الواردة في فضل العفو تشهد للأول.

وروى الإمام أحمد عن الشعبي; أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به» . ورواه النسائي أيضا.

وروى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصيب بشيء من جسده فتركه لله، كان كفارة له.

وروى الإمام ابن جرير عن أبي السفر قال: دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار. فاندقت ثنيته. فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألح عليه الرجل قال معاوية: شأنك وصاحبك. قال وأبو الدرداء عند معاوية. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيهبه، إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة» . فقال الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فخلى سبيل القرشي. فقال له معاوية: مروا له بمال.

[ ص: 2013 ] ورواه الإمام أحمد أيضا عن أبي السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار. فاستعدى عليه معاوية. فقال القرشي: إن هذا دق سني، فقال معاوية: كلا. إنا سنرضيه. قال: فلما ألح عليه الأنصاري. قال معاوية: شأنك بصاحبك - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيتصدق به، إلا رفعه الله به درجة وحط عنه بها خطيئة» . قال: فقال الأنصاري: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم. سمعته أذناي ووعاه قلبي. يعني فعفا عنه الأنصاري. وهكذا رواه الترمذي وقال: غريب، ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء.

ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الظالمون لأنهم حكموا بخلاف حكم الله العدل. وتقدم في أول التنبيهات الخمس، قريبا، سر التعبير ههنا ب (الظالمون) قبله ب (الكافرين) فتذكر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[46] وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين

وقفينا أي: أتبعنا: على آثارهم يعني أنبياء بني إسرائيل: بعيسى ابن مريم أي: أرسلناه عقبهم: مصدقا لما بين يديه من التوراة أي: مؤمنا بها حاكما بما فيها: وآتيناه الإنجيل فيه هدى أي: إلى الحق: ونور أي: بيان للأحكام: ومصدقا لما بين يديه من التوراة أي: لما فيها من الأحكام. وتكرير ذلك لزيادة التقرير.

[ ص: 2014 ] قال ابن كثير: أي: متبعا لها غير مخالف لما فيها، إلا في القليل. مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارا عن المسيح. أنه قال لبني إسرائيل: ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ولهذا كان المشهور من قول العلماء: إن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة. وهدى وموعظة أي: زاجر عن ارتكاب المحارم والمآثم: للمتقين أي: لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه. وتخصيص كونه هدى وموعظة بالمتقين؛ لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[47] وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون

وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه أمر مبتدأ لهم، بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها: دلائل رسالته عليه الصلاة والسلام، وشواهد نبوته. وقيل: هو حكاية للأمر الوارد عليهم. بتقدير فعل معطوف على (آتيناه): وقلنا: ليحكم أهل الإنجيل. وقرئ: (وليحكم) بالنصب على أن اللام (لام كي) أي: آتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم.

قال بعض المحققين: وإنما خص أهل الإنجيل بالذكر، لبيان أن الإنجيل لم ينزله الله للأمم كافة وأن شريعته ليست باقية لكل زمان. لأن بعثة عيسى عليه السلام كانت خاصة بالأمة اليهودية.

ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق.

[ ص: 2015 ] تنبيه:

في هذه الآية والآيتين المتقدمتين من الوعيد ما لا يقادر قدره. وقد تقدم أن هذه الآيات -وإن نزلت في أهل الكتاب- فليست مختصة بهم، بل هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويدخل فيه السبب دخولا أوليا.

وفي "فتح البيان" في تفسير هذه الآيات مباحث نادرة سابغة الذيل. فلتراجع.

ولما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، وأثنى عليها وأمر باتباعها، ثم ذكر الإنجيل ومدحه وأمر باتباعه - شرع في التنويه بالقرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[48] وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

وأنـزلنا إليك الكتاب أي: الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الإطلاق. لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماوي، وتفوقه على بقية أفراده، وهو القرآن الكريم. فاللام للعهد. أفاده أبو السعود.

بالحق أي: الصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله: مصدقا لما بين يديه من الكتاب بيان ل (ما). و (اللام) للجنس. يعني: أنه يصدق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من قبله. وإنما قيل: (لما قبل الشيء): هو بين يديه، لأن ما تأخر عنه [ ص: 2016 ] يكون وراءه وخلفه. فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه: ومهيمنا عليه أي: مؤتمنا عليه وشهيدا وحاكما على ما قبله من الكتب.

قال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل.

فاحكم بينهم أي: بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك: بما أنـزل الله أي: بما بين الله لك في القرآن.

قال في "الإكليل": هذا ناسخ للحكم بكل شرع سابق. ففيه أن أهل الذمة إذا ترافعوا إلينا يحكم بينهم بأحكام الإسلام. لا بمعتقدهم. ومن صور ذلك عدم ضمان الخمر ونحوه. انتهى.

ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق نهي أن يحكم بما حرفوه أو بدلوه. اعتمادا على قولهم. ضمن: ولا تتبع معنى: (ولا تنحرف) فلذا عدي ب (عن) فكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم. أو التقدير: عادلا عما جاءك.

لكل جعلنا منكم شرعة أي: شريعة موصلة إلى الله: ومنهاجا أي: طريقا واضحا في الدين، تجرون عليه. قال ابن كثير: هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد. كما ثبت في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات. ديننا واحد» . يعني [ ص: 2017 ] بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله. كما قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت

وقال أبو السعود: قوله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا كلام مستأنف جيء به لحمل أهل الكتابين، من معاصريه صلى الله عليه وسلم، على الانقياد لحكمه بما أنزل إليه من القرآن الكريم. ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره من الكتابين، وإنما الذي كلفوا العمل بهما من مضى قبل نسخهما من الأمم السالفة. والخطاب بطريق التلوين والالتفات للناس قاطبة، لكن لا للموجودين خاصة، بل للماضين أيضا بطريق التغليب. والمعنى: لكل أمة كائنة منكم. أيها الأمم الباقية والخالية، جعلنا - أي: عينا ووضعنا - شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة. لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التي عينت لها. فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى عيسى عليهما السلام شرعتهم التوراة. والتي كانت من مبعث عيسى إلى النبي عليهما الصلاة والسلام شرعتهم الإنجيل. وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس إلا. فآمنوا به واعملوا بما فيه.

وفي "الإكليل": استدل بهذه الآية من قال: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا.

وبقوله: وكتبنا عليهم الآية. من قال: إنه شرع لنا ما لم يرد ناسخ. واستدل بالآية أيضا من قال: إن الكفر ملل لا ملة واحدة، ولم يورث اليهود من النصارى شيئا. انتهى.

[ ص: 2018 ] قال النسفي: ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام. ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام. ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وبين أنه ليس للسماع فحسب، بل للحكم به. فقال في الأول: يحكم بها النبيون وفي الثاني: وليحكم أهل الإنجيل وفي الثالث: فاحكم بينهم بما أنزل الله .

ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة أي: جماعة متفقة على شريعة واحدة: ولكن ليبلوكم في ما آتاكم متعلق بمحذوف يستدعيه النظام. أي: ولكن جعلكم أمما مختلفة ليختبركم فيما أعطاكم من الشرائع المختلفة. هل تتركون ما ألفتم منها لما أحدث منها مذعنين له، معتقدين أن خلافه لها بمقتضى المشيئة الإلهية المبنية على أساس الحكم البالغة، والمصالح النافعة لكم في المعاش والمعاد؟ أو تزيغون عن الحق، وتتبعون الهوى، وتستبدلون المضرة بالجدوى، وتشترون الضلالة بالهدى؟ وبهذا اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء. بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشا ومعادا، كما ينبئ عنه قوله تعالى: فاستبقوا الخيرات أي: إذا كان الأمر كما ذكر، فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة، والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم، وابتدروها انتهازا للفرصة وإحرازا لسابقة الفضل والتقدم. ففيه من تأكيد الترغيب في الإذعان للحق، وتشديد التحذير عن الزيغ، ما لا يخفى. أفاده أبو السعود.

وقوله: إلى الله مرجعكم جميعا استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد. أي: مصيركم، ومعادكم - أيها الناس - إليه يوم القيامة: فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون أي: فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وعاملكم ومفرطكم في العمل. كذا في "الكشاف".

فالإنباء مجاز عن المجازاة، وإنما عبر عنها به، لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإنباء.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif






الساعة الآن : 09:37 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 367.53 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 367.03 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.14%)]