ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 05-01-2023 04:13 AM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2506 الى صـ 2520
الحلقة (341)





[ ص: 2506 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[130] يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين

يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم أي: في الدنيا: رسل منكم يقصون عليكم آياتي بالأمر والنهي: وينذرونكم يخوفونكم: لقاء يومكم هذا وهو يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه أفانين الأهوال قالوا يعني الجن والإنس شهدنا على أنفسنا أي: أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم، وبتكذيب دعوتهم، كما فصل في قوله تعالى: قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نـزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وغرتهم الحياة الدنيا أي: ما فيها من الزهرة والنعيم، وهو بيان لما أداهم في الدنيا إلى الكفر: وشهدوا على أنفسهم أي: في الآخرة. قال المهايمي: بعد شهادة جوارحهم: أنهم كانوا كافرين أي: في الدنيا بما جاءتهم الرسل.

تنبيهات:

الأول: استدل بقوله تعالى: ألم يأتكم رسل منكم من قال إن الله بعث إلى الجن رسلا منهم. وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم، والأكثرون على أنه لم يكن من الجن رسول، وإنما كانت الرسل من الإنس فقط. نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة، من السلف والخلف.

قال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وأجابوا عن ظاهر الآية بأن فيها [ ص: 2507 ] مضافا. أي: من أحدكم، وهم الإنس. أو من إضافة ما للبعض للكل، كقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرجان من أحدهما، وهو الملح دون العذب. وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله: مرج البحرين وهو جائز في كل ما اتفق في أصله. فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين، وهم الإنس. وهذا قول الفراء والزجاج.

وقال أبو السعود: المعنى: ألم يأتكم رسل من جملتكم، لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا، بل من الإنس خاصة. وإنما جعلوا منهما، إما لتأكيد وجوب اتباعهم، والإيذان بتقاربهما ذاتا، واتحادهما تكليفا وخطابا، كأنهما من جنس واحد. ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر. وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل. وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن، وأنذروا به قومهم، حيث نطق به قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله تعالى: ولوا إلى قومهم منذرين انتهى.

وهكذا في عهد كل رسول لا يبعد أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من جن عصره فيسمعون كلامهم، ويأتون قومهم من الجن، ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل، وينذرونهم به. وقد سمى تعالى رسل عيسى رسل نفسه فقال: إذ أرسلنا إليهم اثنين وتحقيق القول فيه: أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية؛ لأنه تعالى أزال العذر، وأزاح العلة، بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين. فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا [ ص: 2508 ] الطريق، فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر، وإزالة العلة، فكان المقصود حاصلا. كذا قرره الرازي.

قال الحافظ ابن كثير: والدليل على أن الرسل من الإنس قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده إلى قوله تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقوله تعالى عن إبراهيم: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته. ولم يقل أحد: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم، ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ومعلوم أن الجن تتبع الإنس في هذا الباب. انتهى.

الثاني: إن قيل: ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر، وجحدوه في قوله: [ ص: 2509 ] والله ربنا ما كنا مشركين ؟ قلنا: يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة، فتارة يقرون، وأخرى يجحدون. وذلك يدل على شدة خوفهم، واضطراب أحوالهم، فإن من عظم خوفه، كثر الاضطراب في كلامه - أفاده الرازي.

زاد الزمخشري: أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم.

الثالث: إن قيل: لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ أجيب: بأن الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون; والثانية ذم لهم، وتخطئة لرأيهم، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا، واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه. وإنما قال ذلك تحذيرا للسامعين من مثل حالهم - كذا في "الكشاف" -.
القول في تأويل قوله تعالى:

[131] ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون

وقوله تعالى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون إعلام بأنه تعالى أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتبيين الآيات، وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد. وأنه تعالى لا يؤاخذ القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم لا تبلغهم دعوة رسول ينهاهم عنه، وينبههم على بطلانه؛ لأنه ينافي الحكمة. وجوز في ذلك أن يكون خبرا لمحذوف. أي: الأمر ذلك. أو مبتدأ وخبره محذوف. أي: كما ذكر. أو خبره: إن لم يكن ... إلخ. والمشار إليه إتيان الرسل، أو ما قص من أمرهم، أو السؤال المفهوم من قوله: ألم يأتكم . واستظهر أبو السعود أن الإشارة إلى شهادتهم على أنفسهم بالكفر، واستيجاب العذاب، وأنه مبتدأ خبره ما بعده، وأن (أن) مصدرية، و (اللام) [ ص: 2510 ] مقدرة قبلها. أو مخففة، واسمها ضمير الشأن، و: بظلم متعلق ب: مهلك . أي: بسبب ظلم، أو بمحذوف حالا من (القرى)، أي: متلبسة بظلم. والمعنى: ذلك ثابت لانتفاء كون ربك، أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه برسول.

تنبيه:

في الآية دليل على أنه لا تكليف قبل البعثة، ولا حكم للعقل. كقوله: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
القول في تأويل قوله تعالى:

[132] ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون

ولكل أي: من المكلفين: درجات أي: مراتب. مما عملوا أي: من أعمالهم، يبلغونها ويثابون بها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. واستدل بها، على هذا التأويل، بأن الجن يدخلون الجنة ويثابون.

قال ابن كثير: ويحتمل أن يعود قوله: ولكل لكافري الجن والإنس. أي: ولكل درجة في النار بحسبه، كقوله: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون

وما ربك بغافل عما يعملون
القول في تأويل قوله تعالى:

[133] وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين

وربك الغني عن جميع خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم: [ ص: 2511 ] ذو الرحمة أي: يترحم عليهم بالتكليف، تكميلا لهم، ويمهلهم على المعاصي. وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه سبحانه، بل لترحمه على العباد، وتمهيد لقوله: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء أي: من الخلق يعملون بطاعته: كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ذهب بهم ثم بذريتهم، لكنه أبقاكم ترحما عليكم. وهذا كقوله تعالى: والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم
القول في تأويل قوله تعالى:

[134] إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين

إن ما توعدون أي: من البعث وأحواله: لآت أي: لكائن لا محالة: وما أنتم بمعجزين أي: بفائتين يعجز عنكم. وهذا رد لقولهم: من مات فقد مات. أي: هو قادر على إعادتكم، وإن صرتم رفاتا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[135] قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون

قل يا قوم اعملوا على مكانتكم أي: على غاية تمكنكم واستطاعتكم. يقال: مكن مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن. أو على جهتكم وحالتكم، من قولهم: مكان ومكانة، كمقام ومقامة. والمعنى: اثبتوا على كفركم إني عامل أي: ما أمرت به من الثبات على الإسلام فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار أي: التي بنيت لعبادته [ ص: 2512 ] تعالى وحده، دون غيرهم، - هل تكون للعدل الذي يضع العبادة في موضعها، أو للظالم بوضعها في غير موضعها. والمراد بالدار، الدنيا. وبالعاقبة، العاقبة الحسنى. أي: عاقبة الخير؛ لأنها الأصل، فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة، وقنطرة المجاز إليها.

إنه لا يفلح الظالمون أي: الكافرون. ووضع الظلم موضع الكفر، إيذانا بأن امتناع الفلاح يترتب على أي فرد كان من أفراد الظلم، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده؟

لطائف:

في إيراد التهديد بصيغة الأمر، أعني قوله: اعملوا على مكانتكم مبالغة في الوعيد، كأن المهدد يريد تعذيبه، مجمعا عليه، فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه. وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر، كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتقصى عنه.

وفي قوله تعالى: فسوف تعلمون مع الإنذار، إنصاف في المقال، وحسن الأدب، حيث لم يقل: (العاقبة لنا) وفوض الأمر إلى الله. وهذا من الكلام المنصف، كقوله تعالى: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين

وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه محق.

وفيه تبشير بأن العاقبة له.

قال ابن كثير: وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلوات الله عليه، فمكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب، وكذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك في حياته. ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته، في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين. كما [ ص: 2513 ] قال تعالى: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز وقال: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار وقال تعالى: فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد وقال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا وقد فعل تعالى ذلك بهذه الأمة، وله الحمد والمنة.
ثم بين تعالى نوعا من جهالات مشركي مكة وضلالاتهم، وهو ترجيحهم جانب الأصنام على جانبه سبحانه، بعد تشريكهم إياه فيما اختص بخلقه، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[136] وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون

وجعلوا لله مما ذرأ أي: خلق: من الحرث أي: الزرع: والأنعام نصيبا [ ص: 2514 ] يصرفونه إلى الضيفان والمساكين. أي: ولأصنامهم نصيبا يصرفونه إلى التنسك والسدنة. وإنما لم يذكر اكتفاء بما بعده.

فقالوا هذا لله بزعمهم بالفتح والضم (وقال الشهاب: الزعم مثلث كالود). أي: هذا مستقر له الآن، من غير استقرار له في المستقبل العارض وهذا لشركائنا وهو مستقر لهم، بل يستقر لهم ما ليس لهم أيضا، فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه، أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه كما قال تعالى: فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله. أو هلاك ما هو لله لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو للأصنام، أو هلاك مالها، فينفقون عليها، بذبح نسائك عندها، والإجراء على سدنتها، ونحو ذلك. وعللوا ذلك بأن الله غني، وهي محتاجة: ساء ما يحكمون أي: ما يقسمون؛ لأنهم أولا عملوا ما لم يشرع لهم، وضلوا في القسم؛ لأنه تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه، لا إله غيره، ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة، لم يحفظوها، بل جاروا فيها؛ إذ رجحوا جانب الأصنام في الحفظ والرعاية سفها.

وقال المهايمي: ساء ما يحكمون أي: من ترجيح جانب الأصنام على جانب الله، بعلة تقتضي ترجيح جانب الله لإلهيته، وعدم صلاحيتها للإلهية مع الحاجة.

وما ذكرناه في الآية هو الذي قاله أئمة التفسير.

فقد روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءا، وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد، ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئا [ ص: 2515 ] جعلوه لله، جعلوا ذلك للوثن. وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله، فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا فقير، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى، فقال تعالى: وجعلوا لله مما ذرأ الآية.

قال ابن كثير: وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[137] وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون

وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم أي: مثل ذلك التزيين، وهو تزيين الشرك في القسمة المتقدمة، زين لهم أولياؤهم من الشياطين ما هو أشد منه قبحا في باب القربان، وهو قتل أولادهم خشية الإملاق، ووأد البنات خشية العار، وإنما سميت الشياطين شركاء؛ لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من قتل أولادهم، فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم،: ليردوهم أي: يهلكوهم بالشرك وقتل الولد. من (الإرداء. وهو، لغة، الإهلاك). وليلبسوا عليهم دينهم أي: ليخلطوا عليهم ما هم عليه، بدين إبراهيم في ذبح إسماعيل عليهما السلام. أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به؛ لأنهم كانوا على دين إسماعيل. فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق ولو شاء الله ما فعلوه أي: فلا تحزن على هلاكهم بما يفعلونه؛ لأنه بمشيئة الله فذرهم وما يفترون أي: لأن له فيما شاءه حكما بالغة: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى.

تنبيه:

شركاؤهم فاعل زين أخر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدم، واهتماما به؛ [ ص: 2516 ] لأنه موضع التعجب؛ لأنهم يقدمون الأهم، والذين هم بشأنه أعنى. وقرأ ابن عامر وحده: "زين" على البناء للمفعول الذي هو القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء بإضافة القتل إليه، مفصولا بينهما بمفعوله. وقد زيف الزمخشري، عفا الله عنه، هذه القراءة، وعد ذلك من كبائر كشافه: حيث قال: وأما قراءة ابن عامر، فشيء لو كان في مكان الضرورات، وهو الشعر، لكان سمجا مردودا، كما سمج ورد:


زج القلوص أبي مزاده


[ ص: 2517 ] فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته؟ قال: والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف: "شركائهم" مكتوبا بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء - لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب. انتهى.

قال الناصر في "الانتصاف": لقد ركب الزمخشري متن عمياء، وتاه في تيهاء، وأنا أبرأ إلى الله، وأبرئ حملة كتابه، وحفظة كلامه، مما رماهم به، فإنه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة، اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا، لا نقلا وسماعا، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه، وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في (شركائهم)، فاستدل بذلك على أنه مجرور، وتعين عنده نصب (أولادهم) بالقياس؛ إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معا فقرأه منصوبا. قال: وكانت له مندوحة من نصبه إلى جره بالإضافة، وإبدال الشركاء منه، وكان ذلك أولى مما ارتكبه. فهذا كله كما ترى ظن من الزمخشري أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأيا منه، وكان الصواب خلافه، والفصيح سواه. ولم يعلم الزمخشري أن هذه القراءة بنصب الأولاد، والفصل بين المضاف والمضاف إليه بها. يعلم ضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على جبريل، كما أنزلها عليه، ثم تلاها النبي صلى الله عليه وسلم على عدد التواتر من الأئمة، ولم يزل عدد التواتر [ ص: 2518 ] يتناقلونها، ويقرؤون بها، خلفا عن سلف، إلى أن انتهت إلى ابن عامر، فقرأها أيضا كما سمعها. فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم. فإذا علمت العقيدة الصحيحة، فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشري، ولا بقول أمثاله ممن لحن ابن عامر، فإن المنكر عليه إنما أنكر ما ثبت أنه براء منه قطعا وضرورة. ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين: أعني علم القراءة وعلم الأصول، ولا يعد من ذوي الفنين المذكورين، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين. وإنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة، وزلة منكرة، تزيد على زلة من ظن أن تفاصيل الوجوه السبعة، فيها ما ليس متواترا، فإن هذا القائل لم يثبتها بغير النقل. وغايته أنه ادعى أن نقلها لا يشترط فيه التواتر. وأما الزمخشري فظن أنها تثبت بالرأي، غير موقوفة على النقل، وهذا لم يقل به أحد من المسلمين. وما حمله على هذا الخيال إلا التغالي في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية، فظنها قطعية، حتى يرد ما خالفها. ثم إذا تنزل معه اطراد القياس الذي ادعاه مطردا، فقراءة ابن عامر هذه لا تخالفه. وذلك أن الفصل بين المضاف إليه، وإن كان عسرا، إلا أن المصدر إذا أضيف إلى معموله، فهو مقدر بالفعل، وبهذا التقدير عمل. وهو وإن لم تكن إضافته غير محضة، إلا أنه شبه بما إضافته غير محضة. حتى قال بعض النحاة: إن إضافته ليست محضة؛ لذلك فالحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره، وقد جاء الفصل بين المضاف غير المصدر، وبين المضاف إليه بالظرف، فلا أقل من أن يتميز المصدر على غيره، لما بيناه من انفكاكه في التقدير، وعدم توغله في الاتصال، بأن يفضل بينه وبين المضاف إليه، بما ليس أجنبيا عنه، وكأنه بالتقدير: فكه بالفعل، ثم قدم المفعول على الفاعل، أضافه إلى الفاعل، وبقي المفعول مكانه حين الفك. ويسهل ذلك أيضا تغاير حال المصدر؛ إذ تارة يضاف إلى الفاعل، وتارة يضاف إلى المفعول. وقد التزم بعضهم اختصاص الجواز بالفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل، لوقوعه في غير مرتبته، إذ ينوي به التأخير، فكأنه لم يفصل. كما جاز تقدم المضمر على الظاهر إذا حل في غير رتبته؛ لأن النية به التأخير، وأنشد أبو عبيدة:

[ ص: 2519 ]
فداسهم دوس الحصاد الدائس


وأنشد أيضا:


يفركن حب السنبل الكنافج بالقاع فرك القطن المحالج


ففصل كما ترى بين المصدر وبين الفاعل بالمفعول. ومما يقوي عدم توغله في الإضافة جواز العطف على موضع مخفوضه رفعا ونصبا. فهذه كلها نكت مؤيدة بقواعد، منظرة بشواهد من أقيسة العربية، تجمع شمل القوانين النحوية، لهذه القراءة. وليس غرضنا تصحيح القراءة بقواعد العربية، بل تصحيح قواعد العربية بالقراءة. وهذا قدر كاف إن شاء الله في الجمع بينهما - والله الموفق - وما أجريناه في أدراج الكلام من تقريب إضافة المصدر من غير المحضة، إنما أردنا انضمامه إلى غيره من الوجوه التي يدل باجتماعها على أن الفصل غير منكر في إضافته، ولا مستبعد من القياس، ولم نفرده في الدلالة المذكورة. إذ المتفق على عدم تمحضها لا يسوغ فيها الفصل، فلا يمكن استقلال الوجه المذكور بالدلالة - والله الموفق - انتهى كلام الناصر رحمه الله تعالى.
ثم بين تعالى نوعا آخر من مفترياتهم بقوله:

[ ص: 2520 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[138] وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون

وقالوا هذه إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم، والتأنيث للخبر: أنعام وحرث حجر أي: حرام (والجمهور على كسر الحاء وسكون الجيم) فعل بمعنى مفعول، كالذبح والطحن، يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع؛ لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات. أي: محرمة علينا، أو محجرة علينا في أموالنا للأوثان. ويقرأ بضم الحاء.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-01-2023 04:17 AM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2521 الى صـ 2535
الحلقة (342)




[ ص: 2521 ] لا يطعمها إلا من نشاء قال في "المدارك": كانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآتيناهم قالوا: لا يطعمها إلا من نشاء يعنون: خدم الأوثان، والرجال دون النساء.

بزعمهم حال من فاعل (قالوا) أي: متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة.

قال ابن كثير: وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون

وأنعام أي: وقالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم: هذه أنعام: حرمت ظهورها يعنون بها البحائر والسوائب والحوامي: وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها أي: حالة الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام: افتراء عليه أي: على الله وكذبا منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه، فإنه لم يأذن لهم في ذلك، ولا رضيه منهم سيجزيهم بما كانوا يفترون أي: عليه، ويسندون إليه. وفيه وعيد وتهديد.
ثم بين تعالى فنا آخر من ضلالهم بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[139] وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم

وقالوا ما في بطون هذه الأنعام يعنون أجنة البحائر والسوائب: خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا يعنون أنه حلال للذكور دون الإناث، إن ولد حيا لقوله سبحانه: وإن يكن أي: ما في بطونها: ميتة فهم فيه شركاء فالذكور والإناث فيه سواء.

وفي رواية العوفي عن ابن عباس أن المعني ب (ما في بطونها) هو اللبن. كانوا يحرمونه [ ص: 2522 ] على إناثهم، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه. وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء.

وقال الشعبي: البحيرة، لا يأكل من لبنها إلا الرجال، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء. وكذا قال عكرمة وقتادة وابن أسلم.

سيجزيهم وصفهم أي: بالتحليل والتحريم على سبيل التحكم ونسبته إلى الله تعالى: إنه حكيم عليم أي: حكيم في أفعاله وأقواله وشرعه، عليم بأعمال عباده من خير أو شر، وسيجزيهم عليها.

تنبيه:

قال السيوطي في "الإكليل": استدل مالك بقوله: خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون البنات، وأن ذلك الوقف يفسخ، ولو بعد موت الواقف؛ لأن ذلك من فعل الجاهلية. واستدل به بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة. انتهى.

لطائف:

(التاء) في: خالصة إما للنقل إلى الاسمية، أو للمبالغة، أو لأن (الخالصة) مصدر كالعافية، وقع موقع (الخالص) مبالغة، أو بحذف المضاف. أي: ذو خالصة، أو للتأنيث بناء على أن (ما) عبارة عن الأجنة. والتذكير في (محرم) باعتبار اللفظ. وقرئ (خالصة) بالنصب على أنه مصدر مؤكد، والخبر: لذكورنا . ووصفهم واقع موقع مصدر: سيجزيهم بتقدير مضاف. أي: جزاء وصفهم بالكذب عليه تعالى في التحريم والتحليل من قوله تعالى: وتصف ألسنتهم الكذب

[ ص: 2523 ] قال الشهاب: وهذا من بليغ الكلام وبديعه، فإنهم يقولون: وصف كلامه الكذب، إذا كذب، وعينه تصف السحر، أي: ساحرة، وقد يصف الرشاقة، بمعنى رشيق، مبالغة. حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له. قال المعري:


سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا
القول في تأويل قوله تعالى:

[140] قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين

قد خسر الذين قتلوا أولادهم يعني: وأد بناتهم خشية السبي أو الفقر: سفها بغير علم لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم، لا هم.

وحرموا ما رزقهم الله من البحائر والسوائب ونحوهما: افتراء على الله قد ضلوا عن الصراط المستقيم وما كانوا مهتدين أي: إلى الحق والصواب.

قال الشهاب: وفي قوله: وما كانوا مهتدين بعد قوله: قد ضلوا مبالغة في نفي الهداية عنهم؛ لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال، بعد أن لم يكن. فلذا أردف بهذه الحال، لبيان عراقتهم في الضلال، وإنما ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض.

[ ص: 2524 ] تنبيه:

حمل كثير من المفسرين (الخسران) على ما يشمل الدارين. أما الدنيا فخسروا منافع أولادهم، وثمرة ما خلقوا له. وكذا منافع أنعامهم بما ضيقوا وحجروا فيها ابتداعا. وأما الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل. وهذا التعميم -وإن كان حقا- إلا أن الأظهر حمله على الآخرة، توفيقا بين النظائر، كقوله تعالى: قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون

روى الحافظ ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: قد خسر الذين قتلوا أولادهم الآية. - وهكذا رواه البخاري في "مناقب قريش" من "صحيحه".
القول في تأويل قوله تعالى:

[141] وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين

وقوله تعالى: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام. أي: هو الذي أنعم عليكم بأنواع النعم، لتعبدوه وحده، فخلق لكم بساتين من الكروم وغيرها معروشات، أي: مسموكات بما عملتم لها من الأعمدة. يقال: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القضبان وغير معروشات متروكات على وجه الأرض لم تعرش "و" أنشأ: النخل المثمر لما هو فاكهة وقوت [ ص: 2525 ] والزرع المحصل لأنواع القوت: مختلفا أكله أي: ثمره وحبه في اللون والطعم والحجم والرائحة والزيتون والرمان متشابها في اللون والشكل، ورقهما: وغير متشابه في الطعم: كلوا من ثمره إذا أثمر أي: كلوا من ثمر كل واحد مما ذكر، إذا أدرك.

قال الرازي: لما ذكر تعالى كيفية خلقه لهذه الأشياء، ذكر ما هو المقصود الأصلي من خلقها، وهو انتفاع المكلفين بها، فقال: كلوا من ثمره واختلفوا ما الفائدة منه؟ فقال بعضهم: الإباحة. وقال آخرون: بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق؛ لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله، لمكان شركة المساكين فيه، بل هذا هو الظاهر. فأباح تعالى هذا الأكل، وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعا من هذا التصرف. وقال بعضهم: بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل، وإما التصدق، وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق؛ لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير. قال تعالى: ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك انتهى.

وآتوا حقه يوم حصاده قرئ بفتح الحاء وكسرها. وهذا أمر بإيتاء من حضر يومئذ ما تيسر، وليس بالزكاة المفروضة - وهكذا قال عطاء - أي: لأن السورة مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة. وكذا قال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه. وفي رواية عنه: عند الحصاد يعطي القبضة، وعند الصرام يعطي القبضة ويتركهم يتبعون آثار الصرام. وهكذا روي عن نافع وإبراهيم النخعي وغيرهم. وعند هؤلاء أن هذا الحق. [ ص: 2526 ] باق لم ينسخ بالزكاة، فيوجبون إطعام من يحضر الحصاد لهذه الآية. ومما يؤيده أنه تعالى ذم الذي يصرمون ولا يتصدقون، حيث قص علينا سوء فعلهم وانتقامه منهم. قال تعالى في سورة (ن): إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم أي: كالليل المدلهم، سوداء محترقة فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين الآيات.

وذهب بعضهم إلى أن هذا الحق نسخ بآية الزكاة، حكاه ابن جرير عن ابن عباس وثلة من التابعين. قال ابن كثير: في تسمية هذا نسخا نظر؛ لأنه قد كان شيئا واجبا. ثم إنه فسر بيانه وبين مقدار المخرج وكميته. انتهى.

ولا نظر، لما عرفت في المقدمة من تسمية مثل ذلك نسخا عند السلف، ومر قريبا أيضا، فتذكر!

وذهب بعضهم إلى أن الآية مدنية، ضمت إلى هذه السورة في نظائر لها، بيناها أول السورة، وأن الحق هو الزكاة المفروضة. روي عن أنس وابن عباس وابن المسيب.

والأمر بإيتائها يوم الحصاد، للمبالغة في العزم على المبادرة إليه. والمعنى: اعزموا على إيتاء الحق واقصدوه، واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء. قال الحاكم: وقيل: إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفا على الأرباب، فلا يحسب عليهم ما أكل قبله.

[ ص: 2527 ] وقد روى العوفي عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا زرع فكان يوم حصاده، لم يخرج مما حصد شيئا، فقال تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد، وما يلقط الناس من سنبله.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل جاد عشرة أوسق من التمر، بقنو يعلق في المسجد للمساكين» .

قال ابن كثير: إسناده جيد قوي.

تنبيه:

قال في "الإكليل": استدل بالآية من أوجب الزكاة في كل زرع وثمر، خصوصا الزيتون والرمان المنصوص عليهما. ومن خصها بالحبوب، قال: إن الحصاد لا يطلق حقيقة إلا عليهما. وفيها دليل على أن الزكاة لا يجب أداؤها قبل الحصاد. واستدل بها أيضا على أن الاقتران لا يفيد التسوية في الأحكام؛ لأنه تعالى قرن الأكل، وهو ليس بواجب اتفاقا، بالإيتاء، وهو واجب اتفاقا. انتهى.

وقوله تعالى: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين النهي عن الإسراف، إما في التصدق، أي: لا تعطوا فوق المعروف. قال أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا ثم تبادروا فيه وأسرفوا، فنزلت: ولا تسرفوا وقال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. جد نخلا له فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليس له ثمرة، فنزلت. ولذا قال السدي: أي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. وإما في الأكل قبل الحصاد، وهذا عن أبي مسلم قال: ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء. وإما في كل شيء، قال عطاء: نهوا عن السرف في كل شيء. [ ص: 2528 ] وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله، فهو سرف. اختار ابن جرير قول عطاء. قال ابن كثير: ولا شك أنه صحيح، لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية، حيث قال تعالى: كلوا من ثمره إذا أثمر أن يكون عائدا على الأكل. أي: لا تسرفوا في الأكل، لما فيه من مضرة العقل والبدن، كقوله تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا الآية..

وفي صحيح البخاري تعليقا: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة. وهذا من هذا - والله أعلم - انتهى.
وقد جنح إلى هذا المهايمي في تفسيره حيث قال: ولا تسرفوا في أكلها لئلا يبطل، باستيفاء الشهوات، معنى المزرعة.
ثم بين تعالى حال الأنعام، وأبطل ما تقولوا عليه في شأنها بالتحريم والتحليل، بقوله:

[ ص: 2529 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[142] ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين

ومن الأنعام حمولة وفرشا أي: وأنشأ لكم من الأنعام ما يحمل الأثقال، وما يفرش للذبح (أي: يضجع) أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش.

وعن ابن عباس: الحمولة الكبار التي تصلح للحمل، والفرش الصغير كالفصلان والعجاجيل والغنم; لأنها دانية من الأرض، للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها. فعلى الوجهين الأولين: الفرش بمعنى المفروش، وعلى الثالث: الكلام على التشبيه.

كلوا مما رزقكم الله أي: من الثمار والزروع والأنعام، لحفظ الروح، واستزادة القوة.

ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي: أوامره في التحليل والتحريم، كما اتبعها أهل الجاهلية، فحرموا ما رزقهم الله افتراء عليه - كما مر -.

إنه لكم عدو مبين أي: ظاهر العداوة، يمنعكم مما يحفظ روحكم، ويزيد قوتكم، ويدعوكم إلى الافتراء على الله إن نسبتموه إلى أمره، أو إلى دعوى الإلهية لكم إن استقللتم به.
القول في تأويل قوله تعالى:

[143] ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين

وقوله تعالى: ثمانية أزواج بدل من: حمولة وفرشا أو مفعول (كلوا). [ ص: 2530 ] (ولا تتبعوا) معترض بينهما، أو فعل دل عليه، أو حال من (ما) بمعنى مختلفة أو متعددة. والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه. قال تعالى: وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى وقد يقال لمجموعهما، والمراد الأول.

من الضأن زوجين: اثنين الكبش والنعجة: ومن المعز اثنين التيس والعنز قل أي: تبكيتا لهم، وإظهارا لانقطاعهم عن الجواب: آلذكرين من الضأن والمعز: حرم الله عليكم أيها المشركون: أم الأنثيين منهما: أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أي: أم ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى، كما قالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة الآية.
نبئوني بعلم أي: بدليل نقلي من كتب أوائل الرسل، أو عقلي في الفرق بين هذين النوعين، والنوعين الآتيين. قاله المهايمي.
إن كنتم صادقين أي: في دعوى التحريم.
وفي قوله تعالى: نبئوني بعلم تكرير للإلزام وتثنية للتبكيت والإفحام.
القول في تأويل قوله تعالى:

[144] ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين

ومن الإبل اثنين عطف على قوله تعالى: من الضأن اثنين أي: وأنشأ من [ ص: 2531 ] الإبل اثنين هما الجمل والناقة ومن البقر اثنين ذكرا وأنثى قل أي: إفحاما لهم أيضا في هذين النوعين: آلذكرين منهما: حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أي: من ذينك النوعين. والمعنى إنكار أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم شيئا من الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم في ذلك. وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها - للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم. فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى. مسندين ذلك كله إلى الله سبحانه. وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعي الصغار ونوعي الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التبكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال: قل آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث - لما في التثنية والتكرير من المبالغة في التبكيت والإلزام. أفاده أبو السعود.

ثم كرر الإفحام بقوله تعالى: أم كنتم شهداء حاضرين: إذ وصاكم الله بهذا أي: حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله. وهذا من باب التهكم: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي: فنسب إليه تحريم ما لم يحرم: ليضل الناس بغير علم أي: دليل. إن الله لا يهدي القوم الظالمين قال ابن كثير: أول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة؛ لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي. كما ثبت ذلك في الصحيح.

[ ص: 2532 ] وقال أبو السعود: المراد كبراؤهم المقرون لذلك. أو عمرو بن لحي وهو المؤسس لهذا الشر. أو الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه، سبحانه وتعالى.

لطيفة:

قال الزمخشري: فإن قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضا غير أجنبي من المعدود. وذلك أن الله عز وجل من على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم. فاعترض بالاحتجاج على من حرمها. والاحتجاج على من حرمها تأكيد وتسديد للتحليل. والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد. انتهى.

تنبيه:

دلت الآية على إباحة أكل لحوم الأنعام. وذلك معلوم من الدين ضرورة. وكذلك الانتفاع بالركوب فيما يركب، والافتراش للأصواف والأوبار والجلود. وعلى رد ما كانت الجاهلية تحرمه بغير علم.

قال المؤيد بالله: ويدخل الإنسي والوحشي في قوله: من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ورد بأن قوله تعالى: ثمانية أزواج بيان للأنعام. والأنعام لا تطلق على الوحشي. أفاده بعض مفسري الزيدية.
ثم أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت - بأن يبين لهم ما حرمه عليهم، فقال سبحانه:

[ ص: 2533 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[145] قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم

قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما أي: طعاما محرما من المطاعم: على طاعم أي: أي: طاعم كان من ذكر أو أنثى. ردا على قولهم: محرم على أزواجنا وقوله: يطعمه لزيادة التقرير: إلا أن يكون أي: ذلك الطعام: ميتة قال المهايمي: والموت سبب الفساد. فهو منجس، إلا أن يمنع من تأثيره مانع من ذكر اسم الله، أو كونه من الماء، أو غيرهما: أو دما مسفوحا أي: سائلا لا كبدا أو طحالا: أو لحم خنـزير فإنه رجس لتعوده أكل النجاسات: أو فسقا أي: خروجا عن الدين الذي هو كالحياة المطهرة: أهل لغير الله به أي: ذبح على اسم الأصنام ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله. وإنما سمي (ما أهل به لغير الله) فسقا، لتوغله في باب الفسق، ومنه قوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق فمن اضطر أي: أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر: غير باغ أي: على مضطر مثله، تارك لمواساته: ولا عاد متجاوز قدر حاجته من تناوله: فإن ربك غفور رحيم لا يؤاخذه. وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة والمائدة بما فيه كفاية.

تنبيهات:

الأول: قال ابن كثير: الغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوا من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك. فأمر تعالى رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه إليه أن ذلك محرم. وأن الذي حرمه هو الميتة وما ذكر معها. [ ص: 2534 ] وما عدا ذلك فلم يحرم. وإنما هو عفو مسكوت عنه. فكيف تزعمون أنه حرام؟ ومن أين حرمتموه ولم يحرمه تعالى؟ وعلى هذا، فلا ينفي تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا. كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير - انتهى - وبالجملة فالآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيره. ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شيء آخر، كالموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة وغيرها. وذلك لأن هذه السورة مكية. فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم أيضا، طارئ. قيل: إذا حرم غير ما ذكر كان نسخا لما اقتضته هذه الآية من تحليله. وجوابه أن ذلك زيادة تحريم وليس بنسخ لما في الآية. فصح تحريم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير. ومن الناس من يسمي هذا نسخا بالمعنى السلفي. وقد بيناه مرارا.

قال بعض الزيدية: وقد تعلق ابن عباس بالآية في تحليل لحم الحمر الأهلية. وعائشة في لحوم السباع. وعكرمة في إباحة كل شيء سوى ما في الآية. وعن الشعبي; أنه كان يبيح لحم الفيل ويتلو هذه الآية.

ولا تعلق لجميعهم بالآية؛ لأنه تعالى بين ما يحرم في تلك الأحوال. انتهى.

وقال السيوطي في "الإكليل": احتج بها كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور فيها. فمن ذلك الحمر الأهلية، أخرجه البخاري عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن يزيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حمر الأهلية. فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة. ولكن أبى ذلك البحر (ابن عباس) وقرأ: [ ص: 2535 ] قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية.

وأخرج أبو داود عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ؟ فقرأ: قل لا أجد الآية.. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره. بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير؟ تلت: قل لا أجد الآية.

وأخرج عن ابن عباس أنه قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله في كتابه قل لا أجد الآية.. انتهى.

وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا. فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه. فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو معفو. وتلا: قل لا أجد الآية..

وذكرنا ضعف التعلق بهذه الآية على ما ذهبوا إليه.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-01-2023 04:21 AM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2536 الى صـ 2550
الحلقة (343)





قال في "فتح البيان": معنى الآية أنه تعالى أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرما غير هذه المذكورات. فدل على انحصار المحرمات فيها، لولا أنها مكية. وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع [ ص: 2536 ] وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب، ونحو ذلك.

بالجملة، فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات، كما يدل عليه السياق ويفيده الاستثناء، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات. وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره، فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء. وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة; أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروي ذلك عن مالك. وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرها، مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد نزول هذه الآية. بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه. وقول جابر: (لكن أبى ذلك البحر ابن عباس) في رواية البخاري المتقدمة، أقول: وإن أبى ذلك البحر؛ فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف. انتهى كلام الفتح.

وفي "نيل الأوطار": الاستدلال بهذه الآية إنما يتم في الأشياء التي لم يرد النص بتحريمها. وأما الحمر الإنسية فقد تواترت النصوص على ذلك. والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل، وعلى القياس. وأيضا الآية مكية. انتهى.

وقد ثبت عن ابن عمر رجوعه عن التعلق بعمومها.

روى سعيد بن منصور والإمام أحمد وأبو داود عن نميلة الفزازي قال: كنت [ ص: 2537 ] عند ابن عمر، وإنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ عليه: قل لا أجد .. الآية. فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خبيث من الخبائث. فقال ابن عمر: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال.

أي: والخبائث محرمة بنص القرآن، فهو مخصص لعموم هذه الآية.

وعن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله. فما وجدنا فيه حلالا استحللناه. وما وجدنا فيه حراما حرمناه. وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

ولأبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه. لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه. وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم (لحم) الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه. فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه. (أي: يأخذ منهم عوضا عما حرموه من القرى).

هذا والزمخشري فسر محرما ب (طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها) وجعل الاستثناء منقطعا. أي: لا أجد ما حرمتموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر حتى ترد المحرمات الأخر؛ إذ الاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر. وغير الزمخشري لم يقيده بما ذكر؛ لأن الأصل الاتصال وعدم التقييد وأولوها بما قدمنا قبل. وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا. بمعنى: لا أجد [ ص: 2538 ] شيئا من المطاعم المحرمات في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال، إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة؛ فإني أجد حينئذ محرما. فالمصدر للزمان أو الهيئة. وفيه أن المصدر المؤول من (أن والفعل) لا ينصب على الظرفية. ولا يقع حالا؛ لأنه معرفة. والله أعلم.

الثاني: في قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما إيذان التحريم إنما بالوحي لا بالهوى. قال الشهاب: كنى بعدم الوجدان عن عدم الوجود. ومبنى هذه الكناية على أن طريق التحريم التنصيص منه تعالى. وتفسيره بمطلق الوحي استظهروه. ولذا قال: أوحي ولم يقل: أنزل.

الثالث: قال السيوطي في "الإكليل": استدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: على طاعم يطعمه على أنه إنما حرم من الميتة أكلها. وأن جلدها يطهر بالدبغ. فأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله! ماتت فلانة (يعني الشاة) فقال: فلولا أخذتم مسكها؟ فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما قال الله عز وجل: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنكم لا تطعمونه. إن تدبغوه تنتفعوا به. فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته، فاتخذت منه قربة، حتى تخرقت عندها.

الرابع: استدل بقوله تعالى: مسفوحا على إباحة غيره؛ وذلك لأن الدم المسفوح هو ما سال من الحيوان في حال الحياة، أو عند الذبح - لا كالكبد والطحال - وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل. قال عمران بن جدير: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم، وعن القدر يرى فيها حمرة الدم فقال: لا بأس بذلك! إنما نهي عن الدم المسفوح.

[ ص: 2539 ] وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالدم في عرق أو مخ، إلا المسفوح.

وقال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود.
ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى غير هذه الأربعة، تحقيقا لافتراء المشركين فيما حرموه، إذ لم يوافق شيئا مما أنزله تعالى، فقال سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[146] وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون

وعلى الذين هادوا أي: اليهود خاصة: حرمنا كل ذي ظفر قال سعيد بن جبير: هو الذي ليس منفرج الأصابع - كالجمل والوبر والأرنب - فإنها من ذوات الأظفار الغير المشقوقة - أي: المنفرجة - وأما ذو الظفر المشقوق وهو يجتر من البهائم، فلم يحرم عليهم.

ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما لا لحومهما: إلا ما حملت ظهورهما يعني: ما علق بالظهر من الشحوم: أو الحوايا أي: الأمعاء والمصارين - أي: ما حملته من الشحوم -: أو ما اختلط بعظم كالمخ والعصعص: ذلك أي: تحريم تلك الأطايب عليهم: جزيناهم ببغيهم بسبب ظلمهم، وهو قتلهم الأنبياء بغير حق، وأكلهم الربا - وقد نهوا عنه - وأكلهم أموال الناس بالباطل كقوله تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا

قال المهايمي: أي: ولم يكن لغيرهم ذلك البغي، فلا وجه لتحريمها عليهم مع كونها أطايب في أنفسها.

وإنا لصادقون أي: في جميع أخبارنا التي من جملتها هذا الخبر; وهو تخصيص التحريم بهم، لبغيهم. [ ص: 2540 ] قال ابن جرير: لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه.

قال أبو السعود: ولقد ألقمهم الحجر قوله تعالى: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين
القول في تأويل قوله تعالى:

[147] فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين

فإن كذبوك الضمير إما لليهود لأنهم أقرب ذكرا، ولذكر المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك; وإما للمشركين، وإما للفريقين. أي: فإن كذبتك اليهود في التخصيص وزعموا أن تحريم الله لا ينسخ، وأصروا على ادعاء قدم التحريم; في أو المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم، أو هما فيما ادعيا: فقل ربكم ذو رحمة واسعة يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل: ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين أي: ومع رحمته فهو ذو بأس شديد. وفيه ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة، وذلك في اتباع رضوانه، وترهيب من المخالفة.

وليعلم أن المشركين لما لزمتهم الحجة - ببطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله - أخبر تعالى عنهم بما سيقولونه من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرموا. وفائدة الإخبار بما سوف يقولونه، توطين النفس على الجواب، ومكافحتهم بالرد، وإعداد الحجة قبل أوانها، فقال تعالى:
[ ص: 2541 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[148] سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون

سيقول الذين أشركوا يعني مشركي قريش والعرب: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء يعني ما حرموه من البحائر والسوائب وغيرهما: كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي: حتى أنزلنا عليهم العذاب: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أي: أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم فتظهروه لنا: إن تتبعون إلا الظن أي: فيما أنتم عليه من الشرك وتحريم ما حرمتم: وإن أنتم إلا تخرصون تكذبون.
القول في تأويل قوله تعالى:

[149] قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين

قل فلله الحجة البالغة البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات. ومنه: (أيمان بالغة) أي: مؤكدة. أو (البالغة) التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه فهي (كعيشة راضية) فلو شاء لهداكم أجمعين أي: ولكنه لم يشأ ذلك. بل شاء هداية بعض صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحق. وضلال آخرين صرفوا كسبهم إلى خلاف ذلك، من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه.

قال الإمام أبو منصور الماتريدي في "تأويلاته": قيل: الآية في مشركي العرب. قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرموا من الأشياء. وأضافوا [ ص: 2542 ] ذلك إلى الله، وهو صلة قوله: ثمانية أزواج - إلى قوله -: أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول: لو شاء الله ما أشركنا . انتهى.

والقصد: الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال. أي: ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل، ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق؛ لأنه قادر. فلو لم يكن حقا يرضاه لمنعنا منه. وهو لم يمنعنا منه فهو حق. وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيان لنوع من كفرهم شنيع جدا..!

تنبيه:

هذه الآية تكرر نظيرها في التنزيل الكريم في عدة سور، وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها.

فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر، كما تبجح بذلك منهم الطبرسي الشيعي في "تفسيره" وقال: إن فيها تكذيبا ظاهرا لمن أضاف مشيئة ذلك إلى الله سبحانه; وكذا الزمخشري في "تفسيره".

[ ص: 2543 ] ومعلوم أن عقيدة الفرقة الناجية، الإيمان بأن: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو خالق لأفعال العباد.!

وقد خالف في ذلك عامة القدرية - الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة - فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئا من أفعال العباد. فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى. ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة. تبرأ منهم الصحابة. وأصل بدعتهم - كما قال ابن تيمية - كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه. وسنبين تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندمغها - بعونه تعالى - بعدة وجوه فنقول:

قالوا: إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا: أشركنا بإرادة الله تعالى. ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا، ولما صدر عنا تحريم المحللات فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم. ثم إنه تعالى رد عليهم مقالتهم وبين بطلانها وذمهم عليها وأوعدهم عليها وعيدا شديدا. فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك، على ما تضيفون أنتم، لم يكن يرد ذلك عليهم ويتوعدهم؟

قلنا: إن المشيئة في الآية تتخرج على وجوه:

أحدها: ما قال الحسن والأصم - إن المشيئة ههنا الرضا - فمرادهم: أن الله رضي بفعلنا وصنيعنا - حيث فعل آباؤنا ما فعلنا - فلم يحل الله بينهم وبين ذلك، ولا أخذ على أيديهم، ولا منعهم عن ذلك; فلو لم يرض بذلك عنهم لكان يمنعهم عنه!

قال أبو منصور: وإنما استدلوا بالرضا من الله والإذن فيما كانوا فيه، أنهم كانوا يخوفون بالهلاك والعذاب على صنيعهم، ثم رأوا آباءهم ماتوا على ذلك ولم يأتهم العذاب، فاستدلوا بتأخير نزول العذاب عليهم على أن الله رضي بذلك.

[ ص: 2544 ] وبالجملة، أرادوا بقولهم ذلك. أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله. ولما كانت حجتهم داحضة باطلة - لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام - قال تعالى: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أي: بأن الله راض عليكم فيما أنتم فيه! وهذا من التهكم والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة.

وفي "الوجيز": الحاصل أن المشركين اعتقدوا عدم التفرقة بين المأمور المرضي والمشيئة، كما اعتقدت المعتزلة، فاحتجوا على حقية الإشراك. وينادي على ذلك قوله: كذلك كذب فإنه لو كان المراد أن ذلك ليس بمشيئة الله تعالى لقال (كذلك كذب) بالتخفيف لا التشديد. وهذه الآية - عند من له أذن واعية - تصيح على المعتزلة بالويل والثبور، لكن في آذانهم وقر، ومن لم يهده الله فلا هادي له. انتهى.

الوجه الثاني: إن المشيئة في الآية بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك. أي: يقولون: إن الله أمرهم بذلك ودعاهم إليه، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف بقوله: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها فرد تعالى عليهم بقوله: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء

الوجه الثالث: إن قولهم ذلك كان على سبيل الاستهزاء والسخرية دافعا لدعوته صلى الله عليه وسلم، وتعللا لعدم إجابته وانقياده، لا تفويضا للكائنات إلى مشيئة الله تعالى. فما صدر عنهم كلمة حق أريد بها باطل. ولذلك ذمهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباعه والمتابعة، فقال: كذلك كذب بالتشديد، ولم يذمهم بالكذب في قولهم ذلك، وإلا لقال (كذلك كذب) بالتخفيف، إشارة إلى أن ذلك الكلام في نفسه حق وصدق.

وقال آخر: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم. فالعتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم، إنما كان لاستهزائهم.

[ ص: 2545 ] كما ذكر في قوله تعالى: ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا وهي كلمة حق. لكن قالها استهزاء فلحقه الذم.

وهذا الوجه اقتصر عليه العضد في "المواقف" وقرره أيضا أبو منصور في "تأويلاته".

قال الحسن بن الفضيل: لو قالوا هذه المقالة تعظيما لله وإجلالا له ومعرفة بحقه وبما يقولون، لما عابهم بذلك. ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيبا وجدلا. من غير معرفة بالله وبما يقولون.

الوجه الرابع: ما يستفاد من قول الإمام: إن في كلام المشركين مقدمتين:

إحداهما: أن الكفر بمشيئة الله تعالى.

والثانية: أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم. وما ورد من الذم والتوبيخ إنما هو على الثانية، إذ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان ويعذبه على خلافه ويبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى دار السلام، وإن كان لا يهدي إلا من يشاء.

الوجه الخامس: إن قولهم ذلك كان على سبيل العناد والعتو.

قال البقاعي في قوله تعالى: كذلك كذب الذين من قبلهم أي: بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم: إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثا، فكانت دعوى الأنبياء باطلة. وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام، لا يسأل عما يفعل.

وقال الإمام القاشاني قدس الله سره، في قوله تعالى: كذلك كذب الذين من قبلهم أي: كذب المنكرون الرسل من قبلهم بتعليق كفرهم بمشيئة الله، عنادا وعتوا، فعذبوا بكفرهم.

ثم قال في قوله تعالى: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أي: إن كان لكم [ ص: 2546 ] علم بذلك وحجة، فبينوا. وإنما قال ذلك، إشارة إلى قولهم: لو شاء الله ما أشركنا لأنهم لو قالوا ذلك عن علم لعلموا أن إيمان الموحدين وكل شيء لا يقع إلا بإرادة الله. فلم يعادوهم ولم ينكروهم بل والوهم، ولم يبق بينهم وبين المؤمنين خلاف. ولعمري إنهم لو قالوا ذلك عن علم، لما كانوا مشركين بل كانوا موحدين، ولكنهم اتبعوا الظن في ذلك، وبنوا على التقدير والتخمين لغرض التكذيب والعناد، وعلى ما سمعوا من الرسل إلزاما لهم وإثباتا لعدم امتناعهم عن الرسل؛ لأنهم محجوبون في مقام النفس. وأنى لهم اليقين؟ ومن أين لهم الاطلاع على مشيئة الله؟ وقوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة أي: إن كان ظنكم صدقا في تعليق شرككم بمشيئة الله، فليس لكم حجة على المؤمنين وعلى غيركم من أهل دين، لكون كل دين حينئذ بمشيئة الله، فيجب أن توافقوهم وتصدقوهم، بل لله الحجة عليكم في وجوب تصديقهم وإقراركم بأنكم أشركتم، بمن لا يقع أمر إلا بإرادته، ما لا أثر لإرادته أصلا. فأنتم أشقياء في الأزل مستحقون للبعد والعقاب. وقوله تعالى: فلو شاء لهداكم أجمعين أي: بلى، صدقتم. ولكن كما شاء كفركم لو شاء لهداكم كلكم، فبأي شيء علمتم أنه لم يشأ هدايتكم حتى أصررتم؟ وهذا تهييج لمن عسى أن يكون له استعداد منهم فيقمع ويهتدي فيرجع عن الشرك ويؤمن. انتهى.

الوجه السادس: ما في "لباب التأويل" من أنه قيل في معنى الآية: أنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة - وهو قولهم: لو شاء الله ما أشركنا - إلا أنهم كانوا يعدونه عذرا لأنفسهم، ويجعلونه حجة لهم في ترك الإيمان، والرد عليهم في ذلك: أن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته; فإن الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته، فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد عليه في فعله، فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به، ومع هذا فيبعث الرسل إلى العبد ويأمره بالإيمان. وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع. فالحاصل: أنه [ ص: 2547 ] تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في شركهم وكفرهم، فأخبر الله تعالى أن هذا التمسك فاسد باطل؛ فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله تعالى في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام. انتهى.

الوجه السابع: ما قرره الناصر في "الانتصاف": إن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم، وإن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك. فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم - عدم الاختيار لأنفسهم - وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل. وأشرك بالله، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله، ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة. ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له لا لهم، بقوله: فلله الحجة البالغة . ثم أوضح تعالى أن كل واقع بمشيئته، وإنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم. وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله: فلو شاء لهداكم أجمعين : والمقصود من ذلك: أن يتمحض وجه الرد عليهم، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة، وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد; وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم، وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة. وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة. بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها. وهم الفرقة المعروفون ب (المجبرة). والزمخشري يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة؛ لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية مميزة بينها وبين أفعاله القسرية. فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة، ويجعله لقبا عاما لأهل السنة. وبإجماع الرد على المجبرة - الذين ميزناهم عن أهل السنة - في قوله تعالى: سيقول الذين أشركوا - إلى قوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة وتتمة الآية رد صراح على (طائفة الاعتزال) القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين. فلم تقع من أكثرهم! ووجه الرد: أن (لو) إذا دخلت على فعل [ ص: 2548 ] مثبت نفته; فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال: فلو شاء لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم. ولو شاءها لوقعت. فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم. فإذا ثبت اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين - المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها - فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها؛ فإن أولها - كما بينا - يثبت للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، وآخرها يثبت نفوذ الله في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، خيرا أو غيره. وذلك عين عقيدتهم؛ فإنهم - كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة - يسلبون تأثيرها، ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره. ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده. فهم - كما رأيت- تبع للكتاب العزيز: يثبتون ما أثبت، وينفون ما نفى، مؤيدون بالعقل والنقل. والله الموفق. انتهى.

وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قيل له: إن ناسا يقولون: ليس الشر بقدر. فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: سيقول الذين أشركوا - إلى قوله: فلو شاء لهداكم أجمعين .

وبتحقيق هذه الوجوه يسقط قول الطبرسي المعتزلي: لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر - من أن الله تعالى شاء منهم الكفر - لكانت الحجة للكفار على الله، من حيث فعلوا ما شاء الله، ولكانوا بذلك مطيعين له؛ لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد، ولا تكون الحجة لله عليهم على قولهم، من حيث إنه خلق فيهم الكفر وأراد منهم الكفر. فأي حجة له عليهم مع ذلك؟ انتهى.

وكذا قول الزمخشري: ما حكي عن المشركين كمذهب المجبرة بعينه. ولذا قال النحرير: نعم! هو كمذهبهم في كون كل كائن بمشيئة الله. لكن الكفرة يحتجون بذلك على حقية [ ص: 2549 ] الإشراك وتحريم الحلال وسائر ما يرتكبون من القبائح. وكونها ليست بمعصية لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى الأمر، على ما هو مذهب القدرية: من عدم التفرقة بين المأمور والمراد، وأن كل ما هو مراد لله فهو ليس بمعصية منهي عنها. والمجبرة - اعتقدوا أن الكل بمشيئة الله - لكنهم يعتقدون أن الشرك وجميع القبائح معصية ومخالفة للأمر يلحقها العذاب بحكم الوعيد، ويعفو عن بعضها بحكم الوعد. فهم - في ذلك - يصدقون الله فيما دل عليه العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما يشاء. والكفرة يكذبونه في لحوق الوعيد على ما هو بمشيئته تعالى. انتهى.

فصل

قال الإمام شمس الدين ابن القيم الدمشقي رحمه الله في كتابه: "طريق الهجرتين" بعد أن أطال في سرد أحاديث القدر وآثاره، ما نصه:

فالجواب أن ههنا مقامين: مقام إيمان وهدى ونجاة، ومقام ضلال وردى وهلاك، زلت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء.

فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة، فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأن ما شاء كان وإن لم يشأ الناس. وما لم يشأ لم يكن، وإن شاء الناس. وهذه الآثار - التي كلها تحقق هذا المقام - تبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد، ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه. وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله.

وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على الله، وحمل العبد ذنبه على ربه، وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء، حتى يقول قائل هؤلاء:


ألقاه في اليم مكتوفا وقال له: إياك! إياك! أن تبتل بالماء


[ ص: 2550 ] ويقول قائلهم:


دعاني وسد الباب دوني. فهل إلى دخولي سبيل؟ بينوا لي قصتي


ثم ساق - رحمه الله - قصصا غريبة في ذلك، ثم قال:

وسمعته - يعني شيخ الإسلام ابن تيمية - يقول:

القدرية المذمومون في السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة: نفاة القدر وهم (القدرية المجوسية). والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا وهم (القدرية المشركية). والمخاصمون به للرب سبحانه وتعالى وهم أعداء الله وخصومه وهم (القدرية الإبليسية) وشيخهم إبليس. وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: فبما أغويتني . ولم يعترف بالذنب ويبؤ به كما اعترف به آدم. فمن أقر بالذنب وباء به ونزه ربه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس. ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية شر من القدرية النفاة؛ لأن النفاة إنما نفوه تنزيها للرب وتعظيما له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب. ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة. بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه. ونحو ذلك. كما يحكى عن بعض الجبرية إنه حضر مجلس بعض الولاة. فأتى بطرار (وهو الذي يقطع الهمايين أو الأكمام ويستل ما فيها). أحول. فقال له الوالي: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر - يعني سوطا - فقال له بعض الحاضرين - ممن ينفي الجبر - بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطا: خمسة عشر لطره ومثلها لحوله. فقال الجبري: كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك.. فبهت الجبري.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-01-2023 04:27 AM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2551 الى صـ 2565
الحلقة (344)






[ ص: 2551 ] وأما (القدرية الإبليسية والمشركية) فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو لله ورسوله، لا يقر بأمر ولا نهي، وتلك وراثة عن شيوخه الذين قال الله فيهم: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ، وقال تعالى: وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين وقال تعالى: وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون وقال: وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين فهذه أربعة مواضع في القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.

وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق:

الفرقة الأولى: جعلت هذه الحجة حجة صحيحة، وأن للمحتج بها الحجة على الله. ثم افترق هؤلاء فرقتين: (فرقة) كذبت بالأمر والوعد والوعيد، وزعمت أن الأمر والنهي والوعد والوعيد، بعد هذا، يكون ظلما، والله لا يظلم من خلقه أحدا! و (فرقة) صدقت بالأمر والنهي والوعد والوعيد وقالت: ليس ذلك بظلم. والله يتصرف في ملكه كيف يشاء ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده. إذ العبد فعل له، والملك ملكه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا [ ص: 2552 ] هذه المقالة - التي حكاها الله عنهم - استهزاء منهم، ولو قالوا - اعتقادا للقضاء والقدر، وإسنادا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته - لم ينكر عليهم. ومضمون قول هذه الفرقة إن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد - لا على جهة الاستهزاء - فيكون للمشركين على الله الحجة، وكفى بهذا القول فسادا وبطلانا.

الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة؛ إذ لو صحت المشيئة العامة - وكان الله قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان - لكانوا قد قالوا الحق، وكان الله يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم. فحيث وصفه بالخرص - الذي هو الكذب - ونفى عنهم العلم، دل على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح، وأنهم كاذبون فيه; إذ لو كان علما لكانوا صادقين في الإخبار به، ولم يقل لهم: هل عندكم من علم.

وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر، وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، وإنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة، ولا على أفعال الحيوانات. وإنه لا يقدر أن يضل أحدا، ولا يهديه، ولا يوافقه أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر، ولا يلهمه رشده، ولا يجعل في قلبه الإيمان، ولا هو الذي جعل المصلي مصليا والبر برا والفاجر فاجرا والمؤمن مؤمنا والكافر كافرا. بل هم جعلوا أنفسهم كذلك.

فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر. فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع. والثانية تحيزت إلى الشرع، وكذبت القدر. والطائفتان ضالتان، وإحداهما أضل من الأخرى.

و (الفرقة الثالثة): آمنت بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي. ونزلوا كل واحد منزله: فالقضاء والقدر يؤمن به ولا يحتج به، والأمر والنهي يمتثل ويطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر - عندهم - من تمام التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله. والقيام بالأمر [ ص: 2553 ] والنهي موجب شهادة أن محمدا رسول الله. وقالوا: من لم يقر بالقضاء والقدر، ويقم بالأمر والنهي فقد كذب بالشهادتين وإن نطق بهما بلسانه. ثم افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين: (فرقة) قالت: إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك. فجعلوا مشيئته له وتقديره له، دليلا على رضاه به ومحبته له؛ إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينه وبينهم. فإن الحكيم إذا كان قادرا على دفع ما يكرهه ويبغضه. دفعه ومنع من وقوعه. وإذا لم يمنع من وقوعه، لزم إما عدم قدرته وإما عدم حكمته. وكلاهما ممتنع في حق الله. فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به.

وقد وافق هؤلاء من قال: إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها. ولكن خالفهم في أنه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم في نصف قولهم وخالفهم في الشطر الآخر.

وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين، وإن مشيئة الله تعالى وقضاءه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدره.

وهؤلاء المشركون - لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه - كذبهم وأنكر عليهم، وأخبر أنه لا علم لهم بذلك، وأنهم خارصون مفترون. فإن محبة الله للشيء ورضاه به، إنما يعلم بأمره به على لسان رسوله، لا بمجرد خلقه. فإنه خلق إبليس وجنوده - وهم أعداؤه - وهو سبحانه يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه. فهكذا في الأفعال. خلق خيرها وشرها وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه. ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه. وكلاهما خلقه. ولله الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه، من الذوات والصفات والأفعال، كل صادر عن حكمته وعلمه، كما هو صادر عن قدرته ومشيئته.

وقالت الفرقة الثانية: إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر، ودفع الأمر بالمشيئة. فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره ونهيه دفعوه بقضائه وقدره. فجعلوا القضاء والقدر [ ص: 2554 ] إبطالا لدعوة الرسل، ودفعا لما جاءوا به. وشاركهم في ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقولهم، وخالفوهم في النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهي.

فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام، وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم، إما في جميع تركتهم، وإما في كثير منها، وإما في جزء منها. وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه، فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد، وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمنا والمصلي مصليا والمتقي متقيا، وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره، وأئمة الضلالة يدعون إلى النار، وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها، وأنه يهدي من يشاء بعدله وحكمته، وأنه هو الذي وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فعصوه، وأنه حال بين الكفار وقلوبهم - فإنه يحول بين المرء وقلبه - فكفروا به. ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون .

و (القضاء والقدر) عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى:

الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم.

الثانية: كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض.

الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته، كما لا خروج له عن علمه.

الرابعة: خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنه لا خالق إلا الله، والله خالق كل شيء. [ ص: 2555 ] فالخالق - عندهم - واحد وما سواه فمخلوق. ولا واسطة - عندهم - بين الخالق والمخلوق. ويؤمنون - مع ذلك - بحكمته، وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه. وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه. وأن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره - كما تقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها - بل هي أمر وراء ذلك، هي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ولأجلها خلق فسوى وقدر فهدى، وأمات وأحيا، وأشقى وأضل وهدى، ومنع وأعطى. وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات، وهو محال، إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة. فنفي الوسيلة - وهي الفعل - لازم لنفي الغاية وهي الحكمة. ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة; إذ فعل لا يقوم بفاعله، وحكمة لا تقوم بالحكيم - شيء لا يعقل. وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته. وهذا لازم لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه، وإن أبى التزامه. وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل، لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حق، ولازم الحق حق، كائنا ما كان. والمقصود: أن ورثة الرسل وخلفاءهم - لكمال ميراثهم لنبيهم - آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحدودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا - مع ذلك بالأمر والنهي، وصدقوا بالوعد: فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة. وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب; فصدقوا بالخلق والأمر ولم ينفوهما بنفي لوازمهما - كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر - وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي، و: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة، لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق [ ص: 2556 ] ولب العالم، وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال؛ فإن القدرية تؤمن بلفظ (القدر)، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الديني ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها، وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر. وكذلك (الحكمة) فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى وإرادته لمراده تعالى، فهي - عندهم - وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقة، ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم، ويجعلونها مخلوقا من مخلوقاته، كما قالوا في كلامه وإرادته. فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ (الحكمة) وجحدوا معناها وحقيقتها. وكذلك (الأمر) و (الشرع) فإن من أنكر كلام الله وقال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، ولا يحب شيئا ولا يبغض شيئا، وجميع الكائنات محبوبة له، وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والفجور والسجود للأصنام والشمس والقمر. ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية. ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل، ولكن مشى الحال بعض الشيء بتناقضهم، وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها.

والمقصود: أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد، حقيقة الإيمان، إلا أتباع الرسل وورثتهم.

والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته. ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله. واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر.

ولهذا، كان المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غلاتهم [ ص: 2557 ] الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة، وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى، وصرحت بأن الله لا يقدر عليها. فأنكر هؤلاء قدرة الرب، وأنكرت الأخرى كمال علمه. وقابلهم الجبرية: فجاءت على إثبات القدرة والعلم، وأنكرت الحكمة والرحمة.

ولهذا، كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته. ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين من هذه الثلاثة كثيرا كقوله: وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم وقال: تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم وقال: حم تنـزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وقال في (حم فصلت، بعد ذكر تخليق العالم): ذلك تقدير العزيز العليم ، وذكر نظير هذا في (الأنعام) فقال: فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي أن لا يخرج موجود عن قدرته. وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه. وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه. وكذلك أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره، حكيم في خلقه وأمره. ولهذا كان (الحكيم) من أسمائه الحسنى. فالحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول [ ص: 2558 ] المبعوث بها مبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة. والحكمة هي سنة الرسول، وهي تتضمن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به. فكل هذا يسمى حكمة. وفي الأثر: الحكمة ضالة المؤمن. وفي الحديث: «إن من الشعر لحكمة» . فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده. وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدا استحقه لذاته، وصدر عنه خلقه وأمره. فمصدر ذلك كله عن الحكمة فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة، والله أعلم. انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في خلال بعض فتاويه، في حقيقة الاحتجاج بالقضاء والقدر، ما نصه:

وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية. حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا الآية. فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي، وأنكروا التوحيد - الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له - وهم يقرون بتوحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء، ما بقي عندهم من فرق، من جهة الله تعالى، بين مأمور ومحظور فقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء وهذا حق؛ فإن الله لو شاء أن لا يكون هذا لم يكن. ولكن أي فائدة لهم في هذا؟ غايته أن هذا الشرك والتحريم بقدر، ولا يلزم إذا كان مقدرا أن يكون [ ص: 2559 ] محبوبا مرضيا لله. ولا علم عندهم بأن الله أمر به ولا أحبه ولا رضيه، بل ليسوا في ذلك إلا على ظن وخرص. انتهى.

وقال بعض المحققين في حقيقة العقيدة:

ثبت بالبرهان أن قدرة الله تعالى متصرفة في الممكنات عن إرادة واختيار. وأن الإرادة لا تخرج عما ينكشف بالعلم من مواقع الحكمة، ووجوه النظام. وأنه خالق كل شيء، وإليه يرجع الأمر كله. ومن الممكنات التي اقتضتها الحكمة والنظام وجود مخلوق ذي قدرة وإرادة وعلم، يعمل بقدرته ما تنبعث إليه إرادته بمقتضى علمه بوجوه المصلحة والمنفعة لنفسه، وهو الإنسان. وهذا - عند البعض - هو معنى كونه خليفة الله في الأرض يعمرها ويظهر حكمة الله وبدائع أسراره فيها، ويقيم سننه الحكيمة حتى يعرف كماله بمعرفة كمال صنعه. ولا يزال الإنسان يظهر الآيات من هذه المكونات آنا بعد آن، ولا يعلم مبلغه من ذلك إلا الله تعالى. والمشهور أن الخلافة خاصة بأفراد من الإنسان وهم الأنبياء عليهم السلام. ولا يستلزم واحد من القولين أن الله تعالى استخلفهم لحاجة به إلى ذلك. حاشاه.

قال البيضاوي في "بيان أن كل نبي خليفة": استخلفهم في عمارة الأرض، وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وتنفيذ أمره فيهم - لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه - بل لقصور المستخلف عليه من قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط. ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا . انتهى. وكذلك إذا قلنا: إن كل النوع خليفة في العوالم الأرضية.

فعلم من كل من القولين; أن في الإنسان معنى ليس في غيره. فإذا كانت خلقة الملك لا تساعد على إرشاد الناس؛ لأنه ليس من جنسهم ولا يمكن لكل واحد التلقي منه، فكذلك لا تساعد خلقته. وليس من وظيفتها، إظهار خواص الأجسام وقواها ووجوه الانتفاع [ ص: 2560 ] بها. ولو كان إيجاد مخلوق - على ما ذكرنا في خلق الإنسان - غير ممكن لما وجد. ولا ينكر كونه على ما ذكرنا إلا من ينكر الحس والوجدان، وهما أصل كل برهان. ومثل هذا لا يخاطب ولا يطلب منه التصديق بشيء ما.

إذن، معنا قضيتان قطعيتا الثبوت:

إحداهما: كون الإنسان يعمل بقدرة وإرادة يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف، وهي بديهية.

و (الثانية): هي أن الله هو الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، وهي نظرية ويتولد من هاتين القضيتين القطعيتين مسألتان نظريتان:

الأولى: ما الفرق بين علم الله تعالى وإرادته وقدرته، وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته؟ والجواب من وجوه:

إحداها: أن صفات الله قديمة بقدمه فهي ثابتة له لذاته. وصفات الإنسان حادثة بحدوثه وهي موهوبة له من الله تعالى كذاته.

ثانيها: إن علم الله محيط بكل شيء: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وأما الإنسان فما أوتي: من العلم إلا قليلا ! وإرادة الله تعالى لا تتغير ولا تقبل الفسخ لأنها عن علم تام. بخلاف إرادة الإنسان فإنها تتردد لتردده في العلم بالشيء. وتفسخ لظهور الخطأ في العلم الذي بنيت عليه. وتتجدد لتجدد علم لمن لم يكن له من قبل. وقدرة الله تعالى متصرفة في كل ممكن. فيفعل كل ما يعلم أن فيه الحكمة. وقدرة الإنسان لا تصرف لها ولا كسب إلا في أقل القليل من الممكنات. [ ص: 2561 ] فكم من أمر يعلم أن فيه مصلحته ومنفعة له وهو لا يقدر على القيام به.

ثالثها: أن صفات الإنسان عرضة للضعف والزوال، وصفات الله تعالى أبدية كما أنها أزلية. وبالجملة: إن المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم، لا في الجنس كما زعم بعضهم، فبطل زعم من قال: إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته - يقتضي أن يكون شريكا لله تعالى: سبحان ربك رب العزة عما يصفون

المسألة الثانية: وهي عضلة العقد ومحك المنتقد - أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى أو إرادته في الأزل; بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة، والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل.

ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية. فإذا كان قد سبق القضاء المبرم - بأن زيدا يعيش كافرا ويموت كافرا - فما معنى مطالبته بالإيمان وهو ليس في طاقته؟ ولا يمكن في الواقع ونفس الأمر أن يصدر منه؛ لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختار له؟ كما قال بعضهم.

والجواب عن هذا: أن تعلق العلم والإرادة بأن فلانا يفعل كذا، لا ينافي أن يفعله باختيار، إلا إذا تعلق العلم بأن يفعله مضطرا كحركة المرتعش مثلا. ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية، أي: بإرادة فاعليها لا رغما عنهم. وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثا ولا لغوا.

وثم وجه آخر في الجواب، وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلا يفعل كذا، يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبورا على فعله، لكان الواجب، تعالى وتقدس، مجبورا على [ ص: 2562 ] أفعاله كلها؛ لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لا بد من وقوعه.

فتبين - بهذا - أن الجبرية ومن تلا تلوهم قد غفلوا عن معنى الاختيار، واشتبهت عليهم الأنظار، فكابروا الحس والوجدان، ودابروا الدليل والبرهان، وعطلوا الشرائع والأديان، وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حق قدره، ولا فقهوا سر نهيه وأمره، حيث جرؤا الجهال على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار، وادعاء البراءة لأنفسهم والإحالة باللوم على القضاء والقدر، وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. بل ذلك إغراء للإنسان بالانغماس في الفسوق والعصيان. فيا عجبا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من الإغراء، وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء! أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته، ويظلم الجهل بصيرته، أن يكون أعظم مهذب لنفسه، ومؤدب لعقله وحسه، اعتقاده بأن الله عليم بما يسر ويعلن، ويظهر ويبطن، وأنه ناظر إليه ومطلع عليه؟ بلى! إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأما الذين ضلوا السبيل، [ ص: 2563 ] واتبعوا فاسد التأويل، فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك بقوله عز وجل: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية. فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل، وجعل احتجاجهم بالقدر من أسباب وقوع البأس والبلاء بهم.

وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قبله، والله عليم حكيم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[150] قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون

قوله تعالى: قل هلم شهداءكم أي: أحضروهم: الذين يشهدون أن الله حرم هذا يعني ما تقولون من الأنعام والحرث. والمراد ب (شهدائهم) قدوتهم الذين ينصرون قولهم. وإنما أمروا باستحضارهم ليلزمهم الحجة، ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم، وأنه لا متمسك لهم، [ ص: 2564 ] كمن يقلدهم فيحق الحق ويبطل الباطل. فإن شهدوا أي: بعد حضورهم بأن الله حرم هذا: فلا تشهد معهم أي: فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لما علمت من افترائهم على الله ومشيهم مع أهويتهم.

وفي "العناية": فلا تشهد استعارة تبعية. وقيل: مجاز مرسل، من ذكر اللازم وإرادة الملزوم؛ لأن الشهادة من لوازم التسليم. وقيل: كناية. وقيل: مشاكلة.

ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون من وضع المظهر موضع المضمر، للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره، أي: سوى به الأصنام، فهو متبع للهوى لا غير؛ لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقا بالآيات، موحدا لله تعالى.

ولما بين تعالى فساد ما ادعوا من أن إشراكهم وإشراك آبائهم وتحريم ما حرموه، بأمر الله ومشيئته، بظهور عجزهم عن إبراز ما يتمسك به في ذلك، وإحضار شهداء يشهدون بذلك، بعد ما كلفوه مرارا - أمر الرسول بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[151] قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون

فقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا من الأوثان: وبالوالدين إحسانا أي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. قال الحاكم: [ ص: 2565 ] والإحسان ما يخرج عن حد العقوق، ومثل هذا قوله تعالى: وصاحبهما في الدنيا معروفا ولما كان إيجاب الإحسان تحريما لترك الإحسان، ذكر في المحرمات. وكذا حكم ما بعده من الأوامر. فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده. بل هو عينه عند البعض. كأن الأوامر ذكرت وقصد لوازمها، ومن سر ذلك هنا - أعني وضع: وبالوالدين إحسانا موضع (النهي عن الإساءة إليهما) - المبالغة والدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف في قضاء حقوقهما، بخلاف غيرهما ولا تقتلوا أولادكم من إملاق أي: من أجل فقر، ومن خشيته. والمراد بالقتل: وأد البنات وهن أحياء، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. فنهاهم الله عن ذلك وحرمه عليهم: نحن نرزقكم وإياهم لأن رزق العبيد على مولاهم: ولا تقربوا الفواحش يعني: الزنى لقوله: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وإنما جيء بصيغة الجميع قصدا إلى النهي عن أنواعه أو مبالغة باعتبار تعدد من يصدر منه: ما ظهر منها وما بطن يعني: علانيته وسره: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله أي: قتلها لإيمانها أو أمانها: إلا بالحق أي: بالعدل، يعني بالقود والرجم والارتداد: ذلكم وصاكم به تلطفا ورأفة. لعلكم تعقلون يعني: لتعقلوا عظمها عند الله تعالى فتكفوا عن مباشرتها.

قال المهايمي: فالشرك وعقوق الوالدين وقتل الأولاد للفقر، منشؤه الجهل بما في الشرك من استهانة المنعم بالإيجاد، وبما في الإساءة إلى الأبوين من مقابلة الإحسان بالإساءة، وقربان الفواحش من متابعة الهوى، والقتل من متابعة الغضب; وكلها أضداد العقل.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif

ابوالوليد المسلم 05-01-2023 01:08 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2566 الى صـ 2580
الحلقة (345)




[ ص: 2566 ] تنبيه:

قال بعض (الزيدية): قوله تعالى: من إملاق خرج على العادة. وإلا فهو محرم، خشي الفقر أم لا. وقد دلت على تحريم قتل الأولاد.

قال الحاكم: فيدخل في ذلك شرب الدواء لقتل الجنين. قال الإمام يحيى: إذا نفخ فيه الروح دون إفساد النطفة والعلقة والمضغة قبل أن ينفخ فيها الروح. وفي "الأحكام" يجب على من انقطع حيضها أن توقى من الأدوية ما يخاف على الجنين منها، إذا كانت من ذوات البعول. وفي قوله تعالى: ذلكم وصاكم به تأكيد للزوم ما تقدم. انتهى.

لطيفة:

قال القاشاني: لما كان الكلام مع المشركين في تحريم الطيبات، عدد المحرمات ليستدل بها على المحللات. فحصر جميع أنواع الفضائل بالنهي عن أجناس الرذائل. وابتدأ بالنهي عن رذيلة القوة النطقية التي هي أشرفها. فإن رذيلتها أكبر الكبائر مستلزمة لجميع الرذائل. بخلاف رذيلة أخويها من القوتين البهيمية السبعية. فقال: ألا تشركوا به شيئا إذ الشرك من خطئها في النظر، وقصورها عن استعمال العقل ودرك البرهان. وعقبه بإحسان الوالدين. إذ معرفة حقوقهما تتلو معرفة الله في الإيجاد والربوبية؛ لأنه ما سببان قريبان في الوجود والتربية. وواسطتان جعلهما الله تعالى مظهرين لصفتي إيجاده وربوبيته ولهذا قال: (من أطاع الوالدين فقد أطاع الله ورسوله) فعقوقهما يلي الشرك ولا يقع الجهل بحقوقهما إلا عن الجهل بحقوق الله تعالى ومعرفة صفاته. ثم بالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر. فإن ارتكاب ذلك لا يكون إلا عن الجهل والعمى عن تسبيبه تعالى الرزق لكل مخلوق. وأن أرزاق العباد بيده، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. والاحتجاب عن سر القدر، فلا يعلم أن الأرزاق مقدرة بإزاء الأعمار كتقدير الآجال. فأولاها لا تقع إلا من خطئها في معرفة ذات الله تعالى. والثانية من خطئها في معرفة صفاته. والثالثة من معرفة أفعاله. فلا [ ص: 2567 ] يرتكب هذه الرذائل الثلاث إلا منكوس محجوب عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله; وهذه الحجب أم الرذائل وأساسها. ثم بين رذيلة القوة البهيمية؛ لأن رذيلتها أظهر وأقدم فقال: ولا تقربوا الفواحش ، ثم أشار إلى رذيلة القوة السبعية بقوله: ولا تقتلوا النفس الآية.

القول في تأويل قوله تعالى:

[152] ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون

وقوله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم أي: بوجه من الوجوه: إلا بالتي أي: بالخصلة التي: هي أحسن يعني أنفع له. كتثميره أو حفظه أو أخذه قرضا. لا بأكله، وإنفاقه في مآربكم وإتلافه، فإنه أفحش. وقد ذكرنا طرفا فيما رخص فيه لولي اليتيم أو وصيه في قوله تعالى في سورة النساء: ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: ولا تقربوا مال اليتيم الآية. و: إن الذين يأكلون أموال اليتامى [ ص: 2568 ] الآية. انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه. قيل: إنما خص تعالى مال اليتيم بالذكر، لكونه لا يدفع عن نفسه ولا عن ماله هو ولا غيره. فكانت الأطماع في ماله أشد. فعزم في النهي عنه لأنه حماه ومقدمته، وأمر بتنميته حتى يبلغ أشده أي: قوته التي يقر بها على حفظه واستنمائه، وهذا غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي، كأنه قيل: احفظوه حتى يصير بالغا رشيدا. فحينئذ سلموه إليه كما في قوله تعالى: فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم والأشد جمع (شدة) كنعمة وأنعم، أو شد ككلب وأكلب، أو شد كصر وآصر. وقيل: هو مفرد كآنك.

وأوفوا الكيل والميزان بالقسط أي: بالعدل والتسوية في الأخذ والإعطاء. وقد توعد تعالى على تركه في قوله: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين

قال ابن كثير: وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال. روى الترمذي عن ابن عباس; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم [ ص: 2569 ] وليتم أمرين هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم» . ثم ضعفه وصحح وقفه على ابن عباس. وروى نحوه ابن مردويه مرفوعا، ولفظه: «إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين، بهما هلكت القرون المتقدمة: بالمكيال والميزان» .

لا نكلف نفسا أي: عند الكيل والوزن: إلا وسعها أي: جهدها بالعدل. وهذا الاعتراض جيء به عقيب الأمر بالعدل، لبيان أن مراعاة الحد من القسط، الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، مما يجري فيه الحرج، لصعوبة رعايته. فأمر ببلوغ الوسع، وأن الذي ما وراءه معفو عنه. وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «: أوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها : من أوفى على يده في الكيل والميزان، والله أعلم بصحة نيته بالوفاء فيهما، لم يؤاخذ» .

قال ابن المسيب: وذلك تأويل (وسعها).

قال ابن كثير: هذا مرسل غريب.

وفي "العناية": يحتمل رجوع قوله تعالى: لا نكلف نفسا إلا وسعها إلى ما تقدم. أي: جميع ما كلفناكم ممكن، ونحن لا نكلف ما لا يطاق. انتهى. والأول أولى.

وإذا قلتم أي: في حكومة أو شهادة ونحوهما: فاعدلوا أي: فيها أي: لا تقولوا إلا الحق: ولو كان أي: المقول له أو عليه: ذا قربى أي: ذا قرابة منكم. فلا تميلوا في القول له أو عليه، إلى زيادة أو نقصان.

قال بعض الزيدية: معنى قوله تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا أي: اصدقوا في مقالتكم. قال: وهذه اللفظة من الأمور العجيبة في عذوبة لفظها وقلة حروفها وجمعها لأمور كثيرة من الإقرار والشهادة والوصايا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفتاوى والأحكام والمذاهب.

ثم إنه تعالى أكد ذلك، وبين أنه يلزم العدل في القول، ولو كان المقول له ذا قربى. كقوله تعالى: ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين

[ ص: 2570 ] وبعهد الله أوفوا أي: ما عهد إليكم من الأمور المعدودة، أو أي عهد كان. فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا. أو ما عاهدتم الله عليه من الأيمان والنذور: ذلكم إشارة إلى ما ذكر في هذه الآيات: وصاكم به أي: أمركم بالعمل به في الكتاب: لعلكم تذكرون أي: تتعظون. وفي قوله تعالى: ذلكم وصاكم به تأكيد آخر.

القول في تأويل قوله تعالى:

[153] وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون

وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه يقرأ بفتح همزة (أن) والتشديد. ومحلها مع ما في حيزها بحذف لام العلة. أي: ولأن هذا الذي وصيتكم به. من الأمر والنهي طريقي وديني الذي ارتضيته لعبادي قويما لا اعوجاج فيه، فاعلموا به. وجوز أن يكون محلها مع ما في حيزها النصب على (ما حرم) أي: وأتلو عليكم أن هذا صراطي. وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف ولا تتبعوا السبل يعني الأديان المختلفة أو طرق البدع والضلالات: فتفرق بكم عن سبيله أي: فتفرقكم عن صراطه المستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه [ ص: 2571 ] سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم قرأ: وأن هذا صراطي مستقيما الآية.. ورواه الحاكم وصححه.

لطائف:

قال الكيا الهراسي: في الآية دليل على منع النظر والرأي، مع وجود النص.

قال ابن كثير: إنما وحد (سبيله) لأن الحق واحد؛ ولهذا جمع (السبل) لتفرقها وتشعبها. كما قال تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات

قال ابن عطية: وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات، من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام. وهذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد.

قال قتادة: اعلموا أن السبيل سبيل واحد. جماعة الهدى، ومصيره الجنة. وأن إبليس استبدع سبلا متفرقة. جماعة الضلالة، ومصيرها إلى النار. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.

ذلكم إشارة إلى ما ذكر من اتباع سبيله تعالى وترك اتباع سائر السبل: وصاكم به لعلكم تتقون أي: اتباع الكفر والضلالة. وفيه تأكيد أيضا. روى الترمذي وحسنه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول [ ص: 2572 ] الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا - إلى قوله -: لعلكم تتقون وروى الحاكم، وصححه عن ابن عباس قال: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآيات.

وروى الحاكم وصححه وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم قوله تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم حتى فرغ من ثلاث آيات. ثم قال: ومن وفى بهن فأجره على الله. ومن انتقص منهن شيئا، فأدركه الله في الدنيا، كانت عقوبته. ومن أخره إلى الآخرة. كان أمره إلى الله. إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه» .

لطيفة:

قال النسفي: ذكر أولا (تعقلون) ثم (تذكرون) ثم (تتقون) لأنهم إذا عقلوا تفكروا، ثم تذكروا، أي: اتعظوا، فاتقوا المحارم. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى:

[154] ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون

ثم آتينا أي: أعطينا: موسى الكتاب يعني التوراة: تماما على الذي أحسن يقرأ بفتح النون على أنه فعل ماض وفاعله إما ضمير (الذي) أي: تماما للكرامة والنعمة على الذي أحسن. أي: على من كان محسنا صالحا. يريد جنس المحسنين. وتدل عليه قراءة عبد الله: (على الذين أحسنوا) وإما ضمير موسى عليه السلام ومفعوله محذوف. أي: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به. أو تماما على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع. من (أحسن الشيء) إذا أجاد معرفته، أي: زيادة على علمه على وجه التتميم [ ص: 2573 ] وعلى الأول ف (تماما) في موقع المفعول له. وجاز حذف اللام لكونه في معنى (إتماما) أو مصدر لقوله (آتينا) من معناه؛ لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة. كأنه قيل: أتممنا النعمة إتماما. ف (تمام) بمعنى (إتمام) كنبات في قوله تعالى: والله أنبتكم من الأرض نباتا أو (أصله إيتاء تمام). وعلى الوجه الثاني هو حال من الكتاب. وقرأ يحيى بن يعمر (على الذي أحسن) بالرفع أي: على الذي هو أحسن، أو على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب. ف (تماما) حال من الكتاب بمعنى (تاما) أي: حال كون الكتاب تاما كائنا على أحسن ما يكون. قال ابن جرير: هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها. وإن كان في العربية له وجه صحيح. وتفصيلا لكل شيء أي: وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في الدين: وهدى لهم إلى ربهم في سلوك سبيله: ورحمة عليهم بإفاضة الفوائد: لعلهم أي: أهل الكتاب: بلقاء ربهم يؤمنون يصدقون بلقائه للجزاء.

لطيفة:

قال السيوطي في "الإكليل": استدل بقوله تعالى: ثم آتينا من قال إن: ثم لا تفيد الترتيب. انتهى

قال ابن كثير و: ثم ههنا لعطف الخبر بعد الخبر، لا للترتيب كما قال الشاعر:


قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم ساد قبل ذلك جده


وقال أبو السعود: و: ثم للتراخي في الأخبار كما في قولك: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب. أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل: ذلك وصاكم به قديما وحديثا. ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة. فإن إيتاءها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها، أعظم من التوصية بها فقط. انتهى.

ثم أشار إلى أن التوراة. وإن كانت تماما على النهج الأحسن، فالقرآن أتم منه وأزيد حسنا. فهو أولى بالمتابعة، فقال:

[ ص: 2574 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[155] وهذا كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون

وهذا أي: القرآن: كتاب أنـزلناه مبارك أكثر نفعا من التوراة دينا ودنيا: فاتبعوه أي: اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام: واتقوا يعني مخالفته واتباع غيره لكونه منسوخا به: لعلكم ترحمون أي: لترحموا بواسطة اتباعه، وهو العمل بما فيه. وفيه إشارة إلى أنه لا رحمة بمتابعة المنسوخ وإن آمن صاحبها بلقاء ربه.

قال بعض الزيدية: وفي قوله تعالى: فاتبعوه دلالة على وجوب تعلم القرآن ليمكن الاتباع له. لكن هو كسائر العلوم فرض كفاية إلا ما يتعين على كل مكلف، كتعلم ما لا تصح الصلاة إلا به، فإنه يجب عليه. انتهى.

لطيفة:

قال ابن كثير: إنه كثيرا ما يقرن بين الكتابين كقوله: ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا وقوله أول السورة: قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى ثم قال: وهذا كتاب أنـزلناه مبارك الآية. [ ص: 2575 ] وقوله تعالى مخبرا عن المشركين: فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى وقوله تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنـزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه الآية.

القول في تأويل قوله تعالى:

[156] أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين

أن تقولوا علة ل (أنزلناه). أي: كراهة أن تقولوا يوم القيامة. أو لئلا تقولوا: إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا اليهود والنصارى: وإن كنا عن دراستهم عن تلاوة كتابهم: لغافلين لا علم لنا بشيء منها لأنها ليست بلغتنا.

قال أبو السعود: ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهما لا ينافي عموم أحكامه. فلم لم تعملوا بأحكامه العامة؟ والمعنى: وإن كنا لا ندري ما في كتابهم، إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها، وإن لم يكن منزلا علينا. وبهذا تبين أن معذرتهم هذه، مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم، أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضا عليها، لا على سائر الشرائع والأحكام فقط. انتهى.

[ ص: 2576 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[157] أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون

أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب أي: كما أنزل عليهم: لكنا أهدى منهم أي: إلى الحق وأسرع منهم إجابة للرسول لمزيد ذكائنا وجدنا في العمل: فقد جاءكم قال أبو السعود: متعلق بمحذوف ينبئ عنه الفاء الفصيحة، إما معلل به، أي: لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم. وإما شرط له. أي: إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم، فقد حصل ما فرضتم وجاءكم: بينة أي: كتاب حجة واضحة: من ربكم متعلق ب (جاءكم) أو بمحذوف صفة ل (بينة) أي: بينة كائنة منه تعالى لا يتوهم فيه السحر: وهدى بإقامة الدلائل ورفع الشبه: ورحمة بإفاضة الفوائد وتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات: فمن أظلم قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. فإن مجيء القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه. أي: وإذا كان الأمر كذلك: فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها أي: صرف الناس وصدهم عنها. فجمع بين الضلال والإضلال. والمعنى إنكار أن يكون أحد أظلم منه أو مساويا له: سنجزي الذين يصدفون الناس: عن آياتنا أي: التي لو لم يصدفوا عنها لعرفوا إعجازها: سوء العذاب أي: العذاب السيئ. بما كانوا يصدفون وهذا كقوله تعالى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون
[ ص: 2577 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[158] هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون

هل ينظرون يعني قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الضلالة. فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله؟

قال البيضاوي: يعني أهل مكة. وهم ما كانوا منتظرين لذلك. ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر، شبهوا بالمنتظرين إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك يعني للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيامة.

قال ابن كثير: وذلك كائن يوم القيامة. وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة عند قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام بما فيه كفاية.

ومذهب السلف: إمرار ذلك بلا كيف، كما مر مرارا.

قيل: إلا أن تأتيهم الملائكة أي: ملائكة الموت لقبض أرواحهم: أو يأتي بعض آيات ربك وذلك قبل يوم القيامة، كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئا من ذلك. كما روى البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا رآها الناس آمن [ ص: 2578 ] من عليها. فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل. ورواه مسلم أيضا، ولمسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل صفة (نفسا): أو كسبت في إيمانها خيرا عطف على (آمنت) والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء، وهي آية ملجئة مضطرة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآيات. أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيرا لفسقها. فتوبتها حينئذ لا تجدي.

قال الطبري: معنى الآية: لا ينفع كافرا لم يكن آمن قبل الطلوع، إيمان بعد الطلوع. ولا ينفع مؤمنا -لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع- عمل صالح بعد الطلوع؛ لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ، حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة. وذلك لا يفيد شيئا. كما قال تعالى: فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وكما ثبت في الحديث الصحيح: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» . انتهى.

وبالجملة: فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركا إيمانه. ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة. وذلك لذهاب زمن التكليف.

[ ص: 2579 ] قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات، وهو على عمل صالح مع إيمانه، قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية، فلا يقبل منه؛ لأنها حالة اضطرار. كما لو أرسل الله عذابا على أمة فآمنوا وصدقوا. فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك، لمعاينتهم الأهوال والشدائد، التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة.

وقال ابن كثير: إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لم يقبل منه. فأما من كان مؤمنا قبل ذلك، فإن كان مصلحا في عمله، فهو بخير عظيم. وإن لم يكن مصلحا، فأحدث توبة حينئذ، لم تقبل منه توبته. كما دلت عليه الأحاديث. وعليه يحمل قوله تعالى: أو كسبت في إيمانها خيرا أي: لا يقبل منها كسب عمل صالح، إذا لم يكن عاملا به قبل. انتهى.

والأحاديث المشار إليها، منها ما رواه (مسلم) عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه.» وروى الترمذي وصححه [ ص: 2580 ] عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «باب من قبل المغرب مسيرة عرضه - أو قال: يسير الراكب في عرضه - أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض. مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» . ولأبي داود والنسائي من حديث معاوية رفعه: «لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-01-2023 01:11 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2581 الى صـ 2595
الحلقة (346)





قال ابن حجر: سنده جيد. وأخرجه أحمد والدارمي وعبد بن حميد من حديثه أيضا [ ص: 2581 ] بلفظ: لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. وروى الإمام أحمد عن ابن السعدي; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل» . فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل» .

قال ابن كثير: هذا الحديث حسن الإسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.

وهاهنا مسائل:

الأولى: ذهب الجمهور إلى أن المراد ب (البعض) في الآية هو طلوع الشمس من مغربها. كما في حديث الصحيحين السابق. ولا يقال يخالف ذلك حديث مسلم: ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها.. الحديث. وفي ثبوت ذلك بخروج الدجال نظر؛ لأن نزول عيسى صلى الله عليه وسلم بعده. وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي. فالإيمان مقبول وقتئذ. لأنا نقول: لا منافاة. وذلك لأن (البعض) في الآية، إن كان عدة آيات، فطلوع الشمس هو آخرها المتحقق به عدم القبول، وإن كان إحدى آيات، فهو محمول على المعين في الحديث؛ لأنه أعظمها. كذا في "العناية".

قال ابن عطية: إذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتخصيص مانع القبول بالطلوع، في الحديث الصحيح، لم يجز العدول عنه، وتعين أنه معنى الآية. انتهى.

وقال القاضي عياض: المعنى: لا تنفع توبة بعد ذلك. بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها. والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلوي. فإذا [ ص: 2582 ] شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة. وارتفع الإيمان بالغيب. فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع. فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله. الثانية: قال السيوطي في "الإكليل": استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان لا ينفع مع عدم كسب الخير فيه. وهو مردود. ففي الكلام تقدير. والمعنى: لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل إيمانها حينئذ، ولا ينفع نفسا لم تكسب خيرا قبل توبتها حينئذ.

وقال الشهاب السمين: قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية إنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفسا كافرة، إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك. ولا ينفع نفسا سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيرا. فقد علق نفي الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط، وإما سبقه مع نفي كسب الخير. ومفهوم الصفة قوي فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة. ويكون فيه قلب دليل المعتزلة، دليلا عليهم.

وأجاب ابن المنير في "الانتصاف" فقال: هذا الكلام من البلاغة يلقب (اللف) وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا، لم تكن مؤمنة قبل، إيمانها بعد. ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل، ما تكتسبه من الخير بعد، فلف الكلامين فجعلهما كلاما واحدا إيجازا. وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق. فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود. فهي بالرد على المعتزلة أولى من أن تدل لهم.

وقال ابن الحاجب في "أماليه": الإيمان قبل مجيء الآية نافع لو لم يكن عمل صالح غيره، ومعنى الآية: لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح، لم يكن الإيمان قبل الآية، أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها. فاختصر للعلم.

ونقل الطيبي كلام الأئمة في ذلك. ثم قال: المعتمد ما قال ابن المنير وابن الحاجب. وبسطه: [ ص: 2583 ] أن الله تعالى لما خاطب المعاندين بقوله تعالى: وهذا كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه الآية. علل الإنزال بقوله: أن تقولوا إنما أنزل الكتاب إلخ. إزالة للعذر وإلزاما للحجة. وعقبه بقوله: فقد جاءكم بينة إلخ، تبكيتا لهم وتقريرا لما سبق ممن طلب الاتباع. ثم قال: فمن أظلم ممن كذب الآية. أي: أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفا لكل ريب وهاديا إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق، ليجعلوه زادا لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح. فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها. ثم قال: هل ينظرون الآية.. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم. كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم. أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها، فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلا ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبل، من الإيمان، وكذا العمل الصالح مع الإيمان، فكأنه قيل: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ؛ إذ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا من قبل. ففي الآية لف. لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر، ونظيره قوله تعالى: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا

قال: فهذا الذي عناه ابن المنير بقوله: إن هذا الكلام في البلاغة يقال له (اللف) والمعنى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا، لم تكن مؤمنة من قبل ذلك، إيمانها من بعد ذلك، [ ص: 2584 ] ولا ينفع نفسا كانت مؤمنة، لكن لم تعمل في إيمانها عملا صالحا قبل ذلك، ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك. قال: وبهذا التقرير يظهر مذهب أهل السنة. فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير، أي: لإغلاق باب التوبة ورفع الصحف والحفظة، وإن كان ما سبق قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة.

ثم قال الطيبي: وقد ظفرت، بفضل الله بعد هذا التقرير، على آية أخرى تشبه هذه الآية وتناسب هذا التقرير معنى ولفظا، من غير إفراط ولا تفريط. وهي قوله تعالى: ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم فإنه يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع، وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع. وأما بعد حصولها أنفع. وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلا. والله أعلم. انتهى ملخصا.

الثالثة: قال في "الوجيز" في قوله تعالى: أو يأتي ربك أي: لفصل القضاء بين خلقه. وإتيانه نؤمن به ولا نعرف كيفه. انتهى.

وفي حواشي "جامع البيان": كيف لا يؤمن بإتيانه ومجيئه تعالى يوم القيامة، وقد جاء في القرآن في عدة مواضع: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وجاء ربك والملك صفا صفا إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك وأي أمر أصرح منه في القرآن؟.

[ ص: 2585 ] وروى الطبري في "تفسيره" عن ابن عباس مرفوعا: إن في الغمام طاقات يأتي الله فيها، محفوفا. وذلك قوله: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر

قال عكرمة: والملائكة حوله، فهذا من صفات الله تعالى. يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت وإن لم نعرف كيفيتها. وعدم علمنا بكيفيتها، بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته. فلا نكذب بما علمناه لعدم علمنا بما لم نعلمه. وهذا هو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة. انتهى.

وقوله تعالى: قل انتظروا أي: قل لهؤلاء الكافرين، بعد بيان حقيقة الحال على وجه التحديد: انتظروا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أي شيء تنتظرون.

إنا منتظرون أي: لذلك، لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.

ثم بين تعالى أحوال أهل الكتاب، إثر بيان حال المشركين بقوله سبحانه.

القول في تأويل قوله تعالى:

[159] إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون

إن الذين فرقوا دينهم أي: اختلفوا فيه، مع وحدته في نفسه، فجعلوه أهواء متفرقة: وكانوا شيعا أي: فرقا تشيع كل فرقة إماما لها بحسب غلبة تلك الأهواء.

فلم يتعبدوا إلا بعادات وبدع، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع: لست منهم في شيء أي: من عقابهم. أو أنت بريء منهم محمي الجناب عن مذاهبهم. أو المعنى: اتركهم؛ فإن لهم ما لهم.

وقال القاشاني: أي: لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء؛ إذ هم أهل التفرقة [ ص: 2586 ] لا يجتمع هممهم، ولا يتحد قصدهم: إنما أمرهم إلى الله أي: في جزاء تفرقهم ومكافأتهم، لا إليك. ثم ينبئهم يعني إذا وردوا يوم القيامة: بما كانوا يفعلون أي: من السيئات والتفرقة، لمتابعة الأهواء. ويجازيهم على ذلك بما يماثل أفعالهم.

تنبيه:

قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. وروى العوفي عن ابن عباس في الآية; أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، وحمل بعضهم الآية على أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة. وآخر على الخوارج، وأسندوا في ذلك حديثا رفعوه.

قال ابن كثير: وإسناد ذلك لا يصح. ثم قال: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق. فمن اختلف فيه (وكانوا شيعا) أي: فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك الآية. وفي الحديث: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات. ديننا واحد» . فهذا هو الصراط المستقيم، [ ص: 2587 ] وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء. والرسل برآء منها كما قال الله تعالى: لست منهم في شيء

ثم قال: وقوله تعالى: إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون كقوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة انتهى.

وقد أخرج أبو داود عن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة. وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين. اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة» . ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو، وفيه: قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي.

ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة. فقال تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[160] من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون .

من جاء بالحسنة أي: جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة: فله عشر أمثالها يعني: عشر حسنات أمثالها في الحسن.

قال المهايمي: كمن أهدى إلى سلطان عنقود عنب يعطيه بما يليق بسلطنته، لا قيمة [ ص: 2588 ] العنقود. انتهى.

والعشر أقل ما وعد من الأضعاف. وقد جاء الوعد بسبعين، وبسبعمائة وبغير حساب؛ ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص: ومن جاء بالسيئة أي: بالأعمال السيئة: فلا يجزى إلا مثلها في القبح.

قال المهايمي: فمن كفر خلد في النار، فإنه ليس أقبح من كفره. كمن أساء إلى سلطان يقصد قتله. ومن فعل معصية عذب بقدرها كمن أساء إلى آحاد الرعية. انتهى.

وهم لا يظلمون أي: بنقص الثواب وزيادة العقاب.

لطيفة:

قال القاشاني في قوله تعالى: فله عشر أمثالها هذا أقل درجات الثواب. وذلك أن الحسنة تصدر بظهور القلب والسيئة بظهور النفس. فأقل درجات ثوابها أنه يصل إلى مقام القلب الذي يتلو مقام النفس في الارتقاء، تلو مرتبة العشرات للآحاد في الأعداد. وأما في السيئة فلأنه لا مقام أدون من مقام النفس. فينحط إليه بالضرورة. فيرى جزاءه في مقام النفس بالمثل. ومن هذا يعلم أن الثواب من باب الفضل. فإنه يزيد به صاحبه ويتنور استعداده ويزداد قبوله لفيض الحق. فيتقوى على أضعاف ما فعل ويكتسب به أجورا متضاعفة إلى غير نهاية، بازدياد القبول على فعل كل حسنة وزيادة القدرة والشغف على الحسنة عند زيادة الفيض إلى ما لا يعلمه إلا الله. كما قال بعد ذكر أضعافها إلى سبعمائة: والله يضاعف لمن يشاء ، وأن العقاب من باب العدل؛ إذ العدل يقتضي المساواة. ومن فعل بالنفس، إذا لم يعف عنه، يجازي بالنفس سواء. انتهى.

[ ص: 2589 ] تنبيه:

وردت أحاديث كثيرة في معنى الآية. فروى الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيما يروي عن ربه تعالى: «إن ربكم تبارك وتعالى رحيم. من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ولا يهلك على الله إلا هالك» . ورواه البخاري ومسلم والنسائي. وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني [ ص: 2590 ] شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا، لقيته بمثلها مغفرة» . وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها؛ فإن عملها فاكتبوها بمثلها. وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة» لفظ البخاري. وروى الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام. وذلك لأن الله تعالى قال: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها » . وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله» . ورواه النسائي والترمذي وزاد: فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، اليوم بعشرة أيام. وبقيت أخبار أخرى. وفيما ذكر كفاية.
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر أولئك المفرقين دينهم بما أنعم سبحانه عليه من إرشاده إلى دينه القويم بقوله:

[ ص: 2591 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[161] قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده المخلصين: دينا نصب على البدل من محل (إلى صراط) لأن معناه: هداني صراطا.

بدليل قوله: ويهديهم إليه صراطا مستقيما ، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور. أي: عرفني دينا. أو مفعول (هداني). و (هدى) يتعدى إلى اثنين: قيما صفة (دينا) يقرأ بالتشديد أي: ثابتا أبدا لا تغيره الملل والنحل، ولا تنسخه الشرائع والكتب، مقوما لأمر المعاش والمعاد. ويقرأ بالتخفيف. على أنه مصدر نعت به. وأصله قوم كعوض. فأعل لإعلال فعله كالقيام.

ملة إبراهيم المتفق على صحتها وهي التي أعرض بها عن كل ما سواه تعالى. عطف بيان ل (دينا): حنيفا حال من: إبراهيم أي: مائلا عن كل دين وطريق باطل، فيه شرك ما، وقوله تعالى: وما كان من المشركين اعتراض مقرر لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرقون لدينه من عقد وعمل. أي: ما كان منهم في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا. صرح بذلك ردا على الذين يدعون أنهم على ملته من مشركي مكة واليهود والنصارى. أفاده أبو السعود.

تنبيه:

قال ابن كثير: هذه الآية كقوله تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين وليس يلزم من كونه أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية، [ ص: 2592 ] أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها؛ لأنه عليه السلام قام بها قياما عظيما، وأكملت له إكمالا تاما لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال. ولهذا قال: أنا خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق، حتى الخليل عليه السلام، وروى ابن مردويه عن ابن أبزى عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا وملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين» . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الحنيفية السمحة» ، وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زفن الحبشة. حتى كنت التي مللت، فانصرفت عنهم. وقالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «ليعلم يهود أن في ديننا فسحة. إني أرسلت بحنيفية سمحة» .
القول في تأويل قوله تعالى:

[162] قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين

قل إن صلاتي لما أن المأمور به متعلق بفروع الشرائع، وما سبق بأصولها. أي: إن صلاتي إلى الكعبة: ونسكي أي: طوافي وذبحي للهدايا في الحج والعمرة، أو عبادتي كلها: ومحياي ومماتي أي: وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح. أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات، كالوصية والتدبير. أو الحياة والممات أنفسهما: لله رب العالمين
[ ص: 2593 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[163] لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين

لا شريك له أي: خالصة لله لا أشرك فيها غيره: وبذلك أي: القول أو الإخلاص: أمرت وأنا أول المسلمين أي: من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته.

قال ابن كثير: يأمر تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى ويذبحون لغير اسمه; أنه مخالف لهم في ذلك. فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له.
القول في تأويل قوله تعالى:

[164] قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

قل أغير الله أبغي ربا فأشركه في عبادته، وهو جواب عن دعائهم له عليه الصلاة والسلام إلى عبادة آلهتهم، وفي إيثار نفي البغية والطلب، على نفي العبادة، أبلغية لا تخفى: وهو رب كل شيء حال في موضع العلة للإنكار والدليل له. أي: وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية، فلا أكون عبدا لعبده.

قال ابن كثير: أي: فلا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه؛ لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر. ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل. كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له لا شريك له. وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرا. كقوله تعالى مرشدا لعباده أن يقولوا: إياك نعبد وإياك نستعين وقوله: فاعبده وتوكل عليه [ ص: 2594 ] وقوله: قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا وقوله: رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وأشباه ذلك من الآيات.

ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى

قال ابن كثير: إخبار عن الواقع يوم القيامة من جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد. وهذا من عدله تعالى.

وقال أبو السعود: كانوا يقولون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم، وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا - فهذا رد له بالمعنى الأول. أي: لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها. ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر، حتى يتأتى ما ذكرتم، وقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى رد له بالمعنى الثاني. أي: لا تحمل يومئذ نفس حاملة، حمل نفس أخرى، حتى يصح قولكم.

تنبيه:

قال السيوطي في "الإكليل": هذه الآية أصل في أنه لا يؤاخذ أحد بفعل أحد، وقد ردت عائشة به على من قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه. أخرجه البخاري، وأخرج [ ص: 2595 ] ابن أبي حاتم عنها; أنها سئلت عن ولد الزنى؟ فقالت: ليس عليه من خطيئة أبويه شيء. وتلت هذه الآية.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-01-2023 01:15 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2596 الى صـ 2610
الحلقة (347)




قال الكيا الهراسي: ويحتج بقوله: ولا تكسب كل نفس إلا عليها في عدم [ ص: 2596 ] نفوذ تصرف زيد على عمرو إلا ما قام عليه الدليل. قال ابن الفرس: واحتج به من أنكر ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام.

وقال بعض الزيدية: قوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى يعني في أمر الآخرة. فيبطل قول: إن أطفال المشركين يعذبون بكفر آبائهم. ويلزم أن لا يعذب الميت ببكاء أهله عليه. حيث لا سبب له. وأما في أمر الدنيا، فقد خص هذا بحديث العاقلة، وكذلك أسر أولاد الكفار ونحو ذلك. انتهى.

ثم إلى ربكم مرجعكم أي: رجوعكم بعد الموت يوم القيامة: فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون يتميز الحق من الباطل. وهذه الآية كقوله تعالى: قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم


القول في تأويل قوله تعالى:

[165] وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم

وهو الذي جعلكم خلائف الأرض جمع خليفة. أي: يخلف بعضكم بعضا فيها، فتعمرونها خلفا بعد سلف، للتصرف بوجوه مختلفة. ورفع بعضكم فوق بعض درجات أي: فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان، وله الحكمة في ذلك. كقوله تعالى: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا وقوله [ ص: 2597 ] سبحانه: انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا وقوله تعالى: ليبلوكم في ما آتاكم أي: ليختبركم في الذي أنعم به عليكم، أي: امتحنكم، ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره، والفقير في فقره ويسأله عن صبره. وفي صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. أفاده ابن كثير.

ثم رهب تعالى من معصيته ورغب في طاعته بقوله سبحانه: إن ربك سريع العقاب أي: لمن عصاه وخالف رسله: وإنه لغفور رحيم أي: لمن والاه واتبع رسله.

لطائف:

الأولى: قال السيوطي في "الإكليل". استدل بقوله تعالى: جعلكم خلائف الأرض من أجاز أن يقال للإمام: خليفة الله. انتهى.

أي: بناء على وجه في الآية. وهو أن المعنى: جعلكم خلائف الله في الأرض تتصرفون فيها. ذكره المفسرون. وآثرت، قبل، غير هذا الوجه لأنه أدق وأظهر، والله أعلم.

الثانية: قال القاضي: وصف العقاب ولم يضفه إلى نفسه، ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة، وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة - تنبيها على أنه سبحانه وتعالى غفور بالذات، معاقب بالعرض، كثير الرحمة مبالغ فيها، قليل العقوبة مسامح فيها. انتهى.

[ ص: 2598 ] الثالثة: قال ابن كثير: إن الحق تعالى، كثيرا ما يقرن في القرآن بين هاتين الصفتين كقوله: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب وقوله: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب.

فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها. وتارة بهما لينجع في كل بحسبه. جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، إنه قريب مجيب.

قد تم بحمده تعالى الكلام على "محاسن تأويل" سورة الأنعام. وذلك ضحوة الأربعاء في 28 ربيع الأول. في شباك السدة اليمنى العليا من جامع السنانية عام 1321. وكان تخلل مدة شهر ونصف، وقفت عن كتابة شيء من هذه السورة فيها، وذلك من آخر البحث في قوله تعالى: سيقول الذين أشركوا الآية. لعارض رحلتي إلى بيت المقدس في 28 محرم من العام المذكور. وبعد العود إلى الوطن في 8 ربيع الأول بدأت من قوله تعالى: قل هلم شهداءكم الآية. في 20 ربيع الأول، وتمت السورة في التاريخ المتقدم، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. بقلم جامعه جمال الدين القاسمي.

ويليه الجزء السابع: ويحتوي على تفسير سور:

7 - الأعراف. 8 - الأنفال. 9 - التوبة.

[ ص: 2608 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

7- سُورَةُ الْأَعْرَافِ

أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ عَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ: الْأَعْرَافُ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا آيَةَ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ وَقَالَ: مِنْ هُنَا إِلَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مَدَنِيٌّ.

وَآيَاتُهَا مِائَتَانِ وَسِتُّ آيَاتٍ.

[ ص: 2609 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

[1] المص

تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، عَلَى حُرُوفِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَالْمَذَاهِبِ فِيهَا.

القول في تأويل قوله تعالى:

[2] كتاب أنـزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين

كتاب " أي: هذا كتاب أنـزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه أي لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه، مخافة أن يكذبوك، أو أن تقصر في القيام بحقه.

فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه، وأذاهم. فكان يضيق صدره من الأداء، ولا ينبسط له، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم.

قال الناصر : ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك الآية لتنذر به " أي: بالكتاب المنزل، المشركين ليؤمنوا وذكرى للمؤمنين " أي: عظة لهم.

وتخصيص الذكرى بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذار بالمشركين. وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام.

[ ص: 2610 ]

القول في تأويل قوله تعالى:

[3] اتبعوا ما أنـزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون

وقوله تعالى: " اتبعوا ما أنـزل إليكم من ربكم خطاب منه تعالى لكافة المكلفين بالأمر باتباع ما أنزل، وهو القرآن، والمراد بـ " ما أنزل " : القرآن والسنة، وقوفا مع عمومه، لقوله سبحانه: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى

تنبيه:

قال السيوطي في (الإكليل): استدل به بعضهم على أن المباح مأمور به، لأنه من جملة ما أنزل الله، وقد أمرنا باتباعه -انتهى-.

وأقول: هذا غلو في الاستنباط، وتعمق بارد. ويرحم الله القائل: إذا اشتد البياض صار برصا.

ولا تتبعوا من دونه أولياء أي لا تتبعوا أولياء غيره تعالى، من الجن والإنس، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع.

قليلا ما تذكرون " أي ما تتعظون إلا قليلا، حيث لا تتأثرون ولا تعملون بموجبه، وتتركون دينه تعالى، وتتبعون غيره. ثم حذرهم تعالى بأسه، إن لم يتبعوا المنزل إليهم، بقوله سبحانه:
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-01-2023 01:29 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2611 الى صـ 2625
الحلقة (348)






القول في تأويل قوله تعالى:

[4] وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون [5] فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين

وكم من قرية أهلكناها " أي أردنا إهلاكها بسبب مخالفة المنزل إليهم. فجاءها [ ص: 2611 ] بأسنا " أي: فجاء أهلها عذابنا بياتا " أي: بائتين، كقوم لوط . والبيتوتة: الدخول في الليل، أي ليلا قبل أن يصبحوا أو هم قائلون " أي قائلين نصف النهار، كقوم شعيب . والمعنى: فجاءها بأسنا غفلة، وهم غير متوقعين له. ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائلون وقت الظهيرة. وكل ذلك وقت الغفلة. والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب، وفيه وعيد وتخويف للكفار. كأنه قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة، فإن عذاب الله إذا نزل، نزل دفعة واحدة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ؟

ثم تأثر تعالى عذابهم الدنيوي ببيان عذابهم الأخروي، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[6] فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين

فلنسألن الذين أرسل إليهم " أي: المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم كما قال: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ولنسألن المرسلين أي: عما أجيبوا به، كما قال سبحانه: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم والمراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[7] فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين

فلنقصن عليهم " أي: على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم بعلم " أي: عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وما كنا غائبين " أي: عنهم وعما وجد منهم.

[ ص: 2612 ]



القول في تأويل قوله تعالى:

[9] ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون

ومن خفت موازينه " أي: حسناته في الميزان فأولئك الذين خسروا أنفسهم بالعقوبة بما كانوا بآياتنا يظلمون أي: يكفرون.

تنبيهات:

الأول: قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية ذكر الميزان، ويجب الإيمان به. انتهى.

وقال الإمام الغزالي في (المضنون): تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور. وبالموت ينكشف الغطاء، كما قال تعالى: فكشفنا عنك غطاءك ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده، وهي مقادير تلك الآثار، وإن بعضها أشد تأثيرا من البعض، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سببا يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد. فحد الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان، ومثاله في العالم المحسوس مختلف، فمنه الميزان المعروف، ومنه القبان للأثقال، والإصطرلاب لحركات الفلك والأوقات، والمسطرة للمقادير والخطوط، والعروض لمقادير [ ص: 2613 ] حركات الأصوات. فالميزان الحقيقي، إذا مثله الله عز وجل للحواس، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها. فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان، وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل، وللخيال عند التمثيل، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات. والتصديق بجميع ذلك واجب. انتهى.

الثاني: الذي يوضع في الميزان يوم القيامة. قيل: الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.

قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس ، كما جاء في (الصحيح) : « أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف » .

ومن ذلك في (الصحيح) قصة القرآن، وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك، وأظمأت نهارك » ، وفي حديث البراء [ ص: 2614 ] في قصة سؤال القبر: فيأتي المؤمن شاب حسن اللون، طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح » . وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.

فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح. فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك، وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: وإن جهنم لمحيطة بالكافرين وقوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا الآية وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة: « إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » ، ولا بعد في ذلك، ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن.

وقيل: صحائف الأعمال هي التي توزن، ويؤيده حديث البطاقة، فقد أخرج أحمد [ ص: 2615 ] والترمذي وصححه، وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة. فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فيقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب ! فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا. يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)، فيقول: يا رب ! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة » .

القول في تأويل قوله تعالى:

[10] ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون

ولقد مكناكم في الأرض " أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها.

وجعلنا لكم فيها معايش جمع معيشة، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. أو ما يتوصل به إلى ذلك من المتاجر والمزارع والصنائع.

قليلا ما تشكرون " الكلام فيه كالذي في قوله: قليلا ما تذكرون وقد مر قريبا، والتذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم، أي ما مننا عليكم بذلك إلا لتشكروا بمتابعة ما أنزلنا إليكم، وترك متابعة من دوننا، فتحصلوا معايش السعادات الأبدية.

ثم بين تعالى نعمته على آدم التي سرت إلى بنيه، وبين لهم عداوة إبليس وما انطوى عليه من الحسد لأبيهم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[11] ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين

" ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين هذا كقوله تعالى: وإذ قال ربك للملائكة [ ص: 2620 ] إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين وفي تصدير هذه الآية بالقسم وحرف التحقيق، كالتي قبلها، إعلام بكمال العناية بمضمونها.

قال أبو السعود : وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين، مع أن المراد بهما خلق آدم عليه السلام وتصويره حتما، توفية لمقام الامتنان حقه، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم، بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه عليه السلام وتصويره، لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه، بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعا، إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه على نمطه، ومصنوع على شاكلته، فكأنهم الذي تعلق به خلقه وتصويره. أي: خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور، ثم صورناه أبدع تصوير، وأحسن تقويم، سار إليكم جميعا – انتهى-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[12] قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين

قال " سبحانه وتعالى: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " أي أن تسجد كما وقع في سورة (ص). و " لا " مزيدة للتنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود، ولتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه، كما في قوله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب ، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك.

وتوقف بعض المحققين في وجه إفادة " لا " النافية تأكيد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه، واستظهر الشهاب أنها لا تؤكده مطلقا، بل إذا صحبت نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح، [ ص: 2621 ] كما في: غير المغضوب عليهم ولا الضالين وكما هنا، فإنها تؤكد تعلق المنع به –انتهى-.

وقيل: (ما منعك)، محمول على (ما حملك وما دعاك)، مجازا أو تضمينا.

وقال الراغب : المنع ضد العطية، وقد يقال في الحماية. والمعنى ما حماك عن عدم السجود. ولا يخفى أن السؤال عن المانع من السجود، مع علمه به، للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره، وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام. كما أوضحه قوله تعالى: قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال ابن كثير : هذا من العذر الذي هو أكبر من الذنب -انتهى.

وإنما قال هذا، ولم يقل (منعني كذا) مطابقة للسؤال. لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة، ما يدل على المانع، وهو اعتقاده أنه أفضل منه، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول، مع ما في طيها من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله. فالجملة متضمنة للجواب بقياس استدلالي ، وهي من الأسلوب الأحمق كما في قصة نمروذ .

وقد علل ما ادعاه من الخيرية والفضل بزعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين، لأنها جوهر نوراني، وهو ظلماني، ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أي: بغير واسطة، وباعتبار الصورة، كما نبه عليه بقوله: ونفخت فيه من روحي وباعتبار الغاية وهو ملاك الأمر، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما بين لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه [ ص: 2622 ] أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواص ليست لغيره.

وبالجملة فالشيء كما يشرف بمادته، يشرف بفاعله وغايته وصورته، والثلاثة في آدم عليه السلام دونه، فاستبان غلطه.

وفي (اللباب) أن عدو الله إبليس جهل وجه الحق، وأخطأ طريق الصواب، لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب، وهذا الذي حمله، مع سابقة شقائه، على الاستكبار عن السجود لآدم عليه السلام، والاستخفاف بأمر ربه، فأورده ذلك العطب والهلاك.

ومن جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت، وهذا كان الداعي لآدم عليه السلام، مع سابقة سعادته، إلى التوبة من خطيئته، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم » . رواه مسلم .

تنبيه:

روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن في قوله تعالى: خلقتني من نار وخلقته من طين قال: قاس إبليس وهو أول من قاس . وأخرج أيضا بإسناد صحيح عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس .

ولذا احتج بهذه الآية من ذهب إلى عدم جواز تخصيص النص بالقياس، وإلا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد.

قال الرازي : بيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة اسجدوا لآدم " خطاب عام يتناول جميع الملائكة، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس، وهو أنه مخلوق [ ص: 2623 ] من النار، والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف، والأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدنى، والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك.

وقد ثبت أن إبليس لما خصص العموم بهذا القياس استحق الذم، وما ذاك إلا لعدم جوازه. وأيضا ففي الآية دلالة على ذلك من وجه آخر: وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى: فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فوصفه الله تعالى بكونه متكبرا، بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله.

ودلت هذه الآية على أن التكبر عليه تعالى يوجب العقاب الشديد، والإخراج من زمرة الأولياء. ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وهذا هو المراد مما نقله الواحدي في (البسيط) عن ابن عباس أنه قال: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربه وقاس، وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه، قرنه الله مع إبليس - هذا ما نقله الواحدي في (البسيط) عن ابن عباس ، وأفاده الرازي .

وقد روي عن السلف آثار كثيرة في ذم القياس، منها ما تقدم عن الحسن وابن سيرين وابن عباس ، وعن مسروق قال: لا أقيس شيئا بشيء، فتزل قدمي بعد ثبوتها .

وعن الشعبي : إياكم والقياس، وإنكم إن أخذتم به أحللتم الحرام، وحرمتم الحلال، ولأن أتغنى غنية، أحب إلي من أن أقول في شيء برأيي .

وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله من هذا المعنى آثارا وافرة في (جامع بيان العلم وفضله) وقال: احتج من نفى القياس بهذه الآثار ومثلها. وقالوا في حديث معاذ : إن معناه أن يجتهد رأيه على الكتاب والسنة. وتكلم داود في إسناد حديث معاذ ، ورده ودفعه من أجل أنه عن أصحاب معاذ ، ولم يسموا، قال الحافظ ابن عبد البر : وحديث معاذ صحيح مشهور، رواه الأئمة العدول، وهو أصل في الاجتهاد والقياس على الأصول. ثم قال: وسائر الفقهاء وقالوا في هذه الآثار وما كان مثلها [ ص: 2624 ] في ذم القياس: إنه القياس على غير أصل، أو القياس الذي يرد به أصل، والقول في دين الله بالظن. ألا ترى إلى قول من قال منهم: أول من قاس إبليس؟ لأن إبليس رد أصل العلم بالرأي الفاسد، والقياس لا يجوز عند أحد ممن قال به إلا في رد الفروع إلى أصولها، لا في رد الأصول بالرأي والظن. وإذا صح النص من الكتاب والأثر، بطل القياس وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة الآية، وأي أصل أقوى من أمر الله تعالى لإبليس بالسجود، وهو العالم بما خلق منه آدم ، وما خلق منه إبليس؟ ثم أمره بالسجود له فأبى واستكبر لعلة ليست بمانعة من أن يأمره الله بما يشاء، فهذا ومثله لا يحل ولا يجوز. وأما القياس على الأصول، والحكم للشيء بحكم نظيره، فهذا ما لا يختلف فيه أحد من السلف، بل كل من روي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصا. لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل، مخالف للسلف في الأحكام.

وقال مسروق الوراق :


كنا من الدين قبل اليوم في سعة حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس قاموا من السوق إذ قلت مكاسبهم
فاستعملوا الرأي عند الفقر والبوس أما العريب فقوم لا عطاء لهم
وفي الموالي علامات المفاليس



فلقيه أبو حنيفة فقال: هجوتنا، نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم فقال:


إذا ما أهل مصر بادهونا بآبدة من الفتيا لطيفه
أتيناهم بمقياس صحيح صليب من طراز أبي حنيفه
إذا سمع الفقيه به وعاه وأثبته بحبر في صحيفه



قال ابن عبد البر : اتصلت هذه الأبيات ببعض أهل الحديث والنظر من أهل ذلك [ ص: 2625 ] الزمن، فقال:


إذا ذو الرأي خاصم عن قياس وجاء ببدعة منه سخيفه
أتيناهم بقول الله فيها وآثار مبرزة شريفه



هكذا حكاه ابن عبد البر في (جامع فضل العلم). وله فيه في (باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والقياس على غير أصل)، مقالات سابغة جديرة بالمراجعة.

ومما ذكر فيه: أن أهل الحديث أفرطوا في أبي حنيفة ، وتجاوزوا الحد.

قال: والسبب الموجب لذلك، عندهم، إدخاله الرأي والقياس على الآثار، واعتبارهما، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل النظر. وكان رده لما رد من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي: وجل ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعا لأهل بلده، كإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود . إلا أنه أغرق هو وأصحابه في تنزيل النوازل، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم.

فأتى منهم في ذلك خلاف كبير للسلف.

ثم قال: وما أعلم أحدا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ، أو ادعاء نسخ. إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرا، وهو يوجد لغيره قليل.

وعن الليث بن سعد أنه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مما قال مالك فيها برأيه. قال: وقد كتبت إليه أعظه في ذلك. هذا كلام ابن عبد البر ملخصا.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه: أنه روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعى إجماعهم -أي: الصحابة- على ترك العمل بالرأي والقياس، مطلقا فقد غلط، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس، فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها -انتهى.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-01-2023 01:31 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2626 الى صـ 2640
الحلقة (349)





[ ص: 2626 ] وقال ابن تيمية رحمه الله في فتوى أخرى: والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا. والقياس الصحيح نوعان:

أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقا غير مؤثر في الشرع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: « ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم » ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن، فلهذا قال جماهير العلماء: إنه أي نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهر الذي يقع في السمن، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن.

ومن قال من أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن، فقد أخطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة، لكن لما استفتي عنها أفتى فيها، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع، فأجاب المفتي عن ذلك، خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه بالحكم، ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة مضمخة [ ص: 2627 ] بخلوق فقال: انزع عنك الجبة الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك . فأجابه عن الجبة، ولو كان عليه قميص أو نحوه، كان الحكم كذلك بالإجماع.

والنوع الثاني من القياس: أن ينص على حكم لمعنى من المعاني، ويكون ذلك المعنى موجودا في غيره، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما، وكان هذا قياسا صحيحا. فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما، وهما من باب فهم مراد الشارع. فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه، وعلى أن يعرف مراده باللفظ، وإذا عرفنا مراده، فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك، لا لمعنى يخص الأصل، أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك.

وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص، منعنا القياس، كما أنا علمنا أن الحج خص به الكعبة ، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة ، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس، ونحو ذلك، فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره.

وإذا عين الشارع مكانا أو زمانا للعبادة، كتعيين الكعبة وشهر رمضان، أو عين بعض الأقوال والأفعال، كتعيين القراءة في الصلاة، والركوع والسجود، بل وتعيين التكبير وأم القرآن، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم، وقالوا: المقصود أربعة أشهر من السنة، فقال تعالى: إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به [ ص: 2628 ] الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص، من جنس قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا

وكذلك قياس المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكى وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ قال تعالى: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون فهذه الأقيسة الفاسدة، وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد، وكل من ألحق منصوصا بمنصوص يخالف حكمه، فقياسه فاسد. وكل من سوى بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد.

لكن من القياس ما يعلم صحته، ومنه ما يعلم فساده، ومنه ما لم يتبين أمره. فمن أبطل القياس مطلقا فقوله باطل. ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل.

[ ص: 2629 ] ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته، فقد استدل بما لا يعلم صحته، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته، فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته، وإلى ما يعلم فساده، وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدها. ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أفعال المكلفين.

ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض، كقوله: تلك عشرة كاملة و: الله الذي أنـزل الكتاب بالحق والميزان فالكتاب هو النص، والميزان هو العدل. والقياس الصحيح من باب العدل، فإنه تسوية بين المتماثلين، وتفريق بين المختلفين، ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح، ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام [ ص: 2630 ] بالنصوص وبالأقيسة، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر، كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعنى، وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب، فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص. وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس، لكن يقولون: معنا آثار توافق، اتبعناها، ويقولون: إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر، وغلطوا في فهم النص، وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم. ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها، من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قال تعالى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه ولا يحتمل المقام بسطه أكثر من هذا -والله أعلم- انتهى كلامه رحمه الله.

القول في تأويل قوله تعالى:

[13] قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين

قال " تعالى لإبليس فاهبط منها " أي: بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي، وأكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الجنة، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها.

قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت الأعلى –انتهى- .

وعليه اقتصر المهايمي حيث قال: فاهبط منها أي: من رتبة الملكية إلى رتبة العناصر: فما يكون لك أن تتكبر فيها أي: فما يصح ولا يستقيم، فإنها [ ص: 2631 ] مكان المطيعين الخاشعين فاخرج " تأكيد للأمر بالهبوط، متفرع على علته إنك من الصاغرين " أي: من الأذلاء وأهل الهوان على الله تعالى وعلى أوليائه.

القول في تأويل قوله تعالى:

[14] قال أنظرني إلى يوم يبعثون

قال أنظرني " أي: أمهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون " أي: آدم وذريته من القبور.

القول في تأويل قوله تعالى:

[15] قال إنك من المنظرين

قال " أي: الله له إنك من المنظرين " أي من المؤجلين إلى نفخة الصور الثانية.

قال ابن كثير : أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا معقب لحكمه.

وقال الإمام أبو سعد المحسن بن كرامة الجشمي اليماني في تفسيره (التهذيب): [ ص: 2632 ] ومتى قيل: ما وجه سؤاله مع أنه مطرود وملعون؟ فجوابنا علمه بإحسانه تعالى إلى خلقه من أطاع ومن عصى، فلم يمنعه من السؤال ما ارتكب من المعصية. ومتى قيل: هل خاطبه بهذا؟ قلنا: يحتمل ذاك، ويحتمل أنه أمر ملكا فخاطبه به. ومتى قيل: هل يجوز إجابة دعاء الكافر؟ قلنا: فيه خلاف.

الأول: قيل لا، لأنه إكرام وتعظيم -عن أبي علي - ولذلك يقال: فلان مستجاب الدعوة، وإنظاره لا على سبيل إجابة دعائه، لأنه ملعون ولأنه لم يسأل على وجه الخضوع.

[ ص: 2633 ] الثاني: يجوز إجابة دعائه استصلاحا له، لأنه تفضل -عن أبي بكر أحمد بن علي - وليس بالوجه. ومتى قيل: إذا أنظر هل يكون إغراء بالمعصية؟ قلنا: لا، لأنه لم يعلم ما الوقت [ ص: 2634 ] المعلوم، فلا يكون إغراء مع تجويزه هجوم الموت عليه، ولأنه تعالى لما أعلمه أنه يدخله النار، ولعنه -علم أنه لا يختار الإيمان أبدا.

ومتى قيل: ما فائدة إنظاره؟ قلنا: لطف له، لأنه يمكنه من استدراك أمره.

وهل يضل به أحد؟ قال أبو علي : لا، لقوله تعالى: ما أنتم عليه بفاتنين [ ص: 2635 ] إلا من هو صال الجحيم ولأنه لو ضل به أحد، لكان بقاؤه مفسدة ، فكان الله تعالى لا ينظره. فأما أبو هاشم فيجوز أن يضل به أحد، ويكون بمنزلة زيادة الشهوة، ويجوز أن يكون لطفا من وجوه: أحدها أن المكلف مع وسوسته إذا امتنع من القبيح، كان ثوابه أكثر، ولأنه تعالى عرفنا عداوته، والعاقل يجتهد في أن يغيظ عدوه ويغمه، وذلك إنما يكون بطاعة ربه، ومن أطاعه فمن قبل نفسه أتي، لا من قبل ربه. انتهى كلام الجشمي ، وهو جار على أصول المعتزلة .

القول في تأويل قوله تعالى:

[16] قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم

قال فبما أغويتني " أي أضللتني عن الهدى، أو حكمت بغوايتي، والباء للقسم، كما في قوله تعالى: قال فبعزتك لأغوينهم أي: فأقسم بإغوائك إياي، وقيل: هي بمعنى لام التعليل، أي: لأجل إغوائك إياي لأقعدن لهم " أي: لآدم وبنيه ترصدا كما يقعد القطاع للطريق على السابلة صراطك المستقيم " أي طريقك السوي، وهو طريق الحق، ومعناه لا أفتر عن إفسادهم. وانتصابه على الظرفية أو على نزع الجار.

[ ص: 2636 ]



القول في تأويل قوله تعالى:

[17] ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين

" ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم أي من جميع الجهات الأربع. مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي وجه يمكنه، بإتيان العدو من الجهات الأربع التي يعتاد هجومه منها. ولذلك لم يذكر الفوق والتحت.

ولا تجد أكثرهم شاكرين أي مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به عليهم في طريق الطاعة والتقرب إلى الله.

وإنما قال ذلك لما رآه من الأمارات على طريق الظن، كقوله: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين روى الإمام أحمد عن سبرة بن الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ قال: فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول، قال: فعصاه فهاجر. قال: ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: هو جهاد النفس والمال، فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة» .

وقال الحافظ : ورد في الحديث استعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته [ ص: 2637 ] كلها، فروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن عمر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي: اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي . ورواه البزار عن ابن عباس .

فائدة:

قال الجشمي : تدل الآية أنه سأل الإنظار، وأنه تعالى أنظره، وقد بينا ما قيل فيه، وتدل على شدة عداوته لبني آدم وحرصه على إضلالهم، وتدل على أن أكثر بني آدم غير شاكرين، وتدل على أن الإضلال فعل إبليس، والقبول عنه فعلهم، لذلك أضافه إليهم، وذمهم عليه، ولو كان خلقا له لما صح ذلك. انتهى- والكلام في أمثالها معروف.

ثم أكد تعالى على إبليس اللعنة والطرد والإبعاد عن محل الملأ الأعلى، بقوله سبحانه:

[ ص: 2638 ]



القول في تأويل قوله تعالى:

[18] قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين

قال اخرج منها مذءوما " بالهمزة في القراءة المشهورة، من (ذأمه)، إذا حقره وذمه، وقرئ " مذوما " بذال مضمومة وواو ساكنة، وهي تحتمل أن تكون مخففة من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، وأن تكون من المعتل، وكان قياسه (مذيم) كمبيع، إلا أنه أبدلت الواو من الياء، على حد قولهم (مكول) في مكيل، و (مشوب) في مشيب.

مدحورا " مقصيا مطرودا لمن تبعك منهم " اللام فيه، لتوطئة القسم، وجوابه لأملأن جهنم منكم أجمعين " ، أي: لمن أطاعك من الجن والإنس، لأملأن جهنم من كفاركم، كقوله تعالى: قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا

قال الجشمي : وإنما قال ذلك لأنه لا يكون في جهنم إلا إبليس وحزبه من الشياطين، وكفار الإنس وفساقهم، الذين انقادوا له وتركوا أمر الله لأمره، فجمعهم في الخطاب، ومتى قيل: لم ضيق جهنم ووسع الجنة؟ قلنا: لأن جهنم حبس، والجنة دار ملك. ومتى قيل: فما الفائدة في قوله: لأملأن جهنم منكم قلنا: لطفا ليكون المكلف تبعا للأنبياء دون الشياطين، ولطفا لإبليس وحزبه، لأنه غاية في الزجر والنهي.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على الوعيد لمن تبع إبليس، وأنه يملأ جهنم منهم. ولا بد فيه من شرط، وهو أن لا يتوب، أو لا يكون معه طاعة أعظم. وتدل على إذلال إبليس وطرده ولعنه بسبب عصيانه، تحذيرا عن مثل حاله.

[ ص: 2639 ]

القول في تأويل قوله تعالى:

[19] ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين

وقوله تعالى: ويا آدم " أي: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " أي جنة الخلد، أو جنة في الأرض.


قال الجشمي : وقد تقدم ذكر هذه القصة، والفائدة في إعادتها أن القرآن نزل في بضع وعشرين سنة، والعوارض تعرض، والوفود تقدم، فكانت القصة تعاد، ليسمع من لم يسمع، استصلاحا ولطفا. لأن في إعادة قصة واحدة، في مواضع بألفاظ مختلفة، كل واحد منها في نهاية الحسن، من إعجاز القرآن. فكلا من حيث " أي: من كل مكان شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " أي فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[20] فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين

فوسوس لهما الشيطان " أي: إبليس بأكل الشجرة مخيلا لهما النفع ليبدي لهما " أي: يظهر لهما ما ووري " أي: ستر عنهما من سوآتهما " أي: عوراتهما واللام في ليبدي " إما للعاقبة، لأنه لم يعلم صدوره منهما، أي: فكان عاقبة وسوسته أن أظهر سوآتهما، أو للتعليل والغرض، وهو الأصل فيها، بناء على حدسه أو علمه بطريق ما.

تنبيه:

في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه مستهجن في الطباع، ولذلك سميت سوأة، لأنه يسوء صاحبها..

[ ص: 2640 ] قال الحاكم : وقد استدل قوم بالآية على وجوب ستر العورة، وأنه كان في شريعة آدم عليه السلام.

قال القاضي : لا دليل في الآية على الوجوب، لأنه ليس فيها إلا أنهما فعلا ذلك.

قال الأصم : في الآية دليل على أنهما كرها التعري، وإن لم يكن لهما ثالث، ففي ذلك دليل على قبح التعري، وإن لم يكن مع المتعري أحد، إلا لحاجة.

وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا أي: إلا كراهة أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين أي: من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.

وقد استدل بهذا من رأى تفضيل الملائكة على الأنبياء، لارتكابهما ذلك طمعا في نيل ما ذكر، وأجاب، من لم ير هذا، باحتمال أن تكون هذه الواقعة قبل نبوة آدم . ولئن كانت بعدها، فلعل آدم رغب في الملكية للقوة والشدة والقدرة، أو لخلقة الذات، بأن يصير جوهرا نورانيا -أشار له الرازي -.

وقال الناصر : لا يلزم من اعتقاد إبليس لذلك ووسوسته بأن الملائكة أفضل، أن يكون الأمر كذلك في علمه تعالى، ألا ترى إبليس قد أخبر أن الله تعالى منعهما من الشجرة حتى لا يخلدا أو لا يكونا ملكين، وهو في ذلك كاذب مبطل فلا دليل فيه إذا، وليس في الآية ما يوجب تقرير الله تعالى لإبليس على ذلك، ولا تصديقه فيه، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرهما، إذ قال الله تعالى: فدلاهما بغرور " فلعل تفضيله الملائكة على النبوة من جملة غروره -انتهى.

قال السيوطي في (الإكليل): وأنا أقول: لا أزال أتعجب ممن أخذ يستدل من هذه الآية. والكلام الذي فيها، حكاه الله تعالى عن قول إبليس في معرض المناداة عليه بالكذب والغرور والزور والتدليس، وإنما يستدل من كلامه تعالى، أو من كلام حكاه عن بعض أنبيائه. وإن لم يكن ذلك، فكلام حكاه راضيا به مقرا له -انتهى.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 05-01-2023 01:34 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2641 الى صـ 2655
الحلقة (350)



على أنه قرئ (ملكين) بكسر اللام، كان يقرؤها كذلك ابن عباس ويحيى بن أبي [ ص: 2641 ] كثير . قال الواحدي : إنما أتاهما إبليس من جهة الملك. ويدل على هذا قوله تعالى: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى انتهى.

والقراءة الشاذة قد تكون تفسيرا للمتواترة، كما لا يخفى، وبه يندفع ما للرازي هنا.

القول في تأويل قوله تعالى:

[21] وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين

وقاسمهما " أي: أقسم لهما إني لكما لمن الناصحين " أي: في هذا الأمر.

قال ابن كثير : أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما. وقد يخدع المؤمن بالله. انتهى.

وعن قتادة : إنما يخدع المؤمن بالله . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة، أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلبا للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له .

القول في تأويل قوله تعالى:

[22] فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين

فدلاهما بغرور " أي: أطمعهما، وأصله: الرجل العطشان يدلي في البئر ليروي من مائها، فلا يجد فيها ماء، فيكون مدليا فيها بغرور، فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعا، وفيه إشعار بأنه أهبطهما بذلك من درجة عالية، إلى رتبة سافلة. فإن [ ص: 2642 ] التدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل. وقيل: معنى دلاهما جرأهما بغروره، والأصل فيه (دللهما)، والدل والدالة الجرأة كما قال:


أظن الحلم دل علي قومي وقد يستجهل الرجل الحليم


فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء:

فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما أي: أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما اللباس، فظهرت لهما عوراتهما.

قال السيوطي في (الإكليل): استدل به بعضهم على أن من ذاق الخمر عصى –انتهى-

وهذا وقوف مع ظاهر ما ههنا، فإن الذوق وجود الطعم بالفم، وظاهر أنه قد يعبر به عن الأكل اليسير، وهو المراد هنا، لأنه وقع في آية أخرى مصرحا بالأكل فيها وطفقا يخصفان أي: أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة عليهما من ورق الجنة " أي: ليستترا به.

قال الجشمي : تدل على أن ستر العورة كان من شريعة آدم عليه السلام. وقد استدل قوم بالآية على وجوب الستر.

قال القاضي : وليس في الآية ما يوجب الوجوب، إذ ليس فيها أكثر من أنهما فعلا ذلك.

قال الأصم : وتدل على أن الستر من خلق آدم وحواء ، وأنهما كرها العري وإن لم يكن لهما ثالث، ففي ذلك دليل على قبح التعري إلا عند الحاجة.

وناداهما ربهما " أي يذكرهما النهي السابق والأمر والتجنب عن الشيطان ألم أنهكما عن تلكما الشجرة " أي: عن الأكل منها: وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين

[ ص: 2643 ]

القول في تأويل قوله تعالى:

[23] قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين

" قالا ربنا ظلمنا أنفسنا أي أضررناها بالمعصية وإن لم تغفر لنا " أي ما سلف وترحمنا " أي بالتوبة وقبولها لنكونن من الخاسرين " أي لنصيرن ممن خسر جميع ما حصل له من الكمالات. قال الضحاك بن مزاحم في قوله ربنا ظلمنا " الآية: هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.

لطيفة:


قال الجشمي : يقال إن آدم عليه السلام سعد بخمسة أشياء: اعترف بالذنب، وندم عليه، ولام نفسه، وسارع إلى التوبة، ولم يقنط من الرحمة. وشقي إبليس بخمسة أشياء: لم يقر بالذنب، ولم يندم، ولم يلم نفسه بل أضاف إلى ربه فلم يتب، وقنط من الرحمة.

القول في تأويل قوله تعالى:

[24] قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين

قال اهبطوا " أي: من الجنة إلى ما عداها، وقال أبو مسلم : معناه اذهبوا. وهو خطاب لآدم وحواء وإبليس.

قال ابن كثير : والعمدة في العداوة آدم وإبليس، ولهذا قال في سورة طه: قال اهبطا منها جميعا الآية، وحواء تبع لآدم ، والحية إن كان ذكرها صحيحا فهي تبع لإبليس.

وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم. ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها، ولو كان في تعيين تلك [ ص: 2644 ] البقاع فائدة، تعود على المكلفين، في أمر دينهم أو دنياهم، لذكرها الله تعالى في كتابه، أو رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر أي: استقرار أو موضع استقرار ومتاع " أي: تمتع ومعيشة إلى حين " أي: إلى تقضي آجالكم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[25] قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون

قال فيها " أي الأرض تحيون " تعيشون وفيها تموتون ومنها تخرجون " أي: يوم القيامة للجزاء، كقوله تعالى: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى

ثم ذكرهم سبحانه بنعمته في تبوئة الدار والمستقر في الأرض وكسوتهم لباسا يسترون به سوءاتهم، بعدما نزع عنهما لباس الجنة، وذلك لما هم، بعد الإهباط، من الحاجة إلى اللباس والمعاش. فقال سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[26] يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون

" يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسا يعني ما يلبس من الثياب وغيره.

قال الزمخشري : جعل ما في الأرض منزلا من السماء، لأنه قضى ثمة وكتب، أي: قضى وقسم لكم، وقضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح المحفوظ.

وقال أبو البقاء : لما كان الريش واللباس ينبتان بالمطر، والمطر ينزل، جعل ما هو المسبب بمنزلة السبب. انتهى.

[ ص: 2645 ] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له في معنى النزول: لا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة، فإن اللباس ينزل من ظهور الأنعام فامتن سبحانه بما ينتفعون به من الأنعام في اللباس والأثاث، وهذا - والله أعلم - معنى إنزاله، فإنه ينزله من ظهور الأنعام، وهو كسوة الأنعام من الأصواف والأوبار والأشعار، وينتفع به بنو آدم في اللباس والرياش، فقد أنزلها عليهم، وأكثر أهل الأرض كسوتهم من جلود الدواب، فهي لدفع الحر والبرد، وأعظم مما يصنع من القطن والكتان.

يواري سوآتكم " أي يستر عوراتكم التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق، وأنتم مستغنون عن ذلك وريشا " عطفه إما من عطف الصفات، فوصف اللباس بشيئين: مواراة السوأة والزينة. فالريش بمعنى الزينة، لأنه زينة الطير فاستعير منه. وإما من عطف الشيء على غيره، أي: أنزلنا لباسين: لباس مواراة، ولباس زينة، فيكون مما حذف فيه الموصوف، أي: لباسا ريشا، أي ذا ريش، والريش مشترك بين الاسم والمصدر.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وحكاه البخاري عنه: الريش المال. وحكاه غير واحد من السلف. قال الإمام ابن تيمية : وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال، والمراد به مال مخصوص. قال ابن زيد : جمالا. وقرئ ريشا. قال [ ص: 2646 ] ابن السكيت : الرياش هو الأثاث من المتاع، ما كان من لباس أو حشو من فراش أو دثار، والريش: المتاع والأموال، وقد يكون في الثياب دون الأموال. وإنه لحسن الريش، أي: الثياب. انتهى.

ويقال: راش فلان، أي: جمع الريش، وهو المال والأثاث. وراش الصديق أطعمه وسقاه وكساه، وأصله من الريش، كأن الفقير المملق لا نهوض له، كالمقصوص منه الجناح وكل من أوليته خيرا، فقد رشته -كذا في تاج العروس-.

فائدة:

روى الإمام أحمد عن أبي أمامة عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من استجد ثوبا فلبسه، فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي. ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به، كان في ذمه الله تعالى وفي جوار الله، وفي كنف الله حيا وميتا » . ورواه الترمذي وابن ماجه ، وروى [ ص: 2647 ] الإمام أحمد عن أبي مطر أنه رأى عليا رضي الله عنه أتى غلاما حدثا، فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين، يقول ولبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي. فقيل: هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكسوة: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي .

ولما بين تعالى ساتر الظاهر وزينته، أشار إلى ساتر عيوب الباطن وزينته بقوله ولباس التقوى " أي: خشية الله، أو الإيمان، أو السمت الحسن، والكل متقارب، ورفعه بالابتداء خبره جملة ذلك خير " أو خير، وذلك صفته، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير.

قال المهايمي : لأن الظاهر محل نظر الخلق، والباطن محل نظر الحق، والعيوب الباطنة أفحش من العورات الظاهرة.

وقال القاشاني : لباس التقوى صفة الورع والحذر من صفة النفس، ذلك خير لأنه من جملة أركان الشرائع، لأنه أصل الدين وأساسه، كالحمية في العلاج. انتهى.

قال أبو علي الفارسي : معنى الآية: ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به، قال: وأضيف اللباس إلى التقوى، كما أضيف إلى الجوع في قوله: فأذاقها الله لباس الجوع والخوف –انتهى-

[ ص: 2648 ] أي: فهو استعارة مكنية وتخييلية بأن يتوهم للتقوى حالة شبيهة باللباس، تشتمل على جميع بدنه، بحسب الورع والخشية من الله، اشتمال اللباس على اللابس، أو من قبيل (لجين الماء). وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ولباس التقوى " بالنصب، عطفا على لباسا " .

ذلك " أي:إنزال اللباس من آيات الله " الدالة على فضله ورحمته على عباده لعلهم يذكرون " أي: نعمته عليهم فيعرفون عظمتها فيشكرونها.

قال الزمخشري : وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت، وخصف الأوراق عليها، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري، وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على عظيم نعمه تعالى بهذه النعم التي عدها. وذهب علي بن موسى القمي إلى أنها تدل على وجوب ستر العورة. وقال آخرون: لا تدل، وليس في الظاهر إلا الإنعام به من حيث نفي الحر والبرد وستر العورة والتجمل به، فأما أنه واجب، فبعيد.

ولو ثبت وجوبه عليه، احتجنا إلى وجوبه في شريعتنا إلى دليل مستأنف. وقد ثبت في هذه الشريعة وجوبه بالخبر المستفيض والإجماع، فلا حاجة إلى الرجوع إلى شريعة أخرى.

وتدل على أنه تعالى، كما أنعم بنعم الدنيا، أنعم بنعم الدين، فإن الأقرب أن لباس التقوى العلم والعمل الصالح، فكأنه ضم إلى نعم الدنيا نعم الدين التي بها يحصل الفوز بالثواب، فتحصل نعمة الدارين.

القول في تأويل قوله تعالى:

[27] يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينـزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون

يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " أي لا يخدعنكم عن دخول الجنة، بنزع لباس [ ص: 2649 ] الشريعة والتقوى عنكم، فيخرجكم من نظر الله بالرحمة إليكم: كما أخرج أبويكم من الجنة نعت لمصدر محذوف، أي لا يفتننكم فتنة مثل إخراج أبويكم. ينـزع عنهما لباسهما " أي الظاهر بسبب نزع لباس التقوى ليريهما سوآتهما " أي الظاهرة الدالة على السوأة الباطنة. وجملة ينـزع " حال من أبويكم " أو من فاعل " أخرج " ، أي: أخرجهما نازعا لباسهما، بأن كان سببا في أن نزع عنهما، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة.

تنبيهان:

الأول: قال السيوطي في (الإكليل): استدل بهذه الآية أيضا على وجوب ستر العورة، واستدل بالآيتين من قال: إن العورة هي السوأتان خاصة -انتهى.

الثاني: قال الإمام الرازي : اعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم ، وبين فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده، أتبعها بأن حذر أولاده من قبول وسوسة الشيطان، فقال: يا بني آدم " الآية، وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده، ولطف وسوسته، وشدة اهتمامه، إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة - فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى.

فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالاحتراز عن وسوسته.

وقوله تعالى: إنه يراكم هو وقبيله أي: جنوده من الشياطين: من حيث لا ترونهم أي من مكان لا ترونهم فيه.

والجملة استئناف لتعليل النهي، وتأكيد التحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المداجي، يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون. عن مالك بن دينار : إن عدوا يراك ولا تراه، لشديد المؤنة، إلا من عصم الله.

تنبيه:

قال السيوطي في (الإكليل): قال ابن الفرس : استدل بها بعضهم على أن الجن لا يرون وأن من قال إنهم يرون فهو كافر –انتهى-

ومراده بالبعض، المعتزلة ، ولذا [ ص: 2650 ] قال الزمخشري : فيه دليل بين أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة. انتهى.

وقال الجشمي : تدل على بطلان قول العامة إن الشيطان يتصور لنا ونراه. ثم قال: ومتى قيل: أليس يرون زمن الأنبياء، ويرى المعاين الملك؟ فجوابنا: أنه يزداد قوة الشعاع أو تتكاثف أبدانهم، فيكون معجزة للنبي -انتهى.

وأجاب أهل السنة كما في (العناية): بأنه قد ثبتت رؤيتهم، بالأحاديث الصحيحة المشهورة، وهي لا تعارض ما في الآية لأن المنفي فيها رؤيتهم إذا لم يتمثلوا لنا.

وقال في فتح البيان: وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشيطان غير ممكنة، وليس في الآية ما يدل على ذلك. وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه وليس فيها أنا لا نراه أبدا، فإن انتفاء الرؤية منا له، في وقت رؤيته لنا، لا يستلزم انتفاءها مطلقا.

والحق جواز رؤيتهم كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة، وتكون الآية مخصوصة بها، فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض –انتهى-.

وقد أوضح الغزالي رحمه الله رؤيا الجن والشياطين برؤيا الملائكة حيث قال في (الركن الثاني): الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها مختلفة بالحقائق اختلافا يكون بين الأنواع. ثم قال: ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر - أعني جواهر الملائكة- وإن كانت غير محسوسة.

وهذه المشاهدة على ضربين: إما على سبيل التمثيل، كقوله تعالى: فتمثل لها بشرا سويا وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام، يرى جبريل في صورة دحية الكلبي .

[ ص: 2651 ] والقسم الثاني: أن يكون لبعض الملائكة بدن مخصوص، كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بها، فكذلك بعض الملائكة، وربما كان هذا البدن المحسوس موقوفا على إشراق نور النبوة، كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوفة عند الإدراك على إشراق نور الشمس، وكذا في الجن والشياطين -انتهى.

وقوله تعالى: إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون قال الزجاج : يعني سلطناهم عليهم، يزيدون في غيهم –انتهى- والجملة تعليل آخر للنهي، وفيه تحذير أبلغ من الأول.

القول في تأويل قوله تعالى:

[28] وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون

وإذا فعلوا فاحشة " أي: ما تناهى قبحه من الذنوب، كالشرك وكشف العورة في الطواف [ ص: 2652 ] قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها أي: إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها، فاقتدوا بهم، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها، حيث أقرنا عليها، إذ لو كرهها لنقلنا عنها، وهما باطلان، لأن أحدهما تقليد للجهال، والتقليد ليس بطريق للعلم، والثاني افتراء على ذي الجلال.

قال الشهاب : في قوله تعالى والله أمرنا " : مضاف مقدر أي أمر آباءنا، فلا يقال الظاهر أمرهم بها، والعدول عن الظاهر إشارة إلى ادعاء أن أمر آبائهم أمر لهم.

قل إن الله لا يأمر بالفحشاء " أي: هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك، لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال: أتقولون على الله ما لا تعلمون إنكار لإضافتهم الأمر بالفحشاء إليه سبحانه، يتضمن النهي عن الافتراء عليه تعالى، وفيه شهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط.

قال الشهاب : ولا دليل في الآية لمن نفى القياس، بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم، لأنه مخصوص في عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به، أو بدليل آخر.

تنبيه:

قال مجاهد : كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، فتضع المرأة على قبلها النسعة أو الشيء وتقول:


اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله


فأنزل الله: وإذا فعلوا فاحشة الآية ، قال ابن كثير : كانت العرب ، ما عدا قريشا ، لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها. وكانت قريش - وهم الحمس - يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه، فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوبا جديدا، ولا أعاره أحمسي ثوبا، [ ص: 2653 ] طاف عريانا، وربما كانت امرأة، فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر، فتقول: اليوم يبدو... - البيت- وأكثر ما كان النساء يطفن بالليل، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر تعالى عليهم ذلك.

وذكر السيوطي في (الإكليل) عن ابن عباس أيضا؛ أنها نزلت في طوافهم بالبيت عراة ، رواه أبو الشيخ وغيره، قال: ففيها وجوب ستر العورة في الطواف.

تنبيهان:

الأول: ذهب المعتزلة إلى أن الإرادة مدلول الأمر، ولازمة له، والفحشاء -أعني الشرور والمعاصي- غير مأمور بها بنص الآية، فلا تكون مرادة له تعالى.

وأجاب أهل السنة بأن الأمر قد ينفك عن الإرادة، بمعنى أنه يوجد بدون الإرادة، فلا تكون الإرادة تابعة له وجودا. ومما يوضح أن الشيء قد يؤمر به ولا يكون مرادا، أن السيد إذا أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده، يأمره بالشيء ولا يريده منه. ومنها أن الأمر أمران:

أمر تكويني: يحصل به وجود الأشياء، وهو خطاب (كن) وهو تابع للإرادة، ويعم جميع الكائنات. فالطاعات والمعاصي كلها مأمورة ومرادة بهذا الأمر، ولا يتعلق بهذا الأمر الطاعة والعصيان والثواب والعقاب. لأنه يتعلق بالأشياء حال العدم. وأمر تشريعي تدويني: أي شرعه الله لعباده، وكلفهم به، مما دون في كتب الشريعة وبين. وهذا الأمر يتعلق به الطاعة والعصيان والثواب والعقاب والرضا والسخط، والكفر والمعاصي ليست مأمورة بهذا الأمر.

والمعتزلة لم يفرقوا بين الأمرين، وقالوا: إن الكفر والمعاصي لو كانت مراده تعالى، لكانت مأمورا بها، وإتيان المأمور به طاعة، فيكون الكافر والفاسق مطيعين، فإنهما مأمور بهما بالأمر الأول، وليس مأمورا بهما بالأمر الثاني، حتى يكون إتيانهما طاعة.

[ ص: 2654 ] قال السيلكوتي : ولا يخفى عليك تقسيم الأمر إلى أمرين، إنما يستقيم إذا كان قوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون على ظاهره، كما ذهب إليه البعض. وأما إذا كان عبارة عن الإيجاد من غير أن يتعلق بها خطاب، كما ذهب إليه الأشعري ومن تبعه، فلا. انتهى.

والمسألة مبسوطة في محالها المعروفة.

الثاني: قوله تعالى: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء جواب عن شبهتهم الثانية.

ولم يذكر جوابا عن الأولى، قال الإمام : لأنها إشارة إلى محض التقليد، وقد تقرر في المعقول أنه طريقة فاسدة، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة. فلو كان التقليد حقا، لزم القول بحقية الأديان المتناقضة، فلما كان فساده ظاهرا، لم يذكره تعالى.

الثالث: قال في (فتح البيان): في هذه الآية الشريفة أعظم زاجر، وأبلغ واعظ، للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر، لا بأهل الحق، فإنهم القائلون: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون

والقائلون: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها والمقلد، لولا اغتراره بكونه وجد آباءه على ذلك المذهب، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به، وأنه الحق -لم يبق عليه-. وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية والبدعة، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن الله كما ينبغي. وهذا هو التقليد البحت، والقصور الخالص. ثم قال: وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق، اختيار المقلدة لآراء [ ص: 2655 ] الرجال، مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله بين ظهرانيهم، ووجود من يأخذونهما عنه بين أيديهم، ووجود آلة الفهم لديهم، وملكة العقل عندهم. انتهى.

ولما نفى ما تقولوه عليه، وأخبر أنه لا يأمر بالفحشاء، بين ما أمر به بقوله تعالى

القول في تأويل قوله تعالى:

[29] قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون

قل أمر ربي بالقسط " أي: بالعدل، وللسلف فيه هنا وجوه: ما ظهر في العقول كونه حسنا، أو التوحيد، أو كلمة الإخلاص. وعن أبي مسلم : جميع الطاعات. قال الحاكم : وهو الوجه: ولا يخفى أن الجميع مما يشمله (القسط) فلا منافاة.

وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع (أن). أي: بأن أقسطوا وأقيموا، والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر، كما نقله المعرب. أو معطوف على " أمر ربي " أي: قل أقيموا.

قال الجرجاني : الأمر معطوف على الخبر، لأن المقصود لفظه، أو لأنه إنشاء معنى. انتهى.

والوجوه مجاز عن الذوات. ومسجد إما مصدر، والوقت مقدر قبله، و " عند " بمعنى (في)، أي: أقيموا ذواتكم في كل وقت سجود، وذلك بمنعها عن الالتفات إلى الغير فيه، وبمراعاة موافقة الأمر مع صدق النية، أو باستقبال القبلة فيه، وإما اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي، أي في كل وقت سجود أو مكانه.

والسجود على هذه الأوجه مجاز عن الصلاة، أو المسجد هو المصطلح عليه، والمعنى: في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم، والأمر على هذا الوجه للندب، قيل: وهو لا يناسب المقام، وإما على ما قبله، فهو للوجوب.

وهذه الوجوه مستفادة مما روي عن السلف. قال في (اللباب): معنى الآية في قول [ ص: 2656 ] مجاهد والسدي : وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة . وقال الضحاك : المعنى إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلوا فيها، ولا يقولن أحدكم: أصلي في مسجدي، أو مسجد قومي، وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصا.

وادعوه " أي: اعبدوه مخلصين له الدين " أي: الطاعة بتخصيصها له، لأنه استحق عبادتكم بإبدائه إياكم، ولا يسعكم تركها، إذ إليه عودكم بالآخرة، فإنه كما بدأكم تعودون " أي: كما أنشأكم ابتداء، يعيدكم إليه أحياء، فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة. وإنما شبه الإعادة بالابتداء، تقريرا لإمكانها والقدرة عليها.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif





الساعة الآن : 12:16 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 315.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 315.01 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.16%)]