ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 08-03-2023 08:06 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3261 الى صـ 3275
الحلقة (391)


القول في تأويل قوله تعالى :

[ 107 ] والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون .

والذين أي : ومن المنافقين الذين : اتخذوا أي : بنوا : مسجدا ضرارا أي : مضارة لأهل مسجد قباء وكفرا أي : تقوية للكفر الذي يضمرونه وتفريقا بين المؤمنين أي : الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعا واحدا ، يؤدون أجل الأعمال ، وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام ، بجمع قلوب أهله على الخيرات ، ورفع الاختلاف من بينهم وإرصادا أي : إعدادا وترقبا وانتظارا .

لمن حارب الله ورسوله من قبل أي : كفر بالله ورسوله من قبل ، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فاسقا ) . وكانوا أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما سنفصله ـ .

وليحلفن أي : بعد ظهور نواياه ومقاصدهم السيئة إن أردنا إلا الحسنى أي : ما أردنا ، ببناء المسجد ، إلا الخصلة الحسنى ، أو الإرادة الحسنى ، وهي الصلاة ، وذكر الله ، والتوسعة على المصلين والله يشهد إنهم لكاذبون أي : في حلفهم .
[ ص: 3262 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 108 ] لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين .

لا تقم فيه أي : لا تصل في مسجد الشقاق أبدا أي : في وقت من الأوقات ، لكونه موضع غضب الله ، ولذلك أمر بهدمه وإحراقه كما يأتي . وإطلاق ( القائم ) على المصلي والمتهجد معروف ، كما في قولهم : فلان يقوم الليل ، وفي الحديث « من قام رمضان إيمانا واحتسابا » .

لمسجد أسس على التقوى أي :

بنيت قواعده على طاعة الله وذكره ، وقصد التحفظ من معاصي الله ، بفعل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهو مسجد قباء من أول يوم أي : من أيام وجوده أحق أن تقوم أي : تصلي فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أي : المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة .

ثم أشار إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 109 ] أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين .

أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله أي : مخافة منه ورضوان أي : طلب رضوان منه : خير أم من أسس بنيانه على شفا أي : طرف جرف بضم الراء [ ص: 3263 ] وسكونها أي : مهواة هار أي : مشرف على السقوط فانهار به أي : سقط معه في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 110 ] لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم .

لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم أي : لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزول وسمه عن قلوبهم ، ولا يضمحل أثره إلا أن تقطع قلوبهم أي : قطعا ، وتتفرق أجزاء ، فحينئذ يسلون عنه .

وأما ما دامت سالمة مجتمعة ، فالريبة باقية فيها متمكنة ، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويرا لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أي : يراد حقيقة تقطيعها وتمزيقها بالموت ، أو بعذاب النار .

وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم والله عليم أي : بنياتهم حكيم أي : فيما أمر بهدم بنيانهم ، حفظا للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة .

تنبيهات :

الأول : قال الزمخشري : في مصاحف أهل المدينة والشام : ( الذين اتخذوا ) بغير واو ، لأنها قصة على حيالها ، وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم .

الثاني : سبب نزول هذه الآيات أنه كان بالمدينة ، قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير .

فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصار للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، [ ص: 3264 ] شرق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام ( أحد ) ، فكان أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته .

فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا ، يا فاسق ، يا عدو الله ! ونالوا منه وسبوه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد .

فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة . وذلك أنه لما فرغ الناس من ( أحد ) ، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله ، فوعده ومناه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار ، من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وكان أمرهم أن يتخذوا له معقلا ومرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك .

فأتوه فقالوا : يا رسول الله ! إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه .

فقال : « إني على جناح سفر ، وحال شغل ، ولو قدمنا ، إن شاء الله تعالى ، أتيناكم ، فصلينا لكم فيه » .

فلما نزل بذي أوان - موضع على ساعة من المدينة - أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عامرا ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه .

فخرجا سريعين ، حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ، فدخل أهله ، فأخذ سعفا من النخل ، فاشعل فيه نارا ، ثم خرجا يشتدان ، حتى دخلا المسجد ، وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه ، وتفرقوا عنه ، ونزل فيهم ما نزل
- ذكره ابن كثير ، وأسند أطرافه إلى ابن إسحاق وابن مردويه - .

[ ص: 3265 ] وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء ، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ، فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم فقال : لا ، ونعمة عين ! أليس هو إمام مسجد الضرار ؟ قال مجمع : يا أمير المؤمنين ! لا تعجل علي ، فوالله ! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، وكنت غلاما قارئا للقرآن ، وكانوا شيوخا لا يقرؤون ، فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ، ولم أعلم ما في نفوسهم . فعذره عمر ، فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء .

الثالث : ما قدمناه من أن المسجد في الآية هو مسجد قباء ، لأن السياق في معرضه ، وبيان أحقية الصلاة فيه من ذاك ، لأنه أسس على طاعة الله وطاعة رسوله ، وجمع كلمة المؤمنين .

ولما في الآية من الإشعار بالحث على تعاهده بالصلاة فيه ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكبا وماشيا ، ويصلي فيه ركعتين - كما في الصحيح - .

وقد روي عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : « إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون فيه ؟ » فقالوا ، يا رسول الله ! ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء ، - رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني ، واللفظ له - .

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : هو مسجده - رواه الإمام أحمد ومسلم ـ .

[ ص: 3266 ] قال ابن كثير : ولا منافاة ، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى . انتهى .

ومرجعه إلى أن هذا الوصف ، وإن كان يصدق عليهما - إلا أن الأحرى به بعد هو المسجد النبوي ، أي : فالحديث ليس في معرض تعيين ما في الآية ، بل في بيان الأحق بهذا الوصف الآن .

وقال السهروردي : كل منهما مراد ، لأن كلا منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه .

والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك ، دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء ، والتنويه بمزية هذا عن ذاك .

الرابع : قال السهيلي ـ نور الله مرقده ـ : في الآية ـ يعني قوله تعالى : من أول يوم - من الفقه ، صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله عنه حين شاورهم في التاريخ ، فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة ، لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام ، والحين الذي أمن فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وبنيت المساجد ، وعبد الله كما يجب ، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل ، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى : من أول يوم أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن .

فإن كان الصحابة أخذوه من هذه الآية ، فهو الظن بهم ، لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات ، وإن كان ذلك على رأي واجتهاد ، فقد علمه الله وأشار إلى صحته قبل أن يفعل ، إذ لا يعقل قول القائل : فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم ، أو شهر معلوم ، أو تاريخ معلوم .

وليس ههنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم ، لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال ، فتدبره ، ففيه معتبر لمن ادكر ، وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر .

الخامس : ( التأسيس ) وضع الأساس ، وهو أصل البناء ، وأوله ، وبه إحكامه ، ففي [ ص: 3267 ] الآية شبه التقوى والرضوان تشبيها, مكنيا مضمرا في النفس ، بما يعتمد عليه أصل البناء .

و أسس بنيانه تخييل فهو مستعمل في معناه الحقيقي ، أو هو مجاز بناء على جوازه ، فتأسيس البنيان بمعنى إحكام أمور دينه ، أو تمثيل لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة ، بحال من بنى بناء محكما مؤسسا يستوطنه ويتحصن به . أو البنيان استعارة أصلية ، و ( التأسيس ) ترشيح أو تبعية ، و ( الشفا ) : الحرف والشفير .

و ( جرف الوادي ) : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول ، فيبقى واهيا .

و ( الهار ) : الهائر ، وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . قيل : هو مقلوب ، وأصله ( هاور ) ، أو ( هاير ) . وقيل : حذفت عينه اعتباطا ، فوزنه ( فال ) . والإعراب على رائه كباب ، وقيل : لا قلب فيه ولا حذف ، ووزنه في الأصل ( فعل )

بكسر العين ، ككتف ، وهو هور أو هير ، ومعناه ساقط أو مشرف على السقوط . وفاعل ( انهار ) ، إما ضمير البنيان ، وضمير ( به ) للمؤسس ، أي : سقط بنيان الباني بما عليه . أو لـ ( الشفا ) ، وضمير ( به ) للبنيان .

والظاهر في التقابل أن يقال : أم من أسس بنيانه على ضلال وباطل وسخط من الله ، ولذا قال في " الكشاف " : المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة قوية ، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه ، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها ، وأقلها بقاء وهو ( الباطل والنفاق ) ، الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك .

وضع ( شفا الجرف ) في مقابلة التقوى ، لأنه جعل مجازا عما ينافي ( التقوى ) ، يعني أنه شبه الباطل بشفا جرف هار ، في قلة الثبات ، فاستعير للباطل بقرينة مقابلته للتقوى ، والتقوى حق ، ومنافي الحق هو الباطل .

وقوله فانهار ترشيح ، وباؤه للتعدية ، أو للمصاحبة ، ( فشفا جرف هار ) ، استعارة تصريحية تحقيقية ، والتقابل باعتبار المعنى المجازي المراد منها .

فإن قلت لماذا غاير بينهما حيث أتى بالأول على طريقة الكناية والتخييل ، وبالثاني على طريق الاستعارة والتمثيل ؟

[ ص: 3268 ] قلت : التفنن في الطريق رعاية لحق البلاغة ، وعدولا عن الظاهر ، مبالغة في الطرفين ، إذ جعل أولئك مبنيا على تقوى ورضوان ، هو أعظم من كل ثواب ، وحال هؤلاء على فساد أشرف بهم على أشد نكال وعذاب ، ولو أتى به على مقتضى الظاهر لم يفده ، ما فيه من التهويل .

وقولنا : ( فانهار ترشيح ) ، أوضحه " الكشاف " بقوله : لم جعل الجرف الهائر مجازا بعضها عن الباطل ، قيل : فانهار به في نار جهنم على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم ، فانهار به ذلك الجرف ، فهوى في قعرها .

السادس : دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار ، أنه لا حكم له ولا حرمة ، ولا يصح الوقف عليه .

وقد حرق الراضي بالله كثيرا من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة وسبل بعضها . نقله بعض المفسرين .

قال الزمخشري : قيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار .

وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه ، فإنه بني على ضرار ، كل مسجد بني على ضرار ، أو رياء وسمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضرارا .

وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه ، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين ، يضار أحدهما صاحبه . انتهى .

وقال الإمام ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) في فوائد غزوة تبوك :

ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها ، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه ، وهو مسجد يصلى فيه ، ويذكر اسم الله فيه . لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين ، ومأوى للمنافقين ، وكل مكان هذا شأنه ، فواجب [ ص: 3269 ] على الإمام تعطيله ، إما بهدم أو تحريق ، وإما بتغيير صورته ، وإخراجه عما وضع له .

وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار ، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله ، أحق بذلك وأوجب ، وكذلك محال المعاصي والفسوق ، كالحانات وبيوت الخمارين ، وأرباب المنكرات .

وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر ، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه ( فويسقا ) ، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية .

وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة ، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم ، كما أخبر هو عن ذلك . انتهى .

ثم قال ابن القيم : ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة ، كما لم يصح وقف هذا المسجد .

وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر ، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد ـ نص على ذلك الإمام أحمد وغيره - فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه ، وكان الحكم للسابق ، فلو وضعا معا لم يجز .

ولا يصح هذا الوقف ، ولا يجوز ، ولا تصح الصلاة في هذا المسجد ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ولعنه من اتخذ القبر مسجدا ، أو أوقد عليه سراجا .

قال ابن القيم : فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه ، وغربته بين الناس كما ترى . انتهى .

السابع : قال بعض المفسرين اليمانيين : في الآية دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة ، يعني التأسيس على التقوى ، وفيها أن نية القربة في عمارة المسجد شرط ، لأن [ ص: 3270 ] النية هي التي تميز الأفعال .

وفيها : أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار - ذكر ذلك الحاكم ـ لأنه قال تعالى :

لا تقم فيه أبدا وأراد بـ ( القيام ) الصلاة .

الثامن : قال ابن كثير : في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائه على عبادة الله وحده ، لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات .

وقد روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح ، فقرأ الروم فأوهم ، فلما انصرف قال : « إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء » . فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكمالها ، والقيام بمشروعاتها .

التاسع : ذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية ، الطهارة من الذنوب ، والتوبة منها ، والتطهر من الشرك .

قال الرازي : وهذا القول متعين ، لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى ، واستحقاق ثوابه ومدحه ، ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين ، والكفر بالله ، والتفريق بين المسلمين ، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم ، وما ذلك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي . انتهى .

أقوال : لا تسلم دعوى التعين ، فإن اللفظ يتناول الطهارتين الباطنة والظاهرة . بل الثانية ما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء : « قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون » ؟ فقالوا : نستنجي بالماء .

[ ص: 3271 ] وروى البزار عن ابن عباس قال : هذه الآية في أهل قباء ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نتبع الحجارة بالماء .

فإن صح ذلك كان المراد من الآية ، وتكون حثا على الطهارة المذكورة ، ومدحا لها . وكون ذويها على الضد من صفات أولئك ، يستفاد من عموم هذا ، ومن قوله تعالى : لمسجد أسس على التقوى الآية .

العاشر : قال القاشاني : لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت ، وتسخيره ، لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال ، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية ، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء ، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة ، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم .

ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبي من أنبياء الله ، بنية صادقة ، ونفس شريفة صافية ، عن كمال إخلاص لله تعالى ؟ ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس ، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع ، والكدورة والتفرقة في بعضها .

وما هو إلا لذلك ، فلهذا قال : لمسجد أسس على التقوى الآية ، لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس ، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام ، فإذا كان موضع القيام مبنيا على التقوى وصفاء النفس ، تأثرت النفس باجتماع الهمة ، وصفاء الوقت ، وطيب الحال ، وذوق الوجدان ، وإذا كان مبنيا على الرياء والضرار ، تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض .

وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني ، وصدق نيته ، مؤثر في البناء ، وأن تبرك المكان ، وكونه مبنيا على الخير ، يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ، ممن يناسب حاله حال بانيه ، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة لقوله : والله يحب المطهرين
[ ص: 3272 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 111 ] إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .

إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم

لما هدى الله تعالى المؤمنين إلى الإيمان ، والأنفس مفتونة بحب الأموال والأنفس ، استنزلهم لفرط عنايته بهم ، عن مقام محبة الأموال والأنفس ، بالتجارة المربحة ، والمعاملة المرغوبة بأن جعل الجنة ثمن أموالهم وأنفسهم ، فعرض لهم خيرا مما أخذ منهم .

فالآية ترغيب في الجهاد ببيان فضيلته ، إثر بيان حال المتخلفين عنه .

قال أبو السعود : ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه ، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى ، وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة ، بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية ، ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد ، أنفس المؤمنين وأموالهم .

والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة ، الجنة ، ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال : إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ، ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة ، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها ، إيذانا بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم .

ثم إنه لم يقل ( بالجنة ) ، بل بأن لهم الجنة مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم ، واختصاصه بهم . وكأنه قيل : ( بالجنة الثابتة لهم ، المختصة بهم ) .

[ ص: 3273 ] وفي ( " الكشاف " ) و ( " العناية " ) ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية ، لأنه أبرزه في صورة عقد عاقده رب العزة ، وثمنه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط ، بل إذا كانوا قاتلين أيضا لإعلاء كلمته ، ونصر دينه ، وجعله مسجلا في الكتب السماوية ، وناهيك به من صك .

وجعل وعده حقا ، ولا أحد أوفى من وعده ، فنسيئته أقوى من نقد غيره ، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم ، وهو استعارة تمثيلية ، صور جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه ، وإثابة الله لهم على ذلك الجنة ، بالبيع والشراء ، وأتى بقوله يقاتلون إلخ ، بيانا لمكان التسليم وهو المعركة ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم « الجنة تحت ظلال السيوف » ، ثم أمضاه بقوله : وذلك هو الفوز العظيم

ولما في هذا من البلاغة واللطائف المناسبة للمقام ، لم يلتفتوا إلى جعل اشترى وحده استعارة أو مجازا عن الاستبدال ، وإن ذكروه في غير هذا الموضع ، لأن قوله فاستبشروا ببيعكم يقتضي أنه شراء وبيع ، وهذا لا يكون إلا بالتمثيل .

ومنهم من جوز أن يكون معنى : اشترى من المؤمنين أنفسهم بصرفها في العمل الصالح ، و : ( أموالهم ) بالبذل فيها . وجعل قوله : يقاتلون مستأنفا لذكر بعض ما شمله الكلام ، اهتماما به . انتهى .

وقوله تعالى : وعدا عليه مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلا ، وذكر كونه في التوراة وما عطف عليها ، تأكيد له ، وإخبار بأنه منزل على الرسل في الكتب الكبار .

وفيه أن مشروعية الجهاد ومثوبته ثابتة في شرع من قبلنا ، وقد بقي في التوراة والإنجيل الموجودين - على تحريفهما - ما يشير إلى الجهاد والحث عليه ، نقلها عنهما من رد على الكتابيين الزاعمين أن الجهاد من خصائص الإسلام ، فانظره في الكتب المتداولة في ذلك .

ثم وصف تعالى المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بقوله :
[ ص: 3274 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 112 ] التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين .

التائبون أي : عن المعاصي ، ورفعه على المدح أي : هم التائبون ، كما دل عليه قراءة ( التائبين ) بالياء إلى قوله ، و ( الحافظين ) نصبا على المدح ، أو جرا صفة للمؤمنين .

وجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده ، أي : التائبون من المعاصي حقيقة ، الجامعون لهذه الخصال العابدون أي : الذين عبدوا الله وحده ، وأخلصوا له العبادة ، وحرصوا عليها الحامدون لله على نعمائه ، أو على ما نابهم من السراء والضراء السائحون أي : الصائمون ، أو الضاربون في الأرض تدبرا واعتبارا . وسننبه عليه الراكعون الساجدون أي : المصلون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله أي : في تحليله وتحريمه وبشر المؤمنين الموصوفين بالنعوت المذكورة .

ووضع المؤمنين موضع ضميرهم ، للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان ، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك ، وحذف المبشر به للتعظيم ، أو للعلم به ، لقوله في آية الأحزاب : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا

تنبيهات :

الأول : ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين .

قال الزجاج : هو قول أهل التفسير واللغة جميعا . ورواه الحاكم مرفوعا ، وكذلك ابن جرير .

قال ابن كثير : ووقفه أصح .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 08-03-2023 08:09 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3276 الى صـ 3290
الحلقة (392)



[ ص: 3275 ] وعن ابن عباس : كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة ، فهو الصيام .

وعن الحسن : السائحون الصائمون شهر رمضان .

قال الشهاب : استعيرت السياحة للصوم لأنه يعوق عن الشهوات ، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر .

ونقل الرازي عن أبي مسلم أن السائحين : السائرون في الأرض ، وهو مأخوذ من السيح ، سيح الماء الجاري ، والمراد به من خرج مجاهدا مهاجرا .

وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين ، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات .

وروى مثله ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال : هم المهاجرون .

وعن عكرمة أنهم المنتقلون لطلب العلم .

قال ابن كثير : جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد ، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله » .

أقول : لو أخذ هذا الحديث تفسيرا للآية لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها ، لأن الجهاد في سبيل الله ، كما يطلق على قتال المشركين ، يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى ، ومنه الهجرة والصوم ، والسفر للتفقه في الدين أو للاعتبار ، بل ذلك هو الجهاد الأكبر .

هذا على إرادة التوفيق بين المأثورات ، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية ، أعني الضرب في الأرض خاصة ، الذي عبر عنه عكرمة بالمنتقلين لطلب العلم ، لكان بمفرده كافيا في المعنى ، مشيرا إلى وصف عظيم ، وهذا ما حدا بأبي مسلم أن يقتصر عليه ، هو الحق في تأويل الآية .

[ ص: 3276 ] وقد رأيت لبعض المحققين مقالة في تأييده ، يجدر بالمحقق أن يقف عليها ، وهاك خلاصتها : قال : الكتاب الحكيم يأمر الإنسان كثيرا بأن يضحي قسما من حياته في السياحة والتسيار ، لأجل اكتشاف الآثار ، والوقوف على أخبار الأمم البائدة ليكون ذلك مثال عظة واعتبار ، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد .

ولا أريد أن أحشر لقارئ تلك الآيات ، فإن ذلك يؤدي إلى التطويل ، بل أريد أن أجتزئ منها بما يكفل ثبوت الدعوى ، وذلك في قوله تعالى : السائحون في هذه الآية ، ولم يقع لفظ ( سائحون ) في القرآن الكريم إلا هذه المرة الفذة .

ومع ذلك فقد تغلب عليها أهل التفسير ، فمنهم من قال هم الصائمون ، ومنهم من قال غيره .

والصحيح أن السائحون معناه السائرون ، مأخوذا من السيح وهو الجري على وجه الأرض ، والذهاب فيها ، وهذه المادة تشعر بالانتشار .

يقال : ساح الماء أي : جرى وانتشر ، والسيح أيضا الماء الجاري الذاهب في وجه الأرض .

ويطلق السائح على معنى يضاد الجامد ، وهو الماء المسفوح ، لأنه بانمياعه ينتشر في وعائه .

وقد عهدنا بألفاظ القرآن أنها يجب حملها على ظواهرها ، وعلى معانيها الحقيقية ، اللهم ما لم يمنع مانع عقلي ، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة وعليه فيجب حمل لفظ السائحون على معناه الظاهر الحقيقي ، وهو السائرون الذاهبون في الديار ، لأجل الوقوف على الآثار ، تواصلا للعظة بها والاعتبار ، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ .

وكذلك عهدنا بالمعنى المجازي أنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي ، في حال أن الأمر هنا بالعكس ، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي ، وذلك مثل آية : سيروا [ ص: 3277 ] أولم يسيروا أفلم يسيروا فسيروا وآخرون يضربون في الأرض ومن يهاجر في سبيل الله الآية .

فهذه الآيات هي قرائن نيرة تؤذن بأن السيح معناه السير ، فإنها وإن تكن من مادة أخرى ، إلا أن معناه يلاقي معنى السيح ، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة ، وذلك كآية : فسيحوا في الأرض أربعة فكلمة سيحوا هنا تفسر السائحون في الآية هذه ، وهم يقولون : خير ما فسرته بالوارد .

وبالجملة ، فصرف هذا اللفظ عن ظاهره تكسيل للأمة ، وتدبير على فتور همتها ، وضعف نشاطها ، وحيلولة بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة ، ورؤية عمران المسكونة ، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين ، وفيه ستر لنور الكتاب الذي هو أول مرشد للعالم ألا يألوا جهدا في السير والسياحة ، وأن ينقلب في البلاد أي : تنقيب .

وسيأتي تتمة لهذا في تفسير آية : سائحات في سورة التحريم إن شاء الله تعالى .

قال الرازي : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس ، لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس ، [ ص: 3278 ] فلا بد له من الصبر عليها ، وقد يلقى أفاضل مختلفين ، فيستفيد من كل ما ليس عند الآخر .

وقد يلقى الأكابر من الناس ، فيحقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة ، فينتفع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحول الخاصة بهم ، فتقوى معرفته .

وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين . انتهى .

وقال بعضهم : لا يعزب عنك أيها اللبيب أنه تعالى حث بني الإنسان على السفر في محكم كتابه العزيز ، وندد على من ارتدا منهم رداء الكسل ، وأوقع نفسه في وهدة الخمول ، وتلذذ بالتقاعد عن جوب البلاد ، وقطع الوهاد ، فقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها وقال صلى الله عليه وسلم : « سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا » .

وقد تكلم كثير من العلماء والحكماء والأدباء على مزايا السفر نظما ونثرا .

ومن أجل فوائده زيادة علمه ، وانتفاع غيره بما يعلمه وما يكتسبه ، ومنها ، وهو أعظمها ، رضا ربه ، ومزيد ثوابه بنفعه لعباده ، وأحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده .

وكذلك باتعاظه بأحوال الناس ، واعتباره بأمورهم ، واطلاعه في ساحته على الأسرار المكنونة ، والحكم التي دبر الله بها أمر المخلوقات وأحكم بها صنع الكائنات .

فمن وقف على سر الخالق زاد في تعظيمه وتقرب إليه بالطاعة والامتثال لأوامره ونواهيه ، وليس بخاف ما وقع للأنبياء والمرسلين ، والصحابة والتابعين ، والأولياء والصالحين ، من التنقلات والأسفار ، في القرى والأمصار ، للنظر والاعتبار .

[ ص: 3279 ] الثاني : قال القاضي : إنما جعل ذكر الركوع والسجود ، كناية عن الصلاة ، لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة ، هو قيامه وقعوده ، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود ، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره .

ويمكن أن يقال : القيام أول مراتب التواضع لله تعالى ، والركوع وسطها ، والسجود غايتها . فخص الركوع والسجود بالذكر ، لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية ، وتنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم . ذكره الرازي .

الثالث : ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوها :

فأما الأول : أعني قوله تعالى : والناهون عن المنكر فقالوا : سر العطف فيه إما الدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة ، وصفة واحدة ، لأن بينهما تلازما في الذهن والخارج ، لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر ، لأن أحدهما طلب فعل ، والآخر طلب ترك ، فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف ، بخلاف ما قبلهما ، أو لأنه لما عدد صفاتهم ، عطف هذين ليدل على أنه شيء واحد ، وخصلة واحدة ، والمعدود مجموعهما ، كأنه قيل : الجامعون بين الوصفين ، أو العطف لما بينهما من التقابل ، أو لدفع الإيهام ، وهذا معنى قول ( " المغني " ) : الظاهر أن العطف في هذا الوصف إنما كان من جهة أن الأمر والنهي من حيث أمر ونهي ، متقابلان بخلاف بقية الصفات ، أو لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر ، وهو ترك المعروف ، والناهي عن المنكر آمر بالمعروف . فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين ، وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر .

وأما الثاني : أعني قوله تعالى : والحافظون لحدود الله فقيل : سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبع ، من حيث إن السبعة هو العدد التام ، والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ، ولذلك تسمى ( واو الثمانية ) ونظر فيه بأن الدال على التمام لفظ [ ص: 3280 ] ( سبعة ) لاستعماله في التكثير ، لا معدوده .

والقول بواو الثمانية ذكروه في قوله تعالى : سبعة وثامنهم كلبهم وضعفه في ( " المغني " ) .

وقيل : سر العطف التنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل ، وهذا مجملها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفا ، نحو: زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله ، بالإجمال والتفصيل ، والعموم ، والخصوص ، عطف عليه .

وقيل : بقوة الجامع بالتلازم ، لأن من حصل الأوصاف السابقة ، فقد حفظ حدود الله .

وقيل : المراد بحفظ الحدود ظاهره ، وهي إقامة الحدود ، كالقصاص على من استحقه .

والصفات الأولى إلى قوله : الآمرون صفات محمودة للشخص في نفسه ، وهذه له باعتبار غيره ، فلذا تغير تعبير الصنفين ، فترك العاطف في القسم الأول ، وعطف في الثاني .

ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ، ترك فيها العطف لشدة الاتصال ، بخلاف هذه ، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به .

وهذا هو الداعي لإعراب التائبون مبتدأ موصوفا بما بعده ، والآمرون خبره .

فكأنه قيل : الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم ، وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملا في نفسه ، وبهذا اتسق النظم أحسن نسق من غير تكلف ، والله أعلم بمراده . كذا في ( " العناية " ) و ( " حواشي المغني " ) .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 113 - 114 ] ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى [ ص: 3281 ] من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم .

ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم

لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة ، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيدا ، حيث نهى عن الاستغفار لهم بعد تبين شركهم وكفرهم ، لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة ، حتى مع الأقرباء ، لأن قرابتهم وإن أفادتهم المناسبة بهم والرحمة بهم ، فلا تفيدهم قبول نور الاستغفار إن الله لا يغفر أن يشرك به فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده .

ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه ، أنه كان لأجل وعد تقدم منه له ، بقوله : سأستغفر لك ربي وقوله : لأستغفرن لك وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك فلما تبين له ذلك تبرأ منه أي : من أبيه بالكلية ، فضلا عن الاستغفار له .

وبين تعالى الحامل لإبراهيم على الاستغفار ، بأنه فرط ترحمه وصبره بقوله : إن إبراهيم لأواه أي : كثير التأوه من فرط الرحمة ، ورقة القلب حليم أي : صبور على ما يعترضه من الإيذاء ، ولذلك حلم عن أبيه ، مع توعده له بقوله :

لئن لم تنته لأرجمنك واستغفر له بقوله : سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وذلك قبل التبيين ، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك .

وفي الآية تأكيد لوجوب الاجتناب بعد التبيين ، بأنه صلى الله عليه وسلم تبرأ من أبيه بعد التبيين ، وهو في كمال رقة القلب والحلم ، فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابا وتبرؤا .

[ ص: 3282 ] تنبيهات :

الأول : ساق المفسرون ههنا روايات عديدة في نزول الآية ، ولما رآها بعضهم متنافية ، حاول الجمع بينها بتعدد النزول ، ولا تنافي ، لما قدمناه من أن قولهم ( نزلت في كذا ) قد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع من كذا بمعنى أن نزولها يتناوله . وقد يراد به أن كذا كان سببا لنزولها ، وما هنا من الأول ، ونظائره كثيرة في التنزيل ، وقد نبهنا عليه مرارا ، لا سيما في المقدمة . فاحفظه .

الثاني : قال عطاء بن أبي الرباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنى ، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين ، ثم قرأ الآية . وهذا فقه جيد .

الثالث : قال بعض اليمانيين : استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل . وهذا يحكى عن أبي جعفر : إذا قال : ( آه ) لم تبطل صلاته ، لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك ، ومذهب الأئمة بطلانها ، سواء قال : ( آه ) أو ( أوه ) ، لأن ذلك من كلام الناس ، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة . انتهى .

الرابع : قال في ( " العناية " ) : ( أواه ) فعال للمبالغة من ( التأوه ) ، وقياس فعله أن يكون ثلاثيا ، لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه وحكى قطرب له فعلا ثلاثيا ، وهو ( آه يؤوه ) ، كقام يقوم ، أوها ، وأنكر عليه غيره بأن لا يقال إلا أوه وتأوه قال :


إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين


[ ص: 3283 ] والتأوه قول ( آه ) ونحوه مما يقوله الحزين ، فلذا كني به عن الحزن ، ورقة القلب . انتهى .

و ( أوه ) بفتح الواو المشددة ساكنة الهاء ، وأواه ، وأوه بسكون الواو ، والحركات الثلاث قال :


فأوه على زيارة أم عمرو فكيف مع العدا ومع الوشاة ؟


وربما قلبوا الواو ألفا ، فقالوا : آه من كذا قال :


آه من تياك آها تركت قلبي متاها


و ( آه ) بكسر الهاء منونة وحكي أيضا آها وواها ، وفيها لغات أخرى أوصلها " التاج " إلى اثنتين وعشرين لغة ، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن ، مبنيات على ما لزم آخرها إلا ( آها ) ، فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر ، كأنه قيل : أتأسف تأسفا .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 115 ] وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم .

وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون هذا من تتمة ما تقدم من تأكد مباينة المشركين ، والبراءة منهم ، وترك الاستغفار لهم ، وذلك لأنهم حقت عليهم الكلمة ، حيث قامت عليهم الحجة بإبلاغ الرسول إليهم ما يتقون ، ودلالته إياهم على الصراط السوي فضلوا عنه ، فأضلهم الله ، واستحقوا عقابه .

[ ص: 3284 ] وقوله تعالى : إن الله بكل شيء عليم تعليل لما سبق ، أي : إنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل بمعرفته ، فبين لهم ذلك ، كما فعل هنا .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 116 ] إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير .

إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير تقوية لما تقدم من التبرؤ منهم ، وإرشاد للمؤمنين بأن يتكلوا على ربهم ، ولا يرهبوا من أولئك ، فإنه إذا كان ناصرهم فلا يضرهم كيدهم ، وتنبيه على لزوم امتثال أمره ، والانقياد لحكمه ، والتوجه إليه وحده ، إذ لا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه تعالى .

تنبيه :

وقف كثير من المفسرين في الآية هنا ، أعني قوله تعالى : وما كان الله ليضل قوما الآية ، على ما روي في الآية قبلها ، من نزولها في استغفار وقع من المؤمنين للمشركين ، فربطوا هذه الآية بتلك ، على الرواية المذكورة ، ونزلوها على المؤمنين ، فقالوا : وما كان الله ليضل قوما أي : ليحكم عليهم باستغفارهم للمشركين بالضلال بعد إذ هداهم بالنبوة والإيمان ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه ، فتتركوا ، فأما إذا لم يبين فلا ضلال ، إلى آخر ما قالوه . . . .

وما أبعده من تفسير وتأويل الرازي ذكره وجها ، وأشفعه بما اعتمدناه ، وهو الحق .
[ ص: 3285 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 117 ] لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم .

لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم

اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك ، مؤمنهم ومنافقهم ، والمنفق لها طوعا أو كرها ، والمرغب فيها أو عنها ، والمتخلف نفاقا أو كسلا ، وأنبأ عما لحق كلا من الوعد والوعيد ، وميز الصادقين من غيرهم ، ختم بفرقة منهم كانوا تخلفوا ميلا للدعة وهم صادقون في إيمانهم ، ثم ندموا فتابوا وأنابوا ، وعلم الله صدق توبتهم ، فقبلها ، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية ، وصدرها بتوبته على رسوله ، وكبار صحبه جبرا لقلوبهم ، وتنويها لشأنهم بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم وبعثا للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرين والأنصار ، كل على حسبه ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأنها صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء ، كما وصفهم بالصالحين ، ليظهر فضيلة الصلاح والوصف للمدح ، كما يكون لمدح الموصوف ، يكون لمدح الصفة ، وهذا من لطائف البلاغة ، وهو كما قال حسان رضي الله عنه :


ما إن مدحت محمدا بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمد


وفي الآية بيان فضل المهاجرين والأنصار .

[ ص: 3286 ] قال الحاكم : ودلت على فضل عثمان ، لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه ، وقد جمع تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم ، ووصفهم باتباعه ، فوجب القطع بموالاتهم .

وقوله تعالى : في ساعة العسرة أي : في وقتها ، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق ، كما تستعمل الغداة والعشية واليوم ، والعسرة حالهم في غزوة تبوك ، كانوا في عسرة من الظهر ، يعتقب العشرة على بعير واحد ، وفي عسرة من الزاد ، حتى إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتدالون التمرة بينهم ، يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، ثم يمصها الآخر ، ثم يشرب عليها : وفي عسرة من شدة لهبان الحر ومن الجدب ، وفي عسرة من الماء ، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره ، فعصر فرثه فشربه ، وجعل ما بقي على كبده .

وقد حكى القالي في " أماليه " أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها ، سقوا الإبل على أتم أظمائها ثم قطعوا مشافرها ، أو خزموها لئلا ترعى ، فإذا احتاجوا إلى الماء افتظوا كروشها ، فشربوا ثميلها ، وهو كثير في الأشعار . كذا في ( " العناية " ) .

ونقل الرازي عن أبي مسلم ، أنه يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة ، جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول ، وعلى المؤمنين ، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها .

وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وقوله : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوقات الشديدة ، والأحوال الصعبة ، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم . انتهى .

[ ص: 3287 ] أقول هذا الاحتمال ، وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم ، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية ، وسباقها ، القاصران على غزوة تبوك ، ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج ، واتباعه عليه السلام ، بل وقع أحيانا في مصاف القتال .

وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها ( غزوة العسرة ) ، ومن خرج فيها ( جيش العسرة ) .

وقوله تعالى : من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم أي : عن الحق ، أو الثبات على الإتباع للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم .

وفي تكرير التوبة عليهم بقوله تعالى : ثم تاب عليهم تأكيد ظاهر ، واعتناء بشأنها ، هذا إذا كان الضمير راجعا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم ، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني ، فلا تكرار .

قال بعضهم : ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب ، تفضلا منه ، وتطييبا لقلوبهم . ثم ذكر الذنب بعد ذلك ، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم . ثم أتبعه بقوله : إنه بهم رءوف رحيم تأكيدا لذلك .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 118 ] وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم .

وعلى الثلاثة الذين خلفوا أي : تركوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال ، كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم ، والثلاثة هم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وكلهم من الأنصار ، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بتوبتهم .

وقوله تعالى : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي : مع سعتها ، وهو مثل الحيرة في أمرهم ، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقرون فيه ، قلقا وجزعا مما هم فيه ، إذ لم يمكنهم [ ص: 3288 ] الذهاب لأحد ، لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من مجالستهم ومحادثتهم . و ( إذا ) ، يجوز كونها شرطية جوابها مقدر ، وأن تكون ظرفية غاية لما قبلها .

وضاقت عليهم أنفسهم أي : قلوبهم من فرط الوحشة والجفوة والغم ، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وذلك لأنهم لازموا بيوتهم ، وهجروا نحوا من خمسين ليلة ، وفيه ترق من ضيق الأرض إلى ضيقهم في أنفسهم ، وهو في غاية البلاغة وظنوا أي : علموا أن لا ملجأ من الله أي : لا مفر من غضب الله إلا إليه أي : إلى استغفاره ثم تاب عليهم ليتوبوا أي : ليستقيموا على توبتهم ، ويستمروا عليها ، أو ليعدوا من جملة التائبين ، أو المعنى : قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل ، إذا صدرت منهم هفوة ، ولا يقنطوا من كرمه : إن الله هو التواب الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 119 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين .

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين أي : في إيمانهم ومعاهدتهم لله ولرسوله على الطاعة ، من قوله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه أو هم الثلاثة ، أي : كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم .

تنبيهات :

الأول : روى الإمام أحمد والشيخان حديث كعب وصاحبيه مبسوطا بما يوضح هذه الآية :

قال الزهري : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه - وكان قائد كعب من بنيه ، حين عمي - قال : سمعت كعبا يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 3289 ] في غزوة تبوك .

قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط ، إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ، ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .

ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، حين توافقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر .

وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط ، حتى جمعتهما في تلك الغزاة .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها ، إلا ورى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز ، واستقبل عدوا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ، ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم وجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان ـ .

قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل .

وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة ، حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر - أي : أميل - فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا ، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا ، والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، وقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ، ثم ألحقه ، فغدوت بعد لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فألحقهم - وليتني فعلت - ثم لم يقدر ذلك لي .

فكنت إذا خرجت في الناس ، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذره الله عز وجل . ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك . فقال وهو جالس في القوم بتبوك : « ما فعل كعب بن مالك ؟ » فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه ، والنظر في عطفيه ! فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت . والله ! يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 3290 ] قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك ، حضرني بثي أتذكر الكذب ، وأقول : بم أخرج من سخطته غدا ؟ وأستعين على ذلك بك ذي رأي من أهلي .

فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما ، زاح عن الباطل ، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس - فلما فعل ذلك ، جاءه المتخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم رسول الله علانيتهم ، ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي : « تعال ! » فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : « ما خلفك ؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرا ؟ » فقلت يا رسول الله ! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر . لقد أعطيت جدلا ، ولكني ، والله لقد علمت ، لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ، ليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه ، إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل . والله ما كان لي عذر ، والله ! ما كنت قط أفزع ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 08-03-2023 08:13 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3291 الى صـ 3305
الحلقة (393)


قال : فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك ! » فقمت ، وقام إلي رجال من بني سلمة ، واتبعوني ، فقالوا لي : والله ! ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك .

قال : فوالله ! ما زالوا حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي .

قال : ثم قلت لهم : هل لقي معي هذا أحد ؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك . قلت : فمن هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العامري ، وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا ، لي فيهما أسوة .

[ ص: 3291 ] قال : فمضيت حين ذكروهما لي .

فقال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا ، أيها الثلاثة ، من بين من تخلف . فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة .

فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأسلم وأقول في نفسي : أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني .

حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين ، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي ، وأحب الناس إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني ، فسلمت عليه ، فوالله ! ما رد علي السلام . فقلت له : يا أبا قتادة ! أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال فسكت .

قال : فعدت له فنشدته فسكت ، فعدت له فنشدته فسكت ، فقال : الله ورسوله أعلم . قال ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار . فبينما أنا أمشي بسوق المدينة ، إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ، ممن قدم بطعامه يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ قال فطفق الناس يشيرون إلي ، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان ، وكنت كاتبا ، فإذا فيه :

أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك .

قال - فقلت حين قرأته - : وهذا أيضا من البلاء .

قال : فتيممت به التنور فسجرته به . حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين ، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول : [ ص: 3292 ] يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك . قال : فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال : بل اعتزلها ولا تقربها .

قال : وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك . قال : فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء ! قال : فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! إن هلالا شيخ ضعيف ، ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : لا ، ولكن لا يقربك ! قالت : وإنه والله ! ما به من حركة إلى شيء ، وإنه والله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا .

قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه . قال : فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقوله فيها إذا استأذنته ، وأنا رجل شاب .

قال : فلبثنا عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين انتهى عن كلامنا .

قال : ثم صليت صلاة الصبح ، صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا ، قد ضاقت علي نفسي ، وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع ، يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك ! قال : فخررت ساجدا ، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا ، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض إلي رجل فرسا ، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه .

والله ـ ما أملك يومئذ غيرهما - واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بتوبة الله ، يقولون : ليهنك توبة الله عليك ! حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ، والناس حوله ، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول ، حتى صافحني وهنأني ـ والله ! ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره - قال : [ ص: 3293 ] فكان كعب لا ينساها لطلحة .

قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ وهو يبرق وجهه من السرور ـ : « أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ! » قال ، قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : « لا ، بل من عند الله » . قال ، وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه ، حتى كأنه قطعة قمر ، حتى يعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي ، صدقة إلى الله وإلى رسوله . قال : « امسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك » . قال ، فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت . قال ، فوالله ! ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث ، منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن مما أبلاني الله تعالى . والله ! ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي .

قال ، وأنزل الله : لقد تاب الله إلى آخر الآيات .

قال كعب : فوالله ! ما أنعم علي من نعمة قط ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي ، شر ما قال لأحد . فقال الله تعالى : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين

قال : وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوا ، فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو ، وإنما هو تخليفه إيانا ، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له ، واعتذر إليه ، فقبل منه .


[ ص: 3294 ] وفي رواية : ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي ، وكلام صاحبي ، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا ، فاجتنب الناس كلامنا ، فلبث كذلك حتى طال علي الأمر ، فما من شيء أهم إلي من أن أموت ، فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون بتلك المنزلة ، فلا يكلمني أحد منهم ، ولا يصلي علي ، ولا يسلم علي .

قال : وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة ، وكانت أم سلمة محسنة في شأني ، معتنية بأمري . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك » . قالت : أفلا أرسل إليه فأبشره ؟ قال : « إذا فيحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل » .

حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ، آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا
- أخرجه البخاري ومسلم - .

قال ابن كثير : هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته ، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها .

الثاني : قال بعض المفسرين : في الآية دليل على الشدة على من فعل الخطيئة وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة .

الثالث : في الآية دليل على التحريض على الصدق .

قال القاشاني : في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أي : في جميع الرذائل بالاجتناب عنها ، خاصة رذيلة الكذب ، وذلك معنى قوله : وكونوا مع الصادقين فإن الكذب أسوء الرذائل وأقبحها ، لكونه ينافي المروءة ، وقد قيل : لا مروءة لكذوب ، إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان إخبار الغير عما لا يعلم ، فإذا كان الخبر غير مطابق ولم تحصل فائدة النطق ، وحصل منه اعتقاد غير مطابق ، وذلك من خواص الشيطنة فالكذاب شيطان . وكما أن الكذب أقبح الرذائل ، فالصدق أحسن الفضائل ، وأصل كل حسنة ، ومادة كل خصلة محمودة ، وملاك كل خير وسعادة، وبه يحصل كل كمال ، [ ص: 3295 ] وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه ، كما قال : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في عقد العزيمة ، ووعد الخليقة . كما قال في إسماعيل :

إنه كان صادق الوعد

وإذا روعي في المواطن كلها ، حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل ، صدقت المنامات والواردات ، والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات ، كأنه أصل شجرة الكمال ، وبذرة ثمرة الأحوال . انتهى .

ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين ، أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب كفاية ، فلا يجوز تخلف الجميع ، ولا يلزم النفر للناس كافة ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 120 ] ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين .

ما كان لأهل المدينة أي : المتيسر لهم ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله أي : عند توجهه إلى الغزو ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أي : لا يضنوا بأنفسهم عما يصيب نفسه ، أي : لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد .

قال الزمخشري : أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يكابدوا معه الأهوال [ ص: 3296 ] برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه ، علما بأنها أعوز النفس عند الله وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت ، مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيموا لها وزنا ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه .

وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية . انتهى .

روي أن أبا ذر رضي الله عنه ، أبطأ به بعيره ، فحمل متاعه على ظهره ، واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده : « كن أبا ذر ! » فقال الناس : هو ذاك ! فقال : « رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده » .

وروي أن أبا خيثمة الأنصاري رضي الله عنه ، بلغ بستانه ، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل ، وبسطت له الحصير ، وقربت إليه الرطب ، والماء البارد .

فنظر فقال : ظل ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، وامرأة حسناء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ، ما هذا بخير ! فقام فرحل ناقته ، وأخذ سيفه ورمحه ، ومر كالريح . فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق ، فإذا براكب يزهاه السراب ، فقال : « كن أبا خيثمة ! » فكانه ، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستغفر له .


قال السهيلي في ( " الروض " ) : كن أبا ذر ، كن أبا خيثمة ، لفظه لفظ الأمر ، ومعناه كما تقول : أسلم ، أي : سلمك الله . انتهى .

[ ص: 3297 ] وكذا قال غيره من المتقدمين كالفارسي ، وذكره المطرزي في قول الحريري : كن أبا زيد .

وفي شعر ابن هلال :


ومعذر قال الإله لحسنه : كن فتنة للعالمين فكانها


ولم يزيدوا في بيانه على هذا ، وهو تركيب بديع غريب ، ومعناه ساقه الله إلينا . وجعله إياه ، ليكون هو القادم علينا ، فأقيم فيه العلة مقام المعلول في الجملة الدعائية الإنشائية ، على حد قوله في الحديث : « أبل وأخلق » . أي : عمرك الله ، ومتعك الله بلباسك لتبلى وتخلق .

وقولهم : أسلم . أي : سلمك الله لتسلم ، ثم لما أقيم مقامه أبقي مسندا إلى فاعله ، وإن كان المطلوب منه هو الله ، وهو قريب من قولهم : ( أرينك ههنا ) ، أي : لا تجلس حتى أراك ، وهو تمثيل أو كناية . كذا في ( " العناية " ) .

ذلك إشارة إلى ما دل عليه قوله ( ما كان ) من النهي عن التخلف أو وجوب المشابهة بأنهم أي : بسبب أنهم : لا يصيبهم ظمأ أي : شيء من العطش : ولا نصب أي : تعب من السير لا سيما مع العطش ولا مخمصة أي : مجاعة تضعفهم عن السير : في سبيل الله ولا يطئون موطئا أي : لا يدوسون مكانا يغيظ الكفار أي : الذين هم أعداء الله ، وإغضاب العدو يفيد رضا عدوه ولا ينالون من عدو نيلا أي : قتلا أو هزيمة أو سرا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين أي : على إحسانهم . وهو تعليل لـ : ( كتب ) ، وتنبيه على أن تحمل المشاق إحسان ، لأن القصد به إعلاء كلمة الله تعالى .
[ ص: 3298 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 121 ] ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون .

ولا ينفقون نفقة صغيرة أي : لا يشق مثلها ولا كبيرة مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في غزوة تبوك ، وهو ألف دينار وثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها ولا يقطعون واديا في مسيرهم ، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل ، اسم فاعل من ( ودي ) ، إذا سال ، فهو السيل نفسه ، ثم شاع في محله ، ثم صار حقيقة في مطلق الأرض ، وجمعه ( أودية ) كناد بمجلس ، جمعه ( أندية ) وناج جمعه ( أنجية ) ، ولا رابع لها في كلام العرب إلا كتب لهم أي : أثبت لهم به عمل صالح ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون أي : ليجزيهم على كل عمل لهم ، كامل أو قاصر ، جزاء أحسن أعمالهم . أي : فإذا مالوا بأنفسهم فاتهم ذلك ، وكانت المؤاخذة عليهم أشد .

ولما بين تعالى ، فيما تقدم ، خطر التخلف عن الرسول في الجهاد ، وشدد الوعيد على المتخلفين التاركين للنفير ، دفع ما يتوهم من وجوب النفر على الجميع ، وفيه ما فيه من الحرج ، والإخلال بأمر المعاش ، بأن وجوبه كفائي ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 122 ] وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون .

وما كان المؤمنون لينفروا كافة أي : ما صح ولا استقام ، بحيث تخلو بلدانهم عن الناس فلولا نفر أي : فحين لم يمكن نفير الكافة ، ولم يكن مصلحة ، فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة أي : من كل جماعة كثيرة ، جماعة قليلة منهم [ ص: 3299 ] يكفونهم النفير : ليتفقهوا في الدين أي : ليتعلموا أمر الدين من النبي صلى الله عليه وسلم ولينذروا قومهم أي : يعلموهم ويخبروهم ما أمروا به ، وما نهوا عنه : إذا رجعوا إليهم أي : من غزوتهم لعلهم يحذرون أي : فيصلحون أعمالهم .

تنبيهات :

الأول : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : في الآية أن الجهاد فرض كفاية ، وأن التفقه في الدين ، ونشر العلم ، وتعليم الجاهلين كذلك ، وفيها الرحلة في طلب العلم .

واستدل بها قوم على قبول خبر الواحد ، لأن الطائفة نفر يسير ، بل قال مجاهد : إنها تطلق على الواحد . انتهى .

وقال الجصاص في ( " الأحكام " ) : في الآية دلالة على لزوم خبر الواحد في الديانات التي لا تلزم العامة ، ولا تعم الحاجة إليها ، وذلك لأن الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحوى الدلالة عليه من وجهين :

أحدهما : أن الإنذار يقتضي فعل المأمور به ، وإلا لم يكن إنذارا .

والثاني : أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة ، لأن معنى قوله : لعلهم يحذرون ليحذروا ، وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد ، لأن الطائفة تقع على الواحد ، فدلالتها ظاهرة . انتهى .

وفي " القاموس " : أن الطائفة من الشيء القطعة منه ، أو الواحدة فصاعدا ، أو إلى الألف ، أو أقلها رجلان ، أو رجل ، فيكون بمعنى ( النفس الطائفة ) .

قال الراغب : إذا أريد بالطائفة الجمع ، فجمع ( طائف ) ، وإذا أريد به الواحد ، فيصح أن يكون جمعا ، وكني به عن الواحد ، وأن يجعل كـ ( راوية ) و ( علامة ) ، ونحو ذلك .

الثاني : إن قيل : كان الظاهر في الآية : ليتفقهوا في الدين وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون ، فلم وضع موضع ( التعليم ) الإنذار ، وموضع ( يفقهون ) يحذرون ؟ [ ص: 3300 ] يجاب : بأن ذلك آذن بالغرض منه ، وهو اكتساب خشية الله ، والحذر من بأسه .

قال الغزالي رحمه الله : كان اسم الفقه في العصر الأول ، اسما لعلم الآخرة ، ومعرفة دقائق آفات النفوس ، ومفسدة الأعمال ، والإحاطة بحقارة الدنيا ، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة ، واستيلاء الخوف على القلب ، ويدل عليه هذه الآية . كذا في ( " العناية " ) .

قال الزمخشري في الآية : وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه ، إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ، ويؤمونه من المقاصد الركيكة ، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد ، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ، ومنافسة بعضهم بعضا ، وفشو داء الضرائر بينهم ، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر ، أو شرذمة جثوا بين يديه ، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم . فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل :

لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا انتهى .

الثالث : قال القاشاني في الآية : يجب على كل مستعد من جماعة ، سلوك طريق طلب العلم ، إذا لا يمكن لجميعهم ، أما ظاهرا فلفوات المصالح ، وأما باطنا فلعدم الاستعداد .

ثم قال : والتفقه في الدين هو من علوم القلب ، لا من علوم الكسب ، إذ ليس كل من يكتسب العلم يتفقه ، كما قال : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه والأكنة هي الغشاوات الطبيعية ، والحجب النفسانية فمن أراد التفقه فلينفر في سبيل الله ، وليسلك طريق التزكية والتصفية ، حتى يظهر العلم من قلبه على لسانه ، فالمراد من التفقه علم راسخ في القلب ، ضارب بعروقه في النفس ، ظاهر أثره على الجوارح ، بحيث لا يمكن صاحبه ارتكاب ما يخالف ذلك العلم ، وإلا لم يكن عالما .

ألا ترى كيف سلب الله الفقه عمن لم تكن رهبة [ ص: 3301 ] الله أغلب عليه من رهبة الناس بقوله : لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لكون رهبة الله لازمة للعلم ، كما قال : إنما يخشى الله من عباده العلماء وسلب العلم عمن لم يعمل به في قوله : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإذا تفقهوا ، وظهر علمهم على جوارحهم ، أثر في غيرهم ، وتأثروا منه ، لارتوائهم به ، وترشحهم منه ، كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلزم الإنذار الذي هو غايته . انتهى .

ولما أمر تعالى في صدر السورة ، بالبراءة من مشركي العرب وقتالهم ، ثم شرح أحوال المنافقين ومخازيهم ، أشار إلى خاتمتها بما يطابق فاتحتها بذلك ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 123 ] يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين .

يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار أي : يقربون منكم ، وهم مشركو جزيرة العرب ، كما قلنا .

وقوله تعالى : وليجدوا فيكم غلظة قالوا إنها كلمة جامعة للجرأة والصبر على القتال ، وشدة العداوة ، والعنف في القتل والأسر .

وظاهرها أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين غلظة ، والمقصود أمر المؤمنين بالاتصاف بصفات كالصبر وما معه ، حتى يجدهم الكفار متصفين بها ، فهي على حد قولهم : لا أرينك ههنا .

والغلظة هي ضد الرقة ، مثلثة الغين ، وبها قرئ . لكن السبعة على الكسر

واعلموا أن الله مع المتقين أي : بالنصرة والمعونة .
[ ص: 3302 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 124 ] وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون .

وإذا ما أنـزلت سورة أي : طائفة من القرآن المعجز المحيط بجملة من الحجج ورفع الشبه فمنهم أي : من المنافقين من يقول بعضهم لبعض ، أيكم زادته هذه أي : السورة إيمانا إنكارا واستهزاء بالمؤمنين ، واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا لأنها أزيد لليقين والثبات ، وأثلج للصدر ، لكثرة الدلائل ، ورفع الشبه وهم يستبشرون أي : بنزولها وبما فيه من المنافع الدينية والدنيوية .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 125 ] وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون .

وأما الذين في قلوبهم مرض أي : كفر وسوء عقيدة فزادتهم رجسا إلى رجسهم أي : كفرهم بها مضموما إلى الكفر بغيرها وماتوا وهم كافرون أي : واستحكم ذلك الكفر فيهم ، بسبب الزيادة إلى موتهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 126 ] أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون .

أولا يرون يعني المنافقين أنهم يفتنون أي : يبتلون بإظهار مكرهم وخيانتهم ، [ ص: 3303 ] أو بنقض عهدهم في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون أي : من صنيعهم ونقض عهدهم ولا هم يذكرون أي : يتعظون بأنها آيات قاطعة ، وكون الابتلاء بسبب مخالفتها .

ثم بين أحوالهم عند نزولها وهم في محفل تبليغ الوحي ، إثر بيان مقالتهم ، وهم غائبون عنه بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 127 ] وإذا ما أنـزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون .

وإذا ما أنـزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد

قال الزمخشري : يعني تغامزوا بالعيون إنكارا للوحي ، وسخرية به ، قائلين : هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نصبر على استماعه ، ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا . يقولون : هل يراكم من أحد ثم انصرفوا أي : عن محفل الوحي خوفا من الافتضاح صرف الله قلوبهم أي : عن الإيمان حسب انصرافهم عن حضرته عليه السلام .

والجملة إخبارية أو دعائية بأنهم أي : بسبب أنهم قوم لا يفقهون أي : لا يتدبرون أمر الله حتى يفقهوا .

تنبيهات :

الأول : دلت الآية المتقدمة على زيادة الإيمان بما ذكر ، وسواء قلنا بدخول الأعمال في مسمى الإيمان ، وهو الحق أو لا ، وأنه مجرد التصديق القلبي ، فالزيادة مما يقبلها قطعا ، والأول بديهي ، والثاني مثله ، إذ ليس إيمان الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، والصحابة رضي الله عنهم ، كإيمان غيرهم وهذا مما لا يرتاب فيه .

الثاني : ذكر تعالى من مخازي المنافقين نوعين : عدم اعتبارهم بالابتلاء ، وتمكن الكفر [ ص: 3304 ] منهم ، وازدياده في وقت يقتضي زيادة الإيمان ، وهو تكرير التنزيل .

ولما كان القصد بيان إصرارهم على كفرهم ، وعدم نفع العظات فيهم ، ختم مخازيهم بذلك ، لأنه نتيجتها ، وقدم عليه ما يصيبهم من الابتلاء ، لأن فيه ردعا عظيما لو تذكروا .

وقد تلطف القاشاني في إيضاح ذلك ، وجود التقرير فيه ، وعبارته :

البلاء قائد من الله تعالى يقود الناس إليه ، وقد ورد في الحديث : « البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه » ، فإن كل مرض وفقر وسوء حال يحل بأحد ، بكسر سورة نفسه وقواها ، ويقمع صفاتها وهواها ، فيلين القلب ، ويبرز من حجابها ، وينزعج من الركون إلى الدنيا ولذاتها ، وينقبض منها ويشمئز ، فيتوجه إلى الله .

وأقل درجاته أنه إذا اطلع على أن لا مفر منه إلا إليه ، ولم يجد مهربا ومحيصا من البلاء سواه ، تضرع إليه وتذلل بين يديه ، كما قال : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما

وبالجملة يوجب رقة الحجاب أو ارتفاعه ، فليغتنم وقته وليتعوذ ، وليتخذ ملكة يعود إليها أبدا حتى يستقر التيقظ والتذكر ، وتتسهل التوبة والحضور ، فلا يتعود الغفلة عند الخلاص فتغلب ، وتتقوى النفس عند الأمان ، وينسبل الحجاب أغلظ مما كان ، كما قال : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه انتهى .

الثالث : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : أخذ ابن عباس من قوله : ثم انصرفوا كراهية أن يقال : انصرفت من الصلاة - أخرجه ابن أبي حاتم - .

ومرجع هذا إلى أدب لفظي ، باجتناب ما يوهم ، أو ما نعي به على العصاة .

[ ص: 3305 ] وقد عقد الإمام ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) فصلا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق ، واختيار الألفاظ ، فليراجع .

ثم بين تعالى ما امتن به على المؤمنين من بعثة خاتم النبيين بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 128 ] لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .

لقد جاءكم رسول من أنفسكم أي : رسول عظيم من جنسكم ، ومن نسبكم ، عربي قرشي مثلكم ، كما قال إبراهيم عليه السلام : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم وقال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم

وكلم جعفر بن أبي طالب النجاشي ، والمغيرة بن شعبة رسول كسرى ، فقالا :

إن الله بعث فينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته . الحديث .

ثم ذكر تعالى ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله : عزيز عليه ما عنتم أي : شديد عليه شاق ، لكونه بعضا منكم ، عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة ، والوقوع في العذاب حريص عليكم أي : على هدايتكم ، كي لا يخرج أحد منكم عن اتباعه ، والاستسعاد بدين الحق الذي جاء به بالمؤمنين رءوف إذ يدعوهم لما ينجيهم من العقاب بالتحذير عن الذنوب والمعاصي ، لفرط رأفته رحيم إذ يفيض عليهم العلوم والمعارف ، والكمالات المقربة بالتعليم والترغيب فيها ، برحمته .
[ ص: 3306 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 129 ] فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .

فإن تولوا أي : أعرضوا عن الإيمان بك ، وناصبوك : فقل حسبي الله أي : فاستعن به ، وفوض إليه ، فهو كافيك وناصرك عليهم .

وقال القاشاني : أي : لا حاجة لي بكم ، ولا باستعانتكم ، كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المألوم المتعفن الذي يجب قطعه عقلا ، أي : الله كافيني فلا مؤثر غيره ، ولا ناصر إلا هو ، كما قال : لا إله إلا هو عليه توكلت أي : فوضت أمري إليه ، وبه وثقت : وهو رب العرش العظيم أي : المحيط بك شيء ، يأتي منه حكمه وأمره إلى الكل ، وتخصيصه لكونه أعظم المخلوقات ، فيدخل ما دونه ، وقرئ ( العظيم ) بالرفع ، على أنه صفة الرب جل وعز .

تم ما علقناه صباح الاثنين في 24 رجب سنة 1322 هجرية ، في سدة جامع السنانية بدمشق الشام ، اللهم يسر لنا بفضلك الإتمام ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين إلى يوم الدين .

ويليه الجزء التاسع وفيه تفسير سور : يونس وهود ويوسف والرعد .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 08-03-2023 08:17 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد التاسع
صـ 3321 الى صـ 3335
الحلقة (394)




[ ص: 3320 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

10 - سُورَةُ يُونُسَ

سُمِّيَتْ بِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِتَضَمُّنِهَا قَوْلَهُ: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ فَفِيهِ غَايَةُ مَا يُفِيدُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَضَرَرُ تَرْكِهِ وَتَأْخِيرِهِ، وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْأَعْلَى مِنْ إِنْزَالِ الْكِتَابِ -قَالَهُ الْمَهَايِمِيُّ-.

وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الْآيَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ الْآيَةَ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَقِيلَ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مَكِّيٌّ، وَالْبَاقِي مَدَنِيٌّ -حَكَاهُ ابْنُ الْفُرْسِ وَالسَّخَاوِيُّ فِي (جَمَالِ الْقُرَّاءِ).

وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ.

[ ص: 3321 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

[ 1 ] الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ

الر مَسْرُودٌ عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ بِطَرِيقِ التَّحَدِّي، أَوِ اسْمٌ لِلسُّورَةِ فَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ مُسَمَّاةٌ بِـ "الر". وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا قَبْلَ جَرَيَانِ ذِكْرِهَا لِمَا أَنَّهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا عَلَى جَنَاحِ الذِّكْرِ وَبِصَدَدِهِ، صَارَتْ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ، أَوِ النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ: اقْرَأْ.

وَكَلِمَةُ "تِلْكَ" إِشَارَةٌ إِلَيْهَا، أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ "الر" مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، فَقَدْ نَزَّلَ حُضُورَ مَادَّتِهَا، الَّتِي هِيَ الْحُرُوفُ الْمَذْكُورَةُ مَنْزِلَةَ ذِكْرِهَا فَأُشِيرَ إِلَيْهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمَبْسُوطَةِ... إِلَخْ.

وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ اسْمًا لِلسُّورَةِ، فَقَدْ نَوَّهَتْ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا بَعْدَ تَنْوِيهِهَا بِتَعْيِينِ اسْمِهَا، أَوِ الْأَمْرِ بِقِرَاءَتِهَا. وَمَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الْبُعْدِ; لِلتَّنْبِيهِ عَلَى بُعْدِ مَنْزِلَتِهَا فِي الْفَخَامَةِ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ "الر" مُبْتَدَأً، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَالْمَعْنَى: هِيَ آيَاتٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْهُ، مُتَرْجَمَةٌ بِاسْمٍ مُسْتَقِلٍّ، وَالْمَقْصُودُ بِبَيَانِ بَعْضِيَّتِهَا مِنْهُ، وَصْفًا بِمَا اشْتُهِرَ اتِّصَافُهُ بِهِ مِنَ النُّعُوتِ الْفَاضِلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ.

وَالْمُرَادُ بِـ "الْكِتَابِ": إِمَّا جَمِيعُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلِ الْكُلُّ حِينَئِذٍ ; لِاعْتِبَارِ تَعْيِينِهِ وَتَحَقُّقِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا جَمِيعُ الْقُرْآنِ النَّازِلِ وَقْتَئِذٍ، الْمُتَفَاهِمِ بَيْنَ النَّاسِ إِذْ ذَاكَ.

وَ "الْحَكِيمِ" أَيْ ذُو الْحِكْمَةِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى فُنُونِ الْحُكْمِ الْبَاهِرَةِ، وَنُطْقِهِ بِهَا، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ وَصْفِ الْكَلَامِ بِصِفَةِ صَاحِبِهِ، أَوْ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تَشْبِيهِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ النَّاطِقِ بِالْحِكْمَةِ -أَفَادَهُ أَبُو السُّعُودِ-.
وقوله تعالى:

[ ص: 3322 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 2 ] أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين

أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جارية أبدا على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال، وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه، وعدم مناسبة حالهم لحاله، ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه، و (القدم) بمعنى السبق مجازا، لكونه سببه وآلته، كما تطلق (اليد) على النعمة، و (العين) على الجاسوس، و (الرأس) على الرئيس. ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة، فهو مجاز بمرتبتين أو (القدم) بمعنى المقام كـ: مقعد صدق بإطلاق الحال وإرادة المحل، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله (قدم صدق) أي محققة مقررة، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم، ظاهرا وباطنا.

قال في (الانتصاف): ولم يرد في سابقة السوء تسميتها (قدما) إما لأن المجاز لا يطرد، وإما أن يكون مطردا، ولكن غلب العرف على قصرها، كما يغلب في الحقيقة.

قال الكافرون وهم المتعجبون "إن هذا" أي الكتاب الحكيم لسحر مبين أي ظاهر. وقرئ "لساحر" على أن الإشارة إلى الرسول صلوات الله عليه. وهو دليل عجزهم واعترافهم، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا، وذلك لأن التعجب أولا، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعا، حتى عند نفس المعارض، دأب العاجز المفحم.
ثم بين تعالى بطلان تعجبهم، وما بنوا عليه، وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه، وصحة ما أنكروه، بالتنبيه على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير، ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير، فقال سبحانه:

[ ص: 3323 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 3 ] إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون

إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش قال البخاري في صحيحه في الرد على الجهمية:

قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع، وقال مجاهد: استوى على العرش علا، أي بلا تمثيل ولا تكييف. والعرش: هو الجسم المحيط بجميع الكائنات، وهو أعظم المخلوقات. و (الأيام) قيل: كهذه، وقيل: كل يوم كألف سنة.

يدبر الأمر أي يقضي ويقدر، على حسب مقتضى الحكمة أمر الخلق كله، و ما من شفيع إلا من بعد إذنه تقرير لعظمته وعز جلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله. ذلكم الله إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي ذلك العظيم الموصوف بما وصف به هو ربكم أي الذي رباكم لتعبدوه فاعبدوه أي وحدوه بالعبادة. أفلا تذكرون أي تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة، لا ما تعبدونه.
[ ص: 3324 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 4 ] إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون

إليه مرجعكم جميعا أي بالموت أو النشور، أي لا ترجعون في العاقبة إلا إليه، فاستعدوا للقائه وعد الله حقا أي صدقا، ثم علل وجوب المرجع إليه بقوله سبحانه إنه يبدأ الخلق أي من النطفة ثم يعيده أي بعد الموت ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط أي بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، أو بإيمانهم ; لأنه العدل القويم، كما أن الشرك ظلم عظيم، وهو الأوجه لمقابلة قوله: والذين كفروا لهم شراب من حميم أي من ماء حار قد انتهى حره وعذاب أليم وجيع يخلص ألمه إلى قلوبهم بما كانوا يكفرون تعليل لقوله لمقابلة قوله، فإن معناه ليجزي الذي كفروا بشراب من حميم، وعذاب أليم، بسبب كفرهم، لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب بجعله حقا مقررا لهم، كما تفيده (اللام) وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة. والعقاب واقع بالعرض بكسبهم، وعلى أنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما لا تحيط العبارة به لفخامته وعظمته، ولذلك لم يعينه.
ثم نبه تعالى، للاستدلال على وحدته في ربوبيته، بآثار صنعه في النيرين، إثر الاستدلال بما مر من إبداع السماوات والأرض، بقوله سبحانه:
[ ص: 3325 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 5 ] هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون

هو الذي جعل الشمس ضياء للعالمين بالنهار والقمر نورا أي لهم بالليل" والضياء أقوى من النور وقدره منازل الضمير لهما، بتأويل كل واحد منهما، أو للقمر، وخص بما ذكر، لكون منازله معلومة محسوسة، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدة في تواريخ العرب "لتعلموا عدد السنين والحساب" أي حساب الشهور والأيام، مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات: ما خلق الله ذلك إلا بالحق أي بالحكمة البالغة يفصل الآيات لقوم يعلمون أي يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك لقوم يعلمون الحكمة في إبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على وحدة مبدعها.

قال السيوطي: هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب ومنازل القمر والتاريخ، ثم نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضا بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 6 ] إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون

إن في اختلاف الليل والنهار أي في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر وما خلق الله في السماوات والأرض أي من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك لآيات لقوم يتقون أي لآيات عظيمة دالة على وحدة مبدعها، وكمال قدرته، وبالغ حكمته، وخص "المتقين" لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها، فإن الداعي إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى، والحذر من العاقبة.

[ ص: 3326 ] تنبيه:

في هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة، وأودع فيها المنافع الظاهرة، وأبدع في كل كائن صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، وميز الإنسان وعلمه البيان -يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته، ليبلغ عنه شرائع عامة، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة، كما أشار إلى ذلك بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 7 ] إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون [ 8 ] أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون [ 9 ] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم [ 10 ] دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين

إن الذين لا يرجون لقاءنا أي فلا يتوقعون الجزاء ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أي لا يتفكرون فيها أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم أي بسببه، إلى مأواهم، وهي الجنة، وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها، وانسياق النفس إليها، لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم [ ص: 3327 ] أي من تحت منازلهم أو بين أيديهم. دعواهم فيها سبحانك اللهم أي: دعاؤهم هذا الكلام; لأن "اللهم" نداء، ومعناه: اللهم إنما نسبحك، كقول القانت: اللهم إياك نعبد. يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى، كما يقال: شكا يشكو شكاية وشكوى، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره آية: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وتحيتهم فيها سلام أي ما يحيي به بعضهم بعضا، أو تحية الملائكة إياهم، كما في قوله تعالى: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم أو تحية الله عز وجل لهم، كما في قوله تعالى: سلام قولا من رب رحيم و (التحية) التكرمة بالحالة الجلية. أصلها: أحياك الله حياة طيبة. و (السلام) بمعنى السلامة من كل مكروه وآخر دعواهم أي وخاتمة دعائهم هو التسبيح أن الحمد لله رب العالمين أي حمده تعالى: والمراد من الآية أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك. وإيثار التعبير عن "وبحمدك" بقوله "وآخر" إلخ رعاية للفواصل، واهتماما بالحمد وما معه من النعوت الجليلة تذكيرا بمسماها، والآية تدل على سمو هذا الذكر; لأنه دعاء أهل الجنة وذكر الملائكة كما قالوا: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ولذلك ندب قراءته بعد تكبيرة الإحرام.

قال الرازي: لما استسعد أهل الجنة بذكر "سبحانك اللهم وبحمدك"، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية، والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء.

ولما بين تعالى وعيده الشديد، أتبعه بما دل على أن من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيوية ; لأن حصوله في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف فقال تعالى:
[ ص: 3328 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 11 ] ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون

ولو يعجل الله للناس وهم الذين لا يرجون لقاءه تعالى لكفرهم الشر أي الذي كانوا يستعجلون به، فإنهم كانوا يقولون: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ونحو ذلك: استعجالهم بالخير أي تعجيلا مثل استعجالهم الدعاء بالخير لقضي إليهم أجلهم أي لأميتوا وأهلكوا فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون أي في ضلالهم وشركهم يترددون.

لطيفة:

زعم الزمخشري أن معنى استعجالهم بالخير، أي تعجيله لهم الخير، وضع الأول موضع الثاني إشعارا بسرعة إجابته لهم، وإسعافه بطلبتهم، حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم. وعندي أنه صرف اللفظ الكريم عن ظاهره بلا داع. ولا بلاغة فيه أيضا، وإن توبع فيه والحرص على موافقة عامل المصدر له ليكونا من باب واحد، غير ضروري في العربية، والشواهد كثيرة.

وجوز الرازي أن يكون "يعجل" أصله يستعجل. عدل عنه تنزيها للجناب الأقدس عن وصف طلب العجلة، فوصف بتكوينها، ووصف الناس بطلبها ; لأنه الأليق.

ولعل الأليق أن "استعجالهم" مصدر لفعل دل عليه ما قبله، والتقدير، ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلون به استعجالهم. وإنما حذف إيجازا ; للعلم به، ويوافقه قوله تعالى: ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير فإنه في معنى ما هنا.
[ ص: 3329 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 12 ] وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون

وإذا مس الإنسان الضر دعانا أي لكشفه وإزالته لجنبه حال من فاعل (دعا) واللام بمعنى (على) أي على جنبه، أي مضطجعا أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر أي مضى على طريقته الأولى كأن لم يدعنا إلى ضر أي كشفه مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون أي من الإعراض عن الذكر، واتباع الشهوات. والآية سيقت احتجاجا على المشركين، بما جبلوا عليه كغيرهم من الالتجاء إليه تعالى عند الشدائد، علما بأنه لا يكشفها إلا هو، ليطرحوا عبادة ما لا يضر ولا ينفع، ويستيقنوا أنه الإله الأحد، الذي لا يعبد سواه، وفيها نعى عليهم سوء منقلبهم، إثر كشف كرباتهم، وتحذير من مثل صنيعهم.

ثم ذكرهم تعالى بعظيم قدرته مما وصل إليهم من نبأ الأقدمين ليتقوه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 13 ] ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين

ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا أي بالتكذيب والكفر وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا أي فقرر عليهم الحجة بالوجوه الكثيرة. وما كانوا ليؤمنوا بتلك البينات ولا بغيرها، فجزاهم بالإهلاك المعروف فيهم. كذلك نجزي القوم المجرمين
[ ص: 3330 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 14 ] ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون

ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون الخطاب للذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها، لننظر كيف تعملون من خير أو شر، فنعاملكم حسب عملكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 15 ] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم

وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش، بأنهم إذا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة، قالوا له: ائت بقرآن غير هذا، أي جئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر. قال تعالى لنبيه: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي أي ليس ذلك إلي، إنما أنا مبلغ عن الله تعالى.

قيل: إنما اكتفى بالجواب عن التبديل ; للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولا، من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها. وأن التصدي لذلك، مع كونه ضائعا; ربما يعد من قبيل المجاراة مع السفهاء، إذ لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء. ولأن ما يدل على استحالة [ ص: 3331 ] الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى، فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل والحقيقة. وقوله: إن عصيت ربي أي بالتبديل والنسخ من عند نفسي.

قال السيوطي في (الإكليل) استدل به من منع نسخ القرآن بالسنة. اهـ.

قال الزمخشري: فإن قلت: فما كان غرضهم، وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح; قلت: الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن، ففيه أنه من عندك، وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر. وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع، ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه، وتصحيحا لافترائه على الله -انتهى -.

ولما بين بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته; أشار إلى تحقيق حقية القرآن، وكونه من عنده تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 16 ] قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون

قل لو شاء الله ما تلوته عليكم

قال الزمخشري: يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمرا عجيبا خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع، ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء، فيقرأ عليكم كتابا فصيحا، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحونا بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان ويكون ناطقا بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفا من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه، وألصقهم به.

[ ص: 3332 ] ولا أدراكم به أي ولا أعلمكم به على لساني فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أي من قبل نزوله، لا أتعاطى شيئا مما يتعلق بنحوه، ولا كنت متواصفا بعلم وبيان، فتتهموني باختراعه. أفلا تعقلون أي فتعلموا أنه ليس إلا من الله، لا من مثلي.

قال الزمخشري: وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم "ائت بقرآن غير هذا" من إضافة الافتراء إليه.

تنبيه:

رأى أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام; لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم، واقتصار حاله عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي، وامتناع الاستبداد بالرأي، من غير تعرض هناك ولا هاهنا ; لكون القرآن في نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر، ولا لكونه عليه السلام غير قادر على الإتيان بمثله، أن يستشهد هاهنا على المطلوب مما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان. كما ينبئ عنه تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى.

والمعنى: قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي، لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة. فضلا عما فيه كذب أو افتراء، أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد، مستحيل أن يفتري على الله، ويتحكم على الخلق كافة، بالأوامر والنواهي الموجبة لسفك الدماء، وسلب الأموال، ونحو ذلك، وأن ما أتى به وحي مبين، تنزيل من رب العالمين -انتهى-.

وما استنسبه رحمه الله، اقتصر عليه ابن كثير، ثم استشهد بقول هرقل ملك الروم [ ص: 3333 ] لأبي سفيان، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال هرقل له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت لا! وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة، وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق.
والفضل ما شهدت به الأعداء


فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله.

وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.

وعن ابن المسيب: ثلاثا وأربعين سنة، والصحيح المشهور الأول.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 17 ] فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون [ 17 ].

فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته استفهام إنكاري معناه الجحد. أي لا أحد أظلم ممن تقول على الله تعالى، وزعم أنه تعالى أرسله وأوحى إليه، أو كفر بآياته، كما فعل المشركون بتكذيبهم للقرآن، وحملهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام.

إنه لا يفلح المجرمون أي لا ينجون من محذور، ولا يظفرون بمطلوب، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله وترتيب عدم الفلاح على من افترى الوحي، وعده صادق بلا مرية، فإن مفتريه يبوء بالخزي والنكال، ولا يشتبه أمره على أحد بحال.

[ ص: 3334 ] وقد ذكر أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب -وكان صديقا له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعد- فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو! وماذا أنزل على صاحبكم -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرؤون سورة عظيمة قصيرة. فقال: وما هي؟ فقال: والعصر إن الإنسان إلخ، ففكر مسيلمة ساعة ثم قال: وأنا قد أنزل علي مثله! فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر.. إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر. كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله! إنك لتعلم أني أعلم أنك لكذاب.

وقال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل منه، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: فكان أول ما سمعته يقول: « أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام » . قال حسان:


لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 18 ] ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون

ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم أي الأوثان التي هي جماد [ ص: 3335 ] لا تقدر على نفع ولا ضر، أي ومن شأن المعبود القدرة على ذلك. ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض أي أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوما له -وهو العالم المحيط بجميع المعلومات- لم يكن موجودا، فكان خبرا ليس له مخبر عنه.

فإن قلت: كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه.

وقوله في السماوات ولا في الأرض تأكيد لنفيه ; لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم -كذا في الكشاف-. سبحانه وتعالى عما يشركون أي عن الشركاء الذي يشركونهم به، أو عن إشراكهم.

ثم أشار تعالى إلى أن التوحيد والإسلام ملة قديمة كان عليها الناس أجمع، فطرة وتشريعا، بقوله تعالى:
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg






ابوالوليد المسلم 08-03-2023 08:20 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد التاسع
صـ 3336 الى صـ 3350
الحلقة (395)





القول في تأويل قوله تعالى:

[ 19 ] وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون

وما كان الناس إلا أمة واحدة أي حنفاء متفقين على ملة واحدة، وهي فطرة الإسلام والتوحيد التي فطر عليها كل أحد فاختلفوا باتباع الهوى وعبادة الأصنام، فالشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة صرفا للناس عن وجهة التوحيد، ولذلك بعث الله الرسل بآياته وحججه البالغة ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة"، ولولا [ ص: 3336 ] كلمة سبقت من ربك أي بتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة لقضي بينهم أي عاجلا فيما فيه يختلفون بتمييز الحق من الباطل، بإبقاء المحق، وإهلاك المبطل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 20 ] ويقولون لولا أنـزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين

ويقولون لولا أنـزل عليه آية من ربه أي من الآيات التي اقترحوها تعنتا وعنادا، وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة، التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر، بديعة غريبة في الآيات فقل إنما الغيب لله أي هو المختص بعلم الغيب، المستأثر به، لا علم لي ولا لأحد به. يعني أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو.

فانتظروا إني معكم من المنتظرين أي فيما يقضيه الله تعالى في عاقبة تعنتكم، فإن العاقبة للمتقين. وقد قال تعالى في آية أخرى: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وقال تعالى: إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية وقال تعالى ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين أي فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا لمقترحهم، لفرط عنادهم. ولا يخفى أن القرآن الكريم لما قام به الدليل القاهر على صدق نبوته، عليه السلام، لإعجازه، كان طلب آية أخرى سواه من مقترحهم- مما لا حاجة له في صحة نبوته، وتقرير رسالته، فمثلها يكون مفوضا إلى مشيئته تعالى، فترد إلى غيبه، وسواء أنزلت أو لا، فقد ثبتت نبوته، ووضحت رسالته، صلوات الله عليه.

[ ص: 3337 ] ثم أكد تعالى ما هم عليه من العناد واللجاج، مشيرا إلى أنهم لا يذعنون، ولو أجيبوا لمقترحهم، بما يعهد منهم من عدولهم عنه تعالى بعد كشفهم ضرهم إلى الإشراك، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 21 ] وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون

وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم إذا لهم مكر في آياتنا أي يتبين مكرهم ويظهر كامن شركهم، فهم في وقت الضراء في الإقبال عليه تعالى لكشفها، كالمخادع الذي يظهر خلاف ما يبطن، ثم ينجلي أمره بعد قل الله أسرع مكرا أي عقوبة، أي عذابه أسرع وصولا إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق، وتسمية العقوبة بالمكر لوقوعها في مقابلة مكرهم وجودا أو ذكرا. إن رسلنا أي الذين يحفظون أعمالكم يكتبون ما تمكرون أي مكركم، أو ما تمكرونه، وهو تحقيق للانتقام، وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الحفظة، فضلا عن العليم الخبير.

ثم بين تعالى نوعا من أنواع مكرهم في آية إنجائهم من لجج البحر بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 22 ] هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين

هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك أي السفن [ ص: 3338 ] وجرين أي السفن بهم أي بالذين فيها بريح طيبة أي لينة الهبوب، موافقة للمرغوب وفرحوا بها لأمن الآيات جاءتها ريح عاصف أي ذات شدة وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم أي أحاط بهم أسباب الهلاك، وهي شدة الموج والريح دعوا الله أي للتخلص منها مخلصين له الدين وهو الدعاء لأنهم حينئذ لا يدعون معه غيره لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين أي العابدين لك شكرا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 23 ] فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون

فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق أي يفسدون فيها، ويسارعون إلى ما كانوا عليه من الشرك ونحوه يا أيها الناس أي الناسين نعمة الخلاص بالإخلاص واستجابة الدعاء إنما بغيكم على أنفسكم أي وباله عليكم. متاع الحياة الدنيا خبر محذوف أو هو متاع. أو خبر ثان أو هو الخبر لـ (بغيكم) و (على) متعلق به. وقرئ بالنصب مصدر لمحذوف، أي نمتعكم. أو مفعول به له. أي تبغون ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون أي في الدنيا وهو وعيد بجزائهم على البغي.
ثم بين تعالى شأن الدنيا وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود بقوله:

[ ص: 3339 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 24 ] إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون

إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض أي امتزج به لسريانه فيه، فالباء للمصاحبة، أو هي للسببية، أي اختلط بسببه حتى خالط بعضه بعضا، أي التف بعضه ببعض، والأول أظهر مما يأكل الناس والأنعام من الزروع والثمار والكلأ والحشيش حتى إذا أخذت الأرض زخرفها أي حسنها وبهجتها وازينت أي بأصناف النبات وظن أهلها أنهم قادرون عليها أي متمكنون من تحصيل حبوبها وثمرها وحصدها أتاها أمرنا أي عذابنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا أي كالمحصود من أصله كأن لم تغن أي لم تنبت بالأمس أي قبيل ذلك الوقت. و (الأمس) مثل في الوقت القريب كذلك نفصل الآيات أي بالأمثلة تقريبا لقوم يتفكرون أي في معانيها.

تنبيه:

قال القاشاني: البغي ضد العدل، فكما أن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل، وهيأة وحدانية لها، فائضة من نور الوحدة على النفس، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل، بحيث يستلزمها جميعا، فصاحبها في غاية البعد عن الحق، ونهاية الظلمة، كما قال: الظلم ظلمات يوم القيامة. فلهذا قال: "على أنفسكم" لا على المظلوم ; لأن المظلوم [ ص: 3340 ] سعد به، وشقي الظالم غاية الشقاء، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا ; إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية، ولذات حيوانية، تنقضي بانقضاء الحياة الحسية التي مثلها في سرعة الزوال، وقلة البقاء، هذا المثل الذي مثل به، من تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر، ثم فسادها ببعض الآفات سريعا قبل الانتفاع بنباتها، ثم تتبعها الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم.

وفي الحديث: « أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة » ; لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى. انتهى.

وسمعت بعض المشايخ يقول: قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة، وذلك لمبارزتهما الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه، ومخالفتهما إياه في حكمته وعدله. انتهى.

ولما ذكر تعالى الدنيا وسرعة تقضيها، رغب في الجنة ودعا إليها، وسماها دار السلام، أي من الآفات والنقائص، لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معرضا للآفات كما مر، فقال سبحانه:
[ ص: 3341 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 25 ] والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 26 ] للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

والله يدعو إلى دار السلام أي يدعو الخلق بتوحيده إلى جنته ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم أي دين قيم يرضاه، وهو الإسلام.

للذين أحسنوا الحسنى وزيادة أي للذين أحسنوا النظر، فعرفوا مكر الدنيا والشهوات، فأعرضوا عنها، وتوجهوا إلى الله تعالى، فعبدوه كأنهم يرونه، المثوبة الحسنى، وهي الجنة، وزيادة على المثوبة، وهي التفضل كما قال تعالى: "ويزيدهم من فضله" ، وأعظم أنواعه النظر إلى وجهه تعالى الكريم. ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحد من الصحابة والتابعين. ورفعها ابن جرير إلى النبي صلوات الله عليه، عن أبي موسى وكعب بن عجرة، وأبي. وكذا ابن أبي حاتم.

وروى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: للذين أحسنوا إلخ، وقال: « إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله! ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم » وهكذا رواه مسلم.

[ ص: 3342 ] ولا يرهق وجوههم قتر أي لا يغشاها غبرة سوداء من أثر حب الدنيا والشهوات ولا ذلة أي أثر هوان، وكسوف بال، من أثر الالتفات إلى ما دون الله تعالى.

قال الناصر: وفي تعقيب الزيادة بهذه الجملة مصداق لصحة تفسير الزيادة بالرؤية الكريمة، فإن فيه تنبيها على إكرام وجوههم بالنظر إلى وجه الله تعالى، فجدير بهم أن لا يرهق وجوههم قتر البعد، ولا ذلة الحجاب، عكس المحرومين المحجوبين، فإن وجوههم مرهقة بقتر الطرد وذلة البعد.

وقوله تعالى: أولئك أي الذين أحسنوا أصحاب الجنة هم فيها خالدون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 27 ] والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

والذين كسبوا السيئات أي الشرك والمعاصي جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم أي واق يقيهم العذاب كأنما أغشيت أي ألبست وجوههم قطعا أي أجزاء من الليل مظلما لفرط سوادها وظلمتها. وذلك لارتكابهم الهيئة المظلمة من الميول الطبيعية، والأعمال الردية، والقصد الإخبار بأبدع تشبيه عن سواد وجوههم. وقد ذكر هذا المعنى في غير ما آية أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
ثم بين تعالى ما ينال المشركين يوم الحشر من التوبيخ والخزي بقوله سبحانه:

[ ص: 3343 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 28 ] ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون

ويوم نحشرهم جميعا يعني المشركين ومعبوداتهم للمقاولة بينهم ثم نقول للذين أشركوا أي معبوديهم بالله، مع توقعهم الشفاعة منهم مكانكم أنتم وشركاؤكم أي الزموا مكانكم، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. قال القاشاني: معناه قفوا مع ما وقفوا معه في الموقف من قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم، وتبرؤ المعبود من العابد لانقطاع الأغراض الطبيعية التي توجب تلك الوصل.

ومعنى قوله فزيلنا بينهم أي مع كونهم في الموقف معا، فرقنا بينهم، وقطعنا الوصل التي بينهم، فلا يبقى من العابدين توقع شفاعة، ولا من المعبودين إفادتها، لو أمكنتهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون إذ لم تكن عبادتكم عن أمرنا، بل عن أمر الشيطان، فكنتم عابديه بالحقيقة، بطاعتكم إياه، وعابدي ما اخترعتموه في أوهامكم من أباطيل فاسدة، وأماني كاذبة.

قيل: القول مجاز عن تبرئهم من عبادتهم، وأنهم عبدوا أهواءهم وشياطينهم ; لأنها الآمرة لهم دونهم ; لأن الأوثان جمادات وهي لا تنطق. وقيل: ينطقها الله الذي أنطق كل شيء ، فتشافههم بذلك، مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها.
[ ص: 3344 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 29 ] فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين

فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم أي: لنا لغافلين أي الله يعلم أنا ما أمرناكم بذلك وما أردنا عبادتكم إيانا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 30 ] هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون

هنالك أي في ذلك المقام المدهش، حين قطع المواصلة، وإنكار الشركاء العبادة تبلو كل نفس ما أسلفت أي تختبر وتذوق كل نفس ما أسلفت من العمل، فتعاين أثره من قبح وحسن، ورد وقبول، كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ليكتنه حاله، وهذا كقوله تعالى: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر وقوله: يوم تبلى السرائر

وردوا إلى الله مولاهم الحق الضمير للذين أشركوا، أي ردوا إلى الله المتولي جزاءهم بالعدل والقسط وضل عنهم ما كانوا يفترون أي ضاع عنهم ما افتروه من اختراعاتهم، وأصول دينهم ومذهبهم، وتوهماتهم الكاذبة، وأمانيهم الباطلة. أي ظهر ضياعه وضلاله ولم يبق له أثر فيهم.

وفي هذه الآية تبكيت شديد للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا، ولم يأمرهم بذلك، ولا رضي به، ولا أراده، بل تبرأ منهم أحوج ما يكونون إلى المعونة. والمشركون أنواع وأقسام، وقد ذكرهم تعالى في كتابه، وبين أحوالهم، ورد عليهم أتم رد.

ثم احتج على المشركين على وحدانيته باعترافهم بربوبيته وحده بقوله سبحانه وتعالى:
[ ص: 3345 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 31 ] قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون

قل من يرزقكم من السماء والأرض بالإمطار والإنبات وهل يمكن إلا ممن له التصرف العام فيها أمن يملك السمع والأبصار أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة، كقوله تعالى: قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار

ومن يخرج الحي من الميت يعني النسمة من النطفة، أو الطير من البيضة، أو السنبلة من الحب ويخرج الميت من الحي كأن يخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر. وقيل: المراد أن يخرج المؤمن من الكافر أو الكافر من المؤمن. ومن يدبر الأمر أي ومن يلي تدبير أمر العالم كله، بيده ملكوت كل شيء، تعميم بعد تخصيص فسيقولون الله إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحه فقل أفلا تتقون أي أفلا تخافون بعد اعترافكم، من غضبه لعبادة غيره اتباعا للهوى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 32 ] فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون

فذلكم إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله الله ربكم الحق الثابت وحدانيته ثباتا لا ريب فيه، لمن حقق النظر فماذا بعد الحق إلا الضلال يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال، أي فما بعد حقية ربوبيته إلا بطلان ربوبية ما سواه، وعبادة غيره، انفرادا أو شركة فأنى تصرفون أي عن الحق [ ص: 3346 ] الذي هو التوحيد، إلى الضلال الذي هو الشرك، وأنتم تعترفون بأنه الخالق كل شيء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 33 ] كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون

كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون أي ثبت حكمه وقضاؤه على الذين تمردوا في كفرهم، وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه. وقوله أنهم لا يؤمنون بدل من الكلمة، أي حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله منهم ذلك. أو أراد بالكلمة العدة بالعذاب و أنهم لا يؤمنون تعليل بمعنى (لأنهم لا يؤمنون) أفاده الزمخشري- أي كقوله تعالى: قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقوله تعالى: أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار قيل: الذين فسقوا مظهر وضع موضع ضمير المخاطبين للإشعار بالعلية، و(الفسق) هنا التمرد في الكفر، فآل الكلام إلى أن كلمة العذاب حقت عليهم، لتمردهم في كفرهم، ولأنهم لا يؤمنون، وهو تكرار. وأجيب بأنه تصريح بما علم ضمنا من الذين فسقوا أو دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان.

ثم احتج أيضا على حقية التوحيد وبطلان الشرك بما هو من خصائصه تعالى، من بدء الخلق وإعادته، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 34 ] قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون

قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده أي من يبدؤه من النطفة، ويجعل فيه الروح ليتعرف إليه، ويستعمله أعمالا، ثم يحييه يوم القيامة، ليجزيه بما أسلف [ ص: 3347 ] في أيامه الخالية. وإنما نظمت الإعادة في سلك الاحتجاج مع عدم اعترافهم بها ; إيذانا بظهور برهانها، للأدلة القائمة عليها سمعا وعقلا، وإن إنكارها مكابرة وعنادا لا يلتفت إليه، وإشعارا بتلازم البدء والإعادة وجودا وعدما، يستلزم الاعتراف به الاعتراف بها. ثم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يبين لهم من يفعل ذلك، فقيل له: قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون أي فكيف تصرفون إلى عبادة الغير، مع عجزه عما ذكر. ثم احتج عليهم أيضا، إفحاما إثر إفحام، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 35 ] قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون

قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق أي بوجه من الوجوه، كبعثة الرسل، وإيتاء العقل. وتمكين النظر في آيات الكون، والتوفيق للتدبر. قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق وهو تبارك وتعالى- أحق أن يتبع أي يعبد ويطاع أمن لا يهدي أي إلا أن يهديه الله تعالى -نزل منزلة من يعقل لإفحامهم- وقيل معناه: أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينقل، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء، إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه. وقد قرئ ((أمن لا يهدي)) بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، أصله يهتدي، أدغمت التاء في الدال، ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء؛ وقرئ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، لأنه لما نقلت الحركة التقى ساكنان، فكسر أولهما للتخلص من التقائهما، وقرئ بسكون [ ص: 3348 ] الهاء وبتخفيف الدال، على معنى (يهتدي) والعرب تقول: يهدي بمعنى يهتدي. يقال: هديته فهدي، أي اهتدى.

وقوله تعالى فما لكم مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار والتعجب. أي: أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم، فضلا عن هداية غيرهم شركاء. وقوله كيف تحكمون مستأنف، أي كيف تحكمون بالباطل، حيث تزعمون أنهم أنداد الله؟!
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 36 ] وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون

وما يتبع أكثرهم أي في اعتقادهم ألوهية الأصنام إلا ظنا اعتقادا غير مستند لبرهان، بل لخيالات فارغة، وأقيسة فاسدة. والمراد ب(الأكثر): الجميع إن الظن لا يغني من الحق أي من العلم والاعتقاد الحق شيئا أي من الإغناء. فـ " شيئا" في موضع المصدر، أي غناء ما. أو مفعول لـ " يغني" ، و " من الحق" حال منه. إن الله عليم بما يفعلون وعيد على اتباعهم الظن، وإعراضهم عن البرهان.

تنبيه:

قال الرازي في هذه الآية:

اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا، ثم بالهداية ثانيا، عادة مطردة في القرآن. فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك، فقال: الذي خلقني فهو يهدين وعن موسى عليه السلام مثله فقال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق [ ص: 3349 ] فسوى والذي قدر فهدى وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإنسان له جسد وروح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية، فهاهنا أيضا لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله: أمن يبدأ الخلق ثم يعيده أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية، والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح، كما قال تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد، وإنما أعطى الحواس، لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم. وأيضا فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم، أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة. أما الأحوال الروحانية، والمعارف الإلهية، فإنها كمالات باقية أبد الآباد، مصونة عن الكون والفساد. فعلمنا أن الخلق تبع للهداية، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية، ولاضطراب العقول وتشعب الأفكار كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده. والهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق، أو عن تحصيل معرفتها، وعلى كل فقد بينا أنها أشرف المراتب، وأعلى السعادات، وأنها ليست إلا منه تعالى. وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق، ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك، كانت عبادتها جهلا محضا، وسفها صرفا. فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال. اهـ.
ثم بين تعالى حقية هذا الوحي المنزل، رجوعا إلى ما افتتحت به السورة من صدق نبوة المنزل عليه، ودلائلها في آيات الله الكونية، والمنبئة عن عظيم قدرته، وجليل عنايته، بهداية بريته، فقال تعالى:

ثم بين [ ص: 3350 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 37 ] وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين

وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله لامتناع ذلك; إذ ليس لمن دونه تعالى كمال قدرته التي بها عموم الإعجاز ولكن تصديق الذي بين يديه أي مصدقا للتوراة والإنجيل والزبور بالتوحيد، وصفة النبي صلى الله عليه وسلم، و (تصديق) منصوب على أنه خبر (كان) أو علة لمحذوف، أي أنزله تصديق إلخ. وقرئ بالرفع خبرا لمحذوف، أي: هو تصديق الذي بين يديه. أي وبذلك يتعين كونه من الله تعالى ; لأنه لم يقرأها، ولم يجالس أهلها، وتفصيل الكتاب أي وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، من قوله كتاب الله عليكم كما قال علي رضي الله عنه: فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم. لا ريب فيه من رب العالمين أي منتفيا عنه الريب، كائنا من رب العالمين، أخبار أخر لما قبلها.

قال أبو السعود: ومساق الآية، بعد المنع عن اتباع الظن ; لبيان ما يجب اتباعه.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif





ابوالوليد المسلم 08-03-2023 08:58 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد التاسع
صـ 3351 الى صـ 3365
الحلقة (396)




القول في تأويل قوله تعالى:

[ 38 ] أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين

أم يقولون افتراه أي بل أيقولون. فـ (أم) منقطعة مقدرة بـ (بل والهمزة) عند الجمهور، والهمزة للإنكار. أي ما كان ينبغي ذلك. وقيل: متصلة، ومعادلها [ ص: 3351 ] مقدر. أي أيقرون به بعد ما بينا من حقيقته أم يقولون افتراء قل فأتوا بسورة مثله أي إن كان الأمر كما تزعمون، فأتوا، على وجه الافتراء، بسورة مثله في البلاغة، وحسن الصياغة، وقوة المعنى، فأنتم مثل في العربية والفصاحة، وأشد تمرنا في النظم وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين أي ادعوا من دونه تعالى، ما استطعتم من خلقه، للاستعانة به على الإتيان بمثله -إن صدقتم في أني اختلقته- فإنه لا يقدر عليه أحد.

قال أبو السعود: وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء، للتنصيص على براءتهم منه تعالى، وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 39 ] بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين

بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي، إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل، أي سارعوا إلى التكذيب به، وفاجؤوه في بديهة السماع، وقبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه، ويقفوا على تأويله ومعانيه وما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه ليس مما يمكن أن يقدر عليه مخلوق، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية، إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة، وبيان الاستقامة، أنكرها [ ص: 3352 ] في أول وهلة، واشمأز منها، قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد ; لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه، وفساد ما عداه من المذاهب. وسر التعبير بما لم يحيطوا بعلمه الإيذان بكمال جهلهم به، وأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم علمهم به -كذا في الكشاف وأبي السعود-.

ولما يأتهم تأويله أي بيان ما يؤول إليه، مما توعدهم فيه. وهذا المعنى هو الصحيح في الآية. وقد مشى عليه غير واحد.

قال في (تنوير الاقتباس): أي عاقبة ما وعدهم في القرآن.

وقال الجلال: أي عاقبة ما فيه من الوعيد.

وقال القاشاني: تأويله: أي ظهور ما أشار إليه في مواعيده، وأمثاله مما يؤول أمره وعلمه إليه، فلا يمكنهم التكذيب ; لأنه إذا ظهرت حقائقه لا يمكن لأحد تكذيبه.

كذلك كذب الذين من قبلهم أي بآيات الرسل، قبل التدبر في معانيها.

فانظر كيف كان عاقبة الظالمين أي من هلاكهم بسبب تكذيبهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 40 ] ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين [ 41 ] وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 42 ] ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون

ومنهم من يؤمن به أي يصدق به في نفسه، ولكن يكابر بالتكذيب ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين

[ ص: 3353 ] وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون أي إن أصروا على تكذيبك، فتبرأ منهم، فقد أعذرت.

ثم أشار إلى أنهم ممن طبع على قلوبهم بقوله تعالى: ومنهم من يستمعون إليك أي إذا قرأت القرآن أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون أبرزهم في عدم انتفاعهم بسماعهم، لكونهم لا يعون ولا يقبلون، بصورة الصم المعتوهين: أي أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم، ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم؟ لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل فقد تم الأمر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 43 ] ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون

ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون كذلك أبرزهم لعدم انتفاعهم بمشاهدة أدلة الصدق وأعلام النبوة، بصورة العمى المضموم إلى عماهم فقد البصيرة. أي: أتحب هداية من كان كذلك؟ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، أما مع الحمق فجهد البلاء. يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا، كالصم والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول -كذا في الكشاف-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 44 ] إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون

إن الله لا يظلم الناس شيئا بتعذيبهم من غير أن تقوم الحجة عليهم، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ومن غير أن يكونوا سليمي الحواس والمدارك، فإنه لعدله لا يفعل ذلك. ولكن الناس أنفسهم يظلمون بالكفر والتكذيب وعدم استعمال حاساتهم ومداركهم فيما خلقت له.
[ ص: 3354 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين

ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار أي: شيئا قليلا يتعارفون بينهم أي يعرف بعضهم بعضا، كأنهم لم يتعارفوا إلا قليلا. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله أي بالبعث بعد الموت وما كانوا مهتدين أي من الكفر والضلالة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 46 ] وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون [ 47 ] ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون

وإما نرينك بعض الذي نعدهم أي من العذاب أو نتوفينك أي قبل ذلك فإلينا مرجعهم أي فننجزهم ما وعدناهم كيفما دار الحال ثم الله شهيد على ما يفعلون أي من مساوئ الأفعال.

ولكل أمة رسول أي منهم، أرسل لهدايتهم، وتزكيتهم بما يصلحهم فإذا جاء رسولهم أي فبلغهم ما أرسل به فكذبوه قضي بينهم بالقسط أي بالعدل، فأنجي الرسول وأتباعه، وعذب مكذبوه وهم لا يظلمون أي في ذلك القضاء المستوجب لتعذيبهم ; لأنه من نتائج أعمالهم.

وقال القاشاني في قوله تعالى قضي بينهم أي بهداية من اهتدى منهم، وضلالة [ ص: 3355 ] من ضل وسعادة من سعد، وشقاوة من شقي، لظهور ذلك بوجوده، وطاعة بعضهم إياه لقربه منه، وإنكار بعضهم له لبعده عنه. أو قضى بينهم بإنجاء من اهتدى به وإثابته، وإهلاك من ضل وتعذيبه، لظهور أسباب ذلك بوجوده -انتهى-. فالآية على هذا كقوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وجوز أن يكون المعنى: لكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه، وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، قضى بينهم بإنجاء المؤمنين، وعقاب الكافرين. كقوله تعالى: وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 48 ] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ 49 ] قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون

ويقولون متى هذا الوعد استبعادا له، واستهزاء به إن كنتم صادقين أي في أنه يأتينا، ولما فيه من الإشعار بكون إتيانه بواسطة النبي صلوات الله عليه، قيل: قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا أي مع ذلك أقرب حصولا، فكيف أملك لكم حتى أستعجل في جلب العذاب لكم وتقديم الضر، لما أن مساق النظم لإظهار العجز عنه، وأما ذكر النفع فلتوسيع الدائرة تعميما. والمعنى لا أملك شيئا ما.

إلا ما شاء الله أي أن أملكه، أو لكن ما شاء الله كائن، فالاستثناء متصل أو منقطع. وصوب أبو السعود الثاني، بأن الأول يأباه مقام التبرؤ من أن يكون، عليه الصلاة والسلام، له دخل في إتيان الوعد. وبسط تقريره.

[ ص: 3356 ] وأفاد بعض المحققين أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن الكريم للدلالة على الثبوت والاستمرار، كما في هذه الآية، وقوله: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك قال: والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى، لا بطبيعتها في نفسها، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل. اهـ. وهو نفيس جدا فليحرص على حفظه.

وقوله تعالى لكل أمة أجل أي لكل واحد من آحاد كل أمة أجل معين إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قال القاشاني: درجهم إلى شهود الأفعال بسلب الملك والتأثير عن نفسه، ووجوب وقوع ذلك بمشيئة الله، ليعرفوا آثار القيامة. ثم لوح إلى أن القيامة الصغرى هي بانقضاء آجالهم المقدرة عند الله بقوله: لكل أمة أجل الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 50 ] قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون

قل أرأيتم أي أخبروني إن أتاكم عذابه أي الذي تستعجلون به بياتا أي ليلا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون أي ولا شيء منه بمرغوب البتة.

لطائف:

الأولى – (أرأيت) يستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية، وهو أصل وضعه، ثم استعملوه بمعنى (أخبرني) والرؤية فيه يجوز أن تكون بصرية وعلمية، فالتقدير: أأبصرت حالته العجيبة، أو أعرفتها؟ فأخبرني عنها. ولذا لم يستعمل في غير الأمر العجيب. ولما كانت رؤية الشيء سببا لمعرفته، ومعرفته سببا للإخبار عنه، أطلق السبب القريب [ ص: 3357 ] أو البعيد، وأريد مسببه، وهل هو بطريق التجوز كما ذهب إليه كثير، أو التضمين كما ذهب إليه أبو حيان- كذا في (العناية).

الثانية - سر إيثار (بياتا) على (ليلا) مع ظهور التقابل فيه ; الإشعار بالنوم والغفلة، وكونه الوقت الذي يبيت فيه العدو، ويتوقع فيه، ويغتنم فرصة غفلته، وليس في مفهوم الليل هذا المعنى، ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش، حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار، أو النهار كله محل الغفلة، لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو غذاء، أو زمان قيلولة، كما في قوله: بياتا أو هم قائلون بخلاف الليل، فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات، فلذا خص بالذكر دون النهار. و (البيات) بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم، لا بمعنى البيتوتة.

الثالثة -قيل: إن استعجالهم العذاب، كان المقصود منه الاستبعاد والاستهزاء، دون ظاهره، فورود (ما) هنا في الجواب على الأسلوب الحكيم. لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا الاستبعاد أن الموعود منه تعالى، وأنه افتراء، فطلبوا منه تعيين وقته تهكما وسخرية، فقال في جوابهم هذا التهكم لا يتم إذا كنت مقرا بأني مثلكم، وأني لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا، فكيف أدعي ما ليس لي به حق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح، ولم يلتفت إلى تهكمهم واستبعادهم -أفاده الطيبي-.

الرابعة - سر إيثار ماذا يستعجل منه المجرمون على (ماذا يستعجلون منه) هو الدلالة على موجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام، لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعا من مجيئه، وإن أبطأ، فضلا عن أن يستعجله -كذا في (الكشاف)-.

قال في (الانتصاف): وفي هذا النوع البليغ نكتتان:

إحداهما: وضع الظاهر مكان المضمر.

[ ص: 3358 ] والأخرى: ذكر الظاهر بصيغة زائدة مناسبة للمصدر.

وكلاهما مستقل بوجه من البلاغة والمبالغة -والله أعلم-.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 51 ] أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون

أثم إذا ما وقع آمنتم به إنكار لإيمانهم بنزول العذاب بعد وقوعه حقيقة، داخل مع ما قبله من إنكار استعجالهم به بعد إتيانه حكما، تحت القول المأمور به. أي: أبعد ما وقع العذاب وحل بكم حقيقة آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان؟ إنكارا لتأخيره إلى هذا الحد، وإيذانا باستتباعه للندم والحسرة، ليقلعوا عما هم عليه من العناد، ويتوجهوا نحو التدارك قبل فوت الفوات -أفاده أبو السعود -.

وقوله تعالى: آلآن وقد كنتم به تستعجلون على إرادة القول. أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد معاينة العذاب ، آلآن آمنتم به ؟ وذلك إنكارا للتأخير، وتوبيخا عليه. وسر وضع " تستعجلون" موضع (تكذبون) الذي يقتضيه الظاهر ; الإشارة إلى أن المراد به الاستعجال السابق، وهو التكذيب والاستهزاء، استحضارا لمقالتهم، فهو أبلغ من (تكذبون).

وقيل: الاستعجال كناية عن التكذيب، وفائدة هذه الحال استحضارها. هذا ما ذكروه، ولا مانع من بقاء الاستعجال على حقيقته، يدل عليه آية: وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة إلخ، فهم مع تهكمهم رضوا بأن يعاينوا آية يعذبون بها، لما في قلوبهم من مرض العناد العضال، والجهل المصم المعمي، ولذلك أجيبوا بأن العذاب هل فيه ما يستعجل منه! أي فمثل هذا الاستعجال لا يصدر ممن [ ص: 3359 ] له مسكة من عقل ; إذ لا يستعجل إلا ما يرجى خيره، ثم أعلمهم بعدم فائدة إيمانهم وقتئذ، وما يوبخون به، إنكارا للتأخير -والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 52 ] ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون [ 53 ] ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين

ثم قيل للذين ظلموا أي أشركوا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون في الآخرة إلا بما كنتم تكسبون أي تقولون وتعملون في الدنيا.

ويستنبئونك أي يستخبرونك أحق هو أي الوعد بعذاب الخلد، أو ادعاء النبوة أو القرآن: قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين أي بفائتين العذاب. فهو لاحق بكم لا محالة، من (أعجزه) الشيء إذا فاته. ويصح كونه من (أعجزه) بمعنى وجده عاجزا. أي: ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزا عن إدراككم، وإيقاعه بكم.

لطائف:

الأولى- دل سؤالهم هذا على محض جهلهم أو عنادهم، لما ثبت من البرهان القاطع على نبوته بمعجز القرآن، وإذا صحت النبوة لزم القطع بصحة كل ما ينبئهم عنه، مما يصدعهم به.

الثانية- إنما أمر بالقسم لاستمالتهم، وللجري على ما هو المألوف في المحاورة، من تحقيق المدعي، فإن من أقسم على خير، فقد كساه حلة الجد، وخلع عنه لباس الهزل: إنه لقول فصل وما هو بالهزل

[ ص: 3360 ] الثالثة- لما كانت الناس طبقات، كان منهم من لا يسلم إلا ببرهان حقيقي، ومنهم من لا ينتفع به، ويسلم إلا بالأمور الإقناعية، نحو القسم، كالأعرابي الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله عن رسالته وبعثه، وأنشده بالذي بعثه، ثم اقتنع بقوله صلوات الله عليه: « اللهم نعم » فقال: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة، -رواه البخاري في أوائل كتاب العلم-.

الرابعة- قال ابن كثير: هذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ: وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم وفي التغابن: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير -انتهى -.

وقد استمد ابن كثير هذا مما ذكره شيخه الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) قال: وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعا، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع، ثم ذكر هذه الآيات، ثم قال: وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه - فتحاكم إليه يوما هو وخصم له، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود، فتهيأ للحلف، فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف، ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني عن الحلف، وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه؟ قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جدا، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم. انتهى.
[ ص: 3361 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 54 ] ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون

ولو أن لكل نفس ظلمت أي بالشرك بالله، أو التعدي على الغير، أو مطلقا ما في الأرض أي من الأموال لافتدت به أي لجعلته فدية لها من العذاب وأسروا الندامة أي أخفوها أسفا على ما فعلوا من الظلم. وضمير " أسروا" للنفوس، المدلول عليها بـ (كل نفس). والعدول إلى صيغة الجمع ; لتهويل الخطب، بكون الخطب بطريق الاجتماع لما رأوا العذاب أي عاينوه وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون أي فيما فعل بهم من العذاب ; لأنه جزاء ظلمهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 55 ] ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 56 ] هو يحيي ويميت وإليه ترجعون

ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون إعلام بأن له الملك كله، وأنه المثيب المعاقب، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق، وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجى، ولا يغتر به المغترون -كذا في الكشاف-.
[ ص: 3362 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 57 ] يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين

يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم أي تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد، والإنذار والبشارة، والزجر عن الذنوب المورطة في العقاب، والتحريض على الأعمال الموجبة للثواب، لتعملوا على الخوف والرجاء وشفاء لما في الصدور أي القلوب من أمراضها، كالشك والنفاق، والغل والغش، وأمثال ذلك، بتعليم الحقائق، والحكم الموجبة لليقين، وتصفيتها بقبول المعارف، والتنور بنور التوحيد وهدى أي لنفوسكم من الضلالة ورحمة للمؤمنين أي لمن آمن به، بالنجاة من العذاب والارتقاء إلى درجات النعيم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 58 ] قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون

قل بفضل الله يعني القرآن الذي أكرموا به وبرحمته يعني الإسلام فبذلك أي فبمجيئهما فليفرحوا أي لا بالأمور الفانية القليلة المقدار، الدنيئة القدر والوقع هو خير مما يجمعون أي من الأموال وأسباب الشهوات، إذ لا ينتفع بجميعها ولا يدوم، ويفوت به اللذات الباقية، بحيث يحال بينهم وبين ما يشتهون.

والفاء داخلة في جواب شرط مقدر، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فيهما فليفرحوا. أو هي رابطة لما بعدها بما قبلها، لدلالتها على تسبب ما بعدها عما قبلها. والفاء الثانية زائدة لتأكيد الأولى، أو الزائدة الأولى، لأن جواب الشرط في الحقيقة فليفرحوا و (بذلك) مقدم من تأخير، وزيدت فيه الفاء للتحسين. وكذلك جوز أن يكون بدلا من قوله بفضل الله وبرحمته
[ ص: 3363 ] ثم بين تعالى أن من فضله على الناس تبيين الحرام من الحلال على ألسنة الرسل، لئلا يفتروا عليه الكذب بتحريم ما أحل أو عكسه، كما فعل المشركون، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 59 ] قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون

قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق أي ما خلق لكم من حرث وأنعام فجعلتم منه حراما وحلالا أي أنزله تعالى رزقا حلالا كله، فبغضتموه، وقلتم: هذا حلال وهذا حرام، كقولهم: هذه أنعام وحرث حجر ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا قل آلله أذن لكم في الحكم بالتحريم والتحليل، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه أم على الله تفترون أي تختلقون الكذب،
ثم بين وعيد هذا الافتراء بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 60 ] وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون

وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة أي فيما يفعل بهم، وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم، حيث أبهم أمره إن الله لذو فضل على الناس في إنزال الوحي وتعليم الحلال والحرام ولكن أكثرهم لا يشكرون أي هذه النعمة، فيستعملون ما وهب إليهم من الاستعداد والعلوم في مطالب النفس الخسيسة، ولا يتبعون ما هدوا إليه.
[ ص: 3364 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 61 ] وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين

وما تكون في شأن أي أمر ما وما تتلو منه أي التنزيل من قرآن أي سورة أو آية ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه أي تخوضون وتندفعون فيه وما يعزب أي يغيب عن ربك من مثقال ذرة أي نملة أو هباء في الأرض ولا في السماء أي في دائرة الوجود والإمكان.

وقوله تعالى: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين كلام برأسه، مقرر لما قبله، أي مكتوب مبين، لا التباس فيه. والمراد بالآية البرهان على إحاطة علمه تعالى بحال أهل الأرض، بأن من لا يغيب عن علمه شيء كيف لا يعرف حال أهل الأرض، وما هم عليه مع نبيه صلى الله عليه وسلم؟! وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 62 ] ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 63 ] الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 64 ] لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم

ألا إن أولياء الله جمع ولي، وهو في الأصل ضد العدو، بمعنى المحب، وجاز كونه هنا بمعنى الفاعل، أي الذين يتولونه بالطاعة، كقوله تعالى: ومن يتول الله ورسوله [ ص: 3365 ] والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وبمعنى المفعول أي الذي يتولاهم بالإكرام، كقوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وقوله: إنما وليكم الله ورسوله الآية -وكلا المعنيين متلازمان: لا خوف عليهم من لحوق مكروه، ولا هم يحزنون أي من الفزع الأكبر، كما في قوله تعالى: لا يحزنهم الفزع الأكبر

الذين آمنوا أي بكل ما جاء من عند الله تعالى وكانوا يتقون أي يخافون ربهم، فيفعلون أوامره، ويتجنبون مناهيه، من الشرك والكفر والفواحش. ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمحذوف، كأنه قيل: من أولئك وما سبب فوزهم بذاك الإكرام؟ فقيل: هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى، المفضيين إلى كل خير، المنجيين من كل شر، أو النصب بمحذوف.

وقوله تعالى: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة (البشرى) مصدر إما باق على مصدريته، والمبشر به محذوف، أي لهم البشارة فيهما بالجنة، وإنما حذف للعلم به من آيات أخر، كقوله تعالى: الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا إلى قوله: يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم وقوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون وإما مراد به المبشر به، وتعريفه للعهد، كقوله سبحانه: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 08-03-2023 09:01 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد التاسع
صـ 3366 الى صـ 3380
الحلقة (397)






وقوله تعالى: لا تبديل لكلمات الله أي لمواعيده ذلك أي بشراكم، وهي [ ص: 3366 ] الجنة، هو الفوز العظيم أي المنال الجليل، الذي لا مطلب وراءه، كيف؟ وقد فازوا بالجنة وما فيها، ونجوا من النار وما فيها.

تنبيه:

هذه الآية الكريمة أصل في بيان أولياء الله، وقد بين تعالى في كتابه، ورسوله في سنته، أن لله أولياء من الناس، كما أن للشيطان أولياء. وللإمام تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة، كتاب في ذلك سماه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) نقتبس منه جملة يهم الوقوف عليها، لكثرة ما يدور على الألسنة من ذكر الولي والأولياء. قال رحمه الله: إذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء، كما فرق الله ورسوله بينهما. فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما في هذه الآية، وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، أو فقد آذنته بالحرب... » الحديث- وهذا أصح حديث يروى في الأولياء، دل على أن من عادى وليا لله، فقد بارز الله بالمحاربة.

وفي حديث آخر: « وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب » أي: آخذ ثأرهم ممن عاداهم، كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب، وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر، ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطي، ومنعوا من يحب أن يمنع.

والولاية ضد العداوة. وأصل الولاية المحبة والقرب. وأصل العداوة البغض والبعد.

[ ص: 3367 ] وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وإمام المتقين، الذي بعثه الله بأفضل كتبه، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، فلا يكون وليا لله إلا من آمن به، وبما جاء به، واتبعه ظاهرا وباطنا. ومن ادعى محبة الله وولايته، وهو لم يتبعه ; فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان. وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله، ولا يكونون من أوليائه. فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه. قال تعالى: قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق الآية، وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله، لسكناهم مكة، ومجاورتهم البيت، فأنزل تعالى: وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون وكما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله، وليس وليا لله، بل عدو له، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام، يقرون في الظاهر بالشهادتين، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك، مثل ألا يقروا باطنا برسالته عليه السلام، وإنما كان ملكا مطاعا، ساس الناس برأيه، من جنس غيره من الملوك. أو يقولون إنه رسول الله إلى الأميين خاصة. أو يقولون إنه مرسل إلى عامة الخلق، وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم، ولا يحتاجون إليه، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته، كما كان الخضر مع موسى. أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه، وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة، وهم موافقون له فيها. وأما الحقائق الباطنة، فلم يرسل بها، أو لم يكن يعرفها، أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته، فهؤلاء كلهم كفار، مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله. وإنما أولياء الله: الذين وصفهم تعالى بولايته بقوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون

[ ص: 3368 ] ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، مرسل إلى جميع الثقلين الإنس والجن. فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ما جاء به، وكفر ببعض، فهو كافر ليس بمؤمن.

ومن الإيمان به، الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه، في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه. فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر من أولياء الشيطان.

وأما خلق الله تعالى للخلق، ورزقه إياهم، وإجابته لدعائهم، وهدايته لقلوبهم، ونصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع، ودفع المضار، فهذا لله وحده، يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل.

ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن، ولا ولي لله تعالى. كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم، وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من مشركي العرب والترك والهند وغيرهم، ممن كان من حكماء الهند والترك، وله علم أو زهد وعبادة في دينه، وليس مؤمنا بجميع ما جاء به، فهو كافر، عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولي لله. كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارا مجوسا، وكذلك حكماء اليونان مثل: أرسطو وأمثاله، كانوا مشركين، يعبدون الأصنام والكواكب. وفي أصناف المشركين من هذه الطوائف من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمؤمن بالرسل، ولا يصدقهم فيما أخبروا به، ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين، ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم، فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة [ ص: 3369 ] الذين تنزل عليهم الشياطين. قال تعالى: هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين تنـزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات، وخوارق العادات، إذا لم يكونوا متبعين للرسل، فلا بد أن يكذبوا وتكذبهم شياطينهم، ولا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين، واقترنت بهم، فصاروا من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن.

ومن الناس من يكون فيه إيمان، وفيه شعبة من نفاق، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان » . وفي صحيح مسلم: « وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم » .

وإذ كان أولياء الله هم (المؤمنون المتقون)، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانا وتقوى، كان أكمل ولاية لله. فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل، بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله، بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق.

وأولياء الله على طبقتين: سابقون ومقربون وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز. فالأبرار أصحاب اليمين، هم المتقربون إلى الله بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات. وأما السابقون المقربون، فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا [ ص: 3370 ] الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم، أحبهم الرب حبا تاما، كما قال تعالى: « ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه » يعني الحب المطلق.

ثم إذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا، لهذه الآية ; فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله. وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته، وإن قدر أنه لا إثم عليه، مثل أطفال الكفار، ومن لم تبلغه الدعوة، وإن قيل إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولا، فلا يكونون من أولياء الله، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين. فمن يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بفعل السيئات، لم يكن من أولياء الله.

وكذلك المجانين والأطفال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ » . وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث عائشة رضي الله عنها، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول. ولكن الصبي المميز تصح عباداته، ويثاب عليها عند جمهور العلماء، وأما المجنون الذي رفع عنه القلم، فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، بل لا يصلح هو، عند عامة العقلاء لأمور الدنيا، كالتجارة والصناعة، فلا يصلح أن يكون بزازا ولا عطارا ولا حدادا ولا نجارا، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء. فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته، ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، ولا ثواب ولا عقاب، بخلاف الصبي [ ص: 3371 ] المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع، بالنص والإجماع، وفي مواضع فيها نزاع. وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون وليا لله، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله، لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوعا من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع. فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب، لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية، كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله، إن لم يعلم ما يناقض ولاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله؟ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر، دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أو يقول إن الأنبياء ضيقوا الطريق، أو هم قدوة العامة دون الخاصة، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان، فضلا عن ولاية الله عز وجل. فمن احتج بما يصدر عن أحدهم، من خرق عادة، على ولايتهم، كان أضل من اليهود والنصارى. وكذلك المجنون، فإن كونه مجنونا يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات، التي هي شرط في ولاية الله. ومن كان يجن أحيانا، ويفيق أحيانا، إذا كان في حال إفاقته مؤمنا بالله ورسوله، ويؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم، فهذا إذا جن، لم يكن جنونه مانعا من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك، وكذلك من طرأ عليه الجنون، بعد إيمانه وتقواه، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله، والقلم مرفوع عنه في حال جنونه.

فعلى هذا، فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض، ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك، لم يكن لأحد أن يقول: هذا ولي لله، فإن هذا إن لم يكن مجنونا، بل كان [ ص: 3372 ] متولها من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة، ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر; وإن كان مجنونا باطنا وظاهرا قد ارتفع عنه القلم. فهذا وإن لم يكن معاقبا عقوبة الكافرين، فليس هو مستحقا لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله، ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنا بالله متقيا، كان له من ولاية الله بحسب ذلك، وإن كان له في حال فيه كفر أو نفاق، أو كان كافرا أو منافقا ثم طرأ عليه الجنون، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق.

فصل

وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ضفره، إذا كان كلاهما مباحا، كما قيل: كم من صديق في قباء، وكم من زنديق في عباء. بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن، وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار والصناع والزراع. وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم (القراء) فيدخل فيهم العلماء والنساك. ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء واسم (الصوفية)، نسبة إلى لباس الصوف. هذا هو الصحيح، وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل إلى (صوفة بن أد) قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك، وقيل إلى أهل الصفا، وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصفة، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى. وهذه أقوال ضعيفة، فإنه لو كان كذلك لقيل: صفي، أو صفائي، أو صفي، ولم يقل صوفي، وصار أيضا اسم الفقراء يعنى به أهل السلوك، وهذا عرف حادث، وقد تنازع الناس، أيما أفضل: مسمى الصوفي [ ص: 3373 ] أو مسمى الفقير؟ ويتنازعون أيضا: أيما أفضل؟ الغني الشاكر، أو الفقير الصابر؟ والصواب في هذا كله ما قاله تبارك وتعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الناس أفضل؟ قال: « أتقاهم » ، فدل الكتاب والسنة على أن أكرم الناس عند الله أتقاهم. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى » . وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس رجلان: مؤمن تقي وفاجر شقي » .

فصل

وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به مما نهى الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى، وتكون من الشيطان لبسها عليه، لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان، وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى. فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان [ ص: 3374 ] وما استكرهوا عليه، ولم يؤثم النبي صلى الله عليه وسلم المجتهد المخطئ بل جعل له أجرا على اجتهاده، وجعل خطأه مغفورا له، ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط، لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي الله، إلا أن يكون نبيا، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه، إلا أن يكون موافقا، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه. والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: طرفان ووسط. فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي الله وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه، وسلم إليه جميع ما يفعله. ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع، أخرجه عن ولاية الله بالكلية، وإن كان مجتهدا مخطئا، وخيار الأمور أوساطها، وهو ألا يجعل معصوما ولا مأثوما، إذا كان مجتهدا مخطئا، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده. والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله. وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين، لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف، ويقول: هذا خالف الشرع.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن كان في أمتي أحد فعمر منهم » . وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة. والمحدث الذي يأخذ عن قلبه أشياء، ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم، ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته، ولا يقول لهم: أنا محدث ملهم [ ص: 3375 ] مخاطب، فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني. فأي من ادعى له أصحابه أنه ولي الله، وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة -فهو وهم مخطئون. ومثل هذا من أضل الناس. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه، وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقول، هو وهم على الكتاب والسنة. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم. ولذا قال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة. وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لقوله تعالى: وإن تطيعوه تهتدوا وقال أبو عمرو بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.

فأولياء الله تعتبر بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام. فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان. أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات، ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، لا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان، على سماع كلام الرحمن ; فهذه علامات أولياء الشيطان، لا علامات أولياء الرحمن -انتهى ملخصا-.

[ ص: 3376 ] والكتاب مما يلزم الوقوف عليه، ومطالعته بالحرف، ففيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره، فرحم الله جامعه، وجزاه خيرا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 65 ] ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم

ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يسمعه من تآمرهم في إيصال مكروه له، ومجاهرتهم بتكذيبه، ورميه بالسحر ونحوه، أي: لا تتأثر بقولهم، وشاهد عز الله وقهره، لتنظر إليهم بنظر الفناء وترى أعمالهم وأقوالهم، وما يهددونك به كالهباء، فمن شاهد قوة الله وعزته يرى كل القوة والعزة له، لا قوة لأحد ولا حول. فقوله تعالى: إن العزة لله تعليل للنهي على طريقة الاستئناف، كأنه قيل: ما لي لا أحزن؟ فقيل: إن العزة لله، أي الغلبة والقهر في ملكته وسلطانه، لا يملك أحد شيئا منها أصلا، لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم، وينصرك عليهم: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إنا لننصر رسلنا وقوله هو السميع أي لأقوالهم فيك، فيجازيهم العليم أي لما ينبغي أن يفعل بهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 66 ] ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض أي كلهم تحت ملكته وتصرفه وقهره، لا يقدرون على شيء بغير إذنه ومشيئته وإقداره إياهم. وقوله: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون تأكيد [ ص: 3377 ] لما سبق من اختصاص العزة به تعالى، لتزيد سلوته صلوات الله عليه، وبرهان على بطلان ظنونهم وأقوالهم المبنية عليها. وفي (ما) من قوله وما يتبع وجهان:

أحدهما: أنها نافية، و (شركاء) مفعول (يتبع)، ومفعول (يدعون) محذوف لظهوره. أي: ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، شركاء في الحقيقة، وإن سموها شركاء لجهلهم، فاقتصر على أحدهما لظهور دلالته على الآخر. ويجوز أن يكون (شركاء) مفعول (يدعون)، ومفعول (يتبع) محذوف، لانفهامه من قوله إن يتبعون إلا الظن أي ما يتبعون يقينا، إنما يتبعون ظنهم الباطل.

والوجه الثاني: أنها استفهامية، منصوبة بـ(يتبع)، و (شركاء) مفعول (يدعون) أي: أي شيء يتبع هؤلاء؟ أي: إذا كان الكل تحت قهره وملكته فما يتبعون من دون الله ليس بشيء، ولا تأثير له ولا قوة، إن يتبعون إلا ما يتوهمونه في ظنهم، ويتخيلونه في خيالهم، وما هم إلا يقدرون وجود شيء لا وجود له في الحقيقة.

ثم نبه تعالى على انفراده بالقدرة الكاملة، والنعمة الشاملة، ليدل على توحده سبحانه باستحقاق العبادة، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 67 ] هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون

هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه أي خلقه لكم لتستقروا فيه من نصبكم وكلالكم: والنهار مبصرا أي مضيئا، تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم.

قيل: الآية من باب الاحتباك. والتقدير: جعل الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم، فحذف من كل من الجانبين ما ذكر في الآخر، اكتفاء بالمذكور عن المتروك. وإسناد الإبصار إلى النهار مجازي، كقوله:


ما ليل المحب بنائم


[ ص: 3378 ] إن في ذلك أي الجعل المذكور لآيات لقوم يسمعون أي هذه الآيات ونظائرها، سماع تدبر واعتبار.

ثم شرع في نوع آخر من أباطيلهم بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 68 ] قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون

قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه تنزيه له عن أن يجانس أحدا، أو يحتاج إليه، وتعجب من كلمتهم الحمقاء هو الغني أي الذي وجوده بذاته، وبه وجود كل شيء، فكيف يماثله شيء؟! ومن له الوجود كله، فكيف يجانسه شيء؟! والجملة علة لتنزيهه، وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة، إما للتقوي به، أو لبقاء نوعه له ما في السماوات وما في الأرض تقرير لغناه، أي فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا إن عندكم من سلطان بهذا أي: ما عندكم من حجة بهذا القول الباطل توضيح لبطلانه، بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض، أي ليس بعد هذا حجة تسمع. والمراد تجهيلهم، وأنه لا مستند لهم سوى تقليد الأوائل، واتباع جاهل لجاهل.

تنبيه:

دلت الآية على تسمية البرهان سلطانا.

قال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): إنه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطانا. قال ابن عباس رضي الله عنه: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهذا كقوله تعالى إن عندكم من سلطان بهذا يعني ما عندكم من حجة بما قلتم، إن هو إلا قول على الله بلا علم. وقوله تعالى: إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنـزل الله بها من سلطان [ ص: 3379 ] يعني ما أنزل بها حجة ولا برهانا، بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم. وقوله تعالى أم لكم سلطان مبين يعني حجة واضحة. إلا موضعا واحدا اختلف فيه، وهو قوله: ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه فقيل: المراد به القدرة والملك، أي ذهب عني مالي وملكي، فلا مال لي ولا سلطان. وقيل: هو على بابه، أي انقطعت حجتي وبطلت، فلا حجة لي. والمقصود: أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانا ; لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره، فله بها سلطان على الجاهلين، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب، وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن. فالحجة تأسر القلب وتقوده، وتذل المخالف، وإن أظهر العناد والمكابرة، فقلبه خاضع لها ذليل، مقهور تحت سلطانها. بل سلطان الجاه إن لم يكن معه علم يساس به، فهو بمنزلة سلطان السباع والأسود ونحوها، قدرة بلا علم ولا رحمة، بخلاف سلطان الحجة، فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة، ومن لم يكن له اقتدار في علمه، فهو إما لضعف حجته وسلطانه، وإما لقهر سلطان اليد والسيف له، وإلا فالحجة ناصرة نفسها، ظاهرة على الباطل قاهرة له - انتهى-.

أتقولون على الله ما لا تعلمون توبيخ وتقريع على جهلهم. قال الزمخشري: لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله، فذاك جهل وليس بعلم.

وقال أبو السعود: فيه تنبيه على أن كل مقالة لا دليل عليها، فهي جهالة، وأن العقائد لا بد لها من برهان قطعي، وأن التقليد بمعزل من الاعتداد به.
[ ص: 3380 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 69 ] قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 70 ] متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون

قل إن الذين يفترون على الله الكذب باتخاذ الولد، وإضافة الشركاء لا يفلحون أي لا يفوزون بمطلوب أصلا. متاع في الدنيا مبتدأ خبره محذوف، أي لهم تمتع يسير في الدنيا ثم إلينا مرجعهم أي بالموت ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون أي بسبب كفرهم. والآية لبيان أن ما يتراءى من فوزهم بالحظوظ الدنيوية بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح. كأنه قيل: كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم؟ فقيل: هو متاع يسير في الدنيا، وليس بفوز بالمطلوب.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif




ابوالوليد المسلم 08-03-2023 09:04 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد التاسع
صـ 3381 الى صـ 3395
الحلقة (398)





وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 71 ] واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون

واتل عليهم نبأ نوح أي خبره الذي له شأن وخطر، مع قومه المغترين بعزة الأموال والأعوان، ليتدبروا ما فيه من صحة توكله على الله، ونظره إلى قومه، بعين عدم المبالاة بهم، وبمكايدهم، وزوال ما تمتعوا به من النعيم، بإغراقهم بالطوفان، فلعلهم يكفون عن كفرهم، وتلين أفئدتهم ويستيقنون صحة نبوتك إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر أي شق وثقل عليكم مقامي أي مكاني، يعني نفسه، أو مكثي بين أظهركم مددا [ ص: 3381 ] طوالا، ألف سنة إلا خمسين عاما، أو قيامي بالدعوة إلى الله، من رؤيتكم ذلتي بقلة الأموال والأعوان، ومنع عزتكم بهما عن الانقياد لي وتذكيري بآيات الله أي بحججه وبراهينه، أو تخويفي بعذابه فعلى الله توكلت أي اعتمدت في دفع ما قصدتموني به فأجمعوا أمركم أي شأنكم في إهلاكي وشركاءكم يعني آلهتهم وهو تهكم بهم، أو نظراءهم في الشرك. و (الواو) بمعنى مع، أو معطوف على (أمركم) بحذف المضاف، أي: وأمر شركائكم، أو منصوب بمحذوف، أي ادعوا شركاءكم، وذلك لأن (أجمع) يتعلق بالمعاني، يقال: (أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه): ثم لا يكن أمركم عليكم غمة أي مستورا. من (غمه إذا ستره) بل مكشوفا تجاهرونني به ثم اقضوا إلي أي أدوا إلي ذلك الأمر الذي تريدون بي ولا تنظرون أي ولا تمهلوني.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 72 ] فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين

فإن توليتم أي عن الإيمان بما جئتكم به فما سألتكم من أجر أي جعل على عظتكم، أي فلا باعث لكم على التولي والنفور إن أجري إلا على الله أي ما ثوابي على التذكير إلا عليه تعالى، يثيبني به، آمنتم أو توليتم وأمرت أن أكون من المسلمين أي المستسلمين له وحده بالإيمان به، ونبذ كل معبود دونه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 73 ] فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين

فكذبوه يعني نوحا بما جاءهم، عنادا، بعد أن قامت عليهم الحجة، فحقت عليهم كلمة العذاب، وأرسل عليهم الطوفان فنجيناه أي من الغرق ومن معه في الفلك [ ص: 3382 ] وجعلناهم خلائف أي خلفاء عن المغرقين وعمار الأرض وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين أي منتهى أمرهم. والمراد بـ (المنذرين) المكذبين. والتعبير به إشارة إلى إصرارهم عليه، حيث لم يفد الإنذار فيهم. وقد جرت السنة الربانية أن لا يهلك قوم بالاستئصال إلا بعد الإنذار ; لأن من أنذر فقد أعذر. وفي الأمر بالنظر تهويل لما جرى عليهم، وتحذير لمن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 74 ] ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين

ثم بعثنا من بعده أي من بعد نوح رسلا إلى قومهم يعني هودا وصالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا فجاءوهم بالبينات أي الآيات الدالة على صدقهم، المفيدة هدايتهم فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل أي بسبب تعودهم تكذيب الحق، وتمرنهم عليه; لأنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية، مكذبين بالحق فحالهم بعدها كحالهم قبلها، هذا على أن ضمير (كانوا) و (كذبوا) لقوم الرسل. وجاز عود ضمير (كانوا) لقوم الرسل، و (كذبوا) لقوم نوح. أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي بمثله كذلك نطبع على قلوب المعتدين أي المجاوزين مقتضيات حقائق الأشياء بخذلانهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 75 ] ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين

ثم بعثنا من بعدهم أي من بعد هؤلاء الرسل موسى وهارون إلى فرعون [ ص: 3383 ] وملئه بآياتنا يعني التسع فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين أي كفارا ذوي آثام عظام.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 76 ] فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين

فلما جاءهم الحق من عندنا يعني الآيات المزيحة للشك قالوا يعني من فرط التمرد إن هذا لسحر مبين أي تلبيس ظاهر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 77 ] قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون

قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أي على وجه لم يترك لكم شبهة مقالتكم الحمقى، من أنه سحر، فحذف المحكي المقول لدلالة الكلام عليه. ثم قال: أسحر هذا استفهام إنكار من قول موسى لا من قولهم. فهو مستأنف لإنكار كونه سحرا، وتكذيب لقولهم، وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ. وليس أسحر هذا مقولهم، لأنهم بتوا القول بأنه سحر، فكيف يستفهمون عنه؟ -كذا قيل-.

ولا أرى مانعا من أن يكون مقولهم، والهمزة وسطت مزيدة لتكون مؤكدة لما قبلها من الاستفهام، ومن لطائفها الاحتراس عن إيهام فاعلية سحر لـ جاءكم بادئ بدء، وأسلوب القرآن فوق كل أسلوب. أو الهمزة ومدخولها من مقولهم الأول، حين فوجئوا بخارقة موسى، وقولهم المذكور قبل إن هذا لسحر حكاية لقولهم الذي بتوا عليه أمرهم. ثم رأيت الناصر في (الانتصاف) أشار لهذا حيث قال:

وأما القراءة الثانية -يعني قراءة ((آالسحر))- على الاستفهام، ففيها -والله أعلم- إرشاد إلى أن قول موسى أولا: أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا حكاية لقولهم، ويكون: [ ص: 3384 ] أسحر هذا هو الذي قالوه. ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا إن هذا لسحر مبين وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعا، بدؤوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقا، والاستهزاء بالحق إنكار له بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبت من الإخبار. ألا ترى أنهم يقولون في قوله: (أأنت أم سالم، أبلغ في البت من قوله مخبرا: أنت أم سالم) ثم ثنوا بصيغة الخبر الخاصة ببت الإنكار، ودعوى أنه سحر، فقالوا: إن هذا لسحر مبين فحكى الله تعالى عنهم هذا القول الثاني، ووبخهم موسى على قولهم الأول، ومعنى العبارتين ومآلهما واحد. وإما ألا يكونوا قالوا سوى أسحر هذا على سبيل الإنكار حسبما تقدم، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله ; لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار، وبت القول أنه سحر، وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه، ولم يؤده بعبارة أخرى. وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة، لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني.

وحاصل هذا البحث أن قول موسى عليه السلام: أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا إنما حكى فيه قولهم، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهما، فقال: ما جئتم به آالسحر (على قراءة الاستفهام) قرضا بوفاء على السواء، والذي يحقق لك أن الاستفهام والإخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام ما جئتم به السحر على الوجهين: الخبر والاستفهام، على ما اقتضته القراءتان وهو قول واحد، دل أن مؤدى الأمرين واحد، ضرورة صدق الخبر.

وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب أو إضمار مفعول (تقولون) استشكال وقوع الاستفهام محكيا بالقول، والمحكي عنهم الخبر، وقد أوضحنا أن لا تنافر ولا تنافي بين الأمرين.

قال الناصر: فشد بهذا الفصل عرى التمسك، فإنه من دقائق النكت، والله الموفق.

[ ص: 3385 ] وقوله تعالى: ولا يفلح الساحرون من كلام موسى قطعا، أتى به تقريرا لما سبق ; لأنه لما استلزم كون الحق سحرا، كون من أتى به ساحرا، أكد الإنكار السابق، وما فيه من التوبيخ والتجهيل بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 78 ] قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين

قالوا أي لموسى أجئتنا لتلفتنا أي لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا يعنون عبادة الأصنام وتكون لكما الكبرياء أي الملك والسلطان: في الأرض أي أرض مصر وما نحن لكما بمؤمنين أي لتبقى عزتنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 79 ] وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم

وقال فرعون أي حفظا لعزته، ودفعا لتعزز موسى ائتوني بكل ساحر عليم أي ماهر في فنه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 80 ] فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون

فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون أي من أصناف السحر، قال بعضهم: جواز الأمر بالسحر لدحضه، وكذلك طلب إيراد الشبه لتحل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 81 ] فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين

فلما ألقوا أي عصيهم وحبالهم ليضاهوا معجزة موسى بعصاه قال موسى [ ص: 3386 ] ما جئتم به السحر أي هو السحر، لا ما جئتكم به مما سميتموه سحرا: إن الله سيبطله أي سيمحقه بالكلية بمعجزتي، فلا يبقى له أثر إن الله لا يصلح عمل المفسدين أي بل يسلط عليه الدمار.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 82 ] ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون

ويحق الله الحق بكلماته أي يثبته ويقويه بها ولو كره المجرمون أي ذلك. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 83 ] فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين

فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه معطوف على مقدر معلوم من مواقع أخر، أي فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون إلخ. قيل: الضمير من قومه لفرعون، وهم ناس يسير من قومه، آمنوا به سرا، والأظهر أنهم قوم موسى، وهم بنو إسرائيل، الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب، فهم الذين آمنوا به على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم أي يعذبهم وإن فرعون لعال أي مستكبر في الأرض أي أرض مصر وإنه لمن المسرفين أي المتجاوزين الحد بالظلم والفساد، وبادعاء الربوبية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 84 ] وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين

وقال موسى أي تطمينا لقلوبهم، وإزالة للخوف عنهم يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا [ ص: 3387 ] أي فإليه أسندوا أمركم في العصمة مما تخافون، وبه ثقوا، فإنه كافيكم ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقوله إن كنتم مسلمين أي مخلصين وجوهكم له.

قال القاشاني: جعل التوكل من لوازم الإسلام، وهو إسلام الوجه لله تعالى، أي: إن كمل إيمانكم ويقينكم، بحيث أثر في نفوسكم، وجعلها خالصة لله ; لزم التوكل عليه. وإن أريد (الإسلام) بمعنى الانقياد، كان شرطا في التوكل، لا ملزوما له، وحينئذ يكون معناه: إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا، بشرط أن تكونوا منقادين. كما تقول: إن كرهت هذا الشجر فاقلعه إن قدرت -انتهى-.

وقال الكرخي: قوله تعالى إن كنتم مسلمين أي: منقادين لأمره. فقوله فعليه توكلوا جواب الشرط الأول، والشرط الثاني وهو إن كنتم مسلمين شرط في الأول. وذلك أن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود، فالشرط الثاني شرط في الأول. ولذلك لم يجب تقديمه على الأول. قال الفقهاء: المتأخر يجب أن يكون متقدما، والمتقدم يجب أن يكون متأخرا، مثاله: قول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا، فمجموع قوله: (إن دخلت الدار فأنت طالق) مشروط بقوله (إن كلمت زيدا) والمشروط متأخر عن الشرط، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ، متقدما في المعنى، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخرا في المعنى، فكأنه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق، فلو حصل هذا المعلق قبل إن كلمت زيدا لم يقع الطلاق. فقوله تعالى: إن كنتم آمنتم إلخ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين بقوله: إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل. والأمر كذلك، لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام، [ ص: 3388 ] وهو الانقياد لتكاليف الله، وترك التمرد والإيمان عبارة عن معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد، وما سواه محدث تحت تدبيره وقهره. وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إليه تعالى، ويحصل في القلب نور التوكل على الله تعالى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 85 ] فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين

فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين أي موضع فتنة لهم، أي عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا. قال الحاكم: دلت على حسن السؤال بالنجاة من الظلمة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 86 ] ونجنا برحمتك من القوم الكافرين

ونجنا برحمتك من القوم الكافرين أي: من كيدهم، ومن شؤم مشاهدتهم، والعبودية لهم.

قال القاضي: وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولا، لتجاب دعوته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 87 ] وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين

وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا أي اتخذا بها بيوتا مباءة تلازمونها لتجتمع كلمتكم في شأنكم واجعلوا بيوتكم قبلة أي مصلى وأقيموا الصلاة أي في بيوتكم، قال بعضهم: كانوا خائفين، وفي ذلك دلالة على جواز كتم الصلاة عند الخوف. وبشر المؤمنين أي بالنصرة في الدنيا، والجنة في العقبى.
[ ص: 3389 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 88 ] وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم

وقال موسى أي يدعو الله تعالى في إذهاب عزة فرعون ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة أي ما يتزين به من اللباس والمراكب والحلي وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك أي بالتكبر عليك وعلى آياتك ورسلك. وقوله " ليضلوا" متعلق بـ " آتيت" ، وأعيد " ربنا" توكيدا، و (لام) " ليضلوا" لام العاقبة والصيرورة. أي: آتيتهم النعم المذكورة ليشكروها ويتبعوا سبيلك، فكان عاقبة أمرهم أنهم كفروا وضلوا عن سبيلك، وتجويز جعل اللام للعلة استدراجا، أو لام الدعاء عليهم بذلك -توسع في غير متسع، ونبو عن لطف المساق وسره، فإن موسى لما رأى القوم مصرين على الكفر والعناد أخذ في الدعاء عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يقدم بين يدي دعائه ما دفعه واضطره إلى الابتهال; لتحق إجابته، ولذا بين أولا ضلالهم عن السبيل بكفرانهم للنعم، وعتوهم على المحسن بها تمهيدا لقوله: ربنا اطمس على أموالهم أي أهلكها ; لأنهم يستعينون بنعمتك على معصيتك. وأصل (الطمس) محو الأثر والتغيير واشدد على قلوبهم أي اجعلها قاسية، واطبع عليها، حتى لا تنشرح للإيمان فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أي يعاينوه ويوقنوا به، بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك، وقوله فلا يؤمنوا جواب للدعاء، أو دعاء بلفظ النهي.

قال ابن كثير: هذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنه لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء. كما دعا نوح عليه السلام [ ص: 3390 ] فقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ولهذا استجاب تعالى لموسى فيهم هذه الدعوة التي شركه فيها أخوه هارون كما أخبر بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 89 ] قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون

قال تعالى قد أجيبت دعوتكما فاستقيما أي على أمري، ولا تعجلا، فإن مطلوبكما كائن في وقته لا محالة ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي في الاستعجال، أو عدم الوثوق بوعده تعالى، أو يعني فرعون وقومه، بقوله سبحانه.

ثم أشار تعالى إلى إجابته دعاءهما في إهلاك فرعون وقومه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 90 ] وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين

وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم أي لحقهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا أي لأجل البغي عليهم والاعتداء حتى إذا أدركه الغرق قال يرجو النجاة من الغرق آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين وذلك أن موسى عليه السلام لما رغب إلى فرعون أن يطلق الإسرائيليين من عبوديته، ويأذن لهم بالسراح إلى فلسطين ليعبدوا ربهم، أبى وتمرد، فضربه الله وقومه بالآيات التسع، كما [ ص: 3391 ] تقدم في سورة (الأعراف) فأذن لموسى وشعبه بالخروج من مصر، فارتحل بنو إسرائيل جميعا بمواشيهم وأثاثهم، ثم ندم فرعون وملؤه على إطلاقهم من خدمتهم، فاشتد فرعون وجنوده في أثرهم ليردهم، فأدركهم وهم نازلون عند البحر، فرهب الإسرائيليون من مقدمه، وضجوا إلى موسى، فسكن روعهم، وأعلمهم ما يشاهدون من نجاتهم، وهلاك عدوهم، وأوحى تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر، فانشق، ودخل بنو إسرائيل في وسطه على اليبس الذي جعله تعالى آية كبرى، ونفذوا منه إلى شاطئه، وتبعهم فرعون وجنوده، حتى إذا توسطوا البحر، مد موسى يده على البحر، فارتد إلى ما كان عليه، وغرق فرعون بمن معه. ولما أحس بالغرق، لاذ إلى الإيمان يبغي النجاة، فقيل له:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 91 ] آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين

آلآن أي تؤمن وتسلم لتنجو من الغرق وقد عصيت قبل أي كفرت بالله من قبل الغرق، وكنت من المفسدين أي بالضلال والإضلال، والظلم والعتو.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 92 ] فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون

فاليوم ننجيك ببدنك أي نخرجك من البحر بجسدك الذي لا روح فيه، فرآه بنو إسرائيل ملقى على شاطئ البحر ميتا، وفي التعبير عن إخراجه من القعر إلى الشاطئ (بالتنجية) التي هي الخلاص من المكروه تهكم واستهزاء لتكون لمن خلفك من الأمم الكافرة آية أي عبرة من الطغيان والتمرد على أوامره تعالى. وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.

[ ص: 3392 ] تنبيه:

قال الشهاب الخفاجي في (العناية): لا يقبل إيمان المرء حال اليأس والاحتضار، كما يدل عليه صريح الآية: فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وأما ما وقع في (الفصوص) من صحة إيمانه، وأن قوله آمنت به بنو إسرائيل إيمان بموسى عليه السلام -فمخالف للنص والإجماع، وإن ذهب إلى ظاهره الجلال الدواني رحمه الله. وله رسالة فيه طالعتها، وكنت أتعجب منها حتى رأيت في (تاريخ حلب) للفاضل الحلبي أنها ليست له، وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي. وقد ردها القزويني، وشنع عليه وقال: إنما مثاله مثال رجل خامل الذكر، لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس، كما في المثل (خالف تعرف) وفي (فتاوى ابن حجر رحمه الله) أن بعض فقهائنا كفر من ذهب إلى إيمان فرعون، ولذا قيل: إن المراد بفرعون (في كلامه) النفس الأمارة، وهذا كله مما لا حاجة إليه -انتهى كلام الشهاب-.

أقول: ذكر شيخنا العطار رحمه الله في كتابه (الفتح المبين في رد اعتراض المعترض على محيي الدين) خاتمة في بطلان ما نسب إلى هذا العارف من القول بصحة إيمان فرعون ونجاته، قال رحمه الله:

ليعلم أنه شاع فيما بين أهل العلم بأن حضرة محيي الدين رضي الله عنه قال بإيمان فرعون ونجاته، والحال أنه ليس كذلك، كما ستطلع عليه من النقل عنه، نعم، بحث في صحة القول بإيمان فرعون ونجاته وعدمها، حيث الأخذ من الآيات القرآنية، فكان ذلك منه مجرد بحث في الدليل لا غير، وما كان هذا قولا بإيمانه قطعيا، وقد بنى مسألة نجاة فرعون وإيمانه على أصلين من أصوله، وافقه عليهما جم غفير من العلماء الأعلام.

الأصل الأول- في بيان حقيقة إيمان اليأس، فإيمان اليأس عنده، وعند جم غفير من [ ص: 3393 ] العلماء هو ما كان عند مشاهدة العذاب البرزخي، كحال المحتضر لا غير، ففي هذه الحالة لا ينفع الإيمان، وهذا متفق عليه بين أهل العلم. وذهب قوم إلى أن إيمان اليأس ما كان عند رؤية العذاب دنيويا أو أخرويا، فالإيمان في أي حالة من الحالتين لا ينفع. وعند هذا العارف وجماعة: أن رؤية العذاب الدنيوي لا تمنع صحة الإيمان، وإن أوجبت الهلاك في الدنيا، فإن سنة الله قاضية بأن يتحتم وقوع الهلاك الدنيوي لمن رأى هذا العذاب، وإن آمن ونجا من عذاب الآخرة، إلا قوم يونس، فإنه تعالى نجاهم منه، كما ذكره تعالى.

الأصل الثاني- من أصوله رضي الله عنه: أن من حقت عليه الكلمة لا يتلفظ بمادة الإيمان بقصد الإيمان، وإن تلفظ بها لا يقصده، فلا بد من تكذيب الله تعالى له، ولو بالحكاية عنه، كما قال تعالى: وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم وكما قال: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا فكذبهم تعالى في دعواهم. وهذا الأصل مأخوذ من قوله تعالى: إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم فكلمة " حتى" للغاية، فغيا تعالى إيمانهم إلى حين رؤية العذاب الأليم، وهو الأخروي لا غير، فإنه هو الذي يوصف بالأليم. ونفى تعالى عنهم وقوع الإيمان قبل ذلك، فوقوعه منهم قبله قصدا، محال بنص هذه الآية.

إذا تقرر هذان الأصلان، فلنرجع إلى ما قاله هذا الحبر في شأن فرعون في (الفتوحات المكية) وفي (الفصوص). فالذي ذكره في (الفتوحات) عند ذكره طبقات أهل النار فيها: هو أن فرعون من أهل النار، حيث قال في هذا البحث: كفرعون وأضرابه، فخص له ولهم من النار طبقة مخصوصة يؤبدون فيها. وأشار إلى كفره في موضع آخر منها عند ذكره هذا الحديث وهو: « أعوذ بك منك» قال: استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقام [ ص: 3394 ] الاتحاد الذي كان عليه فرعون وهو قوله: أنا ربكم الأعلى وعلى هذه الإشارة وما تقدم، يكون فرعون كافرا عنده، كما هو عند عامة الخلق، وعلى هذا لا إشكال ولا كلام.

بقي القول على إيمان فرعون ونجاته من حيث الدليل، وهو مجرد بحث مع الذين ذهبوا إلى كفره قطعيا، وليس لهم هذا القطع، لما أن الدليل القرآني يعطي خلافه، قال تعالى: حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت الآية، فذكر فرعون هنا الإيمان ثلاث مرات: اثنتان في الجناب الإلهي، والأخيرة تعمه، والإيمان بموسى حيث قال: وأنا من المسلمين ولم يكن مسلما إلا من جمع بين الإيمان بالله وبرسوله.

ثم قال شيخنا رحمه الله: وفي (الفتوحات) و (الفصوص) ما حاصله: أن إيمانه لم يكن عند اليأس، لا على مذهبه ومذهب من وافقه، ولا على مذهب غيره. أما الأول فلأن إيمانه كان عند رؤية العذاب الدنيوي، لا عند احتضاره، والإيمان عند رؤية العذاب الدنيوي لا يعد يأسا عنده، وعند جمع. وأما على الثاني، فلأن قول فرعون ما كان عند يأسه من الحياة الدنيوية، فإنه علم أن من آمن بما آمن به قوم موسى كان له المشاركة في الطريق اليبس التي كانت للمؤمنين، وقد شاركهم في إيمانهم، فكان الغالب على ظنه أو يقينه المعاملة الخاصة بالمؤمنين والمشاهدة له، وما علم سنة الله في خلقه بأنه لا بد من الهلاك الدنيوي لمن كانت حالته كذلك، والهلاك في الدنيا لا يدل على عدم النجاة في الآخرة، وهو ظاهر. وعلى هذا فإيمانه لم يكن حال اليأس على المذهبين، فالأول بيقين، والثاني بحسب ما يظهر، ولا بعد بأنه كان طامعا في النجاة بيقين، لعموم المشاركة. هذا، وإن مذهب هذا العارف الخاص به هو البناء على اتساع الرحمة الإلهية، والأخذ بالظواهر من الآيات، ومع ذلك فلما ذكر البحث في شأن إيمان فرعون ونجاته، مع من قال بخلافهما، قال: إن الوقف في شأن إيمان فرعون هو الأسلم، لما شاع عند الخلق عامة من شقائه، وهذا منه صريح في أنه كان باحثا في إيمانه ونجاته من ظاهر اللفظ القرآني بحثا، لا جازما بهما -انتهى ملخصا-.

[ ص: 3395 ] ثم أنبأ تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل إثر نعمة إنجائهم من عدوهم وإهلاكه، وإخلالهم بشكرها وأداء حقوقها بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 93 ] ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون

ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق أضيف المكان إلى الصدق ; لأن عادة العرب إذا مدحت شيئا، أن تضيفه إلى الصدق، تقول: رجل صدق. وقدم صدق. وقال تعالى: مدخل صدق و مخرج صدق إذا كان عاملا في صفة صالحا للغرض المطلوب منه، كأنهم لاحظوا أن كل ما يظن به فهو صادق.

وقوله تعالى ورزقناهم من الطيبات وهي المن والسلوى في التيه وبعده، مما فاض عليهم من الأرض التي تدر لبنا وعسلا فما اختلفوا حتى جاءهم العلم أي ما تفرقوا على مذاهب شتى في أمر دينهم، إلا من بعد ما جاءهم العلم الحاسم لكل شبهة، وهو ما بين أيديهم من الوحي، الذي يتلونه. أي: وما كان حقهم أن يختلفوا، وقد بين الله لهم، وأزاح عنهم اللبس. ونظير هذه الآية في النعي عليهم اختلافهم، قوله تعالى: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وقوله جل ذكره: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب وفيه أكبر زاجر وأعظم واعظ عن الاختلاف في الدين، والتفرق فيه.

إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif



ابوالوليد المسلم 08-03-2023 09:07 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ هود
المجلد التاسع
صـ 3396 الى صـ 3410
الحلقة (399)





[ ص: 3396 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 94 ] فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين

فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك من قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل فاسأل الذين يقرءون الكتاب أي التوراة من قبلك فإنه عندهم على نحو ما أوحي إليك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أي الشاكين في أنه منزل من عنده.

تنبيه:

لا يفهم من هذه الآية ثبوت شك له صلوات الله عليه، فإن صدق الشرطية لا يقتضي وقوعها، كقولك. (إن كانت الخمسة زوجا، كانت منقسمة بمتساويين) والسر في مثلها تكثير الدلائل وتقويتها، لتزداد قوة اليقين، وطمأنينة القلب، وسكون الصدر، ولذا أكثر تعالى في كتابه من تقرير أدلة التوحيد والنبوة والرجعة. أو السر هو الاستدلال على تحقيق ما قص، والاستشهاد بما في الكتاب المتقدم، وأن القرآن مصدق لما فيه، أو وصف الأحبار بالرسوخ في العلم، بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلوات الله عليه، تعريضا بالمشركين، أو تهييج الرسول صلوات الله عليه، وتحريضه ليزداد يقينا، كما قال الخليل صلوات الله عليه: ولكن ليطمئن قلبي وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال حين نزول الآية: « لا أشك ولا أسأل » أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة -أو الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، على حد: (إياك أعني واسمعي يا جارة). وفيه من قوة التأثير في القلوب ما لا مزيد عليه، بمثابة [ ص: 3397 ] ما لو خاطب سلطان عاملا له على بلدته بحضور أهلها بوصاياه وأوامره الرهيبة، فيكون ذلك أفعل في النفوس، أو الخطاب لكل من يسمع. أي: إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك... وأيد هذا بقوله تعالى بعد: قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فكأنه أشار إلى أن المذكور في أول الآية رمزا، هم المذكورون بعد صراحة، وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بمقادحة العلماء المنبهين على الحق.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 95 ] ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين

ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين هو أيضا من باب التهييج والإلهاب والتثبيت، وأجرى بعضهم ها هنا قاعدة، فقال: النهي عن كل شيء، إن كان لمن تلبس به فمعناه تركه، وإن كان لغيره فمعناه الثبات على عدمه، وألا يصدر منه في المستقبل كما هنا -انتهى- أو يأتي الوجهان الأخيران قبل هنا أيضا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 96 ] إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون [ 97 ] ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم

إن الذين حقت عليهم كلمت ربك أي قوله الكريم، وأمره بعذابهم، كما قال: ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم أي كدأب آل فرعون وأضرابهم. أي: وعند رؤية العذاب يرتفع التكليف فلا ينفعهم إيمانهم.
[ ص: 3398 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 98 ] فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين

فلولا كانت قرية آمنت أي فهلا كانت قرية من القرى المهلكة آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته، كما فعل فرعون، وفي هذا التخصيص معنى التوبيخ فنفعها إيمانها بأن يقبله الله منها، ويكشف عنها بسببه العذاب، إلا قوم يونس أي لكن قومه لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين أي إلى آجالهم.

هذا، وقد جوز أن تكون الجملة في معنى النفي، لتضمن حرف التحضيض معناه، فيكون الاستثناء متصلا ; لأن المراد من القرى أهاليها، كأنه قال: ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس. ويؤيده قراءة الرفع على البدل.

روي أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى نينوى، من أرض الموصل، وكانت مدينة عظيمة، مسيرة ثلاثة أيام، وهي قصبة بلاد الآشوريين، بانيها آشور أو نينوس بن نمرود، وكلاهما من أولاد بني نوح، وكانت من أقدم مدن العالم وأشهرها، والمؤرخون الوثنيون يصفونها بأن ارتفاع أسوارها كان مائة قدم، ودائراتها ستون ميلا، وهي محصنة بألف وخمسمائة قلعة، طول الواحدة منهن مائتا قدم. قيل: أهلها كانوا يبلغون نحو ستمائة ألف. وخلفاء نمرود في هذه المدينة دأبوا على تحسينها، وتوسيع بنائها، وقويت شوكة الآشوريين في تلك الأيام حتى خضع لهم أكثر ممالك آسيا، فتجبروا وتمردوا، وكانوا كلما ظفروا في غاراتهم يستغرقون في النهب والمظالم، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام، واسمه في العبرية (يونان)، لينذرهم بأنهم لكفرهم واقترافهم الموبقات سيحل بهم العذاب بعد أربعين يوما فتنقلب بهم نينوى. ثم خرج يونس من بينهم فأصحر، فلما فقدوه وبلغ أميرهم قول يونس ; [ ص: 3399 ] تخوفوا نزول العذاب الذي أنذروا به، فقذف الله في قلب أميرهم الإيمان والتوبة، فنزل عن عرشه، وألقى عنه حلته، والتف بمسح، وجلس على التراب، وآمن بالله، وآمن أهل نينوى كلهم، وأمر أن ينادى بنينوى بالصيام، فلا يذوق أحد طعاما ولا شرابا، وألا ترعى البهائم ولا تسقى، وأن يلبس الناس المسوح، صغيرهم وكبيرهم، وأن يجتمعوا في صعيد واحد، يجهرون بتسبيح الله، والإنابة إليه، والاستغفار له، والتوبة عما أسلفوا من الظلم والجرم، وأن يحضروا أطفالهم وذويهم ومواشيهم معهم. ففعلوا وتضرعوا إلى الله، واستكانوا لجلاله، وسألوه أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فلما علم منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف عنهم العذاب ورحمهم. وسيأتي في (سورة الصافات) زيادة في نبأ يونس عما هنا.

تنبيهات:

الأول: يروي بعض المفسرين هنا أن العذاب تدلى عليهم، وغشيهم، وجعل يدور على رؤوسهم، وغامت السماء غيما أسود، ونحو هذا. وليس في التنزيل بيان لهذا، ولا في صحيح السنة، وكأن من زعمه فهمه من لفظ (كشفنا)، ولا صراحة فيه.

قال القرطبي: معنى كشفنا عنهم عذاب الخزي أي العذاب الذي وعدهم يونس أن ينزل بهم لا أنهم رأوه حينئذ، فلا خصوصية، أي كما روي عن قتادة أن هذا الكشف لم يكن لأمة من الأمم إلا لقوم يونس خاصة، فإنه لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا علامته.

الثاني: في الآية إشارة إلى أنه لم يوجد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى، إثر بعثته وإنذاره، إلا قوم يونس، والبقية دأبهم التكذيب، كلهم أو أكثرهم، كما قال تعالى: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون

[ ص: 3400 ] وفي الحديث الصحيح: « عرض علي الأنبياء، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس، والنبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد» .

الثالث: أخرج ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء يرد القدر، وذلك في كتاب الله: إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا الآية.

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الدعاء يرد القضاء، وقد نزل من السماء. اقرؤوا إن شئتم: إلا قوم يونس الآية.

وأخرج ابن مردويه عن عائشة مرفوعا، في قوله تعالى: إلا قوم يونس لما آمنوا قال عليه السلام: « دعوا » -كذا في (الإكليل)-.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 99 ] ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين

ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم أي بحيث لا يشذ عنهم أحد جميعا أي مجتمعين على الإيمان، لا يختلفون فيه. أي: لكنه لا يشاؤه لمخالفته للحكمة التي بني عليها أساس التكوين والتشريع أفأنت تكره الناس أي على ما لم يشأ الله منهم حتى يكونوا مؤمنين أي ليس ذلك عليك، ولا إليك، كقوله تعالى: [ ص: 3401 ] ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم وترويح لقلبه مما كان يحرص عليه من إيمانهم، كقوله تعالى: لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات

ولذا قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 100 ] وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون

وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله أي بإرادته وتوفيقه، فلا تجهد نفسك في هداها، فإنه إلى الله ويجعل الرجس أي الخذلان على الذين لا يعقلون أي حججه وأدلته، لما على قلوبهم من الطبع.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 101 ] قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

قل انظروا أي تفكروا ماذا في السماوات والأرض أي من الآيات الدالة على توحيده، وكمال قدرته. قال السيوطي: في الآية دليل على وجوب النظر والاجتهاد، وترك التقليد في الاعتقاد. وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون أي وما تنفع الآيات والرسل المنذرون، أو الإنذارات عمن لا يؤمن، و (ما) استفهامية أو نافية.
[ ص: 3402 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 102 ] فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين

فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم أو وقائعه تعالى فيهم كما يقال (أيام العرب) لوقائعها، من التعبير بالزمان عما وقع فيه، كما يقال (المغرب) للصلاة الواقعة فيه. قل أي تهديدا لهم فانتظروا أي ما هو عاقبتكم، إني معكم من المنتظرين وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 103 ] ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين

ثم ننجي رسلنا عطف على محذوف معلوم من السياق، كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا المرسلة إليهم والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين أي من كل شدة وعذاب. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 104 ] قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين

قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم إنما أوثر الخطاب باسم الجنس -أعني الناس- مصدرا بحرف التنبيه; تعميما للتبليغ، وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم، وعبر عما هم فيه من القطع بالشك ; للإيذان بأنه أقصى ما يمكن خطوره، [ ص: 3403 ] وإلا فإن وضوح صحته، وبرهان حقيته أوضح من الشمس في رائعة النهار. وقدم ترك عبادة الغير على عبادته تعالى ; إيذانا بمخالفتهم من أول الأمر، وفي تخصيص التوفي بالذكر متعلقا بهم - ما لا يخفى من التهديد ; إذ لا شيء أشد عليهم من الموت. وأمرت أن أكون من المؤمنين أي: بأعلى مراتب التوحيد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 105 ] وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين

وأن أقم وجهك للدين حنيفا أي مائلا عن الأديان الباطلة.

لطيفتان:

الأولى: إقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى، والإعراض عما سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء، يقيم وجهه في مقابلته، بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا ; إذ لو التفت بطلت المقابلة، فلذا كني به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين، فالمراد بالوجه الذات. أي اصرف ذاتك وكليتك للدين، فاللام صلة.

الثانية: جملة (وأن أقم) عطف على (أن أكون). وجاز حكاية صلة (أن) بصيغة الأمر، لأنه لا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب وبين الخبر، لأن القصد وصلها بما يتضمن معنى المصدر، وهو يحصل بكل فعل. وقال بعضهم: إن هنا فعلا مقدرا. أي وأوحي إلي أن أقم، وأنه يجوز أن تكون (أن) مصدرية ومفسرة، لأن في المقدر معنى القول دون حرفه، ثم رجحه بأنه يزول فيه قلق العطف، ويكون الخطاب في وجهك في محله. ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها، ولا قلق في هذا العطف، وأمر الخطاب سهل; لأنه لملاحظة المحكي، والأمر المذكور معه، كذا في (العناية).

وقوله تعالى: ولا تكونن من المشركين تهييج وحث له على عبادة الله تعالى، ومنع لغيره، كما تقدم.
[ ص: 3404 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 106 ] ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين

ولا تدع أي: لا تعبد من دون الله ما لا ينفعك أي لا في الدنيا ولا في الآخرة إن عبدته ولا يضرك إن لم تعبده فإن فعلت أي: عبدته فإنك إذا من الظالمين أي الضارين لنفسك، أو بوضع الأمر في غير موضعه إن الشرك لظلم عظيم
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 107 ] وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم

وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم لما نهى تعالى عن عبادة الأوثان، ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر، بين أنه سبحانه هو الضار النافع، الذي إن أصاب بضر لم يقدر على كشفه إلا هو وحده، دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به؟! وكذلك إن أراد بخير لم يرد أحد ما يريده من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟! فهو الحقيقي، إذا بأن توجه إليه العبادة دونها.

لطائف:

قيل: ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني، للإشارة إلى أنهما متلازمان، فما يريده يصيبه، وما يصيبه لا يكون إلا بإرادته، لكنه صرح في كل منهما بأحد الأمرين ; إشارة إلى أن الخير مقصود بالذات له تعالى، والضر إنما وقع جزاء لهم على أعمالهم، وليس مقصودا بالذات، فلذا لم يعبر فيه بالإرادة.

[ ص: 3405 ] وقيل: قصد الإيجاز، فذكر في كل من الفقرتين المتقابلتين ما يدل على إرادة مثله في الأخرى لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب، وهو نوع من البديع يسمى احتباكا.

قال أبو السعود: على أنه قد صرح بالإصابة حيث قيل (يصيب به) إظهارا لكمال العناية بجانب الخير، كما ينبئ عنه ترك الاستثناء فيه، أي: يصيب بفضله الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير.

روى ابن عساكر عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفخات ربكم، فإن لله نفخات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوه أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم » . ورواه عن أبي هريرة بمثله.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 108 ] قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل

قل أي لأولئك الكفرة الفجرة، بعد ما بلغتهم دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وأنذرتهم يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم يعني القرآن فمن اهتدى أي بالإيمان به، فإنما يهتدي لنفسه أي منفعة اهتدائه لها خاصة ومن ضل أي بالكفر به فإنما يضل عليها ي فوبال الضلال عليها. والمعنى: لم يبق لكم بمجيء الحق عذر، ولا على الله حجة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه، وفيه تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه السلام، من جلب نفع أو ضر، كما يلوح به إسناد المجيء إلى الحق، من غير إشعار يكون ذلك بواسطته -أفاده أبو السعود-.

وما أنا عليكم بوكيل أي بحفيظ موكول إلي أمركم، وإنما أنا بشير ونذير.
[ ص: 3406 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 109 ] واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين

واتبع ما يوحى إليك أي في التبليغ، وإن لم يهتدوا به واصبر أي على أذاهم في الدعوة، حتى يحكم الله أي لك بالنصرة عليهم والغلبة: وهو خير الحاكمين وقد حكم وشاء قتلهم وأسرهم يوم بدر، وله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 3407 ] بسم الله الرحمن الرحيم

11- سورة هود

أضيفت إليه لتضمنها نبأه مع قومه، وتمييزا لها، وإن تضمنت أنباء غيره من الأنبياء عليهم السلام.

وقال المهايمي: سميت به لقوله: إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم الدال على توحيد الأفعال، مع استقامته بإعطاء كل مستعد ما يستعد له، المقتضية للأحكام والجزاء، وهي من أعظم المقاصد. اهـ.

وهي مكية. واستثنى منها ثلاث آيات أنزلت بالمدينة فألحقت بها: فلعلك تارك أفمن كان على بينة من ربه وأقم الصلاة طرفي النهار

وآياتها مائة وثلاث وعشرون.

روى الحاكم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! قد شبت! قال: قد شيبتني (هود) و (الواقعة) و (المرسلات) و (عم يتساءلون) و (إذا الشمس كورت) ورواه هو والترمذي عن ابن عباس.

وروي أيضا عن أنس وسهل وعمران، وفي رواية: شيبتني هود وأخواتها ذكر يوم القيامة وقصص الأمم.

وفي رواية: شيبتني هود وأخواتها. وما فعل بالأمم.

[ ص: 3408 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 1 ] الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير

الر تقدم الكلام على مثلها في أول سورة البقرة فليتذكر.

كتاب أحكمت آياته أي نظمت نظما رصينا محكما معجزا، وأثبتت دائمة على حالها لا تتبدل ولا تتغير ولا تفسد، محفوظة عن كل نقص وآفة ثم فصلت أي لأنواع من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، كما تفصل القلائد بالفرائد. أو جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية، أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد، أي: بين ولخص.

قيل: (ثم) هنا للتراخي في الحكم، أي الرتبة، أو التراخي بين الإخبارين، لا للتراخي في الوقت، لأن التفصيل والإحكام صفتان لشيء واحد، لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فليس بينهما ترتب وتراخ، وهذا التكلف على أن (ثم) تقتضي الترتيب، وقد خالف قوم في اقتضائها إياه، كما حكاه في (المغني).

من لدن حكيم خبير أي إحكامها وتفصيلها من لدن حكيم بناها على علم وحكمة، لا يمكن أحسن منها، وأشد إحكاما، وخبير بتفاصيلها على ما ينبغي في النظام الحكمي في تقديرها وتوقيتها وترتيبها -قاله القاشاني-.

قال الزمخشري: وفيه طباق حسن ; لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها، أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور.
[ ص: 3409 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 2 ] ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير

ألا تعبدوا إلا الله قال القاشاني: أي تنطق عليكم بلسان الحال والدلالة، ألا تشركوا بالله في عبادته، وخصوه بالعبادة.

وقال الزمخشري: " ألا" مفعول له، أي لئلا. أو (أن) مفسرة، لأن في تفصيل الآيات معنى القول، كأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم ألا تعبدوا إلا الله.

وقوله تعالى: إنني لكم منه نذير وبشير كلام على لسان الرسول، أي إنني أنذركم، من الحكيم الخبير، عقاب الشرك وتبعته، وأبشركم منه بثواب التوحيد وفائدته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[3 ] وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير

وأن استغفروا ربكم أي من الشرك ثم توبوا إليه بالطاعة. أو المعنى: ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، كقوله: ثم استقاموا

يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى أي يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة واسعة، ونعم متتابعة إلى وقت وفاتكم، كقوله: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة

ويؤت كل ذي فضل فضله أي ويعط كل ذي فضل في العمل الصالح في الدنيا أجره، وثواب فضله في الآخرة.

وإن تولوا أي تتولوا عن التوحيد والتوبة إليه فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير وهو يوم القيامة.

[ ص: 3410 ] قال القاشاني: (كبير) أي شاق عليكم، وهو يوم الرجوع إلى الله، القادر على كل شيء، أي يوم ظهور عجزكم، وعجز ما تعبدون، بظهوره تعالى في صفة قادريته، فيقهركم بالعذاب، ولذا قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 4 ] إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير [ 5 ] ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور

إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير

ثم بين تعالى إعراضهم بجسمهم أيضا، إثر الإشارة إلى توليهم بقلبهم، بقوله: ألا إنهم يثنون صدورهم أي يزورون عن الحق واستماعه بصدورهم: ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون أي في قلوبهم وما يعلنون أي يجهرون بأفواههم إنه عليم بذات الصدور أي بما في ضمائر القلوب. ونظير ما حكي هنا عن مشركي مكة من كراهتهم لاستماع كلامه تعالى; ما قاله تعالى عن قوم نوح: وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا وما ذكرناه هو أظهر ما تحمل عليه الآية -والله أعلم-.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif








ابوالوليد المسلم 08-03-2023 09:29 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ هود
المجلد التاسع
صـ 3411 الى صـ 3425
الحلقة (400)




القول في تأويل قوله تعالى:

[ 6 ] وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين

وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها أي ما تعيش به. وإنما جيء بـ (على) [ ص: 3411 ] اعتبارا لسبق الوعد به، وتحقيقا لوصوله إليها البتة، بطريق التكفل الشبيه بالإيجاب ويعلم مستقرها أي مسكنها في الدنيا، أو في الصلب ومستودعها أي بعد الموت، أو في الرحم كل أي من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها في كتاب مبين أي مسطور في كتاب عنده تعالى، مبين عن جميع ذلك.

ثم بين تعالى عظيم قدرته وتكوينه وإبداعه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 7 ] وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين

وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام من الأحد إلى الجمعة وكان عرشه على الماء أي ما كان تحته قبل خلق السماوات والأرض، وارتفاعه فوقها إلا الماء. وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض -كذا في (الكشاف)-.

وقال القاضي: أي لم يكن بينهما حائل، لا أنه كان موضوعا على متن الماء.

قال قتادة: ينبئنا تعالى في هذه الآية كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض.

روى الإمام أحمد عن أبي رزين -واسمه: لقيط بن عامر العقيلي- قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: « كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، [ ص: 3412 ] ثم خلق العرش بعد ذلك » . ورواه الترمذي وحسنه وقال: قال أحمد: يريد بالعماء أنه ليس معه شيء.

وقال البيهقي في كتاب (الأسماء والصفات): (العماء) ممدود كما رأيته مقيدا كذلك، ومعناه السحاب الرقيق، أي فوق سحاب، مدبرا له، وعاليا عليه. كما قال تعالى: أأمنتم من في السماء يعني من فوق السماء. وقوله: (ما فوقه هواء) أي ما فوق السحاب هواء. وكذلك قوله (وما تحته هواء) أي ما تحت السحاب هواء.

وقد قيل: إن ذلك (العمى) مقصور، بمعنى لا شيء ثابت، لأنه مما عمي عن الخلق، فكأنه قال في جوابه: كان قبل أن يخلق الخلق، ولم يكن شيء غيره. و (ما) فيهما نافية. أي: ليس فوق العمى الذي هو لا شيء موجود هواء، ولا تحته هواء ; لأنه إذا كان غير موجود فلا يثبت له هواء بوجه. انتهى ملخصا.

وقال ابن الأثير: العماء في اللغة السحاب الرقيق، وقيل الكثيف، وقيل هو الضباب. وفي الحديث حذف، أي أين كان عرش ربنا؟ دل عليه قوله تعالى: وكان عرشه على الماء

وحكى بعضهم أنه العمى المقصور. قال: وهو كل أمر لا يدركه الفطن.

وقال أبو عبيد: إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء!.

قال الأزهري: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته.

وقوله تعالى: ليبلوكم أيكم أحسن عملا أي أخلصه، متعلق بـ (خلق) أي: خلقهن لحكمة بالغة، وهي أن يجعلهن مساكن لعباده، وينعم عليهم بفنون النعم، [ ص: 3413 ] فيعبدوه وحده، ويتسابقوا في العمل الذي يرضيه. ولما كان الابتلاء والاختبار لمن تخفى عليه عاقبة الأمور; قيل: إنه هنا تمثيل واستعارة، فشبه معاملته تعالى عباده في خلق المنافع لهم، وتكليفهم شكره، وإثابتهم إن شكروا، وعقوبتهم إن كفروا، بمعاملة المختبر مع المختبر، ليعلم حاله ويجازيه، فاستعير له الابتلاء على سبيل التمثيل (ليبلوكم) موضع (ليعاملكم). ويصح أن يكون مجازا مرسلا، لتلازم العلم والاختبار. أي: خلق ذلك ليعلم، أي: ليظهر تعلق علمه الأزلي بذلك.

قال القاشاني: جعل غاية خلق الأشياء ظهور أعمال الناس. أي: خلقناهم لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء، أيكم أحسن عملا، فإن علم الله قسمان: قسم يتقدم وجود الشيء في اللوح، وقسم يتأخر وجوده في مظاهر الخلق، والبلاء الذي هو الاختبار هو هذا القسم -انتهى-.

ونحو هذه الآية قوله تعالى: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا وقوله: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم وقوله سبحانه: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

وقوله تعالى ولئن قلت أي لأهل مكة إنكم مبعوثون أي: محيون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا أي القول بالبعث، أو القرآن المتضمن لذكره إلا سحر مبين أي مثله في الخديعة والبطلان.
[ ص: 3414 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 8 ] ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون

ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة أي جماعة من الأوقات محصورة. والعذاب هو عقاب الآخرة، أو عذاب الدنيا ببدر، أو هلاك المستهزئين الذين ماتوا قبل بدر ليقولن أي استهزاء ما يحبسه أي عنا. ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم أي دار ونزل بهم ما كانوا به يستهزئون أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون.

لطيفة:

(الأمة) تستعمل في الكتاب والسنة في معان متعددة، فيراد بها الأمد، كما هنا، وقوله في يوسف: وادكر بعد أمة والإمام المقتدى به، كقوله: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله والملة والدين كآية: إنا وجدنا آباءنا على أمة والجماعة كآية: ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون وقوله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت -أفاده ابن كثير-.

ثم أخبر سبحانه عن الإنسان، وما فيه من الصفات الذميمة، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين، بقوله تعالى:
[ ص: 3415 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 9 ] ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نـزعناها منه إنه ليئوس كفور

ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة أي: نعمة ثم نـزعناها منه إنه ليئوس أي قنوط عن عودها، قطوع رجاءه من فضله تعالى، من غير صبر ولا تسليم لقضائه كفور عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله، كأنه لم ير خيرا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 10 ] ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور

ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني أي المصائب التي ساءتني إنه لفرح أي أشر بطر فخور أي على الناس بما أذاقه الله من نعمائه، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 11 ] إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير

إلا الذين صبروا أي على الضراء، إيمانا بالله واستسلاما لقضائه وعملوا الصالحات أي في الرخاء والشدة، شكرا لآلائه، سابقها ولاحقها: أولئك لهم مغفرة أي لذنوبهم بتلك الشدة وأجر كبير أي على الصبر والأعمال الصالحة.

تنبيه:

قال القاشاني قدس سره: ينبغي للإنسان أن يكون في الفقر والغنى، والشدة والرخاء، والمرض والصحة، واثقا بالله، متوكلا عليه، لا يحتجب عنه بوجود نعمة، ولا بسعيه [ ص: 3416 ] وتصرفه في الكسب، ولا بقوته وقدرته في الطلب ولا بسائر الأسباب والوسائط ; لئلا يحصل اليأس عند فقدان تلك الأسباب، والكفران والبطر والأشر عند وجودها، فيبعد بها عن الله تعالى، وينساه فينساه الله، بل يرى الإعطاء والمنع منه دون غيره. فإن أتاه رحمة من صحة أو نعمة شكره أولا برؤية ذلك منه، وشهود المنعم في صورة النعمة، وذلك بالقلب، ثم بالجوارح باستعمالها في مراضيه وطاعته، والقيام بحقوقه تعالى فيها، ثم باللسان بالحمد والثناء متيقنا بأنه القادر على سلبها، محافظا عليها بشكرها، مستزيدا إياها، اعتمادا على قوله تعالى: لئن شكرتم لأزيدنكم

قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا وصلت إليكم أطراف النعم، فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر. ثم إن نزعها منه. فليصبر ولا يتأسف عليها، عالما بأنه هو الذي نزع دون غيره ; لمصلحة تعود إليه، فإن الرب تعالى كالوالد المشفق في تربيته إياه، بل أرأف وأرحم، فإن الوالد محجوب عما يعلمه تعالى، إذ لا يرى إلا عاجل مصالحه وظاهرها، وهو العالم بالغيب والشهادة، فيعلم ما فيه صلاحه عاجلا وآجلا، راضيا بفعله، راجيا إعادة أحسن ما نزع منها إليه، إذ القانط من رحمته بعيد منه، لا يستوسع رحمته لضيق وعائه، محجوب عن ربوبيته، لا يرى عموم فيض رحمته ودوامه. ثم إذا أعادها لم يفرح بوجودها، كما لم يحزن بفقدانها، ولا يفخر بها على الناس، فإن ذلك من الجهل، وظهور النفس، وإلا لعلم أن ذلك ليس منه وله، وبأي سبب يسوغ له فخر بما ليس له ومنه؟ بل لله، ومن الله.

وقوله تعالى: إلا الذين صبروا استثناء من (الإنسان) أي هذا النوع يؤوس كفور، فرح فخور، في الحالين، إلا الذين صبروا مع الله واقفين معه، في حالة الضراء والنعماء والشدة والرخاء، كما قال عمر رضي الله عنه: الفقر والغنى مطيتان، لا أبالي أيهما أمتطي. انتهى.
[ ص: 3417 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 12 ] فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل

فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أي بتلاوته عليهم، وتبليغه إليهم، أن يقولوا أي مخافة أن يقولوا، تعاميا عن تلك البراهين التي لا تكاد تخفى صحتها على أحد ممن له أدنى بصيرة، وتماديا في العناد على وجه الاقتراح لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز والملائكة، زعما أن الرسول متبوع، لا بد له من الإنفاق على أتباعه، ولا يتأتى مع عدم سلطنته إلا بإلقاء الكنز عليه، أو مجيء ملك معه يصدق برسالته، فقال تعالى: إنما أنت نذير أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، غير مبال بما صدر منهم من الاقتراح والله على كل شيء وكيل أي فيحفظ ما يقولون ويجازيهم عليه، فكل أمرك إليه، وبلغ وحيه بقلب منشرح، غير مبال بهم.

لطائف:

الأولى: قال القاشاني: لما لم يقبلوا كلامه صلى الله عليه وسلم بالإرادة، وأنكروا قوله بالاقتراحات الفاسدة، وقابلوه بالعناد والاستهزاء، ضاق صدره، ولم ينبسط للكلام، إذ الإرادة تجذب الكلام، وقبول المستمع يزيد نشاط المتكلم، ويوجب بسطه فيه، وإذا لم يجد المتكلم محلا قابلا لم يتسهل له، وبقي كربا عنده، فشجعه الله تعالى بذلك، وهيج قوته ونشاطه بقوله: إنما أنت نذير فلا يخلو إنذارك من إحدى الفائدتين: إما رفع الحجاب أن ينجع فيمن وفقه الله تعالى لذلك، وإما إلزام الحجة لمن لم يوفق لذلك، ثم كل الهداية إليه.

[ ص: 3418 ] الثانية: لا يخفى أن (لعل) للترجي، وهو، وإن اقتضى التوقع، إلا أنه لا يلزم من توقع الشيء وقوعه، ولا ترجح وقوعه ; لوجود ما يمنع منه وتوقع ما لا يقع منه، المقصود تحريضه على تركه، وتهييج داعيته.

وقيل: (لعل) هنا للتبعيد لا للترجي، فإنها تستعمل كذلك، كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا، لمن لا يقدر عليه. فالمعنى: لا نترك.

وقيل: إنها للاستفهام الإنكاري كما في الحديث: « لعلنا أعجلناك » .

وقيل: هي لتوقع الكفار، فكما تكون لتوقع المتكلم، وهو الأصل ; لأن معاني الإنشاءات قائمة به- تكون لتوقع المخاطب أو غيره، ممن له ملابسة بمعناه كما هنا. فالمعنى: إنك بلغت الجهد في تبليغهم أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه -كذا في (العناية)-.

الثالثة: إنما عدل عن (ضيق) الصفة المشبهة إلى (ضائق) اسم الفاعل ; ليدل على أنه ضيق عارض، غير ثابت; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرا. وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل، فيقولون في سيد سائد، وفي جواد جائد، وفي سمين سامن، قال:


بمنزلة أما اللئيم فسامن بها وكرام الناس باد شحوبها


وظاهر كلام أبي حيان أنه مقيس. وقيل إنه لمشابهة (تارك). ومنه يعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة -كذا في (العناية)-.

وقوله تعالى:
[ ص: 3419 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 13 ] أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين

أم يقولون افتراه أي ما يوحى إليك، وفي (أم) وجهان منقطعة مقدرة بـ (بل والهمزة الإنكارية) أي: بل أيقولون. ومتصلة والتقدير: أيكتفون بما أوحينا إليك، وهو ما في الإعجاز، أم يقولون ليس من عند الله.

قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا أي للاستعانة من استطعتم أي من الإنس والجن، وقوله: من دون الله متعلق بـ " ادعوا" ، أي متجاوزين الله تعالى إن كنتم صادقين أي في أني افتريته، فأنتم عرب فصحاء مثلي، لا سيما وقد زاولتم أساليب النظم والنثر والخطب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 14 ] فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنـزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون

فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنـزل بعلم الله أي بما لا يعلمه غيره من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليها وأن لا إله إلا هو أي واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله، وأن توحيده واجب، والإشراك به ظلم عظيم فهل أنتم مسلمون أي مبايعون بالإسلام، منقادون لتوحيد الله، وتصديق رسوله بعد هذه الحجة القاطعة؟.

[ ص: 3420 ] لطائف:

الأولى: قيل: تحدوا أولا بعشر سور، فلما عجزوا تحدوا بسورة. وذهب المبرد إلى أن الأمر بالعكس، ووجهه بأن ما وقع أولا هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها، وهي الأنواع التسعة المنظومة في قول بعضهم:


ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل حلال، حرام، محكم متشابه
بشير نذير، قصة عظة مثل


فلما عجزوا عن ذلك، أمرهم بالإتيان بعشر سور مثله في النظم، وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه، ويشهد له توصيفها بـ (مفتريات).

وقيل: إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد، وإبطال الشرك، فتعين أن يكون لإثبات النبوة بإظهار معجزة، وهي السورة الفذة. والتحدي بعشر وقع بعد تعنتهم واستهزائهم، واقتراحهم آيات غير القرآن; لزعمهم أنه مفترى، فمقامه يناسبه التكثير; لأنه أمر مفترى عندهم، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله -كذا في (العناية)-.

الثانية: ضمير (لكم) للنبي صلى الله عليه وسلم وجمع للتعظيم، كما في قول من قال:


وإن شئت حرمت النساء سواكم


أو له وللمؤمنين ; لأنهم أتباعه في الأمر بالتحدي. وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام، ويناصبوا معه لمعارضة المعارضين، كما كانوا يفعلونه في الجهاد. وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، والطمأنينة في الإيقان، ولذلك رتب عليه قوله عز وجل: فاعلموا إلخ. وجوز أن يكون الخطاب في الكل للمشركين من جهته عليه السلام، داخلا تحت الأمر بالتحدي، والضمير في (لم يستجيبوا) لـ (من استطعتم) أي: فإن لم يستجب لكم سائر من تجأرون إليهم في مهماتكم إلى [ ص: 3421 ] المعاونة ; فاعلموا أن ذلك خارج عن دائرة قدرة البشر، وأنه منزل من خالق القوى والقدر -كذا في أبي السعود-.
ثم بين تعالى وعيد من آثر الحياة الدنيا على الآخرة -وهم الكفار- بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 15 ] من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون

من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أي: نوصل إليهم جزاء أعمالهم فيها من الصحة والرزق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 16 ] أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون

أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها أي وحبط في الآخرة ما صنعوه، أي لم يكن لهم ثواب عليه. وجوز تعلق الظرف بـ " صنعوا" والضمير للدنيا. كما عاد عليه في قوله: نوف إليهم أعمالهم فيها وباطل ما كانوا يعملون أي كان عملهم في نفسه باطلا ; لأنه لم يعمل لغرض صحيح.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك [ ص: 3422 ] وما كان عطاء ربك محظورا وقوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نـزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب

لطيفة:

في إعراب (باطل) وجهان:

الأول: كونه خبرا مقدما، و (ما كانوا) مبتدأ مؤخرا، و (ما) مصدرية أو موصولة، والكلام من عطف الجمل.

والثاني: كونه عطفا على الأخبار قبله، أي: أولئك باطل ما كانوا يعملون. و ما كانوا يعملون فاعل بـ " باطل" ورجح هذا بقراءة زيد بن علي رضي الله عنهما: (وبطل) ماضيا معطوفا على (حبط).

ثم أشار تعالى إلى صفة المؤمنين، في مقابلة أولئك بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 17 ] أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون

أفمن كان على بينة من ربه أي برهان نير، عظيم الشأن، يدل على حقية ما ثبت عليه من الإسلام، وهو القرآن ويتلوه أي يتبعه شاهد منه أي من القرآن نفسه، يشهد له بكونه من عند الله تعالى، وهو إعجازه. وفسرت " البينة" أيضا بالإسلام، سماه بينة لغاية ظهوره، إذ هو دين الفطرة، قبل تدنيسها برجس الوثنية و (الشاهد) بالقرآن، [ ص: 3423 ] فالضمير للرب تعالى. ومن قبله أي القرآن كتاب موسى وهو التوراة. أي: ويتلو تلك البينة من قبله كتاب موسى، مقررا لذلك أيضا. وقوله تعالى: إماما أي: مقتدى به في الدين ورحمة أي نعمة عظيمة على المنزل إليهم، تهديهم وتعلمهم الشرائع. أولئك أي من كان على بينة يؤمنون به أي بالقرآن فلهم الجنة، ومن يكفر به من الأحزاب يعني أهل مكة، ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلوات الله عليه: فالنار موعده فلا تك في مرية منه أي شك من القرآن أو من الموعد إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون أي به، إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم، وإما لعنادهم واستكبارهم.

لطائف:

الأولى: (من) في قوله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه مبتدأ حذف خبره، لإغناء الحال عن ذكره، وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيرا. وتقديره: أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم، وبين مصيرهم ومآلهم -كذا قال أبو السعود-.

وفي (شرح الكشاف) أن التقدير: أمن كان يريد الحياة الدنيا، على أنها موصولة، فمن كان على بينة من ربه، والخبر محذوف; لدلالة الفاء، أي: يعقبونهم أو يقربونهم. والاستفهام للإنكار، فيفيد أنه لا تقارب بينهم، فضلا عن التماثل، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون

الثانية: قرئ ((كتاب موسى)) بالنصب عطفا على الضمير في (يتلوه) أي يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه، يعني من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى ; لما يجدونه مكتوبا عندهم، و (يتلو) من التلاوة، فتكون الآية كقوله تعالى: وشهد شاهد من بني إسرائيل -والله أعلم-.

[ ص: 3424 ] الثالثة: (الأحزاب) جمع حزب، والحزب جماعة الناس. ويطلق (الأحزاب) على من تألبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا كل نبي قبله، وهو إطلاق شرعي، وعليه حمل الأكثر الآية; لكون السورة مكية، إلا أن اللفظ يتناوله، وكل من شاكلهم من سائر الطوائف.

وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار » . قال سعيد: كنت لا أسمع بحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، إلا وجدت مصداقه في القرآن، فبلغني هذا الحديث، فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية: ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده قال: الملل كلها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 18 ] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا كقوله للملائكة (بنات لله)، وللأصنام (شفعاء عند الله) أولئك يعرضون على ربهم أي يساقون إليه سوق العبيد المفترين على ملوكهم، ويقول الأشهاد من الملائكة والنبيين والجوارح: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ، لظلمهم بالكذب على الله. قيل: ولا يبعد أن تكون الآية للدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، [ ص: 3425 ] فإن من يعلم حال من يفتري على الله كيف يرتكبه؟! كما مر في يونس في قوله تعالى: ولا يفلح الساحر
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 19 ] الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون

الذين يصدون عن سبيل الله أي عن دينه القويم، كل من يقدرون على صده. ويبغونها عوجا أي يطلبونها معوجة بالكفر، أو يصفونها لهم بالاعوجاج وهم بالآخرة هم كافرون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 20 ] أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون

أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض أي: يعجزونه تعالى أن يعاقبهم في الدنيا وما كان لهم من دون الله من أولياء أي يمنعونهم من عقابه، يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع لتصامهم عن الحق، وبغضهم له، وما كانوا يبصرون لتعاميهم عن آيات الله، وإعراضهم غاية الإعراض، كما قال الله: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وقال تعالى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب الآية.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif





الساعة الآن : 01:40 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 366.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 366.41 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.14%)]