رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (359) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [5] مما يشترط في العين المؤجرة مع القدرة على تسليمها للمستأجر اشتمالها على المنفعة، وكذلك ملكية المؤجر لها أو الإذن له بالتصرف فيها، ولإجارة الأراضي الزراعية أحكام مهمة ينبغي أن يتعلمها المسلم حتى يستبرئ لدينه إن أقدم على ذلك. ويجوز لمن استأجر عينا ما أن يؤجرها لشخص يكون مثله أو أقل منه في الضرر، وتجوز إجارة الوقف على تفصيل مذكور في هذه المادة. حكم تأجير عين لا يقدر على تسليمها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فمما يشترط لجواز الإجارة: أن يكون المؤجر قادرا على تسليم المنفعة للمستأجر، فلا يجوز إجارة شيء لا يتمكن صاحبها من تمكين المستأجر من منفعته، ولذلك يعتبر العلماء رحمهم الله بيع البعير الشارد والعبد الآبق من بيوع الغرر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وعلل العلماء ذلك: بأنه يدفع الثمن في شيء لا يمكن أن يضمنه استلامه. كذلك في التجارة: لا يجوز أن يستأجر شيئا لا يتمكن من منفعته، أو لا يستطيع صاحب الملك أن يمكنه من منفعته، وقد ذكر العلماء رحمهم الله لذلك أمثلة، فيعتني المصنف رحمه الله بذكر شيء منها. إذا: لا تصح الإجارة إلا إذا كانت على منفعة مقدور على تسليمها، فإن كانت على منفعة غير مقدور على تسليمها فإنك تقول: إن هذا من الغرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وكما لا يصح بيع الشيء الذي لا يمكن تسليمه، كذلك لا يجوز بيع المنفعة التي لا يمكن تسليمها، بجامع كون كل من العقدين عقد معاوضة. قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح إجارة الآبق والشارد] . فلا تصح إجارة عبد آبق، وهو الذي فر وهرب من سيده، ولا تجوز إجارة بعير شارد، فالبعير إذا كان شاردا وقال له: أؤجرك هذا البعير يوما بمائة، واتفقا على إجارته في الغد، فإن البعير غير موجود، فيحتمل أن يتمكن من أخذه والقبض عليه حتى يتمكن المستأجر من أخذ المنفعة ويحتمل ألا يتمكن من ذلك، فصارت إجارته على هذا الوجه من إجارة الغرر، وقد حرم الله ورسوله الغرر لأنه أكل للمال بالباطل. وعلى هذا قالوا: لا يجوز إجارة البعير الشارد ولا إجارة العبد الآبق، فلابد إذا استأجر شيئا أن يكون مقدورا على منفعته، وهذا من العدل، فإن الله سبحانه وتعالى حفظ للناس حقوقهم، وجاءت الشريعة بحفظ الحقوق للعباد، فإذا استأجر أخوك المسلم منك شيئا فإنك كما لا ترضى لنفسك أن تدفع مالا في شيء لا تضمنه، كذلك ينبغي ألا ترضى لأخيك المسلم أن يدفع مالا في شيء لا يضمنه، ولا يتمكن من أخذ حقه واستفيائه منه. اشتمال العين المؤجرة على المنفعة قال رحمه الله: [واشتمال العين على المنفعة] . يشترط كذلك اشتمال العين على المنفعة، فإذا استأجر حيوانا أو إنسانا أو دارا أو موضعا لمنفعة فلا يمكن أن نحكم بصحة هذه الإجارة إلا إذا كانت المنفعة المقصودة موجودة في الشيء المؤجر، ومن هنا إذا استأجر بيتا ولا يمكنه أن يسكنه فإن المنفعة غير ممكن أن يتوصل إليها المستأجر، ومن أمثلة ذلك -قالوا-: السكن، إذا كانت الدار مسكونة بالجن ونحو ذلك فهذا فيه ضرر، فلا يستطيع أن ينتفع به، فذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره من الأئمة أنه لا تصح الإجارة، لأن المنفعة لا يتمكن منها، وذكر المصنف رحمه الله لذلك أمثلة، فقال رحمه الله: [ولا تصح إجارة بهيمة زمنة للحمل] . فالبهيمة الكبيرة والتي يكون فيها مرض لا يمكن معه أن تتحمل الحمل، لا يمكن إجارتها لحمل الأثقال، ولا يمكن إجارتها لحمل الناس، فلو أنه قال له: أجرني بعيرك أحج به، والبعير مريض، فإن العين المستأجرة لا يمكن أخذ المنفعة منها، فلا تصح الإجارة. إذا: هذا الشرط والشرط الذي قبله بينهما توافق؛ لأن كلا منهما المقصود منه: توصل المستأجر إلى حقه، فكما لا تجوز إجارة العين الغير موجودة والتي لا يقدر على تسليمها لكي يتمكن المستأجر من الانتفاع بها، كذلك لا يجوز إذا كانت العين موجودة ولا يمكن أخذ المنفعة منها، أو يغلب على الظن عدم قدرتها على القيام بالمنفعة كالبعير المريض والبعير الزمن والهرم، إذا استأجره لعمل شديد وعمل يحتاج إلى تعب وعناء، والبعير لا يطيق ذلك؛ فإن الإجارة لا تصح، وهذا مفرع على ما تقدم؛ لأنه يؤدي إلى أكل المال بالباطل. مسائل متعلقة بتأجير الأرض للزراعة وقوله: [ولا أرض لا تنبت للزرع] . الأرض تنقسم إلى قسمين: إما أن تكون أرضا زراعية، وهي الأرض الصفراء الصالحة للزرع وما في حكمها. وإما أن تكون أرضا غير صالحة للزرع، ومن أمثلتها: الأرض السبخة كثيرة الأملاح، فإنه مهما بذر الإنسان فيها فإنها لا تنبت كلأ ولا تنبت العشب ولا الزرع. ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ما من شيء جعل الله فيه المنفعة إلا وجعل له نظيرا يتعذر منه المنفعة، والله عز وجل لحكمته جعل من الأرض ما لا ينبت زرعا، حتى إذا قال الناس: إن هذا الزرع أوجدته الطبيعة أو وجد هكذا صدفة كذبهم الله بالأرض التي لا تنبت، وكذبهم الله بالأرض التي يصب عليها الماء ويغدق آناء الليل وأطراف النهار ومع ذلك لا تنبت شيئا، وهذا يدل على عظمة الله سبحانه وتعالى، ولذلك خالف بين الأشياء. فالأرض من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل فيها ما ينبت وجعل فيها ما لا ينبت، وجعل فيها ما يمسك الماء وجعل فيها ما لا يمسك، فهذا الاختلاف في الأرض جعل الاختلاف في الحكم على مقصد إجارة الأرض، فمن استأجر أرضا وقصده منها أن يزرع فهذه تعرف بمسألة إجارة الأرض للزراعة، وفي هذه المسألة كلام طويل للعلماء رحمهم الله، واختلف العلماء في هذه المسألة وفي تفاريعها إلى ما يقرب من خمسة أقوال مشهورة عن أهل العلم رحمة الله عليهم: القول الأول: منهم من حرم إجارة الأرض للزراعة مطلقا، وقال: لا يجوز للمسلم أن يستأجر أو يؤجر أرضا، فدفع المال لإجارة الأرض لا يجوز مطلقا، واستدل بحديث جابر في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع) وفي رواية: قال عليه الصلاة والسلام: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولا يؤاجرها) فقوله: (ولا يؤاجراها) نهي، والنهي يدل على التحريم، فدل على تحريم إجارة الأرض للزراعة، وهو مذهب الظاهرية وطائفة من أهل العلم. وقال جمهرة السلف والخلف رحمهم الله: تجوز إجارة الأرضين. واختلفوا على أقوال تقرب من أربعة أقوال، فحاصل هذه الأقوال: القول الثاني: منهم من يقول: يجوز إجارتها بكل شيء إلا بالطعام، ووجه هذا القول أنه إذا أجرها بالطعام، فالأرض يقصد منها الطعام ويقصد منها الحب والثمر، فكأنه يبادل الطعام بالطعام، فبادل الربوي بالربوي نسيئة ومتفاضلا إذا اتحد نوعه وجنسه، أو ربوي بربوي نسيئة إن كان من نوع مختلف، هذا إذا كانت إجارتها بالطعام. وهذا هو القول الثاني فهؤلاء قالوا: يجوز بكل شيء، إلا أن يقول له: أستأجر منك هذه الأرض بمائة صاع من التمر، أو بمائة صاع من البر، أو بمائة صاع من الشعير أو الدخن، فهذا لا يجوز؛ لأنه جعل الأجرة والقيمة من الطعام، فيستثنون فقط الطعام. القول الثالث: ومنهم من حرم تأجيرها إذا كان بجزء من الخارج منها، فقال: يجوز إجارتها، ولكن إذا كان من الطعام الذي يخرج منها فلا يجوز؛ لأنه في هذه الحالة إذا استأجر بجزء مما يخرج منها فقد عاوض الطعام الذي أخذه بالطعام الذي دفعه، فكان أيضا من الطعام بالطعام ربويا متفاضلا ونسيئة. القول الرابع: ومنهم من قال: إنه يجوز إجارتها بالذهب والفضة فقط -أي: بالنقدين- ولا يجوز إجارتها بما عدا ذلك. القول الخامس: ومنهم من أجاز إجارتها بكل شيء، وهذا هو الأقوى والصحيح. والذين حرموا الصور التي ذكرناها مجاب عنهم، وذلك أن حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح جاء على ألفاظ مختلفة، فالذي يظهر من هذه الأحاديث: أولا: أن الحديث الذي ورد بالنهي عن إجارة الأراضي المراد به أحد أمرين: إما أن يكون المراد به خاصا، وهذا محمول على حديث رافع الذي فسر التحريم، فعندنا حديث عن رافع يقول: (إنما كانوا يؤاجرون الأرضين على الماذيانات وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا) مراد رافع رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم إجارة الأرضين على الصحابة رضوان الله عيهم؛ لأنهم كانوا في أول الأمر يؤجرون الأرض ويقولون للمستأجر: نأخذ الزرع الذي ينبت على الحياض وعلى المياه، وأنت تأخذ البعيد. فقوله: (يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول) المراد منه: يقول صاحب الأرض: خذ أرضي وازرعها، ولكن كل شيء ينبت بجوار قنطرة الماء أو على جدول الماء أو قريبا من الماء فهو لي، وما زاد فهو لك. قال رضي الله عنه: فيسلم هذا -أي: الذي على الماء؛ لأنه قريب من الماء ومنتفع من الماء- ويهلك هذا -أي: البعيد من الماء- فكأنه نوع من الغرر، فهو يختله ويخدعه، فيجعل الأحض لنفسه، والأدنى للعامل الذي تعب على زراعة الأرض، فحرم الله عز وجل ذلك، وحرمه رسوله عليه الصلاة والسلام لأنه من الغرر، ولذلك قال: (فيسلم هذا ويهلك هذا) . أما لو قال له: خذ الأرض وازرعها وهي مناصفة بيني وبينك، فيجوز؛ بشرط ألا يحدد نصفا معينا؛ لأن الغرر منتف في هذه الحالة. فإذا: حديث رافع وحديث جابر رضي الله عنهما نستطيع أن نقول: إنهما خرجا مخرجا واحدا، والمراد بهما: أن يحدد صاحب الأرض للمستأجر مكانا معينا يأخذ زرعه، ويكون أجرة لأخذ الأرض، هذا الوجه الأول في الجواب. أما الوجه الثاني: أن يكون حديث جابر رضي الله عنه في التحريم والنهي سببه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان معه المهاجرون، وكان المهاجرون حينئذ فقراء، فوسع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وجعل من أخوة الإسلام أنهم ما داموا في أول العصر المدني أن منع الأنصار من إجارة الأرضين. وهذا له أصول ومنها: حديث النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال، فهو أمر معروف معهود من الشريعة، فحرم الله عز وجل في ابتداء الأمر إجارة الأرضين لمكان الحاجة ثم أبيحت، وهذا الوجه يختاره بعض العلماء، والوجه الأول يقويه حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، أي: يقوي أن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لإجارة الأرضين كان بسبب التخصيص لقطعة من الأرض. وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه من أعلم الصحابة، وهو من أئمة الفتوى، ولذلك لما توفي رحمه الله وبلغت وفاته أبا هريرة بكى أبو هريرة بكاء شديدا وقال: لقد دفن الناس اليوم علما كثيرا. فكان رضي الله عنه وأرضاه من أعلم الناس بالقرآن ومن أعلم الناس بالسنة، فلما نهى رافع الناس عن إجارة الأرضين في مسألتنا وبلغ ذلك زيدا، قال زيد رضي الله عنه: (يغفر الله لـ رافع، أنا أعلم بالحديث منه، إنما كانوا يؤاجرون بعض الأرض على أن يسلم البعض ويهلك البعض، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك؛ لأنهم كانوا يختصمون) . أما الإمام أحمد رحمة الله عليه فإنه رجح حديث الإجارة، وهي الرواية الصحيحة، وكذلك ما جاء في حديث ابن عمر في إجارة الأرض على يهود خيبر حينما أخذوها مساقاة، رجح ذلك على حديث رافع، وقال رحمه الله كلمته المشهورة: (حديث رافع ألوان) . يعني: أن حديث رافع جعل الوجوه كثيرة، ولذلك كان رافع رضي الله عنه وأرضاه يقول: (أما ما كان بشيء معلوم فلا بأس) ، فكان يخفف على الناس إذا استأجروا الأرض بالنقود، ويحرم عليهم إذا استأجروا بجزء من الأرض، وتارة يروي الحديث بالنهي عموما، فإما أن يكون النهي العام المراد به الخاص، وهذا هو الصحيح، والسنة يفسر بعضها بعضا، فيترجح قول من قال بجواز إجارة الأرضين، وهذا هو الصحيح. إذا: الخلاصة: أن إجارة الأرضين جائزة، وأن الأحاديث التي وردت بتحريم إجارة الأرضين إما منسوخة؛ لأنها في أول التشريع المدني، وإما أن يكون المراد بها: إجارة الغرر، بأن يحدد جزءا من الأرض، كأن يقول له: خذ الأرض وازرعها، وتكون أجرة أرضي أن آخذ منك نصفها الذي يلي الماء، أو لي نصفها الشرقي ولك نصفها الغربي. فهذا لا يجوز وهو محرم. كل الكلام الذي نتكلم عليه الآن: أن تستأجر الأرض للزراعة؛ لأن الأرض قد تستأجر من أجل أن تكون للرعي، وتستأجر لوجود الدواب فيها، وتكون زريبة لدابة أو تكون مستودعا لأغراض أو نحو ذلك كما هو موجود في زماننا، فنحن لا نتكلم عن هذا كله؛ لأنه يجوز بالإجماع أن تستأجر الأرض لذلك، لكن محل الخلاف في إجارة الأرضين للزراعة. من أقسام الأراضي الزراعية إذا ثبت جواز إجارة الأرضين للزراعة، فالأرضين تنقسم إلى أقسام، فمثلا: إذا استأجر الأرض للزراعة فإما أن تكون الأرض فيها ماء مستقر دائم، وإما ألا تكون كذلك، فإن كان في الأرض ماء مستقر دائم، كأن يكون بها عين ماء، أو يكون فيها بئر والماء فيه غزير، أو تكون بجوار نهر، فالماء مضمون بإذن الله عز وجل، أو يستأجرها شهرا أو شهرين، والمدة التي يريد أن يستأجرها الغالب فيها وجود الماء، فهذه بإجماع العلماء الذين يقولون بجواز إجارة الأرضين تجوز إجارتها؛ لأن المنفعة وهي الزراعة ممكنة؛ لأن الماء موجود، والأرض صالحة للزرع. فإذا اختل أحد الشرطين: كأن يكون الماء غير موجود، أو كانت الأرض غير صالحة للزراعة كالأرض السبخة فلا يجوز؛ لأنه إذا استأجرها بقصد الزراعة والأرض سبخة فإنه لا يجوز، وقد غرر به، ولا يستطيع أن يتوصل للذي من أجله استأجر الأرض. كذلك لو كانت الأرض زراعية ولكن لا ماء فيها فإنه لا يتمكن، فإذا تحقق الأمران: بأن كانت الأرض زراعية، وكان الماء موجودا ومستقرا وثابتا في الأرض؛ فإنه تجوز إجارتها وجها واحدا عند العلماء على التفصيل الذي ذكرناه. لكن إذا لم يكن فيها ماء، فتارة تكون إجارتها على أن يجلب الماء إليها، كأن يكون مثل ما هو موجود في زماننا يتمكن من نقله بوسائل النقل إلى هذه المزرعة، أو قطعة صغيرة يريد أن يجعلها محمية، فيجعل فيها نوعا من المزروعات، فحينئذ يجوز؛ لأن المنفعة التي يريدها لها وسيلة يتوصل بها. وهكذا لو كان جارا للأرض وعنده أرض فيها ماء، وهذه بجوار أرضه، ويريد أن ينقل الماء الذي في أرضه إلى هذه الأرض فإن ذلك يجوز، هذا إذا لم يكن في الأرض ماء. الصورة الثانية: أن يجلب الماء إليها إذا لم يكن فيها ماء، أو تكون هذه الأرض في موضع والغالب نزول الماء عليه، مثل: الرياض التي تكون في الجبال، ويأتي في موسم المطر، فيقول له: أستأجر منك هذه الأرض. فبعض العلماء يقول: إذا كان الغالب نزوله، أو كانت الأرض معروفة بكثرة الأمطار فهذا يجوز، لكن إذا كانت الأرض قحطا، والغالب عدم النزول أو مشكوك في نزوله فهذا من الغرر؛ لأنه يحتمل أن ينزل الماء ويحتمل ألا ينزل، فإن نزل الماء زرع، فحقق المنفعة التي من أجلها استأجر، وإن لم ينزل الماء لم يستطع زراعتها، فإذا: يكون قد أكل مال أخيه بالباطل. قالوا: إذا كان يغلب على الظن وجود الماء، مثل: أن يكون استأجرها في مواسم الغالب على الظن النزول، أو كان في نصف الموسم ونزلت أمطار، والأرض ممكن زراعتها قالوا: يجوز في هذا. أي: إذا استأجر منه الأرض في موضع الغالب نزول المطر فيه، أو يغلب على ظنه أنها تمطر، أو كان هناك في الأرض ممكن أن يكون لها ارتواء مثل ما ذكروا، أن تكون الأرض فيها واحة أو فيها غدير ماء مثلما يقع في بعض الرياض، حيث تكون قريبة من غدران المياه، فيضعون عليها (المواطير) أو نحوها لسحب المياه، قالوا: فهذا يجوز، وقد ذكروا هذا حينما يذكرون الأرض العامرة والغامرة. إذا: الخلاصة: أنه إذا كانت الأرض فيها ماء وهي أرض زراعية جاز إجارتها للزراعة وجها واحدا على التفصيل الذي ذكرناه، وأما إذا كانت الأرض لا ماء فيها، فإننا ننظر إذا كان يمكن جلب الماء إليها، سواء عن طريق مزرعته أو عن طريق وسائل النقل، أو حفر لها خليجا يصل الماء عن طريقه إليها، فإنه تجوز إجارتها؛ لأن الغالب حصول المنفعة، أما إذا كان على الظن والاحتمال فلا يجوز. وهناك نوع من الأرضين ذكره العلماء، ونبه عليه الأئمة كالإمام النووي رحمه الله والماوردي وغيرهم رحمة الله عليهم، وهو أن تكون الأرض مغمورة بالماء مثلما يقع في بعض المواسم التي يكون فيها فيضانات، ويفيض الماء فيها كثيرا حتى إلى المزارع ويغطيها، فجاء رجل عنده أرض زراعية وليس فيها زرع، لكنها صالحة للزراعة، وأراد أن يستأجرها شخص منه وهي مغمورة بالماء، والأرض إذا غمرت بالماء والسيل فإنه يمكن زراعتها بمجرد أن ينزل منسوب الماء إلى حد معين، فإنها تزرع وممكن أن تنبت؛ فهل إذا أجرها في حال غمرها بالماء يكون من الغرر؟ في المسألة تفصيل: إن كان انحسار الماء غالبا، كأن جرت العادة أن هذه الأرضين في موسم الأمطار تغرق، ثم إذا جاء الربيع وانحسرت المياه وقلت فإنها تنكشف، فإذا كانت مما يغلب على الظن انحسار الماء عنها صحت الإجارة، وحينئذ يؤجرها، وتكون إجارتها على الموسم الذي ينحسر فيه الماء ليتمكن من زراعتها، فإن أجرها وشملت إجارته وقت الماء لم يصح؛ لأن وقت الماء لا يمكنه زراعتها، ولذلك تكون إجارتها وقت الماء من أكل المال بالباطل. مثال ذلك: لو جاء إلى أرض مغمورة بالماء، ويستغرق نزع الماء عنها وانحساره شهرا، وقال له: أجرني هذه الأرض للزراعة شهرين. فاتفق معه على أنه يكون الشهر الأول الذي ينحسر فيه الماء من ضمن العقد، لم يصح ذلك؛ لأنه يأخذ منه أجرة شهر كامل دون أن يتمكن المستأجر من حصول المنفعة، فالمنفعة متعذرة؛ لأنه لا يمكن زراعة أرض مغمورة بالماء. وعلى هذا يفصل في إجارة الأرضين بهذا التفصيل، فيفرق بين أن تكون صالحة للزراعة أو غير صالحة، ثم تكون إجارتها بغلبة الظن بسقيها الماء أو لا يكون فيها ماء على التفصيل الذي ذكرناه. فمثل المصنف رحمه الله للمنفعة: بأن تكون الأرض لا ماء فيها أو غير صالحة للزرع إذا قصد منها الزراعة، أما لو قصد من الأرض غير الزراعة، وكان ذلك المقصود ممكنا في الأرض صحت إجارتها. اشتراط ملك المؤجر للمنفعة أو الإذن له فيها وقوله رحمه الله: [وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذونا له فيها] . يشترط في صحة إجارة المنازل أن تكون ملكا للمؤجر أو مأذونا له بالتصرف فيها. وقد تقدم في كتاب البيوع أنه لا يجوز للمسلم أن يتصرف في مال أخيه المسلم على الأصل؛ لأن الله حرم الأموال، وقال: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188] وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة مال المسلم كحرمة دمه. فالحقوق التي للإنسان في العقارات أو المنقولات والمنافع الموجودة فيها لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلا بإذن المالك الحقيقي، فمن كان عنده بيت فإنه لا يجوز لأحد أن يأتي ويؤجر هذا البيت دون أن يكون مالكا له أو قد أذن له المالك الحقيقي بالتصرف، أو له ولاية شرعية بالتصرف في هذا البيت بإجارته. وبناء على ذلك: أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمسلم أن يؤجر مال غيره، فإذا أجر مال الغير فإن الإجارة باطلة، فلو قال له: أجرتك هذه العمارة بمليون لمدة سنة كاملة. وهو لا يملك العمارة، وليس له حق التصرف فيها بولاية ولا وكالة، فإن هذه الإجارة باطلة، وعلى هذا لابد وأن يكون مالكا للمنفعة، أي: يكون من حقه أن يتصرف في المنفعة إجارة وكذلك هبة، فإذا ملك المنفعة وأمكنه أن يتصرف فيها صحت إجارته. حكم من استأجر عينا ثم أجرها لغيره وقوله: [وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه، لا بأكثر منه ضررا] . هذه مسألة لطيفة، إذا أثبتنا أنه من حقك أن تؤجر بيتك وعمارتك وسيارتك، وكل ما أنت مالكه من المنافع، ويجوز لك أن تأخذ العوض على منفعته، وكما أنك تملك العين فإنك تملك منافعها. لكن لو سأل سائل وقال: استأجرت عمارة ودفعت أجرتها، وأخذت هذه العمارة سنة كاملة بمليون، فلما تم العقد أردت أن أؤجر العمارة على شخص آخر، الآن المالك الحقيقي هو المؤجر للعمارة، وهو الذي يملك منفعتها، فأنت اشتريت هذه المنفعة بمليون سنة كاملة، فهل من حقك أن تبيعها للغير؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وجمهور السلف والعلماء والأئمة وهو قول طائفة من أئمة التابعين وأتباع التابعين، وهو قول جمهرة أتباع الأئمة الأربعة؛ أنه يجوز للمسلم إذا استأجر عينا أن يؤجرها لغيره، أي: يجوز له إذا استأجر أن يقيم غيره مقامه في الاستيفاء والأخذ، بشرط: أن يكون مثله أو دونه في الضرر، فلا يكون ضرره أكثر من ضرره، وإذا كان أكثر ضررا فإنه لا يجوز، وهذا كله له أمثلة: مثلا: لو استأجر رجل منك موضعا على أن يكون محلا للبيع -بقالة أو نحوها- والمحل في العمارة إذا أجر (بقالة) فإن فيه منفعة وفيه مضرة، ولكن قد يكون الضرر يسيرا، لكن مثلا: لو أنه بعد أن اتفق معك على أن يفتحها بقالة، ثم أراد أن يفتحها محلا لإصلاح السيارات، فإن في محلات إصلاح السيارات من الإزعاج والأذية ما لا يخفى، وإذا أراد أن يجعل المحل -مثلا- مكانا للنجارة أيضا فإن في أعمال النجارة ضررا، فالضرر يكون على العين مثل الآلات التي تهز العمارة، وتؤثر في مرافقها. ومن أمثلتها -مثلا- لو أنه جاء فأجره محلا على أنه بقالة، فأراد أن يضع فيها مكينة لصياغة الذهب، مكينة الذهب هذه تؤثر في أساس العمارة، وتؤثر في راحة سكانها، وهذا ضرر أعظم، فيشمل ضرر العين، والضرر المجاور للعين، فالأضرار التي تكون بنقل الإجارة إلى بديل تمنع من الجواز إذا كانت أكثر من الضرر الموجود في الإجارة الأصلية. فعلى هذا: يجوز للإنسان إذا استأجر عينا أن يؤجرها لغيره بشرط أن يكون أقل منه ضررا أو مثله، وهذا لا شك أنه أحفظ للحقوق، فبالعقل اتفقت معه على أن سكنى العمارة سنة كاملة قد اشتريتها منه، ومن اشترى الشيء ملكه، فكما أنه يجوز لك بالملك أن تسكن العمارة يجوز لك أن تؤجر من غيرك، وكما أنه يجوز على سبيل المعاوضة بالإجارة؛ فإنه يجوز -أيضا- أن تقيم غيرك مكانك على سبيل الهبة، ومن أمثلة ذلك: لو استأجر شقة في عمارة وأراد أن يسكن ضعيفا أو مسكينا مكانه؛ صح ذلك وجاز له، لكن لو أن هذا الذي يريد أن يسكنه مكانه هبة أو إجارة أعظم ضررا لم يجز. وقد يكون الضرر معنويا وقد يكون حسيا، فلا يختص الضرر بكونه يؤثر في العمارة أو مصالحها فقط، بل حتى الضرر الذي يؤثر على أعراض الناس ويحدث لهم فتنة، فمن حق المؤجر أن يلغي الإجارة، ومن حقه أن يطالبه أن يستأجر بنفسه أو يحضر من هو مثله. فإذا أجر لرجل له عائلة والعمارة كلها عوائل، فلا يجوز له أن يأتي بأناس عزاب ويسكنهم مكانه، فهذا ضرر معنوي، ويخشى فيه على أعراض الناس، وفيه فتنة وضرر، حتى أن الرجل لا يستطيع أن يخرج ويترك أهله، ولا يستطيع كذلك أن يخرج أهله، فلذلك إذا كان الضرر معنويا فمن حقه أن يعترض. وأما بالنسبة للضرر الحسي فكما ذكرنا، فكما إذا أجر عمارة أو شقة لرجل وراعاه في سعرها، فلابد أن ينتبه طالب العلم لهذا الأمر، فلربما جاء الرجل وزوجه فرضيت أن تؤجر له، ولربما جاء الرجل وأطفاله فلم تؤجر له، لعلمك أن الأطفال يفسدون ويزعجون، فأنت -مثلا- في عمارتك لم تؤجر، وتقول له: أنا لم أؤجر إلا لكونك لا أطفال عندك. فإن ذهب وأجر لرجل له أطفال، فعند ذلك من حقك أن تعترض وأن تقول له: إما أن تسكن أو تسكن من هو مثلك أو دونك في الأذية والضرر، وإلا أخرج من أسكنته، وهذا من الناحية الشرعية لا إشكال فيه، أي: إذا اشترط عليه ألا يسكن من هو أكثر منه ضررا، أو لم يشترط عليه وجاء بمن هو أضر. ذكر العلماء من هذا أمثلة: إذا كانت الدابة يطيقها رجل ولا تطيق أن تحمل رجلا آخر، فلو جاء برجل أقوى منه وأثقل وقال: هذا مكاني. فلا يمكن؛ لأن هذا يضر بالدابة، ولربما لا تطيق الدابة حمله، فمثل هذا أجاز العلماء أن يعترض عليه ويقول له: أؤجرك وأؤجر من هو مثلك، أما من كان أكثر منك ضررا فإني أمتنع من إجارته، فالشاهد: أنه يؤجر على من هو مثله أو هو دونه في الضرر. فلو استأجر رجل عمارة وأجرها في المواسم ونحوها فإن عليه أن يراعي ذلك، وعلى المسلم إذا استأجر من أخيه المسلم أن يتقي الله، فإذا غلب على ظنه أن هذا الذي يؤجر جار سوء أو فيه ضرر، فإن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول في ذلك: من أجر داره إلى رجل سيء ويعلم بسوئه أو اطلع على سوئه، وسكت على ذلك وأقره ومكنه، فإنه شريك له في الإثم في كل ما يكون من أذية الجار، لأن هذا من البوائق والمصائب، سواء فعله الإنسان بنفسه أو بمن يرضى بفعله بأذية الجار. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
فينبغي للإنسان في مسألة إقامة الغير مقامة أن يراعي حقوق الجيران وحقوق إخوانه المسلمين، وأن يراعي حقوق المالك، وبالأخص إذا كانت العين لا تحتمل ذلك أو فيها ضرر، فإن كانت لأيتام أو أرامل أو نحو ذلك فالأمر أشد. فهناك شرطان: الشرط الأول: أن يكون مالكا لها. الثاني: أن يكون مؤجرا لمن هو مثله أو دونه في الضرر. ويتفرع على مسألة الملكية مسألة مهمة، وهي: إجارة ما لا يملك إلا بالهبة. فمثلا: إذا كان الإنسان قد وهبه سكنى الدار شهرا، وقصده بعينه، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يؤجر إذا كان مقصود الواهب عين الرجل. حكم إجارة الوقف وقوله: [وتصح إجارة الوقف] . المصنف رحمة الله عليه والعلماء وأئمة الفقه من عادتهم أن يذكروا المسائل الخاصة في مواضعها المناسبة، فالوقف مسائله تنتثر في العبادات والمعاملات، ولكن قد يذكر العلماء رحمهم الله أفرادا من المسائل في المواضع المتعلقة بالأبواب. إجارة الوقف: إذا كان هناك وقف، وهذا الوقف أوقفه مالكه وقصد به تسبيل منفعته كالمزارع والدور، فإذا قصد أن تكون المنفعة بعينها مستحقة فحينئذ لا إشكال، كأن يتصدق بثمرة المزرعة ويقول: ثمرة المزرعة ثلثها يتصدق به في سبيل الله، فحينئذ لا يجوز بيع هذا الثلث، وينبغي على الناظر أن يبحث عن الضعفاء والفقراء، ويؤدي إليهم حقوقهم كاملة على الوجه الذي أمر الله به، وبهذا تبرأ ذمته. وأما إذا أوقف على أشخاص معينيين على أن يأخذوا منفعة الأعيان كأولاده وأولاد أولاده، سواء خص الذكور أو الإناث على تفصيل سيأتي إن شاء الله في مسألة الوقف، فإذا جعل هذه الأرض أو جعل هذه العمارة وقفا على أولاده واتفقوا على إجارتها، وقالوا: تؤجر، فأجرت، فالقيمة وثمن المنفعة وما دفع فيها يكون لكل وارث بحقه وثمنه، فتجوز إجارة الأوقاف. في الحقيقة الوقف من حيث الأصل يخرج عن ملك الإنسان ولا يتصرف فيه إلا في حدود ما اشترط فيما بينه وبين الله عز وجل، ولذلك لا يملك الواقف الرجوع عن الوقف، ومن أوقف شيئا فقد أخرجه عن ملكيته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمرة) كما في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهنا مسألة يخطئ فيها البعض، وهي: أنه إذا أوقف المسجد احتكره، فيفتحه متى شاء ويغلقه متى شاء، وتصرف فيه وكأنه دار أو شيء يملكه، والواقع أنه ليس بملك له، وليس من حقه إذا أوقف المسجد أن يتصرف فيه إلا في حدود المصلحة، وهذا كله مفرع على مسألة: أن من أوقف الشيء فقد أخرجه من ذمته، وهذا الذي جعل العلماء رحمهم الله في مسائل الأوقاف يردونها إلى القاضي؛ لأن بيع الأوقاف لا يمكن أن يتم إلا عن طريق القضاء؛ لأنه في هذه الحالة ليس هناك مالك للوقف بعينه، وإنما يكون فيه إذن من الوالي ينزل فيه منزلة المتصرف الحقيقي، فمن المصالح التي ينظر فيها القضاة النظر في الأوقاف. فالمقصود: أنه تجوز إجارة الوقف، كما نص على ذلك جمهرة العلماء رحمهم الله. حكم تأجير إمام المسجد لشقته التي خصه الواقف بها عندنا مسألة شاعت وذاعت في هذا الزمن، وهي: أن يكون هناك مسجد وأوقفت منافع على هذا المسجد لمن يقوم بالإمامة أو بالأذان فيه، فلو كان هناك سكن تابع للمسجد، وهذا السكن وقف على الإمام فأراد أن يؤجره. فالأصل يقتضي أن يسكنه الإمام، ومقصود صاحب المسجد أن ينال الأجر بوجود الإمام، وخاصة وأن وجود السكن بجوار المسجد مقصود؛ لأن هذا أدعى للمحافظة على الصلوات، وأدعى للقيام بحقوق المسجد، ومراقبته وتفقد مصالحه، وفي المساجد التي يكون الإمام فيها قريبا يعظم نفع هذا الإمام للناس، فيمكن سؤاله ويمكن الرجوع إليه، ويمكن استفتاؤه إذا كان من أهل العلم أو من طلبة العلم، فإذا خرج عن هذا السكن وأجره للغير، فهل يكون مالكا للمنفعة بحيث يستحق أن يعاوض عليها؟ الذي اختاره جمع من العلماء وكان يفتي به جمع من مشايخنا وتطمئن إليه النفس: أنه ليس من حق الإمام أن يؤجر مسكنه، فإما أن يسكن فيه أو يمكن من هو أحوج إلى هذا السكن منه؛ لأنه وقف قصد به عين، لأنه بتأجيره يخرج الأجر، وكذلك يعطل المصالح التي قصدها صاحب المسجد؛ لأنه ببعد سكنه عن المسجد يفوت كثيرا من المصالح: من شهود الجماعة والمحافظة عليها ونحو ذلك من المصالح التي ذكرناها. ولذلك فالذي تطمئن إليه النفس: أنه ليس بمالك للمنفعة، فهو موقوف عليه من باب الأجر إذا سكنه وارتفق به، فإن كان غير ساكن مكن غيره من طلاب العلم ومن يقوم مقامه أن يسكن هذا السكن، وأن يكون للميت حظه من الأجر، بدلا من أن يؤجر ويعاوض؛ لأنه لا يملك عين المنفعة، وليس له حق التصرف فيها إلا أن ينتفع بها، فكأنها موهوبة لعينه، فلا يقيم غيره مكانه. وعلى هذا يقال: إنه ليس من حقه أن يؤجر للغير وينتقل إلى سكن أوسع، وإنما عليه أن يبقى في هذا السكن ويرتفق به. حكم عقد إجارة الوقف بعد موت المؤجر وقوله: [فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ] . فقوله: [فإن مات المؤجر] يعني: في مسألة الأوقاف، الأوقاف يكون هناك بطن، وهذا البطن يستحق الوقف، فيؤجر البطن هذه العمائر ثلاث سنوات، ثم يموت البطن المستحق ويأتي بطن آخر فيستحق هذا الوقف، فمثلا: لو أنه أوقف عمارته على أولاده، على أن تأكل الطبقة العليا ولا تستحق الطبقة التي بعدها إلا بعد فناء الطبقة العليا، فبقي من الطبقة العليا شخص واحد وأجر سنة ثم توفي أثناء السنة، فإن قلنا: إن الإجارة تنفسخ استئنف العقد، يعني: يصبح البطن الجديد من حقه أن يفرض أجرة جديدة. وإنا قلنا: إن الإجارة لا تنفسخ بالوقف، وأن المنفعة مملوكة للبطن الأعلى وقد أجرها، وهذا هو الصحيح، ويقويه غير واحد، ومشى عليه المصنف رحمه الله: أن البطن الأعلى يؤجر، وتتم إجارته، والمنفعة مملوكة وقد تمت المعاوضة عليها، ونزل المعدوم منزلة الموجود على القاعدة المعروفة، فمنزلة المنافع المعدومة أثناء العقد بمنزلة الموجودة، ولذلك صح التعاقد عليها، فحينئذ إذا باع البطن الأول المنفعة سنة وتوفي أثناء السنة؛ فإن الإجارة الأولى تمضي حتى يتم العقد الأول ويأخذ البطن الثاني نصيبه من الأجرة الباقية، فمثلا: أجر البطن الأول العمارة باثني عشر ألف ريال، ثم توفي في نصف السنة، فالستة الآلاف الباقية تكون ملكا للبطن الثاني، وعلى ورثة البطن الأول أن يمكنوا البطن الثاني من الأجرة. فهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بقوله: [فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ] . أي: فإن مات المؤجر للوقف وانتقل الوقف إلى من بعده لم تنفسخ الإجارة. وقوله: [وللثاني حصته من الأجرة] . إن توفي في ربع السنة الأول فله ثلاثة أرباع الباقي، وإن توفي في النصف الأول من العام فله أجرة نصف العام الباقي، وهلم جرا. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه. الأسئلة حكم تأجير العين المؤجرة بمبلغ يزيد على ما استأجر به السؤال هل يجب على المستأجر أن يؤجر بنفس القيمة التي استأجرها أم له أن يزيد؟ الجواب هذه المسألة مفرعة على المسألة التي ذكرناها في إجارة المستأجر للعين التي استأجرها. بعض العلماء يقول: إذا أجر بنفس القيمة فلا إشكال، لكن الخلاف إذا أجر بقيمة أكبر من الذي استأجر بها. فمن أهل العلم من منع إذا كانت الأجرة أكثر، فلو استأجر بخمسة آلاف لم يجز أن يؤجر بستة آلاف، قالوا: كأنه باع النقود بالنقود؛ لأن المنفعة لم يستلمها ولم يملكها، فكأنه باع النقد بالنقد. وهذا قول ضعيف. والذي يظهر: أنه يجوز له أن يؤجر بالقيمة وبأكثر، وهذا ينبني على الأصل المقرر في الإجارة التي خرجت به عن أصول بيع المعدوم، وقد سبق أن ذكرنا أن المنافع وإن كانت غير موجودة في العقد لكنها منزلة منزلة الموجود. ومسألة تنزيل المنافع غير الموجودة أثناء العقد منزلة الموجودة، هي التي وقع فيها الإشكال في كثير من مسائل الإجارة، حتى في شرعية الإجارة، فإن الأصم وابن علية حينما قالا بعدم مشروعية الإجارة قالا: لأن المنفعة غير موجودة؛ فصار بيعا للمعدوم. ولكن أجاب الجمهور بأن المنافع وإن كانت غير موجودة أثناء العقد -كما أشار إليه ابن رشد وغيره في البداية- لكنها منزلة منزلة الموجودة، وإذا كانت منزلة منزلة الموجودة ودفع العوض عليها فكأنه ملكها، ثم إذا عاوض على ذلك كان معاوضا على موجود لا على مفقود، وعلى هذا يبعد ما قالوه من أنها معاوضة مال بمال. الخلاصة: أنه إذا استأجر دارا وأراد أن يؤجرها بأكثر فلا بأس، لكن بعض السلف يقول: بشرط: أن يزيد في الدار شيئا، كأن يصلح فيها أشياء، أو يهيئ فيها أشياء تزيد من قيمة إجارتها، وهذا استحبه بعض السلف، وللإمام أحمد رضي الله عنه رواية أنه يزيد في الدار شيئا، ويؤجر بأكثر من القيمة التي استأجرها به، والذي يظهر: أنه لا بأس، سواء غير أو لم يغير، والله تعالى أعلم. حكم تأجير الفضولي السؤال ما الفرق بين مسألة إجارة المستأجر للغير دون إذن المالك، ومسألة تصرف الفضولي؟ الجواب بالنسبة لإجارة الغير ما لا يملكه ممكن أن تفرع على مسألة الفضولي، مثلا: لو كانت لك عمارة، وفوجئت بأخ لك قد أجرها وأنت لا تعلم بعشرين ألفا لمدة معينة، وجاءك وقال: يا فلان! عمارتك رأيت من المصلحة أن تؤجر. وهذا يقع بين كثير من الناس، وخاصة بين الأصدقاء والقرابة إذا رأى المصلحة أو وجد منفعة أن يؤجر له داره أو سيارته، فجاءك وقال: أجرتها باثني عشر، فرضيت فعله؛ صح، أي: إذا تصرف ورضيت فعله صح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح الفضولي في معاوضته بالبيع، فلئن يصح في الإجارة من باب أولى وأحرى؛ لأن البيع على الذات والمنفعة، والإجارة على المنفعة، وكثير من مسائل الإجارة فرعت على البيع، ولذلك إذا تصرف الفضولي فأجر ورضي المالك الحقيقي للعين المؤجرة صحت إجارته، والله تعالى أعلم. حكم الاشتراط على المستأجر إبقاء ما يحدثه في العين المؤجرة السؤال ما حكم إجارة الأرض بمبلغ من المال، واشترط على المستأجر أن يترك ما يحدثه فيها من عمارة أو بئر أو سور؟ الجواب لا يجوز أن يؤجر أرضا ويقول له: كل ما تحدثه فيها تتركه؛ فهذا من الظلم؛ لأنه ما من مسلم إلا من حقه أن يخرج كل ما أحدثه، ففي هذه الحالة ليس من حقه. قد يستأجر عينا ويحدث فيها جمالا في صفاتها، بحيث لو جاء يخرج هذا الجمال أضر بالعين، كما إذا استأجر منه دكانا وألبس جدرانه رخاما، فلو جاء وقلع الرخام أضر بالجدار، ثم لو قلع الرخام فإنه لا يستفيد منه، ففي هذه الحالة لو وجدت المصلحة المرسلة؛ نهي الناس عن أن يقلع المستأجر للدكان أو للدار ما أحدثه مما يضر بالعين إذا أخذ، ومما لا ينتفع به آخذه إذا أخذه، فهذا له وجه، أي: له وجه لا من باب المعاوضة ولكن من باب دفع الضرر عن العين. وأما مسألة: أنه إذا بنى أو أحدث فيها شيئا لا يقصده، فهذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله أنه من الإجارة بالمجهول؛ لأنه أجره الأرض بالنقود وبما يكون فيها مما يحدثه فيها من البنيان، فصار إجارة لمعروف ومجهول، وقد بينا أن دخول المجهول على المعلوم يصير المعلوم مجهولا؛ ولذلك لا يجوز، والله تعالى أعلم. إصلاح المستأجر للضرر الذي أحدثه في العين المؤجرة السؤال أشكل علي فيما لو حصل ضرر في منفعة مؤجرة: هل أصلح الضرر دون إخبار صاحب المنفعة، أم لابد من إخباره واستئذانه؟ الجواب إذا أحدث الضرر وقام بإصلاحه فهذا هو الأصل، ولكن إخبار صاحب العين من باب احتمال أن يسامحه، فإذا أردت أن تحتاط وتخرج من الشبهة وتقوم بإصلاح كل ما حدث في العين من ضرر، فهذا لا شك أنه أبرأ للذمة وأكمل في القناعة، وأرضى عند الله عز وجل، وصنيع أهل المروءات وأهل الفضل أنهم يردون الشيء بأكمل أو أفضل أو على حاله، ولا ينتظرون إذن صاحبه، لكن إذا استأذنته أحرجته، فتصور لو أن إنسانا أتلف شيئا، وقد يكون الشيء في نظرك يسيرا فتستأذنه وهو كبير عليه. فلذلك كان الأولى أن ترد العين كما استلمتها، ولا حاجة إلى أن تستأذن، فالاستئذان يحرجك ويحرج صاحب العين وخاصة إذا كانت بينك وبينه مودة، وهذا أمر معلوم بداهة، فإن على اليد ما أخذت حتى تؤديه، والله فرض عليك إذا أخذت عينا أن تردها كما أخذتها، لا تظلم ولا تظلم، وترد عين المال كما أمرك الله عز وجل، فإن كان فيه تلف ولم تستطع أن ترد عينه على الوجه الذي كان عليه أصلحت ما فيه من النقص، وهذا هو الواجب عليك، والله تعالى أعلم. حكم الاشتراط على المستأجر نسبة عند تأجيره للغير السؤال لو قال صاحب العمارة: إذا أردت أن تؤجر العمارة بعد استئجارها مني فلي نسبة من الأجرة، فما الحكم؟ الجواب ما فيها إلا الحرام فقط، الرجل إذا استأجر منك الدار فقد ملك منفعتها، بأي حق تقول له: إذا أجرتها للغير فلي نسبة خمسة في المائة؟! وذلك لأن هذا فيه محظوران: المحظور الأول: أنه إذا استأجر ملك المنفعة، وإذا ملك الشيء ليس من حقك أن تتدخل في ملكه. ثانيا: أنك لو قلت: إنه إذا أجر للغير آخذ منه خمسة في المائة، فلا ندري بكم سيؤجر للغير، وحينئذ تصبح الأجرة المتفق عليها بين الطرفين الأولين وإن كانت معلومة، لكنها بدخولها هذا المجهول تصير مجهولة؛ ولذلك يدخل عليها الفساد من ناحيتين: الناحية الأولى: أنه باعه المنفعة ولم يبعه، كما لو قال له: أبيعك هذه الدار بمليون، فإذا بعتها لغيرك آخذ منك خمسة في المائة، وهذا لا يجوز؛ لأن الأصل الشرعي: أن من باع الشيء فقد ملكه المشتري، وحينئذ إذا جعل له يدا وقال له: آخذ منك نسبة أو آخذ منك ثمنا معينا فهذا شرط ليس في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبر عند العلماء من الشروط التي تخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى عقد الإجارة أن تملك المنفعة، وهذا صار لك شريكا في المنفعة، فهو يقول لك: بعتك المنفعة وشاركتك: بعتك إذا كانت لك، وشاركتك إذا كانت لغيرك. ولا يعرف في الشرع إجارة يملكك فيها منفعة من وجه، ويكون لك شريكا من وجه آخر؛ أبدا، فإما أن يبيعه ألبتة، وإما أن يكون له شريكا فيقول: بعتك نصف المنفعة وأنا شريك لك في النصف الآخر. لكن أن يقول لك: بعتكها وملكتكها. ويتم عقد الإجارة على الصفة الشرعية، ثم يقول: إذا بعتها للغير فلي خمسة في المائة، فلا يجوز لسببين: الأول: لأنه أكل للمال بالباطل، لأن شراءه للمنفعة يمكنه من أخذ قيمتها إذا باعها للغير كما ذكرنا. الثاني: أنه لو جاز لكان بالمجهول، لأنه في هذه الحالة أدخل نسبة مجهولة على المبيع الأصلي، وهي الأجرة المدفوعة في المنفعة إذا كان يريد أن ينتفع بها لنفسه، وعلى هذا: لا يجوز أن يقول له: أجرتكها بكذا وكذا، فإن أجرتها لغيرك فلي خمسة أو عشرة في المائة. وعليه أن يرد هذا المال إليه، وهو شرط باطل لا يستحق به المالك الأصلي شيئا، والله تعالى أعلم. الخيارات التي تثبت في الإجارة السؤال هل جميع الخيارات التي تثبت في البيع تثبت في الإجارة؟ الجواب يثبت في الإجارة خيار المجلس قياسا على البيع، ويثبت في الإجارة خيار الرؤية والصفة كما لو أجره عينا على الصفة أو عينا رآها، ثم بعد ذلك ينظر: إن كانت على الصفة التي وصفها، أو كانت على الصفة التي عهدها بالرؤية صح وتمت الإجارة، وإلا كان له خيار الرؤية بعد ذلك. كذلك -أيضا- يثبت في الإجارة خيار العيب، فإذا ثبت في العين عيب يمنع من استيفاء المنفعة فإن من حق المستأجر أن يلغي عقد الإجارة. وكذلك يثبت في الإجارة خيار التدليس والغش، فإذا غشه ودلس عليه، ثم تبين أن العين المؤجرة لا يمكن استيفاء المنفعة منها على الصفة التي دلس بها فمن حقه أن يرد. وكذلك يثبت في الإجارة خيار الشرط، فلو اشترط عليه شرطا لا يخالف مقتضى عقد الإجارة، ولا يشتمل على حرام، كان من حقه وكان له الخيار في فسخ عقد الإجارة إذا لم يقم المؤجر بشرطه. مثال ذلك: لو قال له: أستأجر منك هذه الدار على أن تؤمن لي الماء بسعة كذا وكذا أسبوعيا. فلم يؤمن له الماء وتضرر، كان من حقه ذلك؛ لأن هذا مستحق للشرط. وكذلك أيضا لو قال له: أستأجر منك عمارة. وتم التعاقد على العمارة، وقال له: بشرط: أن تكون هذه العمارة فيها كهرباء. وتبين أنه لا كهرباء فيها. أو على أن يكون فيها الماء، وتبين أنه لا ماء فيها. كل هذا خيار شرط، فإذا اشترط عليه شيئا معينا في العين المؤجرة، وكان الشرط لا يخالف الشرع، ولم يجد هذا الشرط، فمن حقه أن يفسخ عقد الإجارة، هذه كلها خيارات تثبت في عقد الإجارة، ومن حق المستأجر أن يلزم بها المؤجر، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (360) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [6] اتفق العلماء على جواز الإجارة بالمدة القصيرة، ولكنهم اختلفوا في الإجارة بالمدة الطويلة، وبين العلماء شروط استئجار الأشخاص لأعمال ما، وكذلك شروط استئجار الدواب لركوب أو حمل متاع. تحديد زمن الاستئجار بداية ونهاية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن أجر الدار ونحوه مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح] . شرع المصنف رحمه الله في مسألة مهمة من مسائل الإجارة، وهذه المسألة تتعلق بإجارة الدور والمساكن ونحوها، فإنه إذا استأجر من شخص دارا ليسكنها فإن إجارة هذه الدار تفتقر إلى تأقيت حتى تنقطع الخصومة وينقطع النزاع. فإذا قال له: أجرتك بيتي، أو أجرتك داري، أو أجرتك عمارتي، وفي زماننا الشقق، أو غرف الفنادق، أو نحوها، فكلها تتأقت بالأزمنة، وإذا استأجرت الدور والمساكن بالزمان فإن إجارتها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كانت مدته قصيرة، كالساعة واليوم والأسبوع، ونحو ذلك. والقسم الثاني من الإجارات للدور: أن تكون مدته طويلة، كأن يستأجر أرضا عشرين سنة، أو يستأجر دارا عشرين سنة، ونحو ذلك من المدد الطويلة. والأصل في الشرع: أنه إذا استأجر شيئا أو أجره فإنه ينبغي أن يكون هناك تحديد حتى تنقطع الخصومة، ويعرف المستأجر ما له من ذلك العقد، فلو قال له: أجرتك داري زمانا، ولم يحدد المدة؛ لم يصح، ولو قال له: أجرتك داري مدة جلوسك في مكة؛ لم يصح؛ لأنها مجهولة، إذا: لا بد من التحديد. ثم إن هذا التحديد ينقسم إلى أمد طويل وأمد قصير، فإذا أردنا أن نفصل في الأحكام المتعلقة بتحديد الإجارة بالزمان في الأمد الطويل والأمد القصير، فإن هذا يفتقر إلى ضرب الأمثلة، وسنحاول -إن شاء الله- بضرب أمثلة يعيشها الناس وخاصة في هذا الزمان؛ حتى يكون ذلك أبلغ في الفهم والوضوح. فالإجارة القصيرة كالساعة واليوم والأسبوع، ففي الساعات ما يجري في الاستراحات، يقول له: أجرتك هذه الغرفة الساعة بعشرة أو بخمسة ريالات؛ فهذا النوع من الإجارة لا إشكال في جوازه، ولكن ينبغي أن ينبه على مسألة مهمة، وهي: أنه إذا قال له: أجرتك ساعة. فيحدد بداية الساعة ونهايتها، فلو كانت الساعة الثانية ظهرا وقال له: أجرتك هذه الدار ساعة بعشرة من الثانية ظهرا، صح العقد، لكن لو قال له: أجرتك هذه الدار ساعة. وسكت ولم يحدد بدايتها، فإن هذا يوجب الخصومة، فقد يكون مرادك أن يستأجر من الساعة الثالثة ظهرا أو الرابعة، وهو يقصد أن يستأجرها عقب العقد مباشرة. إذا: لا بد من تحديد بداية الزمان ونهايته، وهو إن حدد ساعة أو ساعتين أو ثلاث أو أربع، لكن لا بد وأن يحدد بداية العقد ونهايته. وهنا مسألة وهي: إذا كان دخوله أثناء الساعة، كأن يأتي مثلا الساعة الثانية والربع، الساعة الثانية والثلث، الساعة الثانية والنصف، فإذا قال له: أستأجر منك هذه الدار ساعة بعشرة من الساعة الثانية والنصف، نفهم أن العقد سينتهي عند الثالثة والنصف، ولو قال له: ساعتين بعشرين من الساعة الثانية والنصف، فإنه يعلم بداهة أن العقد ينتهي عند الرابعة والنصف، والعقد صحيح ولا إشكال فيه. الإجارة باليوم: ومن أشهر ما يكون في ذلك: إجارة الفنادق، فيأتي الرجل إلى الفندق ويستأجر يوما بمائتين، فعند الفنادق ترتيب معين، بحيث يقولون مثلا: مبيت الشخص بمائتين، فيفهم منه أن الشخصين بأربعمائة وأن الثلاثة بستمائة، فإذا حدد باليوم يقول: سأستأجر هذه الغرفة ثلاثة أيام، فتحدد من يوم السبت والأحد والإثنين، فتحدد البداية وتحدد النهاية؛ لأنه إذا أطلق العقد فعند ذلك تحدث خصومة، بحيث لا ندري هل مراده بعد العقد مباشرة أو متراخيا عنه. إذا: لو سألك سائل: ما هو الشرط في إجارة الزمان؟ تقول: تحديد قيمة المدة، كالساعة بعشرة، أو اليوم بخمسين، ثم تحديد بداية الاستئجار ونهايته. تحديد الزمن في استئجار غرف الفنادق لكن في إجارة الفنادق جرى العرف فيها أن اليوم ينتهي عند الساعة الثانية ظهرا، ويقولون: إذا جاءت الساعة الثانية ظهرا فقد انتهى أمد الإجارة، وانتهى العقد، فإذا جرى العرف أنه في الثانية ظهرا يغادر النزيل، فهذا عرف معتبر، وينبغي تنبيه النزيل قبل نزوله إلى أن اليوم في عرف الفنادق ينتهي عند هذه الساعة التي هي الساعة الثانية ظهرا، أما لو أطلق وقال: أستأجر منك يوما كاملا، ولم ينبهه ولم يكن هناك عرف، فإنه ينصرف إلى أربع وعشرين ساعة. عرفنا أنه باليوم لا بد من تحديد بدايته ونهايته، ما لم يكن هناك عرف بتحديد النهاية، فلو أن العرف أثر في نهاية اليوم كما أثر في البداية، أي: جرت العادة أنه إذا جاءت الثانية ظهرا ينتهي موعد التأجير، إذا تبتدئ إجارته من اليوم السابق وتنتهي في الثانية ظهرا من اليوم اللاحق. لكن لو جرى العرف أن النزيل لو حضر بعد الساعة العاشرة صباحا، أو بعد التاسعة صباحا، فإنه لا يحسب ذلك اليوم، وإنما يحسب من الثانية ظهرا إلى اليوم الذي بعده، فحينئذ سيكون للنزيل يوم وزيادة، فما الحكم؟ الجواب لا بأس، وهو جائز إذا جرى العرف أن النزيل إذا حضر قبل الساعة الثانية ظهرا بساعتين أو ثلاث ساعات، وتسامح الناس وعرفا بهذه الساعة أو الساعتين، أو جاء بعد صلاة الفجر وجرى العرف أنه لا يحسب اليوم كاملا فإنه لا بأس بذلك، فلو جاء بعد صلاة الفجر وقال له: أحسبه لك يوما كاملا من الثانية ظهرا، ولكن حضورك بعد صلاة الفجر أحسبه نصف يوم. وقال: قبلت، فيجوز. إذا: عرفنا أجرة الساعات، وأجرة اليوم، فتبقى عندنا أجرة الشهر وأجرة السنوات، أما أجرة الشهور، فهذه تقع في الغرف والشقق والعمائر والمساكن، فيقول له: أستأجر منك هذه الشقة شهرا بمائة، فإذا حدد الشهر وحدد بدايته ونهايته فلا إشكال فيه، ولكن نحتاج إلى تفصيل في مسائل متعلقة بالإجارة بالشهور: العبرة بالشهر القمري عند الإطلاق المسألة الأولى: إذا أطلقت الشهور في عرف المسلمين فإنها تنصرف إلى الشهور القمرية لا الشهور الشمسية، وبناء على ذلك: فالعبرة بالشهر القمري. المسألة الثانية: إذا كانت العبرة بالشهر القمري، فينبغي أن يعلم أنه إذا حدد شهرا معينا فإن الإجارة تتعلق بذلك الشهر تاما أو ناقصا، فالشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوما ويكون ثلاثين يوما. أما الدليل على أن الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين، فإن الله تعالى يقول: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس} [البقرة:189] ، فجعل الله الهلال ميقاتا للشهر، فأي مؤمن تعاقد مع أخيه المسلم على شهر معين، كشهر شوال مثلا، فإننا نحتسب شوال بثبوت دخوله بالهلال، ونحتسبه خروجا عند ثبوت نقصه تسعا وعشرين، وعند عدم وجود رؤيته يتم ثلاثين يوما. أما الدليل الثاني من السنة على أن الشهر يكون تسعا وعشرين فقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فجاءت روايتان: رواية قال فيها عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا وهكذا) ، ورواية قال فيها: (الشهر هكذا -وعد ثلاثين- ثم قال: وهكذا -وعد تسعا وعشرين وقبض الإبهام في المرة الثانية) ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) يدل على أنه لا عبرة بالتقويم، إنما العبرة بثبوت نقص الشهر ثبوتا صحيحا، فإذا لم تثبت الرؤيا أن الشهر تسعة وعشرون فإنه يتم ثلاثين يوما. فلو أن اثنين اختصما في شهر، واستأجر منه الدار شهر ربيع الأول، ومكث في شهر ربيع الأول، وثبت بالرؤية أنه تسع وعشرون يوما، ورئي الهلال لربيع الثاني، فقال المستأجر: أنا استأجرت شهرا كاملا. وقال المؤجر: الشهر تسع وعشرين. فالتزم المستأجر أن يبقى في البيت أو يبقى في السكن يوما يتم به ثلاثين، وقال: الشهر ثلاثون يوما، نقول: إن اليوم الثلاثين لاغ بحكم الشهر، ويلزمك الخروج، وتسليم الدار بمجرد ثبوت نقص الشهر السابق. والعكس، فلو أن الشهر لم يثبت نقصه فقال المؤجر للمستأجر: إنه ناقص في الحساب الفلكي والتقويم، نقول: وليس من حقك أن تخرجه حتى يثبت نقصه برؤية هلالية، وحينئذ يكون ثلاثين يوما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم فأكملوا العدة) ، فلما قال: (أكملوا العدة) علم أن الشهر لا بد من تمامه وكماله بالثلاثين. وهذه المسألة مهمة؛ لأنه يتفرع عليها أكثر من خمسين مسألة في المعاملات والعبادات، والأيمان والنذور ومسائل في الطلاق، ومسائل في العدد والإحداد، كلها تترتب على مسألة نقص الشهر وكماله. فالأصل الشرعي الذي عليه جماهير السلف والخلف والأئمة كلهم، إلا قولا شاذا عن ابن سريج رحمه الله عليه من أصحاب الشافعي؛ على أن العبرة في الشهر تاما وكاملا بالرؤية، وأنه إذا لم ير الهلال فإنه يلزم تمام الشهر ثلاثين يوما؛ لأن النص في هذا واضح، وقال عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) فهذا دليل على أن الشهر لا يكمل إلا بالثلاثين. لكن لو قال له: أجرني هذه الدار شهرا من غد -والغد عشرة في الشهر- فهل يتم ثلاثين يوما، أم أنه يكون فيه التفصيل؟ الجواب يتم ثلاثين يوما بالإجماع؛ لأن الأصل في الشهر أنه ثلاثون يوما. وتتفرع عليه مسائل كما ذكرنا مثلا في الكفارات، مثل: كفارة القتل: إذا صام شهرين متتابعين، فإذا ابتدأ من ربيع وثبت نقص ربيع وربيع الذي يليه، لأنه قد يأتي شهران متعاقبان ناقصين، لكن قالوا: لا تأتي أربعة أشهر متعاقبة بالنقص. فالشهران إذا جاءا ناقصين، فمعنى ذلك: أنه يصوم ثمانية وخمسين يوما وتجزيه، لكن لو أنه ابتدأ صيام الكفارة شهرين متتابعين من عشرة في الشهر الأول فينتهي بتمام ستين يوما يصومها تامة كاملة. إذا: يفصل في الإجارة على نفس هذا التفصيل، أنه إذا قال له: أستأجر منك هذه الدار شهرا أو شهرين، وكان ذلك بعد دخول الشهر بيوم، فإننا نحتسب له المدة ستين يوما في الشهرين، وثلاثين يوما في الشهر الواحد، وما زاد فبحسابه، وهذا كله -كما ذكرنا- إذا استأجر الدار أو المستودع أو الغرفة أو المنزل أو الحوش ونحو ذلك مدة، فإننا نقول بجوازه، سواء كانت المدة بالساعات أو بالأيام أو بالأسابيع أو بالشهور. لكن بالنسبة للإجارة بالسنوات، فإذا قال: إنه استأجر من أول ربيع وأسندها إلى سنة معينة، فحينئذ تصح السنة من بداية محرم إلى نهاية ذي الحجة من السنة نفسها، وهذا إذا أسند الإجارة إلى سنة معينة، أما إذا قال له: أستأجرها من الآن سنة كاملة فإنه يحتسب ثلاثمائة وستين يوما كاملة إلى حسابها من الشهر الذي وقعت فيه الإجارة هذا بالنسبة للمدة القصيرة. اختلاف العلماء في الإجارة بالمدة الطويلة أما الإجارة بالمدة الطويلة فهي أن يستأجر منه الدار عشرين سنة، أو يكتب العقد على أرض يأخذها للزراعة ثلاثين سنة، أو نحو ذلك من المدد الطويلة. فمسألة إجارة الأرضين والدور والأشخاص مدة طويلة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، ومن حيث الأصل فجماهير العلماء من السلف والخلف على جواز الإجارة مدة طويلة؛ لكن بشرط: أن يغلب على الظن بقاء العين المؤجرة، وإمكان الانتفاع بها، وبشرط: ألا يكون هناك غرر في ارتفاع الأسواق وانخفاضها على شكل مؤثر على المستأجر والمؤجر. إذا: المسألة من حيث الجملة بالإجارة للمدد الطويلة: فالجماهير من السلف والخلف: على أنه يجوز أن تؤجر الدار أو الأرض أو المساكن مددا طويلة إلى عشرين سنة أو إلى ثلاثين سنة، لكن بالشرطين الذين ذكرناهما: أولهما: أن يغلب على الظن بقاء العين، وإمكان الانتفاع مدة الإجارة. والشرط الثاني: أن يؤمن الضرر والغرر الموجود في ارتفاع الأسواق وانخفاضها. ولكن بعض العلماء يقول: العبرة عندي بالشرط الأول دون الثاني، وفي الحقيقة: أن قوله وجيه، أن العبرة بالشرط الأول دون الثاني؛ لأن الغنم بالغرم في قواعد الشريعة في الشرط الثاني؛ لكن الشرط الأول أهم من الشرط الثاني؛ لأن المقصود من عقد الإجارة: هو بقاء العين وحصول الانتفاع الذي من أجله دفعت الأجرة والتزم المؤجر والمستأجر بعقد الإجارة. فإذا غلب على الظن بقاء العين إلى ذلك الأمد المتفق عليه بين الطرفين، فلا إشكال بالجواز، وهذا إذا كنا قد تحققنا من وجود الشرط؛ لكن لو كانت الدار متهدمة، أو كانت الدار ضعيفة البنيان، أو كانت الأرض بحالة يغلب على الظن عدم سلامتها للمدة المتفق عليها، فإنه يكاد ينعقد الإجماع على أنه لا يصح التعاقد على هذا الوجه، وإذا سكت عن الدليل فتقول: إن الأصل يقتضي عدم جواز الغرر، وإذا أجره دارا قديمة يغلب على الظن سقوطها وتهدمها قبل تمام المدة المتفق عليها بين الطرفين فقد غشه وغرر به، والغرر لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر كما في الصحيح. إذا: من حيث الأصل: إذا كانت المدة طويلة في إجارة الدور والأرضين فحصل الشرط من غلبة الظن بالسلامة وبقاء المنافع، وغلبة الظن أيضا بالسلامة من حصول الضرر بالانتفاع وعدمه عند من يقول باشتراط هذا الشرط، فيبقى السؤال هل هذه المسألة فيها خلاف أو إجماع؟ إذا قلنا: اختلف العلماء، فجماهير العلماء يقولون: يجوز إجارة الدور والمساكن مدة طويلة، بشرط: غلبة الظن ببقائها، كما ذكرنا. وقال بعض العلماء كما هو في مذهب المالكية والشافعية: لا يجوز إجارة الدور والمساكن مددا طويلة، ومنهم من يطلق، ومنهم من يقيد، فعند الشافعية قولان: قيل: لا يجوز مطلقا أن يؤجر الدار أكثر من سنة، وإذا كان يريد أن يؤجرها فيؤجرها سنة فقط ولا يزيد عليها. والقول الثاني يقول: يجوز بشرط أن تكون هناك مدة معينة كثلاثين سنة، وإذا جاوزها فلا يجوز، وإذا كان أقل منها يجوز. والذين منعوا من أصحاب القول الثاني وانقسموا إلى الوجهين الذين ذكرناهما، حجتهم: أن الدار قد تتهدم، وأن المساكن قد تتغير، والمنافع تتضرر بحصول المدة الطويلة، ولذلك قالوا: لا يجوز للمسلم أن يؤجر على هذا الوجه؛ لما فيه من الغرر، ومن تعريض مال المسلم إلى أكله بالباطل. أدلة جواز الإجارة بالمدة الطويلة أما الجمهور لما قالوا بالجواز، فقالوا: دليلنا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم: أما دليلنا من الكتاب: قال الله تعالى حكاية عن نبيه شعيب: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} [القصص:27] ، قالوا: فأسند الإجارة إلى أكثر من عام، مع أن الثمانية الحجج قد يرتفع فيها سعر الإجارة وقد ينخفض، ومع ذلك أقر الشرع مثل هذا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. هذا من حيث دليل الكتاب. أما دليل السنة فقالوا: إن الأحاديث التي استدل بها على جواز الإجارة من حيث الأصل العام لم تقيد بمدة ولا بزمان، فكل طرفين اتفقا على إجارة مدة معينة، وهذه المدة تبقى فيها العين ويحصل فيها النفع، فإنه يجوز ذلك العقد ولا بأس به. هذا بالنسبة لدليل الجمهور. والذي يظهر -والله أعلم- صحة مذهب الجمهور، أي: أنه يجوز إجارة الدور والمساكن والأرضين ولو أكثر من ثلاثين سنة بالشرط الذي ذكرناه وهو: غلبة الظن ببقاء العين، وحصول النفع فيها. وقد نبه المصنف رحمه الله إلى هذا القول الراجح حينما حكى غلبة الظن بقوله رحمه الله: بقوله: [وإن آجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صحت] . البناء على غالب الظن في بقاء العين أو عدمها وقوله: (مدة ولو طويلة) ، (ولو) إشارة إلى خلاف، يعني: آجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة، معنى ذلك: أنه لو أجرت مدة قصيرة فبالإجماع أنه لا بأس بذلك؛ لكن الخلاف إذا كانت المدة طويلة، لكن قال: (يغلب على الظن بقاؤها) . (يغلب على الظن) هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة غالب الظن، وغالب الظن هو ترجح أحد الاحتمالين، والاحتمال الراجح يقال له: الظن في مصطلح علماء قواعد الفقه، وكذلك مصطلح الأصوليين، ويقال له أيضا: غالب الظن. والشريعة الإسلامية تبني الأحكام على غالب الظن، وهناك كلام جيد للإمام الشاطبي في الموافقات، وكذلك للإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أقر رحمه الله أن الشريعة تبني أحكامها على غالب الظن، وأنها لا ترتب الأحكام على الظن المرجوح، وأن غالب الظن تعبدنا الله عز وجل به في أعظم الأشياء، فإن المفتي والقاضي يفتي ويقضي ويحكم بأحكامه الشرعية بغالب ظنه، وهذا يدل على أن غالب الظن له اعتبار في الشرع ويحكم فيه ويعمل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب) والمجتهد لا يبني اجتهاده إلا على غالب الظن، وعلى هذا نقول: يغلب على الظن بقاء العين، فأصبحت المسألة فيها صور: الصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة. الصورة الثانية: أن يغلب على الظن بقاء المنفعة. الصورة الثالثة: أن يستيقن ذهاب المنفعة. الصورة الرابعة: أن يغلب على الظن ذهاب المنفعة. الصورة الخامسة: أن يحتمل الأمرين، ولا ترجيح. فالصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة ويجري المثال، أو يغلب على ظنه بقاء المنفعة ويجري المثال، ففي كلتا الصورتين يجوز، على الأصل الذي قرره المصنف. فتقول: يجوز لليقين؛ لأن إجارة العشر السنين والعشرين سنة والثلاثين سنة ما دامت المنفعة موجودة، والمستأجر سيأخذ المنفعة وقد دفع المال لقاء المنفعة، فإذا: لا ظالم ولا مظلوم، وهذا أخذ حقه وهذا أخذ حقه، فإذا ثبت أنها باقية باليقين أو غالب الظن فلا إشكال، والعكس: لو غلب على الظن أو تيقن ذهاب المنفعة فإنه لا يجوز وجها واحدا للعلماء. أما إذا احتمل الأمر، كأن تكون دارا متهدمة نوعا ما، فيحتمل أن تبقى ويحتمل ألا تبقى، والحكم أنه إذا لم يغلب على الظن فإنه لا تصح الإجارة؛ لأن هناك قاعدة تقول: (مفاهيم المتون معتبرة) ، فحينما قال لك الشرع: يغلب على الظن بقاؤها، فهذا كالقيد الذي نعتبره شرطا نفهم منه أنه إذا لم يغلب على الظن بقاؤه فإنه لا يجوز. وفهمنا الخمس صور من كلام المصنف، حينما قال: (مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاؤها) فلاحظ قوله: (يغلب على الظن) ، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله في اختصار المتون، فكان المفروض أن يأتي بالخمس صور، لكنه لما قال: (بمدة يغلب على الظن بقاؤها) فهمت الأحكام الخمسة، إذ تفهم أنه من باب أولى إذا استيقن وأصبح الأمر مائة في المائة في بقائها، فهنا صورتان بالمنطوق. وبالمفهوم لما قال: (يغلب) تأخذ أنه إذا غلب على الظن عدم البقاء فإنه لا يجوز، وهذه هي الصورة الثالثة، فإذا كنت تفهم أنه إذا غلب الظن بعدم البقاء فإنه لا يجوز، فمن باب أولى إذا استيقن، وهذه هي الصورة الرابعة. وبقيت الصورة الخامسة وهي التردد وأن يكون احتمال البقاء واحتمال عدمه في مرتبة واحدة، فتقول: لم يثبت الحكم، ففهم من قوله: (يغلب على الظن) أنه إذا لم يغلب على الظن فلا يجوز، سواء تردد أو كان هنالك ترجح لاحتمال عدم البقاء، وهذه خمس صور نأخذها من جملة: (يغلب على الظن بقاؤها) . وهذا أمر مهم ينبغي أن ينبه عليه؛ لأن قراءة المتون لمعرفة منهج العلماء لكي تستطيع أن تفهم الأحكام؛ فربما يقول قائل: المصنف نص على غالب الظن ولم ينص على غيره، ولذلك تجد بعض المتأخرين يعملون في التعليق على تحقيق الكتب القديمة على تعقب المصنف، يقول: وهذا قصور من المصنف؛ لأنه تكلم على غالب الظن، والقسمة العقلية تقتضي خمس صور. وهذه الكتب ألفت وما كان يقرؤها إلا جهابذة العلماء، فلو نبه على الخمس لعد تطويلا، وتوضيح الواضح يعتبر إشكالا، ولذلك لا يعتنون بهذه الأشياء، فالعلماء لهم منهج دقيق في اختصار المتون، فهم ينبهون على صورة بحيث يفهم منها ما هو أولى منها أو ما هو في حكمها، ويفهم حكم العكس بالعكس. العبرة بالشهر القمري عند الإطلاق المسألة الأولى: إذا أطلقت الشهور في عرف المسلمين فإنها تنصرف إلى الشهور القمرية لا الشهور الشمسية، وبناء على ذلك: العبرة بالشهر القمري. المسألة الثانية: إذا كانت العبرة بالشهر القمري، فينبغي أن يعلم أنه إذا حدد شهرا معينا فإن الإجارة تتعلق بذلك الشهر تاما أو ناقصا، فالشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوما ويكون ثلاثين يوما. أما الدليل على أن الشهر يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين، فإن الله تعالى يقول: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس} [البقرة:189] ، فجعل الله الهلال ميقاتا للشهر، فأي مؤمن تعاقد مع أخيه المسلم على شهر معين، كشهر شوال مثلا، فإننا نحتسب شوال بثبوت دخوله بالهلال، ونحتسبه خروجا عند ثبوت نقصه تسعا وعشرين أو عدم وجود رؤية يتم بها ثلاثين يوما. أما الدليل الثاني من السنة على أن الشهر يكون تسعا وعشرين وتلزم وبه المستأجر فقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فجاءت روايتان: رواية قال فيها عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا وهكذا) ، ورواية قال فيها: (الشهر هكذا -وعد ثلاثين- ثم قال: وهكذا -وعد تسعا وعشرين وقبض الإبهام في المرة الثانية) ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) يدل على أنه لا عبرة بالتقويم، إنما العبرة بثبوت نقص الشهر ثبوتا صحيحا، فإذا لم تثبت الرؤيا أن الشهر وعشرون فإنه يتم ثلاثين يوما. فلو أن اثنين اختصما في شهر، واستأجر منه الدار شهر ربيع الأول، ومكث في شهر ربيع الأول، وثبت بالرؤية أنه تسع وعشرون يوما، ورئي الهلال لربيع الثاني، فقال المستأجر: أنا استأجرت شهرا كاملا. وقال المؤجر: الشهر تسع وعشرين. فالتزم المستأجر أن يبقى في البيت أو يبقى في السكن يوما يتم به ثلاثين، وقال الشهر: ثلاثون يوما، نقول: إن اليوم الثلاثين لاغ بحكم الشهر، ويلزمك الخروج، وتسليم الدار بمجرد ثبوت نقص الشهر السابق. والعكس، فلو أن الشهر لم يثبت نقصه فقال المؤجر للمستأجر: إنه ناقص في الحساب الفلكي والتقويم، نقول: وليس من حقك أن تخرجه حتى يثبت نقصه برؤية هلالية، وحينئذ يكون ثلاثين يوما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم فأكملوا العدة) ، فلما قال: (أكملوا العدة) على أن الشهر لا بد من تمامه وكماله بالثلاثين، وهذه المسألة مهمة؛ لأنه يتفرع عليها أكثر من خمسين مسألة في المعاملات والعبادات، وفيها الأيمان والنذور ومسائل في الطلاقات، ومسائل في العدد والإحداد، كلها تترتب على مسألة نقص الشهر وكماله، فالأصل الشرعي، جماهير السلف والخلف والأئمة كلهم، إلا قولا شاذا عن ابن سريج رحمه الله عليه من أصحاب الشافعي: على أن العبرة في الشهر تاما وكاملا بالرؤية، وأنه إذا لم ير الهلال فإنه يلزم تمام الشهر ثلاثين يوما؛ لأن النص في هذا واضح، وقال عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) فهذا دليل على أن الشهر لا يكمل إلا بالثلاثين. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
فمسألة أننا نعتبر الشهر ناقصا أو كاملا في الصورة الأولى من إجارة الشهور، وهي: أن يسند الطرفان الإجارة إلى شهر مسمى، كأن يقول: أستأجر منك هذه العمارة شهر رمضان. فإننا نحتسب الشهر بتمامه وكماله، على التفصيل الذي تقدم، لكن لو قال له: أجرني هذه الدار شهرا من غد -والغد عشرة في الشهر- فهل يتم ثلاثين يوما، أم أنه يكون فيه التفصيل؟ الجواب بالإجماع يتم ثلاثين يوما؛ لأن الأصل في الشهر أنه ثلاثين يوما. وتتفرع مسائل مثلما ذكرنا مثلا في الكفارات، مثل: كفارة القتل: إذا صام شهرين متتابعين، فإذا ابتدأ من ربيع وثبت نقص ربيع وربيع الذي يليه، لأنه قد يأتي شهران متعاقبان ناقصين، لكن قالوا: لا تأتي أربعة أشهر متعاقبة بالنقص. فالشهران إذا جاءا ناقصين، فمعنى ذلك: أنه يصوم ثمانية وخمسين يوما وتجزيه، لكن لو أنه ابتدأ صيام الكفارة شهرين متتابعين من عشرة في الشهر الأول فينتهي بتمام ستين يوما يصومها تامة كاملة. إذا: يفصل في الإجارة على نفس هذا التفصيل، أنه إذا قال له: أستأجر منك هذه الدار شهرا أو شهرين، وكان ذلك بعد دخول الشهر بيوم ينتقص به عددا ولا يتعين فإننا نحتسب له المدة ستين يوما في الشهرين، وثلاثين يوما في الشهر وما زاد فبحسابه، وهذا كله -كما ذكرنا- إذا استأجر الدار أو المستودع أو الغرفة أو المنزل أو الحوش ونحو ذلك مدة، فإننا نقول بجوازه، سواء كانت المدة بالساعات أو بالأيام أو بالأسابيع أو بالشهور. لكن بالنسبة للإجارة بالسنوات، فإذا قال: إنه استأجر من واحد ربيع وأسندها إلى سنة معينة، فحينئذ تصح السنة من بداية محرم إلى نهاية ذي الحجة من السنة نفسها، وهذا إذا أسند الإجارة إلى سنة معينة، أما إذا قال له: أستأجرها من الآن سنة كاملة فإنه يحتسب ثلاثمائة وستين يوما كاملة إلى حسابها من الشهر الذي وقعت فيه الإجارة. اختلاف العلماء في الإجارة بالمدة الطويلة هذا بالنسبة للمدة القصيرة، أما الإجارة بالمدة الطويلة فهي أن يستأجر منه الدار عشرين سنة، أو يكتب العقد على أرض أن يأخذها للزراعة ثلاثين سنة، أو نحو ذلك من المدد الطويلة. فمسألة إجارة الأرضين والدور والأشخاص مدة طويلة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، ومن حيث الأصل فجماهير العلماء من السلف والخلف على جواز الإجارة مدة طويلة؛ لكن بشرط: أن يغلب على الظن بقاء العين المؤجرة، وإمكان الانتفاع بها، وبشرط: ألا يكون هناك غرر في ارتفاع الأسواق وانخفاضها على شكل مؤثر على المستأجر والمؤجر. إذا: المسألة من حيث الجملة بالإجارة للمدد الطويلة: فالجماهير من السلف والخلف: على أنه يجوز أن تؤجر الدار أو الأرض أو المساكن مددا طويلة إلى عشرين سنة أو إلى ثلاثين سنة، لكن بالشرطين الذين ذكرناهما: أولهما: أن يغلب على الظن بقاء العين، وإمكان الانتفاع مدة الإجارة. والشرط الثاني: أن يؤمن الضرر والغرر الموجود في ارتفاع الأسواق وانخفاضها. ولكن بعض العلماء يقول: العبرة عندي بالشرط الأول دون الثاني، وفي الحقيقة: أن قوله وجيه، أن العبرة بالشرط الأول دون الثاني؛ لأن الغنم بالغرم في قواعد الشريعة في الشرط الثاني؛ لكن الشرط الأول أهم من الشرط الثاني؛ لأن المقصود من عقد الإجارة: هو بقاء العين وحصول الانتفاع الذي من أجله دفعت الأجرة والتزم المؤجر والمستأجر بعقد الإجارة، فإذا غلب على الظن بقاء العين إلى ذلك الأمد المتفق عليه بين الطرفين، فلا إشكال بالجواز، وهذا إذا كنا قد تحققنا من وجود الشرط؛ لكن لو كانت الدار متهدمة، أو كانت الدار ضعيفة البنيان، أو كانت الأرض بحالة يغلب على الظن عدم سلامتها للمدة المتفق عليها، فإنه يكاد يكون بالإجماع على أنه لا يصح التعاقد على هذا الوجه، وإذا سكت عن الدليل فتقول: إن الأصل يقتضي عدم جواز الغرر، وإذا أجره دارا قديمة يغلب على الظن سقوطها وتهدمها قبل تمام المدة المتفق عليها بين الطرفين فقد غشه وغرر به، والغرر لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر كما في الصحيح. إذا: قلنا من حيث الأصل: إذا كانت المدة طويلة في إجارة الدور والأرضين فحصل الشرط من غلبة الظن بالسلامة وبقاء المنافع، وغلبة الظن أيضا بالسلامة من حصول الضرر بالانتفاع وعدمه عند من يقول باشتراط هذا الشرط، فيبقى السؤال هل هذه المسألة فيها خلاف أو إجماع؟ إذا قلنا: اختلف العلماء، فجماهير العلماء يقولون: يجوز إجارة الدور والمساكن مدة طويلة، بشرط: غلبة الظن ببقائها، كما ذكرنا. وقال بعض العلماء كما هو في مذهب المالكية والشافعية: لا يجوز إجارة الدور والمساكن مددا طويلة، ومنهم من يطلق، ومنهم من يقيد، فعند الشافعية قولان: قيل: لا يجوز مطلقا أن يؤجر الدار أكثر من سنة، وإنما إذا كان يريد أن يؤجرها فيؤجرها سنة فقط ولا يزيد عليها. والقول الثاني يقول: يجوز بشرط أن تكون هناك مدة معينة كثلاثين سنة، وإذا جاوزها فلا يجوز، وإذا كان أقل منها يجوز، فأصبح عند أصحاب هذا القول. والذين منعوا من أصحاب القول الثاني وانقسموا إلى الوجهين الذين ذكرناهما، حجتهم: أن الدار قد تتهدم، وأن المساكن قد تتغير، والمنافع تتضرر بحصول المدة الطويلة، ولذلك قالوا: لا يجوز للمسلم أن يؤجر على هذا الوجه؛ لما فيه الغرر، وفيه من تعريض مال المسلم إلى أكله بالباطل. شروط استئجار الدواب لركوب أو عمل وقوله: [وإن استأجرها لعمل كدابة وركوب إلى موضع معين] . عرفنا أن في إجارة الدور ينبغي أن تحدد المدة والزمن، وبالنسبة لإجارة الأشخاص وإجارة الدواب ونحوها، فينبغي أن يحدد العمل الذي وقع عقد الإجارة عليه، فمثل المصنف بأمثلة متعددة هي أشبه بالقواعد لغيرها، أو يلتحق بها غيرها مما هو في حكمها. فلما قال: (كدابة) أي: استأجر دابة لعمل، واللام للتعليل، أي: من أجل عمل معين، واستئجار الدواب مثال في القديم، فقد كانوا يركبون الخيل والإبل، وكانوا يستأجرونها، إما لحملهم أو لحمل متاعهم، وإما للاثنين معا، فيستأجر منه الخيل أو الإبل لنفسه، كأن يركب من المدينة إلى مكة، أو يحج معه على دابته ومعه متاعه، أو يستأجره لنفسه فقط، كأن يقول له مثلا: أريدك أن تنقلني من طرف المدينة الشرقي إلى طرفها الغربي، فهذا نقل للذات، أو يستأجره للمتاع وحده، فيقول له: خذ هذه البضاعة واذهب بها إلى وكيلي بجدة أو وكيلي بمكة، فأصبحت ثلاث صور في إجارة الدابة: إما للركوب، وإما لحمل المتاع، وإما لركوبه مع حمل المتاع. العلماء رحمهم الله في القديم وضعوا ضوابط يحفظ بها حق المستأجر عند المؤجر، فلا بد في العين التي تؤجر وتستخدم في الإجارة أن يحدد العمل المطلوب منه، فهو مثلا إذا قال له: أريدك أن تنقلني إلى جدة، أو إلى مكة، لا بد وأن يحدد العمل المطلوب من الدابة على وجه يزول به الغرر، فإذا استأجرها للركوب فلا بد أن يحدد بداية الركوب ونهايته، فيقول مثلا: تنقلني من المدينة إلى مكة من أجل الحج، أو لعمل المناسك، أو للقيام بأشياء معينة محددة. والسبب في هذا: أنه تقدم معنا في أول باب الإجارة أنه لا بد من تحديد العمل المطلوب دفعا للخصومة ورفعا للضرر، فإذا حدد له بداية العمل ونهايته، وحدد له ما يراد منه فلا إشكال في الجواز. لكن لو قال له مثلا: أريدك أن تنقلني إلى بلد بمائة، لم يصح العقد، فإن البلد مجهول. أو قال له مثلا: تنقلني إلى مكة أو جدة بألف، لم يجز؛ لأنه ردده بين موضعين، فلا ندري هل يذهب به إلى جدة أو يذهب به إلى مكة، وقد اختلفت مسافتهما، هذا بالنسبة للركوب. كذلك عليه أن يحدد الشيء الذي سيحمل على الدابة، فيقول: تحملني. أو يقول: تحمل متاعي. فإن كان من الطعام فيبين أنه طعام ويبين كذلك نوع هذا الطعام الذي يحمل، وإن كان من الكساء واللباس فيحدده أيضا، فلا بد من التحديد دفعا للضرر؛ والسبب في هذا: أن المحمول يختلف، فلربما قال له: انقل لي هذه البضاعة من المدينة إلى جدة، وتكون البضاعة مثلا من الحديد، فحمل الحديد ليس كالقماش؛ لأن القماش أخف في العبء على الدواب أو على الآلة التي تحمله، فإذا لم يحدد المحمول ربما ظن صاحب السيارة أو صاحب الدابة أن المحمول خفيف وظهر له بعد ذلك أنه ثقيل؛ لأن المحمول الثقيل له أجرة والمحمول الخفيف له أجرة، فلا بد من تحديد نوعية المحمول. فإذا: لا بد وأن يحدد المكان وأن يحدد المحمول هل هو الشخص بنفسه، أو متاعه، أو هما معا، فإذا تم ذلك على وجه تام وليس فيه غرر فلا إشكال، وهذا في القديم. أما بالنسبة لعصرنا الحاضر، فإذا أراد أن يسافر وأراد أن يركب سيارة أو يستأجرها وقال له: احملني، فلا إشكال أن تقول له: أحملك بنفسك، أو راكبا آخر يقوم مقامك، فالحكم واحد، إلا إذا حصل هناك اختلاف من حيث الجنس بالذكورة والأنوثة، وأن يكون هذا الاختلاف موجبا لاختلاف القيمة وموجبا للتعب أكثر، كأن يكون المحمول مثلا مريضا، وهذا المريض سيشق على السائق؛ وربما تعب عليه في الطريق، أو ربما انتظر، فلا بد وأن يحدد حتى لا يكون هناك وجه للغرر، وكل ذلك بموجب الشروط التي ذكر العلماء أن القصد منها المحافظة على حق الطرفين؛ المؤجر والمستأجر. وقوله: [أو بقر للحرث] . أي: أو استأجر البقر للحرث، فقد كانوا في القديم يحرثون الأرض بالبقر، فيوضع المحراث ثم يجر البقر المحراث، أما في العصر الحاضر فتوجد آلات معينة تقوم بالحرث، وهذه من نعم الله عز وجل على عباده، فإذا استأجر من أجل حرث الأرض، فلا بد وأن يحدد العمل الذي يريد منه في تلك الحراثة، لأن الحراثة درجات، ولها طرق معينة، فإذا كان لها أكثر من طريقة فلكل طريقة قيمتها، وينبغي أن يقول: تحرث لي مثلا بالدرجة الأولى أو بالدرجة الثانية، أو تحرث لي حرثتين، فإذا اتفق معه على حرث فليحدد العمل. كل هذه الجمل يقصد المصنف منها تحديد العمل المفروض من المستأجر للأجير. وقوله: [أو دياس زرع] . كانوا في القديم إذا حصدوا الحصاد كالحبوب مثلا، فالواحد منهم يحتاج إلى أن يعرف الحبوب إذا يبست ويبس سوق الحب فتمر عليه الدواب وتدوسه، حتى تأتي الرياح وتأخذ القش ويبقى الحب. فإذا استأجر أحدهم الدابة فعليه أن يحدد العمل المطلوب منها. وفي زماننا لو كان هناك عامل التزم أن يقوم بتصفية الحب، فإنه ينبغي تحديد وقت العمل، فبعض الأحيان يحدد بالساعات، وبعض الأحيان يحدد بالأيام، فيقول له مثلا: أريد أن أشتغل عندك يوما في تصفية هذا الحب، واليوم بمائة، يجوز ذلك، فإذا حدد له بالزمان يصير لا إشكال، لكن يبين له ما الذي يفعله؛ لأن تصفية الحبوب درجات، فإذا كانت هناك درجات فيحدد له الدرجة التي يبدأ بها، فقد تكون تصفيته -مثلا- بطريقة معينة يحددها له، فالمهم أنه أي عمل يتردد بين عملين فأكثر ينبغي أن يحدد للعامل حتى لا تقع خصومة بين الطرفين. وخذها قاعدة: أن الإجارة إذا ترددت بين شيئين اثنين متفاوتين في القيمة؛ فلا يجوز للطرفين أن يبرما العقد بينهما بهذا الأمر، فإن قيل: لماذا؟ قلت: الأمر واضح؛ لأنه إذا أبرم العقد على هذا الوجه فإنه سيؤدي إلى الخصومة وإلى الأذية والإضرار، فكل من الطرفين سيحرص على أن يأخذ بالأحظ لنفسه، وهذا لا شك أنه يفتح باب الشقاق والنزاع. ومن هنا: تستطيع أن تتحدث عن ميزة الشريعة في الفقه الإسلامي، فمن مميزاتها: أنها تحرص على أخوة الإسلام حتى في التعامل الدنيوي، ولذلك نهت عن بيع المسلم على بيع أخيه، ونهته أن يبيع أو يؤجر على وجه فيه غرر وضرر؛ لأن هذا يحدث الخصومة، ويوغر القلوب على بعضها، ويدفع أصحاب النفوس الضعيفة لاستغلال الفقراء والضعفاء في إجارتهم. فيقول له مثلا: خذ هذا الحب وصفه، والحب إذا صفي بدرجة كبيرة زاد له مائة، وإذا صفي بأقل كان له خمسون، فيقول له: خذ وصفه بخمسين، فعندما يأتي يصفيه بدرجة معتادة يقول: إنما قصدت التصفية العالية، فإذا قال له: أنت أعطيتني خمسين فقط، قال: خمسون لكن شرط أن تصفيه بدرجة عالية. فيحدث بينهما النزاع والشقاق، ولذلك قفلت الشريعة هذا الباب. فلا يبرم العقد بين الطرفين على شيء متردد إلا بالتعديد والبت، فإذا بت الطرفان انقطع السبيل لحصول الخصومة والضرر. شروط استئجار الأشخاص وقوله: [أو من يدله على طريق] . كانوا في القديم إذا سافروا فإنهم يحتاجون إلى من يدلهم، فهذا يسمى (خريت) أو يسمى (بالدليل) ، فيجوز أن تستأجر شخصا لكي يدلك على طريق، وقد يستأجر الرجل شخصا يدله على المشاعر والمناسك، فهذا لا بأس به، فهذه الدلالة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل -واسمه عبد الله بن أريقط - هاديا خريتا) ، (أي: دليلا في الأسفار، وكان يعرف الطريق بين مكة والمدينة فاستأجراه للهجرة. فاستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا، ودفعا إليه براحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فدل ذلك على جواز إجارة أشخاص من أجل الدلالة، فتقول لشخص: أريد القرية الفلانية، أو أريد مثلا بئر فلان أو أريد الموضع الفلاني فدلني عليه، وتذهب معي حتى أصل إليه وتردني. فيقول: أذهب بك بخمسمائة وأردك بخمسمائة، فهذه ألف، فحينئذ تم العقد بينكما ولا إشكال، وهذا جائز، فإذا استأجر وقال له: أريد أن تدلني على الطريق إلى مكة، فينبغي عليه أن يحدد زمان الخروج، ويحدد الطريق الذي سيسلكه إذا كان هناك أكثر من طريق، مثلا قال له: أريد طريقا مختصرة، أو أريد طريقا يسلكه الناس؛ لأنه ربما ذهب به إلى طريق مضر، فنص المصنف على أنه لا بد من تعيين العمل. استئجار الطبيب للفحص أو العلاج قال رحمه الله: [اشترط معرفة ذلك] . مثلا: الذي استأجر رجل من أجل الدلالة، لا بد وأن يعرف على أي الطرق التي سيسلكها. في زماننا نفرع مسائل على هذه الأحكام التي ذكرها المصنف، فمن أشهر ما يوجد الآن مثلا: الإجارة للعمل الطبي، كطيب للعلاج، فالطبيب إذا أراد أن يعالج وأراد المريض أن يتعاقد معه، فإنه ينبغي أن يحدد العمل الطبي الذي سيقوم به، فإن كان لفحص يقول له: أفحصك وآخذ مائة. وإذا قال له: أفحصك وآخذ مائة. فهنا يحدد نوعية الفحص، هل هو لعضو معين، أو هو لاكتشاف مرض معين، أو هو لفحص وقائي، فيحدد العمل الذي سيقوم به. ولا يجوز أن يقول له: أفحصك فقط؛ لأن الفحص فيه ما يسمى بالفحص الابتدائي، وهناك فحص أعمق كالتحاليل والتصوير بالأشعة والمناظير ونحوها، فلو قال: أفحصك، ربما ظن المريض أنه سيفحصه فحصا تماما كاملا، فيتفق معه ويأخذ الأجرة، ثم يقول: أنا قصدت الفحص المبدئي. والفحص المبدئي لا يكشف كثيرا من الأمراض، بخلاف الفحص العميق الذي يسمونه بالفحص التكميلي، فيشترط في الفحص أن يحدد نوعية الفحص. وقد يكون هناك أكثر من وسيلة يفحص بها، فمثلا: ضرب على يده فشك أن يده مكسورة أو لا، فقال: أريد أن تفحص لي يدي، فقال له: أصورها لك بالأشعة. فلا بد أن يحدد الوسيلة، فلا يقل: أفحصها. ويسكت، وعلى هذا: لا بد وأن يحدد الوسيلة للفحص. ثم إذا أراد أن يستأجر لغير الفحص، بل للمهمات الطبية، فينبغي أن يحدد هذه المهمة، والحمد لله أن هذا موجود في كثير من المستشفيات، فتجد كل عمل يضعون أمامه الأجرة. فهذه الأشياء مهمة جدا، وهي تحقق مقصود الشرع من معرفة المستأجر بحقه، ويضمن بها حق المستأجر. بناء على ذلك: لا بد من تحديد المهمات الطبية، والأجرة المدفوعة في مقابلها، وإذا حددت المهمة الطبية في بعض الأحيان يكون هناك تحديد على وجه فيه غرر، أي: في بعض الأحيان يكون عندنا تصوير بالأشعة وعندنا كتابة تقرير الصورة، إذا جرى العرف بأن تقرير الصورة تابع للتصوير فحينئذ إذا تعاقد معه بمائة عليهما وجب على خبير الأشعة أن يقوم بالتصوير، ثم على الطبيب الذي تعاقد معه أن يقوم بكتابة التقرير من خلال قراءة صورة الأشعة. وبالنسبة للمهمات الطبية التي فيها أعمال كقيامه بعلاج الجسم، فلا بد وأن يحدد الطبيب ذلك ويبنيه، فمثلا: إذا كان يريده للجراحة واستئصال اللوزتين، أو مثلا قطع البواسير، أو استئصال الزائدة، أو نحو ذلك، فلا بد وأن يحدد العمل الجراحي، وفي بعض المستشفيات يقوم الطبيب بشرح العمل الذي سيقوم به للمريض شرحا تاما كاملا، فيقول له مثلا: آخذ على هذا خمسمائة دولار أو آخذ عليها خمسة آلاف ريال أو نحو ذلك، فيحدد المهمة وما يقوم به وأجرته. أما أن يكون هناك تعاقد مبهم، ويأتي المريض ويدخل على الطبيب ولا يحدد ما الذي يريده؛ فهذا لا يجوز، بل ينبغي التحديد، حتى الطبيب عندما تدخل المستشفى فلابد أيضا أن تحدد نوعية الطبيب، هناك طبيب الذي ستكشف عنده، فيختلف الكشف والعلاج عنده عن الذي دونه، فهذا له قيمته وهذا له قيمته، وهذا أكثر ما يقع في المستشفيات التي تكون بالأجرة. المستشفيات التي تكون بالأجرة، يكون فيها رجل استقبال واستعلام، فعندما تريد أن تفتح ملفا يقول لك: أحيلك على طبيب أخصائي بسبعين ريالا. فلا بد أن يجرب هل هو أخصائي أو استشاري، حتى يكون المريض على معرفة؛ لأنه ربما كان المرض الذي معه قد كشف عليه من قبل من هو بهذه المرتبة، فإذا: لا بد أن يحدد للمريض من هو الطبيب ونوعيته ونوع العمل الذي سيقوم به حتى يكون على بينة ويكون العقد خاليا من الغرر والجهالة. وقوله: [وضبطه بما لا يختلف] . وضبط العمل بما لا يختلف، فإذا كان العمل مترددا كما قلنا بين أكثر من شيء، فإنه ينبغي التحديد على وجه يزول به الغرر الذي يخشى وقوعه على المستأجر أو المؤجر. الأسئلة حكم تأجير المستأجر للعين المؤجرة قبل دفعه إيجارها السؤال هل يجوز أن يؤجر المستأجر سلعة استأجرها قبل دفع قيمة الاستئجار لصاحب السلعة؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هذه المسألة الحقيقة مفرعة على مسألة: هل للمستأجر أن يؤجر ما استأجره؟ أثبتنا في المجلس الذي قبل هذا المجلس أنه يجوز للمستأجر أن يؤجر، وبينا أن هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله: منهم من يمنع مطلقا، ومنهم من يجيز، ومنهم من يفصل بين كون المستأجر يؤجر بنفس القيمة أو بأكثر. لكن على كل حال فالذين قالوا: بجواز أن يؤجر المستأجر ما استأجره قبل أن يأخذ المنفعة، قالوا: بأنه بالعقد ملك المنفعة. وفي الحقيقة هذه المسألة مهمة جدا؛ لأنك إذا استأجرت -مثلا- شقة بعشرة آلاف ريال، وقلت: إن المنفعة التي هي سكنى الشقة بعشرة آلاف سنة، فعندنا عشرة آلاف، فهذه هي القيمة، وعندنا عوض عن العشرة آلاف وهو السكن سنة، فالمنفعة وهي السكن سنة يقابلها عشرة آلاف ريال، فإذا قلنا: إن المنفعة يملكها المستأجر بمجرد العقد فيجوز أن يبيعها، ويجوز أن يؤجرها على شخص آخر، وهذا بيع المنفعة، وبناء على هذا القول: يترتب عليه قول آخر، وهو: أن المؤجر يكون المال ملكا له ويحتسب زكاته، بحيث إنه لو تركه عند المستأجر وأخذه في نهاية السنة لزمته الزكاة؛ لأن المال دخل على ملكه الذي امتنع عن قبضه. وقد قرر وأشار ابن رشد رحمه الله وغيره من العلماء: أن المنافع وإن كانت معدومة أثناء العقد لكنها منزلة منزلة الموجود. فسخ الإجارة السؤال متى يكون الفسخ بالإجارة؟ الجواب الفسخ في الإجارة فيه تفصيل سيأتي في الفصل الذي يلي هذا الفصل، وهي مسألة تحتاج إلى نظر؛ لأنها تختلف بحسب اختلاف الموجبات والأسباب. وهناك أسباب شرعية وأسباب حسية، فقد تفسخ بسبب شرعي، مثل: ما إذا استأجره للحج، ثم جاء عذر شرعي يمنع من الحج، كتعطل في الطريق حتى ذهب يوم عرفة ولم يمكنه إدراك الوقوف، فحينئذ تفسخ الإجارة؛ لأن مقصود الشرع من الإجارة ذلك. ومن أمثلة ذلك: إذا استأجره لقلع ضرس فيها ألم وزال الألم، فالشرع يمنع من قلع الضرس إلا عند وجود الألم والضرر، وقرر الطبيب أنها طبيعية ويمكن أن تبقى على حالها فلا يجوز القلع. وقد يكون السبب عاديا مثلا: استأجر دارا للسكنى لمدة سنة، فانهدمت الدار أو سقطت، فحينئذ تنفسخ الإجارة؛ لأنه سبب حسي عادي، والاستفادة من المنفعة متعذرة. وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه المسائل وبيانها. والله تعالى أعلم. حكم تبييت نية الصوم في كل ليلة السؤال هل يجب تبييت نية للصوم في كل ليلة؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وأصح أقوال العلماء في هذه المسألة قول الجمهور: من وجوب تبييت النية في الليل لكل يوم؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) ، وهذا يدل على أنه يجب أن يبيت النية بالصوم لكل ليلة بحسبها. والله تعالى أعلم. حكم من رأت دم الحيض بعد صلاة المغرب السؤال امرأة رأت شيئا من دم الحيض بعد صلاة المغرب ولم تعلم هل كان ذلك قبل الغروب أم بعده، فما الحكم بالنسبة لصلاتها وصيامها؟ الجواب إذا رأت الدم وغلب على ظنها أنه سابق للغروب، فلا إشكال أن صوم ذلك اليوم لاغ ويلزمها قضاؤه، وأما إذا كانت قد غلب على ظنها أن الدم طري وأنه حادث بعد المغرب فلا إشكال في صحة صومها ولزوم صلاة المغرب إذا طهرت فإنها تقضيها وتصليها. وأما إذا ترددت وشكت فالقاعدة عند العلماء رحمهم الله تقول: (ينسب لأقرب حادث) ، فالأصل صحة الصوم حتى يدل الدليل على عدم صحته، والأصل أنها صامت يوما كاملا، وذمتها بريئة حتى نتحقق من وجود هذا المؤثر، فحينئذ يحكم بصحة صومها، وأما الدم فلا يؤثر في ذلك اليوم، وتبقى المسألة عكسية، لأنك إذا قلت: يصح صومها لزمها قضاء المغرب، وإن قلت: لا يصح صومها لم يكن هناك قضاء المغرب، فإن سلمت من الصوم لزمها قضاء المغرب؛ لأن دخول الوقت موجب لشغل الذمة بالنسبة للحائض، ولا يكون معتدا بآخر الوقت كما يقوله فقهاء الحنفية وبعض أصحاب الإمام أحمد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (361) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [7] اختلف العلماء في حكم أخذ الأجرة على الأذان وتعليم القرآن والفتوى وغيرها من القربات، فمنهم من قال بالجواز، ومنهم من قال بالتحريم، وطائفة فصلوا في هذه المسألة، ولكل صاحب قول أدلته، ولكن الراجح القول بالجواز. ويلزم المؤجر تجهيز كل ما يلزم في العين المؤجرة حتى يتم للمستأجر الانتفاع بها حسب العرف. حكم أخذ الأجرة على الأذان أو تعليم القرآن ونحوهما بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة] . شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بمحل الإجارة، فبين أن مما يمتنع ولا يصح أن يؤجر عليه: أعمال القربة التي يختص فاعلها بالتعبد، وتوضيح ذلك: أن العبادات منها ما هو فرض عين على المكلف، قصد الشرع أن يقوم المكلف بفعله بنفسه، فهذا النوع من العبادات لا يستقيم أن يقيم غيره مقامه، وبعبارة أخرى كما يقول العلماء رحمهم الله: إن هذا النوع من العبادة لا تدخله النيابة من حيث الأصل، فيشمل ذلك الصلاة، فلا يجوز أن يصلي شخص مكان آخر، ولا أن يقوم بفعلها نيابة عن قريب أو غريب. فهذا النوع من العبادات والتي يسميها العلماء بفرائض العين، وفرض العين هو الذي قصد الشرع أن يقوم المكلف به بعينه، فحينئذ لو دخل بديل عن هذا المكلف فإن مقصود الشرع لا يتحقق، فلو قال رجل لآخر: صل عني الصلوات الخمس أو بعضها وأعطيك عن كل صلاة كذا وكذا؛ لم يصح. فإذا: لا يصح أن يستأجره للقيام بفريضة العين؛ لأن الشرع قصد أن يقوم بها المكلف بنفسه عينا، فلا يستقيم أن يقوم غيره مقامه، لا على سيبل التبرع ولا على سبيل العوض، هذا بالنسبة لفرائض الأعيان. وهناك قربات أخر دل الشرع على جواز النيابة فيها، وبالإمكان أن يقوم شخص مقام آخر في القيام بهذه العبادات، أو تكون الطاعة نفسها مما يتقرب به إلى الله عز وجل، ويكون قربة للشخص نفسه، فمثلا: الأذان، وتعليم القرآن، والإمامة في الصلوات، والتعليم والتدريب والفتوى. ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بالطاعات والعبادات في تعليمها والقيام بها، فلو أن شخصا أراد أن يستأجر شخصا للأذان، أو أراد أن يستأجره للقيام بالفتوى أو الإمامة أو التدريس ونحو ذلك، فهل تجوز الإجارة على هذا النحو من القربات؟ للسلف رحمهم الله في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهي المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله وصدر بها هذه الجملة: القول الأول: لا يستأجر على هذه الطاعات والقربات، فلا يجوز أن تدفع المال من أجل أن يؤذن، ولا يجوز أن تدفع المال من أجل أن يعلم القرآن، ولا يجوز أن تدفع المال إليه من أجل التعليم والإمامة ونحو ذلك من القربات التي ذكرنا، وهذا القول قال به طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وقال به أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي وكذلك قال به ابن المنذر، وقال به إسحاق بن راهويه، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو مذهب الحنفية، أي: أنه لا يجوز أن يستأجر الغير للقيام بالطاعات التي ذكرناها، لا أذانا ولا صلاة ولا إمامة ولا تدريسا ولا نحو ذلك من الطاعات والقربات. بناء على هذا القول: لو انعقدت الإجارة بين الطرفين على فعل هذه الأمور فإنه لا يستحق الأجير شيئا، ولا تكون الإجارة شرعية. القول الثاني: يجوز أن يستأجر الغير للقيام بهذه الأعمال والطاعات، ولا بأس بذلك، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد -رحمة الله على الجميع- ولذلك ينسبه بعض أهل العلم إلى الجمهور: أنه يجوز أن تستأجر الشخص للقيام بتعليم القرآن، وتقول له: علم ابني هذا الجزء من القرآن برواية نافع، أو برواية حفص، أو برواية ورش عن نافع، ونحو ذلك من الاتفاق الذي تبينه له، ولا بأس بذلك ولا حرج، ويجوز أن تستأجره للأذان وللإمامة وللتدريس والتعليم ونحو ذلك، وهو مذهب الجمهور كما ذكرنا. القول الثالث: التفصيل: قال: إن وقع العقد بالشرط فلا يجوز، وإن وقع بدون شرط فهو جائز. ومرادهم بكونه بشرط أن يقول الشخص: أنا لا أدرس حتى تعطيني المال، أو لا أؤذن حتى تعطيني كذا وكذا، أو لا أؤم الناس حتى تعطيني كذا وكذا. فهذا النوع يسمى المشارطة، أي: أنه جعل العوض والأجرة شرطا للقيام بالطاعة، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد، رحمة الله على الجميع. تحصل معنا أن في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قول بالمنع مطلقا، وقول بالجواز مطلقا، وقول بالتفصيل. حالة التفصيل يجيزون إذا لم يشترط الشخص، ومثال عدم الاشتراط: يأتي الشخص للأذان أو للإمامة، فيعطى الأجرة بدون أن يشترط ذلك، ولو قال له قائل: لا نعطيك الأجرة. لاستمر في أذانه أو في إمامته، فهو إذا لا يجعل الأجرة قصدا أو هدفا من إمامته، بل يكون مستعدا أن يقوم بالفعل والطاعة قربة لله عز وجل، فصار أجر الدنيا تبعا ولا قصدا، هذا بالنسبة للتفريق بين المشارطة وعدمها. أدلة من يقول بعدم جواز أخذ أجرة على تعليم القرآن وغيره استدل الذين قالوا بعدم الجواز بدليل الكتاب والسنة والعقل: أما دليلهم من كتاب الله عز وجل فقالوا: إن القرآن نص على تحريم عقد الأجرة على الوحي، قال تعالى: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} [الشعراء:109] {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات التي نصت على أنه لا أجر ولا حظ لقاء القيام بهذا الوحي، فشمل ذلك القرآن تعليما وتدريسا وبيانا، وكل ما يتصل بالقرآن من المنافع التي يراد بها التقرب لله سبحانه وتعالى. ودليل السنة هو: أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه علم رجلا من أهل الصفة شيئا من كتاب الله عز وجل فأهدى إليه قوسا، قال: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته، فقال: إن أحببت أن يقلدك الله به قوسا من نار فتقلده) ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الوعيد على أخذ الأجرة من الطاعة والقربة المتمثلة بتعليم القرآن، فدل على أنه لا يجوز أن يأخذ الشخص أجرة على تعليمهم القرآن، ويتبع ذلك تعليمهم العلم عموما. أما الدليل الثالث: فقالوا: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أنه أهدى إليه رجل علمه شيئا من كتاب الله فأهدى إليه خميصة، فلما أهدى إليه الخميصة قال عليه الصلاة والسلام: لو أنك لبستها لكساك الله بها ثوبا من النار) . وهذان الحديثان في إسنادهما كلام عند أهل العلم رحمة الله عليهم، فهما ضعيفا الإسناد كما سنبينه في الترجيح. أيضا هناك دليل فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل بالقرآن: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا) وفيه كلام أيضا، وإن كان بعض العلماء قد حسن إسناده، لكن الكلام فيه قوي. فهذا مجموع دليلهم من الكتاب والسنة، أما دليلهم من العقل فقالوا: لا تجوز الإجارة على هذه القربات -أي: تعليم القرآن والتعليم والإمامة والأذان ونحوها من الطاعات- كما لا تجوز الإجارة على الصلاة والصيام، يقولون: أنتم تتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصا من أجل أن يصوم عنه، وتتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصا من أجل أن يصلي عنه، وإذا كنا متفقين على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص آخر للصلاة ولا أن يستأجره للصيام، فنقول: تعليم القرآن والأذان وتعليم العلم كالصلاة، أليس المراد بها أن يتحصل صاحبها على الأجر والمثوبة؟ قلنا: بلى. قالوا: ما دام أنه يريد تحصيل الأجر والمثوبة والكل قربة، وكما حرم أصل الأجرة على هذه القربة يحرم أصل الأجرة على هذه القربة بجامع كون كل منهما طاعة وقربة لله عز وجل. هذا بالنسبة للدليل العام الذي ورد. أيضا قالوا: مسألة الأذان لا يجوز أخذ الأجرة عليها لثبوت الحديث الخاص، وهو حديث السنن، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه، وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، قال رضي الله عنه: (وكان آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا) والحديث صحيح، قالوا: فهذا نص، وركبوا منه دليل العقل فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على عدم أخذ الأجرة على الأذان وهو من القربة والطاعة، كذلك لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم، ولا يجوز أخذ الأجرة على الفتوى، ولا غير ذلك من الأمور التي يقصد بها القربة والطاعة. هذه هي محصل أدلة أصحاب القول الأول من النقل والعقل. أدلة من يقول بجواز أخذ أجرة على تعليم العلم والقرآن أما دليل من قال بالجواز، فقد استدلوا بأدلة ثابتة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة من القياس والنظر. أما دليلهم من السنة الصحيحة فقالوا: عندنا عدة أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كلها تدل على أنه يجوز أن يأخذ المسلم أجرة على القيام بهذه الطاعات والقرب: الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فصعد فيها النظر وصوبه عليه الصلاة والسلام، وقال له رجل: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال له: (هل معك شيء تصدقها إياه؟ إلى أن قال: زوجتكها، وفي رواية: أنكحتكها، وفي رواية أخرى: ملكتكها بما معك من القرآن) فالرجل يحفظ عدة سور، فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المرأة على أن يعلمها هذه السور، حيث قال: (أنكحتكها بما معك من القرآن) . فإذا تأملت هذا الحديث وجدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن عوضا وصداقا لنكاح المرأة، فدل ذلك على جواز أن يكون التعليم عوضا عن شيء دنيوي، وأنه لا بأس أن يأخذ عليه أجرا من الدنيا ما دام أن نيته الأصلية هي ابتغاء الله عز وجل، فقالوا: فلا يضر، لأنه ينوي الطاعة والقربة بتعليمهم القرآن، ولكن كونه يأخذ شيئا من الدنيا فذلك من تيسير الله عز وجل له حتى يستعين به على المئونة، ويستعين به على طلب العلم، ويستعين به على الخير. إذا: حديث أبي هريرة دل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن. طبعا هم يقولون: أليس المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها يدفع المال من الذهب والفضة؟ قلنا: بلى، يدفع المال من الذهب والفضة. قالوا: فإذا كان يدفع المال من الذهب والفضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تعليم القرآن عوضا عن مهر المرأة، فدل على أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن معاوضا عليه، يعني: لقاء عوض وبدل. أما الدليل الثاني: فقالوا: حديث أبي سعيد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنهم نزلوا بحي من أحياء العرب، وفيه رجل به ألم، فقيل لهم: إنكم أتيتم من عند هذا الرجل فهل عندكم من راق؟ فأتي بالرجل، قال: فكنت أقرأ عليه بفاتحة القرآن، فأجمع رقيقي ثم أتفل عليه (ثلاثة أيام) فكأنما نشط من عقال)، أي: فشفاه الله عز وجل بما جعل الله في هذا القرآن من البركة، كما قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص:29] فجعل الله عز وجل فيه البركة؛ فشفي سيد القوم، فجعلوا لهم قطيعا من الغنم، وفي بعض الروايات أن أبا سعيد اشترط وقال: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلا) . فجعلوا لهم قطيعا من الغنم، فلما جعلوا لهم الجعل قرأ ورقى فشفي سيد القوم. ومثله قضية اللديغ حينما لدغ وقرءوا عليه بفاتحة الكتاب؛ فشفاه الله عز وجل. قال أبو سعيد: (فلما رجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سألناه -أي: سألناه عن أخذ العوض عن القرآن والرقية- فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم أكلتم برقية حق، وإن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله، كلوا واضربوا لي معكم متاعا) وفي رواية: (خذوا واضربوا لي معكم بسهم) فأحل لهم العوض، والعوض وقع لقاء الرقية، والرقية نوع من الطاعة والقربة؛ لأنها لا تقع القربة إلا إذا تلا القرآن معتقدا فيه التقرب لله عز وجل، كما لو أذن معتقدا وكما لو علم معتقدا، وهكذا. فقال أصحاب هذا القول رحمة الله عليهم: إنه يجوز أخذ العوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لهؤلاء الصحابة أخذ الجعل، وعده غير قادح في كون العمل قربة، وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) . كذلك أيضا لهم دليل ثالث، وهو: النظر والعقل، قالوا: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وعلى الأذان والإمامة والفتوى ونحو ذلك من القربات، كما يجوز أخذ الأجرة على بناء المسجد وكتابة العلم، والكل متفق على أنه لو استأجر شخص ليبني مسجدا فإنه يجوز بالإجماع، وبناء المسجد يقع قربة ويقع عادة من العادات، ولذلك قالوا: ممكن أن ينوي به القربة ويحصل أجر الدنيا وأجر الآخرة، قالوا: فيجوز أن يأخذ العوض عليه من هذا الوجه. أدلة من يفصل في مسألة أخذ أجرة على تعليم القرآن وأما القول الثالث: الذي قال بالفرق بين المشارطة وعدمها فإنهم يجمعون بين الأدلة، ويقولون: إن الآية التي حرمت نص فيها الله عز وجل على أن التحريم للمشارطة {قل ما سألتكم} [سبأ:47] ، {قل ما أسألكم عليه من أجر} [الفرقان:57] ، {وما أسألكم عليه من أجر} [الشعراء:109] ، {وما تسألهم عليه من أجر} [يوسف:104] فالسؤال مشارطة، فجعل المشارطة مؤثرة في الحل، فالمنع جاء بصورة خاصة وهي أن يسأل، والمشترط سائل، فكأنه يقول: لا أصلي حتى تعطوني ألفا. يقولون له: صل بنا إماما. يقول: أقبل أن أصلي بكم الشهر بخمسمائة. قيل للإمام أحمد رحمة الله عليه: إن رجلا يقول: لا أصلي بكم التراويح حتى تعطوني كذا وكذا. قال: أعوذ بالله! من يصلي وراء هذا؟! فما دام أنه يقول: لا أصلي بكم حتى تعطوني كذلك. معناه: أنه لا يريد الصلاة ولا يريد العبادة إلا من أجل المال. فإذا قالوا: إنه إذا شارط كان سائلا، والله نهى ومنع وحرم، وجعل السؤال للأجر لقاء الوحي محظورا على المرء، وكما أنه محظور على نبي الأمة صلى الله عليه وسلم فمن بعده قائم مقامه في كونه ممنوعا من هذا الأمر؛ لما فيه من الإخلال بحق الدعوة والتعليم. وكذلك أيضا قالوا: إن الجواز دلت عليه الأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتحريم دلت عليه أدلة أخرى، فنجمع بين الدليلين ونقول: من اشترط منع، ومن لم يشترط لا يمنع. واعترض على هذا المذهب باعتراض، قيل لهم: أنتم تقولون: إننا نجمع بين أدلة الجواز والتحريم، فما رأيكم بحديث أبي سعيد والرقية، فإن حديث الرقية فيه: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلا) فجعلوا الشرط موجودا. فقالوا: نعم، حديث أبي سعيد نقره ولا ننكره، ونقبله ولا نرده، ولكنه بين مسلم وكافر؛ لأن هؤلاء كفار وليسوا مسلمين، وإنما حظر إذا كان بين مسلم ومسلم. وأجابوا من وجه آخر فقالوا: إن حديث أبي سعيد رضي الله عنه خرج مخرج المداواة؛ لأن الرقية نوع من العلاج والتداوي، والعلاج والتداوي فيه شبهة الدنيا مع وجود القربة والطاعة، فصار مثل: داء المس، فيمكن أن يقع طاعة ويمكن أن يقع غير طاعة، فوسع فيه أكثر من غيره، فخففوا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه من هذا الوجه. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الراجح في مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه وفي الحقيقة: إذا تأمل المتأمل فإنه سيجد أن دليل من قال بالجواز أصح وأقوى من حيث الإسناد والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فالأشبه والأقوى القول بالجواز، وخاصة إذا كان من بيت المال. وأما مسألة الأذان فيشكل على حديث الأذان حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا) فإن هذا الحديث يعارض بحديث أبي محذورة رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قفل من الطائف بعد قسمه لغنائم حنين بالجعرانة، وجاء أبو محذورة رضي الله عنه وأذن الأذان، قال: فألقى إلي صرة من فضة) . فألقى النبي صلى الله عليه وسلم له صرة من فضة، فأخذ على أذانه الأجر، فنقول: الأشبه في قوله (واتخذ مؤذنا لا يتخذ على أذانه أجرا) أي: لا يطلب على أذانه الأجر، أي: أنه يدخل تحت ما قلناه: عند المشارطة يقع الحظر والمنع، ولذلك القول بأنه يجوز هو الأصل، وفي النفس شيء إن كان الرجل يشارط، أعني إذا كان يقول: لا أفعل حتى تعطوني. فهذا في النفس منه شيء. وبناء على ذلك: فالأشبه الجواز، وخاصة إذا كان من بيت مال المسلمين. وقوى بعض العلماء في هذه المسألة جوانب، قالوا: الأقوى والأشبه الجواز، كأن يكون طالب العلم لا دخل له إلا هذا الذي يأخذه من بيت المال، أو يغلب على ظنه أنه إذا لم يتفرغ للتعليم على هذا الوجه فإنه سيتعرض لذل المسألة، أو يتعرض لأمانات الناس ويضيعها، ولذلك كان الإمام أحمد يفضل التعليم بالمال على نحوه من التكسب الذي فيه تحمل لأمانات الناس وحقوقهم، فلعله ألا يتمكن من ذلك فيضيع حقوقهم. وقال بعض العلماء: ينبغي للإنسان أن يوطن نفسه إذا كان مؤذنا أو إماما وأخذ الأجر، أن يحرص في الابتداء ألا يأخذ، ويحاول قدر استطاعته ألا يتقبل العطاء، فإذا فرض عليه نوى في قرارة قلبه أنه لو قطع عنه لاستمر في عمله وطاعته، وأن ذلك لا يقطعه عن الخير. قالوا: فلو قيل له: نقطع عنك راتبك الذي تأخذه. فينقطع؛ فحينئذ تكون الشبهة فيه قوية؛ لأنه يريد حظ الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية. وبناء على ذلك نقول: إن الآيات التي منعت {قل ما أسألكم عليه من أجر} [الفرقان:57] {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات محمولة على من اشترط وقصد المال وقدم الدنيا على الآخرة. وأما حديث أبي وحديث عبادة بن الصامت فنقول: إنها أحاديث فيها ما فيها من حيث السند، وهي أضعف إسنادا، والقاعدة: أن الضعيف لا يقوى على معارضة ما هو أصح منه. وهناك جواب يختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، فيقول: إن أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه ابتدأ تعليم الرجل لوجه الله، ثم جاءه بعد ذلك بقوس هدية، فحينئذ من ابتدأ التعليم قاصدا به وجه الله، فجاءته هدية أو جاءه شيء من الدنيا كأنه رغب عن ثواب الله إلى مثوبة العباد، وقال له: (إن أحببت أن يقلدك الله به قوسا من نار) بالانخراط فصرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأكمل والأحظ، وهو: إرادة ما عند الله عز وجل، فيفرق بين من ابتدأ وهو ينوي الآخرة، ونشأت عليه الدنيا، وبين من يكون في الأصل له حظ الدنيا. وقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد مع كونه قربة وطاعة بحظ من الدنيا، وقال: (من قتل قتيلا فله سلبه) فرغب في الطاعة، فقويت الحمية وقويت الشوكة في ذات الله بحظ من الدنيا، وهذا يدل على أنه إذا أراد حظ الدنيا لم يؤثر. حالات من يعطى أجرة على تعليم القرآن وغيره ومن هنا نقول: من طلب العلم وأعطي راتبا، أو ترتب على كونه يأخذ العلم منزلة أو مرتبة أو شهادة ينال بها شيئا من الدنيا ففيه ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون نيته الآخرة محضة، وحظ الدنيا لا يلتفت إليه بالكلية. إن أعطي شيئا وإلا لم يتلفت إليه. الحالة الثانية: أن يكون قصده الآخرة، ويجعل حظ الدنيا تبعا لا أساسا، بحيث لو قيل له: لا نعطيك هذه الدرجة ولا هذه الشهادة. لاستمر واستدام، فحينئذ نية الآخرة راجحة ونية الدنيا مرجوحة. الحالة الثالثة: أن يستويا. الحالة الرابعة: أن يكون العكس والعياذ بالله، فتكون نيته هذه المنزلة من الدنيا. فأما إذا كانت نيته الآخرة، وكان قصده من تعلمه أن يتعلم ما فرض الله عليه ويعلم أبناء المسلمين، ويعمل بما علم؛ فهو بخير المنازل؛ لأنه أراد وجه الله عز وجل، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على أن من أراد الله والدار الآخرة فإن الله عز وجل يعطيه أجره ولا يضيع عمله، هذا إذا كان أصله الآخرة. الحالة الثانية: أن يكون أصله الآخرة وجاءت الدنيا تبعا، بحيث يقول: أنا فعلا أريد أن أتعلم، وأعمل بما علمت، وأعلم الناس بعد ذلك، وأحب أن تكون لي شهادة، وأن تكون لي وظيفة منها أنفع الناس، وأكف وجهي عن سؤال الناس، ومنها أسترزق حتى لا أتعرض لذل الدين وفاقته وأعرض أهلي وعيالي للذل. فإذا: عنده طلب للدنيا، لكنه أقل من طلب الآخرة، فإذا كانت نية الآخرة هي الأساس ووقعت نية الدنيا تبعا لم يضر، والدليل على ذلك دليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب فإن الله عز وجل قال عن أهل بدر: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} [الأنفال:7] والله سبحانه وتعالى المطلع على القلوب والضمائر يقول في أهل بدر: (وتودون) أي: (تتمنون) من باب قوله عليه الصلاة والسلام: قال: (إن الله وعدني إحدى الحسنيين: إما الجهاد وإما العير) فخرجوا رضوان الله عليهم وهم يتمنون أنها تكون العير. وليس معنى ذلك أنهم يفضلون الدنيا على الآخرة، إنما كان شيئا يريدون به كسر شوكة أعدائهم، وارتفاقهم بالدنيا لعزة وغلبة يرجونها لدين الله عز وجل، فقال: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} [الأنفال:7] فكانوا يودون العير، ومع ذلك جعل الله لأهل بدر ما لم يجعله لغيرهم من أهل الغزوات، قال صلى الله عليه وسلم -في الصحيح-: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فهذا كله يدل على أن نية الدنيا إذا وقعت تبعا لم تضر. الدليل الثاني من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل قتيلا فله سلبه) وهذا في الجهاد، فجعل للإنسان إذا قتل رجلا من الأعداء أنه يأخذ سلبه، وهو ما عليه من السلاح والعتاد كما قدمنا في كتاب الجهاد- فهذا السلب منفعة ومصلحة دنيوية، رغب في طاعة وقربة بمصلحة دنيوية، لكنها كانت تبعا ولم تكن أساسا، وهذا من أدق ما قاله العلماء في هذه المسألة، وهو اختيار الأئمة كالإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين رحمة الله عليه، واختاره أئمة من المتأخرين كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الحافظ ابن عبد البر من المتقدمين، وكذلك الإمام الحافظ ابن حجر من المتأخرين. ولذلك قد يأتي بعض طلاب العلم ويشوش عليك فيقول: كيف تطلب العلم وأنت تريد كذا؟ قل له: أطلب العلم لله وللدار الآخرة، وأجعل نية الدنيا تبعا ولا أجعلها أساسا ومقصدا. وهذا هو الفصل في هذه المسألة. الحالة الثالثة: أن تستوي -والعياذ بالله- النيتان، وتصبح إرادته للدنيا كإرادته للآخرة، وحظ الدنيا عنده كحظ الآخرة لا فضل لأحدهما على الآخر، فهذا هو فاتحة الشر على الإنسان، وفاتحة شر المنازل أن يجعل مع الله ندا في محبته وطلب مرضاته، فيحب الدنيا كما يحب الآخرة، فهذا نيته مؤثرة، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فهذا يدل على أنه لا يجوز في الطاعات والقربات أن تشرك نية الدنيا مع الآخرة على سبيل الاستواء. وأما بالنسبة للحالة الأخيرة، وهي أن تكون نيته الدنيا هي الأساس ونية الآخرة تبعا، فهذا كما حكى الله عز وجل عن المنافقين وهو شأن أهل النفاق (أنهم لو يعلمون عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد أحدهم العشاء) {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء:142] فهذا في شر المنازل، نسأل الله السلامة والعافية. تقديم الإخلاص في القربات والطاعات ينبغي التنبيه على أمر مهم، وهو: أمر الإخلاص في القربات والطاعات، مع كون العلماء رحمهم الله يقررون الجواز ويبينونه، لكن ينبغي التنبيه على أن الأفضل والأكمل لطالب العلم ولمعلم الناس أن يعلم لله، وأن يؤذن المؤذن لله، وأن يصلي لله، وأن يحتسب ثوابه عند الله عز وجل، وأن يقوم بسائر القربات التي ذكرنا ولا يريد بها إلا وجه الله عز وجل، ومن استغنى بالله أغناه، ومن جعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله؛ جعل الله الدنيا تحت قدميه وجاءته ذليلة صاغرة، وملأ الله قلبه بالغنى، فلو عاش مرقع الثياب حافي القدمين لوجدته في عزة وكرامة لا يبلغها أغنى الأغنياء في الدنيا. ولذلك لما دخل سليمان بن عبد الملك رحمه الله إلى مكة وطاف بها وأدى عمرته، كان معه عطاء بن أبي رباح، وهو عطاء، وكان ديوانا من دواوين العلم والعمل- فقال: يا عطاء! سلني حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين! إني لأستحي أن أسأل مخلوقا في بيت الله عز وجل. هؤلاء العلماء الذين عرفوا كيف يعاملون الله سبحانه وتعالى، فقال: إني لأستحي أن أسأل مخلوقا في بيت الله عز وجل. ولا شك أن هذا من فضل سليمان، وكانوا يتفقدون أهل العلم ويحبون إكرامهم، وهي فضل لـ سليمان وفضل لـ عطاء، فكل على خير، ولكنها مواقف تكتب بماء الذهب لأئمة الإسلام، ولقلوب ملئت بمحبة الله عز وجل فنسيت ما سواه، وامتلأت بالغنى بالله عز وجل فلم تعرف للفقر سبيلا؛ لأنها غنية بالله جل جلاله. فلما خرج قال: يا عطاء! ها قد خرجنا فسلني حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين! إن حاجتي أن يغفر لي ربي ذنبي. فقال: إن هذا ليس بيدي، إنما سألتك أن تسألني من أمور الدنيا لا من أمور الآخرة. فقال له رحمه الله: يا أمير المؤمنين! ما سألت الدنيا ممن يملكها أفأسألها ممن لا يملكها؟! فرحمه الله برحمته الواسعة. فضل الاستغناء بالله ومن عرف الله عز وجل فإن الله يغنيه، ودائما أمور الدنيا تأتي تبعا، حتى في قضايا وأمور العوام، فمن أنزل حاجته بالله فإن الله عز وجل يتأذن له بالفرج العاجل والآجل، ومما ذكره الأئمة: قصة ذلك الرجل الذي دخل المسجد على عظيم من عظماء الدنيا، وكان من الأئمة والخلفاء، فانتظره حتى صلى الفجر ثم صلى بعدما طلعت الشمس، فوجد هذا الرجل الخليفة بعدما صلى رفع كفه يدعو ربه، فلما رآه يرفع يديه إلى الله عز وجل قال: سبحان الله! هذا يسأل ربه وأنا أسأله حاجتي! فلما رأى ذلك استغنى بالله، واعتقد في قرارة قلبه أنه ينبغي أن يكون فقره إلى الله لا إلى شيء سواه، فانصرف من المسجد وفي نيته ذلك، ولما خرج رجع إلى عياله وولده فأدركته الهاجرة والظهيرة في كهف، فدخل الكهف وهو في شدة الإعياء والتعب وفي حيرة من أمره كيف يقول لأهله وولده! فلما أراد أن يضع رأسه إذا به في مكان مشرف ومرتفع، فأراد أن يسوي حتى يضع عليه ما يرتفق به من فراشه، فإذا به بشيء كالفخار قد انكسر فوقعت يده على جرة مملوءة ذهبا، فحصل من خير الدنيا، مع ما حصله من أجر الآخرة. ومن ألذ المقامات وأهنأ الساعات وأشرف اللحظات لحظة الاستغناء بالله جل جلاله؛ لأنها تعني معاني كثيرة، فانظر كيف محبة الله لمن يدعوه، وانظر كيف يحب الله السؤال؛ لأن السؤال يدل على التوحيد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) ؛ لأن الذي يرفع كفه سائلا لله معناه أنه يؤمن بوجود الله، ويؤمن بأن الأمر كله لله، وأن الغنى العز من الله، وأن أمان خوفه من الله، وأن كرامته وعزته من الله؛ فرفع الكف إلى الله الذي لا يسأل سواه. فإذا كان العبد في مقام عرضت عليه الدنيا وعرضت عليه الآخرة فآثر الآخرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يعوضه عن الدنيا مع ما حصل من قصد التوحيد؛ لأن انصرافك عن الدنيا باعتقادك أنك مع الله وأن الله سيغنيك، هي منزلة من منازل التوحيد، ومنزلة من منازل اليقين بالله سبحانه وتعالى. استغناء الإمام البغوي عن سؤال الناس ذكروا عن الإمام البغوي رحمه الله أنه لما كتب تفسيره المشهور، وكانوا في القديم يعييهم كتابة العلم، وكانوا يستنسخون النساخ، فسمع هذا الإمام بعظيم من العظماء يكرم العلماء، وأنه يحب كتب العلم، فأخذ تفسيره معه واستأجر مركبا في دجلة حتى ينزل إلى الخليل، ثم بعد ذلك يسافر إلى هذا الرجل ويسأله حاجته في نسخ الكتاب، وما يريد شيئا من الدنيا، إنما يريد أن ينسخ الكتاب وينتشر العلم. فما كانوا يريدون الدنيا أبدا، بل يثق كل إنسان أنه ليس هناك أغنى من العلماء إذا عرفوا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [العنكبوت:49] فهم أعرف الناس بالله عز وجل. فلما ركب المركبة قال: فنظرت فرأيت رجلا يمشي بالساحل والطريق، فأمرت صاحب المركب أن يأخذه معنا، فلما ركب معنا قال للإمام البغوي: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان البغوي. قال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: بلغني أن فلانا من العظماء يكرم العلماء، فأخذت هذا التفسير حتى ينظر فيه ويأمر بكتابته ونسخه ونشره للناس حتى ينتفعوا به. فقال له الرجل: سبحان الله! ماذا قلت في تفسير قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة:5] ؟ ففسر له الآية وعلم مراده، فعقد العزم على أن يرجع إلى بيته من ساعته، فلما رجع إلى بيته لم تمض ثلاثة أيام إلا ورسول الخليفة يقرع عليه الباب ويقول له: بلغ فلانا -أي: الخليفة- أنك كتبت كتابا في العلم يحب أن يراه، فأخذ الكتاب منه، ثم لما رآه وقرأه وأعجبه ونظر إلى علمه رحمة الله عليه؛ أمر أن يوضع في كفة، وأن يصب الذهب في الكفة الأخرى، وأن يبعث بهذا الذهب إلى الإمام البغوي. إن الله يحب أولياءه ويصونهم عن ذل السؤال لغيره، ولكن يكون ذلك إذا عرفوه سبحانه، ومن عرف الله عز وجل فإن الله تعالى يعينه ويوفقه، ويفتح له من أبواب الفرج ما لم يخطر له على بال. فنحن إذا ذكرنا جواز مثل هذه الأمور؛ فهناك الجواز وهناك الأفضل والأكمل، ولا يعني هذا التواكل وترك الأسباب، إنما هي في مواطن يصون الإنسان بها علمه، ويصون بها ماء وجهه؛ حتى يكون ذلك أبلغ في إكرام دين الله وصونه، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ألا يسأل الناس شيئا وأضمن له الجنة) منزلة من منازل الإيمان والتسليم ألا يسأل الناس شيئا. وكان الصحابي إذا سقط سوطه لم يسأل أحدا أن يرفعه له، فهذه منزلة من منازل الإيمان، فمع كون العلماء رحمهم الله يقولون بالجواز، لكن ينبغي أن نعلم أن هناك حظوظا عظيمة، فتصور إذا تقدم الإنسان إماما وهو يتلو آيات الله عز وجل كم له في كل حرف من الحسنات! وكم له في ركوعه وسجوده وغير ذلك من طاعاته وقرباته وتذكيره ووعظه! وإذا علم الله من قرارة قلبه أنه يريد وجهه ويريد ماعنده، وأنه قصد من ذلك كله أجر الله سبحانه وتعالى، فبخ بخ وقد ربح البيع وعظمت التجارة كما أخبر الله عز وجل عن الذين يتلون كتابه آناء الليل وأطراف النهار وهم يريدون وجهه؛ أنهم يرجون تجارة لن تبور، وأنه سيوفيهم أجورهم وسيزيدهم من فضله، فأخبر عن أمرين: توفية الأجرة، والزيادة من الفضل. ومن غريب ما يكون أن الله تكفل في كتابه أن من أراد الآخرة ضمن له الدنيا، وأن من عمل لله عز وجل وإرادة الآخرة، فإن الله يجعل حظه في الآخرة أكبر من حظه في الدنيا، وهذه النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم متظافرة وكثيرة، ولكن نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل غنانا به، وأن يجعل فقرنا إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
ما يلزم المؤجر عند التأجير وقوله: [وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه، والشد عليه، وشد الأحمال والمحامل، والرفع والحط، ولزوم البعير، ومفاتيح الدار وعمارتها] . عقد الإجارة عقد بين طرفين، وكل واحد من الطرفين ملزم بالتزامات، وينبغي أن يوفي كل مسلم لأخيه ما التزمه، فالمؤجر التزم بتأجير الدار مثلا، حيث قال له: أجرتك هذه العمارة سنة بعشرة آلاف ريال. فالواجب: أن يمكنه من الانتفاع بهذه العمارة، وأن يمكنه من سكناها، وأن يهيئ كل الأسباب التي تعين على الانتفاع بهذه العمارة. وفرع العلماء على هذا الأصل: أنه ينبغي أن تكون العمارة بحالة يتمكن من خلالها المستأجر من أخذ المنفعة. ونصوا على أنه يبني ما انهدم منها إذا انهدم، فمثلا لو أنه استأجرها سنة، وأثناء السنة سقط جدار في البيت بدون تفريط من المستأجر، وبدون تسبب من المستأجر، فنقول للمؤجر: ابن هذا الجدار وأعده كما كان. ولو أن الأرض تغيرت بدون إضرار من المستأجر فنلزم المؤجر بإصلاحها، وهكذا إذا تعطلت مرافق الماء، أو مرافق الكهرباء، فإنه يطالب بإصلاحها ولكن بشرط: ألا تكون قد تعطلت بسبب من المستأجر، أما إذا كان بتفريط من المستأجر، وهو الذي كسر هذه الأدوات أو أخل بها فلا، فإنه يطالب بضمان؛ لأن اليد يد أمانة. وهكذا بالنسبة لإجارة الدواب كما ذكر المصنف رحمه الله من الرحل على الدابة والزمام، لأنه لا يمكن أن يقود البعير إلا إذا كان بزمامه، وكذلك الرحل والشداد -الذي يسمى في عرف اليوم (الشداد) شداد البعير- وشد المتاع أيضا. وإذا كان قد استأجر صاحب سيارة من أجل أن يركب للحج، فيطالب بكل شيء جرى عرف السيارات بتهيئته في إجارة الحج، فلو أنه استأجره لنقله من المدينة إلى مكة ومعه عفشه أو متاعه، وهذا العفش والمتاع جرت العادة أن يوضع على سطح السيارة وأن يشد ويغطى، فنقول: يلزمك شداد ويلزمك شده وتغطيته؛ لأنه لو لم يغط ربما استضر بالمطر، ولو لم يغط ربما مع الهواء يطير، وربما يتفسخ ويتضرر، فنقول: يلزمك شداده ويلزمك غطاؤه؛ لأن العرف جار بهذا. فإذا: الشريعة تقول: كلا الطرفين ينبغي عليه أن يوفي بالتزاماته، وتتفرع على هذا جميع مسائل الانتفاع والارتفاق بالعيون المؤجرة والأشخاص والدواب، وكلها ينبغي للمؤجر أن يفي للمستأجر بجميع الالتزامات، وأنه يمكنه من الأعيان على وجه يستطيع أن يحصل المنفعة التي استأجر من أجلها، سواء كانت للسكنى أو للركوب أو لغير ذلك من المنافع. فلو أن رجلا استأجر رجلا من أجل أن يوصله إلى مكان فركب معه، نقول: كل شيء يتعلق بمركبه، ينبغي أن يهيئه وأن يحافظ عليه، وأن يكون على وجه لا يضر فيه أخاه، وأن يمكن الذي دفع الأجرة له أن يكون على الوجه المعروف، ولا يضر به، فلو أن المركب الذي يركب عليه تعطل، أو المركب الذي يركب عليه لا يستطيع أن يرتاح فيه فيستضر أثناء مشي الدابة أو السيارة، نقول: يلزمك أن تهيئ له مركبا لا يستضر به. كذلك أيضا: لو كان نوع السيارة التي استأجرها والقيمة التي دفعها لسيارة ينبغي أن تكون مكيفة، فينبغي أن يهيئ مكيفا، فلو قال: المكيف عطلان. فلهذا الرجل أن ينقص من أجرته، وتكون أجرته أجرة السيارة الذي ليس فيها هذا النوع من التكييف؛ لأن العدل والقسط أن مثل هذه السيارات يعطى له هذا النوع من الأجرة. كذلك ذكروا في مسألة وضع الأمتعة أنهم كانوا في القديم متعارفين على أن رائد البعير أو الجمال الذي يقوم بقيادته هو الذي يضع الأمتعة وينزلها، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (كنت أخدم آل غزوان، أقودهم إذا ركبوا وأحمل نساءهم إذا نزلوا) . وهذا يدل على أن المؤجر في الأصل يلزم بمسألة حط الرحل ورفعه على الدابة. في زماننا: وضع الأمتعة على السيارة، لا يأتي يقول للراكب: أنت الذي تضع الأمتعة. هذه كلها أمور مقررة، جرى العرف أن السائق هو الذي يقوم بوضع هذه الأمتعة ورصفها والقيام بها على الوجه الذي جرى به العرف. فهذه كلها التزامات، ولكن هناك أمور لا تلزم، فمثلا: لو أنه ركب في سيارته ثم نزلوا في محطة أو استراحة، فقال له: أريد أن أجلس في هذه الاستراحة ساعة وعليك أن تدفع الأجرة لي. نقول: صاحب السيارة ليس ملزما بهذا، لأن هذا خارج عن منفعة الركوب، وليس له علاقة بالركوب، لكن مسألة رفع وإنزال المتاع كله تابع للركوب، وعليه القيام بحفظ الدابة ورعايتها كما سيذكر المصنف رحمه الله في قيادتها والقيام برعايتها حتى يتمكن المستأجر من أخذ منفعته على الوجه المعروف. وقوله: [ومفاتيح الدار وعمارتها] . وبالنسبة للدور فيعطيه مفتاح الدار، فإذا أجره يقول له: هذا مفتاح الدار. فإذا أجره وأعطاه مفتاح الدار، وكانت الدار (كوالينها) -كما هو موجود في زماننا- معطلة، فنقول: أنت ملزم بإصلاح هذه (الكوالين) ، ما لم يكن المستأجر قد دخل إلى الدار ورأى كوالينها معطلة ورضي بذلك، فليس بملزم؛ لأنه رضي بالشيء الموجود، وحينئذ إذا أراد أن يضع من عنده كوالين فليضع، ولكن إذا كان لا يعلم، وقال له: أجرتك شقة أو عمارة في الموضع الفلاني بصفة كذا وكذا، ولم يجد بها حفظا أو حدا لأبوابها، فيطالبه بها. ونحن نقصد بذكر الأشياء الموجودة الآن لأنها تعم بها البلوى، كما لو نزل في فندق أو نزل في استراحة فلم يجد سخان الماء في زمان بارد، فنقول: أنت ملزم؛ لأنه لا يمكن لأحد أن ينتفع بهذا المنزل إلا إذا كان ماؤه ميسرا، وإذا كان البيت لا سخان به فيكون في هذه الحالة قد أضر ما لم يقل له: إن هذه الاستراحة أو هذا المنزل لا سخان فيه مثلا. فإذا: لابد أن يكون المؤجر قد هيأ جميع الأسباب للمستأجر حتى يتحصل على حقه على الوجه المعروف. وقوله: [فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة] . هذا ما يسمى في بزماننا بـ (البيارات) -أكرمكم الله- وهي أماكن تحفر، وكانوا في القديم قبل الصرف الصحي، تكون هناك بالوعات -أكرمكم الله- والبالوعات: مجاري الماء التي تفضي إلى البيارات ونحوها، فكان يقع الشجار بين المؤجر والمستأجر على تنظيف البيارات. والذي اختاره جمهور العلماء رحمهم الله: أن البيارات -في الأصل- ينبغي أن تكون نظيفة حتى يتمكن المستأجر من الانتفاع بالعين، فإذا استلمها نظيفة مفرغة ثم ملأها المستأجر، فنقول للمستأجر: أنت الملزم بتفريغها وتسليمها كما استلمتها، لكن في زماننا الآن يوجد الصرف الصحي، فإذا كان للصرف الصحي مال وكلفة، فيدفع المؤجر الكلفة قبل دخول المستأجر، ثم إذا دخل المستأجر فيلزمه المؤجر بدفع قيمة الصرف خلال مدة الإجارة، وقس على ذلك بقية الحقوق المتعلقة بالاستهلاك. الأسئلة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر السؤال ما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان؟ الجواب إن العشر الأواخر هي أفضل ما في هذا الشهر؛ لأن فيها ليلة القدر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحيا ليالي العشر، والتفضيل للعشر من جهة الليالي لا من جهة الأيام، بمعنى: أن الفضيلة في العشر من جهة إدراك ليلة القدر، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله: إن أيام عشر من ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر؛ لأن فضيلتها شاملة لليل والنهار، ولذلك لما أقسم الله عز وجل وقال: {والفجر * وليال عشر} [الفجر:1 - 2] خص الفضيلة بالليالي العشر، وجعلت فضيلة العشر الأواخر من جهة الليل؛ ولذلك شد النبي صلى الله عليه وسلم مئزرة وأحيا ليله، فالعشر الأواخر فضلها بالليل، فيحرص المسلم على إحياء هذا الليل؛ طلبا والتماسا لليلة القدر. وقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان هديه في هذه العشر، فقد كان عليه الصلاة والسلام يبين فضلها ويرغب فيها كما ثبت في الحديث الصحيح؛ أنه جاءه جبريل حينما اعتكف العشر الوسطى من رمضان، وقال: (يا محمد! إن الذي تطلبه أمامك) أي: إن ليلة القدر التي تطلبها ليست في النصف الأوسط من رمضان وإنما هي في العشر الأواخر، فاعتكف عليه الصلاة والسلام العشر الأواخر. وكان من هديه عليه الصلاة والسلام: أنه يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين، فيدخل عليه الصلاة والسلام إلى مسجده، ويدخل قبته بعد فجره صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لابد للنفس من راحة. وكان من هديه عليه الصلاة والسلام البقاء في هذه العشر تامة، أي: يعتكفها تامة، وهذا أفضل وأكمل، وأما لو اعتكف بعضها وترك البعض فإنه لا بأس بذلك، وهذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله أنه لا بأس باعتكاف العشر كاملة أو اعتكاف بعضها أو الاعتكاف في سائر أيام السنة، أما الأفضل والأكمل فأن يعتكف العشر تامة كاملة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وأفضل ما في هذه العشر الليالي الوتر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (تحروها، فمن كان متحرها فليتحرها في الوتر من العشر الأواخر) . وكان مما نص العلماء رحمة الله عليهم من فضله وما ينبغي على المعتكف أن يشتغل به: كثرة تلاوة القرآن، وإذا كان بالليل فإن الأفضل له والأكمل أن يتلو القرآن وهو قائم في صلاته، بأن يجعل تلاوة القرآن في ليله في الصلاة. وبين النبي صلى الله عليه وسلم السنة والفضل لمن أدرك ليلة القدر أن يكون من دعائه أن يلتمس عفو الله عز وجل، فإن أعظم نعمة ينعم الله بها على العبد بعد الإيمان والتوحيد أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ماذا أقول لو أني أريتها؟ قال عليه الصلاة والسلام: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) فاستفتح عليه الصلاة والسلام بتمجيد ربه والثناء عليه بما هو أهله، وجعل الثناء مجانسا للمسألة والحاجة، فقال: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) . فيستشعر المسلم أن هذه العشر ليال مفضلة، وأنه لا ينبغي له أن يكون أخسر الناس صفقة من رحمة الله عز وجل، فإن الغبن غبن الآخرة، وأما غبن الدنيا فإنه يسير، والله يجبر كسرها، ولكن ليس لكسر الآخرة من جبران، ولذلك كان من سؤال المسلم: اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني، فالإنسان يستشعر أن هذه العشر أيام نفحات ورحمات وبركات ودرجات ومغفرات، وغير ذلك مما ينزل الله عز وجل من الخيرات. فاستشعر ألا تكون أخسر الناس صفقة في جنب الله عز وجل، بل عليك أن تحسن الظن بالله، وأن تقبل عليه بصدق ورغبة وقوة يقين في الله جل جلاله، فإن الله يحب من عبده أن يحسن الظن به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن أعز المواطن وأشدها كربا على العبد وهي حالة الموت-: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) . فالأفضل أن تدخل العشر على الإنسان وهو يحسن الظن بالله عز وجل، أنه لا أرحم ولا أكرم منه سبحانه، وأنه سبحانه وتعالى ربما يغفر للإنسان في لحظة من لحظات الخشوع، ولربما دمعة تغسل ذنوب العبد، فهذه شربة ماء لكلب من بغي من بغايا بني إسرائيل غفر الله بها ذنوبها، وغصن شوك يزحزح عن طريق المسلمين غفر الله به الذنب وأدخل به الجنة، والله كريم. فينبغي أن تدخل العشر على المسلم وهو يحسن الظن بالله، بأنه لا أكرم لا أعظم من الله سبحانه وتعالى في بره وإحسانه ورحمته، ويثني على الله بما هو أهله، ويتذكر العبد أنه مسيء ومخطئ ومذنب، وأنه لا ملجأ ولا منجى له من الله إلا إليه. أما الأمر الثاني: فيوصى المسلم في اتباعه لهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص، فإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر فليدخل المعتكف وهو يريد وجه الله، ولا يعلم أحدا بأنه معتكف، ويحرص على ألا يراه أحد من الناس، وألا يشعر الناس أنه معتكف؛ حتى يكون أبلغ في إخلاصه وإرادته لوجه ربه، وأن يكون كل ما يصدر منه من قول وعمل وتلاوة وركوع وخشوع وخضوع وسجود وإنابة وغير ذلك من ذكر الله عز وجل، خالصا لوجه الله، ليس فيه لأحد سواه حظ ولا نصيب، فإذا بلغ هذه المرتبة المنيفة تقبل الله أقواله وتقبل الله طاعته، ووجد لاعتكافه لذة وحلاوة وطلاوة، ووجد له أثرا في قلبه، وبارك الله له في ساعات ليله ونهاره. كذلك أيضا: ينبغي عليه أن يهيئ الأسباب لعمارة الوقت بذكر الله عز وجل، فهو يتصور لو أن هذه الليلة التي اعتكفها هي آخر ليلة يعتكفها، ويتصور هل يدرك رمضان آخر أم لا يدركه، ولو أدرك رمضان الآخر هل يكون مشغولا أو غير مشغول، فيحس أن الله أنعم عليه بنعمة إذ فرغه لهذا الخير، فيحرص على ألا يغبن في هذه المهلة، وأن يغتنم كل دقيقة وكل ثانية وكل لحظة. كذلك أيضا: ينبغي عليه أن يحرص في حال اعتكافه على كمال المراتب، وأكمل ما يكون الإنسان في ذكره لربه في الخشوع، والخشوع سر بين العبد وبين ربه في قلبه، فإنه إذا خشع قلبه لله سبحانه وتعالى سكنت جوارحه واستكانت وتذللت لله سبحانه؛ فأحب الله مقامه، وهذا من مقامات العبودية لله، وهو مقام الخشوع الذي أثنى الله على أهله، ووعدهم بجنات عدن، ووعدهم بالمنازل الحسنى في الآخرة. فإن كمال العبادة أن يكون المرء حريصا على الإخلاص وكثرة الذكر، وإذا صحب هذين الأمرين خشوع صادق فإنه بخير المنازل. إذا جاء يصلي وراء الإمام فليستشعر أنه ينافس غيره، ويسأل الله أن يكون أخشع الناس عند سماع هذا القرآن، وإذا جاء يصلي وهو وحده يسأل الله عز وجل أن يكون أخشع الناس في مقامه في تلك الساعة وتلك اللحظة، فيسأل الله عز وجل منازل العلى في طاعته، ويهيئ لنفسه الأسباب من الاستكانة والذلة. وكذلك: عليه إذا أدى العبادة ألا يفرح وألا يغتر، فإن الأمور مدارها على القبول، وألا يحس أنه يدل على الله بطاعته، فكل كلمة يقولها وكل طاعة يتقرب بها إلى الله فالفضل فيها كله لله سبحانه وتعالى، فكلما انتهى من طاعة أثنى على الله بما هو أهله، وعليه أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أوفر عباده حظا في هذه العشر وفي كل فضل، وفي كل رحمة ينزلها، وفي كل بركة يقسمها، وألا يحول بيننا وبين فضله ورحمته بما يكون من ذنوبنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم. حكم الاشتراط في الاعتكاف السؤال هل يصح الاشتراط في الاعتكاف؟ الجواب الاشتراط في الاعتكاف مذهب قياسي مبني على قياس عبادة على عبادة، حيث قالوا: يجوز الاشتراط في الاعتكاف كما يجوز الاشتراط في الحج، والاشتراط في الحج والعمرة أصله حديث ضباعة رضي الله عنها أنها قالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية. فقال لها: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني. فإن لك على ربك ما اشترطت) وهذا الأصل فيه ما فيه، ولكن المنبغي والأفضل أن الإنسان يدخل المعتكف وقد هيأ لنفسه أن يعتكف اعتكافا تاما كاملا، فإن جاءه ظرف ضروري خرج لهذا الظرف الضروري وقطع اعتكافه واستأنف بعد ذلك. أما الاشتراط فمسألة مبنية على القياس، ومن قال بها من أهل العلم فقوله صحيح على حسب قواعد العلماء بأن مذهب القياس على الأصل الصحيح صحيح، ولكن الإشكال: أن الأصل في الاعتكاف اللزوم، والأصل الذي قيس عليه وألصق به هذا الفرع مختلف فيه؛ لأن الاشتراط في الحج جاء على صورة خاصة، وخرج عن القياس، والقاعدة في الأصول: أن ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس. وتوضيح ذلك: أن الأصل تمام الحج، ولذلك قال تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196] فلما جاءت ضباعة رضي الله عنها وقالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) معناه: أن حالتها حالة مرض، ومع ذلك كلفت نفسها مع وجود المرض أن تحج، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم رخصة لوجود هذا العذر، وقال لها: (أهلي واشترطي) ولذلك قوي مذهب من يقول إنه خارج عن الأصل، وهذا الذي يطمأن إليه كما قدمناه في كتاب المناسك، وذكرنا أقوال العلماء في هذا الحديث، ووجهنا هذا الحديث، وبينا أن الأقوى والأشبه في هذه الرخصة تقييدها بالنص النبوي الوارد؛ لأن القاعدة في التعليل والأقيسة: أن تفقه وتفهم المراد من نفس النص، فالنص إن جاء أصلا بذاته قست عليه غيره؛ لأن الأصل إتمام الحج، وهنا يقول لها: (محلك حيث حبسك) مع أنه في الحج والعمرة لو أحصر بالعدو فإنه يتحلل بالدم، وهنا يتحلل بدون دم، وهذا يقوي على أنه خارج عن الأصل، ولذلك مذهب طائفة من العلماء ومذهب الجمهور على أنه يتقيد بما ورد، وأنه لا يقاس عليه من لم يكن عليه حاجة من مرض ونحوه. ولذلك لو جئنا نقيس الاعتكاف، فالاعتكاف من حيث هو عبادة خاصة لها أصل شرعي قصد منه تهذيب النفس وقيامها على محبة الله ومرضاته على وجه تام كامل لتحصيل فضيلة ليلة القدر، فهو إذا جاء يشترط ويخرج في الليل أثناء الاشتراط خالف المقصود؛ لأن المقصود لزوم المساجد للعبادة. أنا أقول هذا كمسلك أصولي، أي: الكلام على المسألة كمسألة أصولية، لكن لو أنك سألت عالما وقال بالاشتراط ورأيت قوله؛ فلا بأس أن تعمل به، لكن فيما يظهر من ناحية الأدلة ومن ناحية النظر في النصوص الواردة أن مذهب الاشتراط مذهب قياسي بلا إشكال، قاسوا الاعتكاف على الحج والعمرة، والحج والعمرة نفس الاشتراط فيه خلاف. ثم إذا قلنا في الحج والعمرة بجواز الاشتراط فقد سلكوا مسلكين: مسلك يقول: أنا أقتصر على النص، فالنص جاء في ضباعة، وهي مريضة، فالمريض الذي عنده مرض ودخل الحج والعمرة وهو مريض يشترط، أما من كان صحيحا فإنه لا يشترط، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى ذي الحليفة بعد قضية ضباعة، وأهل مع الصحابة وما قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، ولم يقل لمن أراد النسك: اشترطوا على أنفسكم: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني. ما قاله إلا لامرأة شاكية عندها عذر، فنعمل كل نص كما ورد. نقول: الأصل إتمام الحج والعمرة، ونفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نشترط إلا عند وجود العذر، والقاعدة: أنه إذا جاء النص على وجه خاص خارج عن القياس والأصل وفيه ما يشعر بتخصيص الحكم به؛ وجب تخصيص الحكم به. فأنت إذا رأيت الاشتراط تخفيف ومخالف للأصل الملزم بالإتمام، ومسقط للدم الواجب عند الحصر، فذلك كله خلاف نصوص واردة، أما الإتمام الذي ألزمنا به فلنصه تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196] وهذا لا يتم؛ لأنه إذا قال: إن حبسني حابس. فإنه يريد أن يتحلل مباشرة. ثانيا: أنه لا يتم للمرض، والأصل في المرض: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى} [البقرة:196] له فديته، وله ارتفاقه في المرض، فجاء لأن وجود هذا المرض الذي يحول بينه وبين إتمام الحج أن يشترط ويحج، فخالف الأصول، فإذا جئنا نقيس فينبغي أن نقيس على أصل لذاته يمكن القياس عليه، أما بالنسبة لأصل مختلف في عمومه لذاته، أي: حتى في نفس العبادة التي هو فيها مختلف فيه هل هو عام بحيث يشترط في كل حج وعمرة، ولكل شخص أن يشترط؟ أم هو خاص بمن كان عنده حاجة وضرورة ودخل الحج والعمرة؟ ولو أردت أن تحرر القياس صحيحا فتقول: ممكن أن يشترط المعتكف إذا كان عنده مرض أو عنده ضرورة، حتى يكون هناك نوع من التوافق في تركيب الفرع على الأصل، أما أن يأتي الرجل السوي ويقول: أشترط أن أخرج للاتصال على والدتي، وأشترط أني بعد المغرب أتصل على أهلي، وأشترط أنني كذا وأنني كذا! هذا كله خلاف الأصل. قد كان عليه الصلاة والسلام يمر على المريض ولا يعرج عليه كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام لا يخرج إلا لحاجة. فنحن نقول: الأصل في الاعتكاف؛ بل الاعتكاف أصله يدل على اللزوم والملازمة للعبادة، فإذا أصبح الشخص يخرج كل حين، فيخرج لقضاء حاجته، ثم يشترط فطوره، ثم يشترط سحوره، وإن تيسر بينهما أكلة بين الأكلتين فلا بأس أن يشترط، فتجد الآن الشخص ينام النهار من بعد الفجر إلى الظهر، ثم بعد الظهر إذا ذهب وتوضأ ربما أنه يجلس بين الظهر والعصر يحدث أخاه عن بعض الأمور التي وقعت له في وضوئه أو زحامه، أو ما رآه أثناء خروجه ودخوله، ثم إذا أذن العصر قرأ ما تيسر له من القرآن، وقبل المغرب ينشغل بتهيئة فطوره، ثم إذا انتهى من الفطور رغب في أن يأكل شيئا ما إن تيسر، وبعد العشاء يصلي التراويح، فإذا انتهى من التراويح أصبح محتاجا كل حين إلى الذهاب إلى دورة المياه. وهذا واقع، حتى عدنا لا نجد للاعتكاف لذة! ثم يذهب لقضاء حاجته، ولربما يكون قد اشترط أن يأكل بين التراويح وبين التهجد شيئا يعين على التهجد، وكأنه جاء إلى أمر فيه كرب شديد أو خطب عظيم، فلا يوجد استشعار أن الاعتكاف مدرسة يراد بها تهذيب النفوس بالاستغناء بالله عز وجل. وأبو ذر رضي الله عنه مكث أربعين يوما على ماء زمزم، فلو أننا أخذنا بالفتوى وقلنا: عنده طعام وطعم وشفاء سقم، فلا حاجة في الاعتكاف لأن يخرج للسحور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه طعام طعم وشفاء سقم) . وإذا خرج بعد التراويح إلى طعامه وأكل ما تيسر ثم صلى التهجد فيحتاج أيضا أن يذهب لقضاء حاجته، ثم إذا انتهى من التهجد اضطجع؛ لأنه يحس بالإرهاق والتعب، ثم يؤذن الفجر! فأين الاعتكاف؟! وهذه عبادة يراد بها قوة الشكيمة في الطاعة، وأناس خرجوا من الاعتكاف وهم يحبون القرآن وختمه كل ثلاث ليال؛ لأنه في أثناء الاعتكاف وطن نفسه على ذكر الله عز وجل، وأناس يعتكفون فيخرجون من الاعتكاف بالتهذيبات: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) ، والمداومة على (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، والمداومة على أذكار الصباح والمساء، حتى أنه حفظها أثناء العشرة الأيام؛ فأصبحت ديدنه للعام. فهذه الأوقات معينة يقصد منها تهذيب النفوس، ولا يقصد منها الجلوس مع زيد وعمرو، فقد تجد المعتكف الكامل الاعتكاف الذي يدخل وهو يحس بلذة المناجاة لله، وحلاوة الأنس بالله سبحانه وتعالى، حتى إن أكره ساعة عنده أن يأتي أحد يقطعه عن ذكره لله سبحانه وتعالى، فيقول في نفسه: طيلة العام وأنا بين الناس، أليست هذه ساعات وسويعات أتفرغ فيها لذكر الله عز وجل؟! وخاصة في الليل، ففي الليل لا أعرف أحدا، وأستغني بالله سبحانه وتعالى. وليس معنى ذلك أنه يهين البدن، لكن ينبغي أن يهيئ الإنسان نفسه لهذه المدرسة وهذه العبادة، بحيث تكون شكيمته في الطاعة قوية، وعلى قدر الجد والاجتهاد في الطاعات والقربات تتبوأ المنزلة، فانظر إلى العلم إلى القيام إلى الصيام إلى الذكر، فأي عبادة جعل الله فيها مراتب كاملة وحصلها المكلف على أتم وجوهها فإنه يجد ثمرتها على أتم الوجوه وأكملها؛ فلذلك ينبغي لطالب العلم وعلى العامة أن يعلموا، كيف يكون الإنسان معتكفا على أتم الوجوه وأكملها، وجماع الخير كله في تقوى الله سبحانه وتعالى والأنس به جل جلاله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن اتقاه، والتمس رضاه، ووفقه فيما رجاه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، وموجبا لرضوانه العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (362) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [8] العقود إما أن تكون لازمة أو غير لازمة، وقد تكون لازمة لطرف جائزة للطرف الآخر، وعقد الإجارة من العقود اللازمة للطرفين، فلا تنفسخ إلا برضا الطرفين، أو بتلف العين المؤجرة، أو بموت المرتضع أو المرضعة، أو يموت الراكب في الطريق، ولا ينفسخ العقد بضياع نفقة المستأجر. هذه مسائل تعتبر قواعد تحتذى في معرفة أحكام فسخ الإجارة، وقد ذكر الشيخ أمثلة من الواقع المعاصر، وأمثلة على الإجارات الطبية، وهي مسائل يهم كل مسلم معرفتها. أنواع العقود بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وهي عقد لازم] . شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان ما يتعلق بنوعية عقد الإجارة، والعقود التي تقع بين الناس منها ما أوجب الله عز وجل على المتعاقدين أن يمضيا ويتما العقد على الوجه الذي اتفقا عليه، ومنها ما خير الله فيه الطرفين، فكل منهما بالخيار بين أن يتم العقد ويمضيه وبين أن يتراجع عنه، سواء وجد السبب أو لم يوجد. فالنوع الأول من العقود: هو الذي فرض الله على كل واحد من المتعاقدين أن يمضي فيه ولا يتراجع عنه إلا برضا من الطرف الثاني، ويسمى بالعقد اللازم. وأما النوع الثاني: فهو الذي خير الله سبحانه وتعالى فيه كلا المتعاقدين، فجعل له حظ النظر في أن يمضي في العقد أو يلغيه، سواء وجد سبب أو لم يوجد، وهذا يسمى بالعقد الجائز. وهناك نوع ثالث من العقود: وهي العقود التي تكون لازمة لطرف وجائزة بالنسبة لطرف ثان، فهذا النوع من العقود فرض الله على أحد الطرفين دون الآخر أن يتم ما التزم به، والطرف الثاني بالخيار؛ إن شاء أتمه وإن شاء امتنع. فمثال النوع الأول: البيع، فإذا أوجب المتعاقدان الصفقة وأتما العقد، فكل منهما مخاطب من الله سبحانه أن يتم الاتفاق والعقد على حسب ما وقع بينهما. وأما النوع الثاني: فمثل الوكالة والشركة، فإذا شاركت شخصا وقلت له: أدفع مائة ألف وتدفع أنت مائة ألف، واتفقتما على الشركة، ثم قلت بعد ساعة أو بعد نصف ساعة أو بعد كلامك مباشرة: لا أريد. فلك ذلك، ولو جئت بعد سنة في أي لحظة من ليل أو نهار تقول: لا أريد. فلك ذلك، وهذا يسمى بالعقد الجائز، أي: لك فسخه ولك حظ النظر في الفسخ والإمضاء في أي وقت وأي ساعة، سواء وجد العذر أو لم يوجد، وليس من حق الطرف الثاني -وهو ندك ونظيرك- أن يقول: لا أفسخ. بل لك أن تقول له: الخيار لي، أفسخ سواء وجد العذر أو لم يوجد، فلست بملزم. ومثال النوع الثالث: الجعالة، فمن قال: من أحظر سيارة مفقودة فله عشرة آلاف. فكلا الطرفين بالخيار، لكن لو أن شخصا وجد السيارة المفقودة عند وجدانها تراجع صاحب السيارة عن الكلام الذي قاله، أي: وجدها قبل أن يتراجع عن هذا العقد، فحينئذ نلزمه بالعشرة الآلاف، ونقول للطرف الثاني: لست بملزم بأخذها، إن شئت أخذتها وإن شئت تركتها. إذا: الجعل يكون لازما لطرف دون طرف ثان. أو مثل ضمان الأموال بالاستهلاك، وكالكتابة، ونحو ذلك من العقود. وأما بالنسبة للإجارة فقال المصنف: (وهي) أي: الإجارة (عقد لازم) . فكل نوع من أنواع الإجارات وقع بين طرفين فأكثر فإننا نلزم كلا الطرفين بإمضاء العقد، ونقول: ليس من حقك الرجوع عن هذا العقد إلا برضا الطرف الثاني. فلو قال له: أجرتك عمارتي بمائة ألف سنة كاملة ابتداء من غد. وقال: قبلت. وأتم العقد وأوجب، وافترقا؛ على القول باشتراط خيار المجلس أو لم يفترقا على القول الثاني؛ فإنه إذا تم العقد لزم الطرفين، وليس من حق صاحب العمارة أن يقول: تراجعت. ولا من حق الذي يستأجر أن يقول: تراجعت. نقول للمؤجر: أنت ملزم بإتمام الصفقة، ويجب عليك أن تسلم العمارة في المدة المتفق عليها، ونقول للمستأجر: يجب عليك أن تمضي في استئجار العمارة. هذا في إجارة الدور. ولو استأجر شخصا لعمل عنده في البيت فقال له: اخدم هذا البيت، أو اعمل عندي في البيت، وقم على مصالح بيتي؛ وأعطيك ألفا في كل شهر. أو استأجره لحراسة مزرعة أو القيام عليها، فقال له: لك في الشهر ألف ريال، أو تعمل عندي هذا الشهر ابتداء من كذا إلى نهاية كذا بألف. فقال: قبلت. فكلا الطرفين ملزم بهذا العقد، وليس من حق صاحب المزرعة أن يتراجع، ولا من حق العامل أن يتراجع. فإذا: المصنف حينما قال: (وهي) أي: عقد الإجارة بجميع صور الإجارة. (عقد لازم)، واللازم: هو العقد الذي لا يملك أحد الطرفين الرجوع عنه أو فسخه إلا بإذن الآخر، فلو أن شخصا جاء لرجل وقال له: أجرني سيارتك إلى مكة بألف. فقال: قبلت. وتمت الصفقة بينهما، ثم جاءه بعد ساعة أو بعد فترة أو في نهاية المجلس وقال: طرأ عندي ظرف، وأريدك أن تقيلني من هذه الإجارة، قال: أنت في حل. حينئذ تنفسخ الإجارة، لكن لو قال: لا أقيلك. فإنه يلزم بالإجارة ويلزم بإتمام العقد على الصفة التي اتفق عليها الطرفان. عقد الإجارة من أنواع العقود اللازمة قال رحمه الله: (وهي عقد لازم) . أما هذه المسألة -وهي مسألة لزوم عقد الإجارة- فهي مسألة عامة شاملة لجميع أنواع الإجارات، فلو سألك الطبيب والمهندس والخياط والنجار والحداد عن أي صفقة من صفقات الإجارة أتمها وأوجبها مع الطرف الثاني: هل له حق الرجوع أو ليس له حق الرجوع؟ تقول: الأصل أنك ملزم والطرف الثاني ملزم بإتمام هذا العقد الذي اتفقتما عليه، وليس لك حق الرجوع إلا بإذن صاحبك، إلا فيما يستثنى من الأسباب الموجبة للفسخ كما سيأتي إن شاء الله بيانها. بقيت مسألتان: المسألة الأولى: هل لزوم الإجارة محل إجماع أم فيه خلاف؟ الجواب جماهير السلف والخلف والأئمة ودواوين العلم كلهم رحمة الله عليهم على أن عقد الإجارة عقد لازم، ولم يخالف في هذه المسألة إلا بعض الفقهاء، وهو قول للأفراد، ويحكى عن بعض أئمة التابعين، ولكنه قول شاذ لا يقدح في الإجماع، والإجماع على أن عقد الإجارة عقد لازم. المسألة الثانية: ما هو الدليل على أن عقد الإجارة عقد لازم؟ دل على هذه المسألة دليل النقل والعقل: أما دليل النقل: فإن الله يقول في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمر بالوفاء بالعقد وإتمامه، والمضي فيه على الوجه الذي اتفق عليه الطرفان، وكذلك عمم، فقال: (أوفوا بالعقود) ، ولم يستثن عقدا، فدخلت الإجارة تحت هذا العموم، ونقول: الإجارة لازمة لأنها عقد، والله فرض علينا في العقود أن نتمها ونمضيها على وجهها، فليس لأحد الطرفين الرجوع عن هذا العقد الذي اتفقا عليه. أما دليل النظر: فالقياس الصحيح، قالوا: الإجارة عقد لازم كالبيع؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة. وتوضيح هذا القياس: أن الفرع الذي يستدل له هو الإجارة، والأصل المقيس عليه هو البيع، والحكم لزوم العقد، والعلة التي تربط بين الطرفين كالآتي: نحن متفقون جميعا على أن عقد البيع عقد لازم، ولا يجوز للمسلم إذا أتم البيع أن يتراجع عنه إذا حكم بلزومه، إلا ما يستثنى من حالات الفسخ، وإذا ثبت أن البيع لازم فالإجارة كالبيع. وجه الشبه بين الإجارة والبيع أنك في البيع تعاوض، فتدفع المال لقاء السلعة والعين والذات، وفي الإجارة تدفع المال لقاء المنفعة، فكما أنه يجب الوفاء في ذلك العقد من عقود المعاوضات كذلك يجب الوفاء في هذا العقد من عقود المعاوضات، فالمسلم خرجت منه كلمة التزم بها أن يؤجر، فنلزمه بهذه الكلمة كما نلزمه إذا خرجت منه وهو ملتزم بالبيع، فنقول: نلزمك أن تؤجر كما يلزمك أن تبيع وتسلم المبيع. وهكذا نقول للمستأجر: يلزمك أن تدفع الثمن وتمضي الإجارة، كما يلزم المشتري دفع الثمن وإمضاء البيع. قوله رحمه الله: (وهي عقد لازم) . فاللزوم هنا لكلا الطرفين كما ذكرنا، وليس من اللازم الذي يكون لأحد المتعاقدين دون الآخر. المسألة الأخيرة: لزوم الإجارة إذا تأمله المسلم وجد فيه الخير الكثير، وعلم علم اليقين أن هذه الشريعة شريعة رحمة بالعباد، وأن الله سبحانه وتعالى دفع عن الناس الضرر، فلو كانت عقود الإجارة غير لازمة، لكان من أراد أن يؤجر عمارة في موسم أو نحوه، فجاءه رجل وأعطاه كلمة على أنه يستأجر منه، ثم بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أو بعد فوات المستأجرين قال: لا أريد. فسيكون عليه ضرر بفوات موسم التأجير! وضرر في فوات المتعاقدين والطالبين للسلعة، ثم يكون ذلك وسيلة للإضرار بمصالح الناس وأذية بعضهم لبعض، فيتربص التجار بعضهم ببعض، فيرسلون لرجل من يتم معه الإجارة وعقدها، ثم يتراجع عند فوات سوق تلك العين المؤجرة. فعلى هذا: لا شك أن لزوم عقد الإجارة فيه حكمة عظيمة، ولو لم نقل: إن عقد الإجارة لازم لتلاعب الناس بحقوق بعضهم بعضا، ولأدى ذلك إلى استغلال الإجارة كوسيلة للضرر، وأدى ذلك إلى فوات حقوق الناس، وأدى ذلك أيضا إلى الشحناء والبغضاء والعداوة. إلى غير ذلك مما لا تحمد عقباه. حكم منع المؤجر تسليم العين المؤجرة بعد الاتفاق قال رحمه الله: [فإن أجره شيئا ومنعه كل المدة أو بعضها فلا شيء له] . الفاء: للتفريع، (فإن أجره شيئا ومنعه كل المدة أو بعضها) . في الإجارة طرفان: مؤجر ومستأجر، فأنت إذا قلت: إن عقد الإجارة عقد لازم ينبغي أن تفرع على هذه القاعدة وهذا الأصل؛ أن تفرع اللازم الذي يتعلق بالمؤجر، وأن تفرع اللازم الذي يتعلق بالمستأجر، فابتدأ رحمه الله بالمؤجر. فقال: (فإن منعه) أي: منع المالك من الانتفاع من العين المؤجرة، ولا يمنع إلا إذا أخلف وعده بإتمام الصفقة، فهو يمتنع من إتمام العقد ويقول: هذه العمارة اتفقت معك أنها بمليون ولا أريد أن أعطيكها، أو لا تستلم العمارة، أو ليس لك عندي شيء، أو لا أعطيك مفاتيحها. فمنعه أن يستوفي حقه، فإذا منع المؤجر فهو بالإجماع يعتبر ظالما. وإذا ثبت عند القاضي أن شخصا أتم عقد إجارة وتلاعب وأخلف وعده، فإن من حق القاضي أن يعزره، ثم التعزير يتفاوت على حسب الضرر الذي يلحق، فالإجارات التي فيها مصالح عظيمة وأضرار كبيرة يعزر فيها أكثر من الإجارات التافهة واليسيرة. فإذا: إن منعه يأثم؛ لأن الله فرض عليه وأوجب عليه بعدما أتم العقد أن يمضي، وأن يفي بما التزم به وما أخذه من العهد على نفسه. ثم يبقى السؤال إذا حكمنا بكونه آثما فالإثم مسئولية الآخرة، فيبقى النظر عن مسئولية الدنيا من حيث فوات المصلحة، وامتناع صاحب العين من تمكين المستأجر من حقه، فنقول: نحكم بإثمه، ونحكم بقهره على هذا العقد إن كان في بداية المدة. مثال ذلك: لو أن رجلا استأجر عمارة بمائة ألف لشهر ذي الحجة، فلما جاء المستأجر يريد أن يستأجر منعه في يوم بداية العقد، أي: جاءه المستأجر وقال له: أعطني المفتاح في ليلة واحد ذي الحجة حتى أستفيد من العمارة التي استأجرتها. فقال: ليس لك عندي شيء. فمن ناحية شرعية يفرض عليه، ويلزم بتمكين المستأجر من حقه، ولا يقف القضاء عند قوله: هذا آثم وظالم، بل يفرض عليه ويقول له: أنت تمنع صاحب الحق من حقه؛ لأن منفعة سكنى العمارة خلال الشهر ليست بملك لك، فقد بعتها وأصبحت ملكا للغير، فأنت بامتناعك من تسليم المفتاح والتمكين من الإجارة منعت حق غيرك، وهذا ليس بملك لك، وقد خرجت عن ملكيتك خلال شهر ذي الحجة. فإذا: (الفاء) : للتفريع، يتفرع على قولنا باللزوم أننا نلزمه ونقهره بالقوة على دفع العين لكي ينتفع بها المستأجر، سواء كانت أرضا أو دارا أو سيارة أو أي شيء اتفق عليه، فنلزمه بذلك. فإذا منعه لم يخل هذا الفعل من أحوال: الحالة الأولى: أن يمنعه قبل ابتداء العقد ويقول له: ليس لك عندي شيء، وأنا راجع عن الإجارة. فحينئذ إذا رفع إلى القضاء يفرض عليه القضاء التمكين، ويمكن تلافي هذا الخطأ بإلزامه في مدة الإجارة. فإذا اشتكى إلى القاضي وأحضر القاضي خصمه وألزمه، وابتدأت الإجارة وأخذ حقه كاملا فلا إشكال؛ لأنه منع من حقه وتوصل إلى حقه بالقضاء. الحالة الثانية: أن يقول له: لا تأخذ شيئا، وليس لك عندي شيء، والعقد الذي بيني وبينك لاغ. فألغى العقد من طرف واحد، فالرجل حاول معه وأراد أن يقنعه فلم يستطع حتى مضى شهر ذي الحجة، فإذا مضى شهر ذي الحجة لم يستحق هذا المانع شيئا من الأجرة؛ لأن الأجرة مركبة على المنفعة، وقد منع المنفعة. قد يقول لك قائل: إنه إذا منعه ومضت المدة نلزمه بدفع الأجرة، فكون هذا خان وامتنع فعلى الآخر أن يفي ولا يمتنع: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) وقد التزم أن يعطيه مائة ألف على شهر ذي الحجة. نقول: التزم المائة ألف لقاء منفعة، والمنفعة المشتراة غير موجودة، كما لو باعه شيئا ولم يعطه إياه، فإذا: لما كانت مستحقه لشيء ومبنية على شيء، فإنها تفوت بفواته، هذا إذا منعه المدة كلها. الحالة الثالثة: أن يمنعه بعض المدة، فقال له: لا أؤجرك، والعقد الذي بيني وبينك لاغ، فمضى من الشهر عشرة أيام وبقي عشرون يوما سكنا، فيستحق أجرة العشرين يوما. ولو منعه عشرين يوما وتمكن من حقه في العشر الأواخر من الشهر يكون له ثلث الأجرة، ولو منعه خمسة عشر يوما وتمكن من حقه في الخمسة عشر يوما، أو سلم له واقتنع بعد نصف الشهر وسلمه المفتاح، نقول: له أجرة نصف الشهر. وهذا يختلف تبعا لأحوال الناس: إما أن يمنعه كلية، ولكنه يتمكن من حقه من ابتداء المدة، ويستوفي حقه كاملا، فلا إشكال، وإما أن يمنعه ولا يتمكن من حقه بالكلية فلا يستحق الأجرة، وإما أن يمنعه عن بعض الأيام دون بعضها، وحينئذ يستحق بقدر ما أخذ من الأيام، ويستحق الأجرة بقدر ما استفاد المستأجر من الأيام، إن كان نصف الشهر فنصف الأجرة وهكذا. لكن هنا مسألة: لو أنه اتفق معه على أن يؤجره شهر ذي الحجة، وكل يوم من شهر ذي الحجة بألف، فاتفق معه على شهر ذي الحجة، ولكن لم يقل: كل يوم بألف، بل قال له: هذه ثلاثون ألفا لقاء شهر ذي الحجة، وتم العقد على هذا، ثم شاء الله عز وجل أنه منعه من الخمسة عشر يوما الأولى، ثم مكنه من بقية الشهر، وكان الشهر ناقصا، فهل يستحق الخمسة عشر ألفا أو يستحق الأربعة عشر ألفا؟ الجواب يستحق أربعة عشر ألفا، ولا يستحق الخمسة عشر؛ لأن نقصان الشهر إلى تسع وعشرين يوما في صورة التمام والكمال، ولا تكون في صورة البعض، ولذلك قال بعض العلماء: إنه في هذه الحالة لا يستحق إلا عن أربعة عشر يوما؛ لأنها تجزأت بتجزؤ المنفعة المستوفاة، فله حق كل يوم بحسبه، لكن لو أنه أوجب الصفقة عن الشهر كاملا، ومكنه من الانتفاع ولم يمنعه، وظهر أن الشهر تسعة وعشرون يوما، فهذا استحقاق مبني على الشهر المسمى، وليس على أجزاء الشهر، وفرق بين الاتفاق على الأجزاء وبين الاتفاق على الكل، وكذلك لو صام شهرين متتابعين وابتدأ من أول الشهر، فإنه قد يصوم كلا من الشهرين تسعة وعشرين يوما، فتصح كفارة له عما أوجب الله سبحانه وتعالى، لكن لو ابتدأ أثناء الشهر وابتدأ في اليوم الثاني فلابد وأن يصوم ستين يوما قولا واحدا عند العلماء. ففي هذه الحالة يكون المؤجر هو الذي أدخل على نفسه النقص. وقال بعض العلماء: بل يستحق خمسة عشر ألفا، ووجه ذلك أن العقد تم على الشهر نفسه، فإن كان قد مكنه من النصف كان نصف المسمى لنفس المدة التي استوفي فيها، ويكون له نصف الشهر؛ لأن العقد باسم الشهر نفسه. ولكن القول الأول أوجه وأصح؛ لأنه حينما منعه أضر بمصلحة نفسه، وانتقل إلى التجزئة بحسابها، وهذا أصل عند العلماء كما ذكروها في الفسوخات، وذكروها في الأمور الطارئة التي توجب زوال عقد الإجارة. حكم رجوع المستأجر عن الإجارة بعد البدء في العقد وقوله: [وإن بدأ الآخر قبل انقضائها فعليه الأجرة] . هذا من دقة المصنف رحمه الله: فإنه فرع الأحكام في لزوم عقد الإجارة على المؤجر وعلى المستأجر. قد يقع الامتناع ويقع النقض للعهد والعقد المتفق عليه بين الطرفين من الشخص المستأجر، فلو أن رجلا جاء واستأجر بيتك، وقال: أجرني بيتك هذا بعشرة آلاف في شهر رمضان. فقلت له: قبلت. وتم العقد بين الطرفين على أنه يستأجر شهر رمضان بعشرة آلاف، فامتنع من سكنى البيت، قال: العقد الذي بيني وبينك لاغ. حتى مضى شهر رمضان كاملا وقد سلمته المفاتيح ومكنته، أو مكنته من تسلمها، وقلت له: العقد الذي بيني وبينك كما هو، وهذا بيتك في شهر رمضان، تريد تأتي فهذا حقك، وتريد تتخلف فإن البيت باسمك ولا أؤجره لأحد، ولست بمسئول عنه؛ لأنني بعت منفعته ولا آخذ حق الغير. فبقيت على التزامك. إن كان هذا الشخص الآخر امتنع بالكلية وقد مكنته فإنه يلزم بدفع الأجرة كاملة؛ لأن الله فرض عليه العقد، وأنت قد مكنته من حقه، فتستحق الأجرة كاملة، وهو الذي أدخل الضرر على نفسه بامتناعه من الإجارة، وهو الذي فوت على نفسه مصلحة الارتفاق بهذه العين المؤجرة، فعليه أن يتحمل مسئولية نفسه. أما لو أنه أثناء العقد استأجر شهر رمضان، فامتنع من أول الشهر وجاء في نصفه الثاني، أو العكس: سكن أول رمضان -النصف الأول- ثم جاء في النصف وقال: ما أريد بقية الشهر. وليس ثم عيب يوجب الفسخ، وليس هناك أمر يستحق به ما قاله، ففي هذه الحالة نقول: أنت ملزم بالعقد على مدته التامة الكاملة، وليس من حقك الفسخ؛ فإن بدأ فيدفع الأجرة كاملة. أمور ينفسخ بها عقد الإجارة قال رحمه الله: [وتنفسخ بتلف العين المؤجرة، وبموت المرتضع، والراكب إن لم يخلف بدلا، وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه، لا بموت المتعاقدين أو أحدهما، ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه] . يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
ينفسخ عقد الإجارة بتلف العين المؤجرة فقوله: [وتنفسخ بتلف العين المؤجرة] . (الفسخ) في لغة العرب: الإزالة، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله وأماطه عن بدنه، فلما ذكر المصنف رحمه الله لزوم عقد الإجارة ناسب أن يتكلم عن الأحوال التي تستثنى، ويكون حكم الشرع فيها بجواز فسخ هذا الشيء الذي لزم الطرفين. وقوله: (العين المؤجرة) أي: كالبيت، فلو قال له: أجرني هذا البيت بمائة ألف -مثلا- هذه السنة. وقال: قبلت. فلو انهدم البيت -تلفت العين- فقد فاتت المنفعة التي اشتراها المستأجر، وبفوات المنفعة يفوت عقد الإجارة؛ لأنه لا يمكنه أن يسكن في هذا البيت وهو منهدم، وقد اتفق الطرفان على أنه مؤجر له بسكنى هذه الدار، فإذا أصبحت الدار غير موجودة فإنه حينئذ يحكم بانفساخ العقد، وكما أنه لو باع دابة ثم ماتت الدابة قبل إتمام الصفقة، أو بستانا، ثم جاء إعصار وأحرق البستان قبل إتمام الصفقة؛ فإن هذا يوجب الفسخ؛ فكذلك في الإجارة. وكذلك إذا قال له: بعني هذه العلبة من الطعام أو نحوه، فقال: بكم؟ قال: بخمسة ريالات. فقال: اشتريت. فلما أراد أن ينزلها البائع سقطت من يده وانكسرت، فلا يمكن أكل هذا الطعام الذي انكسرت علبته أو أريق على هذا الوجه، وفي هذه الحالة لا يمكن الانتفاع بهذه العين، فتقول: انفسخ عقد البيع على هذا المعين وفات بفواته. وحينئذ يعقد معه على عين أخرى إذا أراد وإلا فسخ البيع. فإذا: إذا فاتت العين المقصودة التي تم العقد عليها، فإنه حينئذ يحكم بانفساخ عقد الإجارة. وتلف العين مثل انهدام الدار، وموت الدابة والبعير في القديم، ومثله في زماننا السيارات، فلو أنه اتفق معه على إجارة سيارة بعينها إلى مكة أو إلى جدة أو إلى المدينة، ثم في الطريق تلفت مكينة هذه السيارة، حتى لا يمكن أن يتم بها العقد على الوجه المعتبر، فحينئذ يحكم بفوات العقد. وإذا تلفت العين فلها صور: الصورة الأولى: أن تتلف العين قبل ابتداء مدة الإجارة. الصورة الثانية: أن تتلف العين أثناء مدة الإجارة. فأما في حالة تلف العين قبل ابتداء الإجارة: فينفسخ العقد بالكلية، وإذا كان قد قبض الثمن وجب عليه رد الثمن إلى صاحبه، وهذا لا إشكال فيه. وأما إذا تلفت العين أثناء الانتفاع، مثلا: كان ساكنا في الدار فسقطت الدار وانهدمت، أو سكن نصف شهر وانهدمت في نصفه الباقي، أو احترق البستان أو نحو ذلك من المؤجرات، فحينئذ يحكم بلزوم أجرة ما مضى وفسخ الإجارة فيما بقي، ويستحق الأجرة بقدر ما أخذ، ثم الباقي يحكم بانفساخ عقد الإجارة فيه. لكن أيضا هناك تفصيل عند العلماء رحمهم الله في مسألة تلف العين؛ فجمهرة أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة رحمهم الله على أن انهدام الدار يوجب انفساخ عقد الإجارة، لكن فقهاء الحنفية رحمهم الله وبعض الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والإمام الشافعي يقولون: أنه إذا انهدمت فينظر فيها، فإن بقي شيء من الدار فيه منفعة انفسخت الإجارة فيما لا منفعة فيه، وتبقى في القدر الذي فيه المنفعة. من أمثلة ذلك: الدار التي لها فناء وحوش، فإذا استأجر دارا بحوشها، مثل الفلل الآن، يقولون: إذا سقطت الفلة وانهدمت، أو سقطت الفلة وبقي جزء منها صالح للسكن، فإننا نقدر قيمة هذا الجزء المنهدم من الأجرة، ونقول للمستأجر: انتفع بما بقي، وانتفع بهذا الفناء والحوش؛ قالوا: لأنه يمكن أن يستغله لحفظ المتاع، ويمكن أن يستغله لحفظ الحيوان، ويمكن أن يستغله في مصالحه؛ لأن الحوش يمكن الارتفاق به بخلاف البناء. قالوا: فحينما اتفق الطرفان على بناء وفناء، فمعنى ذلك: أنه يريد للسكن ويريد الارتفاق بالفناء، فإن فات السكن بقي عقد الفناء كما هو، وهذا في الحقيقة إذا نظر إليه من حيث الأصول فله قوة، أعني أنه من حيث الرأي والنظر صحيح؛ لأن القاعدة تقول: الإعمال أولى من الإهمال. والقاعدة المشهورة تقول: الأصل بقاء العقود. فلو جاء شخص يتكلم ويقول: انهدمت الدار. نقول: إذا تنفسخ فيما انهدم؛ لأن ما شرع لعلة يتقيد بها، فإذا كانت العلة هي كون الدار منهدمة فإن الانهدام هو الذي ينفسخ في عقد الإجارة، ويتقيد به. إلا أن القول الأول أدق وخاصة في المصالح، لأنك إذا جئت تنظر إلى مصالح الناس وإلى الضرر، فلا شك أن القول أنها تنفسخ كلية قوي؛ لأنك قد تستسمح الفناء وترضى به لوجود البناء، وقد ترضى بالبناء لوجود الفناء، فإذا كان رضا الإنسان بالبناء وكان الفناء تبعا، فلا ينبغي أن نجعل التابع أصلا، ولذلك قالوا: من الصعوبة بمكان أن نلزم في هذه الحالة، فمادام أنها انهدمت فالمتفق عليه الشيء الكامل، وإذا ذهب بعضه فإنا لا نلزمه به؛ لأن المستأجر استأجر شيئا كاملا لا شيئا ناقصا، ولو كان يريد الفناء لقال: أجرني فناءك. لو كان يريد جزءا من الدار لقال: أجرني غرفة. لكن هو قال: أجرني الدار كاملة، فبأي حق نلزمه بالبعض وقد اتفق على شيء كامل متكامل، فهو ما اتفق معه على فناء. وكل من القولين له وجه، فإن من قال: نفسخها في الجزء الذي انهدم ولا نفسخها فيما بقي، فقوله أشبه بالقواعد من جهة النظر والأصول، ومن قال: إنها تنفسخ كلها، فلقوله حظ من حيث الأصل الذي ذكرناه: أن العقد تم على شيء كامل يفوت بفوات بعضه أو أغلبه، ولما فيه من الضرر على الناس. ينفسخ عقد الإجارة بموت المرتضع قال رحمه الله: [وبموت المرتضع] . وتنفسخ الإجارة بموت المرتضع، عندنا المرتضع والمرضعة، وقد ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى أحل الإجارة على الرضاع، وقال سبحانه وتعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6] فأثبت الأجر واستحقاق الأجرة بالرضاعة، فدل على مشروعية التعاقد على الرضاع. فمن الصور التي تنفسخ فيها الإجارة: إذا استأجر امرأة لإرضاع بنته، فاتفق معها على أن ترضعها سنة كاملة، فماتت الصبية في منتصف العام، أو ماتت قبل ابتداء الإجارة، فإن ماتت قبل ابتداء الإجارة انفسخت وليس للمرضعة شيء، وإن ماتت أثناء المدة استحقت المرضعة بقدر ما أرضعت من الزمان، فلو ماتت في ثلث السنة الأول كان لها أجرة الثلث، وإن ماتت بعد تمام النصف الأول فإنه يكون لها حظ النصف الأول وهكذا، تقسط الأجرة، وهذا أصل في الإجارة: أنها تقسط على حسب المنافع المتفق عليها. أيضا إذا ماتت المرضعة وهي المرأة التي ترضع، فإنه ينفسخ العقد؛ والسبب في هذا: أن المنفعة فاتت الإجارة؟ ونحن نحكم بالفسخ إذا فاتت المنفعة المشتراة، ودائما تكون المنافع تحت الأعيان، فعندنا ذوات وعندنا منافع، فإذا استأجر بيتا فالذات البيت -البناء- والمنفعة السكنى، فإذا انهدم البيت انفسخ العقد؛ لأنه لم يعد هناك منفعة وهي السكنى بعد انهدام البيت وسقوطه. وكذلك لو استأجر دابة للركوب وماتت، كانت الإجارة على عينها وذاتها، ولم يمكن إقامة غيرها مقامها، فحينئذ تفوت بفواتها. فالمصنف رحمه الله قال: تنفسخ بتلف العين المؤجرة، وهذا مثلما ذكرنا في البيوت والمساكن من غير الحيوانات. وتنفسخ بموت المرتضع، وهذا مثال للحيوان -من الآدمي والحيوانات- فإذا ماتت المرأة المرتضعة أو الرضيع الذي يرتضع فإنه يحكم بفسخ الإجارة. وقد يسأل سائل ويقول: حكم الفقهاء ونص المصنف رحمهم الله على أن عقد الإجارة ينفسخ إذا مات المرتضع، أليس بالإمكان أن يؤتي برضيع آخر ويقام مقامه، ونقول: تصحيح العقود ما أمكن؟ قالوا: لا يمكن؛ لأنه حينما استأجر المرأة لإرضاع هذا الصبي بعينه فإنه لا يمكن بحال أن تأتي بصبي يرضع كرضاعته، ويحن لهذه الأم مثله، ويأخذ منها من اللبن بقدر ما يأخذه الأول، فلا تستطيع أن تقيم الغير مقامه بالعدل. هناك مسائل ستأتينا ولا نحكم فيها بانفساخ العقد؛ لأنه يمكن تحقيق المنفعة وتحقيق العدل بين الطرفين، وهذا من دقة الشريعة: أنه إذا تم العقد على صورة ومنفعة بحدود قيدت بها. فهو إذا أقام رضيعا آخر لا يمكن أبدا أن يأتي رضيع آخر مثل الرضيع الأول، فالناس يختلفون في الشبع والري، ويختلفون في الرضاعة، ويختلف حال الصبي من امرأة لأخرى، فقد يرتضع من امرأة ويحب لبنها ويرضى بها ويقبل على ثديها، وقد تحرم عليه المراضع فلا يقبل بالمرضعة، وقد يكون بين بين، تارة يقبل وتارة يدبر، فكيف تقيم طفلا مقام طفل مع اختلاف الطبائع واختلاف الأحوال؟! وعليه فتفوت المنفعة بموت المرتضع، وبحكم بانفساخ العقد لتعذر إتمامه على الوجه الذي كان عليه الأول، ولا يتم عقد الإجارة إلا إذا كان هناك عدل بين الطرفين، واستيفاء للحقوق كما اتفق عليه المتعاقدان. كذلك لو ماتت المرأة المرضعة فلن تستطيع أن تجد امرأة لبنها كلبن هذه المرأة في خصائصه وطبائعه وكميته؛ لأنها تختلف، فالمرأة التي تحمل لأول مرة وتدر لبنها، ليست كالمرأة التي في ثاني مرة ولا في ثالث مرة، والمرأة المتوسطة ليست كالمرأة البكر، وهكذا، فالانضباط متعذر، فيتعذر أن تقيم الغير مقام الأصل الذي اتفق عليه، فيفوت العقد بفوات الأصل. انفساخ عقد الإجارة بموت الراكب في الطريق وقوله: [والراكب إن لم يخلف بدلا] . أي: إذا كان له وارث يقوم مقامه فلا بأس ويتم العقد، ففي القديم كانوا يركبون للحج، فنص الإمام أحمد رحمه الله حينما سئل: إذا استأجر البعير في الحج ومات الراكب في الطريق؟ أنه يحكم بانفساخ العقد، وإذا حكمت بانفساخ العقد فتقدر أجرة هذا البعير من الموضع الذي سار منه إلى الموضع الذي مات فيه الشخص، ويستحق صاحبه قسط هذه الأجرة. إذا حكمت بالفسخ تفرع عليه استحقاق الأجرة فيما مضى، ويتفرع عليه جواز أن يؤجره للغير، فيأتي براكب آخر ويؤجره، ويستفيد مما بقي من المتفق عليه في عقد الإجارة. حكم عقد الإجارة عند ذهاب الألم والمرض وقوله: [وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه] . هذه مسألة طبية، وهذا من دقة الكتب الفقهية، وقد نبهنا غير مرة أن الفقهاء يذكرون بعض الأمثلة، وقد يأتي من لا يحسن فهم العلماء رحمهم الله، ولا يقدر ما قدمه هؤلاء الأئمة، وخاصة في الفقه، فإن الفقيه قل أن يكتب متنا إلا وقد ابتلي بأحد هذه الأشياء أو بها جميعا: إما أن يكون ابتلي بالقضاء، أو بالفتوى، أو بتدريس الفقه. فلن تجد أحدا يكتب متنا فقهيا إلا وقد اشتغل بواحدة من هذه الثلاث أو بها مجتمعة. ومن أنفس وأدق ما يكون في الفقه: أن تجد فقيها اشتغل بالقضاء والفتوى والتعليم؛ لأن من الفقهاء من فتح الله عليه في القضاء ولم يفتح عليه في الفتوى، ومنهم من فتح الله عليه في الفتوى ولم يفتح عليه في القضاء، ومنهم من فتح الله عليه في التدريس ولم يفتح عليه في الفتوى، ومنهم من فتح الله عليه في الفتوى والتدريس والقضاء. وتجد دواوين العلم ونوابغ الفقهاء وأئمتهم الذين يشار إليهم بالبنان، وتقبل تحقيقاتهم وتحريراتهم، وينظر إليها نظرة الإجلال والإكبار، ويكون لها وزنها وقدرها حينما يكونون قد ابتلوا بهذه الأشياء، فتجد الأئمة الكبار قضاة، والسبب في هذا: أن القضاء يدخل عليك المسائل الغريبة والأمثلة العجيبة، فتتأصل عندك الأصول، وتنضبط عندك الفروع، وتتضح القواعد والضوابط، وكذلك الفتوى، فإن الناس تأتي بعجائب مسائلهم وغرائب نوازلهم، فلا يحسن التصدر فيها إلا من أنار الله بصيرته، وكان -كما وصف الله- راسخا في العلم. ولذلك كان غالب من يتصدر إلى الفتوى في سن مبكرة ينبغ في الفقه في فترة وجيزة؛ لأن الناس تدخل عليه المسائل، وهذه الأمثلة التي نراها في كتب الفقه هي حصيلة تجارب، وإن كان البعض يظن أنها مجرد آراء، وهو لا يعلم أنها حصيلة ذهن العلماء وكدهم وعنائهم قرونا طويلة. فحينما يقول المصنف: (وانقلاع ضرس) ليس المراد انقلاع الضرس فقط، إنما المسألة دخلت في مسائل الإجارة الطبية، وهذه الكلمة تستطيع أن تفرع عنها مشروعية الإجارة الطبية عموما، وأن الفقهاء يعتبرون جواز كون الطبيب يأخذ أجرة على عمله ليقلع الضرس، وهذا عمل طبي، وتأخذ منها جواز الإجارة الطبية خاصة، وهي مسألة الجراحة؛ لأن قلع الضرس نوع من أنواع الطب وهو الجراحة، وتأخذ منها جواز قطع العظام الزائدة عن البدن إذا كان فيها ضرر، وجواز قطعها بشرط وجود الحاجة الداعية وهو الألم، وعدم جواز قطعها إذا زال الألم. وتأخذ منها مسألة إزالة الأعضاء من غير العظام؛ لأن النظير يأخذ حكم نظيره، كما جاز قلع الضرس لوجود الضرر والألم، فيجوز قطع الأصبع الذي فيه ألم إذا تعذر علاج هذا الألم، أو خشي سريان هذا الألم، فالمصنف حينما تكلم عن فوات العين ومثاله العقارات، ثم بعد ذلك موت المرضعة وهو مثال للحيوان، ثم انقلاع الضرس بجزء الحيوان، فأصبح بعدما نبه على الكل نبه على الجزء، وتعلق الإجارة بالجزء، مع أن الرضاع تعلقت الإجارة بالجزء وهو اللبن، وهنا تعلقت الإجارة بالجزء وهو الضرس. فقوله: (وانقلاع ضرس) يعني: إذا استأجر طبيبا لكي يقلع ضرسه، وكانوا في القديم يحتاجون إلى ذلك. ولا يجوز للمسلم أن يقلع ضرسه إلا إذا وجد فيه الألم، ووجدت الحاجة الموجبة للقلع، ولا يجوز لأحد أن يقلع سنا لكبرها أو بشاعة منظرها كما في جراحة التجميل، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة، (والوشر) : فيه برد وتحجيم للأسنان، وهذا يدل على أن تغيير خلقة الله عز وجل لا يجوز. وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (المغيرات خلق الله) فلا يجوز العبث بهذه الخلقة، مادام أن الله سبحانه وتعالى أوجدها على هذه الصفة، وشهد من فوق سبع سماوات أنه خلقه فأحسن خلقته تبارك الله أحسن الخالقين، فقال: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين:4] فجعله على أحسن صورة وأتم صورة، فلذلك لا يجوز له أن يقلع أو يزيل شيئا من البدن إلا عند وجود حاجة. ومن هنا تفرعت مسألة عدم جواز (إزالة اللوز) بدون حاجة، وهي التي تسمى بالجراحة الوقائية؛ لأن الفقهاء نصوا على انفساخ عقد الإجارة في قلع الضرس إذا برأ الضرس، فدل على أنه لا يجوز أخذ شيء من البدن إلا عند وجود الحاجة الداعية لذلك، فقال العلماء في قلع الضرس: يشترط وجود الألم وعدم القدرة على احتماله، ولذلك تجد بعض الفقهاء يدقق ويقول: إذا صعب الألم ولم يمكن علاجه، أي لا يوجد علاج ولا دواء له جاز، أما إذا أمكن علاجه فلا، هذا بالنسبة لقلعه. فلو قال له: اقلع هذا الضرس -وكان الضرس يؤلمه- فقد كانوا في القديم لا يتيسر لهم ما هو موجود الآن من الوسائل التي أنعم الله بها على عباده من تقدم الطب، وفتح الله على عباده من واسع رحمته وبره وفضله سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، وكل ذلك ليشكروه ويحمدوه، ويعتقدوا اعتقادا جازما بعظيم فضله ومنته، وأن الأمر كله لله سبحانه وتعالى. ففتح الله لهم هذه العلوم التي يستطيع الطبيب أن يعرف هل المصلحة بقاء هذا الضرس أو عدم بقائه، فالآن الوضع يختلف، صحيح أنهم في القديم قالوا: إذا برأ انفسخت الإجارة، لكن في زماننا لو كان الضرس فيه آفة في داخله، وهذه الآفة باقية، لكن الألم يذهب ويأتي، وتم العقد، فإنا نقول: ليس من حقه أن يفسخ؛ لأن العذر موجود، وإن كان ينفسخ في القديم؛ لعدم تمكنهم من الاطلاع على خفايا الضرس، وما فيه من أمراض اللثة ونحوها. لكن في زماننا هذا لما تقدم الطب فإنه إذا وجدت العلة والآفة، وقرر الأطباء أن هذا النوع من الآفات والعلل لا علاج لها إلا الجراحة والاستئصال، واتفق مع المستشفى أو مع الطبيب على أنه يستأصل، ثم قال: ذهب الألم. فقال: ما أريد. فإنا نلزمه؛ لأن العلة موجودة، ونقول له: إذا امتنعت وجب عليك أن تدفع أجرة الطبيب. وعلى هذا سنذكر مسألة تمكين الطبيب من نفسه؛ لأنه إذا مكن الطبيب المريض من نفسه ولم يأخذ منفعته؛ فإنه يلزم المريض بدفع الأجرة كاملة. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم عقد الإجارة بعد موت المتعاقدين أو أحدهما وقوله: [لا بموت المتعاقدين أو أحدهما] . أي: لا تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين ولا بأحدهما، -يعني: إذا مات المؤجر والمستأجر-. مثال: قال زيد لعمرو: أجرني دارك هذا الموسم شهرين بمائة ألف. فقال: قبلت. واتفقا وتم العقد بينهما، ثم مات المؤجر والمستأجر، نقول للورثة: كل وارث يقوم مقام مورثه، فيستفيدون من هذه العين إما بأنفسهم، أو يؤجرونها على الغير، والأصل في العقد شرعا أنه تام لازم، فينزل منزلة مورثه في الاستحقاق. هذا مذهب الجمهور، وخالف في هذه المسألة بعض الفقهاء رحمهم الله، والصحيح مذهب الجمهور أنها لا تنفسخ بالموت، لا بموتهما ولا بموت أحدهما، ما لم يكن ذلك موجبا لفوات المنفعة كما ذكرناه في المرتضع والرضيع. حكم عقد الإجارة عند ضياع نفقة المستأجر وقوله: [ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه] . خالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله، فمثلا: إذا استأجره من أجل أن يحج به في سيارته، ثم ضاعت منه النفقة، سقطت في الطريق وضاعت منه، فجاءه وقال له: النفقة ليست معي: فالحنفية يقولون: من حقه أن يفسخ. والجمهور يقولون: ليس من حقه، فهذا بلاء أنزله الله على المستأجر، ليس له علاقة في العقد نفسه، فليس بمفوت لعين المنفعة ولا لذاتها ولا لما فيها من المصالح، والمستأجر قد مكنه من الإجارة، فحينئذ يلزم بدفع الأجرة وإتمام العقد على الصفة المعتبرة. لكن هناك مسائل استثنى منها بعض الجمهور، منها: إذا فاتت المصلحة المقصودة، مثلا: عندما تستأجر شخصا لكي يذهب بك إلى الحج، ثم يتأخر عليك ولا يأتي إلا في زمان لا يمكن معه إدراك الحج، فإن الإجارة تنفسخ، مع أن المؤجر والمستأجر والعين موجودة، لكن أنت تريد منفعة مقصودة، فهذه أيضا تلتحق بمسألتنا. الأسئلة نصيحة لطالب العلم بدراسة كل عقد على حدة السؤال أشكلت علي مسألة العقود أيها لازمة وأيها جائزة، فما هو الضابط في ذلك؟ الجواب الحقيقة مسألة الضوابط ومسألة تقرير العلم لا ينبغي لطلاب العلم أن يشتغلوا بها كثيرا، فلابد أن تتعب وتحفظ وتدرس كل عقد على حدة، وأنت بنفسك تضع جدولا لما درست وتعلمت، لأنه قد أقول لك اليوم -مثلا- يترجح عندي أن عقد كذا لازم للطرفين ثم يترجح أمر آخر بعد ذلك، ليس هناك أفضل لطالب العلم من أن يضبط بنفسه. وكان الوالد رحمة الله عليه يعتني كثيرا بعدم إعطاء الضوابط والقواعد، وإن كان سهلا إعطاؤها، لكن يقول: أريدك أن تتعب، أريدك أن تدرس كل شيء على حدة. فمثلا: استيفاء القصاص، إذا قال له: استوف لي القصاص. وأجره من أجل أن يستوفي القصاص ودفع له المال، كما كان يجري في القديم -ونحن ما جئنا إلى باب استيفاء القصاص، ولكن يمكن أن أعطيك إياه كمثال على أنه عقد جائز في أول الحال لازم في ثاني حال -مثلا- ثم يتبين لي أنه لازم في أول حال. فلذلك لذة العلم وحلاوته في التعب والنصب، فتدرس كل شيء على حدة، وتضع بقلمك شيئا فهمته وشيئا قرأته وشيئا ضبطته، وعرفت ما ترتب على لزومه، وتأخذ كل شيء. صحيح ممكن أن يكون هناك لازم ثم يكون هناك مستثنيات للجواز، أو جائز ومستثنيات للزوم، فهذا أمر يستفاد منه. لكن يفضل لطالب العلم أن يتعب، وكان والدي رحمه الله كثيرا ما يعتني بهذه القضية، حتى من الغرائب أن المعجم المفهرس لألفاظ الحديث لم يدخل مكتبة الوالد رحمه الله حتى توفي؛ والسبب في هذا أنه: قال: إنه يعود طالب العلم الكسل. ولا شك أننا نستفيد من المعجم وغيره وأنه يختصر وقتا طويلا، لكن يقول: تذهب وتفتح دواوين السنة، وتخرج الحديث، وتكتحل عينك بالسهر، ويضنى جسدك حتى تصل إلى الشيء، وتتعود من -كثرة التخريج والرجوع إلى معرفة النسخ- على معرفة طريقة الترتيب للأحاديث واختلاف الألفاظ واختلاف الرواة وتعدد الطرق، هذا هو الذي يكشف لطالب العلم ويجعل عنده ملكة قوية. وذكروا عن بعض أهل العلم رحمهم الله أنه كان مولعا بالكتب، وكان شغوفا بجمعها، وكان في القديم يتعذر عليه نسخ الكتب؛ لأنهم كانوا يجدون مشقة كبيرة في ذلك، وكان هذا من العلماء المشهورين، وسافر ذات مرة وتعرض اللصوص للقافلة التي هو فيها، فأخذوا جميع ما في القافلة، فجلس يبكي على كتبه، وجاء على قائد الأعداء وقال له: كل ما تريد أعطيك وأعطني كتبي. قال له: ماذا تريد بكتبك؟ يعني: لماذا أنت تعتني بهذه الكتب؟ قال: لأن هذه الكتب هي علمي وحصيلة عمري. فقال له: علم تحمله وتخاف عليه ليس بعلم! بمعنى أنه يمكن لطفل أن يأتي ويشعل نارا في الكتب فينتهي هذا العلم، فهو ليس بعلم، بل العلم ما حوته الصدور لا ما كتب على السطور، العلم هو علم الرجل في قلبه، فعندما يذهب بنفسه ويتعب، بخلاف ما إذا جاءه سهل ميسر من حصيلة غيره، فيقلد كلام غيره، وقد يقع السقط والتصحيف والتحريف، فالمطلوب من طالب العلم أن يكون على مرتبة من قوة الشخصية والعناية في البحث والتقصي والتعب، ولا شك أن هذا فيه عظيم الأجر والثواب، ثم تتربى كذلك في طالب العلم الملكة. ثم لا يستعجل، لأنك عندما تدرس عقد الإجارة، وهل هو لازم أو غير لازم، وتدرس اللزوم في عقد الإجارة، وما يتفرع عن هذا اللزوم في عقد الإجارة، يصفو ذهنك وينحصر تركيزك على جزئية معينة ألممت بها وأدركت آثارها ومحاسن الشريعة في الإلزام بها، وذلك خير مما إذا جمعت لك خمسة عشر أو عشرين عقدا. مثلا: عندنا عقود لازمة للطرفين، وعندنا عقود لازمة لأحد الطرفين، وعندنا عقود جائزة للطرفين، وعندنا عقود جائزة في أول الأمر لازمة في آخر الأمر، وكلها عقود فيها خلافات وفيها أقوال، وهي لا تقل عن ثلاثين عقدا، وذكرها لك صعب جدا. ولذلك: ينبغي لطالب العلم أن يدرس كل جزئية على حدة، ولا شك أنه أتم وأكمل، وكان بعض العلماء رحمهم الله يقول: دراسة قواعد الفقه وضوابط الفقه تكون بعد الانتهاء من متن الفقه؛ لأنك إذا انتهيت من المتن كاملا تجمع الشتات الذي قرأته وتضع له ضوابط، لكن من البداية تأخذ هذه القواعد، فهذا يشتت طالب العلم كثيرا، ولا شك أنها قد تضر بمصالحه. وأنا أطيل في هذه الجزئية لأنها منهجية، وكنت أنبه كثيرا على أن الأفضل أن يدرس طالب العلم كل عقد على حدة قبل العناية بالقواعد والضوابط، وخاصة إذا كان قد التزم الفقه على منهج أو على طريقة، فبإذن الله عز وجل يكون ذلك أفضل وأكمل. ثم إذا قرأت كل عقد وأدركت وجه الفرق بين العقود، وأصبح عندك نوع من الفهم: لماذا أصبح جائزا هنا ولازما هنا، ولماذا لزم الطرفين هنا ولم يلزم هنا، ولماذا لزم أحد الطرفين دون الآخر؟ حتى تنجلي وتنقدح عندك الأسرار والعلل في التفريق بين هذه العقود. ومن الفوائد التي ذكروها: أن العقود التي فيها غرر ومبنية على الغبن المحض -مثل: عقد الإجارة وعقد البيع- فالغالب لزومها، وأن العقود المتمحضة في الرفق والتي ليس فيها غبن الغالب جوازها، مثل الهبات والعطايا، ولكن العقود التي يكون فيها الغبن في حال والرفق في حال تكون لازمة في ثاني الحال لا في أول الحال، وقس على هذا اختصارا. لكن إذا درس كل عقد على حدة فلا شك أنه أضبط وأمكن. ونسأل الله عز وجل أن يفتح علينا وعليكم فتوح من أراد وجهه وابتغى ما عنده، والله تعالى أعلم. إلزام المؤجر بإقالة المستأجر السؤال إذا أقال المؤجر المستأجر، فهل له أن يعود في الإقالة؟! أم للمستأجر إلزامه بهذه الإقالة؟ الجواب إذا أقاله فإنه ملزم بالإقالة، وليس من حقه الرجوع، ومن حق المستأجر أن يلزمه بما التزمه من الإقالة، وقد ارتفع لزوم العقد بهذه الإقالة. الإقالة اختلف فيها في البيع فقط: هل هي فسخ أو بيع جديد، فترتب على هذا الخلاف في البيع فوائد، منها: هل يثبت فيها خيار المجلس؟ لأنك إذا قلت: إن الإقالة في البيع بيع جديد ثبت فيه خيار المجلس، فمن حقه الرجوع عند من يقول بخيار المجلس في البيع، وصورة ذلك: لو جاءه وقال: بعني هذه العمارة بمليون، فقال: بعتك. وافترقا، ثم جاءه بعد شهر وقال له: أنا اشتريت منكم العمارة بمليون، فأقلني. قال: أقلتك. فما داما في المجلس فمن حقه أن يقول له: رجعت عن إقالتي في البيع. هذا على أن الإقالة بيع مستأنف. ويترتب عليها أيضا: حكم الصرف، حينما يأتي إلى محل ذهب أو إلى أي محل، مثلا: لو أنه اشترى سلعة بعشرة ريالات، ثم جاء وقال للبائع: أقلني هذا البيع. فقال البائع: أقلتك، لكن بشرط أن أعطيك تسعة ريال -يعني: أنقص ريالا من القيمة- فإن قلت: إنها بيع جديد فإنه يجوز؛ لأنها قد بيعت بيعا ثانيا، ولا يكون من أكل أموال الناس بالباطل، وإن قلت: إنها فسخ. فينبغي أن يرد العشرة كاملة. وأيضا: لو كان في النقود، فإنها تأخذ حكم الصرف، فينبغي أن تكون متساوية فيما يشترط فيه التساوي والتماثل، وأن تكون يدا بيد فيما يشترط فيه التقابض. وعلى هذا: لو أنه جاء وقال له: أقلني. فقال: قبلت. قال: لكن ما عندي إلا التسعة، فأقلني وأرد لك التسعة. لم يجز؛ لأنه عاوضه بتسعة عن عشرة، هذا في الفسخ، وفي البيع يجوز؛ لأنه بيع مستأنف، وقس على هذه من المسائل. وأظن أن هذا تقدم معنا في البيع، وذكرنا هل الإقالة فسخ أو هل هي بيع. أما بالنسبة للإجارة فالقول المشهور والذائع أنه ليس من حقه إذا قال له: أقلتك. أن يرجع فيها، فقد رفع صفة اللزوم، وإذا ارتفعت صفة اللزوم فإنها لا تعود إلا بعقد جديد، وإذا قال له: سامحتك. ثم رجع وقال: ما سامحتك. فليس من حقه الرجوع، ويلزم بهذا، وينفسخ عقد الإجارة؛ لأنه أوجب فسخه فيلزم بقوله والله تعالى أعلم. حكم منع المؤجر تسليم العين المؤجرة السؤال إذا امتنع المؤجر من تسليم العين المؤجرة فترة من العقد، وترتب على هذا التأخير ضرر على المستأجر كفوات سوق ونحوه، فهل يحق للمؤجر أن يلزمه بإتمام الإجارة باقي المدة، أم للمستأجر الحفظ؟ الجواب هذه المسألة لها صور، كأن تكون استأجرت عينا ما لمدة شهر مثلا، ولكن أهم شيء في هذا الشهر الخمسة الأيام الأولى، وأنت رضيت بالخمسة والعشرين التابعة لأهمية هذه الخمس، فمثل هذه المسائل يرجع فيها للقاضي، والقاضي هو الذي ينظر ويقدر الضرر، ويقدر هل كان بإمكانه أن يعوض أو ليس بإمكانه. فشخص -مثلا- اتفق مع شخص في مكة ونقل أغراضه إلى جدة، وتحمل هذه المشقة، ولا يستطيع أن يجد بديلا، فحينما يأتي بأغراضه فإنه يأتي بها دفعة واحدة ويتضرر، ففوات السوق وحصول الأضرار في إجارات المباني وإجارات الحيوانات والمركوبات والعقارات ونحوها كلها يرجع الأمر فيها للقضاء، فالقاضي هو الذي ينظر؛ لأن قطع الخصومات والنزاعات في القضاء مرده النظر في مثل هذه، ويعسر وضع قاعدة معينة في هذا، لكن من حيث الأصل: أنه إذا منعه لا يكون إلا بقدر ما منعه، وباقي المدة يكون على ملك المستأجر، ويلزم بدفع أجرته إذا انتفع بها، والله تعالى أعلم. حكم هروب الدابة المستأجرة السؤال إن هربت الدابة المستأجرة فهل لصاحبها أن يدفع للمستأجر دابة مكانها؟ الجواب إن هربت الدابة المستأجرة، وأقام المستأجر مثلها في المشي، ومثلها في القوة، ومثلها في التحمل فالإجارة ماضية، وإذا وجد البديل فإنه يلزم. وفائدة هذه المسألة في القديم حيث كانت تقع عليها مسائل، فمثلا: حينما يستأجرون من مكة إلى المدينة، وتحمل الدابة منتصف الطريق وتهرب في النصف الثاني، ففي هذه الحالة إذا هربت الدابة، وأردنا أن نقيم غيرها مقامها، فقد تكون أجرة غيرها عندما يقام في ذلك الموضع تساوي الأجرة كلها، فإذا قلنا: العقد باق. فالضرر سيكون على صاحب الدابة، فتكون عليه مصيبتان: مصيبة فوات دابته، ومصيبة الإجارة الزائدة على أجرته التي فيها الأجرة، فلا بقيت له دابته ولا انتفع بماله، فهاتان مصيبتان. وفي بعض الأحيان يكون العكس، مثلا: لو أنه استأجر من موضعه فيمكن أن يستأجر بربع القيمة، ويكون قد قطع نصف المسافة، فيستأجر بربع القيمة فيزداد له الربع الزائد، فقد يقول المستأجر في هذه الحالة: انفسخ العقد، وأريد أن أستأجر بنفسي. وذلك حتى يكسب الربع المضمون الذي هو الربح في النصف الباقي. ولكن الأصل يقتضي بقاء العقد، والمركوبات يمكن تعويضها لا الراكب، إلا إذا وجد بديل عنه من وارث ونحوه، فالمركوب الذي يمكن تعويضه يوجب إتمام العقد على ما هو عليه، وهذا أصل مقرر عند العلماء، والله تعالى أعلم. حكم نسيان (لبيك اللهم عمرة) عند الإحرام السؤال رجل عندما حاذى الميقات أحرم ولبى بالتلبية المعروفة، ولكنه لم يقل في أولها: لبيك اللهم عمرة. مع أنه قصد بنيته العمرة، فما الحكم؟ الجواب إحرامه صحيح، وتكفيه نيته وما انعقد عليه قلبه من نسك الحج أو العمرة، أو هما معا إذا نوى القران، ولا يشترط تلفظه بذلك، ولكنه سنة نبوية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عن أكثر من خمس وعشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أنس رضي الله عنه، الذي قال: (كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجة) ومنها حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه في صحيح البخاري، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة آت من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة) . نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، وموجبا لرضوانه العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. |
الساعة الآن : 03:41 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour