ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 10-02-2023 05:34 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3111 الى صـ 3125
الحلقة (381)




وفى هذا دليل على أن الجزية غير مقدرة الجنس ، ولا القدر ، بل يجوز أن تكون ثيابا وذهبا وحللا ، وتزيد وتنقص بحسب حاجة المسلمين ، واحتمال من تؤخذ منه ، وحاله [ ص: 3111 ] في الميسرة ، وما عنده من المال .

ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خلفاؤه في الجزية بين العرب والعجم ، بل أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب ، وأخذها من مجوس هجر ، وكانوا عربا ، فإن العرب أمة ليس لها في الأصل كتاب ، وكانت كل طائفة منهم تدين بدين من جاورها من الأمم ، فكانت عرب البحرين مجوسا لمجاورتها فارس ، وتنوخ ، وبهرة ، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم ، وكانت قبائل من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن ، فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الجزية ، ولم يعتبر آباءهم ، ولا متى دخلوا في دين أهل الكتاب : هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده ، ومن أين يعرفون ذلك ، وكيف ينضبط وما الذي دل عليه ؟ وقد ثبت في السير والمغازي ، أن من الأنصار من تهود أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى ، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : لا إكراه في الدين وفي قوله لمعاذ : « خذ من كل حالم دينارا » دليل على أنها لا تؤخذ من صبي ولا امرأة .

السابع : قال الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتابه ( " الخراج " ) :

وليس في شيء من أموالهم ، الرجال منهم والنساء ، زكاة ، إلا ما اختلفوا به في تجارتهم ، فإن عليهم نصف العشر ، ولا يؤخذ من مال حتى يبلغ مائتي درهم ، أو عشرين مثقالا من الذهب ، أو قيمة ذلك من العروض للتجارة ، ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية ، ولا يقاموا في الشمس ولا غيرها ، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره ، ولكن يرفق بهم ، ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم ، ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفى منهم الجزية ، ولا يحل للوالي أن يدع أحدا من النصارى واليهود والمجوس والصابئين والسامرة ، إلا أخذ منهم الجزية ، ولا يرخص لأحد منهم في ترك شيء من ذلك ، ولا يحل [ ص: 3112 ] أن يدع واحدا ويأخذ من واحد ، ولا يسع ذلك ، لأن دماءهم وأموالهم إنما أحرزت بأداء الجزية ، والجزية بمنزلة مال الخراج .

ثم قال أبو يوسف مخاطبا هارون الرشيد :

وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم ، والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ، ولا يكلفوا فوق طاقتهم ، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم ، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه » . وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته : أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، ولا يكلفوا فوق طاقتهم .

قال : وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد أنه مر على قوم قد أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام ، فقال : ما شأن هؤلاء ؟ فقيل له أقيموا في الشمس في الجزية ! قال : فكره ذلك ، ودخل على أميرهم ، وقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من عذب الناس عذبه الله » .

قال : وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب مر بطريق الشام وهو راجع في مسيره من الشام على قوم قد أقيموا في الشمس ، يصب على رؤوسهم الزيت ، فقال : ما بال هؤلاء ؟ فقال : عليهم الجزية لم يؤدوها ، فهم يعذبون حتى يؤدوها ! فقال عمر : فما يقولون هم وما يعتذرون به في الجزية ؟ قالوا : يقولون لا نجد ! قال : فدعوهم لا تكلفوهم ما لا يطيقون ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تعذبوا الناس ، فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا ، يعذبهم الله يوم القيامة وأمر بهم فخلي سبيلهم » .

[ ص: 3113 ] ثم قال : وحدثني عمير بن نافع عن أبي بكر قال : مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل ، شيخ ضرير البصر ، فضرب عضده من خلفه وقال : من أي أهل الكتاب أنت ؟ فقال : يهودي . قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : أسأل الجزية ، والحاجة والسن ، قال : فأخذ عمر بيده ، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه ، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شيبته ، ثم نخذله عند الهرم : إنما الصدقات للفقراء والمساكين والفقراء المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب .

ووضع عنه الجزية وعن ضربائه . قال : قال أبو بكر : أنا شهدت ذلك من عمر ، ورأيت ذلك الشيخ . انتهى .

الثامن : في الغرض من الجزية ورأفة المسلمين بمن أظلوهم بسيوفهم .

قال الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر في كتاب " الإسلام والنصرانية " في هذا المعنى ، تحت بحث المقابلة بين الإسلامي الحربي والمسيحية السلمية ، ما نصه ص 74 :

الإسلام الحربي ، كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ، ثم يترك الناس ، وما كانوا عليه من الدين ، يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك الاعتقاد ، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها ، لتكون عونا على صيانتهم ، والمحافظة على أمنهم في ديارهم ، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار ، لا يضايقون في عمل ، ولا يضامون في معاملة . خلفاء المسلمين ، كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال ، وكل من لم يعن على القتال .

جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، ومن آذى ذميا فليس منا واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام ، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين [ ص: 3114 ] عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في الإسلام وضيق الصدر من طبع الضعيف ، فذلك مما لا يلصق بطبيعته ، ويخلط بطينته .

المسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها ، تراقب أعمال أهله ، وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر ، مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم ، وتعميدهم ، أجلتهم عن ديارهم ، وغسلت الديار من آثارهم ، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا ، لا يمنع غير المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد ، أو شدة العضد ، كما شاهد التاريخ ، وكما يشهده كاتبوه .

ثم قال : فأنت ترى الإسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها ، بشيء من المال ، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم ، وبأن يعيشوا في هدوء ، لا يعكرون معه صفو الدولة ، ولا يخلون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخي لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شؤونهم الخاصة بهم ، لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائرهم . انتهى .

وفي كتاب ( " أشهر مشاهير الإسلام " ) في بحث إجلاء أهل نجران ما نصه :

إن أساس الدعوة إلى الإسلام التبليغ ، وأنه لا إكراه في الدين ، فمن قبلها كان من المسلمين ، ومن أبى فعليه أن يخضع لسلطانهم ، وأن يعطيهم جزءا من ماله يستعينون به على حماية ماله وعرضه ونفسه ، وله عليهم حق الوفاء بما عاهدوه عليه ، وقال : لا يفتن عن دينه ، وأن تكون له الذمة والعهد أنى حل ، وحيثما وجد من ممالك الإسلام ، ما دام وافيا بعهده ، مؤديا لجزيته ، لا يخون المسلمين ، ولا يمالئ عليهم عدوهم ، وأحسن شاهد على هذا نسوقه إليك في هذا الفصل ، خبر أهل نجران اليمن ، وكانوا من الكتابيين ، لتعلم كيف كانت معاملة أهل الذمة ، ومبلغ محافظة الخلفاء على عهودهم معهم ، ما لم يخونوا أو يغدروا .

وتحرير الخبر عنهم أنهم وفد وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام فأبوا ، [ ص: 3115 ] وسألوه الصلح ، وأن يقبل منهم الجزاء ، فصالحهم على شيء معلوم ، يؤدونه كل سنة للمسلمين وكتب لهم بذلك كتابا جعل لهم فيه ذمة الله وعهده ، وأن لا يفتنوا عن دينهم ، ومراتبهم فيه ، ولا يحشروا ولا يعشروا ، وأن يؤمنوا على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم ، وغائبهم وشاهدهم وعيرهم ، وبعثهم وأمثلتهم. لا يغير ما كانوا عليهن ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف ، غير ظالمين ولا مظلومين ، ولهم على ذلك جوار الله ، وذمة رسوله أبدا ، حتى يأتي أمر الله ، ما نصحوا وأصلحوا .

واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا ، ولا يتعاملوا به .

ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، أقرهم على حالهم ، وكتب لهم كتابا على نحو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أنه كان يتخوفهم ، ويود إجلاءهم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يبقين في جزيرة العرب دينان » .

ولما حضر أبا بكر الوفاة ، أوصى عمر بن الخطاب بإجلاءهم لنقضهم العهد بإصابتهم الربا .

فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ، لأن العرب أمة حديثة عهد بالإسلام ، قد عانى صلى الله عليه وسلم ما عانى في جمع كلمتها ، وتوحيد وجهتها ، فمن الخطر أن يوجد بين ظهرانيها قوم يدينون بغير دينها ، فيفتنون من جاورهم عن الإسلام ، على حداثة عهدهم فيه ، وعدم تمكنهم بعد من أصوله الصحيحة .

هذا من وجه ، ومن وجه آخر ، فإن النجرانيين كانوا يتاجرون بالربا ، ولا يخفى ما فيه من الضرر على من جاورهم [ ص: 3116 ] من أهل اليمن ، الذين ينضب التعامل بالربا معين ثروتهم ، ويؤذن بفقرهم ، على غير شعور منهم ، لا سيما وأن الشريعة الإسلامية قد حرمته تحريما باتا ، ولا يؤمن من أن النجرانيين ، باستمرارهم على تعاطي الربا ، يحملون بعض من جاورهم من المسلمين على ارتكاب الإثم بالتعامل معهم بالربا .

ومع هذه الأسباب التي تلجيء إلى إكراه النجرانيين على الإسلام ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرههم على ذلك ، لأن شريعته لم تأذن بإكراه أهل الكتاب على الإسلام ، لهذا تركهم على دينهم ، بعد أن دعاهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن ، فأبوا ، وأعطاهم كتاب العهد المذكور ، إلا أنه اشترط عليهم فيه أن لا يخونوا المسلمين ، ولا يتعاملوا بالربا كما رأيت .

ولما استخلف أبو بكر أكد لهم عهدهم الأول ، مع أنه كان يرى في وجودهم في جزيرة العرب من الخطر ما كان يراه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يسعه في أمرهم إلا ما وسع الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا علم أنهم خانوا العهد ، وتعاملوا بالربا ، أمر في حال مرضه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإجلائهم عن جزيرة العرب ، دون أن يفتنوا في دينهم .

ولما استخلف عمر رضي الله عنه ، كان أول بعث بعثه ، بعث أبي عبيد إلى العراق ، وبعث يعلى بن أمية إلى اليمن ، وأمره بإجلاء أهل نجران ، وأن يعاملهم بالرأفة ويشتري أموالهم ، ويخيرهم عن أرضهم في أي أرض شاءوا من بلاد الإسلام ، لا أن يعاملهم معاملة القوي الغالب للضعيف المغلوب ، كما هو شأن كل دولة من الدول قبل الإسلام وبعده ، حتى الآن ، في معاملة الأمم التي تخالف مذهبها ، وتخضع لقوة سلطانها ، فتفرقوا ، فنزل بعضهم الشام ، وبعضهم النجرانية بناحية الكوفة ، وبهم سميت .

ولم تقف العناية بهم في إجلائهم ، والمحافظة على ما بيدهم من العهد ، وتعويضهم عما تركوه من العقار والمال عند هذا الحد ، بل كانوا يجدون بعد ذلك من الخلفاء كل رعاية ورفق .

من ذلك أنهم شكوا مرة إلى عثمان رضي الله عنه - لما استخلف - ضيق أرضهم ، ومزاحمة الدهاقين لهم ، وطلبوا إليه [ ص: 3117 ] تخفيف جزيتهم ، فكتب إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، عامله على الكوفة ، كتابا يوصيه بهم ، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم ، لوجه الله ، وعقبى لهم من أرضهم .

وروى البلاذري ، أنه لما ولي معاوية ، أو يزيد بن معاوية ، شكوا إليه تفرقهم ، وموت من مات منهم ، وإسلام من أسلم منهم ، وأحضروه كتاب عثمان بن عفان ، بما حطهم من الحلل ، وقالوا : إنما ازددنا نقصانا وضعفا ، فوضع عنهم مائتي حلة تتمة أربعمائة حلة .

فلما ولي الحجاج العراق ، وخرج ابن الأشعث عليه ، اتهمهم والدهاقين بموالاته ، فرد جزيتهم إلى ما كانت عليه .

فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة ، شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم ، فأمر فأحصوا فبلغوا العشر من عدتهم ، فألزمهم مائتي حلة جزية عن رؤوسهم فقط .

فلما ولي يوسف بن عمر العراق ، في خلافة الوليد بن يزيد الأموي ردهم إلى ما كانوا عليه ، عصبية للحجاج .

فلما انقضت دولة الأموي واستخلف أبو العباس السفاح ، رفعوا إليه أمرهم ، وما كان من عمر بن عبد العزيز ويوسف بن عمر ، فردهم إلى مائتي حلة ولما استخلف هارون الرشيد شكوا إليه تعنت العمال معهم ، فأمر فكتب لهم كتاب بالمائتي حلة ، وبالغ بالرفق بهم ، فأمر أن يعفوا من معاملة العمال ، وأن يكون مؤداهم بيت المال بالحضرة ، كي لا يتعنتهم أحد من العمال .

هذا ما رواه المؤرخون في شأن هؤلاء الكتابيين الذين أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جزيرة العرب .

وقد رأيت مما مر مبلغ عناية عمر رضي الله عنه بهم ، لما لم ير بدا من إجلائهم للأسباب التي مر ذكرها .

وقد كان من السهل إكراههم على الإسلام ، ودخولهم فيه ، كما دخل أولئك الملايين من مشركي العرب ، وعامة سكان الجزيرة العربية ، طوعا أو كرها .

وإنما هو الشرع الإسلامي ، منع من إكراه غير مشركي العرب على الإسلام ، كما منع من نقض العهد ، وخفر الذمة إلا بسبب مشروع .

لهذا ، لما خان النجرانيون عهدهم بتعاملهم بالربا ، وقد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتعاملوا به في الجزيرة ، [ ص: 3118 ] ساغ لأمير المؤمنين إجلاؤهم إلى غيرها ، بعد أن عوضهم عن المال والعقار بمثله .

وما زال الخلفاء بعده ـ مبالغة بالرفق بأهل الكتاب ، وقياما بواجب السيادة العادلة ، ووفاء بعهد الله والرسول - يعاملون النجرانيين بأحسن ما تعامل به عامة الرعية من المسلمين ويدفعون عنهم أذى الظلم والإجحاف كما رأيت .

ونتج من هذه القصة ثلاثة أمور :

الأمر الأول : عدم إكراه النجرانيين على الإسلام ، مع تعين الخطر من وجودهم في جزيرة العرب ، لحداثة عهد أهلها بالإسلام ، ذلك لأن عدم الإكراه من أصول الشريعة الإسلامية ، والجهاد الذي يعظم أمره أعداء المسلمين إنما شرع لحماية الدعوة لا للإكراه ، إلا جهاد مشركي العرب يومئذ ، فقد شرع لإرغامهم على الإسلام ، لأسباب حكيمة لا تخفى على بصير ، أهمها تطهير نفوس تلك الأمة العظيمة من شرور الوثنية ، واستئصال شأفة الجهل والتوحش من جزيرة العرب ، التي كانت وسطا بين ممالك الشرق والغرب ، من آسيا وإفريقيا وأوربا ، بل هي نقطة الصلة السياسية والتجارية بين تلك الممالك ، فانتشار أنوار المدنية والدين فيها ، يستلزم انتشارها بطبيعة المجاورة والإشراف على تلك الممالك أيضا ، قد كان ذلك كما هو معلوم .

والأمر الثاني : عدم حيد الخلفاء عن أمر الشارع فيما أمر به من الوفاء بالعهود ، وتأكيدهم لعهد النجرانيين ، الواحد تلو الآخر ، على ضعف هؤلاء وقلتهم ، وقوة الخلافة الإسلامية وسلطانها ، وإن ذلك لم يكن عن رهبة أو رغبة ، بل عن محض تمسك بالعهد ، وعدل بين الشعوب الخاضعين لسلطة الخلافة ، وسلطان الإسلام ، من كل ملة ودين .

والأمر الثالث : حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قاعدة حماية الذمي في نفسه وماله ، بتعويضه النجرانيين عن أرضهم ومالهم بالمثل من أرض المسلمين ومالهم ، لما قضت الضرورة بإجلائهم عن أرضهم ، إلى غيرها من بلاد المسلمين .

وقد ذكر في سيرة أبي بكر عن عمر رضي الله [ ص: 3119 ] عنهما ما فعله من هذا القبيل من أهل عربسوس من ثغور الروم ، وكيف أنه لما أمر بإجلائهم عن أرضهم لخيانتهم جوار المسلمين ، ونكثهم عهد الأمانة والصدق ، أمر بأن يعوضوا عن مالهم وعقارهم ونعمهم ضعفين .

وما زال الخلفاء في أيام الفتوح العظيمة وما بعدها يحافظون على حق القرار الثابت ، والملك القديم ، للأقوام المغلوبين للمسلمين ، الخاضعين لسلطانهم ، سواء كانوا من المسيحيين أو غيرهم ، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه طرد قوما من أرضهم ، أو انتزعها منهم بغير حق ولا عوض .

لا عبرة بما ربما يقع من هذا القبيل على بعض الأفراد من جور بعض العمال الذين غلبت شهواتهم على الفضيلة ، فحادوا عن طريق الشرع ، فإنه قد يصيب أفراد المسلمين من جور هؤلاء أكثر مما يصيب غيرهم ، وليس في هذا ما يقدح في أصول الحكم الإسلامي الذي يأبى الظلم ، ويدعو إلى الرأفة والعدل ، هذا شأن الإسلام في المحافظة على حقوق الأمم المغلوبة .

وقد رأيت مما تقدم أنه لم يعط للمسلمين من حقوق الغلب التي ينتحلها الغالبون في كل عصر ، إلا ما تدعو إليه الضرورة القصوى ، وتستلزمه سلامة الملك والدين ، لا ما تدعو إليه شهوات الملك ، ورغبات الأمة الغالبة .

وقد علم هذا المسلمون وخلفاؤهم ، وأن لأهل الذمة ما لهم ، وعليهم ما عليهم ، فبالغوا في الرأفة بأهل جوارهم ، والداخلين في ذمتهم من أرباب الملل الأخرى ، فتركوا لهم حرية التملك والدين ، لم ينازعوهم حقا من حقوق المواطنة والجوار ، بل كانوا يعتبرونهم جزءا من الدولة ، وعضوا من أعضاء مجتمعهم لا غنى عن مشاركته في العمل ، ومشاطرته أسباب السعادة المدنية ، والحياة الوطنية .

يؤيد هذا اعتماد الخلفاء الأمويين والعباسيين على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في ترتيب دواوين الخراج وترجمة علوم اليونان ، وتقريب النابغين منهم في علوم الهندسة والطب إليهم ، واعتمادهم في شفاء عللهم عليهم ، بل بلغ بالمسلمين اعتبارهم لأهل الكتاب عضوا من جسم هيأتهم الاجتماعية ، لا يجوز فصله في حال من الأحوال أن جيوش التتار لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام ، [ ص: 3120 ] ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ، ثم خضد المسلمون شوكة التتار في الشام ، ودان ملوكهم بالإسلام ، خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية رأس العلماء في عصره أمير التتار قطلوشاه بإطلاق الأسرى ، فسمح له بالمسلمين ، وأبى أن يسمح له بأهل الذمة ، فقال له شيخ الإسلام : لا بد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ، ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ، ولا من أهل الذمة ، فأطلقهم له . انتهى .

ومنه يعلم شأن الحكم الإسلامي في أهل الذمة ، ومبلغ عناية الخلفاء والعلماء بهم . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 30 ] وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون .

وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله جملة مبتدأة ، سيقت لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه ، وانتظامهم بذلك في سلك المشركين .

وقرئ ( عزير ) بالتنوين على الأصل ، وحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس تخفيفا ، وهو مبتدأ وما بعده خبره ، ولهم أوجه أخرى في إعرابه ، والوجه ما ذكرناه .

وليعلم أن الذي دعا الفريقين إلى مقاليهما هو الغلو في التعظيم ، فأما اعتقاد النصارى فهو مشهور معلوم ، تكفل التنزيل الكريم بذكره مرارا ، ودحر شبهه .

وأما اليهود في ( عزير ) فغلاتهم أوجهلتهم يتفوهون بهذه الكلمة الشنعاء ، وأما بقيتهم فيعتبرونه في مقام موسى ، ويحترمون دائما ذكره ، ويعتقدون أن الله تعالى قد أقامه لجمع التوراة المبددة ، ولتجديد الملة الموسوية ، وإرجاعها إلى عهدها ، وإصلاح ما فسد من آدابها وعوائدها ، بإلهام ، [ ص: 3121 ] فإن نسخة التوراة الأصلية ، وبقية أسفارهم فقدت لما أغار أهل بابل جند بخت نصر على بيت المقدس ، وهدموه ، وسبوا أهله إلى مملكتهم بابل ، وأقاموا هناك سبعين سنة ، ثم لما نبغ فيهم ( عزير ) واشتهر ، واستعطف أحد ملوكهم في سراحهم ، فأطلق له الملك الإجازة ، فعاد من بابل بمن بقي من اليهود إلى بيت المقدس ، وجدد ما اندثر من الشريعة الموسوية .

قال بعض الكتابيين في قاموس له : زعم اليهود أن أئمتهم عقدوا مجمعا في عهد ( عزرا ) وجمعوا الأسفار العبرانية في قانون متعارف عندهم اليوم ، وضموا إليه ما لم يكن من قبل جلاء بابل .

وفي ( " الذخيرة " ) من كتبهم ما نصه : أجمع القوم على أن ( عزرا ) الذي كان خبيرا بآثار وطنه وقدمها ، وماهرا بمعرفة الطقوس اليهودية ، وبارعا بالعلوم المقدسة ، هو أول من قرر هذا القانون ، وأثبت أجزاءه المختلفة ، بعد الأسر البابلي في نحو السنة 542 قبل ميلاد المسيح ، ولما تفرقت التوراة آن الجلاء ، قام ( عزرا ) وجمع ما وجد من النسخ المتناثرة ، وألف منها نسخة صححها ونقحها ما استطاع ، وبدل أسماء الأماكن التي انتسخ ثم استعمالها ، بأسماء أخرى أشهر في عرفهم ، ونسق الكل نسقا محكما ، واتفق الجميع على أنه اعتاض في كل الأسفار عن حروف الخط العبراني بحروف كلدانية ، ألف استعمالها اليهود مدة أسرهم الذي استمر سبعين سنة . انتهى .

فلهذا العمل المهم عندهم دعوه : ( ابنا ) . وفيه من الجراءة على المقام الرباني ما فيه . ولو زعموا إرادة المجاز في ذلك ، فلا مناص لهم من لحوق الكفر بهم ، فإنه يجب الاحتياط في تنزيهه تعالى ، حتى بعفة اللسان ، عن النطق بما يوهم نقصا في جانبه ، فيتبرأ من مثل هذا اللفظ مطلقا ومن كل ما شاكله .

هذا وقد قيل إن القائل لذلك بعض من متقدميهم ، وقيل ناس من أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا دلالة في الآية على واحد منهما بخصوصه ، ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل ، مما شاع .

[ ص: 3122 ] لطيفة :

قرئ ( عزير ) بالتنوين على الأصل ، لأنه منصرف ، وقرئ بحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس ، لا لأنه أعجمي غير منصرف للعلمية والعجمية ، كما قيل ، لأن ذلك إنما يصح لو كان على لفظه الأصلي ، وهو ( عزراء ) أو ( عزريا ) لفظان عبرانيان ، معنى الأول معين ، والثاني الله مساعد ، أما وقد تصرفت فيه العرب بالتصغير ، فلا .

وظاهر أن أغلب الأسماء القديمة ، لانتقالها من أمة إلى أخرى وكثرة تداولها ، تطرق إليها من شوائب التحريف ، والزيادة والنقصان ، ما غير صيغتها الأصلية بعض التغيير ولما استعملت العرب من الأسماء العبرانية ونحوها ما أدخلته إلى لغتها ، إما منحوتة من القديمة ، أو محرفة منها ، أصبحت بالاصطلاح من قبيل الأعلام العربية ، إلا ما بقي على وضعه الأول .

وقوله تعالى : ذلك إشارة إلى ما صدر عنهم من العظيمتين ، وما فيه من معنى البعد ، للدلالة على بعد درجة المشار إليه في الشناعة والفظاعة . قاله أبو السعود .

قولهم بأفواههم قال الزمخشري : فإن قلت : كل قول يقال بالفم ، فما معنى ( بأفواههم ) قلت فيه وجهان :

أحدهما : أن يراد به أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به ، فارغ من معنى تحته ، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم ، لا تدل على معان .

وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ، ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له مقول بالفم لا غير .

والثاني : أن يراد بالقول المذهب ، كقولهم : ( قول أبي حنيفة ) ، يريدون مذهبه ، وما يقول به ، كأنه قيل : ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم ، لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة ، حتى يؤثر في القلوب .

وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له ، لم تبق شبهة في انتفاء الولد . انتهى .

وثمة وجه ثالث شائع في مثله ، وهو التأكيد لنسبة هذا القول إليهم ، مع التعجيب [ ص: 3123 ] من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة .

قال بعضهم : القول قد ينسب إلى الأفواه وإلى الألسنة ، والأول أبلغ .

يضاهئون قول الذين كفروا من قبل أي : يضاهئ قولهم قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم ، فضلوا كما ضل أولئك .

قيل : المراد بـ : ( الذين كفروا ) مشركوا مكة ، القائلون بأن الملائكة بنات الله ، وهذا يتم إن أريد ( باليهود والنصارى ) في الآية ، يهود المدينة ونصارى نجران في عهده صلى الله عليه وسلم ، وهو وجه في الآية كما تقدم ، فإنهم سبقوا من أهل مكة بالكفر به صلى الله عليه وسلم .

وقيل : المراد بهم قدماؤهم ، يعني أن من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم منهم ، يضاهئ قولهم قول قدمائهم ، والمراد عراقتهم في الكفر ، أي : أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث .

قال أبو السعود : وفيه أنه لا تعدد في القول ، حتى يتأتى التشبيه ، وجعله بين قولي الفريقين ، مع اتحاد المقول ، ليس فيه مزيد مزية .

وقيل : الضمير للنصارى ، أي : يضاهئ قولهم : المسيح ابن الله قول اليهود عزير إلخ لأنهم أقدم منهم .

قال أبو السعود : وهو أيضا كما ترى ، فإنه يستدعي اختصاص الرد والإبطال بقوله تعالى : ذلك قولهم بأفواههم بقول النصارى . انتهى .

والمضاهاة المشابهة ، يقال : ضاهيت ، وضاهأت - كما قاله الجوهري - وقراءة العامة ( يضاهون ) ، بهاء مضمومة بعدها واو .

وقرأ عاصم بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة ، وهما بمعنى من المضاهأة ، وهي المشابهة ، وهما لغتان .

وقيل : الياء فرع عن الهمزة ، كما قالوا : قريت وتوضيت وأخطيت .

قاتلهم الله أي : لعنهم أو قتلهم ، أو عاداهم أو تعجب من شناعة قولهم .

أنى يؤفكون أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل .

وقوله تعالى :
[ ص: 3124 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 31 ] اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون .

اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تعالى ، وفيه وصفهم بنوع آخر من الشرك .

والأحبار علماء اليهود جمع حبر ، بكسر الحاء وفتحها ، وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه ـ كذا ذكره أئمة اللغة - قال بعضهم : ( الحبر ) أعظم الأشراف بين الإسرائيليين ، يكون عندهم وسيلة للتقرب لله ، ومرتبة وراثية في آل هارون ، يكون بكر أشيخ من فيها . انتهى .

و ( الرهبان ) جمع راهب ، بمعنى المتعبد الخاشع الزاهد ، وأصل الترهب عن النصارى ، التخلي عن أشغال الدنيا ، وترك ملاذها والزهد فيها ، والعزلة عن أهلها .

وفي الحديث « لا رهبانية في الإسلام » . وقوله تعالى : أربابا من دون الله قال الرازي : الأكثرون [ ص: 3125 ] من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، أي : لما روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : « يا عدي ! اطرح عنك هذا الوثن » . وسمعته يقرأ في سورة براءة : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : « أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه » .

وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق ، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته ، وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها ، فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عدي المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال « بلى إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم » .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا عدي ! ما تقول ؟ أيضرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ؟ ما يضرك أن يقال : لا إله إلا الله ، فهل تعلم إلها غير الله » ؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 10-02-2023 05:36 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3126 الى صـ 3140
الحلقة (382)



[ ص: 3126 ] قال فلقد رأيت وجهه استبشر ، ثم قال : « إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون »
.

قال ابن كثير : وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية ، أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .

وقال السدي : استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .

وقد ذكر بعض المفسرين وجها في تفسير اتخاذهم أربابا ، قال : بأن أطاعوهم بالسجود لهم .

قال الشهاب : والأول هو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ، فينبغي الاقتصار عليه ، لأنه لما أتاه عدي بن حاتم وهو يقرؤها قال له : إنا لم نعبدهم ، فقال : « ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم ؟ فهذه هي العبادة » ، والناس يقولون : فلان يعبد فلانا ، إذا أفرط في طاعته ، فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة ، أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة ، وهي طاعة مخصوصة على مطلقها ، والأول أبلغ . انتهى .

فقال الرازي : قال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟ فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان ، فكانوا يأخذون بأقوالهم ، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى .

قال الرازي : قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء ، قرأت عليهم آيات كثيرة في كتاب الله تعالى في بعض مسائل ، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات ، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها ، وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب ، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات ، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل المدينة . انتهى .

[ ص: 3127 ] وما أمروا أي : والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم : إلا ليعبدوا إلها واحدا أي : يطيعوا أمره ، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه ، وقوله : لا إله إلا هو صفة ثانية ل إلها أو استئناف مقرر للتوحيد : سبحانه عما يشركون أي : به في العبادة والطاعة .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 32 ] يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .

يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم أي : يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته ، وتقدسه عن الولد ، أو القرآن ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويأبى الله إلا أن يتم نوره أي : بإعلاء التوحيد ، وإعزاز الإسلام ولو كره الكافرون أي : بدلائل التوحيد ، ذلك .

قال أهل المعاني : نور الله استعارة أصلية تصريحية لحجته أو ما بعدها ، لتشبيه كل منها بالنور في الظهر ، والإطفاء ترشيح ، أو هو استعارة تمثيلية ، شبه حالهم في محاولتهم إبطال النبوة بالتكذيب ، بحال من يطلب إطفاء نور عظيم ، منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده بنفخه .

لطائف :

الأولى : قال الشهاب : روعي في كل من المشبه والمشبه به الإفراط والتفريط ، حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم ، ونسب النور إلى الله ، ومن شأن النور المضاف إليه أن يكون عظيما ، فكيف يطفأ بنفخ الفم ، مع ما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور ، والإطفاء من المناسبة .

[ ص: 3128 ] الثانية : لا يخفى أن قوله تعالى : إلا أن يتم استثناء مفرغ ، وهو في محل نصب مفعول به ، والاستثناء المفرغ يكون في الفعل المنفي لا موجب ، إلا أن يستقيم المعنى .

وهنا صح التفريغ من الموجب وهو : ويأبى الله لأنه نفي في المعنى ، لأنه وقع في مقابلة : يريدون وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادة ، أي : لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره ، فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه ، فضلا عن الإطفاء - أفاده أبو السعود - .

وقال الزجاج : المستثنى منه محذوف تقديره : ( ويكره الله كل شيء إلا إتمام نوره ) .

قال الشهاب : فالمعنى على العموم المصحح للتفريغ عنده ، فللناس في توجيه التفريغ هنا مسلكان .

والحاصل أنه إن أريد كل شيء يتعلق بنوره بقرينة السياق ، صح إرادة العموم ، ووقوع التفريغ في الثابتات ، كما ذهب إليه الزجاج ، إذ ما من عام إلا وقد خصص ، فكل عموم نسبي لكنه يكتفى به ، ويسمى عموما .

ألا ترى أن مثالهم ( قرأت إلا يوم كذا ) ، قد قدره كل يوم ، والمراد من أيام عمره ، لا من أيام الدهر .

فإن نظر إلى الظاهر في أمثاله كان عاما ، واستغنى عن النفي ، وإن نظر إلى نفس الأمر ، فهو ليس بعام ، فيؤول بالنفي ، والمعنى فيهما واحد وإنما أول به هنا عند من ذهب إلى تأويله ، لاقتضاء المقابلة له ، إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي ، فيلزمه جريان التفريغ في كل شيء ، وليس كذلك ما صرح به الرضي .

ولذا قيل : الاستثناء المفرغ ، وإن اختص بالنفي ، إلا أنه قد يمال مع المعنى بمعونة القرائن ، ومناسبة المقامات ، فيجري بعض الإيجابات مجرى النفي في صحة التفريغ معها - ذكره الشهاب أيضا - .

الثالثة : قال أبو السعود : وفي إظهار ( النور ) في مقام الإضمار مضافا إلى ضميره عز وجل زيادة اعتناء بشأنه ، وتشريف له على تشريف ، وإشارة بعلة الحكم .
[ ص: 3129 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 33 ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .

هو الذي أرسل رسوله بالهدى أي : القرآن الذي هو هدى للمتقين ، ودين الحق أي : التوحيد الثابت الذي لا يزول ليظهره أي : الدين الحق على الدين كله أي : على سائر الأديان ولو كره المشركون أي : أن يكون ذلك .

وجواب ( لو ) فيهما محذوف ، لدلالة ما قبله عليه ، وجملة : هو الذي إلخ بيان وتقرير لمضمون الجملة قبلها ، لأن المراد من إتمام نوره إظهاره ولكونه بحسب المآل بمعناه ، ذيله بما ذيله به بعينه ، لكنه عبر عن الكافرين بالمشركين تفاديا عن صورة التكرار - كذا في ( " العناية " ) - .

وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله زوى لي الأرض ، مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها » .

وروى الإمام أحمد عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول : صلى هذا الحي من محارب الصبح ، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة » .

[ ص: 3130 ] وأخرج أيضا عن تميم الداري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزا ، ويذل ذليلا ، عزا يعز الله به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر » .

وكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ، ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية .

وأخرج أيضا عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام ، يعز عزيزا ، ويذل ذليلا ، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها » .

وأخرج أيضا عن عدي بن حاتم قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا عدي ! أسلم تسلم » . فقلت : إني من أهل دين . قال : « أنا أعلم بدينك منك » . فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال : « نعم ألست من الركوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك ؟ » قلت : بلى ! قال : « فإن هذا لا يحل لك في دينك » . قال فلم يعد أن قالها ، فتواضعت لها . قال : « أما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام ، تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة له ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ » قلت : لم أرها ، وقد سمعت بها . قال : « فوالذي نفسي بيده ! [ ص: 3131 ] ليتمن الله هذا الأمر ، حتى تخرج الظعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز » ، قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : « نعم ! كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد » .

قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ! لتكونن الثالثة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها .


وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى » ، فقلت : يا رسول الله ! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق الآية ، إن ذلك تام ! قال : « إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل ، ثم يبعث الله ريحا طيبة ، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم » .

قال في ( " اللباب " ) : معنى الآية ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها ، وهو ألا يعبد الله إلا به .

وكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : هذا وعد من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عاليا على جميع الأديان ، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى .

وكذلك قال الضحاك والسدي : لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام .

وقال الشافعي : قد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها ، بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خلفه من الأديان باطل ، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ، ودين الأميين ، فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام ، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين ، وجرى عليهم حكمه .

قال : فهذا هو ظهوره على الدين كله . انتهى .

[ ص: 3132 ] قلت : ما ذكره الشافعي هو من ظهوره ، والأدق ما تقدم ، من أنه سوف يعتنقه كل فرقة ، فإن ما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلا .

ثم بين تعالى حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم ، إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أربابا يطيعونهم في الأوامر والنواهي ، واتباعهم لهم فيما يأتون وما يذرون ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 34 ] يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم .

يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل

أي : بالطريق المنكر من الرشا في الأحكام ، والتخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك .

و ( الأكل ) مجاز عن الأخذ ، بعلاقة العلية والمعلولية ، لأنه الغرض الأعظم منه ، وفيه من التقبيح لحالهم ، وتنفير السامعين عنه ما لا يخفى ويصدون عن سبيل الله أي : عن دين الإسلام وحكمه ، واتباع الدلائل إلى ما يهوون ، أو عن المسلك المقرر في التوراة والإنجيل ، إلى ما افتروه وحرفوه .

ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه على أمر الله ، وتناسيهم وعيده في الكنز بقوله سبحانه : والذين يكنزون الذهب والفضة أي : يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض ولا ينفقونها في سبيل الله أي : الذي هو الزكاة ، فبشرهم بعذاب أليم
[ ص: 3133 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 35 ] يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون .

يوم يحمى عليها أي : يوقد عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم أي : ويقال لهم ضما إلى ما هم فيه ، هذا ما كنزتم لأنفسكم أي : لتتلذذوا به ، فكان سبب تعذيبها فذوقوا ما كنتم تكنزون أي : وباله ، وهو ألمه وشدته بالكي .

وفي هذه الآية فوائد :

الأولى : قال بعضهم في قوله تعالى : ( ليأكلون ) دلالة على تحريم الرشا على الباطل ، وقد ورد « لعن الله الراشي والمرتشي » .

وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب، وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف .

رجح الجواز ليتوصل إلى الحق ، كالاستفداء .

قال الحاكم يدخل في تحريم الرشا الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه ، وكل من حرف شيئا لغرض الدنيا . انتهى .

الثانية : في الآية - كما قال ابن كثير - تحذير من علماء السوء وعباد الضلال ، كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى .

وفي الحديث الصحيح : « لتركبن سنن من قبلكم حذو [ ص: 3134 ] القذة بالقذة » ، قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : « فمن ؟ » ، وفي رواية : فارس والروم ؟ قال : « ومن الناس إلا هؤلاء ؟ » . ثم أنشد لابن المبارك :


وهل أفسد الدين إلا الملو ك ، وأحبار سوء ورهبانها


الثالثة : قوله تعالى : ( والذين ) مبتدأ ، والخبر : يكنزون أو منصوب تقديره : بشر الذين يكنزون .

والتعريف في الموصول للعهد والمعهود ، إما الأحبار والرهبان ، وإما المسلمون الكانزون ، لجري ذكر الفريقين ، وإما ما هو أعم .

والأول روي عن معاوية ، والثاني عن السدي ، والثالث عن ابن عباس وأبي ذر .

قال الزمخشري : يجوز أن يكون الموصو إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم : أخذ البراطيل ، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الله .

ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى تغليظا ، ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت ، ومن لا يعطي منكم طيب ماله ، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم . انتهى .

قال في ( " الأنوار " ) : ويؤيد الثاني أنه لما نزل كبر على المسلمين ، فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم » - رواه أبو داود والحاكم وصححه - .

وقوله صلى الله عليه وسلم : « ما أدي زكاته فليس بكنز » - أخرجه الطبراني والبيهقي – [ ص: 3135 ] أي : ليس بالكنز المتوعد عليه في الآية ، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها » ونحوه ، فالمراد منها : ما لم يؤد حقها ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، فيما أورده الشيخان : البخاري في " تاريخه " ، ومسلم في " صحيحه " ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره » . انتهى .

وقد اشتهرت محاورة معاوية لأبي ذر في هذه الآية .

روى البخاري عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا بأبي ذر ، فقلت : ما أنزلك هذا المنزل ؟ قال : كنت في الشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية :

والذين يكنزون الذهب والفضة فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك كلام ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة فقدمتها ، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال : إن شئت تنحيت ، فكنت قريبا .

فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ، ولو أمر علي عبد حبشي لسمعت وأطعت .

ولابن جرير في رواية ، بعد قول عثمان له : تنح قريبا ، قلت : والله لن أدع ما كنت أقول .

وروى أبو يعلى أن أبا ذر كان يحدث ويقول : لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم ، إلا ما ينفقه في سبيل الله ، أو يعده لغريم .

فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك بالشام [ ص: 3136 ] حاجة ، فابعث إلى أبي ذر ، فكتب إليه عثمان أن اقدم علي ، فقدم .

قال ابن كثير : كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته .

فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، ثم أنزله بالربذة : وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان .

وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ، فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب .

فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به .

وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه ، يتزلزل .

قال : فوضع القوم رؤوسهم ، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا . قال : وأدبر واتبعته حتى جلس إلى معاوية فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم ، فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئا ، إنما يجمعون الدنيا - رواه مسلم ، وللبخاري نحوه - .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : « ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا ، [ ص: 3137 ] يمر علي ثلاثة أيام ، وعندي منه شيء ، إلا دينار أرصده لدين » .

قال ابن كثير : فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا .

أي : وما أخرجه الشيخان أيضا عنه ، قال : انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال : « هم الأخسرون ورب الكعبة ! » قال : فجئت حتى جلست ، فلم أتقار حتى قمت فقلت : يا رسول الله ! فداك أبي وأمي ، من هم ؟ قال : « هم الأكثرون أموالا ، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ، من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، وقليل ما هم » .

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه ، أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوسا .

قال : قلت : لو ادخرته لحاجة يومك ، وللضيف ينزل بك قال : إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل إفراغا .

قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة ، تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت ، وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك ، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي ، حيث قال : هل علي غيرها قال : « لا ، إلا أن تطوع » . انتهى .

[ ص: 3138 ] وبالجملة ، فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته . وقد ترجم لذلك البخاري في ( " صحيحه " ) فقال : ( باب ما أدي زكاته فليس بكنز ) .

ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعا : « إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك » .

- حسنه الترمذي وصححه الحاكم - .

وعن ابن عمر : كل ما أديت زكاته ، وإن كان تحت سبع أرضين ، فليس بكنز وكل ما لا تؤدى زكاته فهو كنز ، وإن كان ظاهرا على وجه الأرض .

- أورده البيهقي مرفوعا ، ثم قال : المشهور وقفه ، كحديث جابر : « إذا أديت زكاة مالك ، فقد أذهبت عنك شره » . أخرجه الحاكم ، والمرجح وقفه .

هذا وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز .

روى البخاري في " صحيحه " أن أعرابيا قال لابن عمر : أخبرني عن قول الله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية ، قال ابن عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها ، فويل له .

إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال .

زاد ابن ماجه : ثم قال ابن عمر : ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا ، أعلم عدده ، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى .

ورواه أبو داود في كتاب ( " الناسخ والمنسوخ " ) ، فهذا يشعر بأن الوعيد على الاكتناز . وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به ، كان في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة ، لما فتح الله الفتوح ، وقدرت نصب الزكاة .

ويشعر أيضا [ ص: 3139 ] بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة ، وجزم به ابن الأثير في ( " تاريخه " ) ، وقواه بعضهم بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ، ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عاملا فقال : « ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية » . وأقول : إنما وجبت في التاسعة .

وأقول : هذا الحديث ضعفوه ، والأقوى منه كون هذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة كما قدمنا ، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعا .

قال ابن حجر في ( " الفتح " ) : والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر ، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو أي : ما فضل عن الكفاية ، فكان ذلك واجبا في أول الأمر ، ثم نسخ - والله أعلم - .

وفي المسند من طريق يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ، ثم يخرج إلى قومه ، ثم يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع للرخصة ، ويتعلق بالأمر الأول .

وما سقناه من مذهب أبي ذر ، هو ما ساقه المفسرون وشراح الحديث .

وزعم بعضهم أن الذي حدا أبا ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء حيث قال : الذي صح أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يعتبرون الفيء لكافة المسلمين ، يستوي فيه المقاتلون وغيرهم ، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين فكلهم داخل تحت ذلك الحكم .

قال : والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين ، أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام ، والوالي عليها من [ ص: 3140 ] قبل الخليفة عثمان معاوية رضي الله عنهما ، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال ، لصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين ، وكان أبو ذر مشهورا بالورع شديد الحرص على حقوق المسلمين ، يقول الحق ولو على نفسه .

أخذ يتكلم بهذا الأمير بين الناس ، واتخذ له حزبا من أهل الشام يساعده على مطالبة معاوية برد المال للمسلمين ، وبيان عدم الرضا بكنزه في بيت المال ، لأي حال من الأحوال ، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين ، وتابعه على قوله جماعة كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سرا وجهرا ، حتى كادت تكون فتنة ، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله عنهم أجمعين ، فنفاه إلى الربذة خوفا من حدوث ما لا تحمد عقباه . انتهى .

ونقل ما يقرب منه ابن حجر في ( " الفتح " ) حيث قال : والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه .

الرابعة : إنما قيل : ولا ينفقونها بضمير المؤنث ، مع أن الظاهر التثنية ، إذ المذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة ، وذلك لأن الكثير منهما هو الذي يكون كنزا ، فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ، ولو ثنى احتمل خلافه . وقيل : الضمير عائد على الكنوز أو الأموال المفهومة من الكلام ، فيكون الحكم عاما ، ولذا عدل فيه عن الظاهر . وتخصيصهما بالذكر لأنهما الأصل الغالب في الأموال للتخصيص .

وقيل : الضمير للفضة ، واكتفى بها ، لأنها أكثر ، والناس إليها أحوج ، ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى ، مع قربها لفظا .

الخامسة : في قوله تعالى : ( فبشرهم ) تهكم بهم ، كما في قوله :


تحية بينهم ضرب وجيع

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif

ابوالوليد المسلم 10-02-2023 05:39 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3141 الى صـ 3155
الحلقة (383)


[ ص: 3141 ] وقيل : البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة ، لتأثيره في القلب ، سواء كان من الفرح أو من الغم .

السادسة : قيل في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي دون غيرها ، بأن جمع ذويها وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية ، والملابس البهية ، فلوجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم كان الكي بجباههم ، ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ، ولما لبسوه على ظهورهم كويت .

وقيل : لأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع ، فتكلح وجوههم ، وتقطب . ثم إذا كرر الطلب ازوروا عنه وتركوه جانبا ، ثم إذا ألح ولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى ، وهي النهاية في الرد ، والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل .

وهذا دأب مانعي البر والإحسان ، وعادة البخلاء ، فكان ذلك سببا لكي هذه الأعضاء . وقيل : لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة ، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخره وجنباه ، فيكون كناية عن جميع البدن .

وقال القاشاني : جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح ، وحب المال ، وكل رذيلة لها كية يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا . ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال ، وكان هو الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة ، وهاوية الهوى ، فيكوى به .

وإنما خصت هذه الأعضاء ، لأن الشح مركوز في النفس ، والنفس تغلب القلب من هذه الجهات ، لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح ، وممر الحقائق والأنوار ، ولا من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية ، لعدم تمكن الطبيعة من ذلك ، فبقيت سائر الجهات ، فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب ، كما تراه يعاب بها في الدنيا ، ويجزى من هذه الجهات أيضا ، إما بأن يواجه بها جهرا فيفضح ، أو يسار بها في جنبه ، أو يغتاب بها من وراء ظهره . انتهى .

[ ص: 3142 ] السابعة : قال أبو البقاء : ( يوم ) من قوله تعالى : يوم يحمى عليها ظرف على المعنى ، أي : يعذبهم في ذلك اليوم .

وقيل : تقديره عذاب يوم ، وعذاب بدل من الأول ، فلما حذف المضاف أقام ( اليوم ) مقامه . وقيل : التقدير اذكروا ، و ( عليها ) في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل .

وقيل : القائم مقام الفاعل مضمر ، أي : يحمى الوقود أو الجمر ، و ( بها ) أي : بالكنوز . وقيل هي بمعنى ( فيها ) ، أي : في جهنم وقيل : ( يوم ) ظرف لمحذوف تقديره : يوم يحمى عليها يقال لهم هذا ما كنزتم .

ولما بين تعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى إيثارا لحظوظهم ، أتبعه بما جرأ عليه المشركون ، في نظيره من تغيير الأشهر التي حرمها الله تعالى بغيرها ، وهو النسيء الآتي ، وقوفا مع شهواتهم أيضا ، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 36 ] إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين .

إن عدة الشهور أي : عددها عند الله أي : في حكمه اثنا عشر شهرا وهي القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية في كتاب الله أي : في اللوح المحفوظ ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه .

وقوله : يوم خلق السماوات والأرض متعلق بما في الجار والمجرور من معنى الاستقرار . أراد ( بالكتاب ) على أنه مصدر ، والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر ، منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة . أفاده أبو السعود .

[ ص: 3143 ] منها أي : من تلك الشهور الاثني عشر أربعة حرم ثلاثة سرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب ذلك أي : تحريم الأشهر الأربعة المذكورة الدين القيم أي : المستقيم ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم أي : بهتك حرمتها بالقتال فيها .

وقال ابن إسحاق : أي : لا تجعلوا حرامها حلالا ، ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة أي : جميعا ، واعلموا أن الله مع المتقين أي : بالنصر والإمداد .

ثم بين تعالى ثمرة هذه المقدمة ، وهو تحريم تغيير ما عين تحريمه من الأشهر الحرم ، وإيجاب الحذو بها على ما سبق في كتابه ، ناعيا على المشركين كفرهم ، بإهمالهم ذلك ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 37 ] إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين .

إنما النسيء أي : تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر مصدر ( نسأه ) إذا أخره زيادة في الكفر لأنه تحليل ما حرمه الله ، وتحريم ما حلله ، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم يضل به الذين كفروا أي : بالله عن أحكامه إذا يجمعون بين الحل والحرمة في شهر واحد يحلونه عاما أي : يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة ، ويحرمون مكانه شهرا آخر .

ويحرمونه عاما أي : يتركونه على حرمته القديمة ، ويحافظون عليها سنة أخرى ، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم ، والتعبير عن ذلك بالتحريم ، باعتبار إحلالهم له في العام الماضي ، والجملتان تفسير للضلال ، أو حال .

قال الزمخشري : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام ، وهم محاربون ، شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه [ ص: 3144 ] ويحرمون مكانه شهرا آخر ، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرمون من أشق شهور العام أربعة أشهر ، وذلك قوله تعالى : ليواطئوا عدة ما حرم الله أي : ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ، ولا يخالفوها ، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين ، وربما زادوا في عدد الشهور ، فيجعلونا ثلاثة عشر ، أو أربعة عشر ، ليتسع لهم الوقت .

ولذلك قال عز وعلا : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا يعني من غير زيادة زادوها فيحلوا ما حرم الله بتركهم التخصيص للأشهر بعينها زين لهم سوء أعمالهم فاعتقدوا قبيحها حسنا : والله لا يهدي القوم الكافرين

اعلم أن في هاتين الآيتين مسائل :

الأولى : أن الأحكام تعلق بالأشهر العربية ، وهي شهور الأهلة ، دون الشهور الشمسية .

قيل : جعل أول الشهور الهلالية المحرم ، حدث في عهد عمر رضي الله عنه ، وكان قبل ذلك يؤرخ بعام الفيل ، ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأول .

وقد نقل ابن كثير هنا عن السخاوي وجوه تسمية الأشهر بما سميت به ، ونحن نورد ذلك مأثورا عن أمهات اللغة المعول عليها فنقول :

1 - المحرم : على أنه اسم المفعول ، هو أول الشهور العربية ، أدخلوا عليه الألف واللام لمحا للصفة في الأصل ، وجعلوها علما بهما ، مثل النجم والدبران ونحوهما ، ولا يجوز دخولهما على غيره من الشهور عند قوم ، وعند قوم يجوز على صفر وشوال .

وجمع المحرم محرمات ، والمحرم شهر الله ، سمته العرب بهذا الاسم ، لأنهم كانوا لا يستحلون فيه القتال ، وأضيف إلى الله تعالى إعظاما له ، كما قيل للكعبة ( بيت الله ) . وقيل : سمي بذلك ، لأنه من الأشهر الحرم . قال ابن سيده : وهذا ليس بقوي .

2 - صفر : الشهر الذي بعد المحرم . قال بعضهم : إنما سمي لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع . وقيل : لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا . وروي عن رؤبة أنه قال : سموا الشهر ( صفرا ) ، لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل ، فيتركون من لقوا صفرا من المتاع ، [ ص: 3145 ] وذلك أن صفرا بعد المحرم ، فقالوا : صفر الناس منا صفرا . قال ثعلب : الناس كلهم يصرفون صفرا إلا أبا عبيدة ، فمنعه للعلمية والتأنيث ، بإرادة الساعة ، يعني أن الأزمنة كلها ساعات ، وإذا جمعوه مع المحرم قالوا : ( صفران ) ، ومنه قول أبي ذؤيب :


أقامت به كمقام الحني ف شهري جمادى وشهري صفر


( استشهد به في اللسان في مادة : ) ص فـ ر ( ، وليس في ديوان الهذليين ) .

قال ابن دريد : الصفران من السنة شهران ، سمي أحدهما في الإسلام المحرم ; وجمعه أصفار ، مثل سبب وأسباب ، وربما قيل : ( صفرات ) .

3 و 4 الربيع شهران بعد صفر ، سميا بذلك لأنهما حدا في هذا الزمن ، فلزمهما في غيره قالوا : لا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر ، بزيادة ( شهر ) وتنوين ( ربيع ) ، وجعل ( الأول ) و ( الآخر ) وصفا تابعا في الإعراب ، ويجوز فيه الإضافة ، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند بعضهم ، لاختلاف اللفظين ، نحو : وحب الحصيد ولدار الآخرة و : حق اليقين ومسجد الجامع . قال بعضهم : إنما التزمت العرب لفظ شهر قبل ( ربيع ) ، لأن لفظ ( ربيع ) مشترك بين الشهر والفصل ، فالتزموا لفظ شهر ( في الشهر ) ، وحذفوه في ( الفصل ) للفصل .

قال الأزهري أيضا : والعرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ ( شهر ) إلا شهري ربيع ورمضان .

ويثنى الشهر ويجمع ، فيقال شهرا ربيع ، وأشهر ربيع ، وشهور ربيع .

5 و 6 - جمادى الأولى والآخرة ( كحبارى ) ، الشهران التاليان لشهري ربيع . وجمادى [ ص: 3146 ] معرفة مؤنثة . قال ابن الأنباري : أسماء الشهور كلها مذكرة ، إلا جماديين ، فهما مؤنثان . تقول مضت جمادى بما فيها ، قال الشاعر :


إذا جمادى منعت قطرها زان جناني عطن مغضف


ثم قال : فإن جاء تذكير جمادى في شعر ، فهو ذهاب إلى معنى الشهر . كما قالوا : هذه ألف درهم ، على معنى: هذه الدراهم .

والجمع على لفظها جماديات ، والأولى والآخرة صفة لها ، فالآخرة بمعنى المتأخرة .

قالوا : ولا يقال جمادى الأخرى ، لأن الأخرى بمعنى الواحدة فتتناول المتقدمة والمتأخرة ، فيحصل اللبس . فقيل الآخرة لتختص بالمتأخرة ، وإنما سميت بذلك لجمود الماء فيها ، عند تسمية الشهور ، من البرد . قال :


في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا


لا ينبح الكلب فيها غير واحدة حتى يلف على خرطومه الذنبا


7 - رجب : سمي به لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه يقال : رجب فلانا ، هابه وعظمه . كرجبه . منصرف وله جموع : أرجاب وأرجبة وأرجب ، ورجاب ورجوب وأراجب ، وأراجيب ورجبانات .

وإذا ضموا له شعبان قالوا ( رجبان ) للتغليب .

وفي الحديث : « رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان » ، وقوله : « بين جمادى وشعبان » تأكيد للشأن وإيضاح ، لأنهم كانوا يؤخرونه من شهر إلى شهر ، فيتحول عن موضعه الذي يختص به ، فبين لهم أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ، لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء ، وإنما قيل : رجب [ ص: 3147 ] مضر وأضافه إليهم ، لأنهم كانوا أشد تعظيما له من غيرهم ، وكأنهم اختصوا به ، وذكر له بعضهم سبعة عشر اسما .

8 - شعبان : جمعه شعبانات وشعابين ، من ( تشعب ) إذا تفرق كانوا يتشعبون فيه في طلب المياه ، وقيل في الغارات .

وقال ثعلب : قال بعضهم : إنما سمي شعبان لأنه شعب ، أي : ظهر بين شهر رمضان ورجب .

9 - رمضان : سمي به لأن وضعه وافق الرمض ( بفتحتين ) ، وهو شدة الحر ، وجمعه رمضانات وأرمضاء .

وعن يونس أنه سمع رماضين ، مثل شعابين . وقيل : هو مشتق من ( رمض الصائم يرمض ) ، إذا اشتد حر جوفه من شدة العطش ، وهو قول الفراء .

قال بعض العلماء : يكره أن يقال جاء رمضان وشبهه ، إذا أريد به الشهر ، وليس معه قرينة تدل عليه ، وإنما يقال : جاء شهر رمضان ، واستدل بحديث : « لا تقولوا: رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا: شهر رمضان » وهذا الحديث ضعفه البيهقي ، وضعفه ظاهر ، لأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أن رمضان من أسماء الله تعالى ، فلا يعمل به .

والظاهر جوازه من غير كراهة ، كما ذهب إليه البخاري وجماعة من المحققين ، لأنه لم يصح في الكراهة شيء .

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يدل على الجواز مطلقا كقوله : « إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين »

وحقق السهيلي أن لحذف ( شهر ) مقاما يباين مقام ذكره ، يراعيه البليغ .

وحاصله أن في حذفه إشعارا بالعموم ، وفي ذكره خلاف ذلك ، لأنك إذا قلت: شهر [ ص: 3148 ] كذا ، كان ظرفا وزال العموم من اللفظ ، إذ المعنى في الشهر ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: « من صام رمضان » ، ولم يقل : ( شهر رمضان ) ، ليكون العمل فيه كله . انتهى . فليتأمل .

10 - شوال : شهر عيد الفطر ، وأول أشهر الحج ، وجمعه شوالات وشواويل ، وقد تدخله الألف واللام .

قال ابن فارس : وزعم ناس أن الشوال سمي بذلك لأنه وافق وقتا تشول فيه الإبل ، أي : ترفع ذنبها للقاح ، وهو قول الفراء .

وقال غيره : سمي بتشويل ألبان الإبل ، وهو توليه وإدباره ، وكذلك حال الإبل في اشتداد الحر ، وانقطاع الرطب وكانت العرب تتطير من عقد المناكح فيه ، وتقول : إن المنكوحة تمتنع من ناكحها ، حتى تمتنع طروقة الجمل إذا لقحت وشالت بذنبها . فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم طيرتهم ، وقالت عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال ، وبنى بي في شوال ، وأي نسائه كان أحظى عنده مني ؟

11 - ذو القعدة : بفتح القاف والكسر لغة ، سمي به لأن العرب كانوا يقعدون فيه عن الأسفار ، والغزو والميرة وطلب الكلأ ، ويحجون في ذي الحجة ، والجمع ذوات القعدة ، وذوات القعدات ، والتثنية ذواتا القعدة وذواتا القعدتين ، فثنوا الاسمين وجمعوهما ، وهو عزيز ، لأن الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة ، ولا تتوالى على كلمة علامتا تثنية ولا جمع .

12 - ذو الحجة : الشهر الذي يقع فيه الحج سمي بذلك للحج فيه ، والجمع ذوات الحجة ، ولم يقولوا : ( ذوو ) على واحده ، والفتح فيه أشهر من الكسر ، و ( الحجة ) بالكسر المرة الواحدة من الحج ، وهو شاذ لأن القياس في المرة الفتح - انتهى .

وقد أوردنا هذا ملخصا عن ( " المصباح " ) و ( " القاموس " ) و ( " شرحه " ) .

المسألة الثانية : قدمنا أن الأشهر الحرم الأربعة ، ثلاثة سرد أي : متتابعة ، وواحد فرد [ ص: 3149 ] وكانت العرب لا تستحل فيها القتال ، إلا حيان : خثعم وطيئ ، فإنهما كانا يستحلان الشهور ، وكان الذين ينسؤون الشهور أيام الموسم يقولون حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين ، فكانت العرب تستحل دماءهم خاصة في هذه الشهور .

وكان لقوم من غطفان وقيس ، يقال لهم الهباءات ، ثمانية أشهر حرم ، يقال لها ( البسل ) يحرمونها تشددا وتعمقا .

الثالثة : قال ابن كثير : إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، لأجل أداء المناسك - الحج والعمرة - فحرم قبل أشهر الحج شهر وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك .

وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول ، لأجل زيارة البيت والاعتمار به ، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا .

الرابعة : قال النووي في ( " شرح مسلم " ) : وقد اختلفوا في كيفية عدتها على قولين حكاهما الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه ( " صناعة الكاتب " ) قال : ذهب الكوفيون إلى أنه يقال : المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة قال : والكتاب يميلون إلى هذا القول ليأتوا بهن من سنة واحدة قال : وأهل المدينة يقولون : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وقوم ينكرون هذا ويقولون : جاءوا بهن من سنتين .

قال أبو جعفر : وهذا غلط بين ، وجهل باللغة ، لأنه قد علم المراد ، وأن المقصود ذكره ، وأنها في كل سنة ، فكيف يتوهم أنها من سنتين ؟ قال : والأولى والاختيار ما قاله أهل المدينة ، لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالوا ، من رواية ابن عمر وأبي هريرة وأبي بكرة رضي الله عنهم ، قال : وهذا أيضا قول أكثر أهل التأويل .

الخامسة : استنبط بعضهم من قوله تعالى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم أن الإثم [ ص: 3150 ] في هذه الأشهر المحرمة آكد وأبلغ في الإثم في غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم .

وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة : أنه تعالى اختص من الأشهر أربعة أشهر جعلهن حراما ، وعظم حرماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم .

وقال قتادة : إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء . وقال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظيم الأمور بما عظم الله به عند أهل الفهم ، وأهل العقل - نقله ابن كثير - . ثم ذكر : أن ابن جرير اختار في قوله تعالى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم ما قاله ابن إسحاق فيما تقدم .

أقول : هو الظاهر المتبادر .

السادسة : قال المهايمي : إنما كان منها أربعة حرم ليكون ثلث السنة تغليبا للتحليل الذي هو مقتضى سعة الرحمة ، على التحريم الذي هو مقتضى الغضب فجعل أول السنة وآخرها وهو المحرم وذو الحجة ، ولما لم يكن له وسط صحيح ، أخذ أول النصف الآخر وهو رجب ، فبقي من الثلث شهر ، فأخذ قبل الآخر وهو ذو القعدة ، ليكون مع آخر السنة المتصلة بأولها وترا ، وبقي وترية رجب فتتم السنة على التحريم باعتبار أولها وآخرها ، وأوسطها ، مع تذكر وترية الحق المؤكد للتحريم .

انتهى .

[ ص: 3151 ] السابعة : استدل جماعة بقوله تعالى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ ، وكذا بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام وبقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية .

وذهب آخرون إلى أن تحريم القتال فيها ، منسوخ بآية السيف ، يعني قوله تعالى :

وقاتلوا المشركين كافة قالوا : ظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرا عاما في الشهر الحرام ، لأوشك أن يقيده بانسلاخها ، وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام ، وهو ذو القعدة ، كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم ، لجؤوا إلى الطائف ، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما ، وانصرف ولم يفتتحها ، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام .

وأجاب الأولون بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم ، كما في قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم الآية ، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مفيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم ، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه ، فقوله تعالى :

وقاتلوا المشركين كافة الآية ، من باب التهييج والتحضيض ، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم ، فاجتمعوا كذلك لهم ، أو هو إذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام ، إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص وقال تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم الآية _ ، [ ص: 3152 ] وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدؤوا القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندها قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ، ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ، فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياما ، ثم قفل عنهم ، لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا أمر مقرر ، وله نظائر كثيرة .

فالمحرم هو ابتداء القتال في الأشهر الحرام ، لا إتمامه ، وبهذا يحصل الجمع ، ولذا قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح ، ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها .

الثامنة : قال في ( " الإكليل " ) في قوله تعالى : إن عدة الشهور الآية ، إن الله وضع هذه الأشهر وسماها ورتبها على ما هي عليه ، وأنزل ذلك على أنبيائه ، فيستدل بها لمن قال : إن اللغات توقيفية .

التاسعة : في ( " الإكليل " ) أيضا : استدل بقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة من قال إن الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كان فرض عين .

العاشرة : قال ابن إسحاق : كان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما حرم الله ، وحرم منها ما أحل الله عز وجل ( القلمس ) وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، ثم قال بعده على ذلك ابنه عباد ، ثم ابنه قلع ، ثم أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن [ ص: 3153 ] عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام ، فكانت العرب إذا فرغت من حجها ، اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيبا فحرم رجبا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ويحل المحرم ( عاما ) ، ويجعل مكانه ( صفر ) ، ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله ، فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله . انتهى .

و ( القلمس ) بقاف فلام مفتوحتين ثم ميم مشددة . قال في ( " القاموس وشرحه " ) : هو رجل كناني من نسأة الشهور على معد في الجاهلية ، كان يقف عند جمرة العقبة ويقول : اللهم إني ناسئ الشهور، وواضعها مواضعها، ولا أعاب ولا أحاب. اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين ، وحرمت صفر المؤخر ، وكذا في الرجبين ، ( يعني رجبا وشعبان ) ، ثم يقول : انفروا على اسم الله تعالى . قال شاعرهم :


وفينا ناسئ الشهر القلمس


وقال عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان :


لقد علمت معد أن قومي كرام الناس أن لهم كراما


ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما


فأي الناس فاتونا بوتر وأي الناس لم نعلك لجاما


وروي أن أول من سن النسيء عمرو بن لحي ، والذي صح من حديث أبي هريرة [ ص: 3154 ] وعائشة ، أن عمرو بن لحي أول من سيب السوائب ، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : « رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار » .

ثم حرض تعالى المؤمنين على قتال الكفرة ، إثر بيان طرف من قبائحهم الموجبة لذلك ، وأشار إلى توجه العتاب والملامة إلى المتخلفين عنه ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 38 ] يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .

وقوله : إلى الأرض متعلق بـ : اثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد ، أي : اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل ، وكرهتم مشاق الغزو المستتبعة للراحة الخالدة ، كقوله تعالى : أخلد إلى الأرض واتبع هواه

أو مائلين إلى الإقامة بأرضكم ودياركم ، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف ، استنفروا لغزو الروم في وقت عسرة وقحط وقيظ ، وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها ، ومع بعد الشقة ، وكثرة العدو ، فشق عليهم .

وقوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا أي : الحقيرة الفانية : من الآخرة أي : بدل الآخرة ونعيمها الدائم فما متاع الحياة الدنيا أظهر في مقام الإضمار لزيادة التقرير ، أي : فما التمتع بلذائذها في الآخرة أي : في جنب الآخرة أي : إذا قيست إليها ، و ( في ) [ ص: 3155 ] هذه تسمى ( في القياسية ) ، لأن المقيس يوضع بجنب ما يقاس به إلا قليل أي : مستحقر لا يؤبه له .

روى الإمام أحمد ومسلم عن المستورد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع » - وأشار بالسبابة - .

ثم توعد تعالى من لم ينفر إلى الغزو ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 39 ] إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير .

إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم أي : لنصرة نبيه ، وإقامة دينه : ولا تضروه شيئا لأنه الغني عن العالمين ، أي : وإنما تضرون أنفسكم . وقيل : الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي : ولا تضروه ، لأن الله وعده النصر ، ووعده كائن لا محالة .

والله على كل شيء قدير أي : من التعذيب والتبديل ونصرة دينه بغيرهم ، وفي هذا التوعد على من يتخلف عن الغزو من الترهيب الرهيب ما لا يقدر قدره .

تنبيه :

قال بعضهم : ثمرة الآية لزوم إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد ، وكذا يأتي مثله في دعاء الأئمة ، ويأتي مثل الجهاد الدعاء إلى سائر الواجبات ، وفي ذلك تأكيد من وجوه :

الأول : ما ذكره من التوبيخ .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 10-02-2023 05:42 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3156 الى صـ 3170
الحلقة (384)



[ ص: 3156 ] الثاني : قوله تعالى : اثاقلتم إلى الأرض وأن الميل إلى المنافع والدعة واللذات لا يكون رخصة في ذلك .

الثالث : في قوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا فهذا زجر .

الرابع : قوله تعالى : فما متاع الآية . وهذا تخسيس لرأيهم .

الخامس : ما عقب من الوعيد بقوله : إلا تنفروا يعذبكم

السادس : ما بالغ فيه بقوله : عذابا أليما

السابع : قوله : ويستبدل الآية .

الثامن : قوله : والله على كل شيء قدير ففيه تهديد .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 40 ] إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنـزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم .

إلا تنصروه أي : بالخروج معه إلى تبوك فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا

يعني كفار مكة حين مكروا به ، فصاروا سبب خروجه ، فخرج ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثاني اثنين حال من ضميره صلى الله عليه وسلم ، أي : أحد اثنين إذ هما في الغار بدل من : إذ أخرجه بدل البعض ، إذ المراد به زمان متسع .

والغار نقب في أعلى ثور ، وهو جبل في الجهة اليمنى من مكة على مسيرة ساعة ، مكثا فيه ثلاثا ، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما ، ثم يسيرا إلى المدينة ، إذ يقول بدل ثان ، أي : [ ص: 3157 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أي : أبي بكر : لا تحزن وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه أشفق من المشركين أن يعلموا بمكانهما ، فيخلص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أذى ، وطفق يجزع لذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحزن إن الله معنا أي : بالنصرة والحفظ .

روى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال : نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رؤوسنا ، فقلت : يا رسول الله ! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه ! فقال : « يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما » .

فأنـزل الله سكينته أي : أمنته التي تسكن عندها القلوب عليه أي : على النبي صلى الله عليه وسلم وأيده بجنود لم تروها يعني الملائكة ، أنزلهم ليحرسوه في الغار ، أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله : نصره الله وقوى أبو السعود الوجه الثاني ، بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم .

قلت : لا إباءة ، لأن هذا وصف لازم لإمداد القوة الغيبية في كل حال ، وفي الثاني تفكيك في الأسلوب لبعد المتعاطفين ، فافهم . والله أعلم .

وجعل كلمة الذين كفروا السفلى أي : المغلوبة المقهورة ، و ( الكلمة ) الشرك ، أو دعوة الكفر ، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك ، أو هي بمعنى الكلام مطلقا على أنها دعوة الكفر وكلمة الله هي العليا يعني التوحيد ، أو دعوة الإسلام كما تقدم ، أي : التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة وكلمة الله بالرفع على الابتداء و : هي العليا مبتدأ وخبر . أو تكون ( هي ) فصلا .

وقرئ بالنصب أي : وجعل كلمة الله ، والأول [ ص: 3158 ] أوجه وأبلغ ، لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت ، وإن الجعل لم يتطرق لها لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها ، وفي إضافة ( الكلمة ) إلى ( الله ) إعلاء لمكانها ، وتنويه لشأنها والله عزيز أي : غالب على ما أراد : حكيم في حكمه وتدبيره .

تنبيه :

قال بعض مفسري الزيدية : استدل على عظيم محل أبي بكر من هذه الآية من وجوه : منها : قوله تعالى : إذ يقول لصاحبه لا تحزن وقوله : إن الله معنا وقوله فأنـزل الله سكينته عليه قيل : على أبي بكر .

عن أبي علي والأصم ، قال أبو علي : لأنه الخائف المحتاج إلى الأمن ، وقيل : على الرسول ، عن الزجاج وأبي مسلم .

قال جار الله : وقد قالوا : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر ، لأنه رد كتاب الله تعالى . انتهى .

وقال السيوطي في ( " الإكليل " ) : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : أنا ، والله ! صاحبه ، فمن هنا قالت المالكية : من أنكر صحبة أبي بكر كفر وقتل ، بخلاف غيره من الصحابة ، لنص القرآن على صحبته . انتهى .

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : « أنت صاحبي على الحوض ، وصاحبي في الغار » - أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب - .

وقد ساق الفخر الرازي اثني عشر وجها من هذه الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ، فأطال وأطاب .

ولما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول لتبوك ، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر ، أتبعه بهذا الأمر الجزم ، فقال سبحانه :
[ ص: 3159 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 41 ] انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون .

انفروا خفافا وثقالا حالان من ضمير المخاطبين ، أي : على أي حال كنتم خفافا في النفور لنشاطكم له ، وثقالا عنه ، لمشقته عليكم ، أو خفافا لقلة عيالكم وأذيالكم ، وثقالا لكثرتها ، أو خفافا من السلاح وثقالا منه ، أو ركبانا ومشاة ، أو شبابا وشيوخا أو مهازيل وسمانا ، واللفظ الكريم يعم ذلك كله ، والمراد حال سهولة النفر وحال صعوبته .

وقد روي عن ثلة من الصحابة أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط ، ويستشهدون بهذه الآية .

ولما كانت البعوث إلى الشام ، قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة حتى أتى على هذه الآية ، فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا ، جهزوني يا بني ! فقال بنوه : يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك فقال : ما سمع عذر أحد ، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل .

وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ، ويقول : فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا ، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاما واحدا .

وقال أبو راشد الحراني : وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وقد فصل عنها يريد الغزو ، فقلت له : قد أعذر الله إليك ، فقال : أتت علينا سورة البعوث : انفروا خفافا وثقالا

وعن حيان بن زيد قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص - فرأيت شيخا كبيرا هما ، قد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته فيمن أغار ، [ ص: 3160 ] فأقبلت إليه فقلت : يا عم ! لقد أعذر الله إليك ، قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي ! استنفرنا الله خفافا وثقالا ، ألا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه . وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله عز وجل - وروى ذلك كله ابن جرير - .

فرحم الله تلك الأنفس الزكية ، وحياها من بواسل ، باعت أرواحها في مرضاة ربها ، وإعلاء كلمته ، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية .

ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ، ومرضاة رسوله ، فقال : وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ما في اسم الإشارة إلى النفير والجهاد من معنى البعد ، للإيذان ببعد منزلته في الشرف ، والمراد بكونه خيرا ، أنه خير في نفسه ، أو خير من الدعة ، والتمتع بالأموال .

تنبيه :

قال الحاكم : الجهاد بالمال ضروب : منها إنفاقه على نفسه في السير في الجهاد ، ومنها صرف ذلك إلى الآلات التي يستعان بها على الجهاد ، ومنها صرفه إلى من ينوب عنه أو يخرج معه .

وقال بعض مفسري الزيدية : ذكر المؤيد بالله أن من له فضل مال ، وجب عليه أن يدفعه إلى الإمام ، إن دعت إليه حاجة .

وذكر الراضي بالله وجوب دفع ما دعت الحاجة إليه من الأموال في الجهاد ، قليلا كان أو كثيرا ، ويتعين ذلك بتعيين الإمام .

وأما من طريق الحسبة ، فقال الراضي بالله : يجب ذلك إن حصل خلل لا يسده إلا المال ، ويدخل في هذا إلزام الضيفة ، وتنزيل الدور ، وقد قال الراضي بالله : للإمام أن يلزم الرعية على ما يراه من المصلحة .

[ ص: 3161 ] وعن المؤيد بالله : إن للإمام إنزال جيشه دور الرعية إذا لم يتم له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالجند، واحتاجوا إلى ذلك . كما يجوز دخول الدار المغصوبة لإزالة المنكر.

وكذا ذكر أبو مضر أنه ينزل في الزائد على حاجة أهل الدور ، وأما من ينزل الدار من جيشه بظلم أو فساد ، فإن عرف ذلك عورض بين مطلب الإمام في دفعه المنكر ، وبين هذا المنكر الواقع من الجند ، أيهما أغلظ . انتهى .

ثم صرف تعالى الخطاب عن المتخلفين ، ووجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معددا لما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا ، مبنيا لدناءة همهم في هذا الخطب ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 42 ] لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون .

لو كان أي : ما تدعوهم إليه عرضا قريبا أي : نفعا سهل المأخذ ، وسفرا قاصدا أي : وسطا لاتبعوك أي : لا لأجلك ، بل لموافقة أهوائهم ولكن بعدت عليهم الشقة بضم الشين ، وقرئ بكسرها ، أي : الناحية التي ندبوا إليها . وسميت الناحية التي يقصدها المسافر بذلك ، للمشقة التي تلحقه في الوصول إليها .

وقرئ ( بعدت ) بكسر العين . قال الشهاب : بعد يبعد كعلم يعلم ، لغة فيه ، لكنه اختص ببعد الموت غالبا . و ( لا تبعد ) ، يستعمل في المصائب للتفجع والتحسر كقوله :


لا يبعد الله إخوانا لنا ذهبوا أفناهم حدثان الدهر والأبد


وسيحلفون أي : هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك بالله متعلق ب ( سيحلفون ) ، [ ص: 3162 ] أو هو من جملة كلامهم .

والقول مراد في الوجهين ، أي : سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك ، معتذرين بالعجز ، يقولون بالله : لو استطعنا لخرجنا معكم أي : إلى تلك الغزوة .

ثم بين تعالى أن هذه الدعوى الكاذبة والحلف لا يفيدانهم ، بقوله سبحانه : يهلكون أنفسهم أي : بهذا الحلف والمخالفة ودعوى العجز والله يعلم إنهم لكاذبون لأنهم كانوا يستطيعون الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 43 ] عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين .

عفا الله عنك لم أذنت لهم أي : لهؤلاء المنافقين بالتخلف حين اعتلوا بعللهم ، حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود ، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب ، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو .

ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 44 ] لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين .

لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله أي : لمنع إيمانهم به ، من مخالفته ، مع القدرة واليوم الآخر لمنع إيمانهم به من ترك تعويض الثواب والحياة الأبديين إذا أمروا : أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم أي : لأنهم يودون الجهاد بها قربة ، فيبذلونها في سبيله : والله عليم بالمتقين أي : فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم .

ففيه شهادة لهم بالانتظام في زمرة الأتقياء ، وعدة لهم بأجزل الثواب .
[ ص: 3163 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 45 ] إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون .

إنما يستأذنك أي : في ترك الجهاد بهما : الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر إذ لا يرجون ثوابه ولا حياته ، وهم المنافقون ، ولذا قال : وارتابت قلوبهم أي : فيما تدعوهم إليه ، أي : رسخ فيها الريب فهم في ريبهم يترددون أي : ليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى هلكى ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .

تنبيهات :

الأول : اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو ، دون ما يوهم العتاب ، من مراعاة جانبه عليه الصلاة والسلام ، وتعهده بحسن المفاوضة ، ولطف المراجعة ما لا يخفى على أولي الألباب .

قال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف : بدأ بالعفو قبل ذلك المعفو .

قال مكي : عفا الله عنك افتتاح كلام مثل ( أصلحك الله وأعزك ) . وقال الداودي : إنها تكرمة .

أقول : ويؤيد ذلك قول علي بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه :


عفا الله عنك ألا حرمة تعوذ بعفوك أن أبعد

ألم تر عبدا عدا طوره
ومولى عفا ورشيدا هدى

أقلني أقالك من لم يزل
يقيك ويصرف عنك الردى


وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب - غير صحيح - فالواجب تفسيره في كل مقام بما يناسبه .

[ ص: 3164 ] قال الشهاب : وهو يستعمل حيث لا ذنب ، كما تقول لمن تعظمه : عفا الله عنك، ما صنعت في أمري ؟ وفي الحديث : « عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له » .

وقال السخاوندي : وهو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم ، ولولا العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب

وقال القاضي عياض في ( " الشفا " ) : وأما قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم فأمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي ، فيعد معصية ولا عده الله عليه معصية ، بل يعده أهل العلم معاتبة ، وغلطوا من ذهب إلى ذلك .

قال نفطويه : وقد حاشاه الله من ذلك ، بل كان مخيرا في أمرين .

قالوا : وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي ، وكيف ؟ وقد قال الله تعالى : فأذن لمن شئت منهم فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى بما لم يطلعه عليه من سرهم ، أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، وأنه لا حرج عليه فيما فعل ، وليس ( عفا ) هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق » . ولم تجب عليهم قط ، أي : لم يلزمهم ذلك .

ونحوه للقشيري قال : إنما يقول : ( العفو لا يكون إلا عن ذنب ) ، من لم يعرف كلام العرب ، قال : ومعنى : عفا الله عنك أي : لم يلزمك ذنبا . انتهى .

وقد عد ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته .

وللعلامة أبي مسعود مناقشة معه في ذلك ، أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة ، قال رحمه الله :

ولقد أخطأ وأساء الأدب ، وبئس ما فعل فيما قال وكتب ، من زعم أن الكلام كناية عن الجناية ، وأن معناه أخطأت ، وبئس ما فعلت ، هب أنه كناية ، أليس إيثارها على التصريح [ ص: 3165 ] بالجناية للتلطيف في الخطاب ، والتخفيف في العتاب ، وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة، بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة ( بئسما ) ، المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها ، ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين ، أو منفعة للمسلمين ، بل كان فيه فساد وخبال ، حسبما نطق به قوله عز وجل : لو خرجوا إلخ ، وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى : ولكن كره الله انبعاثهم الآية ، نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير ، ويفتضحوا على رءوس الأشهاد ، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم ، بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم ، وأرضوه بالأكاذيب .

على أنه لم يهنأ لهم عيش ، ولا قرت لهم عين ، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان ، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان . انتهى .

قال الخفاجي : وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك ، فأبدله بالعفو تعظيما لشأنه ، ولذا قدم العفو على ما يوجب الجناية ، فلا خطأ فيه .

قال رحمه الله : ولو اتقى هو والموجه موضع التهم - كان أولى وأحرى . انتهى .

الثاني : استدل بالآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحيانا بالاجتهاد ، كما بسطه الرازي .

قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : واستدل بها من قال : إن اجتهاده قد يخطئ ولكن ينبه عليه بسرعة .

الثالث : قال الرازي : دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأني ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحق من التقريب أو الإبعاد .

الرابع : قال أبو السعود : تغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي [ ص: 3166 ] صلته فعل دال على الحدوث ، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام ، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص ، غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين ، وأن ما صدر من الآخرين ، وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص ، لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ، ناشئ عن رسوخهم في الكذب . ودقق رحمه الله في بيان لطائف أخر . فلتراجع .

الخامس : قيل : نفي الفعل المستقبل الدال على الاستمرار في قوله تعالى : لا يستأذنك يفيد نفي الاستمرار .

وهذا معنى قول الزمخشري : ليس من عادة المؤمنين أي : يستأذنوك .

قال النحرير : ولا يبعد حمله على استمرار النفي ، كما في أكثر المواضع ، أي : عادتهم عدم الاستئذان .

قال الناصر : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا ، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي له معروفا ، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما ، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره ، وصلوات الله على خليله وسلامه ، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم ، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الخلة الجميلة ، والآداب الجليلة ، فقال تعالى : فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين أي : ذهب على خفاء منهم ، كيلا يشعروا به ، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ، ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة ، فهذا من الآداب التي ينبغي أي : يتمسك بها ذوو المروءة ، وأولو القوة .

وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين ، والتثاقل عن المبادرة إليه ، بعد الحض عليه والمناداة .

وأسوأ أحوال المتثاقل ، وقد دعي الناس إلى الغزاة ، أن يكون متمسكا بشعبة من النفاق . نعوذ بالله من التعرض لسخطه .

[ ص: 3167 ] ثم بين تعالى جلية شأن أولئك المنافقين المستأذنين ، بأنهم لم يريدوا الخروج للجهاد حقيقة ، ولذلك خذلهم ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 46 ] ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين .

ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة بضم العين وتشديد الدال ، أي : قوة من مال وسلاح وزاد ونحوها ولكن كره الله انبعاثهم أي : نهوضهم للخروج فثبطهم أي : فكسلهم وضعف رغبتهم وقيل اقعدوا مع القاعدين أي : من النساء والصبيان .

تنبيهات :

الأول : دل قوله تعالى : لأعدوا له عدة على أن عدة الحرب من الكراع والسلاح وجميع ما يستعان به على العدو ، من جملة الجهاد .

فما صرف في المجاهدين صرف في ذلك ، وهذا جلي فيما يتقى به من العدة كالسلاح ، فأما ما يحصل به الإرهاب من الرايات والطبول ونحو ذلك ، مما يضعف به قلب العدو ، فهو داخل في الجهاد ، وقد قال تعالى في سورة الأنفال : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ويكون ذلك كلباس الحرير حالة الحرب ، وهذا جلي حيث لا يؤدي إلى السرف .

الثاني : إن الفعل يحسن بالنية ، ويقبح بالنية ، وإن استويا في الصورة ، لأن النفير واجب مع نية النصر ، وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح ، وذلك لأنه تعالى أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل منه من إرادة المكر بالمسلمين .

[ ص: 3168 ] الثالث : للإمام منع من يتهم بمضرة المسلمين ، أن يخرج للجهاد ، فله نفي الجاسوس والمرجف والمخذل . ذكر ذلك كله بعض مفسري الزيدية .

الرابع : ذكروا أن قوله تعالى : وقيل اقعدوا مع القاعدين تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم ، يعني نزل خلق داعية القعود فيهم منزلة الأمر ، والقول الطالب ، كقوله تعالى : فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم أي : أماتهم ، أو هو تمثيل لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود ، أو هو حكاية قول بعضهم لبعض ، أو هو إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالقعود .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : مع القاعدين ؟ قلت : هو ذم لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : رضوا بأن يكونوا مع الخوالف

قال الناصر : وهذا من تنبيهاته الحسنة . ونزيده بسطا فنقول :

لو قيل : ( اقعدوا ) مقتصرا عليه ، لم يفد سوى أمرهم بالقعود ، وكذلك : ( كونوا مع القاعدين ) .

ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد ، الموسومين بهذه السمة ، إلا من عبارة الآية ، ولعن الله فرعون ، لقد بالغ في توعيد موسى عليه السلام بقوله : لأجعلنك من المسجونين ولم يقل : لأجعلنك مسجونا . لمثل هذه النكتة من البلاغة .

ثم بين تعالى سر كراهته لخروجهم بقوله :
[ ص: 3169 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 47 ] لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين .

لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا أي : فسادا وشرا ولأوضعوا خلالكم أي : ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالفساد .

قال الشهاب : الإيضاع : إسراع سير الإبل . يقال : وضعت الناقة ، تضع إذا أسرعت ، وأوضعتها أنا .

والمراد : الإسراع بالنمائم ، لأن الراكب أسرع من الماشي . فقيل : المفعول مقدر ، وهو النمائم ، فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها ، وأثبت لها الإيضاع . ففيه تخييلية ومكنية .

وقيل : إنه استعارة تبعية ، شبه سرعة إفسادهم لذات البين بالنميمة ، بسرعة سير الركائب ، ثم استعير لها الإيضاع ، وهو للإبل .

و ( خلال ) جمع خلل ، وهو الفرجة ، استعمل ظرفا بمعنى ( بين ) .

واعلم أن قوله : ولأوضعوا مرسوم في الإمام بألفين ، لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربي ، والخط العربي اختراع قريبا من نزول القرآن ، وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحها ألفا أخرى ونحوه : أو لأذبحنه

يبغونكم الفتنة أي : يطلبون لكم ما تفتنون ، بإيقاع الخلاف فيما بينكم ، وإلقاء الرعب في قلوبكم ، وإفساد نياتكم وفيكم سماعون لهم أي : منقادون لقولهم مستحسنون لحديثهم ، وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، لضعف عقولهم ، فيتوهمون منهم النصح والإعانة ، وهم يريدون التخذيل والفتنة ، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين ، وفساد كبير .

وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير ، أي : فيكم عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم .

[ ص: 3170 ] قال ابن كثير : وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جميع الأحوال . والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين .

قال محمد بن إسحاق : كان استأذن ، فيما بلغني ، من ذوي الشرف منهم عبد الله بن أبي ابن سلول والجد بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله ، لعلمه بهم أن يخرجوا فيفسدوا عليه جنده .

وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيها يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ، فقال : وفيكم سماعون لهم انتهى .

والله عليم بالظالمين ولا يخفى عليه شيء من أمرهم ، وفيه شمول للفريقين : القاعدين والسماعين .

ثم برهن تعالى على ابتغائهم الفتنة في كل مرة بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 48 ] لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .

لقد ابتغوا الفتنة من قبل أي طلبوا الشر بتشتيت شملك ، وتفريق صحبك عنك ، من قبل غزوة تبوك ، كما فعل عبد الله بن أبي ابن سلول حين انصرف بأصحابه يوم أحد عن المسلمين وقلبوا لك الأمور أي دبروا لك الحيل والمكايد ودوروا الآراء في إبطال أمرك .

قال الشهاب : المراد من الأمور المكايد ، فتقليبها مجاز عن تدبيرها ، أو ( الآراء ) ، فتقليبها تفتيشها وإحالتها .

حتى جاء الحق وهو تأييدك ونصرك وظفرك وظهر أمر الله أي : علا دينه وهم كارهون أي : على رغم منهم .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 10-02-2023 05:45 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3171 الى صـ 3185
الحلقة (385)



قال ابن كثير : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها . فلما نصره الله يوم بدر ، وأعلى كلمته . قال ابن أبي وأصحابه : هذا أمر [ ص: 3171 ] قد توجه ، ( أي : أقبل ) ، فدخلوا في الإسلام ظاهرا . ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله ، أغاظهم ذلك وساءهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 49 ] ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .

ومنهم من يقول ائذن لي أي : في القعود ولا تفتني أي : لا توقعني في الفتنة .

روي عن مجاهد وابن عباس أنها نزلت في الجد بن قيس ، أخي بني سلمة ، وذلك فيما رواه محمد بن إسحاق ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم وهو في جهازه : « هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر ؟ » فقال : يا رسول الله ! أوتأذن لي ولا تفتني ؟ فوالله ! لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى ، إن رأيت نساء بني الأصفر ، ألا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « أذنت لك ! » .

قال الشهاب يعني أنه يخشى العشق لهن ، أو مواقعتهن من غير حل .

وبنات الأصفر : للروم ، كبني الأصفر . وقيل في وجه التسمية وجوه : منها أنهم ملكهم بعض الحبشة ، فتولد بينهم نساء وأولاد ذهبية الألوان . انتهى .

قال ابن كثير : كان الجد بن قيس هذا من أشرف بني سلمة .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : « من سيدكم يا بني سلمة ؟ » قالوا : الجد بن قيس ؟ [ ص: 3172 ] على أنا نبخله .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وأي داء أدوأ من البخل ؟ ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض ، بشر بن البراء بن معرور »
.

وقوله تعالى : ألا في الفتنة سقطوا قال أبو السعود : أي : في عينها ونفسها ، وأكمل أفرادها الغني عن الوصف بالكمال ، الحقيق باختصاص اسم الجنس به ، سقطوا لا في شيء مغاير لها ، فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها . وذلك بم فعلوا من العزيمة على التخلف والجرأة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة ، ومن القعود بالإذن المبني عليه ، وعلى الاعتذارات الكاذبة ، وقرئ بإفراد الفعل ، محافظة على لفظ ( من ) . وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه ، مع تقديم الظرف ، إيذان بأنهم وقعوا فيها ، وهم يحسبون أنها منجى من الفتنة ، زعما منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن . وفي التعبير عن ( الافتتان ) بالسقوط في الفتنة ، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة ، المفصحة عن ترديهم في درجات الردى أسفل سافلين . انتهى .

وإن جهنم لمحيطة بالكافرين أي : ستحيط بهم يوم القيامة ، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب ، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا .

ثم بين عداوتهم ، زيادة في تشهير مساوئهم ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 50 ] إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون .

إن تصبك حسنة أي : من فتح وظفر وغنيمة تسؤهم أي : تورثهم مساءة لفرط عداوتهم وإن تصبك مصيبة أي : من نوع شدة يقولوا قد أخذنا أمرنا أي : بالحزم في القعود من قبل أي : من قبل إصابة المصيبة ، فيتبجحوا بما صنعوا حامدين [ ص: 3173 ] لآرائهم ويتولوا أي : عن مجتمعهم الذي أظهروا فيه الفرح برأيهم ، وهم فرحون أي : برأيهم وبما أصابكم وبما سلموا .

ثم أرشد تعالى إلى جوابهم ببطلان ما بنوا عليه مسرتهم ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 51 ] قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون .

قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا أي : ما أثبته لمصلحتنا الدنيوية أو الأخروية ، فلا وجه لهذا الفرح ، لرضانا بقضائه في تلك المصيبة ، فلم يسؤنا بالحقيقة كيف ؟

ولم يكتبها علينا ليضرنا بها ، إذ : هو مولانا أي : يتولى أمورنا ، فإنما كتبها علينا ليوفقنا للصبر والرضا بها ، فيعطينا من الأجر ما هو خير منها وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي : لأنه لا ناصر ولا متولي لأمرهم غيره .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 52 ] قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون .

قل هل تربصون أي : تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين أي : العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب ، وهما النصر والشهادة ونحن نتربص بكم أي : إحدى السوئين من العواقب إما : أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أي : كما أصاب من قبلكم من الأمم أو بعذاب : بأيدينا وهو القتل على الكفر .

فتربصوا أي : بنا ما ذكر من عواقبنا إنا معكم متربصون أي : منتظرون ما هو عاقبتكم [ ص: 3174 ] فلا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه ، لا يتجاوزه ، فلا تشاهدون إلا ما يسرنا ، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 53 ] قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين .

قل أنفقوا يعني أموالكم في سبيل الله ووجوه البر طوعا أو كرها مصدران وقعا موقع الفاعل ، أي : طائعين من قبل أنفسكم ، أو كارهين مخافة القتل لن يتقبل منكم أي : ذلك الإنفاق . ثم بين سبب ذلك بقوله : إنكم كنتم قوما فاسقين أي : عاتين ، متمردين .

لطائف :

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : لن يتقبل منكم ! قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله تبارك وتعالى : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها ، ونحوه قوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم

وقوله :


أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة


أي : لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك ، أسأت إلينا أم أحسنت .

[ ص: 3175 ] فإن قلت : متى يجوز هذا ؟ قلت : إذا دل الكلام عليه ، كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيدا وغفر له .

فإن قلت : لم فعل ذلك ؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي أن كثيرا كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي ، وقوة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة والإحسان ، وانظري : هل يتفاوت حالي معك ، مسيئة كنت أو محسنة ! وفي معناه قول القائل :


أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا لتضربه لم يستغشك في الود


وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا ، هل يتقبل منكم ؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه ؟

فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبل ، أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم ، ورده عليهم ما يبذلون منه ، أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ، ذاهبا هباء لا ثواب له ؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعا .

وقد روي أن الآية من تتمة جواب الجد بن قيس حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا مالي أعينك به ، فاتركني ولا تفتني . والله أعلم .
[ ص: 3176 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 54 ] وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون .

ولما بين تعالى قبائح أفعال المنافقين ، وما لهم في الآخرة من العذاب المهين ، وعدم قبول نفقاتهم ، تأثره ببيان أن ما يظنونه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم ، فينجلي تمام الانجلاء أن النفاق مهواة الخسار ، لجلبه آفات الدنيا والآخرة ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 55 ] فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون .

فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم أي : لأن ذلك استدراج لهم ، كما قال : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا أي : بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب ، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب ، وقوله : ليعذبهم قيل : اللام زائدة .

وقيل : المفعول [ ص: 3177 ] محذوف ، وهذه تعليلية ، أي : يريد إعطاءهم لتعذيبهم ، وتزهق أنفسهم وهم كافرون أي : فيموتوا كافرين ، لاهين بالتمتع عن النظر في العاقبة ، فيكون ذلك استدراجا لهم .

وأصل ( الزهوق ) الخروج بصعوبة - أفاده القاضي - .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 56 ] ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون .

ويحلفون بالله يعني المنافقين إنهم لمنكم في الدين ليدفعوا ، بدلالة اليمين ، دلائل النفاق وما هم منكم في ذلك يعني أنهم كاذبون ولكنهم قوم يفرقون أي : يخافون القتل ، وما يفعل بالمشركين ، فيتظاهرون بالإسلام تقية ، ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة .

ثم أشار إلى سبب الخوف ، وهو اضطرارهم إلى مساكنهم مع ضعفهم ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 57 ] لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون .

لو يجدون ملجأ أي : حصنا يلتجئون إليه أو مغارات يعني غيرانا في الجبال يسكن كل واحد منهم غارا أو مدخلا يعني موضع دخول يدخلون فيه ، والسرب في الأرض لولوا إليه أي : لأقبلوا نحوه وهم يجمحون أي : يسرعون إسراعا ، لا يردهم شيء ، كالفرس الجموح ، أي : النفور الذي لا يرده لجام ، أي : لو وجدوا شيئا من هذه الأمكنة التي هي منفور عنها ، مستنكرة ، لأتوه لشدة خوفهم ، وكراهتهم للمسلمين ، وغمهم بعز الإسلام ، ونصر أهله .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 58 ] ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون .

ومنهم من يلمزك أي : يعيبك في الصدقات أي : في قسمتها .

ثم بين فساد [ ص: 3178 ] لمزهم ، وأنه لا منشأ له سوى حرصهم على حطام الدنيا بقوله : فإن أعطوا منها أي : قدر ما يريدون رضوا فجعلوه عدلا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون فيجعلونه غير عدل .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 59 ] ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون .

ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله أي : كفانا فضله ، وما قسمه لنا سيؤتينا الله من فضله ورسوله أي : بعد هذا ، حسبما نرجو ونؤمل .

إنا إلى الله راغبون أي : في أن يغنمنا ويخولنا فضله .

والجواب محذوف بناء على ظهوره . أي : لكان خيرا لهم .

روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم فيئا ، أتاه ذو الخويصرة : رجل من بني تميم - فقال : يا رسول الله ! اعدل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ويلك من يعدل إذا لم أعدل ؟ » فقال عمر بن الخطاب : ايذن لي فيه فأضرب عنقه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية » .
[ ص: 3179 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 60 ] إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم

إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم

لما ذكر تعالى لمزهم في الصدقات تأثره ببيان حقية ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من القسمة ، إذ لم يتجاوز فيها مصارفها المشروعة له ، وهو عين العدل ، وذلك أنه تعالى شرع قسمها لهؤلاء ، ولم يكله إلى أحد غيره ، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئا ، ففيم اللمز لقاسمها ، صلوات الله عليه ؟

روى البخاري عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي » .

وروى أبو داود عن زياد بن الحارث رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة ، فقال له : « إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك » .

فالآية رد لمقالة أولئك اللمزة ، وحسم لأطماعهم ، ببيان أنهم بمعزل من الاستحقاق . وإعلام بمن إعطاؤهم عدل ، ومنعهم ظلم .

[ ص: 3180 ] والفقراء ، جمع فقير ، فعيل بمعنى فاعل ، يقال فقر يفقر من باب تعب ، إذا قل ماله .

والمساكين : جمع مسكين ، من ( سكن سكونا ) ، ذهبت حركته ، لسكونه إلى الناس ، وهو بفتح الميم في لغة بني أسد ، وبكسرها عند غيرهم .

قال ابن السكيت : المسكين : الذي لا شيء له ، والفقير : الذي له بلغة من العيش . وكذلك قال يونس ، وجعل الفقير أحسن حالا من المسكين .

قال : وسألت أعرابيا : أفقير أنت ؟ فقال : لا ، والله بل مسكين ، وقال الأصمعي : المسكين أحسن حالا من الفقير ، وهو الوجه ; لأن الله تعالى قال : أما السفينة فكانت لمساكين وكانت تساوي جملة ، وقال في حق الفقراء : لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وقال ابن الأعرابي : المسكين هو الفقير ، وهو الذي لا شيء له ، فجعلهما سواء . كذا في ( " المصباح " ) .

قال البدر القرافي : وإذا اجتمعا افترقا ، كما إذا أوصي للفقراء والمساكين ، فلا بد من الصرف للنوعين ، وإن افترقا اجتمعا ، كما إذا أوصي لأحد النوعين ، جاز الصرف للآخر .

قال المهايمي : ثم ذكر تعالى من يحتاج إليهم المحتاجون إلى الصدقات ، فقال : والعاملين عليها أي : الساعين في تحصيلها : القابض والوازن والكيال والكاتب ، ويعطون أجورهم منها .

ثم ذكر من يحتاج إليهم الإمام فقال : والمؤلفة قلوبهم وهم قوم ضعفت نيتهم في الإسلام ، فيحتاج الإمام إلى تأليف قلوبهم بالعطاء ، تقوية لإسلامهم ، لئلا يسري ضعفهم إلى غيرهم ، أو أشراف يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم .

ثم ذكر تعالى من يعان بها في دفع الرق بقوله : وفي الرقاب أي : وللإعانة في فك الرقاب ، فيعطي المكاتبون منها ما يستعينون به على [ ص: 3181 ] أداء نجوم الكتابة ، وإن كانوا كاسبين ، وهو قول الشافعي والليث ، أو : وللصرف في عتق الرقاب ، بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق .

قال ابن عباس والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق .

ولا يخفى أن ( الرقاب ) يعم الوجهين ، وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة .

ثم ذكر تعالى من تفك ذمته في الديون بقوله : والغارمين

وهم الذين ركبتهم الديون لأنفسهم في غير معصية ، ولم يجدوا وفاء ، أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء .

ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله : وفي سبيل الله

فيصرف على المتطوعة في الجهاد ، ويشترى لهم الكراع والسلاح .

قال الرازي : لا يوجب قوله : وفي سبيل الله القصر على الغزاة ، ولذا نقل القفال في ( " تفسيره " ) عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ، لأن قوله : وفي سبيل الله عام في الكل . انتهى .

ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من : ( سبيل الله ) فيصرف للحجاج منه .

قال في ( الإقناع ) و ( شرحه ) : والحج من ( سبيل الله ) نصا ، روي عن ابن عباس وابن عمر ، لما روى أبو داود ، أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله ، فأرادت امرأته الحج ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اركبيها ، فإن الحج من ( سبيل الله ) ، فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة ، أو يستعين به فيه ، وكذا في نافلتهما ، لأن كلا من ( سبيل الله ) . انتهى .

قال ابن الأثير : و ( سبيل الله ) عام ، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله عز وجل ، بأداء الفرائض والنوافل ، وأنواع التطوعات ، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد ، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه . انتهى .

وقال في ( " التاج " ) : كل سبيل أريد به الله عز وجل وهو بر ، داخل في سبيل الله .

[ ص: 3182 ] ثم ذكر تعالى الإعانة لأبناء الطريق بقوله :

وابن السبيل فيعطي المجتاز في بلد ما يستعين به على بلوغه لبلده .

وقوله تعالى : فريضة من الله ناصبه مقدر ، أي : فرض الله ذلك فريضة ، وقوله : والله عليم أي : بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم .

وقوله : حكيم أي : لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي منها سوق الحقوق إلى مستحقيها .

تنبيهات :

الأول : ظاهر الآية يقضي بالقسمة بين الثمانية الأصناف ، ويؤيد هذا وجهان :

الأول : ما يقتضيه اللفظ اللغوي ، إن قلنا : الواو للجمع والتشريك .

والثاني : ما رواه أبو داود في سننه من قوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأها ثمانية أجزاء » الحديث .

وقد ذهب إلى هذا الشافعي وعكرمة والزهري ، إلا إن استغنى أحدها فتدفع إلى الآخرين ، بلا خلاف .

وذهبت طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد منهم عمر وابن عباس ، وحذيفة وعطاء وابن جبير والحسن ومالك وأبو حنيفة ، والهادي والقاسم وأسباطهما ، وزيد . قال في ( " التهذيب " ) : وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر ، بوجوه :

الأول : أن الله تعالى قال في سورة البقرة : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها .

الثاني : الخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم .

الثالث : حديث سلمة بن صخر ، فإنه عليه الصلاة والسلام جعل له صدقة بني زريق .

الرابع : أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه .

الخامس : المعارضة [ ص: 3183 ] للفظ بالمعنى ، فإن المقصود سد الخلة .

وقال صاحب ( " النهاية " ) : وهذا أقرب إلى المعنى ، والأول أقرب إلى اللفظ ، ويؤيد أنها مستحقة بالمعنى لا بالاسم ، أنا لو قلنا تستحق بالاسم لزم أن من كان فقيرا غازيا غارما مسافرا ، أن يستحق سهاما لهذه الأسباب جميعا - كذا في تفسير بعض الزيدية - .

وقال الناصر في ( " الانتصاف " ) : القول بوجوب صرفها إلى جميع الأصناف ، حتى لا يجوز ترك صنف واحد منها أخذا من إشعار ( اللام ) بالتمليك ، كما ذهب إليه الشافعي : لا يسعده السياق ، فإن الآية مصدرة بكلمة الحصر الدالة على قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة ، وأنها مختصة بهم ، وأن غيرهم لا يستحق فيها نصيبا ، كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم ، فهذا هو الغرض الذي سيقت له الآية ، فلا اقتضاء فيها لما سواه . انتهى .

الثاني : قال بعضهم : لفظ ( الصدقات ) بعمومه يجمع الصدقة الواجبة والنافلة ، ثم إن الصدقة الواجبة تتنوع أنواعا ، منها الزكوات لما هو العشر أو نصف العشر ، أو ربع العشر ، وزكاة المواشي والفطرة والكفارات ، نحو كفارة اليمين والظهار والصوم ، وكذلك الهدي في الحج ، ومنها ما يؤخذ من أموال الكفار ورؤوسهم ، ولهذا سمى الله الغنائم صدقة في سبب نزول الآية ، وذلك في قسمة غنائم ( حنين ) ، فإذا كان اللفظ يعم ما ذكر ، فهل تحمل الآية على عمومها في قسمتها على ما ذكر ، أو يخصص البعض ؟

ثم قال : والعلماء قسموا الصدقات ، وجعلوا مصارفها مختلفة ، والكفارة لم يذكر أنها تصرف في الثمانية المصارف .

وقد ورد قوله تعالى : ( فكفارته إطعام ستين مسكينا ) وفي الحديث : « أطعم عن كل يوم مسكينا » ، وورد في الفطرة : « أغنوهم هذا اليوم » .

وورد الأدلة مخصصة لعموم لفظ الصدقات ؟ فإن الزكوات مجمع عليها في أن مصرفها الثمانية الأصناف ، أم كيف تنزل الآية على القواعد الأصولية ؟ . انتهى كلامه .

[ ص: 3184 ] ولا يخفى كونها مخصصة لعموم لفظ الصدقات ، لأن الخاص يقضي على العام على أن المراد قصرها على هذه الأصناف ، فكل ما ذكر لم يخرج عنها لشمولها له . والله أعلم .

الثالث : ( المؤلفة قلوبهم ) حكمهم باق ، لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة من المسلمين والمشركين ، فيعطون عند الحاجة .

ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم ، على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم ، لا لسقوط سهمهم ، فإن الآية من آخر ما نزل ، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر .

ومنع وجود الحاجة على ممر الزمان ، واختلاف أحوال النفوس في القوة والضعف لا يخفى فساده . كذا في ( " الإقناع " ) و ( " شرحه " ) .

والمؤلفة كما في ( " الإقناع " ) هم رؤساء قومهم : من كافر يرجى إسلامه ، أو كف شره ، ومسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه ، أو إسلام نظيره ، أو نصحه في الجهاد ، أو في الدفع عن المسلمين ، أو كف شره كالخوارج ونحوهم ، أو قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها . انتهى .

الرابع : قال في ( " الإكليل " ) : استدل بعموم الآية من أجاز الدفع للفقير القادر على الاكتساب .

وللذمي ، ولمن تلزمه نفقته لسائر القرابة ، للزوج ، ولآله صلى الله عليه وسلم ، حيث حرموا حظهم من الخمس ، ولمواليهم ، ولمن جوز نقلها .

وقال ابن الفرس : يؤخذ من قوله تعالى : والعاملين جواز أخذ الأجرة لكل من اشتغل بشيء من أعمال للمسلمين .

قال : وقد احتج به أبو عبيد على جواز أحد القضاة الرزق فقال : قد فرض الله للعاملين على الصدقة ، وجعل لهم منها حقا بقيامهم فيه وسعيهم ، فكذلك القضاة يجوز لهم أخذ الأجرة على عملهم ، وكذا كل من شغل بشيء من أعمال المسلمين .

الخامس : قال الزمخشري : فإن قلت : لم عدل عن اللام إلى ( في ) ، في الأربعة الأخيرة ؟ قلت : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن ( في ) للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ، ويجعلوا مظنة لها ومصبا ، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم ، من التخليص والإنقاذ .

[ ص: 3185 ] ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ، وتكرير ( في ) ، في قوله تعالى : وفي سبيل الله وابن السبيل فيه فضل ترجيح لهذين ، على الرقاب والغارمين . انتهى .

قال الناصر : وثم سر آخر هو أظهر وأقرب ، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم ، وإنما يأخذونه ملكا ، فكان دخول اللام لائقا بهم ، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم ، بل ولا يصرف إليهم ، ولكن في مصالح تتعلق بهم .

فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون ، فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك ( باللام ) المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم ، وإنما هم محال لهذا الصرف ، والمصلحة المتعلقة به .

وكذلك ( الغارمون ) ، إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم ، تخليصا لذممهم ، لا لهم وأما : ( سبيل الله ) فواضح فيه ذلك .

وأما : ( ابن السبيل ) فكأنه كان مندرجا في سبيل الله ، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته ، مع أنه مجرد من الحرفين جميعا ، وعطفه على المجرور ( باللام ) ممكن ، ولكنه على القريب منه أقرب . والله أعلم .

ثم قال : وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه ، استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجها في الاستدلال لمالك ، رحمه الله ، على أن الغرض بيان المصرف و ( اللام ) لذلك لام الملك ، فيقول : متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف ، فيتعين تقديره ، فإما أن يكون التقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء ، كقول مالك ، أو مملوكة للفقراء ، كقول الشافعي ، لكن الأول متعين لأنه تقدير ، يكتفى به في الحرفين جميعا ، يصح تعلق ( اللام ) به و ( في ) معا ، فيصح أن نقول : هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا ، بخلاف تقديره مملوكة ، فإنه إنما يلتئم مع اللام ، وعند الانتهاء إلى ( في ) يحتاج إلى تقدير : مصروفة ليلتئم بها .

فتقديره من ( اللام ) عام التعلق ، شامل الصحة ، متعين ، والله الموفق . انتهى .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 10-02-2023 06:02 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3186 الى صـ 3200
الحلقة (386)


[ ص: 3186 ] السادس : قال الزمخشري : فإن قلت : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكايدهم ؟

قلت : دل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسما لأطماعهم ، وإشعارا باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم وما لها ، وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه . انتهى .

وتقدم بيانه أيضا .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 61 ] ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم .

ومنهم أي : من الذين يحلفون بالله إنهم لمنكم ، ومن أشد من اللامز في الصدقات إذ هم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن أي : يسمع كل ما يقال له ويصدقه ، ويعنون إنه ليس بعيد الغور ، بل سريع الاغترار بكل ما يسمع .

قال أبو السعود : وإنما قالوه لأنه صلوات الله عليه كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ، ويصفح عنهم حلما وكرما ، فحملوه على سلامة القلب ، وقالوا ما قالوا .

قال اللغويون : ( الأذن ) الرجل المستمع القابل لما يقال له ، وصفوا به الواحد والجمع ، فيقال : رجل أذن ، ورجال أذن ، فلا يثنى ولا يجمع ، وإنما سموه باسم العضو تهويلا وتشنيعا ، فهو مجاز مرسل ، أطلق فيه الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته ، لفرط استماعه ، آلة السماع ، كما سمي الجاسوس عينا لذلك ، ونحوه :


إذا ما بدت ليلى فكلي أعين وإن حدثوا عنها فكلي مسامع


[ ص: 3187 ] وجعله بعضهم من قبيل التشبيه : بـ ( الأذن ) في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل .

قال الشهاب : وليس بشيء يعتد به . وقيل إنه على تقدير مضاف ، أي : ذو أذن .

قال الشهاب : وهو مذهب لرونقه . وقيل : هو صفة مشبهة من ( أذن إليه وله ) ، كفرح : استمع . قال عمرو بن الأهيم :


فلما أن تسايرنا قليلا أذن إلى الحديث فهن صور


ولقعنب بن أم صاحب :


إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا مني ، وما سمعوا من صالح دفنوا


صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا


وفي الحديث : « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن » .

قال أبو عبيد : يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لمن يتلوه ، يجهر به .

وقوله عز وجل : وأذنت لربها وحقت أي : استمعت . كذا في ( " تاج العروس " ) .

وعلى هذا فـ ( أذن ) صفة بمعنى سميع ولا تجوز فيه ، ففيه أربعة أوجه .

وعطف قوله تعالى : ( ويقولون ) عطف تفسير : لأنه نفس الإيذاء .

وقوله تعالى : قل أذن خير لكم من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة ، كرجل صدق ، تريد المبالغة في الجودة والصلاح ، كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الأذن أو إضافته على معنى ( في ) ، أي : هو أذن في الخير والحق ، وفيما يجب سماعه وقبوله ، وليس [ ص: 3188 ] بأذن في غير ذلك .

ودل عليه قراءة حمزة ( ورحمة ) بالجر عطفا عليه ، أي : هو أذن خير لكم ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله .

ثم فسر كونه أذن خير بقوله : يؤمن بالله قال القاشاني : هو بيان لينه صلى الله عليه وسلم وقابليته ، لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب ولطافة النفس ولينها ويؤمن للمؤمنين أي : يصدق قولهم في الخيرات ، ويسمع كلامهم فيها ويقبله ، ورحمة أي : وهو رحمة للذين آمنوا منكم أي : يعطف عليهم ، ويرق لهم ، فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم ، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم ، بالبر والصلة ، وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة والأمر بالمعروف ، باتباعهم إياه فيها ، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين ، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل ، إلى غير ذلك . قاله القاشاني .

وقال غيره : أي : هو رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم ، معشر المنافقين ، حيث يقبله ، لا تصديقا لكم ، بل رفقا بكم ، وترحما عليكم ، ولا يكشف أسراركم ، ولا يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى تعالى من الحكمة في الإبقاء عليكم .

قال الشهاب : والمعنى هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله فيصدقها ويستمع للمؤمنين ، فيسلم لهم ما يقولون ، ويصدقهم ، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر ، يسمعون آيات الله ولا يثقون بها ، ويسمعون قول المؤمنين ، ولا يقبلونه وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع أقوالهم إلا شفقة عليهم ، لا أنه يقبلها لعدم تمييزه ، كما زعموا .

وقال القاشاني في ( " تفسيره " ) : كانوا يؤذونه ، صلوات الله عليه ، ويغتابونه بسلامة القلب ، وسرعة القبول والتصديق لما يسمع ، فصدقهم في ذلك وسلم وقال : هو كذلك ، ولكن بالنسبة إلى الخير ، فإن النفس الأبية والغليظة الجافية ، والكزة القاسية التي تتصلب في الأمور ، ولا تتأثر ، غير مستعدة للكمال ، إذ الكمال الإنساني لا يكون إلا بالقبول والتأثر ، فكلما كانت النفس ألين عريكة ، وأسلم قلبا ، وأسهل قبولا ، كانت أقبل للكمال ، وأشد استعدادا له .

وليس هذا اللين هو من باب الضعف والبلاهة الذي يقتضي الانفعال من كل [ ص: 3189 ] ما يسمع ، حتى المحال ، والتأثر من كل ما يرد عليه ويراه ، حتى الكذب والشرور والضلال ، بل هو من باب اللطافة ، وسرعة القبول لما يناسبه من الخير والصدق ، فلذلك قال : قل أذن خير إذ صفاء الاستعداد ، ولطف النفس ، يوجب قبول ما يناسبه من باب الخيرات ، لا ما ينافيه من باب الشرور ، فإن الاستعداد الخيري لا يقبل الشر ، ولا يتأثر به ، ولا ينطبع فيه ، لمنافاته إياه ، وبعده عنه . انتهى .

لطائف :

الأولى : في قوله تعالى : قل أذن خير أبلغ أسلوب في الرد عليهم ، فإنه صدقهم في كونه أذنا ، إلا أنه فسره بما هو مدح له ، وثناء عليه .

قال الناصر : لا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه ، لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة ، ثم كر على طمعهم بالحسم ، وأعقبهم في تنقصه باليأس منه .

ويضاهي هذا من مستعملات الفقهاء ، القول بالموجب ، لأن في أوله إطماعا للخصم بالتسليم ، ثم بتا للطمع على قرب ، ولا شيء أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه . والله الموفق .

الثانية : ( اللام ) في قوله تعالى : ( للمؤمنين ) مزيدة للتفرقة بين الإيمان المشهور ، وهو الاعتراف ، وبين الإيمان بمعنى التسليم والتصديق - قاله أبو السعود تبعا للقاضي ـ .

قال الشهاب : يعني أن الإيمان بالله بمعنى الاعتراف والتصديق ، يتعدى بالباء ، فلذا قال ( بالله ) ، والإيمان للمؤمنين بمعنى جعلهم في أمان من التكذيب بتصديقه لهم ، لما علم من خلوصهم ، متعد بنفسه ، فاللام فيه مزيدة للتقوية .

الثالثة : قال أبو السعود : إسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل ، بعد نسبته إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار ، للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار .

وقوله تعالى : والذين يؤذون رسول الله أي : بما نقل عنهم من قولهم : هو أذن ونحوه لهم عذاب أليم أي : بما يجترئون عليه من إيذانه .

[ ص: 3190 ] قال أبو السعود : وهذا اعتراض مسوق من قبله عز وجل على نهج الوعيد ، غير داخل تحت الخطاب .

وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة مضافا إلى الاسم الجليل ، لغاية التعظيم ، التنبيه على أن أذيته راجعة إلى جنابه عز وجل ، موجبة لكمال السخط والغضب . انتهى .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 62 ] يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين .

يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين

قال الزمخشري : الخطاب للمسلمين ، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ، أو يتخلفون عن الجهاد ، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذرهم ، ويرضوا عنهم ، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين كما تزعمون ، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق . انتهى .

ولما كان الظاهر بعد العطف بالواو التثنية ، وقد أفرد ، وجهوه :

بأن إرضاء الرسول إرضاء لله تعالى لقوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله فلتلازمهما جعلا كشيء واحد ، فعاد عليهما الضمير المفرد ، و : ( أحق ) ، على هذا ، خبر عنهما من غير تقدير .

أو بأن الضمير عائد إلى الله تعالى ، و : ( أحق ) خبره ، لسبقه .

والكلام جملتان ، حذف خبر الجملة الثانية ، لدلالة الأولى عليه ، أي : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك .

[ ص: 3191 ] وسيبويه جعله للثاني ، لأنه أقرب ، مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر كقوله :


نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأي مختلف


أو بأن الضمير لهما بتأيل ما ذكر ، أو كل منهما ، وأنه لم يثن تأدبا لئلا يجمع بين الله وغيره في ضمير تثنية ، وقد نهى عنه ، على كلام فيه .

أو بأن الكلام في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإرضائه ، فيكون ذكر الله تعظيما له وتمهيدا ، فلذا لم يخبر عنه ، وخص الخبر بالرسول . قال الشهاب : وفيه تأمل . انتهى .

وقد عهد لهم القول بمثله في آيات كثيرة ، وجواب الشرط مقدر يدل عليه ما قبله ، وقراءة التاء على الالتفات ، للتوبيخ .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 63 ] ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم .

ألم يعلموا أي : أولئك المنافقون .

قال أبو السعود : والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة ، مع علمهم بسوء عاقبتها .

وقرئ بالتاء على الالتفات ، لزيادة التقريع والتوبيخ أي : ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارع والإنذارات أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها أي : من يخالف الله ورسوله .

قال الليث : حاددته أي : خالفته ، والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة ، واشتقاقه من ( الحد ) ، [ ص: 3192 ] بمعنى الجهة والجانب ، كما أن المشاقة من ( الشق ) بمعناه أيضا ، فإن كل واحد من المتخالفين والمتعاديين في حد وشق ، غير ما عليه صاحبه .

فمعنى : يحادد الله يصير في حد غير حد أولياء الله ، بالمخالفة .

وقال أبو مسلم : المحادة مأخوذة من الحديد ، حديد السلاح .

وقوله تعالى : ذلك الخزي العظيم أي : الذل والهوان الدائم . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 64 ] يحذر المنافقون أن تنـزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون .

يحذر المنافقون أن تنـزل عليهم أي : في شأنهم ، فإن ما نزل في حقهم ، نازل عليهم ( سورة تنبئهم بما في قلوبهم ) أي : من الأسرار الخفية ، فضلا عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق .

ومعنى تنبئتها إياهم بما في قلوبهم ، مع أنه معلوم لهم ، وأن المحذور عندهم اطلاع المؤمنين على أسرارهم ، لا اطلاع أنفسهم عليها أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم ، فتنتشر فيما بين الناس ، فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة ، فكأنها تخبرهم بها .

والمراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم ، كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه ، فتنبئهم بها ، وتنعي عليهم قبائحهم .

وقيل : معنى ( يحذر ليحذر ) ، وقيل : الضميران الأولان للمؤمنين ، والثالث للمنافقين ، ولا يبالي بالتفكيك عند ظهور الأمر بعود المعنى إليه ، أي : يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين . أفاده أبو السعود .

فإن فلت : المنافق كافر ، فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول ؟ أجيب : بأن القوم ، وإن كانوا كافرين بدين الرسول ، إلا أنهم شاهدوا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بما يكتمونه ، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم .

[ ص: 3193 ] وقال الأصم : إنهم كانوا يعرفون كونه رسولا صادقا من الله ، إلا أنهم كفروا به حسدا وعنادا .

وتعقبه القاضي بأن يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه ، أن يكون محادا لهما . لكن قال الرازي : هو غير بعيد ، لأن الحسد إذا قوي في القلب ، صار بحيث ينازع في المحسوسات . انتهى .

وقال أبو مسلم : هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر كل شيء ، ويدعي أنه عن الوحي ، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره ، ولذلك قال تعالى : قل استهزئوا أي : بالله وآياته ورسوله ، أو افعلوا الاستهزاء ، وهو أمر تهديد : إن الله مخرج ما تحذرون أي : مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه من إنزال السورة ، ومن مثالبكم ومخازيكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم ، كقوله تعالى : أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم إلى قوله :

ولتعرفنهم في لحن القول ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة ( الفاضحة ) ، فاضحة للمنافقين .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 65 ] ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون .

ولئن سألتهم أي : عن إتيانهم بتلك القبائح المتضمنة للاستهزاء بما ذكر ، ليقولن أي : في الاعتذار ، إنه لم يكن عن القلب حتى يكون نفاقا وكفرا بل : إنما كنا نخوض أي : ندخل هذا الكلام لترويح النفس ونلعب أي : نمزح قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون أي : في ترويحكم ومزاحكم ، ولم تجدوا لهما كلاما آخر .
[ ص: 3194 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 66 ] لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين .

لا تعتذروا أي : لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة ، فالنهي عن الاشتغال به وإدامته إذ أصله وقع قد كفرتم أي : أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه وباستهزائكم بمقالكم بعد إيمانكم أي : بعد إظهاركم الإيمان .

تنبيه :

قال في ( " الإكليل " ) : قال إلكيا : فيه دلالة على أن اللاعب والجاد في إظهار كلمة الكفر سواء ، وأن الاستهزاء بآيات الله كفر - انتهى - .

قال الرازي : لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف ، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان ، والجمع بينهما محال .

وقال الإمام ابن حزم في ( " الملل " ) : كل ما فيه كفر بالبارئ تعالى ، واستخفاف به ، أو بنبي من أنبيائه ، أو بملك من ملائكته ، أو بآية من آياته عز وجل ، فلا يحل سماعه ، ولا النطق به ، ولا يحل الجلوس حيث يلفظ به . ثم ساق الآية .

وقوله تعالى : إن نعف عن طائفة منكم أي : لتوبتهم وإخلاصهم ، أو تجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين أي : مصرين على النفاق ، أو مقدمين على الإيذاء والاستهزاء .

تنبيه :

روي في صفة استهزاء المنافقين روايات عدة : قال ابن إسحاق : كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ، أخو بني عمرو بن [ ص: 3195 ] عوف ، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشن بن حمير ، ( ويقال مخشي ) ، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا . والله ! لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال ، إرجافا وترهيبا للمؤمنين ، فقال مخشن بن حمير : والله ! لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة ، وأنا نتقلب أن ينزل فينا قرآن ، لمقالتكم هذه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر : « أدرك القوم ، فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ! قلتم : كذا وكذا » . فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت - ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته - : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله عز وجل فيهم : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب

وقال مخشن بن حمير : يا رسول الله ! قعد بي اسمي واسم أبي ، وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيدا لا يعلم بمكانه فقتل بيوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر انتهى .

وقال عكرمة : ممن إن شاء الله تعالى عفا عنه يقول : اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها ، تقشعر منها الجلود ، وتوجل منها القلوب ، اللهم فاجعل وفاتي قتيلا في سبيلك ، لا يقول أحد : أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت .

قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره .

ومما روي في استهزائهم أن رجلا من المنافقين قال : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى النبي صلوات الله عليه وقد ارتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون الآية ، وهو متعلق بسيف الرسول ، وما يلتفت إليه صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 3196 ] قال الزجاج : ( الطائفة ) في اللغة أصلها الجماعة ، لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة . انتهى .

وإيقاع الجمع على الواحد معروف في كلام العرب .

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 67 ] المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون .

المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض أي : متشابهون في النفاق والبعد عن الإيمان ، كتشابه أبعاض الشيء الواحد . والمراد الاتحاد في الحقيقة والصفة . فمن اتصالية .

قال الزمخشري : أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين ، وتكذيبهم في قولهم ويحلفون بالله إنهم لمنكم ، وتقرير قوله : وما هم منكم ، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله : يأمرون بالمنكر كالكفر والمعاصي ، وينهون عن المعروف كالإيمان والطاعات : ويقبضون أيديهم أي : بخلا بالمبرات ، والإنفاق في سبيل الله ، فإن قبض اليد كناية عن الشح والبخل ، كما أن بسطها كناية عن الجود ، لأن من يعطي يمد يده ، بخلاف من يمنع نسوا الله فنسيهم أي : أغفلوا ذكره وطاعته ، فتركهم من رحمته وفضله .

قال الشهاب : معنى : ( نسوا الله ) أنهم لا يذكرونه ولا يطيعونه ، لأن الذكر له مستلزم لإطاعته ، فجعل النسيان مجازا عن الترك ، وهو كناية عن ترك الطاعة ، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم .

[ ص: 3197 ] قال النحرير : جعل النسيان مجازا لاستحالة حقيقته عليه تعالى ، وامتناع المؤاخذة على نسيان البشر .

إن المنافقين هم الفاسقون أي : الكاملون في الفسق ، الذي هو التمرد في الكفر ، والانسلاخ عن كل خير .

وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم ، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول : كسلت ، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله : ( كسالى ) فما ظنك بالفسق ؟ أفاده الزمخشري .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 68 ] وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم .

وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم أي : عقابا وجزاء : ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم أي : لا ينقطع .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 69 ] كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون .

كالذين من قبلكم أي : أنتم مثل الذين أو فعلتم مثلهم ، أي : ممن أنعم عليهم [ ص: 3198 ] ثم عذبوا ، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد كانوا أشد منكم قوة في أنفسهم وأكثر أموالا أي : تفيدهم مزيد قوة ، ومنافع جمة وأولادا أي : تفيدهم مزيد قوة لا تفوت بفوات المال ، ومنافع أخر فاستمتعوا بخلاقهم أي : انتفعوا بنصيبهم ، ثم أعطاكم أيها المنافقون أقل مما أعطاهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أي : دخلتم في الباطل ، كالخوض الذي خاضوه ، أو كالفوج الذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة أي : لم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين ، أما في الآخرة فظاهر ، وأما في الدنيا فما لهم من الذل والهوان وغير ذلك وأولئك هم الخاسرون أي : الذين خسروا الدارين .

روى ابن جريج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده ! لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، وباعا بباع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ أهل الكتاب ؟ قال : « فمن ؟ » وفي رواية قال أبو هريرة :

« اقرءوا إن شئتم القرآن » : كالذين من قبلكم الآية ـ قال أبو هريرة : الخلاق : الدين ـ قالوا : يا رسول الله ! كما صنعت فارس والروم ؟ قال : « فهل الناس إلا هم » ؟
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح - أفاده ابن كثير - .

لطيفة :

قال الزمخشري : فإن قلت : أي فائدة في قوله : فاستمتعوا بخلاقهم ؟ وقوله : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن منه ، كما أغنى قوله : كالذي خاضوا عن [ ص: 3199 ] أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا ؟ قلت : فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ، ورضاهم بها ، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ، ويهجن أمر الراضي به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماحة فعله فتقول : أنت مثل فرعون ، كان يقتل بغير جرم ، ويعذب ويعسف ، وأنت تفعل مثل فعله . وأما : وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه ، مستغن باستناده إليه ، عن تلك التقدمة .

ثم وعظ تعالى المنافقين بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 70 ] ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .

ألم يأتهم أي : بطريق التواتر نبأ أي : خبر الذين من قبلهم وهو إهلاكهم بعد تنعيمهم لكفرهم قوم نوح أنعم عليهم بنعم ، منها تطويل أعمارهم ، ثم أهلكوا بالطوفان وعاد قوم هود ، أنعم عليهم بنعم منها مزيد قوتهم ، ثم أهلكوا بالريح وثمود قوم صالح ، أنعم عليهم بنعم ، منها القصور ، ثم أهلكوا بالرجفة وقوم إبراهيم أهلكوا بالهدم - كذا في ( " التنوير " ) .

وقال المهايمي : أنعم عليهم بنعم منها عظم الملك ، ثم أهلك ملكهم نمرود بالبعوض الداخل في أنفه وأصحاب مدين قوم شعيب ، أنعم عليهم بنعم ، منها التجارة ، ثم أهلكهم بإفاضة النار عليهم والمؤتفكات قريات قوم لوط ، ائتفكت بهم ، أي : انقلبت بهم ، فصار عاليها سافلها ، وأمطروا حجارة من سجيل .

[ ص: 3200 ] وقوله تعالى : أتتهم رسلهم بالبينات استئناف لبيان نبئهم ، أن جاءتهم بالآيات الدالة على رسالتهم فما كان الله ليظلمهم أي : بإهلاكه إياهم ، لأنه أقام عليهم الحجة ، بإرسال الرسل ، وإزاحة العلل .

والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام ، أي : فكذبهم فأهلكهم الله تعالى ، فما ظلمهم بذلك ولكن كانوا أنفسهم يظلمون أي : بالكفر والتكذيب ، وترك شكره تعالى ، وصرفهم نعمه إلى غيره ما أعطاهم إياهم لأجله ، فاستحقوا ذلك العذاب .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 71 ] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم .

والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في مقابلة قوله في المنافقين ، بعضهم من بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة أي : فلا يزالون يذكرونه تعالى ، فهو في مقابلة ما سبق من قوله : نسوا الله

ويؤتون الزكاة بمقابلة قوله : ويقبضون أيديهم ويطيعون الله ورسوله أي : في كل أمر ونهي ، وهو بمقابلة وصف المنافقين ، بكمال الفسق والخروج عن الطاعة : أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم


https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif

ابوالوليد المسلم 10-02-2023 06:04 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3201 الى صـ 3215
الحلقة (387)


[ ص: 3201 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 72 ] وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم .

وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار أي : من تحت شجرها ومسكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن خالدين فيها ومساكن طيبة أي : منازل حسنة تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش ، في جنات عدن أي : إقامة وثبات ويقال : عدن علم لموضع معين في الجنة ، لآثار فيه ، ولما كان ومساكن معطوفا على : ( جنات ) ، قيل : إن المتعاطفين إما أن يتغايرا بالذات ، فيكونوا وعدوا بشيئين ، وهما الجنات بمعنى البساتين ومساكن في الجنة ، فلكل أحد جنة ومسكن ، أو الجنات المقصود بها غير عدن ، وهي لعامة المؤمنين ، وعدن للنبيين عليهم الصلاة والسلام ، والشهداء والصديقين ، وإما أن يتحدا ذاتا ويتغايرا صفة ، فينزل التغاير الثاني منزلة الأول ، ويعطف عليه ، فكل منهما عام ، ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهار والبساتين ، والثاني باعتبار الدور والمنازل .

قال القاضي : فكأنه وصف الموعود أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم ، أول ما يقرع أسماعهم ، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش ، معرى من شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا ، وفيها ما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين .

ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار العليين ، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال : ورضوان من الله أكبر إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة ، وبه يناط نيل كل شرف وسيادة ، لعل عدم نظمه في [ ص: 3202 ] سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موعود ، ولأنه مستمر في الدارين . أفاده أبو السعود .

وإيثار رضوان الله على ما ذكر إشارة إلى إفادة أن قدرا يسيرا منه خير من ذلك .

وقد روى الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة : « يا أهل الجنة ! فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ; وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا » .

وروى المحاملي والبزار عن جابر ، رفعه : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله عز وجل : « هل تشتهون شيئا فأزيدكم ؟ قالوا : يا ربنا ! ما هو خير مما أعطيتنا ؟ قال : رضواني أكبر » .

ذلك هو الفوز العظيم أي : لا ما يعده الناس فوزا من حظوظ الدنيا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 73 ] يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير

يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين قيل : مجاهدة المنافقين بالحجة لا بالسيف .

قال في ( " العناية " ) : ظاهر الآية يقتضي مقاتلة المنافقين ، وهم غير مظهرين للكفر ، ونحن مأمورون بالظاهر ، فلذا فسر الآية السلف بما يدفع ذلك ، بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى ، سواء كان بالقتال أو بغيره ، وهو إن كان حقيقة فظاهر ، وإلا [ ص: 3203 ] حمل على عموم المجاز ، فجهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين بإلزامهم الحجج ، وإزالة الشبه ونحوه ، أو بإقامة الحدود عليهم ، إذا صدر منهم موجبها ، كما روي عن الحسن في الآية .

وقيل عليه بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضا ، وأجيب بأنها في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت عنهم . انتهى .

قال ابن العربي : هذه دعوى لا برهان عليها ، وليس العاصي بمنافق ، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا ، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا ، وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين .

وقال ابن كثير : روي عن علي رضي الله عنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف ، سيف للمشركين : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين وسيف للكفار أهل الكتاب : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية ، وسيف للمنافقين : جاهد الكفار والمنافقين وسيف للبغاة : فقاتلوا التي تبغي الآية ، وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ، وهو اختيار ابن جرير . انتهى .

وفي ( " الإكليل " ) استدل بالآية من قال بقتل المنافقين . انتهى .

واغلظ عليهم أي : اشدد على كلا الفريقين بالقول والفعل ومأواهم جهنم وبئس المصير
[ ص: 3204 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 74 ] يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير .

يحلفون بالله ما قالوا أي : فيك شيئا يسوءك ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي ، وذلك أنه اقتتل رجلان : جهني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار : ألا تنصرون أخاكم ! والله ، ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : ( سمن كلبك يأكلك ) . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية .

وروى الأموي في " مغازيه " عن ابن إسحاق أن الجلاس بن سويد بن الصامت ـ وكان ممن تخلف من المنافقين - لما سمع ما ينزل فيهم قال : والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول ، لنحن شر من الحمير ، فسمعها عمير بن سعد ، وكان في حجره ، فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم علي أن يصله شيئا تكرهه ، ولقد قلت مقالة ، فإن ذكرتها لتفضحني ، ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون علي من الأخرى .

فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ما قال الجلاس ، فلما بلغ ذلك الجلاس ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحلف بالله ما قالها ، فأنزل الله عز وجل فيه : يحلفون بالله الآية ، فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ونزع فأحسن النزوع
.

[ ص: 3205 ] وهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا ، كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مكفرة لهم مما هو من هذا القبيل ، وإن لم يمكنا تعيين شيء منها في هذه الآية .

وقوله تعالى : وهموا بما لم ينالوا قال ابن كثير : قيل أنزلت في الجلاس بن سويد ، وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته ، لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبي صلوات الله عليه .

وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في غزوة تبوك ، في بعض تلك الليالي ، في حال السير ، وكانوا بضعة عشر رجلا .

قال الضحاك : ففيهم نزلت هذه الآية .

قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، أمر مناديا فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد .

فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ، ويسوق به عمار ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، غشوا عمارا ، وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة : « قد ، قد » ، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ، ورجع عمار ! فقال : يا عمار ! هل عرفت القوم ؟ فقال : قد عرفت عامة الرواحل ، والقوم متلثمون .

قال : هل تدري ما أرادوا ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه . فقل : فسار عمار رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « نشدتك بالله ، كم تعلم كان أصحاب العقبة » ؟ قال : أربعة عشر رجلا . فقل : « إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر » .

قال فعدد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة ، قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما علمنا ما أراد القوم .

فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .


وما نقموا أي : ما أنكروا وما عابوا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإنهم كانوا قبل مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة في ظنك من العيش ، فأثروا بالغنائم ، وقتل للجلاس [ ص: 3206 ] مولى ، فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بديته فاستغنى .

والمعنى أن المنافقين عملوا بضد الواجب ، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم ما هموا به ، ولا ذنب إلا تفضله عليهم ، فهو على حد قولهم : ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك ، وقول ابن قيس الرقيات :


ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحملون إن غضبوا


وقول النابغة :


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب


ويقال : نقم من فلان الإحسان ، ( كعلم ) إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة كما في ( " التاج " ) .

ثم دعاهم تعالى إلى التوبة بقوله : فإن يتوبوا أي : من الكفر والنفاق يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا أي : بالقتل والهم والغم والآخرة أي : بالنار وغيرها وما لهم في الأرض من ولي أي : يشفع لهم في دفع العذاب .

ولا نصير أي : فيدفعه بقوته .

[ ص: 3207 ] ثم يبين تعالى بعض من نقم لإغناء الله تعالى إياه بما آتاه من فضله ، ممن نكث في يمينه ، وتولى عن التوبة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 75 ] ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين .

ومنهم من عاهد الله أي : حلف لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين أي : بإعطاء كل ذي حق حقه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 76 ] فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون .

فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا أي : من العهد : وهم معرضون
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 77 ] فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون .

فأعقبهم أي : فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك ، أو فأورثهم البخل نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه أي : من التصدق والصلاح وبما كانوا يكذبون في العهد .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 78 ] ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب .

ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم أي : ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وأن الله علام الغيوب أي : ما غاب عن العباد .

[ ص: 3208 ] تنبيهات :

الأول : قال السيوطي في ( " لباب النقول " ) : أخرج الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في ( " الدلائل " ) بسند ضعيف عن أبي أمامة ، أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ! ادع الله أن يرزقني مالا . قال : « ويحك يا ثعلبة ! قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تطيقه » . قال : والله لئن آتاني الله مالا لأوتين كل ذي حق حقه . فدعا له ، فاتخذ غنما ، فنمت حتى ضاقت عليه أزقة المدينة ، فتنحى بها ، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة فتنحى بها ، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة ، فتنحى بها ، فكان يشهد الجمعة ثم يخرج إليها ، ثم نمت ، فتنحى بها ، فترك الجمعة والجماعات ، ثم أنزل الله على رسوله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فاستعمل على الصدقات رجلين ، وكتب لهما كتابا ، فأتيا ثعلبة ، فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : انطلقا إلى الناس ، فإذا فرغتم فمروا بي ففعلا ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية ، فانطلقا ، فأنزل الله : ومنهم من عاهد الله إلى قوله : يكذبون الحديث .

وأخرج ابن جرير وابن مردويه ، من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه ، وفيه أنه جاء بعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته له : « إن الله منعني أن أقبل منك » ، فجعل التراب على رأسه . فقال : « هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني » ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وكذا عمر وعثمان ، ثم إنه هلك في أيام عثمان .

قال الشهاب : مجيء ثعلبة وحثوه التراب ، ليس للتوبة من نفاقه ، بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين ، وقوله صلوات الله عليه : « هذا عملك » ، أي : جزاء عملك ، وهو عدم إعطائه المصدقين ، مع مقالته الشنعاء .

[ ص: 3209 ] قال الحاكم : إن قيل : كيف لم تقبل صدقته وهو مكلف بالتصدق ؟ أجيب : بأنه يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك ، كيلا يجترئ الناس على نقض العهد ، ومخالفة أمر الله تعالى ، ورد سعاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون لطفا في ترك البخل والنفاق .

الثاني : قال بعض المفسرين من الزيدية : ثمرة الآية وسبب نزولها أحكام :

منها : أن الوفاء بالوعد واجب ، إذا تعلق العهد بواجب ، والعهد إن حمل على اليمين بالله ، فذلك ظاهر ، وإن حمل على النذر ، ففي ذلك تأكيد لما أوجب الله .

ومنها : أن للإمام أن يفعل مثل ذلك لمصلحة ، أي : يمتنع من أخذ الواجب إذا حصل له وجه شابه الوجه الذي حصل في قصة ثعلبة . انتهى .

الثالث : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : فيها أن إخلاف الوعد والكذب من خصال النفاق ، فيكون الوفاء والصدق من شعب الإيمان .

وفيها المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه لقوله : فأعقبهم نفاقا واستدل به قوم على أن من حلف إن فعل كذا فلله علي كذا ، أنه يلزمه .

وآخرون على أن مانع الزكاة يعاقب بترك أخذها منه ، كما فعل بمن نزلت الآية فيه . انتهى .

الرابع : قال الرازي : ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد ، وخلف الوعد ، يورث النفاق ، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه ، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به .

ومذهب الحسن البصري رحمه الله أنه يوجب النفاق لا محالة ، وتمسك فيه بهذه الآية ، وبقوله عليه السلام : « ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » .

[ ص: 3210 ] الخامس : دل قوله تعالى : إلى يوم يلقونه على أن ذلك المعاهد مات منافقا .

قال الرازي : وهذا الخبر وقع مخبره مطابقا له ، فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فقال : « إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك » . وبقي على تلك الحالة ، وما قبل أحد من الخلفاء رضي الله عنهم صدقته حتى مات ، فكان إخبارا عن غيب ، فكان معجزا .

السادس : الضمير في ( يلقونه ) للفظ الجلالة ، والمراد ب ( اليوم ) يوم القيامة ، وله نظائر كثيرة في التنزيل .

وأعرب بعض المفسرين حيث قال : الضمير في ( يلقونه ) إما لله ، والمراد باليوم وقت الموت ، أو للبخل والمراد يوم القيامة والمضاف محذوف ، وهو الجزاء . انتهى .

واللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان لقاء مناسبا لحالهم من وقوفهم للحساب مع حجبهم عنه تعالى ، لأنهم ليسوا أهلا لرؤيته ، تقدس اسمه .

وإذا أضيف إلى المؤمنين ، كما في قوله تعالى : تحيتهم يوم يلقونه سلام كان لقيا مناسبا لمقامهم من رؤيته تعالى ، وذلك لما أفصحت عنه آيات أخر من حال الفريقين ، مما يتنزل مثل ذلك عليها .

فمن وقف في بعض الآيات على لفظة ، وأخذ يستنبط منها ، ولم يراع من استعملت فيه ، وأطلقت عليه ، كان ذلك جمودا وتعصبا ، لا أخذا بيد الحق .

نقول ذلك ردا لقول الجبائي : إن اللقاء في هذه الآية لا يفيد رؤيته تعالى ، للإجماع على أن الكفار لا يرونه تعالى ، فلا يفيدها أيضا في قوله تعالى : تحيتهم يوم يلقونه سلام

وللرازي معه مناقشة من طريق أخرى . وما ذكرناه أمتن . والله أعلم .

السابع : قال الرازي : ( السر ) ما ينطوي عليه صدورهم ، و ( النجوى ) ما يفاوض فيه بعضهم بعضا فيما بينهم ، وهو مأخوذ من النجو ، وهو الكلام الخفي ، كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما ، وتباعدا من غيرهما .

ثم بين تعالى من مساوئ المنافقين نوعا آخر ، وهو لمزهم المتصدقين بقوله سبحانه :
[ ص: 3211 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 79 ] الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم .

الذين يلمزون أي : يعيبون المطوعين أي : المتبرعين من المؤمنين في الصدقات فيزعمون أنهم تصدقوا رياء والذين أي : ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم أي : لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلا ، وهو مقدار طاقتهم .

فيسخرون منهم أي : يهزؤون بهم ، ويقولون إن الله غني عن صدقتهم ، سخر الله منهم أي : جازاهم على سخرهم ولهم عذاب أليم

روى البخاري في " صحيحه " عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت آية الصدقة ، كنا نحامل فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائي . وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا ، فنزلت : الذين يلمزون الآية ، رواه مسلم أيضا .

وروى الإمام أحمد عن أبي السليل ، عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة » ؟ فجاء رجل لم أر رجلا أشد منه سوادا ، ولا أصغر منه ولا آدم ، بناقة لم أر أحسن منها ، فقال : يا رسول الله ، دونك هذه الناقة . قال : فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه ، فوالله لهي خير منه ، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « كذبت ! بل هو خير منك ومنها ثلاث مرات » ، ثم قال : « ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا » ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله .

[ ص: 3212 ] قال ابن إسحاق : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي أخا بني عجلان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة ، وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوها وقالوا : ما هذا إلا رياء .

وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل ، أخا بني أنيف ، أتى بصاع من تمر ، فأفرغها في الصدقة فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل .

وروى الحافظ البزار في مسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا » ، فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله ! عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما لربي ، وألفين لعيالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أمسكت » .

وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال : يا رسول الله ! أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي ، وصاع لعيالي . قال ، فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ، وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله الآية .


وقوله صلى الله عليه وسلم « أريد أن أبعث بعثا » أي : لغزو الروم ، وذلك في غزوة تبوك .

تنبيهات :

الأول : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : في هذه الآية تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين . انتهى .

الثاني : في : الذين يلمزون وجوه الإعراب : خبر مبتدأ بتقدير : ( هم الذين ) أو مفعول أعني أو أذم الذين ، أو مجرور بدل من ضمير : ( سرهم ) ، وجوز أيضا أن يكون [ ص: 3213 ] مبتدأ خبره : سخر الله منهم وقيل : فيسخرون ودخلت ( الفاء ) لما في ( الذين ) من الشبه بالشرط . وأما : ( الذين لا يجدون ) إلخ فقيل : معطوف على : الذين يلمزون وقيل : على : ( المؤمنين ) ، والأحسن أنه معطوف على المطوعين

قال في ( " الفتح " ) : ويكون من عطف الخاص على العام ، والنكتة فيه التنويه بالخاص ، لأن السخرية من المقل أشد من المكثر غالبا .

الثالث : قال في ( " الفتح " ) : قراءة الجمهور : المطوعين بتشديد الطاء والواو . وأصله المتطوعين ، أدغمت التاء في الطاء . انتهى .

أي : لقرب المخرج ، والتطوع التنفل ، وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب .

و ( الجهد ) ، قال الليث : هو شيء قليل يعيش به المقل ، وبضم الجيم قرأ الجمهور . وقرأ ابن هرمز وجماعة بالفتح ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد .

وقيل : المفتوح بمعنى المشقة ، والمضموم بمعنى الطاقة ، وقيل : المضموم قليل يعاش به ، والمفتوح : العمل .

والمختار أنهما بمعنى ، وهو الطاقة وما تبلغه القوة . قال الفراء : الضم لغة أهل الحجاز ، والفتح لغيرهم . والهزء والسخرية بمعنى .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 80 ] استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين .

استغفر لهم أي : لهؤلاء المنافقين أو لا تستغفر لهم أي : فإنهما في حقهما سواء .

ثم بين استحالة المغفرة لهم وإن بولغ في الاستغفار بقوله تعالى : إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك أي : عدم الغفران لهم بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين أي : الخارجين عن حدوده .

[ ص: 3214 ] تنبيهات :

الأول : جملة قوله تعالى : استغفر لهم إلخ ، إنشائية لفظا ، خبرية معنى .

والمراد التسوية بين الاستغفار لهم ، وتركه في استحالة المغفرة .

وتصويره بصورة الأمر ، للمبالغة في بيان استوائهما ، كأنه عليه الصلاة والسلام أمر بامتحان الحال ، بأن يستغفر تارة ، ويترك أخرى ، ليظهر له جلية الأمر ، كما مر في قوله تعالى :

قل أنفقوا طوعا أو كرها وقد وردت بصيغة الخبر في سورة المنافقون في قوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين

الثاني : قال الزمخشري : ( السبعون ) جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير . قال علي بن أبي طالب عليه السلام :


لأصبحن العاص وابن العاصي سبعين ألفا عاقدي النواصي


أي : فذكرها للمبالغة في حسم مادة الاستغفار لهم ، جريا على أساليب العرب في ذكرها للمبالغة لا للتحديد ، بأن يكون ما زاد عليها بخلافها .

وقال أبو السعود : شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير ، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد ، فكأنها العدد بأسره .

وقيل : هي أكمل الأعداد ، لجمعها معانيها ، ولأن الستة أول عدد تام ، لتعادل أجزائها الصحيحة ، إذ نصفها ثلاثة ، وثلثها [ ص: 3215 ] اثنان ، وسدسها واحد ، وجملتها سبعة ، وهي مع الواحد سبعة ، فكانت كاملة ، إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال ، ثم السبعون غاية الكمال ، إذ الآحاد غايتها العشرات ، والسبعمائة غاية الغايات - انتهى .

الثالث : روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما أراد أن يصده عن الصلاة على عبد الله بن أبي : إنما خيرني الله فقال : استغفر لهم الآية ، وسأزيده على السبعين .

فظاهر هذا أن ( أو ) للتخيير ، وأن السبعين له حد يخالفه حكم ما وراءه ، وهو من الإشكال بمكان .

ولذا قال الزمخشري : فإن قلت : كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ؟ والذي يفهم من هذا العدد كثرة الاستغفار ، كيف وقد تلاه بقوله :ذلك بأنهم كفروا الآية ، فبين الصارف عن المغفرة لهم ، حتى قال : قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين .

ثم أجاب الزمخشري بقوله : قلت لم يخف عليه ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه ، كقول إبراهيم عليه السلام : ومن عصاني فإنك غفور رحيم

وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته ، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض . انتهى .

قال الشراح : يعني أنه أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير ، فجوز الإجابة بالزيادة قصدا إلى إظهار الرأفة والرحمة ، كما جعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم جزاء من عصاني أي : لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام .

قوله : فإنك غفور رحيم دون أن يقول : شديد العقاب ، فخيل أنه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم ، وحثا على الاتباع .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 10-02-2023 06:07 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3216 الى صـ 3230
الحلقة (388)



وفهم المعنى الحقيقي من [ ص: 3216 ] لفظ اشتهر مجازه ، لا ينافي فصاحته ، ومعرفته باللسان فإنه لا خطأ فيه ، ولا بعد ، إذ هو الأصل ، ورجحه عنده شغفه بهدايتهم ، ورأفته بهم ، واستعطاف من عداهم .

قال الناصر : وقد أنكر القاضي رضي الله عنه حديث الاستغفار ، ولم يصححه وتغالى قوم في قبوله ، حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة ، وبنوه على أنه عليه السلام فهم من تحديد نفي الغفران بالسبعين ، ثبوت الغفران بالزائد عليه ، وذلك سبب إنكار القاضي عليهم وقيل : لما سوى الله بين الاستغفار وعدمه ، ورتب عليه عدم القبول ، ولم ينه عنه ، فهم أنه خير ومرخص فيه ، وهذا مراده صلى الله عليه وسلم ، لا أنه فهم التخيير من ( أو ) ، حتى ينافي التسوية بينهما ، المرتب عليها عدم المغفرة ، وذلك تطييبا لخاطرهم ، وأنه لم يأل جهدا في الرأفة بهم .

قال الشهاب : والتحقيق أن المراد التسوية في عدم الفائدة ، وهي لا تنافي التخيير ، فإن ثبت فهو بطريق الاقتضاء ، لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما ، فلا بد من أحدهما ، فقد يكون في الإثبات كقوله تعالى : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لأنه مأمور بالتبليغ ، وقد يكون في النفي كما هنا ، وفي قوله : سواء عليهم أستغفرت لهم الآية ، فهو محتاج إلى البيان ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنه رخص لي » ، ولعله رخص له في ابن أبي لحكمة ، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول . انتهى .

وقال الحافظ ابن حجر في ( " الفتح " ) : روى عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لأزيدن على السبعين » ، فأنزل الله تعالى : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم

ثم قال : ويحتمل أن تكون الأيتان معا نزلتا في ذلك . انتهى .

ثم أشار تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين وهو جعلهم الفرح مكان الحزن ، والكراهة مكان الرضا . بقوله سبحانه :
[ ص: 3217 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 81 ] فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون .

فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله المخلفون : هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ، فأذن لهم في التخلف كما قلنا ، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك .

وإيثار : ( المخلفون ) على ( المتخلفون ) ، لأنه صلى الله عليه وسلم منع بعضهم من الخروج ، فغلب على غيرهم ، أو المراد من خلفهم كسلهم أو نفاقهم ، أو لأن الشيطان أغراهم بذلك ، وحملهم عليه .

وقوله تعالى : بمقعدهم متعلق ب ( فرح ) ، أي : بقعودهم عن غزوة تبوك . ف ( مقعد ) على هذا ، مصدر ميمي ، أو هو اسم مكان ، والمراد به المدينة .

وقوله : خلاف رسول الله أي : خلفه ، وبعد خروجه ، حيث خرج ولم يخرجوا .

ف خلاف ظرف بمعنى خلف وبعد .

يقال : فلان أقام خلاف الحي أي : بعدهم ، ظعنوا ولم يظعن ، ويؤيده قراءة من قرأ : ( خلف رسول الله ) ، فانتصابه على أنه ظرف ل ( مقعدهم ) ، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك .

قال الشهاب : واستعمال ( خلاف ) بمعنى ( خلف ) ، لأن جهة الخلف خلاف الأمام ، وجوز أن يكون ( الخلاف ) بمعنى ( المخالفة ) ، فهو مصدر ( خالف ) ، كالقتال ، ويعضده قراءة من قرأ ( خلف رسول الله ) بضم الخاء ، وفي نصبه وجهان :

الأول : أنه مفعول له ، والعامل إما ( فرح ) ، أي : فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود ، وإما ( مقعدهم ) ، لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم ، فهو علة إما للفرح أو للقعود .

[ ص: 3218 ] والثاني : أنه حال ، والعامل أحد المذكورين ، أي : فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم بالقعود ، أو فرحوا بالقعود مخالفين له .

وقوله تعالى : وكرهوا إلخ أي : لما في قلوبهم من مرض النفاق .

قال أبو السعود : وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال : وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو ، إيذانا بأن الجهاد في سبيل الله ، مع كونه من أجل الرغائب ، وأشرف المطالب ، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح ، الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الزمخشري : في قوله تعالى : وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم تعريض بالمؤمنين ، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى ، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى ، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض ـ أي : ( الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب ) ـ وكره ذلك المنافقون ، وكيف لا يكرهونه ؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان ، وداعي الإيقان .

قال الشهاب : ووجه التعريض ظاهر ، لأن المراد كرهوه ، لا كالمؤمنين الذين أحبوه .

وقوله تعالى : وقالوا لا تنفروا في الحر أي : قالوا لإخوانهم لا تنفروا إلى الجهاد في الحر ، فإنه لا يستطاع شدته .

وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، وذلك تثبيتا لهم على التخلف ، وتواصيا فيما بينهم بالشر والفساد ، أو قالوا للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد ، ونهيا عن المعروف ، وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود وكراهية الجهاد ، ونهي الغير عن ذلك - أفاده أبو السعود - .

وقوله تعالى : قل أي : ردا عليهم وتجهيلا لهم : نار جهنم أي : التي ستدخلونها [ ص: 3219 ] بما فعلتم : أشد حرا أي : مما تحذرون من الحر المعهود ، وتحذرون الناس منه ، فما لكم لا تحذرونها ، وتعرضون أنفسكم لها ، بإيثار القعود على النفير .

وقوله تعالى : لو كانوا يفقهون اعتراض تذييلي من جهته تعالى ، غير داخل تحت القول المأمور به ، مؤكد لمضمونه .

وجواب ( لو ) إما مقدر ، أي : لو كانوا يفقهون أنها كذلك ، أو كيف هي ، أو أن مآلهم إليها لما فعلوا ما فعلوا ، أو لتأثروا بهذا الإلزام ، وإما غير منوي ، على أن لو لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها ، أي : لو كانوا من أهل الفقه الفطانة ، كما في قوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

كذا في ( أبي السعود ) .

تنبيهان :

الأول : قال الزمخشري : قوله تعالى : قل نار جهنم إلخ ، استجهال لهم ، لأن من تصون من مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل . ولبعضهم :


مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أريها شبه الصاب

فكيف بأن تلقي مسرة ساعة
وراء تقضيها مساءة أحقاب


- انتهى -

[ ص: 3220 ] أي : فهم كما قال الآخر :


كالمستجير من الرمضاء بالنار


وقال آخر :


عمرك بالحمية أفنيته خوفا من البارد والحار


وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار


الثاني : روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءا » ، زاد الإمام أحمد : « من نار جهنم » .

وروى الشيخان عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة ، لمن له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه ، وإنه أهونهم عذابا » .

ثم أخبر تعالى عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل ، والبكاء الطويل ، المؤدي إليه أعمالهم السيئة ، التي من جملتها ما ذكر من الفرح ، بقوله سبحانه :
[ ص: 3221 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 82 ] فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون .

فليضحكوا قليلا أي : ضحكا قليلا ، أو زمانا قليلا ، غايته مدة حياتهم وليبكوا كثيرا أي : بكاء ، أو زمانا كثيرا ، بعد الموت ، أبد الآباد جزاء بما كانوا يكسبون أي : بفرحهم بمخالفة الله ورسوله ، من الكفر والمعاصي العظائم .

لطائف :

الأولى : سر إخراج حالهم الدنيوي والأخروي على صيغة الأمر ، الدالة على تحتم وقوع المخبر به ، فإنه أمر الآمر المطاع مما لا يكاد يتخلف عنه المأمور به ، فإن قيل : إنهم ذكروا أنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة ، لاقتضائه تحقق المأمور به ، فالخبر آكد ، فما باله عكس هنا ؟

فالجواب : لا منافاة بينهما ، لأن لكل مقام مقالا ، والنكت لا تتزاحم ، فإذا عبر عن الأمر بالخبر ، لإفادة أن المأمور ، لشدة امتثاله ، كأنه وقع منه ذلك ، وتحقق قبل الأمر كان أبلغ .

وإذا عبر عن الخبر بالأمر كأنه لإفادة لزومه ووجوبه ، فكأنه مأمور به ، أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى .

الثانية : الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في قوله : ( بما كانوا يكسبون ) دلالة على الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا .

الثالثة : ( جزاء ) مفعول له للفعل الثاني ، أي : ليبكوا جزاء ، أو مصدر حذف ناصبه ، أي : يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء .

ولما جلى سبحانه ما جلى من أمرهم ، فرع عليه قوله :
[ ص: 3222 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 83 ] فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين .

فإن رجعك الله أي : ردك من غزوة تبوك إلى طائفة منهم أي : من المنافقين المتخلفين في المدينة فاستأذنوك للخروج معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك ، دفعا للعار السابق فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة أي : فخذلكم الله ، وسقطتم عن نظره ، بل غضب عليكم ، وألزمكم العار .

فاقعدوا مع الخالفين أي : من النساء والصبيان دائما .

لطائف :

قوله تعالى : لن تخرجوا معي أبدا إخبار في معنى النهي للمبالغة ، وذكر القتال لأنه المقصود من الخروج ، فلو اقتصر على أحدهما كفى إسقاطا لهم عن مقام الصحبة ، ومقام الجهاد ، أو عن ديوان الغزاة ، وديوان المجاهدين ، وإظهارا لكراهة صحبتهم ، وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند ، أو ذكر الثاني للتأكيد ، لأنه أصرح في المراد ، والأول لمطابقته لسؤاله كقوله :


أقول له ارحل لا تقيمن عندنا


فهو أدل على الكراهة لهم - أفاده الشهاب - .

قال أبو السعود فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين ، ولزهم في قرن الخالفين ، عقوبة لهم أي عقوبة .

ثم قال : وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث ، هو الأكثر الدائر على الألسنة . فإنك لا تكاد تسمع قائلا يقول : هي كبرى امرأة ، أو أولى مرة .
[ ص: 3223 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 84 ] ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون .

ولا تصل على أحد منهم مات أبدا قال المهايمي : لأنها شفاعة ، ولا شفاعة في حقهم ولا تقم على قبره أي : لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء .

قال الشهاب : القبر مكان وضع الميت ، ويكون بمعنى الدفن ، وجوز هنا .

إنهم كفروا بالله ورسوله في الحياة في الباطن وماتوا وهم فاسقون أي : خارجون عن الإيمان الظاهر ، الذي كانوا به في حكم المؤمنين .

تنبيهات :

الأول : روى الشيخان في سبب نزول الآية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما توفي عبد الله ابن أبي ، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر ، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! تصلي عليه ، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما خيرني الله فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيده على السبعين » . قال : إنه منافق . قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل آية : ولا تصل على أحد منهم إلخ .


[ ص: 3224 ] قال الحافظ أبو نعيم : وقع في رواية في قول عمر : ( أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين ؟ ) ، ولم يبين محل النهي ، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري : وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم ، ولفظه : وقد نهاك الله أن تستغفر لهم . انتهى .

يعني في قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى فإنها نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم : « لأستغفرن لك ، ما لم أنه عنك » . وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا ، ووفاة عبد الله بن أبي في ذي القعدة ، سنة تسع بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك . كذا في ( " فتح الباري " ) .

ووقع في مسند الإمام أحمد ما تقدم من حديث عمر نفسه .

قال عمر : لما توفي عبد الله بن أبي دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام عليه ، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه ، تحولت حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله ! أعلى عدو الله : عبد الله بن أبي القائل يوم كذا ، كذا وكذا ؟ يعدد أيامه ، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : « أخر عني يا عمر ، إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي : استغفر لهم الآية ، لو أعلم أني لو زدت على السبعين ، غفر له ، لزدت » .

قال : ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره ، حتى فرغ منه . قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم .

قال : فوالله ! ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية ، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ، ولا قام على قبره ، حتى قبضه الله عز وجل .


[ ص: 3225 ] ورواه البخاري والترمذي أيضا .

وروى الإمام أحمد عن جابر قال : لما مات عبد الله بن أبي ، أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إنك إن لم تأته لم نزل نعير به ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال : « أفلا قبل أن تدخلوه ؟ » فأخرج من حفرته ، وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه ، وألبسه قميصه . ورواه النسائي ، وروى نحوه البخاري والبزار في مسنده ، وزاد : فأنزل الله الآية .

زاد ابن إسحاق في " المغازي " بسنده قال : فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله ، ولا قام على قبره .

وقد روى الإمام أحمد عن أبي قتادة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها ، فإن أثني عليها خير قام فصلى عليها ، وإن كان غير ذلك ، قال لأهلها : « شأنكم بها » . ولم يصل عليها .

الثاني : إنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على أحدهم إذا مات ، لأن صلاة الميت دعاء واستغفار واستشفاع له ، والكافر ليس بأهل لذلك .

[ ص: 3226 ] الثالث : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : في قوله تعالى : ولا تصل على أحد منهم الآية ، تحريم الصلاة على الكافر ، والوقوف على قبره ، وأن دفنه جائز ، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ، ومشروعية الوقوف على قبره ، والدعاء له ، والاستغفار . انتهى .

قال عثمان رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت ، وقف عليه وقال : « استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل » . - انفرد بإخراجه أبو داود - .

الرابع : قال الحافظ ابن حجر في ( " الفتح " ) ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين ، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم .

قال الواقدي : أنبأنا معمر عن الزهري قال حذيفة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني مسر إليك سرا ، فلا تذكره لأحد ، إني نهيت أن أصلي على فلان ، رهط ذوي عدد من المنافقين » .

قال ، فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة ، فإن مشى معه ، وإلا لم يصل عليه .

ومن طريق أخرى ، عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر رجلا .

وقال حذيفة مرة : إنه لم يبق منهم غير رجل واحد . ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك ، أن الله علم أنهم يموتون على الكفر ، بخلاف من سواهم ، فإنهم تابوا . انتهى .

ثم بين تعالى أن دوام غضبه عليهم لا ينافي إعطاءهم الأموال والأولاد ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 85 ] ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون .

ولا تعجبك أموالهم وأولادهم أي : لأنه لم يرد الله الإنعام عليهم بها ، ليدل على [ ص: 3227 ] رضاه عنهم ، بل الانتقام منهم ، قال : إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا أي : بالمشقة في تحصيلها وحفظها والحزن عليها وتزهق أنفسهم وهم كافرون أي : فيموتون كافرين غافلين عن التدبر في العواقب .

وقد تقدمت الآية في هذه السورة مع تغاير في ألفاظها .

قال الزمخشري : أعيد قوله : ولا تعجبك لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ، ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهم ، يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين ، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يحب أن يحذر منه . انتهى .

وقال الفارسي : ليست للتأكيد ، لأن تيك في قوم وهذه في آخرين . وقد تغاير نطقها ، فهنا : ( ولا ) ، بالواو لمناسبة عطف نهي على نهي قبله في قوله : ولا تصل إلخ ، فناسب الواو ، وهناك بالفاء لمناسبة التعقيب لقوله قبله :

ولا ينفقون إلا وهم كارهون أي : للإنفاق . فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد ، فنهى عن الإعجاب المتعقب له . وهنا : وأولادهم ، دون ( لا ) ، لأنه نهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادة لا ، لأنه نهى كل واحد واحد ، فدل مجموع الآيتين على النهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين ، وهنا : أن يعذبهم وهناك ( ليعذبهم ) بلام التعليل وحذف المفعول ، أي : إنما يريد اختيارهم بالأموال والأولاد ، وهنا المراد التعذيب ، فقد اختلف متعلق الإرادة فيهما ظاهرا ، وهناك : في الحياة الدنيا وهنا : في الدنيا تنبيها على أن حياتهم كلا حياة فيها ، وناسب ذكرها بعد الموت ، فكأنهم أموات أبدا . انتهى .

وقوله تعالى :
[ ص: 3228 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 86-87 ] وإذا أنـزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون .

وقوله تعالى :

وإذا أنـزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون إنكار وذم للمتخلفين عن الجهاد ، الناكلين عنه ، مع وجود الطول الذي هو الفضل والسعة ، وإخبار بسوء صنيعهم ، إذ رضوا بالعار والقعود مع الخوالف ، لحفظ البيوت ، وهن النساء ، وذلك لإيثارهم حب المال على حب الله ، وأنه بسبب ذلك وطبع على قلوبهم أي : ختم عليها فهم لا يفقهون أي : ما في حب الله والتقرب إليه بالجهاد من الفوز والسعادة ، وما في التخلف من الشقاء والهلاك فوائد :

الأولى : قال الزمخشري : يجوز أن يراد السورة بتمامها ، وأن يراد بعضها ، في قوله : وإذا أنـزلت سورة كما يقع ( القرآن ) و ( الكتاب ) على كله وعلى بعضه .

وقيل : هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد . انتهى .

وقيل : المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد .

قال الشهاب : وهذا أولى وأفيد ، لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مر . وقد قيل : إن ( إذا ) تفيد التكرار بقرينة المقام لا بالوضع ، وفيه كلام مبسوط في محله .

[ ص: 3229 ] الثانية : إنما خص ذوي الطول ، لأنهم المذمومون ، وهم من له قدرة مالية ، ويعلم منه البدنية أيضا بالقياس .

الثالثة : الخوالف : جمع خالفة ، وهي المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال ، والمراد ذمهم وإلحاقهم بالنساء ، كما قال :


كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول


والخالفة تكون بمعنى من لا خير فيه ، والتاء فيه للنقل للاسمية ، فإن أريد هاهنا ، فالمقصود من لا فائدة فيه للجهاد .

وجمع على فواعل على الوجهين : أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلتأنيث لفظه ، لأن فاعلا لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور ، إلا شذوذا ، كنواكس ، أفاده الشهاب .

ثم بين تعالى ما للمؤمنين من الثناء الحسن ، والمثوبة الحسنى ضد أولئك ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 88 ] لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون .

لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم أي : في سبيل الله ، لغلبة حب الله عليهم ، على حب الأموال والأنفس وأولئك لهم الخيرات أي : منافع الدارين ، النصر والغنيمة في الدنيا ، والجنة والكرامة في العقبى وأولئك هم المفلحون أي : الفائزون بالمطلوب .
[ ص: 3230 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 89 ] أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم .

أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم أي : الذي لا فوز وراءه .

ثم بين تعالى أحوال منافقي الأعراب ، إثر بيان منافقي أهل المدينة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 90 ] وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم .

وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم أي : في ترك الجهاد ، وهم أحياء ممن حول المدينة . و : المعذرون فيه قراءتان ، التشديد والتخفيف ، والمشددة لها تفسيران :

أحدهما : من ( عذر في الأمر ) إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد ، فتكلف العذر ، فعذره باطل .

والثاني : من ( اعتذر ) ، وهو محتمل لأن يكون عذره باطلا وحقا ، وأصله عليهما ، ( معتذرون ) نقلت فتحة التاء إلى العين ، وقلبت التاء ذالا ، وأدغمت فيها .

وأما التخفيف فهي من أعذر إذا كان له عذر ، وهم صادقون على هذا .

وقوله تعالى : وقعد الذين كذبوا الله ورسوله أي : في دعوى الإيمان ، وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ، ولم يعتذروا ، بل قعدوا من قلة المبالاة بالله ورسوله .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 10-02-2023 06:10 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3231 الى صـ 3245
الحلقة (389)



ثم أوعدهم تعالى بقوله : سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم الضمير في ( منهم ) إما للأعراب مطلقا ، فالذين كفروا منافقوهم ، أو أعم ، وإما للمعذرين ، فإن [ ص: 3231 ] منهم من اعتذر لكسله ، لا لكفر ، وجوز أن يكون المعنى بالذين كفروا منهم ، المصرون على الكفر .

ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه ، وما هو عارض عن له بسبب مرض شغله عن الخروج في سبيل الله ، أو بسبب عجزه عن التجهز للحرب ، وبدأ بالأول فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 91 ] ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم .

ليس على الضعفاء وهم العاجزون مع الصحة ، عن العدو ، وتحمل المشاق ، كالشيخ والصبي ، والمرأة والنحيف ولا على المرضى أي : العاجزين بأمر عرض لهم ، كالعمى والعرج والزمانة ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون أي : ولا على الأقوياء والأصحاء الفقراء ، والعاجزين عن الإنفاق في السفر والسلاح ، حرج أي : إثم في القعود ، والحرج أصل معناه الضيق ، ثم استعمل للذنب ، وهو المراد : إذا نصحوا لله ورسوله أي : أخلصوا الإيمان والعمل الصالح ، فلم يرجفوا ، ولم يثيروا الفتن وأوصلوا الخيرات للجاهدين ، وقاموا بصالح بيوتهم .

وقوله تعالى : ما على المحسنين من سبيل استئناف مقرر لمضمون ما سبق ، أي : ليس عليهم جناح ، ولا إلى معاتبتهم سبيل ، و ( من ) مزيدة للتأكيد ، ووضع ( المحسنين ) موضع الضمير ، للدلالة على انتظامهم ، بنصحهم لله ورسوله ، في سلك المحسنين ، أو تعليل لنفي الحرج عنهم ، أي : ما على جنس المحسنين من سبيل ، وهم من جملتهم أفاده أبو السعود .

[ ص: 3232 ] قال الشهاب : ( ليس على محسن سبيل ) ، كلام جار مجرى المثل ، وهو إما عام ، ويدخل فيه من ذكر ، أو مخصوص بهؤلاء ، فالإحسان : النصح لله والرسول ، والإثم المنفي إثم التخلف ، فيكون تأكيدا لما قبله بعينه على أبلغ وجه ، وألطف سبك ، وهو من بليغ الكلام ، لأن معناه لا سبيل لعاتب عليه ، أي : لا يمر به العاتب ، ويجوز في أرضه ، فما أبعد العتاب عنه ! فتفطن للبلاغة القرآنية كما قيل :


سقيا لأيامنا التي سلفت إذ لا يمر العذول في بلدي


وقوله تعالى : والله غفور رحيم تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر ، مشير إلى أن بهم حاجة إلى المغفرة ، وإن كان تخلفهم بعذر - أفاده أبو السعود ـ .

أي : لأن المرء لا يخلو من تفريط ما ، فلا يقال إنه نفى عنهم الإثم أولا ، فما الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب ؟ أفاده الشهاب .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 92 ] ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون .

ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم عطف على : ( المحسنين ) ، أو على ( الضعفاء ) أي : لتعطيهم ظهرا يركبونه إلى الجهاد معك قلت أي : لهم لا أجد ما أحملكم عليه أي : إلى الجهاد .

قوله تعالى : تولوا جواب ( إذا ) ، أي : خرجوا من عندك وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون أي : في الحملان ، فهؤلاء وإن كانت لهم قدرة على تحمل المشاق ، فما عليهم من سبيل أيضا .

[ ص: 3233 ] تنبيهات :

الأول : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : في قوله تعالى : ليس على الضعفاء إلخ رفع الجهاد عن الضعيف والمريض ، ومن لا يجد نفقة ولا أهبة للجهاد ولا محملا . انتهى .

وقال بعض الزيدية : هذه الآية الكريمة قاضية بنفي الحرج ، وهو الإثم على ترك الجهاد لهذه الأعذار ، بشرط النصيحة لله ولرسوله ، أي : بأن يريد لهم ما يريد لنفسه .

- عن أبي مسلم - .

الثاني : قال الحاكم : في الآية دلالة على أن النصح في الدين واجب ، وأنه يدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والشهادات والأحكام والفتاوى وبيان الأدلة .

الثالث : قال ابن الفرس : يستدل بقوله تعالى : ما على المحسنين من سبيل على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها .

وقال بعض الزيدية : يدل على أن المستودع والوصي والملتقط ، لا ضمان عليهم مع عدم التفريط ، وأنه لا يجب عليهم الرد ، بخلاف المستعير .

الرابع : دل قوله تعالى : ولا على الذين إلخ ، على أن العادم للنفقة ، الطالب للإعانة ، إذا لم تحصل له ، فلا حرج عليه ، وفيه إشارة إلى المعونة إذا بدلت له من الإمام ، لزمه الخروج .

الخامس : دلت الآية على جواز البكاء وإظهار الحزن على فوات الطاعة، وإن كان معذورا .

السادس : قوله تعالى : تفيض من الدمع أبلغ من يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض ، ومن للبيان ، كقولك : أفديك من رجل . ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز - أفاده الزمخشري - .

السابع : روى ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب ( براءة ) ، فإني لواضع القلم على أذني ، إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فنزلت : ليس على الضعفاء الآية .

[ ص: 3234 ] وروى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه ، فيهم عبد الله بن مغفل بن مقرن المزني ، فقالوا : يا رسول الله ! احملنا . فقال لهم : « والله ! لا أجد ما أحملكم عليه » فتولوا وهم يبكون ، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملا ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل عذرهم في كتابه ، فقال : ليس على الضعفاء

وروى الإمام أحمد عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد خلفتم بالمدينة رجالا ، ما قطعتم واديا ، ولا سلكتم طريقا ، إلا أشركوكم في الأجر ، حبسهم المرض » . ورواه مسلم .

ثم رد تعالى الملامة على المستأذنين في القعود وهم أغنياء ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 93 ] إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون .

إنما السبيل أي : بالعتاب والعقاب على الذين يستأذنونك وهم أغنياء أي : قادرون على تحصيل الأهبة رضوا بأن يكونوا مع الخوالف أي : من النساء والصبيان وسائر أصناف العاجزين ، أي : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف .

قال المهايمي : وهذا الرضا ، كما هو سبب العتاب ، فهو أيضا سبب العقاب ، لأنه لما كان عن قلة مبالاتهم بالله ، غضب الله عليهم وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون أي : ما يترتب عليه من المصائب الدينية والدنيوية ، أو لا يعلمون أمر الله فلا يصدقون .

[ ص: 3235 ] لطيفة :

قال الشهاب : اعلم أن قولهم : لا سبيل عليه ، معناه : لا حرج ولا عتاب ، وأنه بمعنى لا عاتب يمر عليه ، فضلا عن العتاب ، وإذا تعدى ب ( إلى ) كقوله :


ألا ليت شعري هل إلى أم سالم سبيل ؟ فأما الصبر عنها فلا صبر


فبمعنى الوصول كما قال :


هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج


ونحوه ، فتنبه لمواطن استعماله ، فإنه من مهمات الفصاحة . انتهى .

ثم أخبر تعالى عما سيتصدون له عند القفول من تلك الغزوة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 94 ] يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .

يعتذرون إليكم إذا رجعتم أي : سدا للسبيل عليهم في التخلف : قل لا تعتذروا أي : لظهور كذبكم ، إذ لم يمنعكم فقر ولا مرض ، ولا يفيدكم الاعتذار لن نؤمن لكم أي : لن نصدق قولكم .

وقوله تعالى : قد نبأنا الله من أخباركم [ ص: 3236 ] تعليل لانتفاء التصديق ، أي : أعلمنا بالوحي من أسراركم ونفاقكم ، وفسادكم ما ينافي التصديق وسيرى الله عملكم ورسوله أي : من الرجوع عن الكفر ، أو الثبات عليه ، علما يتعلق به الجزاء ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة أي : للجزاء بما ظهر منكم ، من الأعمال ووضع المظهر موضع المضمر ، لتشديد الوعيد ، وأنه تعالى مطلع على سرهم وعلنهم ، لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم ، فيجازيهم على حسب ذلك .

قال في ( " النبراس " ) : المراد بالغيب ما غاب عن العباد ، أو ما لم يعلمه العباد ، أو ما يكون ، وبالشهادة ما علمه العباد ، أو ما كان .

فينبئكم أي : يخبركم بما كنتم تعملون أي : في الدنيا ، قبل إعلامهم به .

وذكره لهم للتوبيخ .

قال أبو السعود : المراد بالتنبئة بذلك ، المجازاة به ، وإيثارها عليها ، لمراعاة ما سبق من قوله تعالى : قد نبأنا الله إلخ ، فإن المنبأ به الأخبار المتعلقة بأعمالهم ، وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم ، وإنما يعلمونها حينئذ .

ثم أخبر تعالى عما سيؤكدون به معاذيرهم ، من أيمانهم الفاجرة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 95 ] سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون .

سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم أي : فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم .

فأعرضوا عنهم أي : فأعطوهم طلبتهم إنهم رجس تعليل لترك معاتبتهم ، يعني أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم ، وإنما يعاتب الأديم ذو البشرة ، والمؤمن [ ص: 3237 ] يوبخ على زلة تفرط منه ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار ، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم - أفاده الزمخشري - .

وقال الشهاب : يعني أنهم يتركون ، ويجتنب عنهم كما تجتنب النجاسة ، وهم طلبوا إعراض الصفح ، فأعطوا إعراض مقت .

وقوله تعالى : ومأواهم جهنم من تمام التعليل ، فالعلة نجاسة جبلتهم التي لا يمكن تطهيرها ، لكونهم من أهل النار ، فاللوم يغريهم ولا يجديهم ، والكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل ، أو تعليل ثان يعني وكفتهم النار عتابا وتوبيخا ، فلا تكلفوا عتابهم .

وقوله تعالى : جزاء بما كانوا يكسبون يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون علة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 96 ] يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين .

يحلفون لكم بل مما سبق ، وعدم ذكر المحلوف به لظهوره ، أي : يحلفون به تعالى : لترضوا عنهم أي : باعتقاد طهارة ضمائرهم وإخلاصهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين فيه تبعيد عن الرضا عنهم على أبلغ وجه وآكده ، فإن الرضا عمن لا يرضى الله تعالى عنه ، مما لا يكاد يصدر عن المؤمن .

ثم أشار تعالى إلى أن منافقي الأعراب أشد رجسا فلا يغتر بحلفهم ، وإن لم يكذبهم الوحي ، فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 97 ] الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله والله عليم حكيم .

الأعراب وهم أهل البدو أشد كفرا ونفاقا أي : من أهل الحضر ، لجفائهم [ ص: 3238 ] وقسوتهم وتوحشهم ، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ، ومعرفة الكتاب والسنة : وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله أي : وأحق بجهل حدود الدين ، وما أنزل الله من الشرائع والأحكام والله عليم أي : يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر حكيم أي : فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ، مخطئهم ومصيبهم ، من عقابه وثوابه .

لطائف :

الأولى : قال الشهاب : العرب ، هذا الجيل المعروف مطلقا ، والأعراب سكان البادية منهم ، فهو أعم .

وقيل : العرب سكان المدن والقرى ، والأعراب سكان البادية من العرب ، أو مواليهم ، فهما متباينان ، ويفرق بين جمعه وواحده بالياء فيهما .

الثانية : ما ذكر في الآية من أجدرية جهل الأعراب من بعدهم عن سماع الشرائع ، وملابسة أهل الحق ، يشير إلى ذم سكان البادية وهو يطابق ما رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من سكن البادية جفا » ، وتتمته : « ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إن الجفاء والقسوة في الفدادين » .

قال ثعلب : الفدادون أصحاب الوبر ، لغلظ أصواتهم ، وهم أصحاب البادية ، ويقال : من صحب الفدادين ، فلا دنيا نال ولا دين .

مأخوذ من ( الفديد ) ، وهو رفع الصوت أو شدته .

[ ص: 3239 ] قال ابن كثير : ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي ، لم يبعث الله منهم رسولا ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى ، كما قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى

ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرد عليه أضعافها حتى رضي قال : « لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي » ، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة والطائف والمدينة واليمن ، فهم ألطف أخلاقا من الأعراب ، لما في طباع الأعراب من الجفاء .

الثالثة : روى الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم ( نهاوند ) ، فقال الأعرابي : والله ! إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني ! فقال زيد : ما يريبك من يدي ، إنها الشمال ؟ فقال الأعرابي : والله ! ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال ؟ فقال زيد بن صوحان : صدق الله : الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله .

ثم أشار تعالى إلى فريق آخر من منافقي الأعراب ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 98 ] ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم .

ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما أي : يعد ما يصرفه في سبيل الله ، ويتصدق به صورة ، غرامة وخسرانا ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله عز وجل ، وابتغاء المثوبة عنده .

والغرامة والمغرم والغرم ( بالضم ) : ما ينفقه المرء من ماله وليس يلزمه ، ضررا محضا وخسرانا .

وقال الراغب : الغرم ما ينوب الإنسان في ماله من [ ص: 3240 ] ضرر لغير جناية منه ، ويتربص بكم الدوائر أي : ينتظر بكم دوائر الدهر ـ جمع ( دائرة ) وهي النكبة والمصيبة تحيط بالمرء ـ ، فتربص الدوائر ، انتظار المصائب ، ليقلب أمر المسلمين ويتبدل ، فيخلصوا مما عدوه مغرما عليهم دائرة السوء اعتراض بالدعاء عليهم ، بنحو ما يتربصونه ، أو إخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم .

قال الشهاب : الدائرة اسم للنائبة ، وهي بحسب الأصل مصدر ، كالعافية والكاذبة ، أو اسم فاعل بمعنى عقبة دائرة ، والعقبة أصلها اعتقاب الراكبين وتناوبهما .

ويقال : للدهر عقب ونوب ودول ، أي : مرة لهم ومرة عليهم .

و ( السوء ) يقرأ بضم السين وهو الضرر ، وهو مصدر في الحقيقة . يقال : سؤته سوءا ومساءة ومسائية ، ويقرأ بفتح السين وهو الإفساد والرداءة - قاله أبو البقاء - .

والله سميع أي : لما يقولونه عند الإنفاق مما لا خير فيه عليم أي : بما يضمرونه من الأمور الفاسدة التي منها تربصهم الدوائر . وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى .

ثم نوه تعالى بمؤمني الأعراب الصادقين ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 99 ] ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم .

ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله امتثالا لأمره ، وترجيحا لحبه ، وقطعا لحب ما سواه .

و : قربات مفعول ثان ل ( يتخذ ) ، وجمعها باعتبار أنواعها ، أو أفرادها .

قال الشهاب : القربة ( بالضم ) ، ما يتقرب به إلى الله ، ونفس التقرب ، فعلى الثاني [ ص: 3241 ] يكون معنى اتخاذها سببا له ، على التجوز في النسبة أو التقدير .

و : عند الله صفة ل قربات أي : ظرف ل ( يتخذ ) وصلوات الرسول أي : سبب دعواته بالرحمة المكملة لقصوره ، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم صل على آل أبي أوفى » ألا إنها قربة لهم الضمير لما ينفق ، والتأنيث باعتبار الخير ، والتنكير للتفخيم ، أي : قربة عظيمة جامعة لأنواع القربات ، يكملها الله بدعوة الرسول ، ويزيد على مقتضاها بما أشار إليه بقوله : سيدخلهم الله في رحمته أي : جنته .

إن الله غفور يستر عيب المخل : رحيم يقبل جهد المقل .

قال الزمخشري : قوله تعالى : ألا إنها شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد ، من كون نفقته قربات وصلوات وتصديقا لرجائه ، على الاستئناف ، مع حرفي التنبيه والتحقيق ، المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه .

وكذلك : سيدخلهم وما في ( السين ) من تحقيق الوعد .

وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان ، إذا خلصت النية من صاحبها . انتهى .

وفيه ( " الانتصاف " ) : النكتة في إشعار ( السين ) بالتحقيق أن معنى الكلام معها : أفعل كذا ، وإن أبطأ الأمر ، أي : لا بد من فعله ، قال الشهاب : وفيه تأمل .

ولما بين تعالى فضيلة مؤمني الأعراب بما تقدم ، تأثره ببيان من هم فوقهم بمنازل من الفضيلة والكرامة ، بقوله سبحانه :
[ ص: 3242 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 100 ] والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم .

والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أي : ممن تقدم بالهجرة والنصرة . وقيل : عنى بالفريق الأول من صلى إلى القبلتين ، أو من شهد بدرا ، أو من أسلم قبل الهجرة وبالثاني أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية ، وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير ، فعلمهم القرآن .

واختار الرازي الوجه الأول ، وقال : والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة ، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ، ولم يبين أنهم سابقون فلماذا ؟

فبقي اللفظ مجملا ، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا ، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارا ، وهو الهجرة والنصرة ، فوجب أن يكون المراد منه : السابقون الأولون في الهجرة والنصرة ، إزالة للإجمال عن اللفظ .

وأيضا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة ، من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ، ومخالف للطبع ، فمن أقدم عليه أولا ، صار قدوة لغيره في هذه الطاعة ، وكان ذلك مقويا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسببا لزوال الوحشة عن خاطره ، وكذلك السبق في النصرة ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم .

وقرئ ( الأنصار ) بالرفع ، عطفا على السابقون .

والذين اتبعوهم بإحسان أي : سلكوا سبيلهم بالإيمان والطاعة رضي الله عنهم لأن الهجرة أمر شاق على النفس ، لمفارقة الأهل والعشيرة .

والنصرة منقبة شريفة ، [ ص: 3243 ] لأنها إعلاء كلمة الله ، ونصر رسوله وأصحابه ، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم - قاله المهايمي - .

ورضوا عنه بما وفقهم إليه من الإيمان والإحسان ، وما آتاهم من الثواب والكرامة وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار وذلك بدل ما تركوا من دورهم وأهليهم ، وبدل ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم ، ولغرسهم جنات القرب في قلوبهم ، وإجرائهم أنهار المعارف في قلوبهم وقلوب من اتبعوهم بهذه الهجرة والنصرة والإحسان - قاله المهايمي ـ .

وقرأ ابن كثير : ( من تحتها الأنهار ) كما هو في سائر المواضع .

خالدين فيها أبدا لتخليدهم هذا الدين بإقامة دلائله ، وتأسيس قواعده ، إلى يوم القيامة ، والعمل بمقتضاه ، واختيار الباقي على الفاني ذلك الفوز العظيم أي : الذي لا فوز وراءه .

تنبيهات :

الأول : قال في ( " الإكليل " ) : في هذه الآية تفضيل السابق إلى الإسلام والهجرة ، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم .

الثاني : قيل : المراد ب ( السابقين الأولين ) جميع المهاجرين والأنصار ، ف ( من ) بيانية لتقدمهم على من عداهم .

وقيل : بعضهم - وهم قدماء الصحابة - و ( من ) تبعيضية ، وقد اختار كثيرون الثاني ، واختلفوا في تعيينهم على ما ذكرناه أولا ، ورأى آخرون الأول .

روي عن حميد بن زياد قال : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي : ألا تخبرني عن الصحابة فيما كان بينهم ؟ وأرد الفتن - فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم .

قلت له : والسابقون الأولون الآية ، فأوجب للجميع الجنة والرضوان ، وشرط على تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسنا لا سوءا .

[ ص: 3244 ] أي : لقوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان

الثالث : قال الشهاب : تقديم المهاجرين لفضلهم على الأنصار كما ذكر في قصة السقيفة ، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه ، لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 101 ] وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم .

وممن حولكم يعني حول بلدتكم ، وهي المدينة من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق

أي : مرنوا ومهروا فيه وقوله عز شأنه لا تعلمهم دليل لمرانتهم عليه ، ومهارتهم فيه ، أي : يخفون عليك ، مع علو كعبك في الفطنة وصدق الفراسة ، لفرط تأنقهم وتصنعهم في مراعاة التقية ، والتحامي عن مواقع التهم .

قال في ( " الانتصاف " ) وكأن قوله تعالى : مردوا على النفاق توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه صلى الله عليه وسلم ، لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به . انتهى .

وقوله تعالى : نحن نعلمهم تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق ، أي : لا يعلمهم إلا الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر ، وإظهار الإخلاص .

وقوله تعالى : سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم للمفسرين في المرتين [ ص: 3245 ] وجوه : إظهار نفاقهم وإحراق مسجد الضرار ، أو الفضيحة وعذاب القبر ، أو أخذ الزكاة لما أنهم يعدونها مغرما بحتا ، ونهك الأبدان ، وإتعابها بالطاعات الفارغة عن الثواب .

وقال محمد بن إسحاق : هو - فيما بلغني عنهم - ما هم من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه ، عذاب الآخرة ، ويخلدون فيه .

قال أبو السعود : ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق ، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه .

ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير ، كما في قوله تعالى : ( فارجع البصر كرتين ) أي : كرة بعد أخرى ، لقوله تعالى : أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام

تنبيه :

لا ينافي قوله تعالى : لا تعلمهم نحن نعلمهم قوله تعالى : ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين ، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان يراه صباحا ومساء ، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ، فقال : « لتأتينكم أجوركم ، ولو كنتم [ ص: 3246 ] في جحر ثعلب » .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 10-02-2023 06:12 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3246 الى صـ 3260
الحلقة (390)


وأصغى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال : « إن في أصحابي منافقين ، أي : يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له »
.

وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء ، أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : الإيمان هاهنا ، وأشار بيده إلى لسانه والنفاق هاهنا ، وأشار بيده إلى قلبه ، ولم يذكر الله إلا قليلا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، ارزقه حبي وحب من يحبني ، وصير أمره إلى خير » . فقال : يا رسول الله ! إنه كان لي أصحاب من المنافقين ، وكنت رأسا فيهم ، أفلا آتيك بهم ؟ قال : « من أتانا استغفرنا له ، ومن أصر على دينه ، فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا » - ورواه الحاكم أيضا - .

وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس ، فلان في الجنة وفلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري ! لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك ! قال نبي الله نوح عليه السلام : قال وما علمي بما كانوا يعملون وقال نبي الله شعيب عليه السلام : بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا تعلمهم نحن نعلمهم

لطيفة :

قوله تعالى : ومن أهل المدينة عطف على : ( ممن حولكم ) عطف مفرد على مفرد .

وقوله تعالى : مردوا على النفاق إما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، مسوقة لبيان علوهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به ، وإما صفة للمبتدأ المذكور فصل بينها وبينه به عطف على خبره ، وإما صفة لمحذوف أقيمت هي مقامه ، وهو مبتدأ خبره ( من أهل المدينة ) والجملة عطف على الجملة السابقة ، أي : ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق - أفاده أبو السعود - .

[ ص: 3247 ] ولما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة ، رغبة عنها وتكذيبا وشكا ، بين حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة ، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق ، فقال عز شأنه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 102 ] وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم .

وآخرون اعترفوا بذنوبهم أي : أقروا بها ، وهي تخلفهم عن الغزو ، وإيثار الدعة عليه ، والرضا بسوء جوار المنافقين ، أي : لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم خلطوا عملا صالحا كالندم وما سبق من طاعتهم وآخر سيئا كالتخلف عن الجهاد عسى الله أن يتوب عليهم أي : يقبل توبتهم إن الله غفور رحيم يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه .

تنبيهات :

الأول : أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عن ابن عباس قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه ، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهلاك وقالوا : نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد ! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري ، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الذي يطلقها ، ففعلوا وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته فقال : « من هؤلاء الموثقون بالسواري » ؟ فقال رجل : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا ، فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم . فقال : « لا أطلقهم ، حتى أومر بإطلاقهم » ، فأنزل الله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم فلما نزلت أطلقهم وعذرهم ، [ ص: 3248 ] وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم ، لم يذكروا بشيء ، وهم الذين قال الله فيهم : وآخرون مرجون لأمر الله الآية ، فجعل أناس يقولون : هلكوا ، إذ لم ينزل عذرهم ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يتوب عليهم ، حتى نزلت : وعلى الثلاثة الذين خلفوا

وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه ، وزاد : فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا ، فقالوا : يا رسول الله ! هذه أموالنا ، فتصدق بها عنا ، واستغفر لنا فقال : « ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا » ، فأنزل الله : خذ من أموالهم صدقة الآية .

وأخرج هذا القدر وحده عن سعيد بن جبير ، والضحاك وزيد بن أسلم وغيرهم . وأخرج عبد عن قتادة أنها نزلت في سبعة : أربعة منهم ربطوا أنفسهم بالسواري ، وهم أبو لبابة ومرداس ، وأوس بن خذام وثعلبة بن وديعة .

وأخرج أبو الشيخ وابن منده في ( " الصحابة " ) من طريق الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : كان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك ستة : أبو لبابة ، وأوس بن خذام ، وثعلبة بن وديعة ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية .

فجاء أبو لبابة وأوس بن ثعلبة ، فربطوا أنفسهم بالسواري ، وجاءوا بأموالهم ، فقالوا : يا رسول الله ! خذ هذا الذي حبسنا عنك ، فقال : لا أحلهم حتى يكون قتال ، فنزل القرآن : وآخرون اعترفوا بذنوبهم الآية
، إسناده قوي ، كذا في ( " اللباب " ) .

قال ابن كثير : هذه الآية ، وإن كانت نزلت في أناس معينين ، إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين .

وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة إنه الذبح ، وأشار بيده إلى حلقه ، ثم نقل ما تقدم .

[ ص: 3249 ] الثاني : روى البخاري في التفسير في هذه الآية ، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : « أتاني الليلة آتيان ، فابتعثاني ، فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ، ولبن فضة ، فتلقانا رجل ، شطر من خلفهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر ، فوقعوا فيه ، ثم رجعوا إلينا ، قد ذهب ذلك السوء عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي : هذه جنة عدن ، وهذا منزلك . قالا : أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح ، فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وتجاوز الله عنهم » .

الثالث : قال الزمخشري : فإن قلت : قد جعل كل واحد منهما مخلوطا ، فما المخلوط به ؟ قلت : كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به ، لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه ، فيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن ، لأنك جعلت الماء مخلوطا ، واللبن مخلوطا به ؟ وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما ، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء .

وناقشه الناصر في ( " الانتصاف " ) فقال : التحقيق في هذا أنك إذا قلت : ( خلطت الماء باللبن ) ، فالمصرح به في هذا الكلام أن الماء مخلوط ، واللبن مخلوط به ، والمدول عليه لزوما لا تصريحا كون الماء مخلوطا به ، واللبن مخلوطا .

وإذا قلت : خلطت الماء واللبن ، فالمصرح به جعل كل واحد منهما مخلوطا ، وأما ما خلط به كل واحد منهما ، فغير مصرح به ، بل من اللازم أن كل واحد منهما له مخلوط به ، يحتمل أن يكون قرينه أو غيره .

فقول الزمخشري : [ ص: 3250 ] إن قولك : ـ ( خلطت الماء واللبن ) ، يفيد ما يفيد مع الباء ، وزيادة - ليس كذلك .

فالظاهر في الآية - والله أعلم - أن العدول عن الباء إنما كان لتضمين الخلط معنى العمل ، كأنه قيل : عملوا صالحا وآخر سيئا ، ثم انضاف إلى العمل معنى الخلط ، فعبر عنهما معا به . انتهى .

قال النحرير : يريد الزمخشري أن ( الواو ) كالصريح في خلط كل بالآخر ، بمنزلة ما إذا قلت : ( خلطت الماء باللبن ) ، و ( خلطت اللبن بالماء ) ، بخلاف الباء ، فإن مدلولها لفظا إلا خلط الماء مثلا باللبن ، وأما خلط اللبن بالماء ، فلو ثبت لم يثبت إلا بطريق الالتزام ودلالة العقل . انتهى .

وهو متجه ولا حاجة للتضمين المذكور .

ثم قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من قولهم : ( بعت الشاء شاة ودرهما ) ، بمعنى شاة بدرهم ، أي : ف ( الواو ) بمعنى الباء ، ونقل ذلك سيبويه .

وقالوا : إنه استعارة ، لأن ( الباء ) للإلصاق ، و ( الواو ) للجمع ، وهما من واد واحد . وقال ابن الحاجب في قولهم المذكور : أصله شاة بدرهم ، أي : كل شاة بدرهم ، وهو بدل من الشاة ، أي : مع درهم ، ثم كثر فأبدلوا من ( باء المصاحبة ) ( واوا ) ، فوجب نصبه وإعرابه بإعراب ما قبله ، كقولهم : كل رجل وضيعته .

قال الشهاب : وهو تكلف ، ولذا قالوا : إنه تفسير معنى ، لا إعراب . انتهى .

قال الواحدي : العرب تقول : خلطت الماء باللبن ، وخلطت الماء واللبن ، كما تقول : جمعت زيدا وعمرا . و ( الواو ) في الآية أحسن من ( الباء ) ، لأنه أريد معنى الجمع ، لا حقيقة الخلط ، ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيئ ، كما يختلط الماء باللبن ، لكن قد يجمع بينهما . انتهى .

وفي الآية نوع من البديع يسمى ( الاحتباك ) ، هو مشهور ، لأن المعنى : خلطوا عملا صالحا بسيئ وآخر سيئا بصالح .

[ ص: 3251 ] الرابع : قال الرازي : ههنا سؤال ، وهو أن كلمة ( عسى ) شك ، هو في حق الله تعالى محال . وجوابه من وجوه :

الأول : قال المفسرون : كلمة عسى من الله واجب ، والدليل عليه قوله تعالى :

فعسى الله أن يأتي بالفتح وفعل ذلك ، وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام ، والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئا ، فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة ( عسى ) ، أو ( لعل ) تنبيها على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئا ، وأن يكلفني بشيء ، بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطول ، فذكر كلمة عسى ، الفائدة فيه هذا المعنى ، مع أنه يفيد القطع بالإجابة .

الوجه الثاني : أن المقصود بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق ، لأنه أبعد من الاتكال والإهمال .

الخامس : قال القاشاني : الاعتراف بالذنب هو إبقاء نور الاستعداد ، ولين الشكيمة ، وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه ، لأنه ملك الرجوع والتوبة ، ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة ، وانفتاح عين القلب ، إذ لو ارتكمت الظلمة ورسخت الرذيلة ، ما استقبحه ، ولم يره ذنبا ، بل رآه فعلا حسنا ، لمناسبته لحاله ، فإذا عرف أنه ذنب ففيه خير .

ثم أمر تعالى رسوله صلوات الله عليه أن يأخذ من أموالهم التي تقدموا إليه ، أن يتصدق بها عنهم كفارة لذنوبهم ، كما تقدم في الروايات قبل ، بقوله عز وجل :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 103 ] خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم .

خذ من أموالهم أي : بعضها صدقة

قال المهايمي : لتصدق توبتهم إذ : تطهرهم [ ص: 3252 ] أي : عما تلطخوا به من أوضار التخلف . وعن حب المال الذي كان التخلف بسببه وتزكيهم بها أي : عن سائر الأخلاق الذميمة التي حصلت عن المال .

قال الزمخشري : التزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال وصل عليهم أي : واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم إن صلاتك سكن لهم أي : تسكن نفوسهم إليها ، وتطمئن قلوبهم بها ، ويثقون بأنه سبحانه قبل توبتهم .

وقال قتادة : سكن ، أي : وقار .

وقال ابن عباس : رحمة لهم . وقد روى الإمام أحمد عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا للرجل ، أصابته وأصابت ولده وولد ولده . وفي رواية : إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده .

والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم والله سميع أي : يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم عليم أي : بما في ضمائرهم من الندم والغم ، لما فرط منهم .

تنبيهات :

الأول : تطهرهم قرئ مجزوما على أنه جواب للأمر ، وأما بالرفع فعلى أنه حال من ضمير المخاطب في خذ أو صفة ل ( صدقة ) ، والتاء للخطاب أو للصدقة .

والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده ، أي : بها .

وقرئ تطهرهم ، من أطهره بمعنى طهره ، ولم يقرأ : وتزكيهم ، إلا بإثبات الياء وهو خبر لمحذوف ، والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه ، أي : وأنت تزكيهم بها ، هذا على قراءة "تطهرهم" بالجزم .

وأما على قراءة الرفع فـ ( تزكيهم ) عطف على ( تطهرهم ) حالا أو صفة .

الثاني : قرئ صلاتك بالتوحيد ، و ( صلواتك ) بالجمع ، مراعاة لتعدد المدعو لهم .

وقال الشهاب : جمع ( صلاة ) ، لأنها اسم جنس ، والتوحيد لذلك ، أو لأنها مصدر في الأصل .

[ ص: 3253 ] الثالث : قال الشهاب : السكن السكون ، وما يسكن إليه من الأهل والوطن ، فإن كان المراد الأول ، فجعلها نفس السكن والاطمئنان مبالغة ، وهو الظاهر ، وإن كان الثاني فهو مجاز بتشبيه دعائه ، في الالتجاء إليه بالسكن ، انتهى .

قال أبو البقاء : سكن بمعنى مسكون إليها ، فلذلك لم يؤنثه ، وهو مثل القبض بمعنى المقبوض .

الرابع : قيل : المأمور به في الآية الزكاة . و ( من ) تبعيضية ، وكانوا أرادوا التصدق بجميع مالهم ، فأمره الله أن يأخذ بعضها لتوبتهم ، لأن الزكاة لم تقبل من بعض المنافقين ، فترتبط الآية بما قبلها .

وقيل : ليست هذه الصدقة المفروضة ، بل هم لما تابوا ، بذلوا جميع مالهم كفارة للذنب الصادر منهم ، فأمره الله تعالى بأخذ بعضها وهو الثلث ، وهذا ما روي عن الحسن ، وهو المختار عندهم . ونقل الرازي أن أكثر الفقهاء على أن هذه الآية كلام مبتدأ قصد به إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء ، إذ هي حجتهم في إيجاب الزكاة ، ثم نظر فيه بأن حملها على ما ذكروه يوجب ألا تنتظم الآية مع سابقها ولاحقها .

وأقول : لا ريب في ارتباط الآية بما قبلها ، كما أفصحت عنه الرواية السابقة . وخصوص سببها لا يمنع عموم لفظها ، كما هو القاعدة في مثل ذلك ، ولذا رد الصديق رضي الله عنه على من تأول من بعض العرب هذه الآية أن دفع الزكاة لا يكون إلا للرسول صلوات الله عليه ، لأنه المأمور بالأخذ ، وبالصلاة على المتصدقين ، فغيره لا يقوم مقامه وأمر بقتالهم ، فوافقته الصحابة ، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة ، كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فاستدل من ذلك على وجوب دفع الزكاة إلى الإمام ، ومثله نائبه ، وهؤلاء المتأولون المرتدون غاب عنهم أن الزكاة إنما أوجبها الله تعالى سدا لحاجة المعدم ، وتفريجا لكربة الغارم ، وتحريرا لرقاب المستعبدين ، وتيسيرا لأبناء السبيل ، فاستل بذلك ضغائن أهل الفاقة ، على من فضلوا عليهم في الرزق ، وأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء ، وساق الرحمة في نفوس [ ص: 3254 ] هؤلاء على أولئك البائسين ، فالإمام لا خصوصية لذاته فيها ، بل لأنه يجمع ما يرد منها لديه ، فينفقها في سبلها المذكورة .

الخامس : استدل بقوله تعالى : وصل عليهم على ندب الدعاء للمتصدق .

قال الشافعي رحمه الله : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ، ويقول : آجرك الله فيما أعطيت وجعله طهورا ، وبارك لك فيما أبقيت ، وقال آخرون : يقول : اللهم صل على فلان ، ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى ، وكان من أصحاب الشجرة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال :

« اللهم صل عليهم » ، فأتاه أبي بصدقته فقال : « اللهم صل على آل أبي أوفى »
. أخرجاه في الصحيحين .

قال ابن كثير : وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت : يا رسول الله ! صل علي وعلى زوجي ، فقال : « صلى الله عليك وعلى زوجك » .

أقول : وبهذين الحديثين يرد على من زعم أن المراد بـ : ( صل عليهم ) الصلاة على الموتى حكاه السيوطي في ( " الإكليل " ) .

السادس : دلت الآية كالحديثين ، على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالا .

قال الرازي : روى الكعبي في " تفسيره " أن عليا رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه وهو مسجى : عليك الصلاة والسلام . ومن الناس من أنكر ذلك .

ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد ، إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم .

ثم قال الرازي : إن أصحابنا يمنعون من ذكر صلوات الله عليه ، وعليه الصلاة والسلام ، إلا في حق الرسول ، والشيعة يذكرونه في علي وأولاده ، [ ص: 3255 ] واحتجوا بأن نص القرآن دل على جوازه فيمن يؤدي الزكاة ، فكيف يمنع في حق علي والحسن والحسين عليهم رضوان الله ؟ قال : ورأيت بعضهم قال : أليس أن الرجل إذا قال : سلام عليكم ، يقال له : وعليكم السلام ، فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين ، فأولى آل البيت . انتهى .

وأقول : إن المنع من ذلك أدبي لا شرعي ، لأنه صار - في العرف - دعاء خاصا به صلى الله عليه وسلم ، وشعارا له ، كالعلم بالغلبة ، فغيره لا يطلق عليه ، إلا تبعية له ، أدبا لفظيا .

السابع : قال الرازي : في سر كون صلاته عليه السلام سكنا لهم : أن روح محمد عليه السلام كانت روحا قوية مشرقة صافية باهرة ، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ، فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم ، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم ، وصفت أسرارهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 104 ] ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم .

ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها ، وإخبار بأن كل من تاب إليه ، تاب عليه ، ومن تصدق تقبل منه .

تنبيهات :

الأول : الضمير في : ( يعلموا ) للمتوب عليهم ، فيكون ذكر قبول توبتهم ، مع أنه تقدم ما يشير إليه ، تحقيقا لما سبق من قبول توبتهم ، وتطهير الصدقة وتزكيتها لهم ، وتقريرا لذلك ، وتوطينا لقلوبهم ببيان أن المتولي لقبول توبتهم ، وأخذ صدقاتهم هو الله سبحانه ، وإن أسند الأخذ والتطهير والتزكية إليه صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 3256 ] قال أبو مسلم : المقصود من الاستفهام التقرير في النفس ، ومن عادة العرب في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه ، أن يقول : أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته ؟ أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره ؟ فبشر تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم . انتهى .

وجوز عود الضمير لغيرهم من المنافقين فالاستفهام توبيخ وتقريع لهم على عدم التوبة ، وترغيب فيها ، وإزالة لما يظنون من عدم قبولها وقرئ بالتاء .

وهو على الأول التفات ، وعلى الثاني بتقدير ( قل ) ، ويجوز أن يكون الضمير للمنافقين والتائبين معا ، للتمكن والتخصص .

الثاني : الضمير أعني ( هو ) إما للتأكيد ، أو له مع التخصص ، بمعنى أنه يفعل ذلك البتة ، لأن ضمير الفصل يفيد ذلك ، والخبر المضارع من مواقعه .

وقيل : معنى التخصيص في هو ، أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردها ، فاقصدوه ، ووجهوها إليه ، لأن كثرة رجوعهم إليه ، صلوات الله عليه ، مظنة لتوهم ذلك .

الثالث : تعدية القبول ب ( عن ) ، لتضمنه معنى التجاوز ، والعفو عن ذنوبهم التي تابوا عنها ، وقيل : ( عن ) هنا بمعنى ( من ) ، كما يقال : أخذت هذا منك وعنك .

الرابع : الأخذ هنا استعارة للقبول والإثابة ، لأن الكريم والكبير إذا قبل شيئا عوض عنه ، وقد يجعل الإسناد إلى الله مجازا مرسلا .

وقيل : في نسبة الأخذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : خذ ثم إلى ذاته تعالى ، إشارة إلى أن أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ، قائم مقام أخذ الله ، تعظيما لشأن نبيه ، كقوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله

[ ص: 3257 ] الخامس : جملة : وأن الله هو التواب الرحيم تأكيد لما عطف عليه ، وزيادة تقرير لما يقرره ، مع زيادة معنى ليس فيه ، كما أفادته صيغة المبالغة التي تفيد تكرر ذلك منه أي : ألم يعلموا أنه المختص بقبول التوبة ، وأن ذلك سنة مستمرة له ، وشأن دائم ؟

لطيفة :

نقل ابن كثير عن الحافظ ابن عساكر ، عن حوشب قال : غزا الناس في زمن معاوية ، وعليهم عبد الرحمن بن الخالد بن الوليد ، فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية ، فلما قفل الجيش ندم ، وأتى الأمير ، فأبى أن يقبلها منه ، وقال : قد تفرق الناس ، ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة ، فجعل الرجل يأتي الصحابة ، فيقولون له مثل ذلك .

فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه ، فأبى عليه ، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع ، فمر بعبد الله ابن الشاعر السكسكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ فذكر له أمره ، فقال له : أومطيعي أنت ؟ فقال نعم . فقال : اذهب إلى معاوية فقل له : اقبل مني خمسك ، فادفع إليه عشرين دينارا ، وانظر إلى الثمانين الباقية ، فتصدق بها عن ذلك الجيش ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ، ففعل الرجل .

فقال معاوية : لأن أكون أفتيت بها ، أحب إلي من كل شيء أملكه . أحسن الرجل . انتهى .

في هذه الرواية إثبات ولد لخالد ، وفي ظني أن صاحب ( " أسد الغابة " ) ذكر أنه لم يعقب ، فليحقق .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 105 ] وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .

وقل أي : لأهل التوبة والتزكية والصلاة ، لا تكتفوا بها ، بل : اعملوا جميع [ ص: 3258 ] ما تؤمرون به فسيرى الله عملكم أي : فيزيدكم قربا على قرب ، ورسوله فيزيدكم صلوات والمؤمنون فيتبعونكم ، فيحصل لكم أجرهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء - هكذا قاله المهايمي - وهو قوي في الارتباط .

وقال أبو مسلم : إن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة ، كما قال : وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية ، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية ، فذكر تعالى أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم ، والتنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة ، عند حضور الأولين والآخرين ، بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد .

ونقل عن مجاهد أن الآية وعيد للمخالفين أوامره ، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول والمؤمنين .

قال ابن كثير : وهذا كائن لا محالة يوم القيامة ، كما قال تعالى : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية وقال تعالى : يوم تبلى السرائر وقال تعالى : وحصل ما في الصدور وقد ظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا ، كما روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعا : « لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوة ، لأخرج الله عمله للناس كائنا من كان » .

وروي أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ - كما في مسند أحمد والطيالسي - .

وستردون إلى عالم الغيب والشهادة أي : بالموت فينبئكم بما كنتم تعملون أي : بالمجازاة عليه .

قال أبو السعود : في وضع الظاهر موضع المضمر ـ أي : ( حيث لم يقل : إليه ) ـ من تهويل [ ص: 3259 ] الأمر ، وتربية المهابة ، ما لا يخفى . ووجه تقديم ( الغيب ) في الذكر لسعة علمه ، وزيادة خطره على الشهادة ، غني عن البيان .

وعن ابن عباس : الغيب ما يسرونه من الأعمال ، والشهادة ما يظهرونه ، كقوله تعالى : أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، فالتقدم حينئذ لتحقق أن نسبة علمه المحيط بالسر والعلن واحدة ، على أن أبلغ وجه وآكده ، أو للإيذان بأن رتبة السر متقدمة على رتبة العلن ، إذ ما من شيء يعلن إلا وهو ، أو مبادئه القريبة أو البعيدة ، مضمر قبل ذلك في القلب . فتعلق علمه تعالى به في حالته الأولى ، متقدم على تعلقه به في حالته الثانية .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 106 ] وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم .

وآخرون يعني من المتخلفين : مرجون لأمر الله أي : مؤخرون أمرهم انتظارا لحكمه تعالى فيهم ، لتردد حالهم بين أمرين إما يعذبهم لتخلفهم عن غزوة تبوك .

وإما يتوب عليهم يتجاوز عنهم والله عليم أي : بأحوالهم ، حكيم أي : فيما يحكم عليهم .

تنبيهات :

الأول : قرئ في السبعة : ( مرجؤون ) بهمزة مضمومة ، بعدها واو ساكنة . وقرئ ( مرجون ) بدون همزة . كما قرئ : ( ترجي من تشاء ) بهما ، وهما لغتان ، يقال : أرجأته وأرجيته ، وكأعطيته ، ويحتمل أن تكون الياء بدلا من الهمزة ، كقولهم : قرأت وقريت ، [ ص: 3260 ] وتوضأت وتوضيت ، وهو في كلامهم كثير .

وعلى كونه لغة أصلية فهو يائي ، وقيل : إنه واوي كذا في ( " العناية " ) .

الثاني : روي عن الحسن أنه عني بهذه الآية قوم من المنافقين . وكذا قال الأصم : إنهم منافقون أرجأهم الله ، فلم يخبر عنهم ما علمه منهم ، وحذرهم بهذه الآية ، إن لم يتوبوا ، أن ينزل فيهم قرآنا ، فقال : إما يعذبهم وإما يتوب عليهم

وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد : إنهم الثلاثة الذي خلفوا ، أي : عن التوبة ، وهم مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، قعدوا في غزوة تبوك في جملة من قعد ، كسلا وميلا إلى الدعة وطيب الثمار والظلال ، لا شكا ونفاقا ، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري ، كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك ، وهم هؤلاء الثلاثة ، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء ، وأرجئ هؤلاء عن التوبة ، حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله : وعلى الثلاثة الذين خلفوا

قال في ( " العناية " ) : وإنما اشتد الغضب عليهم مع إخلاصهم ، والجهاد فرض كفاية ، لما قيل إنه كان على الأنصار خاصة فرض عين ، لأنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه .

ألا ترى قول راجزهم في الخندق :


نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا


وهؤلاء من أجلهم ، فكان تخلفهم كبيرة .

الثالث : ( إما ) في الآية ، إما للشك بالنسبة إلى المخاطب ، أو للإبهام بالنسبة إليه أيضا ، بمعنى أنه تعالى أبهم على المخاطبين أمرهم .

والمعنى : ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء [ ص: 3261 ] والخوف ، والمراد تفويض ذلك إلى إرادته تعالى ومشيئته ، أو للتنويع ، أي : أمرهم دائر بين هذين الأمرين .

وقوله تعالى :
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif








الساعة الآن : 09:05 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 384.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 383.74 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.13%)]