رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب العارية ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (368) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - باب العارية [2] العارية تفضل وإحسان ممن يعير، وهذا الإحسان لا ينبغي أن يقابل إلا بالإحسان، ولهذا إذا حصل تلف للعارية فإن المستعير يضمن هذا التلف، وكذلك إذا أخذها فإنه يردها ويتحمل مؤنة ردها، وهذا كله من مقابلة الإحسان بالإحسان. مسائل تترتب على العارية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا أجرة لمن أعار حائطا حتى يسقط] . فقد تقدم بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالعارية، ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان بعض المسائل التي تترتب على العارية، ومن ذلك لو أن جارا احتاج إلى وضع خشبه على جدار بيتك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا يمنع بعضنا بعضا من ذلك، وأن يكون بيننا من إخوة الإسلام والمحبة في هذا الدين ما يجعل الدنيا تبعا ولا تكون أساسا للعبد، فإذا سأله أخوه هذه المصلحة أعانه عليها ويسر له السبيل للوصول إليها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه على جداره) وفي لفظ: (أن يغرز خشبة على جداره) فدل هذا الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه لا ينبغي للمسلم إذا طلبه جاره معونة بوضع الخشب على جداره أن يمتنع من ذلك. وهنا يرد السؤال هذا الجدار الذي لجارك إذا وضعت عليه الخشب فإنه يأخذ حكم العارية؛ لأنك استعرت من الجار منفعة وضع الخشب على جداره، وتكون هذه المنفعة منفعة استناد بيتك أو سقف بيتك على هذا الجدار. إذا ثبت أنه يشرع للمسلم أن يمكن جاره من وضع خشبه على جداره، فلو أنه وهبه في الابتداء فلما وضع الخشب وبنى بيته قال له: منعتك من ذلك، إما أن تدفع الأجرة وإما أن ترفع الخشب، فهل من حقه أن يرجع؟ هذا هو السؤال. أقسام العارية من حيث الأصل: العارية تنقسم إلى قسمين: - قسم مؤقت. - وقسم غير مؤقت، وهي العارية المطلقة. من حيث الأصل الشرعي أن من أعطاك شيئا تنتفع به كالسيارة والبيت للسكنى؛ فإن من حقك أن تنتفع به ما لم يرجع، فلو قال لك: رجعت عن عاريتي، وكنت سألته السيارة أن تسافر بها إلى المدينة فأعطاك إياها الظهر، ولما أردت أن تخرج العصر جاءك وقال: لا أريدك أن تذهب بها، فرجع عن العارية مثل صاحب الجدار رجع عن عاريته، من حيث الأصل فالمسلم لا ينبغي له أن يهب شيئا ويرجع فيه؛ لكن النص في كتاب الله عز وجل يدل على أن من تبرع بالشيء ليس عليه من سبيل، فلو بذل الشيء كاملا ثم طرأت له ظروف وأخذ الشيء فليس عليه من شيء، قال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] ، أما إذا لم يوجد له عذر فيقبح منه فعل ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء؛ العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود يأكل قيئه) نسأل الله السلامة والعافية. إذا ثبت أنه من حقك أن ترجع في العارية من حيث الأصل العام: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] ففي بعض العواري لا يكون هناك ضرر وفي بعضها يكون هناك ضرر. أحوال الرجوع في العارية وحكمها فكل من أخذ منك شيئا إعارة وأردت أن ترجع في هذه العارية فلا يخلو الرجوع من حالتين: إما أن يكون هذا الرجوع لا ضرر فيه، وأصبحت مصلحة الإنسان ليست بمتعلقة به على الوجه الذي سنذكره في القسم الثاني. وإما العكس؛ فإن كان لا ضرر ولم يرتبط شيء بذلك الشيء الذي وهبت منفعته فيجوز لك الرجوع، وليس من حقه أن يمتنع، ويجب عليه أن يرد لك العين. الصورة الأولى: مثال: لو قلت له: خذ بيتي أو شقتي واسكنها شهرا، ثم طرأت لك الظروف أثناء الشهر فقلت: يرحمك الله تحول عن مسكني؛ فإنه يجب عليه أن يتحول، ولك الحق في الرجوع، وهكذا لو أعطيته سيارة أو أرضا. الصورة الثانية: أن يحصل الضرر إذا رجع، مثال: أن تعطيه سفينة يركبها فلما صار في وسط البحر قلت: يرحمك الله تحول عن السفينة، فلا يمكن هذا؛ فإن الغالب أنه يهلك، أو كان له متاع فقلت له: هذا المركب وانقل به متاعك من طرف النهر إلى الطرف الآخر، فلما صار في وسط النهر قلت: أرجعه وهناك خطر عليه وضرر، حينها نقول: ليس من حقك أن ترجع، وعليك أن تبقى على عاريتك حتى ينتقل إلى الشق الثاني، ويخرج من لجة البحر. وكذلك في مسألة الجدار: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقك أن تقول له: ارفع الخشب؛ لأن في هذا ضررا، وقد رضيت على نفسك بالضرر ابتداء فلزمتك العارية ولزمك البذل إلى أن يسقط الجدار، فإذا سقط الجدار بنفسه فحينئذ لا شيء على صاحب الجدار -كما سيأتي- ولا يلزم الجار بدفع الأجرة ولو جلس الجدار مائة سنة يبقى الخشب عليه، لأنه قد التزم بذلك، لكن لو سقط الجدار فجأة فحينئذ تنقطع العارية وتنتهي، هذا بالنسبة لما فيه ضرر. من أمثلتها: الخشب على الجدار، والسفينة في وسط البحر، لكن لو كانت السفينة على طرف البحر فمن حقه أن يقول له: تحول عن سفينتي، ومن أمثلته: الأرض للدفن؛ فلو كان عنده أرض، وقال للناس: ادفنوا فيها موتاكم، أو أذن لميت أن يدفن في هذا الموضع ثم أراد أن يبنيه ورجع عن عاريته، وقال: انقلوا الميت من أرضي، نقول: ليس هذا من حقك حتى يبلى الميت، فإذا بلي الميت وصار ترابا -في قول طائفة من العلماء- صح الرجوع، وإلا فلا. إذا القاعدة في العارية: من حقك أن ترجع لمصالحك، لكن بشرط أن لا تتسبب في الضرر على الغير، وإذا أثبتنا أنه من حقك الرجوع فينقسم الرجوع إلى قسمين: القسم الأول: أن لا يكون هناك ضرر، فنقول: من حقك الرجوع، لكن يقبح بك أن ترجع بدون عذر؛ للحديث الصحيح: (ليس لنا مثل السوء ... ) وأما إذا وجد الضرر فحينئذ نقول: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقه أن يقول: ادفع الأجرة، أو ارفع خشبك؛ حتى يسقط الجدار؛ لأنه قد رضي ببقائه على ذلك الجدار فلزمه ما التزم به. القسم الثاني: السفينة إذا ركبها فلجج بالبحر، إذا كان مكانا غريقا لا يمكن التحول فيه، والأرض للدفن، والأرض للزرع وفيها تفصيل، لو قال لك قائل: أريد أن أزرع أرضك الفلانية أو روضتك الفلانية، فقلت له: أعرتك إياها هذه السنة تزرعها، ولا أريد منك أجرة على ذلك، فأخذ الأرض فزرعها فلما زرعها ونمى الزرع وقبل الحصاد قلت له: اقلع الزرع وأخرجه عن أرضي، فحينئذ رجعت عن العارية والرجوع يتضمن الضرر وفساد الحصاد، وإذا كان على هذا الوجه فقال طائفة من العلماء: من حقك أن ترجع. وقولنا: (من حقك أن ترجع) لا نقول له: اقلع الزرع إلا إذا كان بالإمكان نقل الزرع، لكن إذا كان مثل الحب فلا يمكن نقله وبقية الزروع مثله، فنقول: تبقى إلى الحصاد، ومن العلماء من يقول: ليس من حقك الرجوع إلى الحصاد. وهذا هو الصحيح، مثل قضية الجدار، والسفينة، فالقياس من حيث وجود الضرر أنك حينما سمحت بزراعة الأرض فأنت متحمل لجميع التبعات والآثار المترتبة على هذا الإذن. لكن لو قلنا بقول بعض أئمة المذهب رحمهم الله الذين يقولون: من حقك أن ترجع، لا تفهم أنها تنتقل المسألة من العارية إلى الإجارة، ويصبح هذا الذي أخذ الأرض مستأجرا بعد أن كان مستعيرا، مثال ذلك: لو أخذ الأرض لزرع يستغرق أربعة أشهر فمضى شهران، فرجع صاحب الأرض وبقي شهران، على هذا القول يدفع أجرة الشهرين الباقيين، ونقول: أبق الزرع ولكن تلزمك أجرة بقية الأشهر أو المدة الباقية؛ لأنه انتقلت من الإعارة إلى الإجارة، والصحيح: أنه ليس من حقه أن يخرجه حتى يحصد الزرع، للأصول التي ذكرناها. سقوط الخشب الموضوع على جدار الجار وضمانه قال رحمه الله: [ولا يرد إن سقط إلا بإذنه] . (ولا يرد)، أي: الخشب. قررنا أنه إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقه أن يرجع، وإذا قلت: ليس من حقه أن يرجع. وجدت عدة عبارات، تقول: ليس من حقه أن يرجع، لا أجرة له، أي: تصبح يد إجارة بعد يد العارية؛ لأن يد العارية يد ضمان، ويد الإجارة لا ضمان فيها. وفائدة المسألة: أنه لو حصل ضرر يضمن إن كان مستعيرا ولا يضمن إذا كان مستأجرا كما تقدم في الإجارة، إذا ثبت هذا فقد قلنا: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقك أن ترجع حتى يسقط الجدار؛ فإن سقط الجدار فلا يخلو سقوطه من حالتين: إما أن يسقط الجدار بدون وجود سبب من المالك؛ كأن تأتي الريح فتسقطه وينهدم البيت، فإذا سقط الجدار وتلف بسبب سقوطه الخشب فحينئذ يكون هناك سببية في التلف، وهو أن سقوط جدارك هو الذي تسبب في إتلاف الخشب، فيرد السؤال الآن: لو تلف خشب الجار فهل يضمن صاحب الجدار قيمة الخشب أو لا؟ قالوا: لا ضمان على مالك الجدار مادام أنه لم يتلفه بنفسه، لكن لو أن مالك الجدار قال لشخص: اهدم هذا الجدار، فلما هدمه انكسر الخشب بسقوطه فحينئذ يضمن مثل الخشب، ونقول له: رد لصاحب الخشب مثله؛ لأنك أتلفته فإذا كان الخشب ليس له مثلي ونوع نادر أو قديم، نقول لأهل الخبرة: قدروا قيمة الخشب يوم سقط الجدار وانكسر، فإن كانت قيمة الخشب في الوقت الذي سقط فيه الجدار ألف ريال، ولما وقعت الخصومة بين الطرفين كانت تساوي ثمانية آلاف، نقول: العبرة بيوم سقوط الجدار. الخلاصة: إذا سقط الجدار فالجدار ملك للجار، ويتحمل مسئولية ما ينشأ عن سقوطه وعلى هذا نقول: إذا تلف الخشب بفعل السقوط فالأصل يقتضي أنه يضمن، إلا أنه إذا لم يتسبب في الإسقاط فلا ضمان عليه، فإذا ضمن نقول له: أحضر خشبا مثل هذا الخشب في نوعه وصفته وجودته ورداءته وعدده وقدره، فإذا لم يوجد مثله نقول له: اضمن قيمته، وإذا قلنا: إنه يضمن القيمة، ف السؤال هل يضمن القيمة من يوم سقوط الجدار، أو يضمن قيمة الخشب يوم بناء الجدار، أو يضمن قيمة الخشب يوم الخصومة عند القاضي؛ لأنه قد تختلف القيمة، وقد يكون غاليا فيصبح رخيصا والعكس؟ فنقول: عليك الضمان يوم السقوط؛ لأنه لما سقط شغلت ذمة المالك للجدار لضمان حق أخيه المسلم، فوجب عليه ما كانت عليه القيمة في ذلك الوقت الذي ترتب عليه الضمان. ضمان العارية قال رحمه الله: [وتضمن العارية بقيمتها يوم تلفت ولو شرط نفي ضمانها] . هذه المسألة مسألة خلافية، وهي: إذا استعار شخص منك شيئا هل يضمن أو لا يضمن؟ كشخص استعار منك السيارة ثم تلفت في الطريق، هل نقول: عليه الضمان أو لا ضمان عليه؟ قبل الدخول في هذه المسألة ينبغي أن نعلم أن التلف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إما أن يكون التلف بالتعدي والتفريط. فهذا بإجماع العلماء يضمن فيه المستعير، فلو خرج بالسيارة وساقها على طريق فيه ضرر نقول: يضمن، فكل شيء فيه تعد وإساءة وإضرار تنتقل فيه يد الأمانة إلى الضمان بإجماع العلماء؛ فإذا أخذ منك أي شيء ولم يحسن التصرف أثناء أخذ منفعته المأذون بها فإنه ضامن. القسم الثاني: أن يأخذ منك الشيء ولا يتعدى ويحسن الانتفاع به؛ فتأتي آفة سماوية أو معتد مجهول ويفسد هذا الشيء، كما لو أخذ منك السيارة ثم أوقفها في مكان أمين، فجاء شخص وأخذ منها أشياء ففي هذه الحالة يرد السؤال هل يضمن أو لا يضمن؟ إن أخذ منك كتابا فجاء شخص وأتلفه ولم نعلم من الذي أتلفه، إذ لو علمنا لضمناه، لكن السؤال: إذا لم نعلم، وقال: والله إن الكتاب الذي أخذته منك سرق. في هذه الأحوال كلها إذا كان فيه تعد يلزمك الضمان، لكن إذا لم يفرط هل يضمن أو لا؟ قولان عند العلماء: القول الأول: كل عارية تؤخذ من صاحبها فإنها مضمونة حتى ترد، وهذا القول هو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث وأئمة السلف رحمة الله على الجميع. القول الثاني: العارية لا تضمن إلا إذا تعدى، وهذا مذهب المالكية والحنفية، والمالكية عندهم تفصيل بين الشيء الظاهر والشيء الخفي، لكن من حيث الجملة متفقون مع الحنفية على أن العارية لا تضمن. أما بالنسبة للذين قالوا: إن العواري تضمن فقد استدلوا بأدلة: الدليل الأول: ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد في مسنده وصححه الحاكم وغيره من حديث سمرة -وفيه الخلاف المشهور في سماع- الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) والصيغة صيغة إلزام ومعنى: (على اليد) الشخص الذي أخذ، فذكر الجزء وأراد الكل، وهذا معروف في لغة العرب كقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب) [المسد:1] ذلك بما قدمت يداك} [الحج:10] والمراد: كلك، فقوله: (على اليد) ، يعني: على الإنسان الذي أخذ أن يؤدي الذي أخذه، فإذا أخذ منك قلما يكتب به؛ يلزمه أن يرد ذلك الشيء، فلما قال: (عليه) ، معناه: أنه ضامن، متحمل للمسئولية، ومعناه: أنه متكفل بذلك الشيء؛ بحيث لو طرأ عليه أي ضرر فإنه يتحمل مسئوليته. الدليل الثاني: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه غير واحد من العلماء: أنه لما أراد الخروج إلى غزوة حنين استعار من صفوان رضي الله عنه وأرضاه أدرعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزو حنين خرج معه المسلمون والمؤلفة قلوبهم من مكة، فزاد عدد الجيش الذي خرج من المدينة مع الذين أسلموا يوم الفتح، فاحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مثل هؤلاء أن يكون معهم سلاح زائد، فاستعار من صفوان رضي الله عنه سلاحه وأدرعه فقال صفوان: (أغصبا يا محمد!) يعني: هل أخذت مني هذه العارية بالقوة والغصب والقهر، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة) أي: ما أخذت حقك -وما كان صلى الله عليه وسلم ليأخذ حقوق الناس- بل سأقضي بها حاجتي ثم أردها إليك، ثم قال: (مضمونة) أي: أتحمل ردها إليك كاملة. فهم من هذا الفقهاء رحمهم الله الذين يقولون بالضمان: أن كل عارية تأخذها فأنت مسئول عنها حتى تردها كاملة إليه، يستوي في ذلك العقار كالبيوت ونحوها أو المنقولات كالسيارات ونحوها. فائدة هذا الحديث في دلالته على هذه المسألة: أننا نلزمك برد الشيء الذي أخذته حتى ولو تلف بدون اختيارك أو تفريط منك، وهذا معنى قوله: (بل عارية مضمونة) أي: سأرد لك هذا الشيء الذي أخذته منك عارية ولا أفرط فيه حتى يعود إليك كما أخذته. القول الثاني: الذين قالوا: بأنه لا يضمن، استدلوا بالقياس، وقالوا: الأصل العام في قواعد الشريعة: أن العارية كالوديعة، وكما أن الوديعة أمانة ولا تضمن إلا إذا فرط من استودع، كذلك العارية لا يضمن المستعير إلا إذا فرط فيها وعرضها للضرر، والصحيح ولا شك هو وجود الضمان وثبوته. فائدة الخلاف: أننا إذا قلنا: إنها مضمونة. فإنك لو أعطيت سيارة أو دارا وحصل أي ضرر على هذه السيارة أو الدار ولو لم يكن للمستعير فيه دخل ولم يكن بتفريط منه فإنه يلزمه الضمان، وكما أخذها كاملة يردها كاملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) وقال: (بل عارية مضمونة) هذا بالنسبة لمسألة الضمان. حكم الاستعارة بشرط عدم ضمان العارية عرفنا أن القول الراجح هو: أن العارية مضمونة بدلالة السنة على ذلك، لكن يرد السؤال إذا كانت مضمونة؛ فلو أن شخصا أراد أن يستعير منك كتابا وقال: أستعيره بشرط أني لا أضمنه، هل من حقه ذلك أو لا؟ وهل هذا الشرط الذي اشترطه عند الاستعارة يسقط الضمان أو لا يسقطه؟ على القول بأن الضمان ثابت، يصبح الخلاف عند الشافعية والحنابلة قولان: القول الأول: الشرط باطل؛ لأنه مصادم للسنة، والسنة تقول: (بل عارية مضمونة) ، ودل على أن شأن العواري أن تضمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط) ، فالشروط التي تعارض الشرع لا يلتفت إليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه العارية بكونها مضمونة، فلا يمكن أن نلغي هذا الوصف بالشرط. القول الثاني: أن العارية إذا قلنا بضمانها يمكن إسقاط الضمان بالشرط، فتقول له: أستعير منك السيارة بشرط أن لا أضمنها إذا تلفت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم) وهذا مسلم قد اشترط أنه لا يضمن عاريتك. والصحيح: أن الشرط فاسد؛ لأن السنة دلت على وصف العارية بأنها مضمونة، وأن من شأنها أن تضمن؛ فإذا اشترط أنه لا يضمن فقد خالف شرع الله عز وجل، ولذلك نقول: لا نعرف العارية في الشرع إلا مضمونة، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فألزم الرد. ثم إننا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل في الشروط فيقول: (كل شرط ليس في كتاب الله ... ) والمراد بقوله: (ليس في كتاب الله) ، ليس في الكتاب والسنة؛ لأن السنة من كتاب الله كما قال: (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) فإذا كان الشرط يعارض السنة ويخالفها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فإننا نقول بالضمان. الأمر الثاني: مما يرجح هذا القول: أنه كما ترجح من جهة الأثر يترجح من جهة النظر، فإن صاحب الشيء المستعار الذي أعطاك سيارته أو كتابه قد تفضل وأحسن، ولا يمكن أن نجعل عليه غرمين، فهو لم يأخذ أجرة مقابل المنفعة، وليس من العدل أن نقول: وأيضا تضمن التلف، بل العدل أن هذا يأخذ العارية وينتفع بها ويتحمل مسئولية ردها ويضمنها؛ بناء على ذلك: لو اشترط المستعير على المعير أن لا يرد فقد أجحف به وأضر، ولم يتحقق العدل الذي قامت عليه هذه الشريعة؛ وبناء على ذلك لابد من عدل بين الطرفين: المستعير والمعير، ونقول: إنه إذا اشترط فإن الشرط مجحف وفيه ضرر؛ فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه. مؤنة العارية وأجرة ردها قال رحمه الله: [وعليه مؤنة ردها إلا المؤجرة ولا يعيرها] . وعلى المستعير مؤنة رد العارية. هذه المسألة تقع في الأشياء التي تحتاج إلى كلفة النقل، وفي زماننا توجد الآلات التي يكون حملها فيه مؤنة أو يكون ما استعاره نقله من بلد إلى بلد، مثال: شخص جاءك وقال: أريد منك هذه الماكينة الزراعية فأخذها وانتفع بها سنة ثم جاءك بعد السنة، وقال لك: ائت خذ ماكينتك أو خذ الآلة التي أعرتني، تقول له: إن الشرع يلزمك بردها إلي: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ما دمت أنك قد أخذتها من مزرعتي فأنت ملزم بردها إلى الموضع الذي أخذتها منه، ولا يلزم بشيء زائد على ذلك. وإذا قلنا: إنه ملزم. تفرعت العبارة التي ذكرها المصنف، أنه يدفع مؤنة حملها، فلو قال لك: أنا نقلتها إلى مزرعتي؛ لأني محتاج إليها، والآن أنا لست محتاجا بل أنت الذي تحتاجها فعليك ردها، لو كان فقيها يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ، فدل على أنه يرد العارية، وأنه ملزم بردها، وعلى ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بل عارية مضمونة) ، فنلزمه بالرد إلى الموضع الذي أخذ منه العارية، فلو أخذ العارية من طرف المدينة وأوصلها إلى المكان الذي أخذها فيه وقال لصاحبها: خذ عاريتك، قال: لا أقبل حتى تحضرها إلى بيتي، نقول: لست ملزما بذلك بل أنت ملزم بإحضارها إلى الموضع الذي أخذتها منه، هذا بالنسبة لما فيه كلفة ومؤنة النقل. حكم رد العين المؤجرة ثم قال: (إلا المؤجرة) . هذه العبارة استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، مثلا: لو أخذ منك سيارة واستأجرها لكي يقضي عليها مصلحة، وجاء بالسيارة وأوقفها في مكان ما، وقال لك: خذ سيارتك، نقول: نعم. العين المؤجرة لا يلزم المستأجر ردها إلى صاحبها ومؤنة الرد عليه، مثل الشركات الموجودة الآن، لو استأجر هذه السيارة من الشركة على أن يذهب بها إلى المدينة والشركة في مكة، نقول: من ناحية شرعية يذهب بها إلى المدينة والشركة ملزمة برد سيارتها؛ لأن العين المؤجرة لا يضمن فيها المستأجر بردها إلى الموضع الذي أخذها منه، لكن لو كان الاتفاق أنه يرجع ما استعار، ففي هذه الحالة نقول: عليه أن يردها إلى الموضع الذي فيه الشركة. وبناء على ذلك يفصل في الإجارة: من حيث الأصل العام لا نلزم المستأجر برد العين المؤجرة ويلزم فقط بالمحافظة عليها؛ لأن هناك فرقا بين رد العين المؤجرة ومؤنة ردها وبين المحافظة عليها، وتقدم في كتاب الإجارة أن المستأجر يجب عليه شرعا أن يرد العين التي استأجرها مثلما أخذها، فإذا استأجر عمارة أو شقة أو دارا يردها كاملة إن أخذها كاملة ويردها ناقصة إن كانت ناقصة، فإذا أخذها واستأجرها سنة فأتلف شيئا في جدرها أو نوافذها أو أبوابها فإننا نلزمه بإصلاح ذلك الذي أتلفه كله، ويجب عليه أن يرد العين كاملة كما أخذها كاملة. هذا من جهة المحافظة، وليس له علاقة بمسألتنا. الأسئلة حكم العارية إذا مات المستعير قبل انتهاء مدة الإعارة السؤال رجل أعار أرضا ثم مات ولم ينته الزمن الذي قد حدده، فهل للورثة رد العارية قبل الموعد؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن استعار شيئا، وكانت العارية مؤقتة بزمان، وقال له صاحب الأرض: خذ هذه الأرض سنة، وتوفي في نصف السنة، فإن العارية إذن بالمنفعة وليست بتمليك، وتتخرج على نفس المسألة التي ذكرناها، وفي هذه الحالة يجب على الورثة أن يردوا الأرض إلى المالك الحقيقي؛ لأنهم لا يقومون مقام مورثهم، وليس للمستعير أن يقيم غيره مقامه، فإذا وجد فيها زرع نقول للورثة: عليكم دفع أجرة الزرع في النصف الباقي من السنة، فتنتقل العارية من كونها عارية إلى كونها إجارة إلا إذا طابت نفس المالك الحقيقي وقال: أعرتكم كما أعرت مورثكم. وفي هذه الحالة لا إشكال، والله تعالى أعلم. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
وجوب الضمان للعارية حتى ولو لم يوجد تفريط السؤال هل تضمن العارية في حالة وقوع التلف أثناء الاستخدام حتى ولو لم يكن في استخدامه تعد أو تفريط؟ الجواب إذا استخدم السيارة بدون تعد أو تفريط وحصل تلف فهذا هو الذي فيه الخلاف، مثلا: خرج بالسيارة من المدينة إلى جدة وفي الطريق حصل تلف في السيارة، فهذا التلف أهل الخبرة يقولون: ليس استعماله مؤثرا، إنما هو تلف عارض، فنقول في هذه الحالة: تضمن سواء كان التلف بسببك أو بدون سببك؛ لأنه إذا كان التلف بسببه فبالإجماع يضمن، ومحل الخلاف فقط: إذا كان التلف بغير سببه هل يضمن أو لا يضمن؟ والصحيح أنه يضمن لظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم. هناك قاعدة دلت عليها السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة في سنن أبي داود، وهي مما أجمع العلماء على العمل بمتنها، وهو من الأحاديث التي تكلم في سندها وصح متنها، وقد قرر شيخ الإسلام وأئمة الحديث أن من السنة ما صح متنه وضعف سنده؛ فأغنت صحة متنه وشهرته بين العلماء عن طلب السند، لأن الأصول تصححه وتقويه، فلو كان سنده ضعيفا فإن الأصول الشرعية تدل على ثبوته، كما لو جاء حديث ضعيف يأمر بالصلاة فضعف سنده لا يوجب رده وقد يكون المتن صحيحا فنعمل بالمتن، لكن ضعف السند يمنعنا من نسبة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك فرق بين القضيتين. ولذلك تجد البعض يشنع على من يقول بأحاديث ضعيفة، فيغفل عن هذه القواعد والضوابط التي قررها أهل العلم رحمة الله عليهم، فإن الحديث إذا كان ضعيفا وحكاه أهل العلم وأشاروا إلى ضعفه أو عزوه إلى من أخرجه، كان ذكره من باب الاستشهاد بالمتن الذي شهدت له الأصول. يقول الإمام أحمد في حديث: (الخراج بالضمان) حديث عائشة الإجماع على العمل به، يعني: أجمع العلماء على العمل بمتنه، فهنا في العارية من الذي يأخذ المنفعة، من الذي يستفيد؟ المستعير، فنقول: تضمن هذه العين التي أنت آخذ منفعتها إذا حصل الضرر مدة الانتفاع. فحتى مع أصول الشريعة القول الذي يقول بالتضمين يستقيم من جهة النظر، ويستقيم أيضا من جهة الأثر للحديث الذي ذكرناه، فسواء فرط أو لم يفرط فهو ضامن حتى يرد العين كما أخذها، والله تعالى أعلم. حكم تضمين العامل إذا أتلف شيئا على الزبائن السؤال لي محل لإصلاح الأجهزة، فأتلف العامل جهازا لأحد الناس على وجه الخطأ، فمن الذي يضمن، العامل أم صاحب المحل؟ الجواب هنا أمران: الأمر الأول: الأجير أو العامل في المحل تارة يكون عاملا عند صاحب المحل بالأجرة، وتارة يكون شريكا معه، وهذا يقع على اختلاف العلماء في مسألة الشراكة، إذا كان العامل الذي في الدكان يعمل ويأخذ أجرة شهرية، فصاحب الدكان يتحمل ضرر العامل الذي لم يخرج فيه عن أصول المهنة، وكل ضرر يقع من العامل بدون تفريط أو خروج عن أصول المهنة يضمنه صاحب المحل؛ لأن صاحب المحل يأخذ ربح المحل فيتحمل الخسارة التي تقع في المحل على القاعدة التي ذكرناها. لكن لو أن العامل تساهل فحمل الزجاج ويده مبللة فسقط وانكسر، نقول: يضمن العامل؛ لأن المباشرة تسقط حكم السببية، وعلى هذا فقد باشر العامل الإتلاف بتفريط، وذلك عن طريق حمل هذا الشيء بطريقة محتملة للضرر ولم يتعاط أسباب المحافظة، وهذا تقصير وإهمال، ولو أن العامل جاء لكي يضع الغطاء على الشيء الذي أصلحه فوضعه بقوة فكسره أو أتلفه أو عطل شيئا فيضمن العامل؛ لأن فعله وطريقة وضعه لا تتفق مع أصول المهنة، ولو جاء العالم بالأجهزة الكهربائية فشبكها -مثلا- في الأفياش الكهربائية فاحترقت الأجهزة وكان هناك شيء في داخل الجهاز، نقول: إذا كانت أصول العمل عند الكهربائي أنه كان ينبغي عليه أن يفتش الجهاز الذي يريد إصلاحه فلم يفتش عن ذلك وجاء مباشرة وشغله حتى احترق فإنه يضمن لأن الاحتراق وقع بفعله، حينما أدخل هذا الفيش واشتعل الجهاز بسبب شبكه للفيش، فهو الذي باشر ويلزم بالضمان. كل هذا فيه قواعد وثوابت تدور حول إهمال العامل وعدم إهماله، فإذا فعل العامل أي شيء لا نستطيع أن نقول: إنه مهمل أو غير مهمل إلا عن طريق أهل الخبرة، فإن كان العامل في الحدادة نرجع إلى الحدادين، النجارة النجارين، أي صنعة نرجع إلى أهل الخبرة فيها، وهذا شيء تكلم العلماء عليه كلاما نفيسا، وهي مسألة: شهادة أهل الخبرة. ومن قرأ الفقه الإسلامي يعلم عزة هذه الشريعة وعظمتها وسموها، ويدرك أن كل شيء وضعه العلماء والأئمة فهو في موضعه؛ لأن هذه الأحكام تفرعت وبنيت على شريعة كاملة، وما بني على التمام والكمال كان له حظ من ذلك الوصف، فالشيء الذي يبنى على قواعد يكون شيئا مقربا وثابتا. فالعامل إذا عمل شيئا خلاف ما قرره أهل الخبرة نقول: عليك الضمان، إذا عمل عملا ليس موافقا لكلام أهل الخبرة، وإذا حصل شيء قضاء وقدرا فإنه يضمن صاحب المحل وعليه الضمان بالشرط الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. الرجوع إلى العرف في الانتفاع بالعارية السؤال إذا كانت العارية إذنا بالمنفعة وليست ملكا للمنفعة، فأشكل علي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار أدرعا من صفوان رضي الله عنه وأعطاها الصحابة ولم ينتفع بها هو عليه السلام؟ الجواب لله درك، هذا سؤال جيد واستشكال جيد، وهذا قررناه وبيناه في مسائل الإجارة، مثلا: عندما تقول لشخص: وكلتك في تنظيف العمارة، فإن الوكيل ليس له أن يوكل غيره، لكن العرف والمعروف أن مثله ليس هو الذي ينظف، ولما قلت له: وكلتك في تنظيفها، يعني: وكلتك أن تأتي بمن ينظفها، فهذا شيء له ضوابطه وثوابته: أن العطاء للعارية إن كان على وجه جرى به العرف واقتضى تقييدا وإطلاقا قيد وأطلق به ولا إشكال في هذا، والحمد لله، والله تعالى أعلم. حكم تكرار العمرة للمتمتع قبل الحج السؤال رجل تمتع بعمرة إلى الحج، ثم أراد أن يعتمر تطوعا قبل اليوم الثامن، فهل يجوز له ذلك؟ الجواب العمرة جائزة في سائر السنة، وليس هناك محذور في إيقاع العمرة وزيارة البيت في أي وقت ما لم يكن الإنسان متلبسا بنسك الحج في وقت يمتنع عليه أن يأتي بالعمرة فيه، واختلف العلماء رحمهم الله في الحاج إذا تحلل وأراد أن يأتي بالعمرة في أيام التشريق، وهي مسألة خلافية تقدم الكلام عليها في كتاب المناسك، لكن بالنسبة لمسألتنا: لو جاء بعمرة من بلده ثم بقي بمكة ثم أنشأ عمرة ثانية وهو بمكة؛ فإن هذا جائز من حيث الأصل العام، ويستوي في ذلك أن تكون العمرة له أو لغيره، كأن ينشئ عمرة عن والده الميت الذي لم يعتمر، أو عن والدته، أو عن إنسان آخر لم يعتمر؛ فأراد أن يبرئ ذمته فهو مأجور على ذلك، أما عن نفسه فإن الأشبه والأولى أن لا يفعل ذلك، لكن لو فعله فليس هناك دليل يدل على التحريم والمنع، لكن يرد السؤال: لو فعل العمرة الثانية فهل التمتع بالأولى أم بالثانية؟ والجواب: أن التمتع واقع بالعمرة الأولى لا الثانية؛ لأن العمرة الأولى أنشأها في أشهر الحج وهو ناو للحج من عامه، وكان المنبغي عليه بعد انتهائه من عمرته وعند إرادته للحج أن يرجع إلى الميقات، فصار وجوب الدم عليه مبنيا على سقوط السفر إلى الميقات، فاستوى أن تدخل عمرة أو لا تدخل؛ لأن العبرة بكونه لم يسافر للإحرام بحجه من الميقات، ولذلك إذا رجع إلى بلده أو إلى ميقاته أو مسافة القصر سقط عنه دم التمتع، وعلى هذا فإننا نقول: إن العمرة الثانية لا تقطع العمرة الأولى على الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. سقوط طواف الوداع عمن دون مسافة القصر السؤال من كان ساكنا بمنطقة مكة وخارج حدود الحرم -كأهل حي البحيرات- فهل عليهم طواف وداع؟ الجواب من كان خارج حدود الحرم ففيه تفصيل: إن كان دون مسافة القصر -كأهل الجموم- فهؤلاء ليس عليهم طواف وداع، وأما إذا كانوا فوق مسافة القصر -كأهل عسفان وقديد- فهؤلاء يلزمهم طواف الوداع، والله تعالى أعلم. حكم القارن إذا لم يستطع سوق الهدي السؤال رجل يريد الحج قارنا ولم يستطع سوق الهدي، فهل يصح هذا النسك؟ الجواب ظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ساق الهدي، ولا يجوز للقارن أن يترك هذه السنة التي أطبقت فيها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: (إني قلدت هدي ولبدت شعري؛ فلا أحل حتى أنحر) فدل هذا على أن الأصل في القارن أن يسوق الهدي معه وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم العبرة بأن يوقف الهدي معه، فإذا حصل ذلك أجزأه حتى ولو أخذه من مكة، وأما بالنسبة لكونه يترك هذه السنة ويأخذ الهدي من مكة وهو قادر على سوقه، فقال بعض العلماء: يكون آثما لمخالفته هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعلي الذي قال: (خذوا عني مناسككم) فلابد من سوق الهدي في القارن على الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. أخذ المال على الحج عن الغير السؤال إذا أردت الحج عن الغير بمقابل مال لنفقة الحج ولتسديد الديون، فهل هذا يجوز؟ الجواب لنفقة الحجة نعم، أما لتسديد الديون فلا يجوز، فالصحيح أن الحج ممكن أن تأخذ عليه أجرة بقدر ما أنفقت من مركب ومسكن ومنزل وهدي إذا كان الحج تمتعا أو قرانا، أما أن يكون الحج محلا للمزايدة والبيع والشراء، أحج عن ميتك بخمسة آلاف، لا بسبعة آلاف، كأنها بيع وشراء فلا، وهذا النوع من الإجارة يسميه العلماء بالإجارة على المقاطعة، والأول يسمونه الإجارة على البلاغ، والإجارة على البلاغ؛ أن يتحمل الورثة بلاغ الحاج إلى مكة، فيتحملون نفقة الركوب والأكل والملبس الذي يحتاج إليه لعمرته وحجه، وتحتسب النفقة ذهابا وإيابا، ويكون الضابط فيها: العرف لمثله؛ فإذا التزموا بذلك وأعطوه مبلغا ونقص المبلغ وجب عليهم أن يكملوه، ولو أعطوه مبلغا وزاد المبلغ وجب عليه أن يرد الزيادة، فلو أعطيت شخصا عشرة آلاف على أن يحج عن ميتك فحج وكلفه الحج أربعة آلاف وجب عليه رد الستة آلاف، ولو أعطيته ثلاثة آلاف وحج واشترى الهدي وبلغت تكاليفه خمسة آلاف تعطيه الألفين، هذا بالنسبة للأجرة على البلاغ، وهي التي يمكن أن يقال بها دون ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. توجيهات لطلبة العلم في التعامل مع الحجاج السؤال بعض الحجاج يستفتي بعض طلبة العلم فما هو الطريق الصحيح لطالب العلم في مثل هذه الحالة؟ الجواب لاشك أن تعليم الحجاج ودلالتهم على الخير من أعظم الطاعات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الحجاج ضيوف على الله سبحانه وتعالى، والضيف يكرم ولا يهان يحسن إليه ولا يساء، ومن اتقى الله عز وجل في حجاج بيته فأحسن إليهم أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة، فإن الله وصف الحجاج بأنهم آمون لبيته يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، وأعظم شيء يطلبه الإنسان رضوان الله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة:72] ، وهذا الرضا جعله الله فوق الجنة، أي: زيادة على الجنة، كما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله يطلع على أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا! وأعطيتنا! وأعطيتنا فيقول الله تعالى: أو لا أزيدكم، أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم أبدا) . نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحل علينا رضاه فلا يسخط علينا أبدا، اللهم إنا نسألك الرضا الذي لا تسخط بعده أبدا. فهذا الضيف الذي وعده الله عز وجل برضوانه وعفوه وغفرانه أن يعتق رقبته، وأن يعظم أجره ومثوبته، حتى أن الله لم يرض له جزاء إلا الجنة، يحتاج إلى تذكير بالله ودلالة على الخير، فإذا كان المسلم يستشعر أن الحاج ضيف على الله بهذه العبادة فليعلم أن أكمل ما تكون عليه العبادة هو العلم الشرعي المقرون بالعمل، ولا يمكن أن يكون حاجا على أتم الحج وأكمله إلا إذا كان عالما بالسنة ومطبقا لها، ولا يمكن أن يتعلم إلا إذا وفقه الله عز وجل لمن كان على بصيرة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة؛ فعلمه وأفتاه وبين له الحق. أوصي طلاب العلم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن على أعناقهم ورقابهم أمانة وهي أمانة العلم، فتبليغ العلم أمانة، والله خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات بأداء هذه الأمانة: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة:67] فأمره أن يبلغ، وحتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحس أن هذا البلاغ حتم عليه وواجب، وأنه أمر عظيم ثقيل، وقف عليه الصلاة والسلام أمام الأمة في يوم حجة الوداع في يوم عرفة، وكان أول ما استفتح به عليه الصلاة والسلام أن قال: (أيها الناس! اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أبدا، ثم قال: أيها الناس! إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت. فقال: اللهم فاشهد! اللهم فاشهد! اللهم فاشهد) . هذا يدل على أن تبليغ العلم ودلالة الناس على الله عز وجل والقيام بهذا الواجب العظيم فريضة على كل من استبان له هذا الصراط المستقيم أن يدل الناس عليه، فالواجب أن تنظروا إلى الحجاج أنهم بحاجة إلى هذا العلم فتأخذوا بمجامع قلوبهم إلى الله، وأعظم ما تقدمونه لهم: صلاح دينهم وإيمانهم بالله عز وجل، وسلامة عقيدتهم بالإخلاص لله جل جلاله الذي من أجله كان الحج والعمرة، وشرائع الإسلام، وهو التوحيد الخالص والإيمان الكامل، ودلالتهم على صلتهم بالله عز وجل في الدعاء والاستغاثة والرجاء والذبح وغير ذلك من مسائل العقيدة المهمة التي عليها مدار الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، بل عليها قبول الأعمال وردها، بل من أجلها أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، وأول أمر في كتاب الله أمر الله به خلقه: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة:21] ، وأول نهي في كتاب الله عز وجل نهى عنه خلقه: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة:22] ، فالواجب على طلاب العلم أن يبدأوا بهذا الأساس العظيم الذي عليه صلاح الدين والدنيا والآخرة واستقامة الأمور كلها. أما الأمر الثاني الذي يجب على طلاب العلم أن ينتبهوا له: تعليم الناس هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلمونهم السنة وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحج، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمر، وماذا كان يفعل، وماذا كان يقول، فهذا من أعظم ما يكون فيه الخير والبر: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) هكذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله) النضارة: الحسن والنور في الوجه، فأهل السنة وجوههم مشرقة في الدنيا والآخرة. فلا يزال طالب العلم في نور ورحمة يخوض غمار رحمات الله عز وجل، ومن هنا يبارك الله لطالب العلم في علمه حين يعلم الناس ويحرص على دلالتهم على الخير، وإذا جئت تحج تنظر عن يمينك وشمالك من الذي يحتاج إلى فتوجيه فتوجهه ولكن بالتي هي أحسن، فتنظرون إلى كبيرهم كأب ووالد تقدرونه وتجلونه، وتنظرون إلى من في سنكم أنه أخ لكم في لا إله إلا الله وبينكم وبينه وشائج الإسلام، وتنظرون إلى من هو صغير أنه مثل فلذات الكبد عزيز عليكم تنزلونه المنزل اللائق به، وتفعلون ذلك لله وفي الله وابتغاء مرضات الله. لا تنظروا إلى لون ولا جنس ولا مصر ولا قطر ولا طائفة، ولكن انظروا إلى شيء واحد وهو الأخوة في الإسلام، وكونهم إخوة لكم في هذا الدين تحبونهم في الله، ولتعلموا أنهم ضيوف عليكم، والله يعلم أنهم ضيوف عليكم وأنهم يحبونكم في هذا الدين، وأنهم قد استودعوا صدورهم حسن الظن بكم، ولنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم فوق ما يظن بكم من خير، والله أنعم على هذه البلاد نعمة عظيمة، فإن الناس يأتون هذا البيت ويزورونه فيخرجون بالمشاعر الطيبة، يخرجون وقد رأوا شعائر الإسلام وأخوة الإسلام، ورأوا أمة تقوم بصلاتها وزكاتها وعبادتها والتآلف فيما بينها، فهذا لا شك أنه نعمة عظيمة، يرون الإسلام أمام أعينهم بكم أنتم إذا وفقكم الله لتطبيقه والقيام بحقوقه والالتزام بفرائضه وأداء ما أوجب الله عليكم تجاه إخوانكم، فأحسنوا بهم الظنون، وأحسنوا إكرامهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيننا وإياكم على ذلك الخير والبر، والله تعالى أعلم. حكم الحاج إذا اعتمر عن الغير في أشهر الحج السؤال من اعتمر في أشهر الحج عن الغير وحج عن نفسه؛ فهل تلك العمرة التي أداها عن الغير مؤثرة وتصير النسك إلى التمتع؟ الجواب إذا اعتمر عن شخص وحج عن آخر أو حج عن نفسه أو العكس فليس حاله بحال المتمتع ولا يلزمه دم التمتع، ويكون اعتماره عن الغير كاعتمار الغير معه، كما لو جاء الغير معه معتمرا وهو حاج عن نفسه؛ ونحو ذلك: إذا نوى العمرة عن والده ثم حج عن نفسه أو العكس، لكن المشكلة لو أنه دخل من ميقات الجحفة ناويا العمرة عن والده والحج عن نفسه؛ فإن الواجب عليه بعد انتهائه من عمرة الوالد أن يرجع فيحرم بالحج من ميقات الجحفة؛ لأنه مر بالميقات ناويا النسكين، فيلزمه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، فلا يحرم بالحج من هنا إلا إذا كان قد جاء بعمرة ولم ينو الحج في هذا العام، ثم طرأت عليه نية الحج وهو بمكة؛ فأصبح هناك صورتان: الصورة الأولى: أن يأتي من خارج المواقيت ناويا النسكين بالنوعين اللذين ذكرناهما، فنقول: ليس بمتمتع، هذا الحكم الأول، الحكم الثاني: يرجع بعد العمرة لكي يأتي بالحج من الميقات، فلا يتمتع بالعمرة إلى الحج لأنها عمرة منفصلة عن الحج، وإنما تكون العمرة متصلة لو كانت عن الشخص نفسه {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة:196] فهي للشخص نفسه، أما لو كانت العمرة عن شخص والحج عن آخر فإنه يكون كحج لشخص وعمرة لشخص جاءا مع بعضهما، هل نقول: عليهما دم تمتع؟ نقول: لا، فكذلك إذا نواه عن الغير؛ لأنه نية الغير ليست له هو، ولم يتمتع بها لحجه هو، وكذلك إذا كان الحج لوالده فلم يتمتع بها لحج والده، ولذلك تقع لوالده حجة مفردة ولا تقع تمتعا. الأمر الثاني: يلزمك أن تخرج إلى الميقات؛ لأنك مررت بالميقات في زمان الحج ناويا النسكين، إلا إذا طرأت نية النسك الثاني وأنت بمكة فتحرم من مكة ولا شيء عليك، فإن لم يرجع إلى الميقات -في الصورة الأولى- وأحرم بالحج من مكة فعليه دم الجبران لا دم التمتع، وعليه جماهير السلف والخلف وأئمة الصحابة رضي الله عنهم ورحم الله أئمة العلم أجمعين. والله تعالى أعلم. حكم طواف الإفاضة لمن عجز عنه السؤال من عجز عن طواف الإفاضة لكبر السن، وليس له مال يدفعه لمن يحمله ويطوف به، فما الحكم؟ الجواب طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، ومن حيث الأصل: التوكيل يجوز في الحج كله ويجوز في بعضه، وورد التوكيل في مسألة الرمي، فكان بعض مشائخنا رحمهم الله يقول: إذا طرأ عذر على الحاج ولم يستطع أن يطوف طواف الإفاضة وانتقل إلى بلده، مثلا: حصل عليه حادث فانعاق كلية، أو حصل عليه ضرر لا يستطيع معه أن يطوف البتة، ففي هذه الحالة قولان: القول الأول: أنه لا يجب عليه أن يطوف، كالميت الذي وقصته دابته فلم يلزمه إتمام نسكه للعجز؛ ولكن هذا القول مرجوح، وهناك من بعض مشائخنا من ناظر في هذه المسألة من كان يقول بهذا القول وقال: الأشبه أن يوكل؛ لأنه تعذر عليه أصالة، وقد صح شرعا أن يوكل في كل الحج، فلأن يصح في جزء الحج من باب أولى وأحرى. القول الثاني: أنه يوكل غيره في حال عجزه الكلي، فإن كان لا يستطيع أن يطوف البتة، فإنه يمكن أن يقال بأنه يوكل من يطوف عنه، كما لو تعذر عليه الحج كله، فإنه يجوز أن يحج عنه غيره. وبناء على ذلك: يستقيم أن يوكل من يطوف عنه طواف الإفاضة، ويبقى ممتنعا حتى يطاف عنه، يعني: يكون التحلل الثاني بالنسبة له متوقفا على هذا الطواف. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب العارية ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (369) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - باب العارية [3] أباحت الشريعة عقد العارية حتى ينتفع الناس بعضهم من بعض، لكن لم تطلق الشريعة للمستعير أن يتصرف في العارية بما شاء، بل وضعت له ضوابط وقيودا متى تعداها تحمل مسئولية هذا، فإذا اختلف هو وصاحب العارية فيرجعان إلى القضاء فيفصل بينهما بضوابط قد نص عليها العلماء. أحكام التصرف في العارية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا ومنكم صالح الأقوال والأعمال، وأن يعيد علينا هذه الأيام المباركة بكل خير وبركة، وأن يجعلها عزا لدينه ونصرة لأوليائه؛ إنه السميع المجيب. كان حديثنا عن جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعقد العارية، وكنا قد ذكرنا أن هذا العقد يعتبر من أهم العقود التي تعم بها البلوى؛ لأن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض بعد الله سبحانه وتعالى، فيحتاج المسلم إلى استعارة شيء من أخيه المسلم، وبينا مشروعية ذلك وجوازه، والأحكام المتعلقة بذلك، والمسائل المترتبة على هذا العقد. حكم إعارة العارية قال رحمه الله: [ولا يعيرها] . لا يجوز للمستعير أن يعير العارية للغير، وهذه مسألة مفرعة على ضابط العارية، بعض العلماء يقول: العارية إذن بالمنفعة. وبعض العلماء يقول: العارية تمليك للمنفعة. فهناك مذهبان: مذهب يقول: كل شيء تعيره للناس فقد ملكته لمن استعار. وهناك مذهب آخر يقول: كل شيء تعيره للناس فقد أذنت لمن استعار أن ينتفع به، توضيح ذلك بالمثال: لو كان عندك سيارة، وقلت: يا محمد! أعرتك سيارتي هذا اليوم تستفيد منها، وعند المغرب تردها لي، هذه عارية، وأخذ العارية وتحددت بالزمان وهو يوم، فلما نظرنا في كلامه: (خذ السيارة يوما) وجدنا العلماء ينقسمون إلى طائفة تقول: محمد يملك منفعة السيارة، وطائفة تقول: صاحب السيارة أذن فقط لمحمد أن ينتفع. الفرق بين القولين: أن القول الأول الذي يقول: محمد ملك المنفعة، يكون من حق محمد أن يعطي السيارة لغيره لكي يركبها ويأذن لغيره بأن ينتفع مثلما أذن له؛ لأنه ملك هذه المنفعة، فمن حقه أن ينتفع هو وأن ينفع غيره، وأيضا من حقه أن يأخذ السيارة منك عارية ويؤجرها للغير ويضمنها حتى يردها إليك. هذا بالنسبة للقول الذي يقول: إنه مالك للمنفعة. ويختار هذا القول أئمة الحنفية والمالكية والشافعية رحمهم الله، ويقولون: إن العارية تمليك للمنفعة. وقال طائفة من العلماء: العارية إذن بالمنفعة. وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وعليه المذهب، أن العارية إذن وسماح بالمنفعة، وإذا قلت: إذن. ننظر في هذا الإذن هل هو مقيد أو مطلق؟ وجدناه مقيدا؛ فأنت قلت: يا محمد خذ السيارة إلى المغرب، فليس من حق محمد أن يقيم غيره، وليس من حق محمد أن يؤجر على غيره، فمتى ما أجر على الغير لزمه أن يدفع الأجرة إلى المالك الحقيقي، وينتقل من كونه مستعيرا إلى كونه ضامنا للعين المعارة، وأيضا ضامنا لأجرة السيارة طيلة هذا اليوم، حتى ولو قال لغيره: خذ هذه الدار واسكنها بدلا مني؛ فإنه يضمن أجرة المستعير الثاني، ويكون المستعير الثاني في حكم المستأجر، لكن يضمن الأجرة المستعير الأول؛ لأنها أعطيت له إذنا ولم تعط لغيره، فصار الغير إذا سكن كأنه انتفع بمال غيره؛ فوجب عليه الضمان، من الذي مكنه من ذلك؟ مكنه المستعير الأول، فنقول للمستعير الأول: ادفع الأجرة. وعلى هذا: فإن العارية ليست بتمليك للمنفعة وإنما هي إذن، وهذا هو الأشبه والأقوى إن شاء الله. وشرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان ما يتعلق بالتصرف في العارية، فإذا أخذت من أخيك المسلم شيئا على أنه عارية، كأن تأخذ دابة أو سيارة على أنك تنتفع بها مدة معينة، فإن الواجب عليك أن تتصرف في هذه العين التي استعرتها على وفق ما اتفقت عليه مع أخيك المسلم، فالأصل أنك أنت الذي تستفيد لا غيرك، ولذا قال رحمه الله: (ولا يعيرها) ، بمعنى: أنك لو قلت لأخيك: أعرني سكنى دارك شهرا، قال: أعرتك، فإنه لا يجوز لك أن تقيم الغير مقامك على أحد قولي العلماء، وذكرنا هذا القول ووجهه عندما بينا حقيقة العارية، وقلنا: إنها إذن بالمنافع وليست بتمليك للمنفعة، فالذي يقول لك: اسكن داري، أذن لك أن تسكن ولم يأذن لغيرك، وأذن لك أن تستعير هذه السكنى ولم يأذن لك أن تتصرف فيها بالإجارة، فلا يحل لك بيع هذه المنفعة فتؤجرها على الغير. إذا ثبت هذا فيدك يد مأذون لها بالتصرف لك لا لغيرك، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن لك أن تعير للغير، وأن العارية تمليك للمنافع، واختارها بعض العلماء، وهو قول عند الحنفية والشافعية رحمة الله على الجميع؛ وبناء على هذا القول الذي اختاره المصنف لا يجوز لك شرعا أن تقيم غيرك مقامك، فلو أخذت السيارة من أخيك على أن تستفيد منها ما بين المغرب والعشاء، لا يجوز أن تعطيها لآخر، ولا أن تبذل منفعة ركوبها للغير، هذا من حيث الأصل العام والذي اختاره المصنف. ولاشك أن الذي ينبغي للمسلم دائما أن يحتاط في حقوق الناس، وأن يتصرف على وفق ما اتفق عليه مع الطرف الثاني دون زيادة أو خروج عن العقد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] ، فأنت إذا قلت لأخيك المسلم: أعرني، قال: أعرتك، اختص الانتفاع بك لا بغيرك، فكما أنك لا تقبل أن يقوم غيره مقامه كذلك لا ينبغي لك أن تقيم غيرك مقامك، وكم من شخص يأذن لإنسان لحقه عليه ولا يأذن لغيره، خاصة في المنافع التي يكون بذلها للغير فيه إحراج لصاحبها ومالكها الحقيقي. قال رحمه الله: (ولا يعيرها) وهذا يدل على مسألتين: المسألة الأولى: سقوط الحق. المسألة الثانية: حصول الإثم؛ لأننا إذا قلنا: لا يملك المنفعة فإنه يأثم إذا صرف الدابة للغير، ويخرج عن الإثم بتحلل صاحب الدابة، مثلا: أخذ سيارته وأعطاها لشخص آخر، يقول له: إني قد أخذت سيارتك على أني راكبها وأعرتها للغير فسامحني في حقك أو اجعلني في حل من حقك، ونحو ذلك. حكم العارية إن تلفت عند المستعير الثاني قال رحمه الله: [فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها] الفاء في قوله: (فإن) للتفريع، وإذا كان ليس من حقك أن تقيم غيرك مقامك فأقمته، فأخذ السيارة وتلفت فهذا فيه تفصيل: الحالة الأولى: أن تقيم الغير مقام عاريتك. الحالة الثانية: أن تقيم الغير مقام إجارتك، وهناك فرق بين أن تقول للغير: خذ هذه السيارة عارية مني فيما بين المغرب والعشاء، وبين أن تقول له: أجرتك السيارة فيما بين المغرب والعشاء، فيد العارية يد ضمان ويد الإجارة يد أمانة، إذا ثبت هذا فالشخص الثاني الذي تقيمه مقامك له صورتان: الصورة الأولى: أن يعلم بأن المالك الحقيقي للسيارة لم يأذن لك، وأنك قد تصرفت في ماله بدون حق، فيأخذ منك السيارة على أنك قد أعرته وهو يعلم أن السيارة ليست ملكا لك، وأن مالكها لم يأذن لك بهذا التصرف. الصورة الثانية: أن لا يعلم بذلك ويكون جاهلا، كجار للإنسان جاء فوجد السيارة التي استعارها جاره فظنها له، فقال: أعرني هذه السيارة أذهب بها لقضاء حاجة أو نحو ذلك، قال: خذها، فأخذها الجار يظنها ملكا لجاره، أو يظن أن مالكها قد أذن لجاره أن يعيره. فالصورة الأولى: الجار هو المستعير الأول، أي: الطرف الأول الذي أذن له بأخذ السيارة والانتفاع بها، والمستعير الثاني: هو الذي أعطي السيارة سواء كان عالما أو غير عالم، وهو الذي فصلنا فيه، فأما بالنسبة للمستعير الثاني إذا أخذ السيارة وهو يعلم أنه لم يؤذن للمستعير الأول بالإذن بها، ويعلم أنها ملك لغيره فإنه ظالم، ولذلك يقول العلماء: إنه يعتبر في حكم الغاصب، وهذا أمر مهم جدا؛ لأنه يتفرع عليه ما لو أنه أخذ السيارة فحصل له حادث، أو أن السيارة تلفت بآفة سماوية أو بدون تفريط منه، فسواء تلفت بالتفريط أو بدون تفريط تكون يده يد ضمان، فتستقر عليه قيمتها على ما قاله المصنف. فهذه مسألة التضمين، وفيها تفصيل من حيث ترتب الأحكام كالآتي: تقول: المستعير الثاني إذا كان يعلم أن المستعير الأول قد تصرف بدون حق؛ فإنه لا يجوز له شرعا أن يأخذ السيارة، فيعتبر في حكم الغاصب لو أخذها، ويلزمه ضمان أجرة السيارة في المدة التي أخذها، وضمان مثل السيارة إن كان لها مثلي إن أتلفها، أو قيمتها إن لم يكن لها مثلي، فهناك أحكام تترتب على أخذ المستعير الثاني مع علمه باعتداء المستعير الأول، فإن كان يعلم فهو أولا: آثم، وثانيا: يده يد ضمان مطلقا، حتى لو أن السيارة تلفت بدون تفريط أو تعد، فنقول للثاني: يجب عليك أن تضمن السيارة؛ لأنه يعلم أن الشرع لا يأذن له بذلك، وأنها في حكم المغصوبة، ويتفرع على ذلك ضمانه لقيمة السيارة إذا لم يكن لها مثلي، أو مثلها إن كان لها مثلي، وكذا ضمانه لأجرتها. فلو أخذها المستعير الأول على أن يسافر بها من مكة إلى المدينة، ثم أعطاها للمستعير الثاني، وقال له: سآخذ السيارة من محمد على أنني سأسافر بها وأعطيها لك، فعلم المستعير الثاني بغش المستعير الأول، فأخذها المستعير الثاني وخرج بها من مكة إلى المدينة، فتلفت قبل وصوله إلى المدينة، نقول: أولا: يأثم. هذه مسئولية الآخرة؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، ثانيا: يلزمه ضمان هذه السيارة إن كان لها مثلي، وإن لم نجد في السوق مثل هذه السيارة نقول له: اضمن قيمتها، ويكون ضمان القيمة يوم التلف، فلو كانت السيارة حينما أخرجها من مكة قيمتها خمسة آلاف، فلما تلفت بعد أسبوع صارت قيمتها عشرة آلاف فإنه يضمنها يوم تلفت بعشرة آلاف، واستقرت عليه القيمة يوم التلف، ثالثا: نقول له: عليك أجرة السيارة فيما بين مكة إلى المكان الذي تلفت فيه السيارة، والدليل على هذه الثلاث: أولا: يأثم؛ لأن أموال الناس لا تستحق إلا بطيبة نفس منهم وتراض، قال تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض} [النساء:29] فالبذل مبني على التراضي، ومالكها رضي أن يبذلها منفعة للأول دون الثاني، فإذا صار الثاني غير مأذون له من حيث الأصل، فترتب عليه الإثم. ثانيا: أنه أعان هذا الظالم على ظلمه بأخذه للسيارة مع علمه بعدم رضا المالك الحقيقي. ثالثا: إذا ثبت أنه ظالم، ولا حق له في الانتفاع بهذه السيارة، فنقول: أصبحت يده يد اعتداء، ويد الاعتداء ضامنة بكل حال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فيده مثل يد الغاصب، وعلى هذا سنقول: إذا تلفت السيارة يضمن، وجها واحدا عند العلماء رحمهم الله، الذين يقولون بأنه لا تملك منافع العارية. رابعا: نقول له: عليك أجرة السيارة من مكة إلى المكان الذي تلفت فيه. أما إذا كان لا يعلم، كما لو أن شخصا أخذ سيارة من أخيه على أنه ينتفع بها مدة معينة، فأعطاه إياها على أنه ينتفع بها، فذهب وأعطاها شخصا آخر ينتفع بها، فظن الشخص الثاني أن الذي أعطاه يملك السيارة، أو أن المالك الحقيقي قد أذن له بالتصرف فيها وإعارتها للغير، فتختلف هذه الصورة عن الصورة الأولى بأن المستعير الثاني عنده شبهة، ولا يعلم بالاعتداء، ويظن وجود الإذن بالتصرف؛ ففي هذه الحالة يسقط الإثم؛ لأنه لا اعتداء، وإنما وغرر به المستعير الأول؛ لأن الأصل أن الشخص إذا قال لك: خذ هذه السيارة، وأنت ترى أنها تحت يده، فهناك شيء يسميه العلماء: العمل بالظاهر، وظاهر الحال حينما ترى السيارة تحت يد شخص ومفتاحها عنده وقال لك: خذ سيارتي، الظاهر من الحال أنه مالك لها، وهكذا لو رأيته يقودها ويسير بها، وهذا يسمى العمل بالظاهر. والظاهر حجة، ومن حيث الأصل يعمل به، فهو إذا جاء إلى غيره وقال له: خذ السيارة هذه الليلة، فأخذها الثاني، فقد غرر به حيث ظن أنه مالك لها وليس بمالك، ويسقط عنه الإثم للشبهة، وفي هذه الحالة يسقط عنه ضمان الأجرة؛ لأنه مغرر به، ويثبت ضمان الأجرة على المستعير الأول وليس على المستعير الثاني. أما الدليل على أن المستعير الأول يضمن أجرة السيارة ويلزمه دفع قيمة المنافع التي استغلت تلك الليلة؛ فلأن صاحبها حينما أعطاها للمستعير الأول أذن له ولم يأذن لغيره، فإذا جاء يعطيها للغير فالغير لا يملكها، وما خرجت إلى يد الاعتداء إلا بسببه هو، وهو في هذه الحالة تصرف في منافع لا يملكها؛ لأن المنافع التي يملكها ما كانت له؛ فتصرف في منفعة الغير وحبسها المدة التي انتفع بها المستعير الثاني، فيلزمه ضمانها. على هذا لو أعطيته سيارة، فأعطاها لشخص يذهب بها إلى المدينة لزمته أجرته إلى المدينة، ولو أعطيته بيتا يسكنه شهرا، فأسكن الغير لزمته أجرتها تلك المدة، سواء أسكن الغير بأجرة أو بدون أجرة، هذا من حيث الاستحقاق. إلزام المستعير الثاني بالضمان عند تلف العارية لو أن المستعير الثاني أخذ السيارة إلى المدينة وهو يظن أن السيارة ملك للمستعير الأول وتلفت، من الذي يضمن؟ في هذه الحالة: يضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير وإن كان معذورا لكنه أخذها بيد العارية؛ لأنه قال له: أعرني، فأعاره، فليس عنده شيء يسقط الضمان، والعارية توجب الضمان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة) . إذا: هناك صورتان: الصورة الأولى: أن يكون المستعير الثاني عالما باعتداء المستعير الأول؛ فيلزمه ضمان الأجرة وضمان العين إن تلفت تحت يده، أولا: يلزمه ضمان الأجرة؛ لأنه تصرف في مال الغير بدون إذنه، وثانيا: ضيع عليه منفعة هذا الشيء فوجب عليه ضمانها، وثالثا: يلزمه ضمان العين؛ لأنه قد اغتصب تلك العين فأخرجها إلى موضع لم يؤذن له بإخراجها إليه. الصورة الثانية: إذا كان المستعير الثاني لا يعلم، أو ظن وجود الإذن، أو ظن أن المستعير الأول مالك حقيقي لها؛ فوقع في التصرف بشبهة الملكية أو بشبهة الإذن، فإنه في هذه الحالة يأخذ حكم المستعير، إلا إذا أخذها إجارة، فله حكم ثان، فإن أخذها استعارة من المستعير الأول يكون عليه ضمانها؛ لأن المستعير يضمن ولا أجرة عليه، والأجرة على المستعير الأول لا الثاني، وتلزم الأجرة المستعير الأول في هذه الصورة الثانية؛ لأنه غرر بالمستعير الثاني وتصرف في مال غيره بدون إذنه، فضمن قيمة المنفعة. أما لو أن المستعير الأول أجرها للشخص الثاني، فحينئذ الإجارة لا ضمان فيها إلا إذا تعدى، فلو قال المالك الحقيقي للمستعير الأول: خذ بيتي هذا واسكنه شهرا، فأخذه المستعير الأول وذهب إلى محمد وقال: يا محمد! هذا البيت لي -وكذب عليه- خذه وأسكنه شهرا بمائة، قال: قبلت، فأصبح الشخص الثاني مستأجرا لا مستعيرا، يعني: إما أن يغرر به مستعيرا أو يغرر به مستأجرا، إن غرر به مستعيرا ضمن؛ لأن يده يد ضمان، وإن غرر به مستأجرا ضمن الأجرة ولا يضمن العين إن تلفت؛ لأن يد الإجارة لا ضمان فيها إلا بالتعدي، كما تقدم في باب الإجارة. قال رحمه الله: [وعلى معيرها أجرتها] . هذه هي الحالة التي ذكرناها، إذا غرر بالمستعير الثاني فإنه يلزمه ضمان الأجرة على التفصيل الذي ذكرناه؛ فإذا كان المستعير الأول مغررا بالمستعير الثاني ضمن الثاني الأجرة، والمستعير الأول حينئذ يضمن الأجرة ويضمن العين بالعارية، ولا يضمن الثاني؛ لأن يده يد أمانة. تضمين المعير لأي المستعيرين شاء قال رحمه الله: [ويضمن أيهما شاء] . ويضمن المالك أي الاثنين شاء، إن شاء ضمن المستعير الأول، وإن شاء ضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير الأول قد تصرف بالاعتداء وكذب على المستعير الثاني، وحينئذ يكون المستعير الثاني ضامنا مع الأول؛ لأن الأول مستعير والثاني مستعير؛ والثاني مغرر به، لكنه رضي بالعارية، وأنت إذا رضيت بالعارية ضمنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بل عارية مضمونة) فكل شخص يقول: أعرني، كأنه يقول: أنا أضمن لك هذا الشيء الذي تعيرني إياه، على ظاهر الحديث؛ بناء على ذلك يشترك الطرفان في مسألة العارية. وإن إذا كان الثاني مغررا به ومعذورا، فنقول للمالك الحقيقي: إن شئت ضمن الأول وإن شئت ضمن الثاني. فلو أن هذه الدار التي تلفت -واليد يد عارية- تساوي قيمتها المليون، نقول له في هذه الحالة إن تلفت: إن شئت أخذت المليون من المستعير الثاني وإن شئت أخذتها من المستعير الأول؛ لأن يد الأول ضمان ويد الثاني ضمان. وبالنسبة لحال عدم الضمان، كما لو أجر المستعير الأول لآخر وكان يظن أنه مالك؛ حينها يضمن المستعير الأول دون المستأجر؛ لأن المستأجر يده يد أمانة وليست بيد ضمان. أحكام إشراك المحتاج في منفعة العارية قال رحمه الله تعالى: [وإن أركب منقطعا للثواب لم يضمن] . يرد السؤال أنت حينما تأخذ العارية من غيرك وتعطيها للغير، حينئذ تنتقل العين من يدك إلى يد الغير، ويصبح الضمان فيها على التفصيل من وجود العذر وعدم وجوده، فعقد الإجارة شيء، وعقد العارية شيء، لكن السؤال: لو أركب منقطعا؟ حينما يؤذن لك أنت أن تركب السيارة، معناه: أن المنفعة لك أنت لا لغيرك، وحينما تعطيها للغير عارية أو إجارة فقد أخرجتها باليد إجارة أو عارية، لكن لو أن الاثنين اشتركا في المنفعة، فهل تنتقل يد الأول، وتلغى أم لا؟ وهي التي يسمونها يد التشريك. فقوله: (وإن أركب منقطعا) ، أي: أعطيته دابتك، وقلت له: سافر بها من المدينة إلى مكة، فرأى في الطريق منقطعا فأركبه، والمنقطع من حيث الأصل قد يجب عليك إركابه إذا خشي عليه التلف والموت؛ لأن إنقاذ النفس المحرمة واجب شرعا، ولا يجوز أن تتركه إذا رأيته في حال الهلكة، حتى إن بعض الظاهرية يقولون: من رأى مسلما على هلكة وهو قادر أن ينقذه فلم ينقذه فقد قتله قتل عمد، وإن كان هذا القول قولا مرجوحا، والصحيح أنه ليس بقاتل، لكنه يبوء بإثم عظيم، ومثله قالوا: كأن يراه غريقا وهو يحسن السباحة فلا يسبح إليه، أو يراه جائعا وعنده الطعام فلا يعطيه، أو يراه عطشانا وعنده الماء فلا يعطيه، أو يراه منقطعا وهو قادر على حمله ولا يحمله، ولهذا قال المصنف: (منقطعا) ؛ لأن المنقطع يتعين عليك حمله، وفي هذه الحالة يكون دخوله عليك بصورة اللزوم، فلو رأيت منقطعا فأركبته المنفعة فقد أركبته منفعة ليست ملكا لك، ونحن قررنا قاعدة: أن المستعير من حيث الأصل أذن له ولم يؤذن لغيره، فهل التشريك هنا يوجب الضمان أو لا يوجبه؟ فبين رحمه الله أنه لا يوجب فقال: (وإن أركب منقطعا للثواب) . ركوب المنقطع له صورتان: الصورة الأولى: أن تركبه بأجرة. الصورة الثانية: أن تركبه بدون أجرة؛ فإذا ركب بدون أجرة فحينئذ لا إشكال، لكن إن ركب بأجرة صار بذل المنفعة في مسألة إجارة العين المستعارة توجب الضمان لمنفعتها كلها، وكذلك إجارة جزئها. فإذا عندنا حالتان للمنقطع: إما أن يركبه لله بدون أجرة، كما قال: (للثواب) واللام للتعليل، أي: من أجل الثواب، فتبقى يد المستعير كما هي يد ضمان، ولا يلزمه دفع أجرة الراكب؛ لأنه في هذه الحالة متعين عليه أن يركبه؛ لأنه منقطع. وإما أن يركبه بأجرة، فركب معه، وحينئذ أصبحت المنفعة منقسمة إلى قسمين: قسم أخذه المستعير، وقسم أجره، في هذه الحالة يضمن أجرة ما أجره ويكون ذلك المال للمالك الحقيقي. وفي حالة ما إذا كان المالك الحقيقي قد أذن له باستعارتها فأركب منقطعا بدون مال، تبقى يده يد ضمان، وهذا الراكب لا يضمن؛ لأنه يجب إركابه في هذه الحالة، وبقي الأصل وهو البذل، حتى المالك الحقيقي لو أنه مر على المنقطع لوجب عليه إركابه؛ لأن المسلم يجب عليه إنقاذ أخيه، لكن لو أجره وقال له: أركبك معي بمائة، فركب معه بمائة، ضمن أجرته. أما الدليل على تضميننا إياه لأجرته فنقول: الأصل في المنفعة يوجب الضمان إذا أجرها كلها، كذلك لو أجر جزءها، فأنت لو قلت له: خذ هذه الدار واسكنها شهرا عارية مني لك، فسكن نصف شهر وأجرها نصف الشهر، وجب عليه الضمان في نصف الشهر، وعليه: فإركاب الراكب معه تشريك له في المنفعة، فيجب ضمان الجزء الذي أجره للراكب، ويضمن بأجرة المثل. وفائدة المسألة: أنه لو أركب الراكب بمائة ريال وأجرة مثله مائتين؛ وجب عليه ضمان المائة الثانية، ففي هذه الحالة تكون الإجارة أجرة المثل. مسائل الاختلاف بين المعير والمستعير قال رحمه الله: [وإذا قال: آجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقب العقد، قبل قول مدعي الإعارة، وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل] . هناك صور في المسألة: الأولى: إن قال: آجرتك، قال: بل أعرتني. الثانية: إن قال: أعرتك، قال: بل آجرتني. الثالثة: إن قال: أعرتني، قال: بل غصبتني. الرابعة: إن قال: آجرتني، قال: بل غصبتني. هذه كلها مسائل يصطلح العلماء على تسميتها بمسائل الاختلاف، ومسائل الاختلاف: هي جملة من المسائل التي يختلف فيها العاقدان في كيفية العقد، ولا تختص بباب معين بل تشمل أكثر أبواب المعاملات إن لم يكن جلها، ففي كل باب من أبواب المعاملات شيء يسميه العلماء: مسائل الاختلاف، والحقيقة أن مسائل الاختلاف لو تأمل فيها طالب العلم لوجدها في الأصل راجعة إلى باب القضاء؛ لأن المراد بهذه المسائل معرفة من المدعي ومن المدعى عليه، وبعض العلماء يقول: هو مدعي والآخر مدعى عليه، وهو مدعى عليه والآخر مدعي. هذا كله بمعنى قولهم: فالقول قوله، فإذا قالوا: القول قوله، فمعناه: أنه مدعى عليه، وهذه المسائل كلها راجعة إلى باب القضاء. أما من حيث المنهجية الفقهية؛ فكان الأصل يقتضي أن هذه المسائل تؤخر إلى باب القضاء؛ لأن مسائل القضاء تختص بباب القضاء، ولكن السبب الذي جعل أهل العلم رحمهم الله يفردون مسائل الاختلاف في كل باب بحسبه: أن هذه المسائل حينما تدرس في كل باب بحسبه تعرف أصول الأبواب الراجعة إلى القضاء، ففي بعض الأحيان تكون قاعدة القضاء عامة، لكنها في باب الشفعة تنخرم، وتكون قاعدة القضاء عامة ثابتة ولكنها في باب العارية تنخرم، فلما تدرس مسائل الاختلاف في كل باب بحسبه يكون ذلك أضبط وأتم لمعرفة الأبواب المستثناة، ومعرفة أصول كل باب وتطبيقها حتى في مسائل الاختلاف، فكما عرفت العارية اتفاقا تعرفها اختلافا. اختلاف المعير والمستعير في كون العقد عارية أم إجارة فقد يختلف المعير والمستعير في عقد العارية، يقول: أعرتني، فيقول: ما أعرتك بل أخذتها غصبا، قال: أعرتني، قال: بل أجرتك، قال: آجرتني، قال: بل أعرتك، هل هناك فرق بين أن يقول: أجرتك، وبين أن يقول: أعرتك، وبين أن يقول: غصبتني؟ نعم، في بعض الأحيان حينما تكون السيارة ملكا للشخص، ويدعي آخر أنه استعارها، فيقول المالك: بل أجرتك، فمن مصلحة المالك أن يقول: أجرتك، وفي بعض الأحيان يكون العكس، يقول له: أجرتني، قال: لا. بل أعرتك، فإن السيارة إذا تلفت الأفضل أن يقول: أعرتها؛ لأنها تضمن؛ لأنه لو قال: أجرتك، لا تضمن، أما لو كانت السيارة موجودة، فإن الأفضل أن يقول: أجرتك؛ لأنه يضمن قيمة المنفعة في المدة التي أخذها ذلك الرجل، فإذا قال: أجرتك. وجب عليه قضاء -إذا قلنا القول قوله- دفع الأجرة، لكن هذا في الحقيقة يحتاج إلى ضوابط فقهية صحيحة. ومن هنا تجد المصنف رحمه الله رتب المسائل، فابتدأ أولا فقال: إذا وقع الاختلاف بعد العقد مباشرة، أي: أن العين موجودة -التي هي السيارة- فالتلف غير موجود، فحينئذ لا ضمان، ولكن يبقى فقط مسألة المنفعة: هل تكون بأجرة أو بدون أجرة؟ هذا إذا كانت العين قائمة وموجودة، ويترتب الضمان على التسليم بكونها عارية، لكن إذا قال له: أجرتك، قال: بل أعرتني، قال: أعرتك، قال: بل أجرتني. والعين تالفة، فإن المالك في بعض الأحيان الأصلح له أن يقول: أجرتك، وفي بعض الأحيان يكون الأصلح له أن يقول: أعرتك. وتوضيح ذلك: لو أن العين تلفت فقلنا: قيمتها خمسة آلاف ريال، والعين مضى عليها عند الشخص خمس سنوات، فادعى المالك أنه أجره كل سنة بألفين، فالأفضل أن يقول: أجرتك؛ لأن له عشرة آلاف ريال، وإذا قال: أعرتك، سقطت أجرته ولزمه أن يدفع له ضمان المنفعة، وهو خمسة آلاف ريال، والعكس: فقد تكون الأجرة خمسة آلاف ريال، وقيمة العين عشرة آلاف ريال، فالأفضل أن يقول: أعرتك ولا يقول: أجرتك، إذا: هناك مسألة مهمة وهي معرفة من الذي يقبل قوله؟ هل نقبل قول المالك مطلقا، أم نقبل قول الآخذ سواء ادعى الإجارة، أو ادعى العارية مطلقا؟ هذا فيه خلاف بين العلماء: بعض العلماء يقول: أنا أصدق المالك؛ لأن المال ماله، والأصل إذا قال: أجرتك، أن تكون المنفعة مملوكة ومستحقة، وإذا قال: أعرتك، فالأصل أن عينها تضمن، فلا نفوت حقوق الناس، لأننا إذا أسقطنا قوله في حالة ما إذا ادعى العارية والعين تالفة فوتنا عليه ضمان عينه وماله، وإذا أسقطنا قوله: أجرتك، فوتنا عليه قيمة المنافع، ولا يجوز تفويت حقوق الناس، ولذلك يقول: أنا مع المالك مطلقا، وربما في بعض الأحيان يكون المالك قوله الأضعف ولا يقول بالأصلح؛ فيكون في هذه الحالة تنازل عن الأكثر، فلو كانت قيمة العين خمسة آلاف ريال وأجرتها عشرة آلاف ريال وقال: أجرتني، وقال المالك: بل أعرتك، يصبح في هذه الحالة لا إشكال؛ لأنه تنازل عن الخمسة آلاف الزائدة عن استحقاقه، لكن المشكلة إذا زاد عن الاستحقاق. وعلى هذا يقول بعض العلماء: أصدق قول المالك مطلقا. وبعضهم يقول: أقبل الأقل وأعتبر الزائد ادعاء، فإذا قال له: أجرتك، والأجرة خمسة آلاف ريال، والآخر قال: بل أعرتني، والعارية ثلاثة آلاف ريال، يقول: اتفق الطرفان على ضمان ثلاثة آلاف، وبقيت الألفان هي محل الخلاف؛ فأنا آخذ باليقين وهي الثلاثة آلاف، وأقول: القول قول من قال موافقا للثلاثة آلاف، فيعتبر قول الأقل؛ لأنه يقين ومتفق عليه بين الطرفين. مثال: إذا قال له: أجرتك، والإجارة بعشرة آلاف ريال، قال: بل أعرتني، والعين قيمتها خمسة آلاف ريال، لا نشك أن المالك يستحق خمسة آلاف ريال، فيقول: أقبل القول الذي يثبت الخمسة آلاف؛ لأنه القدر المتفق عليه بين الطرفين، وأعتبر المالك مدعيا للزائد؛ قال: كما لو اختلفا وقال له: استلفت مني ألف ريال، قال: بل استلفت ألفين، فإن الكل متفق على أن هناك ألف ريال أخذها وهي يقين، لكن الشك في الألف الزائدة، فيقول: آخذ باليقين وأترك الشك حتى يأتي الدليل على إثباته؛ لأن ذمة الطرف الثاني في الزائد -وهي الخمسة آلاف ريال- مشكوك فيها، فأبقى على اليقين وهو الأقل وألغي الزائد، وأسقط قول من قال بالزائد حتى يقيم البينة عليه، هذا معنى قولهم: أو فالقول قول من قال بالعارية. فالقول قول من قال بالإجارة. كل هذا محل خلاف بين العلماء، منهم من يقول: القول قول المالك، وقلنا: علته أنه يرى أن مال صاحب الحق لا يذهب هدرا، وإذا أردت أن تختصرها وتقول: المالك إما أن يريد ضمان عينه، وإما أن يريد ضمان أجرة العين، وفي كلتا الحالتين تضمن الأعيان والمنافع، لأن بيوت الناس إذا تلفت فهي مضمونة ولا تذهب هدرا، وسكنى البيوت والانتفاع بها الأصل أنه مضمون ولا يذهب هدرا، فنحن نقبل قول المالك مطلقا، ومنهم من يقول: آخذ باليقين وألغي الشك. وكلا القولين له وجهه وتعليله، والمصنف رحمه الله يقول في هذه المسألة: (وإذا قال: آجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقب العقد، قبل قول المدعي الإعارة) . وفي هذه الحالة إذا قبلت قول مدعي الإعارة ستسقط الأجرة. مثلا: لو أن شخصا أخذ سيارة من شخص وبقيت عنده شهرا كاملا، ثم قال: آجرتني، قال: بل أعرتك، فحينئذ قالوا: العارية توجب ضمان العين والإجارة توجب ضمان المنفعة، فآخذ بالضمان الأتم الأكمل وأقول: أقبل قول من قال بالعارية لا قول من قال بالإجارة، وعلى هذا يقبل قول من قال بالعارية سواء كان المالك أو المستأجر، وفي كلتا الحالتين تارة تكون المصلحة للمالك أن يقول: أجرتك، وتارة تكون المصلحة أن يقول: أعرتك. قال رحمه الله: (وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل) . ذكرنا أنهم يقولون: حينما يكون الاختلاف قبل فوات المدة يكون ضمان العين أفضل من ضمان المنفعة، فهو إذا قال: أعرتك، يقولون: عندنا صورتان: الصورة الأولى: أن يقع الاختلاف بعد العقد مباشرة، والصورة الثانية: أن يقع الاختلاف بعد مضي مدة تستحق فيها الأجرة، فقالوا: إذا وقع الاختلاف بعد العقد مباشرة فلا ضمان للمدد، أي: إذا قال له: أعرتك، قال: بل آجرتني. قال: آجرتك، قال: بل أعرتني، ولا مدة مضمونة؛ لأنه ما مضى شيء، فقالوا: نقبل قول من قال بالعارية؛ لأنه يوجب ضمان الرقبة بكاملها، وهذا أحظ من ضمان المنفعة التي هي الأقل، وحينئذ يقولون: المالك بين أمرين: إما أن يدعي العارية أو الإجارة، فإن ادعى العارية؛ فحينئذ نقبل قوله وهذه سيارته وهذا ملكه، ونقبل قول من قال بالعارية، وسقط استحقاقه للأجرة، لكن لو قال: آجرتك، وقال الذي أخذ: أعرتني، فسيتضرر المالك من جهة عدم وجود الأجرة، وستؤخذ عليه منفعة الدار بدون أجرة، فلماذا قبلنا قول من قال بالعارية في هذه الحالة؟ لأنه إذا قال له: أعرتك، تبدأ مسألة اللزوم وعدم اللزوم، فبعض العلماء لا يرى لزوم العارية، ويقول: إذا قلنا: نقبل قول من قال بالعارية، ففي هذه الحالة يكون المالك له خيار الإسقاط؛ لأنها ليست بلازمة له، {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] يقول: أعرتك، ثم يقول: أعطني إياها، فيرجع مباشرة وينتهي الإشكال، وعلى هذا فحق المالك مضمون، ولا يفوت عليه الحق. وعلى القول بلزوم العارية، قالوا: ضمان العين أفضل من ضمان المنفعة، وعلى هذا: يكون الاستحقاق لليد عند فوات العين بضمانها أتم من استحقاق المنفعة والأجرة. اختلاف المعير والمستعير في حصول الغصب وعدمه قال رحمه الله: [وإن قال: أعرتني، أو قال: آجرتني، قال: بل غصبتني، أو قال: أعرتك، قال: بل آجرتني، والبهيمة تالفة، أو اختلفا في رد؛ فقول المالك] . هذه مسألتان: مسألة من يقبل قوله، ومسألة من يرد قوله ونعني بها الاختلاف بين المتعاقدين، وتحتاج إلى شيء من التفصيل. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
مسألة التنازع في عقد المنفعة بينا المسائل المتقدمة، وبقي بيان ثلاث كلمات: آجرتني، أعرتني، غصبتني. مثلا: سيارة أو دار ملك لشخص، وكان يسكنها شخص لمدة سنتين، ثم تلفت هذه الدار، فادعى الساكن للدار أنه كان مستأجرا أو كان مستعيرا، وادعى مالك الدار أنه كان غاصبا. فما الفرق بين قول الشخص في هذه المسائل: آجرتني أعرتني وقول المالك: غصبتني؟ إذا ادعى ساكن الدار أنه استأجر فهذا له حكم، وإذا ادعى أنه استعار فله حكم آخر، وإذا ادعى عليه المالك أنه غاصب فهذا له حكم ثالث. فإذا قال: آجرتني، فمعنى ذلك: أننا سنطالبه بضمان أجرة الدار لمدة سنتين، ولا نطالبه بضمان قيمة الدار، فرضنا أن هذه الدار التي تلفت قيمتها مائة ألف، وأجرة كل سنة عشرة آلاف، فإذا قال: آجرتني، فإنه يقر بأن عليه عشرين ألف ريال، لكن لا يطالب بضمان الدار بمائة ألف، فهو يدعي الأقل حتى يخرج من ضمان الأكثر. والسبب في هذا: أنه إذا قال: آجرتني، فإن المستأجر لا يضمن العين المؤجرة إلا إذا فرط أو تعدى -كما تقدم-، فهو يقول: آجرتني، مع أنه سيغرم الأجرة، لكنه سيسلم من ضمان الدار. أو يقول: أعرتني، فإذا قال: أعرتني، يخرج من الأجرة ويلزمه ضمان الدار، ففي بعض الأحيان تكون الأجرة أغلى من قيمة الدار، كما لو سكن هذه الدار عشر سنوات، وكل سنة بعشرة آلاف ريال وقيمة الدار خمسون ألف ريال، فإذا قال: آجرتني، فسيدفع مائة ألف، وإذا قال: أعرتني، سيدفع خمسين ألفا، فالأفضل أن يقول: أعرتني. فإذا: العلماء رحمهم الله ذكروا قوله: آجرتني أعرتني قال: بل غصبتني هذا كله من جهة الحقوق المترتبة على العين التالفة. فالضمان بالأجرة والضمان للعين التالفة مستحق على من تلفت الدار تحت يده، فيضمن الدار إذا كان مستعيرا؛ لأن المستعير لا يدفع الأجرة ولكن يلزمه ضمان العين، لقوله عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة) . فإذا قال المالك: بل غصبتني، فإنه يستحق الأمرين، أجرة الدار؛ لأن المغصوب تضمن منافعه، ويستحق قيمة الدار؛ لأن المغصوب مضمون العين، وبناء على ذلك يضمن المنافع وقيمة الدار التي تلفت. فإذا قال: غصبتني، يكون له حقان: حق الأجرة، وحق قيمة الدار التي تلفت. فإذا اختلف الاثنان، فقال الذي في الدار: آجرتني، قال: بل غصبتني، هل: نصدق المالك أم نصدق الذي في الدار؟! هذه المسألة راجعة إلى مسألة قضائية، وسبق التنبيه عليها، وهي: من المدعي ومن المدعى عليه؟! فإذا نظرت إلى المالك للدار أن الأصل أنه ملك هذه الدار، وأنه تضمن عين الدار وتضمن منافعها؛ لأن أموال الناس محترمة شرعا ولا تخرج عن أيديهم إلا بضمان، نقول حينئذ: القول قول المالك، حتى يقيم الشخص الذي ادعى الإجارة أو العارية الدليل على أنه مستعير أو مستأجر، هذا معنى قوله: فالقول قول المالك. يعني: أن القاضي يقبل قول المالك أنه غاصب، ولكن يحلف المالك اليمين بالله على أنه غصبت منه هذه الدار، وأن هذا قد غصبها المدة التي يطالب بأجرتها. وبناء على ذلك: يكون المالك مدعى عليه، والمستأجر أو مدعي الإجارة يطالب بالبينة. والقول قول المالك يكون في الصورتين، أي: سواء ادعى الذي في الدار الإجارة أو العارية؛ لأن في الدار شيئين: الشيء الأول: قيمة الدار التي انهدمت. والشيء الثاني: منفعة سكن الدار عشر سنوات. فلماذا قلنا: القول قول المالك؟ قالوا: أولا: الأصل واليقين أن الإنسان لا يعطي الشيء إلا بقيمة أو بمقابل، فضمناه الأجرة. وثانيا: الأصل في أموال الناس أنها لا تذهب هدرا، فما دام أن الدار سقطت وهي تحت يد فلان فالأصل أنه ضامن حتى يثبت أن يده يد أمانة لا ضمان فيها. ولذلك لو اختلف اثنان، فقال أحدهما: أجرتني، قال: بل وهبتني، فإن الذي يدعيه خلاف الظاهر؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يبذل الشيء إلا بمقابل، فهم يقولون: نضمنه الدار؛ لأن الأموال محترمة، ومادام سقطت تحت يده فالأصل أنه ضامن لها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ، وليس عندنا دليل يسقط هذا الأصل، ونضمنه الأجرة؛ لأن هذه العشر سنوات لا تذهب هدرا حتى يقوم الدليل على أنه قد تبرع بها المالك الحقيقي. وليس عندنا دليل. هذا من جهة من يقول: القول قول المالك. القول الثاني: قول من يقول: القول قول من يدعي الإجارة؛ فهو في هذه الصورة مدعى عليه؛ لأنه يقول: إنه أخذ العين بالمقابل، فجرى على الأصل من أنه مستأجر، وكونه يضمن الدار، أو يكون غاصبا ويحمله قيمة الدار هذا خلاف الظاهر؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها. وكل من قال قولا خلاف الأصل فهو مدعي: والمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد فيقول: الأصل أن هذا الشخص الذي في الدار بريء، ومادام أنه قال: أنا مستأجر، والغالب أن الإنسان يأخذ الدار مستأجرا لمنافعها، فإذا تلفت نقول: تلفها مستحق على مالكها حتى يثبت أن هذا الشخص قد تحمل ضمانها بالإعارة، أو بالغصب. ثم قالوا أيضا: الغصب خلاف الظاهر، والأصل أن المسلم لا يغصب لأن هذه تهمة، وبناء على ذلك نقول: لابد أن يقوم الدليل على أنه قد غصب؛ لأن الغصب تترتب عليه آثار من الإثم والتعزير، وهذا القول الثاني أيضا من القوة بمكان. وعلى هذا ترددت أقوال العلماء بين الجانبين، بعضهم يقول: إننا نصدق الذي في الدار؛ لأنه مدعى عليه، ونطالب المالك بإقامة دليل على أنه غصب، وأخذت منه الدار، وأن هذا هو الذي غصب. ومنهم من يقول: نصدق المالك لأن أموال الناس ومنافع أعيانهم الأصل ضمانها. وكلا القولين له وجهه، وله تعليل وإن كان -كما ذكرنا- القول الثاني في مسألة الغصب -وهو القول بتصديق المالك- يضعف؛ لأنه تترتب عليه ما ذكرناه من المؤاخذة،؛ إذ لا يقف الأمر على ضمان الأعيان والمنافع بل يتعدى ذلك إلى الاتهام، والأصل براءة المتهم حتى تثبت إدانته. اختلاف المعير والمستعير في رد العارية قال رحمه الله: [أو اختلفا في رد فقول المالك] . هذه المسألة غير المسألة الأولى، والعلماء رحمهم الله لما ذكروا مسائل العواري نبهوا على قضية الرد وعدم الرد، إذا قال: فلان أخذ مني سيارتي عارية، ولم يردها، فقال الذي أخذ: بل رددتها. هل نصدق الذي أخذ السيارة أم نصدق المالك؟ إن صدقنا الذي أخذ السيارة، فحينئذ نطالب المالك بإقامة دليل على أن فلانا لم يرد السيارة، وإن صدقنا المالك وقلنا: إنك لم تردها، طالبنا الذي أخذ السيارة بالبينة والشهود على أنه قد رد السيارة. مثال: إذا قال له: رددتها، قال: لم تردها، سأل القاضي الذي أخذ السيارة: متى رددتها؟ قال: رددتها ليلة الجمعة، قال المالك: ما ردها ليلة الجمعة، فشهد شاهدان أن فلانا المالك كان يقود سيارته صباح الجمعة، فهذه بينة تدل على كذبه، وأنه فعلا قد ردت إليه السيارة؛ لأنه ادعى عدم الرد، وقد ثبت أنه ردها، لكن إذا لم توجد بينة، فهل نصدق الذي قال: رددت، أو نصدق الذي نفى الرد؟! عندنا مثبت للرد وعندنا ناف، وهذه المسألة ترجع إلى نفس المسألة السابقة: كيف نميز بين المدعي والمدعى عليه؟! فبعض العلماء يقول: إذا أخذ السيارة وادعى أنه ردها، وادعى صاحب السيارة أنه لم يردها، فعندنا شيء اسمه اليقين، وشيء اسمه الشك، واليقين لا يزال بالشك، فهو يعترف أنه أخذ السيارة، وكلا الطرفين مقر بأن هناك أخذا للسيارة. فإذا نقول: ما دمت أنك تقر أنك أخذت سيارة فلان فأثبت لنا يقينا أو بما هو في حكم اليقين وبالبينة أنك قد رددتها؛ لأنك مقر أنك أخذتها، ومقر أن ذمتك قد شغلت بهذه السيارة. ففي هذه الحالة إذا قال: أعرتك، قال: نعم أعرتني ولكن رددت السيارة إليك، أعرتني دارك ولكن رددتها إليك. مادمت قد أقررت أنك أخذت فإن يدك تكون مشغولة بهذا الأخذ، ومحكوم عليك أنك آخذ حتى يثبت أنك قد رددت الذي اعترفت بأخذه، هذا وجه قول من قال من العلماء: إنه يصدق المالك. وهذا هو القول الصحيح، أنه إذا أقر واعترف بأنه أخذ السيارة عارية وردها، نقول: أقم البينة على أنك رددتها. وبعض العلماء يقول: نصدقه لأن الذي يقول: رددت، مثبت، والذي يقول: لم ترد، ناف، والمثبت مقدم على النافي، ولكن الصحيح أن القول قول المالك كما ذكر المصنف، وهذا هو الصحيح والخلاف هنا ضعيف. فإن قول من قال: يصدق الذي قال: رددت، قول ضعيف، خاصة وأن أصول القضاء تقوي أن القول قول المالك؛ لأن الذمة قد ثبت شغلها بالأخذ، فلابد من إثبات الدليل على براءتها بالرد. الأسئلة الفرق بين الإجارة والعارية من جهة تمليك المنافع وعدمه السؤال ما الفرق بين تمليك المنافع في الإجارة وأحقية التصرف فيها، وتمليك المنافع في العارية وعدم أحقية التصرف فيها، مع أن الكل يضمن إن فرط وتعدى؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن المستأجر منك إذا استأجر دارا لمدة سنة بخمسة آلاف فمعناه: أنك لا تملك سكنى هذه الدار سنة كاملة، وتنازلت عنها لقاء خمسة آلاف ريال؛ يملك بها المستأجر هذه المنفعة ملكا تاما، من حقه أن ينتفع هو ومن حقه أن يقيم غيره مقامه، وأنت رضيت بهذا الملك، ورضيت بالمعاوضة عليها، والله أمرك بالوفاء وإتمام العقد على ما اتفقتما عليه. فالإجارة فيها عوض، ويجب عليك خمسة آلاف لقاء السكنى سنة، وأما في العارية فلن يدفع لك شيئا، وصارت على محض الإحسان والتكرم والتفضل، وحينئذ تضعف يد الآخذ في العارية أكثر منها في الإجارة؛ لأن الإجارة قد عاوضك وأعطاك قيمة الشيء، وأما في العارية فلم يعطك في مقابل العارية شيئا، وعلى هذا لا يستحق في العارية إذا وهبت له وأعطيت إلا في حدود الهبة والعطية، فتقيدت في العارية وأطلقت في الإجارة، واستحق في الإجارة ولم يستحق في العارية، فالفرق بينهما واضح، ولذلك يكون المستأجر مالكا للمنافع في الإجارة غير مالك للمنافع في العارية، وهذا على القول بأنها إذن بالمنافع وليست بتمليك خلافا للجمهور، والله تعالى أعلم. حكم تضمين المستعير إن كانت العارية بها عيب وزاد عيبها عنده السؤال إن استعار شخص سيارة بها عيوب ثم تلفت في يديه من جراء تلك العيوب والأعطال التي بها سابقا، فهل يضمن المستعير؟ الجواب نعم تضمن في هذه الحالة؛ لأن يدك يد ضمان فرطت أو لم تفرط، وتضمنها معيبة ولا تضمنها كاملة، مثال: لو أخذت السيارة وهي في آخر رمق منها، تسير ساعة وتقف ساعتين، ففي هذه الحالة الشرع يقول لك: أي شيء تستعيره فإن يدك يد ضمان، فأنت الذي أدخلت على نفسك الغرر، معنى ذلك: إذا كانت السيارة في آخر رمقها فأنت ضامن، كأنك تقول: أنا أتحمل مسئولية ردها، فإذا لم تردها فيدك يد ضامنة تضمنها بحالتها، فإذا وجدت مثلها تسير ساعة وتقف ساعتين حينئذ تضمن المثلي، وإن كان لا مثل لها وقيمة مثلها ثلاثة آلاف، نقول: عليك ضمان هذه السيارة بالتلف، أي: بالعيوب الموجودة فيها، ولا تضمنها كاملة، وعلى هذا نقول: يدك يد ضمان وليست بيد أمانة حتى يفصل بين كون التلف بتفريط أو بدون تفريط، بسبب موجود أو غير موجود، فقوله: (أغصبا يا محمد! قال: بل عارية مضمونة) نص يدل على أن العواري تضمن، وأن من أخذ العارية فقد تحمل المسئولية. وهذا في الحقيقة حكمة من الشريعة؛ لأن الشخص الذي أعطاك العارية تكرم وتفضل بمنافعها؛ فجعل الشرع مكافأة له على هذه المنافع -كنوع من العدل، والشريعة قائمة على العدل- أنك تضمن ردها له تامة كاملة على الصفة التي أخذتها بالتمام والكمال، والله تعالى أعلم. حكم تمكين الغير من استخدام العارية عند الحاجة السؤال لو أن شخصا استعار سيارة في سفر، واحتاج أثناء الطريق لشخص آخر يقود السيارة عنه، فهل في ذلك حرج؟ الجواب لا حرج إلا الضمان؛ فلو أن هذا الشخص الثاني تصرف فيها فتلفت تضمن؛ لأن الشخص الثاني إن أقمته مقامك عند الضرورة والحاجة يسقط عنك الإثم، لكن لا يسقط عنك الضمان، فإن الذي ملك السيارة أذن لك أن تقودها ولم يأذن للغير أن يقودها، ولذلك تقف حتى يتراد إليك نفسك؛ لأنه ما دام أنه قد أذن لك أنت أن تقود فإنه لم يأذن لغيرك بقيادتها، وهذه شريعة تامة كاملة تضمن حقوق الناس على أتم الوجوه، قد ترضى لمحمد يسوق ولا ترضى لغيره، فلو جئت تتساهل في هذا الشيء اليسير الذي لا خطر فيه، فقد تتساهل في شيء أعظم خطورة، وشيء أكثر مفسدة، ولذلك -من حيث الأصل الشرعي- لا يقوم غيرك مقامك؛ لأن الشريعة قالت: أذن لك ولم يأذن لغيرك، فتبقى أموال الناس مصونة ومحفوظة، ولا يمكن للغير أن يقوم مقامك إلا إذا أذن المالك الحقيقي بإقامته مقامك، والله تعالى أعلم. بالنسبة لهذه المسألة يستثنى منها الاشتراط، كأن تقول له: فإن تعبت يقود عني ابني، أو اجعلني في حل إذا احتجت لغيري أن يسوق بي، فهذا إذن، أيضا يدخل في هذه المسألة الإذن المعروف مثلما يقع بين الأصدقاء والأحبة، تعلم أن أخاك تطيب نفسه أن تقيم غيرك مقامك في حالات الحاجة، وذكروا دليلا لذلك حديث أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سمعت الصيحة في المدينة، خرج الناس فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أروع الأمثلة على شجاعته -بأبي وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، وثبوت قلبه وجنانه، فلما صارت الصيحة والفزع كان أول من خرج عليه الصلاة والسلام، فكان لا يبالي بالموت ولا يبالي بشيء صلوات الله وسلامه عليه؛ وهذا من كمال إيمانه، وكمال رجولته عليه الصلاة والسلام، فكان أتم الناس في قوة إيمانه وتوكله على ربه، فكان أول من خرج على فرس أبي طلحة، وأخذ فرس أبي طلحة من دون إذن أبي طلحة، وللعلماء فيه أوجه، منها: قالوا: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب:6] فقالوا: إذا كان أولى بهم من أنفسهم فمن باب أولى أموالهم، وفي هذا الحديث لا يقل عن ثلاثين مسألة، فقط في أخذ فرس أبي طلحة. من هذه المسائل: أنه يجوز أن تأخذ مال الغير إذا علمت رضاه، فإنه ركب فرس أبي طلحة وهو يعلم أن أبا طلحة يحب ذلك ويرضى به، فأنت إذا أخذت الشيء عارية وأنت تعلم أن صاحبه لو وقف واطلع على الشيء الذي فعلته عند حالات الضرورة أذن لك، قالوا: في هذه الحالة يسقط عنك الإثم؛ لأنك تعلم أن من عادته وطبيعته أنه يأذن لك بهذا، وهكذا لو وجدت حذاءه -أكرمكم الله- وأنت محتاج لأخذه فأخذته، ولو وجدت دابته وأنت محتاج إليها فأخذتها؛ وهذا معروف بين الإخوة والأصدقاء والأحبة، قالوا: فيجوز أن تقيم الغير مقامك ليقود بك عند حالات الحاجة، أو تعرفه حليما رحيما إذا حكيت له هذا الظرف وافق على أن تقيم غيرك مقامك، فهذا لا بأس به، ولا إثم فيه، لكن لا يخرج الشيء عن يد العارية الموجبة للضمان. حكم الجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع بنية واحدة السؤال هل يصح أن أجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع في وقت طواف الوداع بنية واحدة؟ الجواب أولا: على المسلم أن يلتزم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالخير كل الخير في اتباع هديه والسير على نهجه صلوات الله وسلامه عليه، إن المسلم حينما يعلم أن هديه عليه الصلاة والسلام في يوم النحر أنه نزل وطاف طواف الإفاضة، ثم رجع وبات بمنى ورمى الجمار، ثم رجع وطاف طواف الوداع فإنه يفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك هذه السنة، ولا يتساهل فيها، ولذلك حينما يقول: هذا واجب وهذا ركن، والواجب يندرج تحت الركن، يقول بعض العلماء: إن الفقه قد يكون وبالا على صاحبه متى؟ حينما تجد من يتعلم الفقه يقول لك: هذه سنة فيتركها، بينما العامي يعلم أنها سنة ولكن يقتتل عليها حتى يحصلها، فانظر كيف أن هذا جاهل يفوز بالدرجات العلى وهذا عالم يحرم الخير. فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يفرط بالسنة، هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه نزل في يوم النحر وطاف طواف الإفاضة، فلماذا تترك هذه السنة؟ ما الذي أقدم الإنسان من آلاف الكيلو مترات أشعث أغبر من كل فج عميق، وتحمل المشاق؟ ثم يأتي الشيطان يحول بينه وبين الخير ويمنعه من خطوات يتبوأ بها الدرجات العلى والخير الكثير، ويصيب بها الرحمة ويشرفه الله بالطواف ببيته فيمتنع من هذا الخير كله ويتقاعس عنه، ويقول: أجمع بين طواف الإفاضة والوداع؛ لأن الفقهاء يقولون: يندرج الأصغر تحت الأكبر، لماذا يحرم الإنسان نفسه هذا الخير؟ نعم إن وجد عذر، كالمرأة الحائض تحيض في العيد، ويأتي يوم النحر وهي حائض، لا تستطيع أن تطوف طواف الإفاضة، ثم تبقى يوم التشريق الأول والثاني والثالث، ثم تطهر فتريد أن تطوف طواف الإفاضة وتريد أن تصدر، نقول: طوفي طواف الإفاضة ويكون مغنيا لك عن طواف الوداع، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافه) . فهذه إذا طافت طواف الإفاضة ونوت تحته طواف الوداع أجزأ؛ لأنه واجب لا يتحقق إلا بالنية، وفي هذه الحالة قد تحقق مقصود الشرع بجعل آخر العهد بالبيت طوافه، لكن القادر والمستطيع وطالب العلم والعالم الذي يعلم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته ويقصر في ذلك، فهذا أمر لاشك أنه حرمان من الخير، وفوات للخير على العبد، وهو من تخذيل الشيطان للإنسان، فينبغي للمسلم أن لا يكون ذلك الرجل، ويحرص المسلم وتحرص المسلمة على أن تنزل يوم العيد وتطوف طواف الإفاضة في يوم النحر؛ لأن في ذلك الخير الكثير، قال تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون [الأعراف:158] . جعل الله أحب الأشياء إليه وأعظمها عنده زلفى وقربى منه سبحانه وهي الهداية، جعلها مقرونة باتباع هديه عليه الصلاة والسلام؛ وهي أ'ظم مكافأة يجدها المسلم في اتباعه، قال سبحانه وتعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون [الأعراف:158] ، فنتبع سنته عليه الصلاة والسلام، ونطوف طواف الإفاضة في يوم النحر، ونطوف طواف الوداع إذا صدرنا وخرجنا، ونجعله آخر العهد؛ فإن وجد العذر فلا بأس حينئذ، وأما إذا لم يوجد العذر وفعل الإنسان ذلك متعمدا فقد فاته الخير، وليس هناك دليل على الإلزام بشيء، والله تعالى أعلم. حكم حج من أغمي عليه ولم يرم الجمرات السؤال رجل أصيب بالإغماء في اليوم الثاني عشر ولم يرم، فما الحكم؟ الجواب الحجة تامة، إذا كان ذلك بعد وقوع أركانه على الصفة المعتبرة، وفي هذه الحالة إذا أفاق فإنه يرمي ما لم تتأخر إفاقته إلى فوات الوقت؛ فمذهب طائفة من العلماء: أن الإغماء موجب لسقوط التكليف؛ وبناء على ذلك: يسقط عنه التكليف بالإغماء على هذا القول، ومن العلماء من يفرق بين الإغماء الطويل والإغماء القصير، فيقولون: ما كان في حدود الثلاثة الأيام يكون المغمى عليه في حكم المكلف، ولذلك قالوا: إن عمار بن ياسر قضى الصلوات حينما أغمي عليه ثلاثة أيام، والأشبه من ناحية أصولية: أن المغمى عليه أشبه بالمجنون منه بالنائم، فإن من يقول: هو مكلف، يشبهه بالنائم، ومن يقول: إنه غير مكلف، يشبهه بالمجنون، وهذا أصح؛ لأن النائم إذا أيقظه الإنسان استيقظ، والمغمى عليه لو أيقظه لا يستيقظ، ولذلك هو أقوى -من حيث الأصل- شبها بالمجنون، فيسقط تكليفه، والله تعالى أعلم. حكم من اعتمر ليلة يوم التروية ثم تحلل وأهل بالحج السؤال من يعتمر ليلة يوم التروية ثم يتحلل ويهل بالحج قبل ظهر يوم التروية، فهل هذا يعتبر متمتعا؟ الجواب نعم. يعتبر متمتعا، من جاء بالعمرة قبل الوقوف بعرفة وتحلل منها، سواء وقع ذلك على الوجه الذي يدرك به السنة من يوم التروية، أو كان ذلك على وجه تفوت به السنة، كأن يأتي متأخرا، فما دام أن عمرته قد وقعت قبل الوقوف بعرفة وتحلل منها، ثم بعد ذلك أحرم بنسك الحج فإنه يكون متمتعا وجها واحدا عند العلماء، والله تعالى أعلم. حكم الفصل بين الطواف والسعي السؤال هل يؤثر الفصل بين الطواف والسعي سواء كان هذا الفاصل قليلا أو كثيرا؟ الجواب السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الوصل بينهما، ويكون الفاصل بالمأثور وهو ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام من صلاته لركعتي الطواف، وشربه لماء زمزم، وتقبيله للحجر، ثم مضيه إلى السعي، هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، وخفف العلماء في الفاصل اليسير، كأن يستريح قليلا ويكون من كبار السن، أو تكون معه رفقة يخشى عليهم الضياع فينتظر اجتماعهم، أو نحو ذلك مما هو خفيف يسير، فهذا لا يؤثر عند من يشترط الموالاة بين السعي والطواف، أما لو كان الفاصل بأجنبي، أو كان فاصلا مؤثرا فاحشا، كأن يذهب إلى استراحته وينام، ثم يرجع ويسعى فهذا فاصل مؤثر يفوت به شرط الموالاة عند من قال باعتباره، والله تعالى أعلم. ما يشترط في الوكيل لرمي الجمرات السؤال هل يشترط في من وكل بالرمي عن العاجز أو المريض أن يكون مؤديا للحج في نفس العام أم يجوز أن يوكل من لم يحج في هذه السنة ويرمي وكان قد حج الفريضة؟ الجواب المسألة الأولى: لا يجوز التوكيل إلا عند وجود العذر، فمن كان معذورا كأن يكون مريضا أو به ضعف شديد أو عاجز لا يستطيع كالمشلول، فهؤلاء المعذورون هم الذين يرخص لهم في التوكيل، فإن كان العذر موجودا صح التوكيل، وإن كان العذر غير موجود فإنه لا يصح التوكيل ولا يجزئ الرمي، فإن الشخص الذي يذهب يرمي يتعب نفسه إذا علم أن الشخص الذي وكله غير معذور، كالذين يتلاعبون بالحج فينزلون في يوم العيد ويوكلون أشخاصا للرمي عنهم، فهؤلاء رموا أو لم يرموا فالرمي وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأن مثل هذا غير معذور، فيشترط وجود العذر، فإذا وجد العذر صح التوكيل، وإذا لم يوجد العذر لم يصح التوكيل. المسألة الثانية: إذا وكل ينبغي أن يكون الوكيل قد حج في نفس العام؛ لأن الرمي عبادة لا تصح إلا من الحاج ولا تجزئ من غير الحاج، تعبد الله بها من كان في النسك ولم يتعبد بها من لم يكن في النسك، فيجب أن يكون الوكيل قد حج في ذلك العام، فالشخص الذي يوكله لابد أن يكون محرما، ولا يكون من الحلال ممن لم يحج، فلا يجوز توكيل غير الحاج، ويبدأ الوكيل بنفسه، فيرمي الجمرات تامة، ثم يرجع ويرمي عمن وكله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) فالرمي نسك تام، فيبرئ ذمته منه تماما ثم يبرئ ذمة من وكله، فلو أنه رمى عمن وكله أولا، ثم رمى نفسه لم يجزئ، وهل ينقلب رمي من وكله عن نفسه أو يلزمه الإعادة؟ وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: ينقلب رميه عن نفسه ثم يرمي عمن وكله، وحينئذ يعيد مرة واحدة على هذا القول؛ لأن الرمي الأول انقلب له، لكن الرمي الثاني نواه عن نفسه فلا ينقلب للغير فيعيد مرة واحدة، وهناك من أهل العلم من قال: يجب عليه أن يعيد الاثنين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الغضب ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (370) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - باب الغصب [1] حرم الله الظلم على نفسه وجعله محرما بين العباد، ومن هنا حرم الله سبحانه الغصب وأخذ أموال الناس بغير حق، وتوعد عليه الوعيد الشديد سواء كان المغصوب عقارا أو منقولا على تفصيل عند العلماء في بعض الأشياء. الغصب من كبائر الذنوب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الغصب] . الغصب: هو أخذ الشيء بالقهر والقوة. وليس هناك اختلاف كبير بين حقيقة الغصب في اللغة، وحقيقته في الاصطلاح، وقد عرفه المصنف رحمه الله بقوله: [هو الاستيلاء على حق الغير قهرا بغير حق] . وهذا النوع من المعاملات يقع بين الناس في سائر الأزمنة والأمكنة، فابتلى الله عز وجل الناس بعضهم ببعض، وجعل هذا البلاء فتنة: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان:20] . فالله من حكمته أن ابتلى العباد بعضهم ببعض، ابتلى الضعيف بالقوي وابتلى القوي بالضعيف، اختبارا لعباده وابتلاء لهم فيما يعملون. فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ابتلاهم بهذا لكي يعظم الأجر للمبتلى فيما غصب منه، وكذلك يؤاخذ الغاصب بجنايته وظلمه لأخيه وأخذه لماله بدون حق. وباب الغصب باب مهم جدا، والعلماء رحمهم الله اعتنوا ببيان أحكامه في كتب الحديث وكتب الفقه، ولذلك أفردوه بباب مستقل تعظيما لشأنه، وبيانا لمسائله وأحكامه. يقول رحمه الله: (باب الغصب) أي: في هذا الموضع سأبين لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالاعتداء على أموال الناس، وأخذها بالقهر والقوة دون وجود مبرر شرعي لذلك الأخذ، وقد حرم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام الغصب، وانعقد إجماع الأمة على تحريم هذا الفعل، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب التي توجب سخط الله وغضبه على العبد والعياذ بالله، وتوجب عقوبة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29] . ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله حرم على المسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالباطل، والغصب أكل الأموال بالباطل؛ لأن الباطل هو الذي لا وجه للحق فيه، وكل من اعتدى على أرض أخيه أو ماله أيا كان ذلك المال بدون وجه حق فقد غصبه، وإذا أخذه على سبيل القهر والغلبة -كما سيأتي- فيدخل في عموم الآية أنه أكل المال بالباطل. وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر الغصب، ومن أصدق الشواهد على ذلك أنه ثبت عنه حديثان يدلان على عظم الاعتداء على أموال الناس سواء ذلك بالغصب أو غيره، أحدهما: عام، والثاني: خاص. أما الحديث العام: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف في حجة الوداع، وكانت خطبته عليه الصلاة والسلام لأمته في ذلك الموقف وذلك اليوم، قال في أول الخطبة: (أيها الناس! اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أبدا) فتصوروا هذه الكلمة والجملة! إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع الناس ويريد أن يقول كلاما ينبههم على أنه قد يكون آخر الكلام، وأنه وصية عظيمة، فمعناه: أنه قد بلغ من الأهمية الغاية، فكان أول ما استفتح خطبته عليه الصلاة والسلام -بعد أن قال هذه الكلمات العظيمة التي خشعت لها قلوب الصحابة وأحس الصحابة أنه يودعهم، وأنه آخر العهد به عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف الذي ما وقف بعده عليه الصلاة والسلام، وما عاش بعده إلا قليلا، قال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) فعظم تحريم الدم والمال والعرض، فما أعظم حق المسلم عند الله عز وجل! حيث حرم ماله ودمه وعرضه. فكل انتهاك لهذه المحارم الثلاث فإنه عصيان لله ولرسوله، ونسيان لهذه الوصية، فإذا سفك دم أخيه المسلم أو انتهك عرضه ولو بلمزة ولو بغيبة: فلان فيه! فقد ضيع وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي لما قالها عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف أشهد الله جل جلاله أنه بلغ رسالته وأدى أمانته. فقوله: (إن دماءكم) أتى بأسلوب التوكيد (إن) ثم قال: (دماءكم) فجعل الدماء دما واحدا، وقوله: (أموالكم) إذا اعتدي على مال أخيك المسلم فكأنه يعتدى على مالك، والذي يغصب من أخيك سيغصب منك، (وأعراضكم) وجعل الأعراض والأموال بمنزلة الدماء. فكما أنه لا يجوز لك أن تسفك دم أخيك المسلم، فإنه لا يجوز أن تغتابه ولا يجوز أن تحتقره، ولا يجوز أن تمس هذا العرض لأخيك المسلم دون وجه حق، فالغصب اعتداء على الأموال. ومن أسوأ أنواع الاعتداء: الغصب؛ لأن الغصب فيه نوع من القهر، والقهر فيه إذلال، والعبد قد يختار الموت على أن يعيش ذليلا، ولذلك من الناس من إذا غصب حقه مات من الكمد والألم ولربما أصابه مرض نفسي فطاش عنه عقله، وعزب عنه رشده بسبب ما يجده من ظلم وقهر، ولذلك استعاذ صلوات الله وسلامه عليه بربه وقال: (أعوذ بك من قهر الرجال) فالقهر أمره عظيم. فالسارق إذا سرق بالليل أو سرق خفية أخذ المال وذهب، ولكن الغاصب يأتي بقوته واستعلائه وجبروته ويفرض على الإنسان أخذ ماله فيأخذ ماله ويستمتع به، والمغصوب منه يرى ماله يؤكل بدون حق، فهذا من أبلغ ما يكون من الأذية والإضرار وانتهاك حق المسلم وضياع ما أوجب الله عز وجل له من حقوق! كذلك أيضا: صرح عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح بتعظيم أمر الغصب، وقال عليه الصلاة والسلام: (من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) وهذا الحديث صحيح، يقول العلماء: فيه جملة من المسائل: أولها: أنه يدل على تحريم الغصب؛ لأن القاعدة في الأصول: أن الفعل إذا ترتبت عليه عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة أو فيهما معا، أو جاء فيه وصف مشعر بالذنب دل على حرمته، وعدم جوازه، فهذا الحديث يدل على حرمة الغصب، وهذا محل إجماع. ثانيا: أنه يدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن القاعدة في الكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله كبيرة، أو توعد عليه بعقوبة في الدنيا أو عقوبة في الآخرة أو فيهما معا، وهذا قد توعد الله عز وجل عليه بأن يطوق صاحبه من سبع أرضين يوم القيامة، قال بعض العلماء: يطوق يوم القيامة من سبع أرضين على الحقيقة، والله على كل شيء قدير. قالوا: يمد عنقه -والعياذ بالله- حتى يسع القدر الذي اغتصبه من مال أخيه ويطوق من سبع أرضين على حقيقة، والله لا يعجزه شيء. فضرس الكافر الذي يعذب في نار جهنم يوم القيامة مثل أحد، وجبل أحد لا يقل عن أربعة كيلو مترات، وهذا الضرس فقط، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر -كما في الصحيح- مقعده في نار جهنم كما بين المدينة وبيت المقدس) فالله على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى. فيطوق على الحقيقة، وهذا الذي نؤمن به: أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبنا بلسان عربي مبين، أنه إذا ظلم أخاه المسلم قدر شبر أنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين، أما كيف ذلك؟ فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء. وكذلك أيضا أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه لا يجوز الغصب سواء كان ذلك في العقارات، أو كان في المنقولات، وأن الواجب على المسلم أن يحفظ لأخيه المسلم حقوقه، وألا يعتدي على تلك الحقوق، ولا يعين على الاعتداء عليها. وتحريم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام للغصب لما فيه من الظلم، والظلم من أعظم الكبائر، قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) . فالأرض يعظم فيها الفساد ويكثر فيها الشر إذا انتشر فيها الظلم، والله يمسك قطره من السماء، ويمحق البركة في الأرض إذا كثرت مظالم العباد، وبالأخص كما ذكرنا في مسائل الغصب، فإن الغصب يقطع أواصر الأخوة، ويشتت الناس شيعا وأحزابا، ويجعل الناس لا تثق ببعضها، ويجعل حمية الدين تقتل في القلوب وتقطع، حينما يرى المسلم يؤكل ماله وينتهك عرضه ولا يغار عليه، ولا يحفظ له ذلك المال، ولا يحفظ له ذلك العرض. ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب على المسلم أن يبتعد عنه وألا يعين عليه، فقد يعين الإنسان على الغصب بكلمة تخرج من فمه، ولربما بإشارة، فالواجب على الإنسان أن يتقي هذه الكبيرة العظيمة وأن يخاف الله سبحانه وتعالى فيها. والعلماء ذكروا مسائل الغصب من وجوه، فيعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان حقيقة الغصب وبم يكون الغصب؟! كذلك أيضا يعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان مواضع الغصب، وفي أي شيء يكون؟! وكذلك اعتنى العلماء ببيان الآثار المترتبة على الغصب. فإن الله لما حرم الغصب أوجب لهذا الذنب تكفيرا يكون برد العين المغصوبة، سواء كانت زائدة أو كانت ناقصة أو كانت كما هي، فإن كانت كما هي فلا إشكال، ويجب ضمان أجرتها إذا حبسها، وإذا كانت ناقصة فيجب عليه ضمان النقص، وإذا كانت زائدة ردها مع الزيادة، سواء كانت الزيادة متصلة أو كانت منفصلة، ثم يتكلم العلماء على مسألة التصرف في المغصوب، فلو أنه تصرف فيه حتى غير شكله وغير هيئته فأنقص منافعه، أو تصرف فيه فتغيرت بعض المنافع وعوض عنها بمنافع أخر، فكل هذه المسائل يعتني العلماء رحمهم الله ببيانها، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية. فالشريعة الإسلامية من سمو منهجها وكمال أحكامها وتشريعاتها أنها لا تقف عند تحريم الشيء، بل تبين حرمة الشيء والآثار المترتبة على تلك الحرمة، ولم يقف قضاء الإسلام يوما من الأيام عاجزا أمام مشكلة أو قضية سواء تعلقت بالغصوبات وآثارها أو بغيرها. فالعلماء يتحدثون عن هذه المسائل لأنها تبعات وآثار مترتبة على الغصوبات، وهذا هو الذي سيعتني المصنف رحمه الله ببيانه، وتختلف المتون الفقهية ما بين مطول ومختصر؛ ولعل الإطالة والاختصار بسبب أن الفقيه قد يكون يرى حكما تترتب عليه آثار، وقد لا يرى غيره ذلك الحكم فلا تترتب الآثار، فالذي يرى الحكم يفصل في آثاره. فمثلا: إذا قال: المغصوب تضمن زيادته، ولا يفصل سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة، فحينئذ سيتكلم على جميع ما يكون من الزيادات، لكن إذا قال: لا يضمن الزيادة المنفصلة، ويفصل بين الزيادة المتص تعريف الغصب والشافعية والحنابلة -رحمهم الله- توسعوا في مسائل الغصب، وتوسعوا في مسائل ضمان الغصوبات، والمصنف عقد موضعين: الموضع الأول: بين فيه المسائل التي تقدمت. الموضع الثاني: بين فيه كيفية ضمان الغصب، وهو الفصل الثاني، وبين فيه حدود الضمان وصفة الضمان، واختلاط المغصوب بغيره، إلى غير ذلك من المسائل التي بينها رحمه الله برحمته الواسعة وجزاه وإخوانه من العلماء والأئمة سلفا وخلفا خير ما جزى عالما عن علمه وعن أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [وهو الاستيلاء على حق غيره قهرا بغير حق من عقار ومنقول] . الاستيلاء يكون على صورتين: الاستيلاء الحقيقي: كأن يأتي ويدخل على داره ويخرجه من الدار، فيتمكن من نفس العين، فهذا استيلاء حقيقي، لا يستطيع صاحب الدار أن يدخلها، ولا يستطيع أن ينتفع بمنافعها. أيضا: جاء إلى سيارته فأخذ مفاتحها ثم حال بينه وبينها، فحينئذ يكون الاستيلاء حقيقيا، لأنه حال بينه وبين العين ومنافعها. ويكون الاستيلاء حكميا، مثلا: يقول له: لا تدخل دارك، ولا تركب سيارتك، فإن دخلتها فعلت بك أو سأفعل بك، فهدده ومنعه، فحينئذ لم يستول عليها لكنه حال بينه وبين منافعها والانتفاع بها، فهذا أيضا من الغصب ومن الأذية والإضرار، سواء كان الاستيلاء حقيقيا أو كان حكميا بالحيلولة بين الإنسان وبين الشيء، مع أن العين في الصورة الثانية، -وهو الاستيلاء الحكمي- تكون تحت مالكها، لكن وجودها وعدمها على حد سواء، فحينما يقول له: إذا دخلت دارك أفعل وأفعل!! فوجود الدار وعدمه على حد سواء. وإذا قال له: إذا ركبت سيارتك، أو ذهبت على سيارتك أو انتفعت بسيارتك فإني سأفعل بك وأفعل! فالسيارة وجودها وعدمها بالنسبة له على حد سواء، فهذا يعتبر غصبا. وقوله: (الاستيلاء على حق الغير) خرج الاستيلاء على المباحات التي لا حق لأحد فيها، كأن يأتي شخص -مثلا- إلى العشب والكلأ فيستولي عليه فإن هذا ليس بغصب. وقوله: (على حق الغير قهرا) ، أن يستولي على سبيل القهر والقوة والغلبة، وبناء على ذلك: خرج الاستيلاء خفية كالسرقة، فإن السارق والمختلس -والعياذ بالله- يستولي على مال غيره خفية، وهنا يفرق بين السارق وبين الغاصب، فالغصب يكون عيانا وجهارا، ولكن السرقة تكون خفية، فلا يسمى الغصب سرقة، فلا يقال لشخص جاء إلى آخر وأخذ منه سيارته قهرا أمام عينيه وهو يعلم أن فلانا الذي أخذها، ما يقال: سرق مني سيارتي! لأن السرقة تكون خفية، ولكن يقال: اغتصب وغصبه حقه؛ لأنه أخذه على سبيل القهر. ويكون ذلك القهر إما بالتهديد وإما بالقوة والفعل والمس بالضرب، فجميع هذه الصور تعتبر من صور الغصب. وقوله: (بغير حق) خرج الاستيلاء على مال الغير وحق الغير بحق، كما لو أن القاضي أمر ببيع مال المفلس بسداد الديون، فإنه حينما تؤخذ أموال المفلس -كما تقدم معنا في باب التفليس- تؤخذ بقوة منه شاء أم أبى، وتباع لسداد ديونه؛ لأن ذمته مشغولة لحق الغير، فحينما أخذنا مال المفلس أخذناه بحق ولم نأخذه ظلما. وبناء على ذلك: يكون هذا غير داخل في الغصب، وصحيح أنه أخذ بالقوة وأخذ بالقهر ولكن بوجه حق، وعلى هذا لا ينطبق عليه وصف الغصب. وهذا التعريف في الحقيقة من أجمع التعاريف التي ذكرها العلماء رحمهم الله في تعريف الغصب. وقوله: (من عقار ومنقول) ، من: بيانية، وعقار: يعني: أن الغصب يدخل في العقارات وفي المنقولات، وقد بينا معنى العقار ومعنى المنقول. فغصب العقار من أمثلته: أن يغصب بيته، أو يغصب أرضه، ولو كان قدر شبر، فلو أخذ قدر شبر من أرضه فقد غصبه. ومثال الغصب في المنقولات: كأن يغصب سيارته، أو يغصب قلمه، أو يغصب ساعته أو ثوبه، وكل ذلك من غصب المنقولات. حكم غصب كلب أو خمر ذمي قال رحمه الله: [وإن غصب كلبا يقتنى أو خمر ذمي ردهما] . هذه المسألة متعلقة بالتعريف، وهو يقول: الاستيلاء على حق الغير، فلابد أن يكون عندنا غاصب ومغصوب منه، وشيء مغصوب، وهذا الشيء المغصوب يشترط فيه أن تكون له حرمة، وأن تكون له قيمة، فإذا كانت له قيمة كالثوب والدابة والأرض، وله حرمة وقيمة شرعا، حرم شرعا، فإذا لم تكن له حرمة مثل أن يغصب خمرا، فالخمر لا حرمة له شرعا ولا قيمة، فلا نقول: إنه غصب، لكن يفصل بين من يجوز له أن يشرب الخمر وبين من لا يجوز له أن يشرب الخمر، فالذميون وأهل الكتاب يجوز لهم شرب الخمر ومباح في دينهم، فهو محترم بالنسبة لهم ومال وله قيمة في دينهم، لكنه ليس له قيمة عندنا نحن وليس له حرمة. ولو أنه غصبه ميتة، فالميتة لا قيمة لها ولا حرمة لها، فحينئذ لا نقول: هذا غصب، لكن في المسألة تفصيل. فقوله: (وإن غصب كلبا يقتنى) . الكلب -أكرمكم الله- ينقسم إلى قسمين: ما أذن الشرع باقتنائه، وما لم يأذن الشرع باقتنائه؛ فقد أذن الشرع باقتناء كلب الصيد والحرث الذي يكون للحراسة، وكلب الماشية الذي يكون لحراستها أيضا، وكلب الصيد لأن الله أحل لنا أكل صيد الكلاب: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة:4] ، هذه الثلاثة الأنواع من الكلاب -أكرمكم الله- يباح اتخاذها، وأذن الشرع باقتنائها لمن يقتنيها لواحد من هذه الثلاثة: يقتنيها للصيد، أو لحراسة مزرعة، أو لحراسة ماشية، وما عدا ذلك فلا، وليس له قيمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الكلب، وقال كما في الحديث الصحيح في الصحيحين: (ثمن الكلب سحت) ، ونهى عن ثمن الكلب كما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وفي حديث جابر لما سئل عن ثمن الكلب والسنور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه) ، وفي حديث ابن عباس في السنن: (إن جاءك يريد أخذ ماله -يعني: أخذ مال الكلب- فاملأ كفه ترابا) . فإذا: الكلب ليس له قيمة، فلو أنه غصب كلبا فإننا ننظر فيه: إن كان من غير الثلاثة فإن هذا الكلب يعتبر لا قيمة له، ولا يطلق على من أخذه أنه غاصب، لكن لو أنه أخذ كلبا يقتنى فإننا نقول: هناك مسألتان في الغصب: إن قتل الكلب وقضى عليه وأهلكه فلا نوجب عليه الضمان؛ لأنه لا قيمة للكلب، وإن كان الكلب موجودا فنقول: يجب عليك رد الكلب لمن أذن له شرعا باقتنائه، فنرخص بقدر ما رخص الشرع. فالذي يغصب الكلب له حالتان: إما أن يكون الكلب مما أذن باقتنائه، فحينئذ يجب عليه رده إن كان موجودا ولا ضمان عليه إن أتلفه، وإن كان الكلب غير مأذون باتخاذه كأن يأتي شخص فيجد شخصا يلعب بالكلب فيأخذ الكلب ثم يتلفه -كما لو كان مأمورا بقتله- فقتل الكلب، فنقول له: لا يجب عليك الضمان ولو كان الكلب حيا لا يجب عليك الرد؛ لأننا لو قلنا: إنه يرده فإن هذا الشخص الذي يقتني الكلب على وجه غير مأذون به شرعا يعتبر متعاطيا للحرام. فالآخذ للكلب لو قلنا له: رده، أعان على الإثم والعدوان، فنقول: لا يجب الرد، إن كان الكلب غير مأذون باتخاذه، لكن إن كان مأذونا باتخاده وجب الرد، فإن أتلفه فلا ضمان عليه. لكن يبقى السؤال إن كلب الصيد يعلم، وربما كان أثناء تعليمه تحمل مصاريف التعليم، ولربما استأجر شخصا من أجل أن يعلم الكلب، فهل يضمن ذلك أو لا يضمن؟ المنصوص عليه عند العلماء عدم الضمان، ويقوم القاضي بتأديب الشخص الذي أخذه، فيكون الضمان هنا للتأديب، ويكون دفع القيمة إجارة للمصلحة، فقالوا: هذا للمصلحة وقد علم كلبه وحصلت له المصلحة، ثم بعد ذلك الضمان لا يضمن، لأن هذا من جنس ما يضمن. وهناك قول يقول: يجب عليه ضمان أجرة التعليم، فيضمن له أجرة تعليم الكلب؛ لأنه فوت عليه مصلحة مأذون بها شرعا. إذا: بالنسبة للكلب فيه تفصيل على الوجه الذي ذكرنا: إن كان مما أذن باقتنائه وجب رده إن كان حيا، ولا ضمان على من أتلفه، وإن كان غير مأذون باتخاذه نقول: لا يجب عليك رده ولا يجب عليك الضمان إن أتلفته. وقوله: (أو خمر ذمي) . أي: إن أخذ خمر ذمي وجب عليه الرد إن كان الخمر موجودا، ولا يجب عليه الضمان إن أتلفها؛ لأن الخمر لا قيمة لها، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أنه قام في الغد من فتح مكة وأخذ بحلق الباب -كما في الرواية في السير- وقال عليه الصلاة والسلام في خطبته: إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) فقال: (حرما بيع الخمر) فأسقط قيمة الخمر، ودل على أن حكم الشرع على أن الخمر لا قيمة لها بحكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما فتح عليه الصلاة والسلام الطائف، جاء له صديق في الجاهلية وأعطاه مزادتين من الخمر هدية له على الفتح، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للرجل: (أما علمت أن الله حرمها؟ -كان يظن أن الخمر مباح- فقال: ما علمت، فقام رجل فساره -أي: سار صاحب المزادتين- قال عليه الصلاة والسلام: بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الذي حرم شربها حرم بيعها) فأسقط المالية عن الخمر، ودل على أن الخمر لا قيمة لها، فلو أتلف الخمر نقول: لا يضمن قيمة الخمر، سواء كانت خمر ذمي أو غيره. يقول قائل: الذمي مأذون له في الخمر وماله كمال المسلم بحكم عهد الذمة، قالوا: هذا شريطة ألا يظهر، فإن أظهر فقد أخرجها عن ضمان حقه. حكم غصب جلد ميتة قال رحمه الله: (ولا يرد جلد ميتة) . الميتة من غير الجلد متفق على تحريمها وعدم الانتفاع بها، إلا الشعر ففيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، وأما بالنسبة للجلد فقد تقدم معنا في كتاب الطهارة أن جلد الميتة فيه مذهبان، وجمهور العلماء على أن جلد الميتة لو أخذته ودبغته فإنه طاهر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ومر على ميتة فقال: (هلا انتفعتم بإهابها؟! قالوا: يا رسول الله! إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها) فدل على أن التحريم يختص بالأكل ولا يشمل الانتفاع بالجلد. وعند الحنابلة -وهو القول الثاني في المسألة- لا يجوز الانتفاع به، وأن جلد الميتة لا يطهر بالدباغة، واستدلوا بحديث عبد الله بن عكيم الجهني رحمه الله -وهو من التابعين- قال: (أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر أو شهرين وفيه: وألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) فقال: ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب وهو الجلد، ولا عصب، فدل على أن جلد الميتة لا يطهر بالدبغ، ولكن الحديث الأول أصح من هذا الحديث، والحديث الثاني مضطرب إسناده ومتنه، والعمل على عدم ثبوته. وبناء على ذلك نقول: إن جلد الميتة يجب رده، إذا كان جلد الميتة مما يمكن دبغه ومما أذن بدبغه من بهيمة الأنعام وما في حكمها، على التفصيل الذي قدمناه في الطهارة، فيجب ضمانه ويكون طاهرا بالدباغ، ويضمن من أتلفه إذا أتلفه بالغصب. حكم إتلاف الكلب والخمر وجلد الميتة قال رحمه الله: [وإتلاف الثلاثة هدر] (وإتلاف الثلاثة هدر) من أتلف الخمر، أو الميتة، أو الكلب، فإتلاف الثلاثة هدر، ففرق بين الرد وبين الإتلاف، فيرد الأولين وهما: الكلب لمن يقتنيه على الوجه المأمور به شرعا، والخمر للذمي؛ لوجود الإذن الشرعي، وهذا في الرد. وقلنا: هناك جانبان: الرد والضمان. فبالنسبة للرد يجب إذا كان مأذونا به، مثل: الكلب للصيد أو الحرث أو الماشية، والخمر للذمي؛ لأنه مأذون له به شرعا. وأما بالنسبة للإتلاف فلو أتلف فلا ضمان عليه، سواء أتلف خمرا أو أتلف كلبا -على التفصيل الذي قدمنا- أو أتلف جلد ميتة، لكن قلنا: جلد الميتة فيه تفصيل؛ لأن المصنف -رحمه الله- درج على مذهب الحنابلة في هذه المسألة. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
كلمة عن دعم المسلمين في كوسوفو أحب في الحقيقة أن أذكر الإخوان جميعا بأمر مهم، لابد من العناية به خاصة في هذه الأيام، وهو ما أصاب إخواننا الألبان في كوسوفو، وهم الآن في أشد الحاجة إلى معونة إخوانهم المسلمين، والوقوف معهم، فإن الله جمع بالإسلام بين المسلمين وألف بين أرواحهم، وجعلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن كمل إيمانه وكمل إسلامه كان مع أخيه كالجسد الواحد، يتألم بآلامه ويفرح بأفراحه، وإن المسلم ليأن ويتألم وهو في مشرق الأرض لأخيه في مغربها؛ لأن أخوة الإسلام أعز من أخوة النسب، بل وأعز من كل أخوة، وإن الله يرضى عن المسلم الذي تدمع عينه ويتقرح قلبه على إخوانه المسلمين؛ لأن هذا الألم وهذا الحزن يدل على كمال الإيمان، ويدل على الرحمة التي أودعها الله في القلوب، ومن رحم أخاه المسلم رحمه الله في الدنيا والآخرة. فالواجب علينا أن نتفكر وأن ننظر في أحوال إخواننا، وأن نحس بالمسئولية والواجب الذي يحتمه علينا ديننا، ويفرضها علينا إسلامنا، وأن يحس المسلم بما أصاب إخوانه من هذه الأذية وهذا الاضطهاد والظلم والعسف والجور، الذي ضيعت فيه حقوقهم، وانتهكت فيه أعراضهم، وسفكت فيه دماؤهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! الواجب على المسلم أن يبذل كل ما يستطيع -بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان- لنصرة إخوانه المسلمين، وهذا أمر يوجبه علينا إسلامنا وديننا، أن نرى هؤلاء المسلمين يشردون ويقتلون، وما نقموا منهم إلا الإسلام، والله لا الأرض، ولا المال، ولا النسب، ليس هناك إلا الإسلام، والمسلم العاقل الواعي يدرك هذه الحقيقة، فليس هناك أي أمر يؤذون من أجله إلا الدين، وما نقموا منهم إلا الإيمان بالله عز وجل في تلك البقعة التي قل أن يوجد فيها مسلم، حرق أعداء الله -شتت الله شملهم، وفرق جمعهم، وجعل بأسهم بينهم- حرقوا عندما رأوا الإسلام في عقر تلك الدار التي قل أن يوجد فيها مسلم، يبقى هذه القرون وهذا الردح من الزمن، وحينما رأوا أن هذه الأمة تفتخر بإسلامها، وأنها متمسكة بدينها تحس أنها مرتبطة بكم برابطة الدين، وهي اليوم تقف محتاجة في أمس الحاجة إلى رحمة ربها أولا وقبل كل شيء ثم إلى رحمة إخوانهم من المسلمين، الله الله في إخوان الإيمان. وعلى طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن يعتنوا بهذا الأمر، لا يجوز خذلان المسلم، ومن خذل أخاه المسلم خذله الله في الدنيا والآخرة، والمصائب والنقم تحل على المسلمين إذا خذل بعضهم بعضا، والله يرفع البلاء على المسلمين إذا كانوا متراحمين متعاطفين، يعطف بعضهم على بعض. كان بعض العلماء يمرض إذا سمع بكارثة نزلت على المسلمين في أي بلاد، وكان البعض منهم ربما يمرض حتى يعاد من شدة الألم والحزن، ونحن لا نبدي الخوف والضعف، والله يعلم ما تستكن به قلوبنا من الثقة في الله جل جلاله. وخير ما تنصرون به إخوانكم: أولا وقبل كل شيء: ألا تنسوهم من صالح الدعاء، فإن الدعاء حبل متين، ولا يستهين إنسان بدعواه لعل الله أن يجعل لك دعوة تفتح لها أبواب السماء يكتب لك أجرها، فأنت إذا قلت: اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم، كتب الله لك كل ما يكون من هذه الدعوة، فتكون معهم بالدعاء في سجودك بين الأذان والإقامة في الأسحار، ادع لإخوانك. تصور أن هذه المرأة المنكوبة المكلومة المفجوعة المفزوعة أنها أم للإنسان أو أنها أخت أو أنها بنت، ماذا يكون حال الإنسان؟ أليس بيننا وبينهم الإسلام؟! أليست هناك وثيقة أعز وأعظم من وثيقة النسب؟ لو أن إنسانا من قرابتك أصابه عشر ما أصابهم لتقرح قلبك، وشعرت بالأسى والحزن والشجى، فكيف بإخوانك في الله والإسلام؟! فالله الله، على الأئمة والخطباء وطلاب العلم أن يوجهوا الناس وأن يذكروهم وأن يعظوهم بهذه الحقوق، ومن نصر المسلمين نصره الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك أعز من أن نعتز بديننا وأن نشعر أن بيننا وبين إخواننا حقا عظيما، وأن ديننا حكم علينا الوقوف بجوارهم، وهذه هيئات الإغاثة والمؤسسات الخيرية -أسأل الله العظيم أن يمدهم بعونه وتوفيقه وتسديده وأن يلهمهم الصواب والرشد- قد فتحت ذراعيها للمعونة والمساعدة، فقد تزور إنسانا غنيا تقول عنده كلمة تأمره فيها بنصرة هؤلاء الضعفاء يكتب الله لك بها رضاه في يوم تلقاه، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يكتب الله له بها الرضا إلى يوم يلقاه، فتأتي إليه وتذكره بهؤلاء الضعفاء، وقد تكون الكربات سببا في دخول الجنة، فكم من متكلم في هذه الحوادث والنكبات يكتب الله له رضاه بكلمات، وكم من كلمات حركت القلوب فكفكفت دموع اليتامى وجبرت قلوب الثكالى كتب الله عز وجل بها عظيم الحسنات. الله الله! واحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فتكون المساعدة بالمال وبكل ما يستطيع الإنسان، فتجب علينا نصرتهم ومؤونتهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فالمسلم أخو المسلم، ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في هذا الأمر. والواجب علينا أن نستشعر هذا الأمر وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى -وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استنصر وأنه رفع يديه وكفه إلى الله مستغيثا مستنصرا- اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، اللهم إنا نسألك أن تجعل لإخواننا في كوسوفو وفي كل مكان من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية. اللهم ثبت أقدامهم، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب آراءهم، اللهم اعطف قلوب عبادك عليهم، يا حي يا قيوم! اللهم اجبر كسرهم، وارحم ضعفهم، وفرج عنا وعنهم يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تدمر الكافرين ومن أعانهم، اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم احصهم عددا، اللهم اقتلهم بددا، اللهم لا تغادر منهم أحدا، اللهم اجعل بأسهم بينهم وسلم المسلمين من شرورهم، يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه الأسئلة حكم العبادة بمال أو في مكان مغصوب السؤال إذا بنيت العبادة على شيء مغصوب هل تصح؟ كمن صلى على أرض مغصوبة، أو توضأ بماء مغصوب، أو حج بمال مغصوب؟! الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: هذه المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، من صلى على أرض أو دار مغصوبة فهل تصح صلاته أو لا؟ قولان مشهوران للعلماء. جمهور العلماء على أن الصلاة صحيحة وأنه آثم بالغصب، وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة باطلة، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه إلا إذا رجع إلى ذاته، وذات الصلاة مأمور بها وليس بمنهي عنها شرعا. وبناء على ذلك فإننا نقول: تصح صلاته بنص السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه ذكر أركان الصلاة في حديث المسيء صلاته وقال: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك) فنحن نحكم بصحة الصلاة وتمامها لتوفر أركانها وشرائط صحتها. وأما بالنسبة للغصب فإننا نقول: هو آثم لغصبه، وصلاته صحيحة، وتبرأ ذمته. وهكذا لو حج بالمال المغصوب فإن حجه صحيح ولكن يجب عليه بالنسبة للهدي الضمان؛ لأن الهدي يختلف عن مسألتنا فإن الهدي النهي فيه راجع لذاته، وهو يشترط في الحج إن كان متمتعا أو قارنا فيضمن إن كان الهدي مغصوبا، أما أنه لو سافر وماله مغصوب وركب سيارة ونزل داره، فهناك فرق بين فعل العبادة وبين ذات الشيء المنهي عنه. وبناء عليه فإن حجه صحيح، ولكن هل يتقبل الله عز وجل حجا من مال حرام؟ إذا حججت بمال لست تملكه فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور لو حج الإنسان مائة عام ولم يتقبل الله عز وجل حجه فما هي الفائدة؟ يتعب راحلته ونفسه. فالمال المغصوب يوجب عدم قبول الحج نسأل الله السلامة والعافية، والحج صحيح، ونقول: أجزأته عن حجة الإسلام، ولكن لا يقبل إلا إذا كان من مال حلال، كما قال تعالى: {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة:27] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل الله إلا طيبا) والله تعالى أعلم. حكم أخذ الأب من مال ابنه بدون إذن السؤال هل للأب أن يأخذ من مال ابنه بغير إذن، وأنه مهما فعل بمال ابنه فإنه لا يعتبر آثما؟ الجواب أخذ الوالد من مال ولده جائز، فظاهر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني) وبضعة الشيء كالشيء. وفي الحقيقة إذا سأل الوالد ولده المال فعلى الولد أن يبادر وأن يعلم أن حق الوالد كبير، وأن الوالد أعز من المال، وعليه أن يضحي من أجل والديه، وعلى الوالد أيضا أن يتقي الله في الطلب، فلا يطلب إلا في حدود الحاجة، ويطلب بالمعروف ولا يضيق على ابنه، وإنما يكون ذلك على الوجه الذي لا ضرر فيه ولا إضرار، والله تعالى أعلم. حكم رد الخمر إذا استحالت فأصبحت خلا السؤال إذا استحالت الخمر خلا هل يجب عليه أن يردها؟ الجواب قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الخمر إذا استحالت خلا وجب ردها، وهذا تفصيل عند الشافعي -رحمه الله- وطائفة من أهل العلم في الغصوبات؛ لأن هناك فرقا بين أن تخلل بنفسها وبين أن يخللها، فإذا خللها فهذا حرام، ولكن إذا تخللت بنفسها فحينئذ تكون قد انتقلت إلى مباح، ومن هنا قال بعض العلماء: يجب عليه ردها؛ لأنها انتقلت إلى مباح، وهذا المذهب قوي، أن الخمر إذا تخللت بنفسها ثم أصبحت خلا وجب ردها؛ لأنها انتقلت عن العين المحرمة إلى العين المباحة. وبعض العلماء يقول: إن صاحب الخمر لا يدله، وإذا تخللت عند الغاصب فإنها تكون ملكا للغاصب ولا تكون ملكا للمغصوب منه. والأول أوجه وخاصة في الصور التي ذكرها المصنف رحمه الله: من خمر الذمي؛ لوجود اليد وثبوتها من جهة الإذن الشرعي للذميين بشرب الخمر، والله تعالى أعلم. مسألة في تنفيذ الحدود على غير المسلمين السؤال أشكل علي مسألة تنفيذ الحدود بين المسلمين والكفار، إذا اختلف في كون الشيء محترما عندهم أو غير محترم؟ الجواب بالنسبة لتنفيذ الحد، فالذمي إذا كان في بلاد المسلمين له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، فحينئذ إذا زنى يقام عليه الحد كما يقام على المسلمين، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة اليهوديين الذين زنيا، فإنهما لما زنيا أقام عليهما النبي صلى الله عليه وسلم حكم الله عز وجل. وعلى هذا يفصل: إذا ارتكب الذمي الحد فينقسم إلى أقسام: تارة يرتكبون الحد ولا نطلع على ذلك، وتارة يرتكبون الحد ونطلع. فإذا ارتكبوا الحد ولم نطلع فلهم صورتان: الصورة الأولى: أن يرتكبوا الحد ويقيموا حدودهم بشريعتهم، فهذا لا دخل لنا مادام أنهم لم يترافعوا إلينا. الصورة الثانية: أن يقع الزنا بينهم ثم يرفعوه إلينا، فإن رفعوه إلينا هل نحكم بشريعتهم أم بشريعتنا؟ الراجح أن يحكم بشريعة الله، فقد أمر الله عز وجل بالحكم: {فإن جاءوك فاحكم بينهم} [المائدة:42] فأمر الله عز وجل أن نحكم بينهم بحكم الله عز وجل، والله جعل القرآن مهيمنا على الكتب والشرائع المتقدمة ناسخا لها، فيجب إقامة حكم الله فيهم مادام أنهم ترافعوا إلينا. أما لو أنه وقع الزنا منهم أمام المسلمين أو شهد الشهود من المسلمين عليهم فحينئذ نقيم عليهم شرع الله عز وجل ويعتبر انتهاكهم لحرمة الله جهارا يوجب إقامة حكم الله عز وجل عليهم بحكم الإسلام، ولا خيار في هذه المسألة ولا خلاف. لكن في المسألة السابقة إذا وقعت فيما بينهم وترافعوا إلينا هل يكون مخيرا أم لا؟ هذه المسألة الخلاف فيها مشهور بين أهل العلم لآيات المائدة المشهورة: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة:42] هذا فيه نوع من التخيير، وبعض العلماء يقول به، وبعض العلماء يقول: إن هذا التخيير نسخ. والذين يقولون بالتخيير قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على اليهوديين بالتوراة، يعني: نفذ ما في التوراة، فكان منفذا ولم يكن حاكما، قالوا: والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الشهود من أهل الكتاب، والشهود من أهل الكتاب لا تقبل شهادتهم إلا فيما استثناه الله عز وجل من الوصية على آية شهادة الوصية في السفر، وهي آية المائدة المشهورة. قالوا: ومما دل على ذلك كون النبي عليه الصلاة والسلام دعا الشهود ونفذ عليهم بحكم التوراة وليس بحكم الشرع، والصحيح: أنه كان منفذا لحكم الله ولكن شهادتهم هنا في مسألة الإقامة تعتبر منسوخة بصريح القرآن أن الله سبحانه وتعالى أمر بالحكم بينهم، ونص على الحكم بشرع الله عز وجل فتكون آية المائدة ناسخة لآية التخيير؛ وعلى هذا فإنه يقام عليهم شرع الله عز وجل من هذا الوجه. فإذا أثبت هذا التفصيل ما يقع فيه إشكال؛ لأن مسألة الخمر للذمي غير مسألة انتهاك الحد، مسألة انتهاك الحد أوجدت الموجب والسبب المقتضي لإقامة الحد، ولكن مسألة المالية مختلفة، فمسألة المالية راجعة إلى ثبوت اليد وعدم ثبوتها، والذمي قد جعل الله له يدا على الخمر بخلاف المسلمين، فأنت تتعامل مع من أذن له لا مع من لم يؤذن له، فهذا وجه الفرق بين المسألتين، هذه المسألة وهذه المسألة ولا تعارض في حكم الله بين المسألتين، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الغضب ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (371) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - باب الغصب [2] حتى تعود الحقوق إلى أهلها ألزمت الشريعة من غصب شيئا أن يرده إلى موضعه الذي غصبه منه، ويتحمل ما يترتب على هذا من غرامة؛ لأنه هو الذي جنى واعتدى، ويضمن كل ما يترتب على غصبه من زيادة أو نقص في المغصوب، وهذا من كمال العدل. وجوب رد المغصوب إلى صاحبه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن استولى على حر لم يضمنه، وإن استعمله كرها أو حبسه فعليه أجرته] . فقد تقدم معنا بيان حكم الغصب، وبيان حقيقته في اللغة والاصطلاح، وبينا أن للغصب آثارا تترتب عليه، وقد اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان هذه الآثار وذكر ما دل عليها من أدلة الكتاب والسنة، وإجماع أهل العلم رحمهم الله، ولا بد لطالب العلم من أن يعلم هذه الأحكام والمسائل في باب الغصب. أول ما يترتب على الغصب: الحكم بإثم الغاصب وقد تقدم، والسبب في ذلك: عصيانه لله عز وجل، واعتداؤه على حق أخيه المسلم، ونسيانه لحرمته، وتجاهله للأصول الشرعية التي حظرت عليه ذلك الفعل من الغصب. أما الأمر الثاني الذي يترتب على الغصب: وجوب رد الشيء المغصوب، وهذا بإجماع العلماء، أن الواجب على من غصب أن يرد الشيء الذي اغتصبه، سواء كان من العقارات أو من المنقولات، وأنه إذا تصرف في الشيء المغصوب فنقله من بلد إلى بلد ومن موضع إلى موضع، فإنه ملزم شرعا برده إلى الموضع الذي أخذه منه، ولو كلفه ذلك ما كلفه، فلو أنه اغتصب دابة وسار عليها إلى بلد بعيد وجب عليه أن يردها إلى البلد الذي اغتصبها منه. كذلك لو أنه أخذ متاعا ثم نقله إلى موضع؛ وجب عليه أن يرد ذلك المتاع إلى الموضع الذي اغتصب فيه ذلك المتاع. فإذا: الرد، لكن مسألة رد المغصوب تتوقف على وجود الشيء المغصوب، فإن من غصب شيئا تارة يبقى الشيء وتارة لا يبقى، فإذا بقي الشيء وكان على صفاته وجب رده على الصفة التي أخذه عليها ضمانا لنقصه من حيث الأصل، ووجب رده على صفة الكمال إن طرأ كمال وزيادة بعد الغصب، وهذا كله سنفصله إن شاء الله تعالى. وبناء على ذلك: ثبت عندنا أنه يجب رد المغصوب، فلو أن هذا المغصوب تلف، كرجل أخذ طعام أخيه المسلم ثم أكله، ففي هذه الحالة لا يمكن رد عين الشيء المغصوب، فيطالب برد مثله، فالأشياء المغصوبة لا تخلو من حالتين: ضمان المثلي بمثله الحالة الأولى: أن تكون من الأشياء التي لها مثليات، وذلك مثل المكيلات والموزونات، كرجل اغتصب صاعا من بر، أو كيلا من أرز ثم استهلكه واستنفذه وأكله فإنه مستحيل عليه أن يرد عين الذي أخذ، فنقول له: يجب عليك أن تنظر إلى مثل الطعام الذي أخذته في الصفة من حيث جودته ورداءته، ونفس النوع الذي أخذته، ثم ترده إلى صاحبه بالقدر، فإن كان صاعا فصاع، وإن كان أكثر من ذلك فكل شيء بحسابه. إذا: يرد عين المغصوب إذا كان موجودا، وإذا تعذر رد عين المغصوب وجب رد مثله، وهذا المثلي -كما ذكرنا- في المكيلات والموزونات، فالمكيلات مثل: الحبوب، والموزونات مثل: القطن والحديد والنحاس، فلو أنه أخذ حديدا ثم أتلف الحديد على وجه لا يمكن رد العين به، فحينئذ ينظر إلى مثل الحديد الذي أخذه، فلو أخذ من جيد الحديد -وهو الصلب- طنا واغتصبه وجب عليه رد طن مثله، فإذا: يرد مثله في النوع، ويرد مثله في الصفة من حيث الجودة والرداءة، ويرد مثله في القدر من حيث الكيل والوزن. الضمان بالقيمة عند تعذر المثلي فإن تعذر وجود المثلي انتقل إلى القيمة، ويتعذر وجود، إما حقيقة، وإما حكما وتقديرا، وإما شرعا، فيتعذر وجود المثلي حقيقة وحسا، مثل: أن يكون أخذ إناء من الأواني التي لا تنضبط ويكون صنعها على وجه لا مثيل له من حيث التقدير، بحيث لا يمكن الإتيان بمثله في مثل ما ذكرنا، وتقدم معنا في السلم أن الأواني ونحوها التي ليس لها ضوابط في صفاتها -بخلاف الأواني الموجودة في زماننا هذا- كالأواني التي تصنع عند الحدادين ونحوهم لا يمكن رد مثلها، بحيث تنطبق الصفات على وجه تام كامل فعند ذلك ينتقل إلى القيمة، ونقول: تعذر وجود المثلي حقيقة وحسا. كذلك أيضا: يتعذر وجود المثلي شرعا كما تقدم معنا في خمر الذمي، فإنه على مذهب من قال: إن الخمر تضمن إذا كانت لذمي، فإن المسلم لا يمكنه أن يشتري الخمر؛ لأنه لا يجوز أن يتملكها، فحينئذ ينتقل إلى قيمتها ويضمنها لصاحبها؛ لأن أهل الذمة لهم حق كما تقدم معنا في باب الذمة. أما من حيث التعذر الحكمي فهذا من أمثلته كما ذكر العلماء: أن يكون قد أتلف شيئا له مثل في السوق، ولكن سعره في السوق مبالغ فيه وقيمته أكثر من المثل، فوجد مثل هذه السيارة التي أتلفها ولكن يطلب فيها صاحبها أضعاف قيمتها، فهي موجودة حقيقة لكنها مفقودة حكما؛ والله يقول: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194] فإذا كلفناه أضعاف قيمتها فهذا ليس بمثلي، ولذلك قالوا: هو موجود حقيقة، مفقود حكما. إذا: أولا: نضمنه العين، فيجب رد العين، فإن تعذر؛ أوجبنا عليه رد المثل، فإن تعذر وجود المثلي حقيقة وحسا أو شرعا أو حكما؛ انتقلنا إلى القيمة. يد الغاصب يد ضمان يتفرع على هذا أن تقول: القاعدة أن يد الغاصب ضامنة، فتضمن الزيادة وتضمن النقص، فإذا قلت: إنها ضامنة ففي ضمان النقص تضمن الشيء من الاثنين: ما كان بتعد منها وما كان بآفة سماوية بدون تعد منها. فمثلا: لو أنه أخذ أرضا واغتصبها، وكانت الأرض فيها مزرعة وجاء إعصار فيه نار فأحرق المزرعة، نقول: يجب عليك أن ترد الأرض كما هي، لأنك بمجرد اغتصابك تصبح يدك ضامنة، فأي تلف يحدث في العين لا نسأل عن سببه، سواء كان منك أو كان من غيرك فيلزمك أن ترد العين كما أخذتها، فإن حصل التلف فتضمن هذا التلف سواء كان بفعلك أو كان بفعل غيرك، وهذا معنى قول بعضهم: يضمن ما كان بأمر الله، أو ما كان إفسادا من مخلوقين، يعني: يضمن في كلتا الحالتين، ولا يقال: إن الضمان يختص فقط بحال التعدي، والسر في هذا أن يده لما اعتدت على هذه العين وأخذتها من مالكها يصبح عندنا أصل وهو الضمان، أي: أن يده يد ضمان، فواجب عليه أن يرد العين، فإذا قلت: يجب عليه شرعا أن يرد العين وكما هي كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) نهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض لأكل أموال الناس، ثم أمر كل من تعرض لمال أخيه المسلم أن يرده. فنقول في هذه الحالة: دل الأصل الشرعي على أنه يجب عليه الرد، فإذا حصل التلف والنقص وجب عليه أن يرد المغصوب كاملا لا ناقصا؛ لأنه أخذه كاملا، ثم ما طرأ من النقص يكون متحملا لمسئوليته، كما أن ما طرأ من الزيادة يكون أيضا واجبا عليه ضمانه، وهذا كله سنفصله ونبين موقف العلماء رحمهم الله فيه. إذا تقرر هذا فالأشياء التي تغصب منها يكون من الأموال التي تباع وتشترى وهي محل للمعاوضات، وهذا ينقسم إلى عقارات ومنقولات، فيكون الغصب في العقارات كالأراضي والدور ونحوها، ويكون الغصب في المنقولات كالأطعمة والأكسية ونحوها. كيفية ضمان العين إذا زادت أو نقصت إذا: يجب ضمان عين المغصوب، ويجب ضمان منفعة العين، فإذا قلنا بالضمان برد عين المغصوب أو ضمانه على التفصيل المتقدم يبقى السؤال في مسألة رد العين المغصوبة، فتارة تكون العين المغصوبة موجودة كما هي، ليس فيها زيادة ولا فيها نقصان، فحينئذ لا إشكال. فإذا جئت تحكم في هذه المسألة تقول: ننظر إن كانت العين قد مضت مدة على غصبها وجب ردها ومنفعتها، بدفع قيمة المنفعة التي هي الأجرة، وإن لم تمض المدة وجب رد العين وحدها، هذا إذا كانت العين كما هي بدون زيادة وبدون نقصان. أما لو أن العين اختلفت فإما أن تختلف بزيادة وإما أن تختلف بنقص، فإما أن تختلف فيزيد سعرها وتجمل وتكمل، وإما أن تختلف فينقص سعرها، وحينئذ يجب أن يفرق بين المسألتين ويفرق في حكمهما. فتارة تختلف العين بالزيادة، كرجل أخذ دابة هزيلة واغتصبها ثم اعتنى بطعامها وشرابها فأصبحت كأحسن ما تكون عليه الدابة، إذا: اختلفت في الزيادة. أو أخذ أرضا واستحدث فيها البناء وهي أرض بيضاء، فأحدث فيها البناء أو أحدث فيها الزرع، فحينئذ تكون العين المغصوبة قد زادت ولم تبق على حالتها الأصلية يوم أخذت، وهذه من أمثلة الزيادة في العين. وفي زماننا يأخذ سيارة -مثلا- فيصلح مراكبها ويحسن مقاعدها، أو يتصرف في آلة السيارة، تكون السيارة على حالة ضعيفة فتصبح على حالة أفضل، فإذا: تصرف بزيادة. الحالة الثانية: أن يأخذ العين على أحسن ما تكون فيردها على أسوأ ما تكون لكنها صالحة؛ لأنه إذا ردها وهي تالفة فالحكم حينئذ: الضمان على التفصيل الذي تقدم، لكن نتكلم في حالة أن العين باقية ولكن فيها نقص، كرجل أخذ دابة وهي سمينة صالحة على أحسن ما تكون عليه، فأساء علفها وإطعامها والقيام عليها، فأصبحت هزيلة، فحينئذ عادت ناقصة، وأخذها كاملة فردها ناقصة. وفي زماننا لو أخذ البيت واغتصب العمارة أو الأرض وفيها الزرع فأفسد زرعها، أو فيها نخل فأتلف النخل الذي فيها، أو عطش النخل حتى مات بعضه وبقي بعضه، فحينئذ عادت العين بالنقص. أما في حالة الزيادة وحالة النقص فكلتا الحالتين فيهما تفصيل من حيث الأصل الشرعي فنقول: كل زيادة حدثت في العين المغصوبة فإما أن تكون من فعل الغاصب، وتكون العين لا يمكن فصل الزيادة عنها، كالسمن لا يمكن أن نسحبه من الدابة مع صلاح حالها فهذا صعب جدا، ولا يمكن أن يحدث ذلك، فحينئذ ترد كاملة، ولو أخذ الرقيق فعلمه صنعة فلا يمكن سحب الصنعة منه، فيجب رده كاملا على الصفة التي أصبح عليها. وأما إذا كانت الزيادة يمكن فصلها عن الشيء المغصوب، مثلا: لو أنه وضع على الأرض بناء من الصناديق، أو البيوت الجاهزة في زماننا فنقول: يجب عليه رفع ما له ورد الأرض كما أخذها إلى صاحبها، فلو أحدث الزرع فيها وجب عليه قلع الزرع ورد الأرض مستوية، وتطمس حفرها وتصلح كما كانت، ويضمن النقص لو أنها نقصت قيمتها بعد هذه الحفر واستصلاحها، وسنفصل هذا كله -إن شاء الله- ونذكر خلاف العلماء رحمهم الله. لكن نريد الآن أن نشير إلى مجمل مسائل الغصب حتى إذا دخلنا في التفصيل تكون الصور إن شاء الله واضحة. فمن حيث الأصل لما نظرنا إلى الزيادة، قلنا: في حالة الزيادة التي لا يمكن فصلها عن العين المستحقة وتابعة للعين، فيجب على الغاصب أن يرد العين بكمالها، ويضمن هذا الكمال، ويصبح الكمال ملكا لصاحب الأرض، هذا إذا كان قد أحدث فيها زيادة لا يمكن فصلها. أما لو أحدث زيادة من ملكه يمكن فصلها نقول له: خذ ما لك واترك ما لغيرك، ورد الأرض كما أخذتها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديها) وترد الأرض على الصفة التي أخذتها عليها، حتى لو أنك نقلت النخلة عنها أو هدمت البناء الذي عليها فاختلفت صفاتها ونقصت قيمتها لزمك أن تدفع هذا الفارق، وسنفصل إن شاء الله. إذا: يلزم برد الأرض على صفتها، ويأخذ ما له من الزيادة التي استحدثها، ولا يأخذها إن كانت متصلة لا يمكن فصلها عن العين. أما إذا كان هناك نقص وأحدث في العين المغصوبة نقصا فيجب عليه أن يضمن النقص كاملا، ويرد العين ويرد ضمان النقص، فلو كانت العين -أعني: الأرض- لما أخذها واغتصبها صالحة وطيبة وفيها زرع وكانت قيمتها تساوي مائة ألف مثلا، ولما أراد أن يردها ردها بنقص نصف قيمتها نقول: رد الأرض وادفع نصف قيمتها إلى المغصوب منه، هذا من حيث الزيادة والنقص. كيفية تقدير القيمة عند الضمان وتقدر قيمة الشيء المغصوب ويجب عليه ضمان القيمة على التفصيل عند أهل العلم رحمهم الله كما سيأتي، فمنهم من يقول: نقدر قيمة المغصوب حين الغصب، وبعضهم يقول: نقدر قيمة المغصوب عند التلف. وفائدة المسألة: لو أن شخصا أخذ سيارة واغتصبها من أخيه، واغتصبها في أول العام وكانت قيمة السيارة باهظة الثمن، فرضنا: كانت قيمتها خمسون ألفا، ثم لما أصبحت في نهاية العام أتلفها وتعذر وجود مثلها وكانت قيمتها حين أتلفت تساوي خمسة وعشرين، أي: نصف القيمة؛ لأن السيارة في أول العام تختلف قيمتها عن آخر العام، فهل ننظر إلى قيمة المغصوب عند أخذه وغصبه؟ أو ننظر إلى قيمة المغصوب عند تلفه؟ فمن قال: يضمن بالقيمة عند أخذه؛ لأن يده ضمنت ذلك الشيء بأخذه، قالوا: يدفع خمسين ألف ريال. ومن قال: يضمن المغصوب بقيمته يوم تلفه؛ لأنه استحق القيمة عند التلف، وكان الواجب عليه أن يرد، فلما امتنع من الرد وحصل التلف ننظر إلى وقت التلف فيدفع خمسة وعشرين أي: نصف القيمة. إذا: تضمن المغصوبات بقيمتها يوم أتلفت أو بقيمتها يوم أخذت على الوجهين المشهورين عند أهل العلم رحمهم الله، وهذه كلها آثار مترتبة على الغصب، لكن هذه الآثار متعلقة بمسألة عين المغصوب. وجوب ضمان منافع المغصوب يبقى السؤال هذا الشيء الذي اغتصب وتلف قد يكون الغاصب استفاد منه ومضت مدة انتفع فيها منه؟! فالمغصوب إما أن يكون من العقارات أو من المنقولات، فيكون من العقارات كمن اغتصب بيتا أو عمارة أو شقة وأخذها بالغصب وسكنها ثلاث سنين مثلا، فهذا غصب لعقار مستفاد منه مدة الغصب، فهذه الثلاث سنوات لها أجرة وحينئذ إذا جئت تنظر إلى مسألة أجرتها رجعت إلى مسألة منافع المغصوب، فعندنا عين المغصوب، وعندنا منافع المغصوب، ففي منافع المغصوب من حيث الأصل الشرعي يجب ضمانها، وهذا قول فقهاء الحنابلة والشافعية رحمهم الله، والنصوص تدل على صحة هذا القول؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب ضمان الأشياء بمثلها، ولا شك أن هذه المدة مستحقة للمالك، فلما كان الغاصب قد أخذها ومنع المغصوب منه من الانتفاع بها، ومنعه من تأجيرها على الغير، فإنه يجب عليه ضمانها حتى ولو لم يسكنها، فلو أنه منعه من دخول العمارة واستولى على العمارة، أو منعه من شقته أو منعه من سيارته، وعطلت هذه العين سنة كاملة سواء سكن أو ركب السيارة أو انتفع أو أجرها على الغير أو لم يفعل شيئا من ذلك فإنه يضمن. وإذا سئلت عن وجه التضمين، فتقول: لأن المالك الحقيقي كان بإمكانه أن يستفيد من هذه العين، وأن يتحصل على حقه ولكن هذا الغاصب حينما غصبه وحال بينه وبين ماله امتنع وتعذر عليه أن يصل إلى ذلك الحق ووجب على الغاصب أن يضمن. إذا: على الغاصب ضمان المنافع، والمنافع تشمل المركوبات كالسيارات والدواب، وتشمل المساكن كالبيوت والعمائر ونحو ذلك من الحرف والصنائع الموجودة في زماننا ومما يستفاد منه من الآلات. ففي زماننا لو أخذ آلة نجر الخشب للنجارة، أو أخذ آلة للحدادة، وأخذ هذه الآلة وعطلها سنة، فهذه الآلة يسأل أهل الخبرة كم أجرتها في سنة كاملة؟ سيقولون: أجرتها في كل شهر ألف ريال، فمعنى ذلك: أنه يلزم بدفع اثني عشر ألفا استحقاقا للمالك الحقيقي لهذه الآلة؛ لأنه حال بينه وبين الانتفاع بها. إذا: يستوي أن يكون قد انتفع هو أو مكن الغير من الانتفاع أو حبس الآلة وعطلها؛ لأنه لما حبسها وعطلها كان ضامنا لذلك التعدي متحملا لمسئوليته فيجب عليه دفع القيمة التي هي مستحقة لفوات ذلك الزمان حكم غصب الحر وضمانه وقوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه) أما بالنسبة للأشياء التي لا تملك كالحر فإنه إذا غصب فإننا ننظر إلى مسألة استهلاكه كما سيأتي، فلو أن هذا الحر اغتصبه ثم مات عنده بأمر الله عز وجل وبقدر من الله عز وجل، فنقول: لا يضمنه؛ لأن الحر هذا ليس محلا للمعاوضة، لكن لو كان رقيقا فهذا أمر آخر، ولو كان دابة فهذا أمر آخر، لكن الحر ليس محلا للمعاوضة؛ لأنه لا يباع ولا يشترى؛ ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى يقول: (ثلاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل أعطى عهدا ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فلم يوفه أجره) . فقوله: (ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه) فجعله من كبائر الذنوب، ومن الأمور الموجبة للعقوبة الشديدة وهو كونه خصما لله عز وجل -والعياذ بالله- يوم القيامة، وهذا يدل على أنه قد أخذ ما ليس له، وقد ظلم ببيع ما لا يباع؛ لأن الحر لا يباع. وإذا ثبت هذا فنقول: إذا مات فحينئذ لا نبحث في مسألة ضمانه، وهذا إذا مات قدرا، أما لو أنه تعدى عليه وقتله فهذا له باب الديات وباب القصاص، وينتقل من مسألة الغصب إلى مسألة التعدي، فالشريعة جعلت لكل شيء حكمه ولكل شيء شرعه: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] . فأنت تقول: إذا أخذ هذا الحر واعتدى عليه بالضرب فهناك باب خاص بالاعتداء، فاعتداء المسلم على أخيه فيه الضمان، فإذا حصل تلف في العضو الذي ضربه عليه فإنه يضمن العضو الذي أتلفه على التفصيل الذي سيأتي في الديات. وإذا قتله بالضرب فحينئذ يفصل فيه فيما لو قتله عمدا أو قتله شبه عمد ولم يقصد قتله، وكان الذي ضربه غير قاتل خطأ، فهذا يفصل فيه في باب القتل وأحكام القتل. وإذا اقتصر على غصبه ولم يتعرض له بشيء فمات عنده فحينئذ يكون قد مات قدرا ولم يتعرض له بالتلف ولم يتعاط أسباب تلفه، فحينئذ يكون قد مات قدرا ومثله لا يضمن؛ لأن الحر لا يضمن إلا بالاعتداء، وهنا لم يحدث اعتداء فلا وجه للتضمين، هذا بالنسبة للحر. فابتدأ المصنف رحمه الله بهذه المسألة بأنها ليست محلا للمعاوضة، ثم سيدخل بعد ذلك فيما هو محل للمعاوضات ببيان ما للمغصوب منه وما على الغاصب من الحقوق التي يجب عليه أداؤها، وتركبت على اعتدائه وغصبه لحق أخيه المسلم. فقوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه) . لاحظ (استولى) ؛ لأن الغصب ما يكون إلا بالاستيلاء، وعلى هذا فالمستولي على حر لا يضمنه، أي: إذا استولى على حر فمات الحر عنده لم يضمنه، إلا إذا كان قد تعاطى أسباب موته وهلاكه، كأن يكون -مثلا- وضعه بغرفة وأقفل عليه فيها، ثم نسي أن يطعمه ويسقيه حتى مات، وقال: ما قصدت قتله، إنما أدخلته على أساس أني أريد أن أروعه وأخوفه وأمنعه من أن يتعرض لي، فأقفلت عليه الغرفة ثم نسيت، فحينئذ إذا ثبت هذا وتقرر فهذا قتل خطأ؛ لأنه تعاطى السبب الذي أوجب هلاكه، ويضمن ديته على التفصيل الذي سيأتي في مسألة الخطأ. إذا: لا يضمنه إلا إذا تعدى أو فرط في القتل، وهذا معنى قوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه) ، في تقدير: إن استولى على حر فمات، لكن مات بدون تعد ولا تفريط لم يضمنه. حكم استعمال الحر المغصوب أو حبسه وقوله: [وإن استعمله كرها، أو حبسه فعليه أجرته] . عندنا -كما تقدم-: الذات والمنفعة، فالحر ذاته لا تملك، وليس محلا للبيع والشراء، لكن منافع الحر تملك ويعاوض عليها، ولذلك استأجر موسى عليه السلام نفسه على طعمة بطنه وعفة فرجه صلوات الله وسلامه عليه، فأجر نفسه ثماني حجج وأتمها إلى عشر، فجعلها إجارة ومعاوضة على مهره. فالحر لا يملك من جهة الذات، ولكن من جهة منافعه، وكما لا تملك ذاته لا تملك أيضا أعضاؤه، فليست محلا للبيع والشراء، ولذلك لا يجوز بيع الأعضاء ونقلها ونحو ذلك؛ لأنها ليس محلا للمعاوضة، لا كلا ولا جزءا، فلا يجوز بيع كليته ولا قرنيته ولا بيع أجزائه؛ لأنها ليست محلا للمعاوضة، والوعيد في قوله: (باع حرا ثم أكل ثمنه) يشمل الشخص نفسه إذا باع هذا الجزء؛ لأنه ليس محلا للمعاوضة. فإذا ثبت هذا فيبقى السؤال هل منافع الحر كذات الحر؟ و الجواب لا، فإن منافع الحر لها قيمة ويستفاد منها ويستفيد منها صاحبها، فلو أنه أخذ حرا وأقفل عليه، فهذا الحر إما أن يكون صاحب صنعة ويستفيد من عمله وعنده عمل فعطله عن عمله ومنافعه، فيضمن مدة تعطيله، سواء استعمله أو لم يستعمله، كرجل عنده عمل، فجاء شخص وأخذه وأغلق عليه في داره شهرا، فتعطل عن عمله، وعادة أن يكون له في هذا العمل ألف ريال، فنقول له: هذا حر يجب عليك ضمان منفعته التي عطلتها بمنعه والإغلاق عليه، فتضمن الألف ريال له، فيضمن منفعته ولا يضمن شيئا آخر، ولو كانت أجرته في الشهر عشرة آلاف يجب عليه ضمان العشرة آلاف؛ لأنه حال بينه وبين هذا الانتفاع بسبب حبسه قاصدا الاعتداء؛ فوجب عليه أن يضمنه. إذا: إذا منعه ولم يستعمله فإنه يجب عليه ضمانه إذا كان له عمل ومصالح عطله عنها وهو صاحب صنعة، أما لو استعمله ففيه تفصيل: فإنه إذا استعمله لا يخلو من حالتين: مثال: شخص أخذ صبيا، واغتصب هذا الصبي وأخذه من عند أهله، ثم أخرجه -مثلا- إلى مزرعته خارج المدينة، وجلس هذا الصبي في مزرعة الرجل ثلاثة أشهر، وفرضنا أن هذا الصبي بالغ، أخذه وجلس معه ثلاثة أشهر، فإذا جلس هذا البالغ ثلاثة أشهر في المزرعة وعمل فيها فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون عمل بطواعية منه، كما لو جاء فوضعه في المزرعة، فرأى العمال يعملون فجاء وعمل معهم أو ساعدهم ولم يكرهه أحد على العمل، فحينئذ يكون فعله محض التبرع، ولا يجب على الغاصب أن يضمنه؛ لأنه محض تبرع، فقال: (استعمله كرها) . إذا: إذا حصل استغلال من الغاصب فلا يخلو من حالتين: إما أن يستغله بالعمل قهرا وكرها، فيجب عليه ضمان أجرة مثله في العمل، فلو كانت الثلاثة الأشهر عمل فيها ومثله يستحق في العمل الذي قام به في سقي الزرع -مثلا- ثلاثة آلاف، فيجب عليه ضمان الثلاثة آلاف التي هي أجرته، ولو كانت أجرته ألفين في كل شهر فإنه يضمن ستة آلاف. إذا: يشترط في استغلال الغاصب للمغصوب وعمل المغصوب عند الغاصب أن يكون بالقهر والقوة، أما لو كان باختياره والرضا فإنه لا يجب عليه الضمان؛ لأنه خرج إلى محض التبرع والإحسان ولا يجب ضمان مثل هذا. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
لزوم رد المغصوب بزيادته قال رحمه الله: [ويلزم رد المغصوب بزيادته] . (يلزم) أي: يجب، يلزم على الغاصب أن يرد المغصوب بزيادته، والباء للمصاحبة، أي: مصحوبا مع زيادته؛ لأن من معاني الباء المصاحبة: تعد لصوقا واستعن بتسبب وبدل صحابا قابلوك بالاستعلاء فمن معانيها المصاحبة، فقوله: (بزيادته) ، هناك زيادة متصلة، وهناك زيادة منفصلة، وهناك زيادة من فعل الغاصب، وهناك زيادة بأمر الله عز وجل، وكل هذا فيه التفصيل الذي سيذكره المصنف رحمه الله عبر المسائل التي ستأتي. لكن هنا أراد أن يشير إلى قاعدة وهي: أن الواجب على الغاصب أن يرد الشيء المغصوب على حالته ولو كانت أفضل من حالته يوم غصب، سواء كانت الزيادة متصلة أو كانت منفصلة، سواء كانت من نماء المغصوب أو كانت من فعل الغاصب مما لا يمكن انفصاله عن الشيء المغصوب على تفصيل سيأتي في مسألة الخلط والتي سيأتي بيانها -إن شاء الله- في الفرق بين زيادة القدر وزيادة صفات العين المغصوبة. لزوم رد المغصوب إلى موضعه ولو غرم الغاصب قال رحمه الله: [وإن غرم أضعافه] . عندنا مسألتان: المسألة الأولى: وجوب رد المغصوب مع الزيادة. المسألة الثانية: وجوب الرد نفسه، وأن يكون الرد مع الزيادة. عندنا مسألتان: مسألة الزيادة ستأتي، لكن مسألة الرد هنا من حيث الأصل الشرعي العلماء كلهم مجمعون على أن الواجب -من حيث الأصل- على الغاصب أن يرد الشيء الذي اغتصبه، وأن يرد العين التي اغتصبها، سواء كانت من العقارات أو كانت من المنقولات، لكن لو أن شخصا اغتصب شيئا فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الشيء في موضعه ويحول بينه وبين صاحبه، كرجل اغتصب أرضا، فجاء وأخذ من أخيه -مثلا- نصف أرضه، ووضع عليها الحواجز واغتصبها، فالحكم حينئذ رد المغصوب، وسيكون برجوعه إلى الحدود الأصلية التي كانت بينه وبين أخيه. أما الصورة الثانية: أن يكون المغصوب قد انتقل وحوله الغاصب من موضع الغصب إلى موقع آخر وهذه هي المسألة التي قصدها المصنف رحمه الله، فيجب رد المغصوب بزيادته ولو غرم أضعافه، يعني: ولو كان رد المغصوب إلى البلد الذي وقع فيه الغصب يكلف أضعاف قيمته، وهذه مسألة مهمة جدا. ومن أمثلتها: لو أن شخصا اعتدى على ماكينة زراعية لأخيه المسلم، فجاء وأخذها من أرضه واغتصبها ونقلها إلى أرض ثانية في بلد آخر، فإذا ثبت غصبه عند القاضي فيقول للغاصب: يجب عليك نقل هذه الماكينة وردها إلى الموضع الذي اغتصبتها منه. فإذا جئت تتأمل الماكينة تجد أن قيمتها عشرة آلاف ريال، لو جاء يردها ربما كلفه الرد ثلاثين ألف ريال، فحينئذ الرد سيكلف أضعاف قيمة العين المغصوبة، نقول: يجب عليك الرد ولو كلفك أضعافا؛ لأن الرد مستحق. لكن لو أن الغاصب قال: أنا لا أستطيع أن أتحمل ثلاثين ألفا، ولكن سأشتري له ماكينة من نفس النوع وجديدة من نفس البلد وأضعها في نفس المكان، فنقول: لا، إلا أن يرضى المغصوب منه. من حيث الأصل: لو أصر المالك وقال: ما أريد إلا ماكينتي، ترد له ولو كلفت أضعاف قيمتها؛ لأن العين مستحقة، وهذا حقي، وهذا من عدل الله بين العباد، فمثل ما أخذتها تتحمل مسئولية نقلها إلى موضعها، ما أحد أمرك أن تنقلها، فلما اعتديت بالنقل تحملت جميع ما يترتب عليه من آثار، ومنها: ضمان الأجرة المستحقة للنقل. فأولا: عندنا حكم، وهو: وجوب الرد، فالقاضي يقضي بأنه يجب عليه رد الماكينة إلى موضعها، فإذا أصر المالك وقال: أريد ماكينتي، لا إشكال، نقول: يجب عليك ردها ولو كلفك أضعافا، هذه المسألة الأولى. المسألة الثانية: لو قال: يا فلان! أعطيك مثلها وأضعها في المكان الذي اغتصبتها منه، قال المغصوب منه: رضيت، فلو قال: رضيت، تنتقل المسألة إلى مسألة الصلح، وتصبح القضية قضية صلح، والصلح جائز بين المسلمين، لكن الصلح إذا كانت فيه مناقلة ومبادلة يكون من باب البيع، فكأنه باعه ماكينته في ذلك الموضع بماكينة في هذا الموضع وتسري عليه أحكام البيع. فائدة قوله: تسري عليه أحكام البيع، أنه إذا ترتب عليه ربا النسيئة فلا يجوز، ولا يصح صلحا، مثل: امرأة اغتصبت من امرأة كيلو من الذهب ونقلته من بلد إلى بلد، فهذا الكيلو من الذهب لو أنها جاءت ترده احتاجت إلى حفظه وحرزه، فيكلفها مالا، فقالت: أنا أعطي مثله من الذهب هنا في مكة مثلا، فحينئذ صار ذهبا بذهب، فيجب أن يكون في نفس المجلس وإلا كان ربا نسيئة فلم يصح. هذه فائدة قولنا: تنتقل المسألة إلى مسألة الصلح، فلا يصح الانتقال في الغصب إلى المثلي إلا إذا كان من جنس ما أذن الشرع فيه من الانتقال المثلي، فإن اشترط فيه التقابض وجب أن يكون في المجلس الذي اصطلحا عليه، فإن قال: غدا آتيك، أو قال: بعد ساعة أحضر الذهب، كان هذا ربا ولا يصح. فإذا: لا بد أن نفصل فيه، الحكم الأصلي: وجوب الرد، ثانيا: أن هذا الرد ولو كلف أضعاف القيمة فهو ملزم به في الأصل إذا أصر المالك الحقيقي على عين متاعه وحقه، فهذا حق من حقوقه وليس لأحد أن يحول بين المالك وبين حقه، فإذا قال: أريد حقي، وجب إعطاؤه حقه، ورده إلى موضعه مهما كلف هذا. فإن اختار المالك أو رضي المالك صلحا بالبدل عنه، فصل في أحكامه على ما تقدم في باب الصلح، وصارت مناقلة مبنية على المعاوضة بالبيع على التفصيل المتقدم. فقوله: [ويلزم رد المغصوب بزيادته، وإن غرم أضعافه] . (وإن غرم) يعني: خسر، (أضعافه) يعني: أضعاف المغصوب، فيجب عليه أن يرد المغصوب بزيادة وإن كلفه ما كلفه. الأسئلة حكم اتفاق الغاصب والمغصوب منه على بقاء البناء في الأرض المغصوبة السؤال إذا طلب المالك من الغاصب أن يبقي البناء بدل هدمه، على أن يرد له قيمته سواء نقدا أو مقسطا، هل له ذلك أم لا؟ الجواب ليس فيه بأس، لو قال له: أبق هذا البناء وأعطيك قيمته، فإنه حينئذ يكون صلحا بينهما، وهو مأجور على ذلك؛ لأنه خفف عنه ورفق به، والرفق يثاب عليه العبد، خاصة إذا لم يقصد به التضييق عليه، والله تعالى أعلم. نصائح لطلاب العلم السؤال كيف يمكن لطالب العلم وهو في خضم دروسه وطلبه أن ينظم وقته حتى يغتنمه ولا تتفارق عليه أيامه بدون فائدة؟ الجواب لا شك أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب طالب العلم ورضي عنه بارك له في أيامه ولياليه وفي عمره، ومن دلائل البركة: أن يستمسك الساعات واللحظات وهو يجد ويجتهد في سد ثغور الإسلام، وتعلم الشرائع والأحكام، لا يسأم ولا يمل ولا يكل ولا يشتكي، قد نصف وجهه لله، وجد واجتهد في طاعة الله. واعلموا أن الله يكتب ثوابه في كل كلمة يسمعها وفي كل حكم يحرره، وأن الله سبحانه وتعالى يعظم له الأجر والمثوبة في ذلك كله، فهذا كله من دلائل الرضا: البركة في الساعات واللحظات، ولن تكون هذه البركة إلا بالإخلاص وإرادة وجه الله سبحانه وتعالى، وطالب العلم الذي يريد أن يبارك الله له في وقته يبدأ بالإخلاص، ثم يأخذ بالأسباب التي منها تنظيم الأوقات، وإذا وفق الله طالب العلم وعرف قيمة زمانه وشعر أن الله سائله عن كل لحظة من أوانه، سعى في إصلاح ذلك الزمان في طاعة الله عز وجل، فينظم وقته ويرتبه. وعليه أن ينتبه لأمرين: هناك فرق بين العلم الحقيقي والعلم الذي يدخله الشيطان عليه من الهوى والغرور، فالوقت لا يبارك فيه بشيء مثل أن يستنفده في العلم الموروث من الكتاب والسنة. فمثلا: إذا كان طالب العلم يحضر في مجالس العلم، ويفهم الأحكام، ويخاف من الله سبحانه وتعالى أن يستعجل في المسائل والأحكام لا يحدث الخطأ والخلل ويستنفد غاية جهده للضبط والتحصيل، بعد ذلك إذا جاءته نفسه تدعوه للاجتهاد، تدعوه للتقريب، تدعوه للنظر، وليست عنده آلة الاجتهاد، ولم يشهد له أهل العلم أنه مجتهد، فإن الشيطان يضيع له الوقت. ولذلك تجد طالب العلم قد يجلس في مجلس العلم ويسمع أن في المسألة قولين، وعنده استعداد أن يقول: لا، هذا ليس القول الراجح بل القول الأول أرجح من الثاني، فالشيطان يدخل عليه في النفس هوى، والنفس تساق إلى معصية الله عز وجل وتساق إلى هذه المعصية، إما من باب شر واضح المعالم، وإما من باب يدعى أنه خير. فقد يجد في مجلس العلم وهو لم يحصل درجة الاجتهاد والنظر لكي يعقب على كل كلمة، فيضيع عليه عمره ويقوم من المجلس يعتقد الباطل بدل الصواب والحق، ولربما ذهب يجلس ويضبط ويتعب في لم العلم ثم بعد أن يجمع المادة يتفرغ لنقدها وتقديم ما أخره العلماء، وتأخير ما قدمه العلماء، أو تصويب ما خطئوه، أو تخطئة ما صوبوه، وما عنده ملكة، ونحن لا نمنع من رزقه الله علما وبصيرة ونورا من الكتاب والسنة أن يجتهد، لكن أن يتطاول على شيء لم يحصله أو يضيع عمره ويذهب زمانه وتمحق بركة علمه، إما بعدم الإخلاص أو بالغرور. ولذلك تجد بعض طلاب العلم يجلس في مجلس العلم سنة واحدة فيفتح الله عليه بالفهم، ويفتح الله عليه في التحصيل، ويفتح الله عليه في بركة العلم، فيبارك له في كل ما سمعه؛ لأنه من اللحظة الأولى إلى آخر لحظة لم يشعر بالغرور في نفسه. فطالب العلم يحصل ويضبط ويكرر ويكرر ولا يدعي التعالم، ولا يرفع نفسه عن المقام الذي وضعه الله فيه، فإذا مضت عليه سنة وسنوات وهو يأخذ العلم الزكي النقي ممن يوثق في دينه وعلمه، فلا يزيد عليه ولا ينقص، ويكون أمينا حافظا للعلم، يوشك أن يأذن الله عز وجل له بالفتح فيرتقي إلى درجة العلماء الذين أوتوا بصيرة العلم، وعندها تندرج له الأمور، فما كان من حق ثبت عليه، وما كان من خطأ صححه وقومه، ولكن بنور من الله وعلى سبيل وعلى رشد. فلا يضيع العمر على الشخص مثل أن يستعجل في طلب العلم، ولذلك تنظر في بعض طلاب العلم في بداية طلب العلم أوقاتهم محفوظة، لكن ما أن يدخل عليه الشيطان بالغرور حتى تجده يفلت الأوقات؛ لأنه في القديم كان يتعب نفسه في الحفظ وفي المراجعة والمذاكرة، لكنه اليوم يشعر أن ليس مثله يراجع، ليس مثله الذي يكرر كالمبتدئين، لا. كان أهل العلم مهما أوتوا العلم يتذللون للعلم؛ ولذلك قالوا: من افتقر لله أغناه، ومن ذل لله أعزه، ومن أهان نفسه بين يدي الله أكرمه. فذل بين يديه عز، ومهانة بين يديه كرامة، وخضوع وضعة بين يديه رفعة، لكن إذا عرف طالب العلم حقه، ولذلك تجد العلماء الأئمة الراسخين في العلم قد عرفوا قدر أنفسهم قبل أن يعرفوا العلم، فتجد الواحد منهم مهما أوتي من العلم وتبين له الصواب وأنه أخطأ في مسألة فإنه مستعد أن يرجع عنها ولو كان على رءوس الأشهاد، وهذا هو العلم الذي يبارك الله فيه في الأوقات والأعمار، فاستنفدت في أنوار الكتاب والسنة حتى أصبحت القلوب مفرغة للوحي، مأمونة على الدين، أمانة صادقة كاملة مباركا فيها. فطالب العلم تنزع منه البركة إذا حاد عن هذا الصراط السوي الذي أوله الإخلاص ومعرفة العبد قدر نفسه، فنحن نتعلم علما موروثا لا يجوز لنا أن نقدم فيه ولا نؤخر إلا إذا شهد أهل العلم لنا أننا أهل للتقديم والتأخير، قال الإمام مالك: (لا يحق لأحد أن يفتي في هذا الأمر حتى يشهد له أهل الشأن أنه أهل للفتوى، فما جلست في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أفتيت حتى شهد لي سبعون من أهل العلم في هذا المسجد أني أهل للفتيا) . هذا العلم الموروث الذي يكون فيه الإنسان على نور من الله، يرجو ثوابه ورحمته، فيبارك له في كلمة يقولها، ويطيب الله العلم من لسانه؛ لأنه حفظه وحافظ عليه. لكن إذا خرج عن السنن وأصبح مغترا بنفسه، ويضيف الإضافات، ويعلق التعليقات، ويذهب إلى المطولات ويأتي منها، ويفعل ويقدم ويؤخر، فاختلطت عليه الأمور، واختلط عليه الحابل بالنابل، فعند ذلك تنزع البركة من علمه، للناس، فيأتي بعلم ورثه وبعلم يدعيه، فما كان موروثا ففيه البركة، وما كان مدعى لا بركة فيه، ولربما نزع الله البركة منهما، فيمحق الله بركة ما ورثه بسبب ظلمه واعتدائه لحد الله فيما يدعي. فادعاء العلم صعب، وواجب على طالب العلم أن يعرف حق العلم عليه، فالبركة في الأوقات والأعمار مقرونة بمعرفة طالب العلم للواجب والفرض عليه، قال تعالى: {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} [الأحقاف:4] . يقول بعض العلماء: من كان صادقا في العلم فهو الأثر، ما معنى أثارة من علم؟ معناه: أنه جلس بين يدي العلماء فقال ما قالوه، وذكر ما ذكروه، لم يزد ولم ينقص، أمين يخاف الله جل جلاله. فالوقت يستوجب حفظ هذا العلم وضبطه، لا نقول: بالتعصب، بل نقول: بالتعصب بالحق، فإذا كان الذي تأخذ عنه العلم يتكلم بحجة من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتكلم ببصيرة، فتتعصب للحق ولا تتعصب للرجل، ولكن تعرف حقه وتعرف قدره؛ لأن الله فتح عليه، والله يقول: {لكن الراسخون في العلم} [النساء:162] فالناس يختلفون. فأئمتنا وعلماؤنا ومشايخنا الذين رزقهم الله البصيرة وعندهم علم وشهد لهم في هذا العلم وعرف لهم أهل الشأن حقهم في ذلك، نبقى على أثرهم، متقربين لله عز وجل بذلك؛ لأن الله فرض علينا أن نكون مع أهل العلم، متبعين لهم لا مبتدعين ولا مغيرين لا مبدلين، فإذا جئنا نطلب العلم ونجلس في مجالس العلم وبورك لنا في أوقاتنا وساعاتنا ولحظاتنا وكلها في العلم الموروث لا نزيد عنه ولا ننقص، والله كما بورك لأشياخك وأشياخ أشياخك ومن تلقيت عنهم ليباركن لك؛ لأنه كله موروث من الكتاب والسنة. ولكن ما يبارك لطالب العلم إلا إذا التزم بهذا المنهج، فعلينا أن نعرف قدر أنفسنا وحق علمائنا؛ فلذلك نقول: لا بد من المنهجية في تحصيل العلم من جهة الانضباط، فإذا رأينا طالب علم يحضر الدروس في أسبوعه، ووضع لكل درس وقتا للمراجعة، لا يزيد ولا ينقص، وكان منضبطا لهذه الدروس، أمينا على الأحكام التي سمعها وتلقاها دون أن يغير ويبدل، فبإذن الله سيبارك له؛ فالمنهجية تكون على أصول. أما كيف يكون المنهج؟ أي وقت أي ساعة كم القدر؟ هذا يختلف باختلاف الأشخاص، وقد كررت غير مرة كما كان بعض مشايخنا يقول: من الصعب أن يضع العالم لطالب العلم وقتا معينا إلا إذا كان بالطريقة القديمة طالب العلم مع العالم أربعا وعشرين ساعة، وفرغ نفسه وارتحل إليه، هذا أمر ممكن، لكن الآن صعب، ولذلك لو وضعنا أوقاتا معينة وصادف الإنسان أنه مشغول فيها قد يكل ويترك العلم، ولذلك من الصعب وضع برنامج معين. لكننا ننبه على ما هو أزكى وأفضل من البرنامج وما فيه الفتح من الله والتيسير من الله وهما الأمران: الإخلاص، والإلتزام، فكما قال السلف رحمهم الله: أن نكون متبعين فقد كفينا أن نتبعهم. وإذا لم نتبع العلماء من الذي يتبع؟!! وإذا لم نتبع الذي يأخذ بنص الكتاب من الذي يتبع؟! وإذا لم نتعصب للكتاب والسنة فلأي شيء نتعصب؟! فنحن نريد موازين صحيحة لكي يبارك الله في أوقاتنا وأعمارنا ويبارك أيضا في علمنا. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم. اللهم إنا نسألك علما نافعا، وعملا صالحا! اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل ما تعلمناه وعلمناه حجة لنا لا علينا! اللهم اجعلنا ممن قلت له بين يديك: صدقت، اذهبوا به إلى الجنة! اللهم لا تجعلنا ممن كذب على رءوس الأشهاد! اللهم إنا نسألك أن ترحمنا في ديننا ودنيانا وعلمنا وتعلمنا بالإخلاص لوجهك، وابتغاء ما عندك! اللهم ألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مدبرين يا حي يا قيوم! يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه. حكم تلف أو ضياع المال الذي يعمل فيه المغصوب مكرها السؤال من استولى على حر واستعمله مكرها، ثم تلفت العين أو ضاع المال الذي يعمل فيه المغصوب كأن يقوم على الرعي فضل به الإبل، فهل يضمن هذا العامل المغصوب ما تلف أو ضاع؟ الجواب هذه المسألة ترجع إلى مسألة ضمان الأجير، فقد تقدم معنا خلاف السلف في مسألة تضمين الراعي، قال طائفة من العلماء: إن الراعي يضمن، ومن أهل العلم من يرى أنه لا يضمن الراعي إلا إذا فرط. وصورة ذلك: يذهب بالإبل أو يذهب بالغنم أو يذهب بالدواب إلى أرض مسفعة، ويعلم أنها مسفعة وسيتلف شيء منها، فعند ذلك يضمن، وهكذا إذا تكاسل أو تساهل في لمها وجمعها وحراستها وتشتت وتفرقت وضاعت فإنه يضمن، فهذه كلها من صور التعدي التي يكون فيها ضمان، والله تعالى أعلم. وبناء على ذلك: يسري عليه حكم الأجير؛ لأنه في هذه الحالة إذا غصبه غصبه على إجارة، ولذلك يجب عليه أن يدفع الأجرة، فيكون حكمه حكم الإجارة، وتسري عليه أحكام الإجارة، ومن هنا ألزمناه بقيمة الأجرة على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. حكم المطالبة برد المغصوب إلى غير موضعه السؤال هل من حق المغصوب منه أن يطلب رد ما اغتصب منه في أي موضع غير الموضع الذي اغتصب منه فيه؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأصل يقتضي أن الغاصب ملزم برد المغصوب إلى الموضع الذي غصبه منه، فلو طلب المغصوب منه رده إلى غير الموضع لم يكن من حقه ذلك، إنما الذي من حقه أن يرد إلى الموضع الذي اغتصب منه، فلو حصل بينهما صلح واتفقا على شيء فهذا أمر خارج، والصلح جائز على التفصيل الذي ذكرناه في مسألة المصالحة. أما من حيث الأصل الشرعي -ونحن نتكلم على الإلزام- فمثلا: لو أنه غصب منه شيئا في مكة ونقله إلى الطائف، وقال له مثلا: انقلها لي إلى جدة، نقول: ليس من حقك أن تطلب نقلها إلى جدة ولو كانت المسافة واحدة، فلا يكون النقل إلا إلى نفس الموضع، هذا هو حقك، وإن أردت نقلها إلى غير ذلك وتم الاصطلاح بين الطرفين فلا بأس بذلك، والله تعالى أعلم. حكم بناء مسجد على أرض مغصوبة السؤال إذا غصب رجل أرضا ثم بنى عليها مسجدا فما الحكم في هذه المسألة؟ الجواب مطعمة الأيتام من كد فرجها لكن ليلى لا تزني ولا تتصدق يعني: شيء حرمه الله عز وجل ويبني عليه مسجد!! ذهب طائفة من العلماء إلى أن المسجد إذا بني على أرض مغصوبة لم تصح الصلاة فيه، لكن المراد بالغصب: الغصب الحقيقي، أما لو كان المسجد يحتاج إلى توسيعه وهناك دور متصلة بالمسجد وفيه مصالح، كالمساجد العظيمة كالحرمين ونحوها فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هدم دار العباس وعاوضه عليها، وأخذ بهذا الصحابة ولم ينكروا عليه رضي الله عنه وأرضاه. فإدخال الأراضي إلى المساجد بالقوة والقهر لوجود المصلحة العامة هذا مستثنى، أما إذا كان يأخذها ويبني عليها المسجد فهذا من أعظم الظلم، وتتقى الصلاة في مثل هذا، حتى أن الإمام أحمد رحمه الله وأصحابه يرون أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تصح، وأنه لو صلى في الدار المغصوبة لزمه أن يعيد الصلاة. ولذلك ينبغي أن يحتاط في هذا، وهذا أمر عظيم، والله عز وجل لا يطاع من حيث يعصى، والله طيب لا يقبل إلا طيبا، فالله سبحانه طيب كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا) . وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صدقة من غلول) وقد دل على أن التصدق ومحض التبرع والإحسان لا يكون إلا بشيء أحله الله ومن باب أذن به سبحانه، والغصب لم يحله الله ولم يأذن به. ولذلك لا يجوز هذا الفعل، ولا يسري على هذا المسجد أحكام المسجد، فالوقفية لا تثبت، فلو قال: أوقفت هذه الأرض، فالوقفية لا تثبت، ويصبح المسجد ملكا لصاحبه الأصلي، ويهدم المسجد ثم ترجع الأرض إلى مالكها وهو بالخيار، إن شاء أن يبقيها مسجدا وإن شاء أن يهدمها فله ذلك، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الغضب ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (372) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - باب الغصب [3] حفظت الشريعة الحق لكل صاحب حق، فلو بنى غاصب على أرض مغصوبة أو زرع فيها، فإن الشريعة تحفظ حق الجميع، ولا تعطي أحدا على حساب الآخر، أما بالنسبة للغاصب فإنه يضمن كل ما جنته يده على حسب ما فعله، وهذا ما فصله العلماء في أنواع الضمان. مسألة البناء على الأرض المغصوبة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع] . (وإن بنى في الأرض أو غرس) فيه مسائل، ونبدأ -أولا- بالبناء ثم بالغرس. من اغتصب أرضا وأحدث فيها غرسا، فإنه يصدق عليه أنه غاصب، وهذا مذهب جمهور العلماء، أن الغصب يقع على الأراضي والعقار، وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة والقاضي أبو يوسف عليهما رحمة الله، فقالا: لا غصب في العقارات؛ لأن الغصب عندهما يكون فيه شيء من الحيازة والنقل، والأرض لا تستطيع أن تنقلها من موضعها، ولذلك قالوا: إنه لا يتحقق فيها الغصب، وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأدلة منها: أولا: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري وغيره: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض) وفي رواية: (من غصب) وقوله: (من غصب قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) قال: (من الأرض) ، فجعل الأرض محلا للغصب، فدل على أن الغصب يقع في العقارات كما يقع في المنقولات. كذلك أيضا مما يدل على هذا: عموم الأدلة الواردة في رد ما أخذ، والمنع من الاعتداء على حق المسلم، فيكون ذلك غصبا واعتداء على أموال الناس. ثالثا: أن الاستيلاء على الأرض ومنع مالكها منها ومن التصرف منها يعد غصبا كالمنقولات، وما وجدنا فرقا بين العقار والمنقول، فالشخص حينما يغتصب أرضا ويمنع مالكها من الانتفاع بها، ومن سكناها ومن تأجيرها، لا فرق بينه وبين من اغتصب طعاما، ولا فرق بينه وبين من اغتصب دابة، وكون الصورة ليس فيها نقل لا يؤثر، المهم أنه حال بينه وبين الانتفاع بها بالاستيلاء والقهر، وتلك حقيقة الغصب. أقوال العلماء في مسألة البناء على الأرض المغصوبة نبدأ أول شيء بمسألة البناء، إذا أحدث في الأرض البناء وأردنا أن نرد العين المغصوبة إلى مالكها، وثبت عند القاضي أن هذا الشخص غاصب وأن البناء بني على أرض مغصوبة، فما الحكم؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال هي: أئمة الحنفية -رحمهم الله- يقولون: من اغتصب أرضا وبنى عليها ففي ذلك تفصيل: فإما أن يكون البناء قيمته أكثر من قيمة الأرض، وإما أن يكون العكس، فتكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء. مثال: لو أن شخصا أخذ أرضا قيمتها مليونا، وأحدث بناء عليها بمليونين، فقيمة البناء أكثر من قيمة الأرض نفسها، والعكس: تكون قيمة الأرض مليونين والبناء قيمته مليونا، فحينئذ تكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء، قالوا: إذا كانت قيمة الأرض أكثر فحينئذ يكون الواجب على الذي غصب أن ينقل بناءه، أو يعاوضه المالك عما أحدثه في أرضه. فالمبلغ الذي بنى به البناء يجب أن يدفعه المالك ويسترد أرضه ويكون البناء ملكا له. أما لو أنه أحدث بناء أضعاف قيمة الأرض أو يزيد على قيمة الأرض فإننا نقول في هذه الحالة: ادفع لمالك الأرض قيمة أرضه ويبقى الغاصب في الأرض والبناء له. هذا مذهب الحنفية، يرون أنه ينظر في قيمة البناء الذي أحدثه الغاصب وقيمة الأرض، فإن كانت قيمة الأرض أغلى فيثبت المالك ويخرج الغاصب ويخرج قيمة البناء، وإن كانت قيمة البناء أغلى يثبت الغاصب ويخرج مالك الأرض، وهذا بنوه على القاعدة: إذا تعارضت مفسدتان روعي دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، فيقولون: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين. فلما كان ضرر المالك للأرض أعظم روعي حقه، والعكس بالعكس. المذهب الثاني: مذهب المالكية رحمهم الله، يقولون: إنه ينظر إلى حق المالك المغصوب منه، وننظر في البناء، فقالوا: نقدر البناء ونسقط من البناء الذي أحدثه الغاصب قيمة الهدم ونقل المهدوم، ثم يدفع له المالك ذلك الفضل، وإن شاء ألزم الغاصب أن يهدم وأن يخرج من أرضه، فيخير بين الأمرين. فقالوا: ننظر إلى حق المالك ونقول له: إن شئت أن تدفع لصاحب البناء قيمة البناء، وتنقص منها قيمة الهدم والنقل وأرش النقل، وإن شئت تقول له: اهدم بناءك واخرج عن أرضي ورد لي الأرض كما كانت، هذا مذهب المالكية. وبناء على ذلك: يرون أن الأرض للمالك، فليس للغاصب أي طريقة على الأرض خلافا للحنفية رحمهم الله، لكنهم قالوا: بالنسبة للشخص الذي غصب نقول له: ليس لك إلا قيمة البناء وننقص من قيمة البناء تكلفة الهدم. مثال: لو أن شخصا غصب أرضا، ثم بنى عليها بناء وثبت عند القاضي الغصب وأمر برد الأرض المغصوبة، فلما أمر برد الأرض المغصوبة قلنا للمالك: أنت بالخيار بين أمرين: تثمن البناء، فالبناء الموجود عظما أو مفصلا، قيمته يساوي مليونا، وقال أهل الخبرة: هذا بناء يكلف مليونا، نقول: لو هدم ونقل الأنقاض بعد الهدم، كم سيكلف؟ قالوا: مائتي ألف، فنقول له: إما أن تدفع له ثمانمائة ألف أو نلزم الغاصب بهدم البناء ورد الأرض كما كانت، فيخير المالك ولا يلزم بواحد منهما. وهذا مذهب لا شك أنه مما يردع الناس، وإن كان ما سيأتي من مذهب الشافعية والحنابلة ألزم للأصل. الشافعية والحنابلة رحمهم الله قالوا: ليس لعرق ظالم حق، وهذا منطوق الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الغاصب معتد، وحينئذ نقول له: انقل بناءك ورد الأرض كما كانت، وإن شاء في هذه الحالة أن يهدم بنفسه، وإن شاء أن يعطي كلفة هدم البناء للمغصوب منه فعليه أن يفعل ذلك. أما الأرض فإنها ترجع كما كانت، وليس له حق في هذه الأرض ولا يختلف الحكم عندهم لا ببناء ولا بغرس. وفي الحقيقة من حيث الأصول والأدلة فمذهب الحنابلة والشافعية أصح هذه المذاهب؛ وذلك لأن الغاصب معتد على غيره، وبهذا الاعتداء بنى في غير ملكه، فلا يثبت للبناء حرمة؛ لأن الشرع لا يثبت الحرمة إلا لشيء مبني على أصل صحيح، وما بني على باطل فهو باطل، والفرع تابع لأصله، وهذا أصل حرام فكيف ينبني عليه استحقاق المعاوضة ونقول: من حقه أن يعاوض؟! أما ما ذكره أصحاب المذهب الأول من قولهم: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، فنقول: يرتكب أخف الضررين فيما له حرمة، ويكون الضرران في شيئين لهما حرمة، وأما هذا فهو غاصب لا حرمة له، وتصرفه في مال غيره، وهذا مالك حقيقي ملك الأرض وهي أرضه وأفسدت عليه أرضه، وقد يكون أرادها لزرع فأصبحت لبناء، فليس لعرق ظالم حق، خاصة أنه صلى الله عليه وسلم نص على ذلك. ثانيا: نقول لهم: لو قلنا بمذهبكم لتلاعب الناس وأمكن للظلمة والأغنياء أن يتسلطوا على أموال الفقراء، فالأمر بسيط، يذهب إلى فقير ليس عنده مال، ويغصب أرضه ويحدث عليها بناء بالملايين، ثم يقول له: الذي أحدثته أغلى من أرضك، فخذ قيمة أرضك واخرج، وهذا لا شك أنه يفتح باب شر عظيم، ويؤدي إلى باطل لا تقره الشريعة، فأصبح المغصوب منه تؤخذ منه أرضه، ولربما لا يرضى ببيعه، وتؤخذ منه قهرا. وعلى هذا: الذي يصح هو مذهب من قال: إنه ليس لعرق ظالم حق، ونقول: على الغاصب أن يقلع البناء من الأرض، وأن يرد الأرض كما كانت، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، فقال رحمه الله: (وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع) . لزمه قلع البناء بالهدم، ورفع أنقاض البناء، فجميع الآثار الباقية بعد البناء ينبغي إزالتها، وإذا بقيت آثار حفر أو نحوها تردم، فإن ردمت وتشوهت الأرض بعد الردم وأصبحت معيبة وجب عليه دفع النقص، بحيث لو كانت قبل الغصب قيمتها ثلاثمائة ألف، وبعد الغصب صارت قيمتها مائتي ألف، فعليه أن يرد الأرض ومعها مائة ألف ضمانا للنقص الذي حدث بسبب آثار الغصب التي وقعت. حكم من اغتصب أرضا وقام بزراعتها بقي السؤال لو أن رجلا اغتصب أرضا ثم قام بزراعتها، فما الحكم؟ الجواب أنه إذا قام بغرس الأرض والزراعة فيها فلا يخلو: إما أن يكون الزرع مما تطول مدته ويمكن نقله كالنخيل وأشجار الفواكه ونحوها، وإما أن يكون الزرع مؤقتا يمكن أن يصبر عليه الشهر والشهران ونحو ذلك كالحبوب. الحكم في الزروع إذا كانت مما لا تطول مدتها أما من زرع في الأرض شيئا مما لا تطول مدته، كزروع الحبوب، مثل: الشعير والذرة ونحو ذلك، ففي هذه الحالة يحتاج هذا الزرع إلى أن يبقى مدة، ثم بعد ذلك تعود الأرض كما كانت، ف السؤال إذا قلنا للغاصب: اقلع هذا الزرع لم ينتفع به ولم ينتفع به صاحب الأرض، ففي هذه الحالة يسقط الزرع، حيث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وفق هذه المسألة. ففي حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه عند أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته) قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي رواية للنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بهذه القضية وفصل فيها أن الزارع وهو الغاصب ليس له في الزرع حق، ما يقول: آخذ هذا الزرع وأقلعه، ليس له في الزرع حق. وبناء على ذلك أسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزرع استحقاق الغاصب وأثبت للغاصب استحقاق النفقة، فيقدر له تعبه، وأجرة التعب قيل: تقدر له قيمة البذر وتقدر له قيمة الحراثة والكلف والمؤونة التي تكلفها في إنبات هذا الزرع بإذن الله عز وجل. إذا: مذهب الحنابلة رحمهم الله على أن من اغتصب أرضا وزرعها، والزرع باق ولم يحن حصاده، ولم يحصده الغاصب ففي هذه الحالة فإنه يقضى بأنه لصاحب الأرض، ويعطى الغاصب نفقة البذر ومؤونة الزراعة. مثال ذلك: لو أن زيدا اغتصب أرضا، فزرعها وكان قد تكلف بذره خمسمائة ريال، ثم قام بالحراثة والزراعة ومؤونة الحرث تكلف ثلاثمائة ريال، فحقه ثمانمائة ريال، ثم يخلي بين صاحب الأرض وبين الزرع، هذا بالنسبة لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. لكن لو قال المالك للأرض: لا أعطيه شيئا وليس عندي شيء أعطيه، فما الحكم؟ هل نقول: يجب عليه قلع الزرع، والزرع يحتاج إلى شهر أو شهرين حتى يحصد، فيكون إتلافا للمال وإفسادا للثمرة؟ فقال فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- في هذه الحالة: نقول لمالك الأرض: تمكن الغاصب من إبقاء الزرع إلى الحصاد ولك أجرة مثله. إذا: هناك خياران لصاحب الأرض، الخيار الأول: نقول له: خذ الزرع وادفع قيمة البذر وكلفة المؤونة. والخيار الثاني: أن نقول له: اترك الغاصب حتى يحصد ولك أجرة الأرض حتى يكون الحصاد، ويكون له أيضا أجرة المدة التي مضت، هذا بالنسبة لمذهب الحنابلة رحمهم الله. أما الشافعية فقالوا: إنه يؤاخذ بقلع الغرس ولا يضمن صاحب الأرض إلا إذا اتفقا وتراضيا فيما بينهما. وأما الحنفية فقالوا: إذا اغتصب أرضا للزراعة، فإما أن تكون الأرض معدة للزراعة، وإما أن تكون الأرض معدة للإجارة، وإما أن تكون الأرض غير معدة لواحد من الأمرين، فإن كانت الأرض معدة للزراعة فينتقل العقد بين مالك الأرض وبين الغاصب عقد مزارعة، وينظر في العرف الموجود في ذلك البلد، كم يكون لصاحب الأرض؟ وكم يكون لصاحب الزرع؟ وتقسم الثمرة من الناتج بينهما على العرف، بناء على القاعدة الشرعية التي تقول: العادة محكمة. وأما إذا كانت الأرض معدة للكراء، كرجل كان يعد أرضه للإجارة -كأن يؤجرها للناس مستودعات أو نحو ذلك- فاغتصبها شخص وزرعها قالوا: تقدر أجرة مثلها، وتدفع الأجرة، فتنتقل إلى الإجارة ويبقى الزرع حتى يحصده غاصبه. وهذا المذهب في الحقيقة من حيث الأصول له وجهه، لكن من حيث السنة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسمت الأمر فهي تدل دلالة واضحة على أنه يجب في هذه الحالة تخيير المالك للأرض بين هذين الخيارين، نقول له: خذ الزرع وادفع لصاحبه المؤونة وقيمة البذر، أو اتركه وزرعه حتى يحصد ولك أجرة المثل. فلم نظلم صاحب الأرض؛ لأنه أخذ أجرة مثله، ولم نظلم صاحب البذر لخوف الفساد أو الإتلاف والإهمال، وإلا فالأصل أنه لا حق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق) . كل هذا الكلام إذا كان الزرع في حال استوائه، لكن لو أنه كان قد استوى وحصده الغاصب حينئذ يضمن الغاصب أجرة الأرض، ويكون الزرع ملكا له. مثال: لو أن رجلا اغتصب أرضا وزرعها وحصد الزرع ثم باعه وكانت قيمة الزرع خمسين ألف ريال فإننا في هذه الحالة نطالبه بأجرة الأرض، فقد تكون أجرة الأرض عشرة آلاف ريال، وعلى هذا لا نقول: إن صاحب الأرض يملك الزرع، إلا إذا كان الزرع قائما موجودا، أما إذا حصده الغاصب فليس لصاحب الأرض إلا أجرة المدة التي استغلها الغاصب في أرضه، وضمان ما يكون بعد تسوية الأرض وإصلاحها وردها على حالتها، وما يكون من النقص يضمنه. الخلاصة: إذا كانت الأرض قد اغتصبها وزرع فيها النخيل ففي هذه الحالة ذكرنا أنه إذا اتفق الطرفان على شراء النخل من مالك الأرض فإنه يلزم الغاصب بدفع الأجرة لما مضى، والعقد صحيح وينتقل إلى صلح بالبيع، وتسري عليه أحكام البيع التي تقدمت. ثانيا: إذا قال الغاصب: لا أبيع، نقول له: اقلع الغرس الذي هو الشجر، ثم بعد ذلك نسوي الأرض، ثم بعد ذلك ادفع أرش النقص بين القيمتين للأرض، وادفع أجرة الأرض للمدة التي مضت، هذا بالنسبة إذا كان قد اغتصب أرضا وزرعها نخلا. أما إذا زرع الزروع فقلنا: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الزرع إذا كان قائما فإننا نقول لمالك الأرض: خذ الزرع وادفع نفقته لمن زرع، ويدفع في هذه الحالة قيمة البذر وقيمة الكلفة. وأما إذا قال: لا أريد ذلك، فلا يكره عليه، ونقول له في هذه الحالة: اترك صاحب الزرع حتى يحصد زرعه؛ لأنه لا يمكن إتلاف هذا الزرع لأنه من باب الفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد. بخلاف البناء، فإن البناء له شأن آخر وقد قدمنا التفصيل فيه. الحكم إذا أصر الغاصب على نقل الزرع الحالة الثانية: أن يقول رب الأرض: أريد الزرع أن يبقى، ويقول الغاصب: أريد أن آخذ زرعي، فحينئذ يجبر رب الأرض على تمكين الغاصب من أخذ زرعه ونقله؛ لأن رب الأرض وصاحب الأرض يملك الأرض، والزرع ليس ملكا له، فيترك صاحب الزرع ينقل زرعه. فإذا قال: أريد أن آخذ زرعي، وقال رب الأرض: بل تتركه وأعطيك قيمته، لم يفرض على الغاصب أن يتركه، وحينئذ يمكن من نقل هذا الزرع، وتسري الأحكام التالية: أولا: يطالب بضمان المدة التي أمضاها غاصبا، فيدفع أجرة الأرض طيلة مدة الغصب، فلو مكث سنتين وهو غاصب للأرض دفع أجرة السنتين. ثانيا: يطالب بقلع هذا الغرس في أقرب مدة، ولا يماطل ولا يتأخر، فكل تأخير وكل مماطلة إذا كانت بنوع من التلاعب فيستحق التعزير عليها، وإذا كانت بدون تلاعب خارجة عن إرادته ضمن أجرة مدتها -أي: إجارتها- لصاحب الأرض. ثالثا: بعد قلع الغرس يطالب بتسوية الأرض، وإعادتها كما كانت. فإذا: يطالب بالقلع، ثم يطالب بالأجرة، ثم يطالب بتسوية الأرض وإعادتها كما كانت، فيردم الحفر بعد نقل النخل، وكما هو معلوم في الزراعة أنه لا يمكن نقل النخلة لوحدها، بل تنقل بترابها حتى لا تفسد، ففي هذا يقول بعض العلماء: تضرب هذه الجذور ويقلع منها التراب، حتى إن بعض العلماء أو بعض القضاة من علماء المسلمين كان يأمر بوضع هذه الجذور حتى يستخلص منها التراب، وتخرج النخلة بجذرها فقط؛ لأن التراب ملك لصاحب الأرض، وهذا من أبلغ ما يكون في إحقاق الحق وإبطال الباطل. ولا شك أن الأصول تدل على هذا، لكن بعض العلماء تسامح في هذا وقال: إنه قد يفسد النخل، ومادام أنه يمكن ردم هذه الحفر ببديل يضمن له مثل الأرض، فيقوم بدفن هذه الحفر، ثم بعد الانتهاء من دفع الأجرة وقلع النخل وتسوية الأرض ينظر في حال الأرض، فإن كانت الأرض قد تشوهت وأصبح حالها بعد قلع الغرس منها مشوها ينقص من قيمتها قيل له: اضمن النقص، فيؤتى بأهل الخبرة الذين لهم معرفة في الأراضي، ويقال: كم قيمة الأرض قبل أن تغتصب؟ يقال: قيمتها مائتا ألف، يقال: بعد أن سويت وبعد أن وضعت بهذا الشكل كم قيمتها؟ يقولون: صارت مائة وثمانين، فيضمن له العشرين ألفا التي هي فرق ما بين القيمتين؛ لأن ذلك كان بسبب الغصب. هذا من حيث حكمه: وجوب القلع على الغاصب، ثانيا: تسوية الأرض وإعادتها على الحالة التي كانت عليها، ثالثا: ضمان النقص، رابعا: ضمان الأجرة. هذه الأحكام مبنية على أدلة شرعية، فنطالبه بقلع الغرس؛ لأن الأرض ليست بأرضه، وإنما هي أرض أخيه المسلم وليس لعرق ظالم حق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق) ، والعرق: قال بعض العلماء: عرق الشيء جذوره التي يقوم عليها، فإذا كان ليس له حق في هذا فمن باب أولى ما بني عليه، كأنه يقول: إذا انهدم الأصل انهدم ما بني عليه. وبعض العلماء يقول: العروق تنقسم إلى أربعة أقسام؛ قسمان منها باطن، وقسمان منها ظاهر، فالغاصب إما أن يكون له عرقان باطنان، وإما أن يكون له عرقان ظاهران. فالعرقان الظاهران: البناء والغرس، والعرقان الباطنان: الآبار والعيون، فالبناء والغرس: كأن يغتصب الأرض فيبني فيها أو يغرس فيها فليس له حق، كما صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق) . وأما العرقان الباطنان: كأن يحفر بئرا أو يجري عينا، ففي هذه الحالة يطالب بردم البئر وكذلك ردم العين وإعادة الأرض كما كانت؛ لأنه ليس له حق لا في الظاهر ولا في الباطن لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا إذا كان قد زرع فيها زرعا مما تطول مدته فيطالب بهذا. الحكم في الزروع إذا كانت مما تطول مدتها وفي هذه الحالة يبقى السؤال بالنسبة للزروع مثل: أشجار النخيل، وأشجار الفواكه التي تبقى مدة طويلة كاللميون والتفاح والموز والبرتقال، فهذه الأشجار تبقى مدة طويلة وليست كالزروع الأخر. ففي هذه الحالة لو أنه زرع نخلا واتفق مع البائع على أن يعطيه النخل فيسري على ثمرة النخل التفصيل الذي ذكرناه في بيع الثمار التابعة للأصول، ويسري عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلا وقد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع) . لكن اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يكون للغاصب حق في قوله: (فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع) ؟ مادام أن الغصب لا حق فيه ولا استحقاق فيه فهل الثمرة أيضا تسقط؟ وجهان للعلماء، وخصص بعض العلماء هذا بوجود الصلح بين الطرفين. حكم اتفاق الغاصب والمغصوب منه على بقاء الزرع أما إذا اغتصب أرضا وكان قد زرع فيها نخلا أو نحوه، فإن الحكم الشرعي أنه يطالب بنقل هذا النخل وإخراج هذا الزرع، ويقال له: اقلع هذا النخل وعليك مؤونة القلع، إلا إذا اتفق مع رب الأرض على أن يعطيه قيمة النخل وينصرف عنه. مثال ذلك: لو اغتصب أرضا وزرع فيها مائة شجرة من النخيل من نوع النخلة منه بألفين، فإذا كانت مائة نخلة وكل نخلة بألفين فمعنى ذلك أن قيمة النخل مائتي ألف، فلو قال له رب الأرض: خذ المائتي ألف واترك هذا النخل، وتراضيا واصطلحا، فحينئذ لا إشكال، وتنتقل المسألة من الغصب إلى الصلح، وتسري عليها أحكام الصلح المتقدمة وتصبح بيعا، لكن إذا أعطاه مائتي ألف ريال فإنه يضمن الغاصب المدة التي مضت وقد وضع يده على الأرض غصبا، فلو أنه مكث فيها سنتين، وكل سنة لها عشرة آلاف فإنه يدفع له ما عدا أجرة هاتين السنتين، فعشرون ألفا مستحقة لصاحب الأرض، والمائتي ألف مستحقة للغاصب، فيعطى مائة وثمانين ألفا. وبناء على ذلك: إذا اتفقا على إبقاء النخل، أو إبقاء الزروع والأشجار واصطلحا على ذلك فلا إشكال، وتنتقل المسألة إلى البيع، ويضمن الغاصب لرب الأرض المدة التي أمضاها غصبا وتدفع أجرتها، فلو تنازل صاحب الأرض وقال: لا أريد العشرين ألفا وهي لك وقد سامحتك في المدة فذلك لهما؛ لأنه صلح ولصاحب الحق أن يتنازل عن حقه كله أو بعضه، هذا بالنسبة في حال اصطلاحهما على إبقاء الزرع كما هو. أوجه الضمان في الغصب يمكن أن نفهم أن الغصب فيه الضمان من أحد ثلاثة أوجه. الوجه الأول: ما يسمى بضمان اليد. والوجه الثاني: ويسمى بضمان الجناية والتصرف. والوجه الثالث: يسمى بالضمان باليد والجناية. فالغاصب نضمنه إما من جهة اليد وهي يد الغصب التي يسميها العلماء: اليد العادية، وإما أن نضمنه من جهة الجناية، وإما أن نضمنه من الوجهين. ثم إذا ضمناه في اليد أو الجناية أو من الوجهين، إما أن نضمنه لمنفعة، أو نضمنه لعين، أو نضمنه للعين مع المنفعة، فأصبحت ثلاث صور. الضمان باليد والجناية أما بالنسبة للحالة الثالثة: وهي الضمان باليد والجناية، فهذه صورتها أن يأخذ الشيء ويبقى عنده مدة لا يتصرف فيه، ثم يقدم على التصرف فيه، فالمدة التي لم يتصرف فيها في ذلك الشيء كما لو مضت سنة على سيارة محبوسة عند الغاصب، وبعد سنة أخذها وأتلفها، فإنه إذا حبسها ولم يستهلكها ولم يفعل بها شيء ضمن باليد، وضمن عين السيارة بالجناية، فهذا ضمان باليد وضمان بالجناية. ويجتمع فيه مجموع الدليلين، فنوجب عليه ضمان اليد بدليل اليد، ونوجب عليه ضمان الجناية لوجود الجناية، هذا بالنسبة للأموال المغصوبة: تضمن باليد وتضمن بالجناية وتضمن بمجموع الأمرين اليد مع الجناية، سواء كان الضمان بالمنافع أو كان الضمان للأعيان أو كان الضمان لمجموع الأمرين. وفي هذا دليل على عظمة هذه الشريعة وكمالها وسمو منهجها، أنها ضمنت للناس حقوقهم، وخاصة في هذا الزمان الذي أصبحت فيه الحقوق حتى في الأدبيات والاعتبارات والمعاني والحكميات، فلا شك أن ضمان حقوق الناس وصيانتها على هذا الوجه -وخاصة على أرجح أقوال العلماء رحمهم الله بإثبات ضمان اليد- يردع الظالم عن ظلمه، ويوجب إحقاق الحق ورد الحقوق إلى أهلها. ولو تصورنا أن الرجل تغتصب منه عمارته أو مسكنه وتمضي عشرات السنين وهو قد حيل بينه وبين حقه، ثم يقال: لا يأخذ إلا العين فقط، ولا يأخذ إلا عمارته! فخلال هذه السنوات كلها قد يستفيد الغاصب وينتفع، ولذلك كان من إحقاق الحق وإبطال الباطل أن يقال: على الغاصب أن يتحمل المسئولية بضمان المنافع وضمان الأعيان وضمانهما معا سواء كان ذلك بجنايته وتصرفه أو كان بمحض اغتصابه وحيلولته بين أصحاب الحقوق وحقوقهم، أو كان بمجموع الأمرين. المالكية في المنافع يفرقون بين كونه يستغل أو لا يستغل، ويقولون: إذا استغل الغاصب بنفسه أو بغيره، استغل بنفسه مثل أن يسكن العمارة أو يركب السيارة، واستغل بغيره: كأن يؤجر السيارة على غيره، أو يؤجر المسكن على غيره فيضمن، أما لو أخذ السيارة وحبسها فقط فلا يضمن، وهذا ضعيف، والحقيقة أن مذهب الشافعية والحنابلة في التضمين باليد مذهب قوي، ولا شك أنه يضمن للناس حقوقهم، وأما الحنفية فعندهم أصل، حيث إنهم لا يرون تضمين المنافع مطلقا، حتى ولو أنه استغل وسكن وأجر، ولو أن الغاصب أجر الدار عشر سنين فإنه لا يملك صاحب الدار إلا أن ترد له داره فقط، وهذا سنبينه ونبين دليلهم في ذلك وجوابهم إن شاء الله. ضمان الجناية ضمان الجناية ضابطه: أن يجني الغاصب على المنفعة أو على العين أو على الاثنين معا. يغتصب من أخيه المسلم شيئا فيتصرف في منفعته ولا يتصرف في العين، أو يتصرف في العين ولا يتصرف في المنفعة، أو يتصرف في الاثنين، فيلزمه ضمان المنفعة في الصورة الأولى، وضمان العين في الثانية، وضمانهما معا في الثالثة. مثال ذلك: لو أن شخصا اغتصب سيارة، وقام بركوب هذه السيارة واستغلال ركوبها شهرا كاملا، فيضمن منفعة السيارة، فقد يرد السيارة وهي تامة كاملة ليس فيها أي نقص، فالعين تامة، ولكن الذي فات باستغلاله واستهلاكه وتصرفه هو المنفعة، فيقال له: ادفع منفعة السيارة، أي: ادفع أجرة السيارة لمدة شهر، هذا بالنسبة لضمان المنفعة بالجناية والتصرف. وأما ضمان العين بالجناية والتصرف كرجل اغتصب الزجاجة ثم كسرها مباشرة، نقول له: يلزمك ضمان هذه الزجاجة، فهو يضمن عين الزجاجة بالمثلي إذا كان له مثلي أو بقيمته إذا لم يكن له مثلي، على التفصيل الذي سيأتي في ضابط الضمان، هذا بالنسبة للجناية على العين. ويضمن المنفعة والعين بالجناية مثل: شخص أخذ سيارة وانتفع بها شهرا، ثم بعد شهر ذهب ورماها في الوادي وأتلفها تماما، فحينئذ يضمن أجرة الشهر ضمانا للمدة، ويضمن قيمة السيارة إذا لم يكن لها مثلي أو مثلها إذا كان لها مثلي؛ لأن يده أتلفت بالجناية، فحينئذ يضمن المنفعة ويضمن العين، هذا بالنسبة لضمان العين والمنفعة بالجناية. بالنسبة لضمان الجناية الأصل فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) فقوله: لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، يقول بعض العلماء: أي: أنه يورث العداوة، فالشخص حينما يكون مع أخيه فيأخذ كتابه ويأخذ قلمه ويمنعه من القلم هذا يورث الشحناء ويورث البغضاء حتى ولو كان بالمزاح، وخاصة أن الشخص لا يمزح إلا إذا رأى أخاه بحاجة للكتاب، فهذا يورث نوعا من الحقد ونوعا من الضغينة؛ ولذلك أقفل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب ومنع منه فقال: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) فأوجب الرد، وأوجب الضمان في الأخذ والتصرف، فدل على أن من تصرف بالشيء فإنه يضمنه، قال الله عز وجل: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] ، (كل نفس بما كسبت) دل على أن ما فعله الإنسان واجترحه يضمنه، ويكون مرهونا به فقوله: (رهينة) فعيلة بمعنى: مفعولة، أي: مرهونة. وبناء على ذلك: بينت الآية أن من اجترح أذية أخيه المسلم بإتلاف عين ماله أو تفويت منفعته أو مجموع الأمرين، فإنه يكون مرهونا بذلك الشيء ويجب عليه ضما يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
ضمان اليد ضمان اليد يكون الغاصب قد اغتصب الشيء ولم يتصرف فيه، فحينئذ نضمنه بيد الغصب وهي التي أخذت، أو حالت بين المالك وملكه. ويد الغصب تثبت على الشيء بضابط الغصب الذي تقدم معنا، وفي هذه الحالة الغاصب لا يتصرف في الشيء المغصوب، فيأخذ أرضا ولا يتصرف فيها، أو يأخذ سيارة ولا يتصرف فيها ولا يحركها ولا ينقلها من مكانها، فإذا كان الغاصب قد اغتصب شيئا ولم يتصرف فيه ولكن حال بينه وبين صاحبه، فقهره عليه وأخذه منه بالاستيلاء -وهذا ما تقدم معنا مما يسمى بالاستيلاء الحكمي- إذا لم يكن هناك نقل حيازة، فإنه في هذه الحالة يضمن المنفعة، ويضمن العين، ويضمن العين مع المنفعة. وتصوير ذلك: لو أن رجلا اغتصب سيارة وأخذ مفاتيحها من مالكها، وقال له: إذا قربت السيارة أو أخذت السيارة أفعل بك وأفعل؟! فهدده ومنعه من السيارة واستولى عليها حكما أو استولى عليها قهرا، فالسيارة أصبحت منتقلة من يد الملكية من صاحبها إلى يد الغصب لمن اغتصب. فلما غصبها ما تصرف في السيارة، ما فتحها ولا ركبها ولا تصرف فيها بشيء، فالسيارة تلفت في موضعها، بقيت -مثلا- عشر سنوات ثم تعطلت تماما وتلفت، فلم يتلفها الغاصب ولم يتلفها أجنبي ولم يتلفها المالك، وإنما التلف وقع بطبيعة الحال، أو نزلت عليها صاعقة من السماء فأحرقتها، المهم أنها لم تتلف بيد الغاصب ولا بتصرفه، ولا بأجنبي ولا بمالك. في هذه الحالة نقول: اغتصابه يوجب ضمانه، وهذا ما يسمى بيد الغاصب، ويد الغاصب يقول بها جمهور العلماء، أنه بمجرد قهره لأخيه المسلم وأخذه لماله والاستيلاء عليه حقيقة أم حكما، حقيقة: كأن يحوزه ويأخذ منه القلم فيجعله عنده في جيبه، أو يضعه في حقيبته، أو يضعه في درجه أو في دولابه، هذا النقل. أو حكما: يكون المغصوب في مكانه ولا يستطيع صاحبه أن يصل إليه بسببب منع الغاصب. في هذه الأحوال كلها يضمن الغاصب، مع أنه لم يكن هو الذي أتلف، فيضمن المنفعة، ويضمن العين، ويضمن كذلك العين مع المنفعة. الصورة الأولى: يضمن المنفعة، مثال ذلك: لو أخذ دارا فأخذ مفاتيحها ومنع صاحبها من الدخول والاستفادة منها، ومضى على هذا الغصب سنة، لم يدخل الدار ولم يتصرف فيها، فهذه الدار منعت سنة كاملة وهي بكامل أجزائها وكامل منافعها، فلما كملت السنة ردت الدار لصاحبها كاملة، فالعين كاملة، لكن تعطلت منفعتها سنة كاملة، فالذي اغتصبها يضمن المنفعة، وهذا مذهب الجمهور: يدفع أجرة الدار سنة كاملة. الصورة الثانية: أن يضمن باليد العين، كأن يأخذ مثلا سيارة لشخص ويقهره عليها فيغتصبها، ثم تتلف السيارة مباشرة بعد الغصب ولو بدقيقة، فبمجرد غصب الغاصب للعين تدخل إلى ذمته، سواء تلفت بتصرفه أو بتصرف غيره فيده ضامنة، وهذا ما يسمى بضمان اليد، فيضمن السيارة ولو تلفت بآفة سماوية. كما لو أخذ مزرعة واغتصبها ولم يتصرف في المزرعة أبدا، وجاء إعصار بعد الغصب ولو بثانية وأحرقها، ضمن المزرعة كاملة، وهذا ضمان العين. الصورة الثالثة: الضمان بالنسبة للعين مع المنفعة، مثل: أن يغتصب سيارة سنة، ثم تلفت هذه السيارة، ولم يتصرف فيها ولم يتلفها فقد ضمن بيد الغصب منفعة السيارة سنة، فيدفع أجرة استغلال السيارة سنة، ويدفع قيمة السيارة ضمانا للعين على التفصيل الذي تقدم في ضمان العين. إذا: ضمان اليد يكون للمنفعة ويكون للعين، ويكون للعين والمنفعة معا. ما الدليل على مسألة ضمان اليد؟! لماذا نضمن الغاصب ونلزمه بدفع أجرة الشيء أي: (منفعته) ونلزمه بدفع قيمة العين إذا تلفت، ونلزمه بدفع الاثنين إذا حصل الموجب للضمان بهما؟!! الدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فدل على أن الغاصب بمجرد غصبه: (على اليد ما أخذت) بمجرد غصبه وقهره لأخيه المسلم واعتدائه على ماله فقد صار إلى ضمان حتى يؤديه. فمن اغتصب عينا وفيها منفعة ألزمناه بدفع المنفعة، وذلك بدفع الأجرة، فألزمناه بضمان المنفعة بدفع أجرتها. ومن أخذ عينا وتلفت بعد أخذه ألزمناه بردها؛ لأنه قد أخذها إما حقيقة أو حكما. ومن أخذ العين وحبسها مدة فيها منفعة وعطلها عن صاحبها ضمن الأمرين، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الحق كاملا، فمن ضيع المنفعة قلنا له: رد هذه المنفعة بأجرتها، ومن ضيع العين قلنا له: رد هذه العين بضمانها، ومن ضيع الأمرين وجب عليه ضمانهما معا. ضمان اليد يقول به جمهور العلماء وينازع فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله وبعض أصحابه، والإمام أبو حنيفة عنده قاعدة، والحنفية رحمهم الله يقولون: ليس هناك في الغصب ضمان للمنفعة، ولا يرون ضمان المنافع. وسيأتي هذا معنا -إن شاء الله- ونبين شبهتهم ودليلهم والجواب عليه في المسألة التي سيذكرها المصنف بعد هذه المسألة. حكم قلع المبني أو المزروع في الأرض المغصوبة قال رحمه الله: [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع] . (لزمه القلع) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق) . قال رحمه الله: [وأرش نقصها] . ينظر في الأرض بعد القلع إن نقصت قيمتها، يقال: ادفع الأرش، وهو الفرق بين قيمتها كاملة وقيمتها ناقصة. قال رحمه الله: [وتسويتها] . ويلزم بتسويتها، يعني: إعادتها على وضعها وردم الحفر وإعادتها؛ لأنه أخذها مستوية فيردها مستوية، ولا يترك الحفر فيها؛ لأن هذا يشوه الأرض ويضر بمصلحة المالك. منافع الأعيان المغصوبة مضمونة قال رحمه الله: [والأجرة] . ويلزمه دفع أجرة الأرض، وهذا مبني على الأصل الذي ذكرناه من أن منافع الأعيان المغصوبة مضمونة، وخالف في هذه المسألة الحنفية وأشد ما يكون خلافهم في العقارات، فالأرض عندهم أصل ما يثبت عليها غصب. يقولون: عندنا مالك وعندنا مملوك، فالأشياء إما أن تكون مالكة وإما أن تكون مملوكة، فالأرض التي غصبت مملوكة، فالشخص إذا جاء وأخذ الأرض قهرا فإنه لا يعتبر غاصبا لها؛ لأن هناك شيئا يسمى التعدي بالتصرف، وهناك التعدي بدون تصرف، وهناك ما يجمع الأمرين، فإذا جاء الشخص وأخذ الشيء فقط ولم يتصرف فيه فإنه في هذه الحالة لا يكون غاصبا حقيقة؛ لأن الغصب عندهم يستقر بإزالة يد المالك عن الشيء، والعقار لا يمكن نقله ولا يمكن إزالة يد مالكه عنه؛ ولذلك لا يرون حقيقة الغصب تنطبق على العقارات في الأرض، سواء غرست أو بنيت، فلا يلزمون بدفع الأجرة؛ لأنهم لا يرون أن منافعه تضمن. وعندهم دليلان: الدليل الأول: يقولون: إن المنافع ليست بمال، وإنما تضمن الأموال وما في حكمها، والمنافع ليست بأموال عند الحنفية، ولكن عند الجمهور أنها أموال بدليل: أن الدار تؤجر وتسكن بمائة ألف -مثلا- تدفع لقاء السكن، والدابة أو السيارة تركبها؛ فمنفعتها تدفع لقاءها مائة ريال أو خمسين ريالا، إذا: معنى ذلك: أن السكنى والركوب والمنافع لها قيمة، وتعتبر من جنس الأموال من هذا الوجه. الدليل الثاني: قالوا: عندما يأتي الشخص ويغتصب هذه العمارة ويأخذها، فإنه عند سكنى العمارة شهرا كاملا -التي هي مدة الغصب- تكون جميع منافعها ومصالحها تحت ضمان الغاصب، والذي يتحمل مسئوليتها الغاصب، فمن حقه أن ينتفع، ومن حقه أن يغصب هذه المنافع، حتى زوائد المغصوب لا يدفعها ولا يضمنها، وهذا أصل عند الحنفية رحمهم الله، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فألزم بضمان الشيء الذي أخذ، وقد أخذ المنفعة فيلزمه رد قيمتها؛ لأنه يتعذر رد المنافع بمثلها، فيلزم بدفع قيمتها وضمانها بالقيمة، وكذلك أيضا يتعذر رد المنافع بأعيانها؛ لأن سكنى الدار شهرا ذهبت ولا تستطيع أن تردها. فما هي كالعين ترد! ولذلك لا يمكن رد المنافع بأعيانها، ولا يمكن رد المنافع بمثلها؛ لأنه ليس هناك دار مثل هذه الدار من كل الوجوه، فمثلا: لو أنه اغتصب دارا في وسط المدينة، فإنه إذا وجد الدار في وسط المدينة لا يمكن أن يجد دارا في نفس المكان وبنفس الصفات، ولابد أن تكون مثلية؛ لأن المثلية يشترط فيها المساواة من كل الوجوه. وبناء على ذلك: لا يصح أن يقال: إن المنافع تضمن بالمثل، فتعذر وجود المثلي وتعذر رد عين المنافع، وتعذر رد المثل فوجب ضمانها بالقيمة؛ ولذلك إذا عطل عليه منافعه ومنعه من سكنى الدار سواء استغل أو لم يستغل فإنه يلزم بضمانها. حكم من غصب جارحا أو عبدا أو فرسا قال رحمه الله: [ولو غصب جارحا أو عبدا أو فرسا فحصل بذلك صيدا فلمالكها] . قوله: (ولو غصب جارحا) غصب الجارح يشمل: الكلب المعلم، والطيور الجوارح مثل: الصقر والباز والشواهين والباشق ونحوها من جوارح الطير. فالجوارح المعلمة سواء كانت من الطيور أو كانت من السباع العادية، إذا اغتصبه وأخذه وصاد به فللعلماء في ذلك وجهان: قال بعض العلماء: إذا أخذ الكلب وصاد به ملك الغاصب الصيد ورد الكلب. وقال بعض العلماء: بل إن الصيد يكون ملكا لصاحب الكلب، وهذا هو الصحيح الذي اختاره المصنف رحمه الله، والحنابلة والشافعية على هذا، أنه إذا اغتصب جارحا فإن صيده يكون للمالك؛ وذلك لأن الجارح هو الذي أخذ الصيد، وأخذه وهو ملك لصاحبه، والشرع أحل لصاحبه المنفعة وأن ينتفع بذلك الكلب ويرتفق به. لكن أصحاب القول الأول قالوا: إن الجارح من حيث الأصل لا يملك؛ فليست هناك يد وإنما له يد على المنفعة، فإذا اغتصبه حينئذ لا يكون هناك ملك لصاحب اليد الأصلية، فيبقى الانتفاع للغاصب وليس للمغصوب منه. والصحيح: أن الصيد يكون للمغصوب منه. وقوله: (أو عبدا) . أو غصب عبدا، فصاد هذ العبد وحصلت منه المنفعة، فإنه يكون ملكا للمغصوب منه وليس للغاصب. وقوله: (أو فرسا) . وهكذا الفرس لو أنه ارتفق به وانتفع، فإنه يضمن، وهذه المسألة تعرف بمنافع المغصوب، ومنافع المغصوب يمثل لها بالحيوانات، ويمثل لها بالعقارات؛ لأن الحيوان إما أن يكون آدميا أو غير آدمي، فمثل لغير الآدمي بالجارح، ومثل للآدمي بالعبد، ومثل لغير المنقول بالعقار وهو الدار، ومثل للحيوان بالفرس. فأصبح إما أن يكون حيوانا يملك منفعته، وإما أن يكون حيوانا يملك ذاته، وإما أن يكون آدميا بالنسبة للمنافع، ومنافع الحيوانات إما أن تكون منفعة من حيوان لا تملك ذاته كالأسد والكلب، ولكن تملك منفعته: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة:4] فإنه تملك منفعة الصيد به، ولذلك الكلب لا تملك عينه، وإذا أتلفه الغير فلا يضمن قيمة الكلب كما ذكرنا؛ لأن الشرع أسقط الثمن أو القيمة في الكلب، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثمن الكلب سحت) . فإذا: غصب الحيوان يشمل الآدمي وغير الآدمي؛ فإن كان آدميا مثل له بالعبد، وإن كان غير آدمي فإما أن يكون حيوانا تملك ذاته ومثل له بالفرس، فالمنفعة تابعة لملكية الذات، أو يكون حيوانا لا تملك ذاته ومثل له بالجارح، فهذا التمثيل المراد به التقسيم ببيان التنظير في أصل المسألة في ملكية المنافع. وقوله: (فحصل بذلك صيد فلمالكه) . يعني: من الكلب أو العبد بأن صاد له، أو ركب الفرس وصاد عليه، ففي هذه الأحوال كلها المنافع تكون ملكا للمالك الأصلي للمنفعة أو المالك للرقبة مع منافعها على التفصيل الذي ذكرناه. الأسئلة انتقال العقد عند الحنفية من غصب إلى مزارعة السؤال في قول الحنفية رحمهم الله: إذا كانت الأرض معدة للزراعة ينتقل العقد إلى عقد مزارعة بين المالك والغاصب، ما هي صورة عقد المزارعة بينهما؟ الجواب تنتقل المسألة من الغصب ومن صورة الاعتداء -لأنهم لا يرون الغصب في العقارات- إلى المزارعة، فنقول في هذه الأرض: هذا المكان إذا دفعت لشخص لكي يزرعها، كم يتفق أهل الأراضي في ذلك الموضع؟ مثال: لو كانت الأرض قريبة من المدن وأعطيت لشخص لزراعتها، فيعطاها على أن له النصف ولصاحب الأرض نصفها، فتكون مشاطرة بين الطرفين، فيقال: فهذه الأرض -المغصوبة- تأخذ حكم الأراضي الموجودة حولها، فيكون نصف الزرع -مثلا- للمالك، ونصف الزرع للذي غصبها، فالنتاج لصاحب الأرض وللغاصب، هذا إذا كانت الأرض يزارع عليها في مكانها ومحلها بهذا القدر. وبعض الأحيان يؤثر الشيء المزروع، فمثلا: هناك مزارع يقع فيها عقد المزارعة؛ لأن عقد المزارعة يكون فيها العامل للبذر، فيبذر الأرض ويقوم عليها ويستصلحها ثم يشاركه صاحب الأرض في الإنتاج، فيكون صاحب الأرض قد قدم الأرض وقدم الماء الموجود فيها، ويكون العامل -الذي هو المزارع- قد دخل بالبذر وبالعمل، وهذا قدمناه وذكرناه حينما تعرضنا لمسألة المساقاة والمزارعة. فالشراكة الآن بين العامل وبين رب الأرض، وهنا الشراكة بين الغاصب وبين رب الأرض، وفي بعض الأحيان يكون التأثير بحسب الزرع المزروع، فالمنطقة التي فيها الأرض المغصوبة أو المأخوذة إذا زرع فيها -مثلا- الشعير، جرى العرف عند أهلها أن تكون ثلاثة أرباع للمالك وربع للعامل. نقول: إذا: للغاصب الربع ولمالك الأرض ثلاثة أرباع. ولو زرعت ذرة وجرى العرف في ذلك الموضع أن يأخذ العامل ثلثين، والثلث لرب الأرض، نقول: الثلثان للغاصب والثلث لرب الأرض، فيقاس على هذا، فيحددون المزارعة وقدرها على حسب العرف، لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، فهم يرون كأنهما اشترطا ودخلا العقد على هذا على حسب العرف بذلك، فننصف الطرفين ونعطي هذا حقه بالعرف، ونعطي مالك الأرض أيضا قدره من المزارعة بالعرف، والله تعالى أعلم. حكم صلاة العيد في الأودية السؤال يقول السائل: نحن نسكن في قرية تحيط بها الجبال، ولا يوجد مصلى للعيد إلا في وادي السيل، وقيل لنا: أن الصلاة لا تصح في الوادي، فهل هذا صحيح؟ وهل نترك الوادي ونصلي في الجامع، مع العلم أننا نخشى مداهمة السيل أو نحوه؟ الجواب أما في الحقيقة من حيث الأصل فالسنة الصلاة في البراري والصحراء، لكن لو صليتم في الوادي فالصلاة صحيحة، ولا أعرف أحدا من أهل العلم يقول: إن الصلاة داخل الوادي باطلة، والله يقول عن مكة: {بواد غير ذي زرع} [إبراهيم:37] يعني: مكة التي هي قبلة المسلمين كلها في وادي، ولا أحد يقول: إن الصلاة في الوادي باطلة. لكن هل نطلب السنة على وجه يعرض أرواح الناس للخطر، في الأزمنة التي يغلب على الظن فيها وجود المطر في المنطقة أو حول المنطقة التي هي مراوي الوادي، لأن مشكلة الوادي وهذا معروف بالاستقراء والتتبع وقول أهل الخبرة ربما تكون مراوي الوادي على بعد مائتين كيلو. فالذي يظهر أنه لا يجوز تعريض أرواح الناس لمثل هذا. وأما إذا كان في زمان يغلب على الظن عدم وجود السيل، ويغلب على الظن عدم وجود الضرر فالأمر فيه أخف إن شاء الله، أما الصلاة -إن شاء الله- صحيحة، والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم. حكم زراعة شخص في أرض شريكه دون إذن السؤال من زرع دون إذن شريكه، هل له أحكام الغاصب وذلك في الشق الذي لشريكه؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة أفتى فيها بعض أهل العلم رحمهم الله: أنه إذا زرع في نصيب شريكه مكن الشريك من الزراعة في نصيبه عوضا، فيقال له: ازرع لمدة ثلاثة أشهر، ويقال لشريكه: إذا فرغ تأخذ أنت أيضا أرضه وتزرع وتأخذ كما أخذ. وهذا إنما يتأتى في حال استواء الأرضين، كما لو كانت الأرض بينهما مناصفة، وكانت القسمة قسمة مهايأة بين الشريكين وكلا الأرضين بصفات واحدة حيث يكون هناك عدل بين الطرفين. وهناك وجه لبعض العلماء رحمهم الله أنه ينزل الشريك منزلة الغاصب ويعتبره في حكم الغاصب، فإذا زرع وحصد ضمن أجرة الأرض مدة زراعته. فعلى الوجه الأول يمكن المظلوم من أخذ حقه بالزراعة، وعلى الوجه الثاني يمكن من أخذ حقه عن طريق المعاوضة بالإجارة، والله تعالى أعلم. معنى النقص المستقر السؤال قال الشارح رحمه الله في مسألة أرش النقص: (وكذا كل عين مغصوبة على الغاصب ضمان نقصها إذا كان نقصا مستقرا) فما معنى قوله: مستقرا؟ الجواب النقص ينقسم إلى صور، في بعض الأحيان يبقى ويؤثر في المالية ويؤثر في القيمة، وبعض الأحيان لا يبقى، فمثلا: لو أنه أخذ العبد فمرض العبد ونقصت قيمته، ثم لما رده رده وقد شفي. أخذ منه فرسا، والفرس صحيح سوي، فمكث عند الغاصب ثلاثة أشهر، في الشهر الأول مرض وهذا نقص، لكنه غير مستقر؛ لأنه لما دخل في الشهر الثاني شفي، فرجع إلى حالته، ففي هذه الحالة لا يكون مضمونا ولا يلزم بدفع النقص؛ لأنه عاد على حالته والنقص الذي حدث عارض، فالعوارض التي لا تستقر ولا تثبت وليست بمؤثرة لا بالضمان في الأعيان ولا بالضمان في المنافع، والله تعالى أعلم. قاعدة الغالب كالمحقق السؤال لو منع الغاصب المالك أن يزرع أرضه، فكيف يكون ضمان الغاصب، إذ لا ندري لو زرع المالك هل ستخرج ثمرته أم تفسد؟ الجواب طبعا هذا ليس بوارد من وجوه: أولا: أنه إذا منعه من الزراعة فالقهر موجود، وصفة الغصب موجودة من جهة الاعتداء على أموال الناس، فيتحمل مسئولية هذا الاعتداء. ثانيا: قولك: نحن لا ندري هل يخرج الزرع أو لا، القاعدة في الشريعة أن الحكم للغالب، فالأرض أرض زراعية، والبذر موجود، والزمن زمن زراعة، فما هو الغالب؟! فالغالب أن يخرج الزرع. ولذلك تقول القاعدة -وهذه فائدة استخدام القواعد وتعملها-: إن الغالب كالمحقق، والحكم للغالب، والنادر لا حكم له، تقول: الغالب أن الأرض تخرج زرعها فيضمن له ذلك ولا عبرة بالنادر وكونه يحتمل أنها ما تخرج لا نعمل به، بل نعمل الغالب ونحكم بأنه ضامن لهذه الأرض هذه المدة، وعلى هذا يلزم بالضمان. الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله قرر في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام مسألة الظنون الضعيفة، وقال: إن الشريعة تبني على الظن الراجح، وأكثر مسائل الشريعة على الظنون الراجحة، يعني: على غلبة الظن، والظنون الضعيفة -من حيث الأصل- والاحتمالات الضعيفة لا يلتفت إليها ألبتة. يقول رحمه الله: إذ لو ذهبنا نعمل مثل هذه الظنون الفاسدة لما استقامت الشريعة؛ لأننا إذا عملنا بهذه الظنون الفاسدة نقول: يحتمل أنها ما تخرج يحتمل تخرج! ولو أننا أعملنا بالاحتمال الضعيف ما بقي شيء، فأنت في أعظم الأشياء: الصلاة، التي هي ركن الإسلام وعموده، ويقف المسلم بين يدي ربه بالظنون؛ لأنه يستقبل القبلة بغالب الظن، فهو إن توجه إلى جهة القبلة هل هو قاطع 100% أنه على جهة القبلة؟! بل بغالب الظن. وإذا جاء وتوضأ هل هو يقطع 100% أنه على وضوئه؟ ربما دخله الشك أنه خرج منه شيء ولم يخرج، فالظنون الفاسدة لا يلتفت إليها. في الصيام لو جاء ورأى آثار مغيب الشمس هل يقطع 100% أنها غابت؟ لا يمكن، ففي بعض الأحيان لا يستطيع أن يقطع. وحينما تأتي لعالم وتسأله عن مسألة اجتهادية ويفيتك، فالغالب صوابه، وغلبة الظن حينما تراه إنسانا يوثق بدينه وعلمه وقد شهد له أهل العلم بأنه أهل لهذا العلم الذي يفتي فيه في العقيدة أو في الحديث أو في الفقه وفي المسائل والأحكام، وجئت تسأله في شيء بينك وبين الله عز وجل وتتعبد لله عز وجل، فقد يكون الشيخ مخطئا، فيستحل الرجل وطء زوجته بغلبة الظن، ويقول له: لا، الطلاق ما وقع، فيحتمل أنه وقع، ويحتمل أن الشيخ أخطأ، لكن هذه الظنون كلها لا يلتفت إليها ولا يعتد بها، والحكم في الشرع لغالب الظن أنه مادام على علم وبصيرة والله وصف أمثال هؤلاء فقال: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون} [النساء:162] فوصفهم برسوخ العلم، وقال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43] ورد إليهم بغلبة الظن بصوابهم. ومن هنا كانت أحكام الشريعة والتعبد الله سبحانه وتعالى بغلبة الظن. فإذا جئنا للحقوق وفصل الحقوق ومقاطع الحقوق بين الخصمين نحكم فيها بغالب الظن إن لم نكن على يقين وقطع؛ لأن الله تعبدنا بهذا الغالب. وبهذا الغالب يمكننا أن نصل إلى حق كل ذي حق فنأمر من أخذ الحق برده، ونقول: إن هذه الأرض مادامت قد تهيأت للأسباب وهي صالحة للزرع فإنها تكون في حكم الأرض المزروعة، والله تعالى أعلم. |
الساعة الآن : 01:51 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour