ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 31-08-2024 02:29 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ طَهَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4196 الى صـ 4210
الحلقة (451)





واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين -التعظيم والتحقير- وتلك، والله أعلم، [ ص: 4196 ] هي إرادة المذكور مبهما، لأن: ما في يمينك أبهم من: " عصاك " وللعرب مذهب في التنكير والإبهام، والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه. ومرة لتعظيم شأنه، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، يغني في الرمز والإشارة. فهذا هو الوجه في إسعاده بهما جميعا.

ثم قال الناصر: وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير. والله أعلم. وهو أن موسى عليه السلام، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى، عندما سأله عنها بقوله تعالى: وما تلك بيمينك يا موسى ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: وألق ما في يمينك ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: وما تلك بيمينك وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها. وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى: فأوجس في نفسه خيفة موسى ؟ انتهى.

ولأبي حيان نكتة أخرى. وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة. ولا يقال جاء في سورة الأعراف: ألق عصاك والقصة واحدة. لأنه يجاب بأنه مانع من رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا، وحكاية ما جاء بالمعنى.

هذا وقال الشهاب الخفاجي : فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادف له، يجري فيه ما يجري فيه. والأول خلاف الواقع. والثاني دونه خرط القتاد، فتأمل.

أقول: إنما استبعد الثاني، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية. مع أن الأمر ليس كذلك. وحينئذ فيتعين الثاني. وهو ظاهر. وبه تستعاد تلك اللطائف.
ثم أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه، من إنجائهم وإهلاك عدوهم، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر: بقوله سبحانه:

[ ص: 4197 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[77] ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى .

ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أي: سر بهم من مصر ليلا: فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا أي: يابسا. فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله: لا تخاف دركا أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك ولا تخشى أي: غرقا من بين يديك، ووحلا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[78] فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم [79] وأضل فرعون قومه وما هدى .

فأتبعهم فرعون بجنوده لأنه ندم على الإذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم كما قال: إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم، ونزلوا في الطريق الذي سلكوه. ففاجأهم الموج كما قال تعالى: فغشيهم من اليم ما غشيهم أي: علاهم منه وغمرهم، ما لا يحاط بهوله: وأضل فرعون قومه وما هدى أي: أوردهم الهلاك، بعتوه وعناده في الدنيا والآخرة. وما هداهم سبيل الرشاد.
ثم ذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل ومننه الكبرى ، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، بقوله سبحانه:

[ ص: 4198 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[80] يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونـزلنا عليكم المن والسلوى [81] كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى .

يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وهو فرعون وقومه. فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب. يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وذلك بأن أقر أعينكم منهم، بإغراقهم، وأنتم تنظرون: وواعدناكم جانب الطور الأيمن أي: بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه. واليهود السامرية تزعم أن هذا الجبل في نابلس ويسمونه جبل الطور ويذكر في الجغرافيا بلفظ عيبال ولهم عيد سنوي فيه يصعدون إليه، ويقربون فيه القرابين. والله أعلم.

قال الزمخشري : وإنما عدى المواعدة إليهم، لأنها لابستهم واتصلت بهم، حيث كانت لنبيهم ونقبائهم. وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه.

و(جانب) مفعول فيه، أو مفعول به على الاتساع. أو بتقدير مضاف. أي: إتيان جانب ونـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم أي: من لذائذه. فإن المن كالعسل. والسلوى من الطيور الجيد لحمها: ولا تطغوا فيه أي: فيما رزقناكم، بأن يتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به: فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى أي: هلك.
[ ص: 4199 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[82] وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .

وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وعمل صالحا بجوارحه، ثم اهتدى أي: استقام وثبت على الهدى المذكور. وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح. ونحوه قوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة الطغيان، ببيان المخرج له منه، كي لا ييأس .
وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[83] وما أعجلك عن قومك يا موسى .

وما أعجلك عن قومك يا موسى أي: أي شيء عجل بك عنهم، على سبيل الإنكار، وكان قد مضى معه النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور، على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه ورضاه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[84] قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى .

قال هم أولاء على أثري أي: قادمون ينزلون بالطور، وإنما سبقتهم بما ظننت أنه خير. ولذا قال: وعجلت إليك رب لترضى أي: عني، بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك. واعتنائي بالوفاء بعهدك. وزيادة (رب) لمزيد الضراعة والابتهال، رغبة في قبول العذر. أفاده أبو السعود .

[ ص: 4200 ] فإن قيل: كان مقتضى جواب السؤال من موسى أن يقول: طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك، فالجواب. أن هذا من الغفلة عن سر الإنكار. وذلك لأن الإنكار بالذات إنما هو للبعد والانفصال عنهم. فهو منصب على القيد. كما عرف في أمثاله. فالسؤال في المعنى عن الانفصال الذي يتضمنه (أعجلك) المتعدي بـ(من). وإنكار العجلة لأنها وسيلة له. فالجواب: هم أولاء على أثري. وقوله: وعجلت إلخ تتميم. وقيل الجواب إنما هو قوله: وعجلت إلخ، وما قبله تمهيد له.

وقال الناصر: إنما أراد الله بسؤاله عن سبب العجلة، وهو أعلم، أن يعلم موسى أدب السفر. وهو أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم في المسير، ليكون نظره محيطا بطائفته، ونافذا فيهم، ومهيمنا عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب، لوطا، فقال: واتبع أدبارهم فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عز وجل، ومسارعة إلى الميعاد. وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير. ولا أسر من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[85] قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري .

قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة: وأضلهم السامري يعني اليهودي الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلا يتخذوه إلها، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه. و( السامري ) في لغة العرب، بمعنى اليهودي. وقد قال بالظن، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه. وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في ( نابلس ) قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جل عاداتها.

[ ص: 4201 ] وقد تضمنت هذه الجملة -أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة -الأمر- برجوعه لقومه، وإصلاحه ما فسد من حالهم، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[86] فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي .

فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا أي: حزينا: قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أي: بإنزال التوراة علي، ورجوعي بها إليكم: أفطال عليكم العهد أي: زمان الإنجاز، أو مجيئي: أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[87] قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري [88] فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي .

قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا قرئ بالحركات الثلاث على الميم.

قال الزمخشري : أي: ما أخلفنا موعدك، بأن ملكنا أمرنا. أي: لو ملكنا أمرنا، وخلينا وراءنا، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده: ولكنا حملنا بفتح الحاء مخففا، وبضمها وكسر الميم مشددا: أوزارا أي: أثقالا وأحمالا: من زينة القوم [ ص: 4202 ] أي: من حلي القبط، قوم فرعون، وهو حلي نسائهم: فقذفناها أي: في النار لسبكها: فكذلك ألقى السامري أي: كان إلقاؤه: فأخرج لهم أي: من تلك الحلي المذابة: عجلا جسدا له خوار أي: صوت عجل. وقد قيل: إنه صار حيا، وخار كما يخور العجل. وقيل: لم تحله الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. أفاده الرازي .

وقوله: فقالوا أي: السامري ومن افتتنوا به: هذا إلهكم وإله موسى فنسي أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل. مسفها لهم فيما أقدموا عليه، مما لا يشتبه بطلانه على أحد، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[89] أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا .

أفلا يرون ألا يرجع أي: العجل: إليهم قولا أي: لا يردد لهم جوابا: ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا أي: دفع ضر ولا جلب نفع، أي: فكيف يتخذ إلها؟
القول في تأويل قوله تعالى:

[90] ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري .

ولقد قال لهم هارون من قبل أي: قبل رجوع موسى إليهم: يا قوم إنما فتنتم به أي: ضللتم بعبادته: وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري في عبادته سبحانه، ونبذ العجل.
[ ص: 4203 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[91] قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى [92] قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا [93] ألا تتبعني أفعصيت أمري .

قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال أي: موسى : يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أي: في الغضب لله، وشدة الزجر عن الكفر. ولا مزيدة. أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، بحمل النقيض على النقيض. فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله. أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك مزجرة لهم: أفعصيت أمري وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه، ويصلح ما يراه فاسدا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .

قال أي: هارون: يا ابن أم بكسر الميم وفتحها. أراد أمي وذكرها أعطف لقلبه: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أي: بشعره. وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه: إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل أي: بتركهم لا راعي لهم: ولم ترقب قولي أي: لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[95] قال فما خطبك يا سامري .

قال فما خطبك يا سامري أي: ثم أقبل على السامري وقال له منكرا: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟
[ ص: 4204 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[96] قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي [97] قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا .

قال بصرت بما لم يبصروا به أي: فطنت لما لم يفطنوا له: فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها أي: في الحلي المذاب حتى حي: وكذلك سولت لي نفسي أي: حسنته وزينته: قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك أي: لعذابك: موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا أي: لنطيرنه رمادا في البحر، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر.

تنبيهات:

الأول: اعلم أن هارون عليه السلام، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل، أولا بقوله: إنما فتنتم به ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانيا بقوله: وإن ربكم الرحمن ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله تعالى: فاتبعوني ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: وأطيعوا أمري وهذا هو الترتيب الجيد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده الرازي .

وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة [ ص: 4205 ] من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفرى، بلا امترا.

الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: فقبضت قبضة من أثر الرسول هو جبريل عليه السلام. وأراد بأثره، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا: أن السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور.

واختلفوا أيضا في: أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: بصرت بما لم يبصروا به أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئا من سنتك ودينك." فقذفته " ، أي: طرحته. فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟.

وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولا، مع جحده وكفره، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر إنك لمجنون وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى.

[ ص: 4206 ] قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون، لوجوه:

أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام، كأنه تكليف بعلم الغيب.

وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول، والإضمار خلاف الأصل.

وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه، فبعيد. لأن السامري، إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعا أن موسى عليه السلام نبي صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال بلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربيا له حال الطفولية، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى.

التنبيه الثالث: في قوله: لا مساس وجوه:

أحدها: إني لا أمس ولا أمس.

وثانيها: المراد المنع من أن يخالط أحدا أو يخالطه أحد، عقوبة له.

ثالثها: ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله: ما (أريد مسي النساء)، فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: المال والبنون زينة الحياة الدنيا أي: لأن المس يكنى به عن النكاح كما في آية: من قبل أن تمسوهن والله أعلم.

[ ص: 4207 ] ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[98] إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما .

إنما إلهكم أي: المستحق للعبادة والتعظيم: الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما أي: أحاط علمه كل شيء. ثم أشار تعالى إلى فضله، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه، من أنباء الأنبياء، تنويها بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيرا للاعتبار والاستبصار في آياته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[99] كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا .

كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا أي: كتابا عظيما جامعا لكل كمال، وسمي القرآن: ذكرا لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه.

قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه (ذكرا) فقال: فاسألوا أهل الذكر
ثم، كما بين تعالى نعمته بذلك، بين شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، بقوله:

[ ص: 4208 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[100] من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا [101] خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا .

من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا أي: إثما. يعني عقوبة ثقيلة. شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها: خالدين فيه أي: في احتماله المستمر: وساء لهم يوم القيامة حملا
وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى :

[102] يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [103] يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا .

يوم ينفخ في الصور بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: فإذا هم قيام ينظرون وعلينا أن يؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين.

ونحشر المجرمين أي: نسوقهم إلى جهنم: يومئذ زرقا أي: زرق الوجوه. الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية: وتسود وجوه

وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص، لأنه لضعف بصره، يكون محدقا نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى: إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار نقله الرازي. والأول أظهر [ ص: 4209 ] يتخافتون بينهم أي: يتسارون من الرعب والهول، أو من الضعف، قائلين: إن لبثتم أي: في الدنيا: إلا عشرا أي: عشر ليال.

قال الزمخشري : يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضت. والذاهب، وإن طالت مدته، قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت: أطال الله بقاءك كفى بالانتهاء قصرا. وإما لاستطالتهم الآخرة، وأنها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة.
وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقالا منهم، في قوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[104] نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما .

نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة أي: أعدلهم رأيا: إن لبثتم إلا يوما ونحوه قوله تعالى: قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين انتهى.

قال أبو السعود : ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، استرجاع منه تعالى له، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدل على شدة الهول. أي: ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمدي، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر، تقليلا له وتحقيرا.

[ ص: 4210 ] قال الشهاب : ليس المراد بحكاية قول من قال (عشرا) أو (يوما) أو (ساعة) حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله، عبر عن قلته بما ذكر. فتفنن في الحكاية، وأتى في كل مقام بما يليق به.
القول في تأويل قوله تعالى:

[105] ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [106] فيذرها قاعا صفصفا [107] لا ترى فيها عوجا ولا أمتا .

ويسألونك عن الجبال أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول: فقل ينسفها ربي نسفا أي: يزيلها عن مقارها. فيسيرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمر على الرؤوس مر السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال: فيذرها أي: فيذر مقارها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال: قاعا أي: سهلا مستويا: صفصفا أي: أملس: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا أي: نتوءا يسيرا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[108] يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا .

يومئذ يتبعون الداعي أي: يجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه: لا عوج له أي: لا يعوج له مدعو، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه. متبعين لصوته، سائرين بسيره.

في شروح (الكشاف): هذا كما يقال: (لا عصيان له)، أي: لا يعصى. و(لا ظلم له) أي: لا يظلم. وضمير (له): للداعي. وقيل: للمصدر. أي: لا عوج لذلك الاتباع: وخشعت [ ص: 4211 ] الأصوات للرحمن أي: انخفضت لهيبته ولهول الفزع: فلا تسمع إلا همسا أي: صوتا خفيا.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif

ابوالوليد المسلم 31-08-2024 02:37 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ طَهَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4211 الى صـ 4225
الحلقة (452)






القول في تأويل قوله تعالى:

[109] يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا .

يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا أي: قبل قوله.

والمعنى: يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب.

قال بعض المحققين: وإنما يكون الكلام ضربا من التكريم، لمن يأذن الله له به، يختص به من يشاء. ولا أثر فيما أراد الله البتة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[110] يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما .

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما أي: بمعلوماته، أو بذاته العلية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[111] وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما .

وعنت الوجوه للحي القيوم أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي: الأسارى. لأنها في أسر مملكته وذل قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به.

ولما كانت الوجوه يومئذ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة، أشار إلى ما يجزي به الكل، بقوله سبحانه: وقد خاب من حمل ظلما أي: خسر.
[ ص: 4212 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[112] ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما

ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما أي: نقص ثواب: ولا هضما أي: ولا كسرا منه، بعدم توفيته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[113] وكذلك أنـزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا .

وكذلك أنـزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد أي: بعبارات شتى، تصريحا وتلويحا، وضروب أمثال، وإقامة براهين: لعلهم يتقون أي: الكفر والمعاصي بالفعل: أو يحدث لهم ذكرا أي: اتعاظا واعتبارا، يؤول بهم إلى التقوى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[114] فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما .

فتعالى الله الملك الحق أي: تناهى في العلو والعظمة، بحيث لا يقدر قدره، ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه أي: بل أنصت. فإذا فرغ الملك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقنه جبريل الوحي، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل [ ص: 4213 ] عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله: وقل رب زدني علما أي: سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه.

وهذا -كما قال الزمخشري - متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له، عندما علم من ترتيب التعلم. أي: علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم، وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلما. قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.

ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم، من اتباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان، العدو لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[115] ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما .

ولقد عهدنا إلى آدم من قبل أي: من قبل هذا الزمان، أن لا يقرب من الشجرة: فنسي أي: العهد: ولم نجد له عزما أي: تصميما في حفظه. إذ لو كان كذلك، لما أزله الشيطان ولما استطاع أن يغره. كما بينه الله تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[116] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى [117] فقلنا يا آدم [ ص: 4214 ] إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى .

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى أي: بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة، لأصالته في الأمور، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك، مع المحافظة على الفاصلة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[118] إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى [119] وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى .

إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى أي: لا تتصون من حر الشمس.

قال أبو السعود : هذا تعليل لما يوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها. مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجد في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعما بفنون النعم. من المآكل والمشارب، وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها، ما لا يخفى. إلا ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها. انتهى.

لطيفة:

قال الناصر : في الآية سر بديع من البلاغة، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. [ ص: 4215 ] وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا، فقال الكندي الأول:


كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
لخيلي: كري كرة بعد إجفال


فقطع ركوب الجواد عن قوله: لخيلي كري كرة، وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس، مع التناسب. وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها.

على أن هذه الآية سرا لذلك، زائدا على ما ذكر، وهو قصد تناسب الفواصل. ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسن به منتظما. انتهى. وهذا السر الذي سماه: قطع النظير عن النظير يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع: أن فيه التنبيه على أن الأولين، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرق بين القرينتين. فقيل إن لك وأنك وأيضا روعي مناسبة الشبع والكسوة. لأن الأول يكسو العظام لحما. وأما الظمأ والضحى فمن واد واحد. وقيل: إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله، لتوهم المقرونان نعمة واحدة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[120] فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [121] فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى .

فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد أي: من أكل [ ص: 4216 ] منها خلد ولم يمت: وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما أي: يلزقان: من ورق الجنة أي: لهما هذا الخزي، بدل عز الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية، بدل نفائس الملابس الخالدة: وعصى آدم ربه أي: بارتكاب النهي، وترك العزم في حفظ العهد: فغوى أي: عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدو.
القول في تأويل قوله تعالى:

[122] ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [123] قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى .

ثم اجتباه ربه أي: اصطفاه ووفقه للإنابة: فتاب عليه وهدى قال أي: بعد قبول توبته: اهبطا منها جميعا أي: انزلا من الجنة إلى الأرض: بعضكم لبعض عدو أي: متعادين.

قال المهايمي : فالمرأة عدوة الزوج، في إلجائه إلى تحصيل الحرام. والزوج عدوها في إنفاقه عليها. وإبليس يوقع الفتنة بينهما، ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماوي فإما يأتينكم مني هدى أي: من كتاب ورسول فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى أي: لا في الدنيا ولا الآخرة. قال أبو السعود : ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: (هداي) مع الإضافة إلى ضميره تعالى، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه.
وقوله تعالى:

[ ص: 4217 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[124] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [125] قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا [126] قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه، ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه.

وفي الآية مسائل:

الأولى: قال الرازي في قوله تعالى: عن ذكري الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): أي: عن الذكر الذي أنزلته. و(الذكر) هنا مصدر مضاف إلى الفاعل. كـ(قيامي وقراءتي) لا إلى المفعول. وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة [ ص: 4218 ] المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا . قال تعالى: وهذا ذكر مبارك أنـزلناه وقال تعالى: ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم وقال تعالى: وما هو إلا ذكر للعالمين وقال تعالى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وقال تعالى: إنما تنذر من اتبع الذكر وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم. ولذلك جرت أوصافا على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى: تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب

الثانية: قرئ (ضنكا) بالتنوين على أنه مصدر وصف به، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين. كما قال ابن مالك :


ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا


وفي القاموس: الضنك الضيق في كل شيء، للذكر والأنثى. يقال: ضنك ككرم، ضنكا وضناكة وضنوكة، ضاق. وقال السمين: (ضنكا) صفة معيشة. وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث. ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور (ضنكا) بالتنوين وصلا وإبداله ألفا وقفا كسائر المعربات. وقرأت فرقة (ضنكى) بألف كسكرى. وفي هذه الألف احتمالان: فإما أن تكون بدلا من التنوين، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على (فعلى) نحو دعوى.

[ ص: 4219 ] الثالثة: ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالا: إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين. والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي. قال ابن كثير : أي: ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره. بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء. وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك. فلا يزال في ريبه يتردد: فهذا من ضنك المعيشة. انتهى.

وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس، فوق كل الأهواء والذات والمآرب. فالضنك المعني بها، إذن هو الضنك الحيوي والقلق الدنيوي، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيم الذي هو دين الإسلام. فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك من كابر حسه وناقض وجدانه. فإن دين الإسلام هو دين الفطرة . دين اليسر. دين العقل. دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها، وتستنير به من ظلماتها. ولذلك سمي هدى ونورا وشفاء ورحمة. ألق نظرك على الأديان كلها، وقابل بينها وبينه، لتدرك ذلك.

هذه اليهودية، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق. قيود في المأكل والمشرب. وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة. وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات، ونجسين مبعدين لا يلمسون ولا يلمسون. دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات.

وهذه النصرانية، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح، [ ص: 4220 ] ومضي عصر الحواريين. فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية. وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود. وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى . فإنه عليه السلام قال: (ما جئت لأهدم الناموس -التوراة- بل لأتممه).

فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها، اعتقادا وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلا وإبراما، تبعا لرغائب الأنفس والشهوات، مما يتضجر منه كل مسيحي ذاق جوهر الدين المسيحي حقا. إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض، فأنى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم مننا لا تنكر; أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون، ومعاداتها للعلوم. وجرى بإغراء الكهنة، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ. ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح. وتفرقوا أحزابا. ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام، بنبذهم سخائف ما ورثوه. ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه، علما بأن الدخائل والبدع في دينهم، أفسدت عليهم ما أفسدت. ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة. وهم يسعون إليه، وإن كانوا لا يشعرون، أو يشعرون ويتجاهلون. هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين.. فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى. ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها، لكثرة خرافاتها وضررها، نفسا ومالا وعرضا. فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب. ومن نجا من ويلاتها بالإسلام، لا يعد ولا يحصى. وقس على هؤلاء، الطائفة المسماة بالماديين. وهم الدهريون والطبيعيون. فإنهم بلا ريب أضيق صدرا وأضنك معيشة وأشد اضطرابا وأعظم فرقة. فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد. بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيله له رغائبه وشهواته. قال بعضهم: هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله، ويكون مستقيما في أعماله، إذا سئلوا: [ ص: 4221 ] ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به؟ فيجيبون إنما هو الذي يرشد إليه العقل عريا عن الوحي. فيقال لهم: العقل، من حيث هو، ضعيف متغير قاصر. يرى اليوم صوابا ما يراه في الغد خطأ. ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح، ويرى غدا أنه حرام لا يجوز إتيانه. تحمله أغراضه على استحلال ما يلذ له وتجعله مستنفرا مما يضاد أهواءه، فكيف يكون صاحبه مستقيما في أعماله؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء؟ وكل يرى نفسه ويخيل له أنه مستقيم!! فالصيني مثلا يرى نفسه مستقيما ولو باع أو قتل أولاده. والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها. والوثني يرى نفسه مستقيما، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة.

هذا، وإن أكبر الفلاسفة ضلوا في مواد ما يشرعون. ولم يهتدوا لجادة الاستقامة الحقة. فأنى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقبله كيف شاء، ويجعله كشيء مرن، يمده إلى ما طاب له، ويقصره عن كل ما عافه. فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم. وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة، ما كان وقفا على إرادة كل فرد وأهوائه؟ وإذا سلمنا، مجاراة، أنه يوجد من كان ميالا طبعا إلى الاستقامة والعدل والعفة، فيحمله طبعه على ذلك، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبا للانتقام والاعتداء والشهوات. لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمارة بالسوء، فأنى يكون العقل وحده وازعا عن ارتكاب المعاصي والجرائم. فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر. وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها. فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها. وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة. وأول بينة على ملازمة الشريعة طبع الإنسان، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراسا نظريا. حتى لا يمكنه أن يجرد نفسه. مثلا، كيف يمكن للإنسان، ولو مهما تعامى في الشر، أن يجرد نفسه عن تصور [ ص: 4222 ] أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأي نوع كان؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية. ومن بحث عن عموم سكان البسيطة، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع، وإن اختلفت في بعض موادها. والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها. وإلا فهي دمار لنظام العالم، وجائحة للأدب، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين، من عهد آدم إلى يومنا هذا. وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني، والإجحاف بالشرائع الأدبية. لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير ويعاقب على الشر، أطلق لنفسه عنان الفاسد، واطرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب، قضاء لما يحسبه من سعادته، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة. وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضا هدم الاجتماع الإنساني والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ، ولا حرمة للسنن والشرائع، ولا بر بالملوك، ولا عدل بالرعية، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروري بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران.

وبالجملة، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية، إذا لم يكن الناس مقيدين بشريعة إلهية، تصد الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروري للحياة الطبيعية، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية . فلا حياة للموجودات الحية دون هواء، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة . انتهى.

وقال إمام مدقق، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها، ما مثاله: إنا نرى أمام أعيننا بعضا من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسيمة وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثيرو الضجر شديدو الحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يتلذذون بملذة. كأن لهم في لذة ألما، وبإزاء كل فرح ترحا، يحسون بكآبة قد رانت على صدورهم: فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم [ ص: 4223 ] عنهم، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية، وهما الأمران اللذان عليهما، كما يزعمون، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية، مع تهذبهم بأنواع العلم، وهو كما يزعمون، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟.

أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناء.. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت، وهامت به وسكرت، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد، وإليك الدليل:

ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة، أو تهتم بملاذها مهما كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة، لتشرف على حضرة القدس المنيفة، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجل من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه، بجمع المال ورفاهة الحال، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة، ليهتدي إلى وضح المحجة. فإن تبصر في أمره، واكتنه حقيقة سره، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجو لها، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها، وإمتاعها بطلبتها، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل [ ص: 4224 ] السليم. العقل في النوع الإنساني خصيصة من أجل خصائصه، ومنحة من أفضل منح الله عليه، لو استعمل فيما وضع له، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه، فيستدل بها على وجود الخالق عز وجل، وعلى تنزه أفعاله عن العبث، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته، استدلالا محسوسا لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. في نواميس رقيها وهبوطها، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتصبر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاؤوا به، وفي الآثار التي تركوها، على معنى النبوة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعا لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبداءة، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها، وباقية بقاء النوع الإنساني، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه.

الرابعة: رأيت للإمام ابن القيم ، رحمه الله، كلاما على هذه الآية في كتابيه: (الجواب الكافي) و (مفتاح دار السعادة) فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية، فإنها جديرة بذلك. قال في (الجواب الكافي) في فصل أبان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعم منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة [ ص: 4225 ] والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه، ويصحو. وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والبرزخ ويوم المعاد. ولا تقر العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين. ومن لم تقر عينه بالله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحا، كما قال تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة. فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين. ونظير هذا قوله تعالى: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ونظيرها قوله تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة، هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش [ ص: 4226 ] طيب. وقال آخر: إن في الدنيا جنة، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة. من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif


ابوالوليد المسلم 31-08-2024 02:54 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ طَهَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4226 الى صـ 4240
الحلقة (453)





وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: « إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر » . وقال: « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة » ولا تظن أن قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة. وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال: وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم وقال حاكيا عنه أنه قال: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة. فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده. وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصا.

[ ص: 4227 ] وقال رحمه الله في (مفتاح دار السعادة): فسر غير واحد من السلف قوله تعالى: فإن له معيشة ضنكا بعذاب القبر. وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر. ولهذا قال: ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى أي: تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهذا في البرزخ: ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فهذا في القيامة الكبرى. ونظيره قوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون فقول الملائكة: اليوم تجزون عذاب الهون المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق فهذه الإذاقة في البرزخ. وأولها حين الوفاة، فإنه معطوف على قوله: يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة.

وفي الصحيح، عن البراء بن عازب في قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال: نزلت في عذاب القبر. والأحاديث في عذاب [ ص: 4228 ] القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكا، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.

فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: ويحسبون أنهم مهتدون ؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أتي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر.

والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة [ ص: 4229 ] الحجة عليه كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى في أهل النار: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال تعالى: أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين، وهذا كثير في القرآن.

الخامسة: قال ابن القيم : اختلف في قوله تعالى: ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر ؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا وقوله: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقوله: يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين وقوله: لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله: وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقوله: يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون وقوله: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها

[ ص: 4230 ] والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول: وقد كنت بصيرا وكيف يجاب بقوله: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وقد قيل في هذه الآي أيضا: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: ونحشره يوم القيامة أعمى قالوا لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون.

ومن نصر أنه العمى والبكم والصمم، المضاد للبصر والسمع والنطق، قال: هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئا يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن .

وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: اخسئوا فيها ولا تكلمون فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيبصرون بأجمعهم، عميا بكما صما، لا يبصرون [ ص: 4231 ] ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل .

والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حجة، هم عمي عنها، بل هم عمي عن الهدى كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمى البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا، ويقر بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.

وفصل الخطاب; أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم « إنكم محشورون إلي حفاة عراة » وكقوله تعالى: وإذا الوحوش حشرت وكقوله تعالى: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ثم قال تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الآية وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني. يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضا: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا انتهى.

[ ص: 4232 ] السادسة: قوله تعالى: وكذلك اليوم تنسى أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها. كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك: فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك.

قال ابن كثير : فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.

روى الإمام أحمد عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من رجل قرأ القرآن فنسيه، إلا لقي الله يوم يلقاه، وهو أجذم » ;.

السابعة: قوله تعالى: وكذلك نجزي من أسرف الآية، أي: وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائما. ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[128] أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى .

أفلم يهد لهم أي: لهؤلاء المكذبين: كم أهلكنا قبلهم من القرون أي: الأمم المكذبة للرسل: يمشون في مساكنهم يريد قريشا ، أي: يتقلبون في بلاد عاد وثمود ولوط ويعاينون آثار هلاكهم، وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر: إن في ذلك لآيات لأولي النهى أي: العقول السليمة. كما قال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض [ ص: 4233 ] فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[129] ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى .

ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى بيان لحكمة تأخير عذابهم مع إشعار قوله: أفلم يهد لهم الآية، بإهلاكهم مثل هلاك أولئك والكلمة السابقة، قال القاشاني : هو القضاء السابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا، لكون نبيهم نبي الرحمة. وقوله سبحانه: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم

وقال الزمخشري : الكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة. يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمود لازما لهؤلاء الكفرة. واللزام إما مصدر لازم كالخصام، وصف به مبالغة. أو اسم آلة لأنها تبنى عليه كحزام وركاب، واسم الآلة يوصف به مبالغة أيضا، كقولهم: مسعر حرب، ولزاز خصم بمعنى ملح على خصمه. من لز بمعنى ضيق عليه.

وجوز أبو البقاء فيه كونه جمع لازم. كقيام جمع قائم.

وقوله تعالى: وأجل مسمى عطف على كلمة، أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة أو يوم بدر، لما تأخر عذابهم أصلا.

قال أبو السعود : وفصله عما عطف عليه، للإشعار باستقلال كل منهما، بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآية الكريمة.

[ ص: 4234 ] وقد جوز عطفه على المستكن في (كان) العائد إلى الأخذ العاجل، المفهوم من السياق، تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد. لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كدأب عاد وثمود وأضرابهم. ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[130] فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى .

فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال، فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر، فالفاء سببية. والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة. وفي التسبيح المأمور به وجهان:

الأول: أنه التنزيه. والمعنى: ونزه ربك عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائض، حامدا على ما ميزك بالهدى، معترفا بأنه المولى للنعم كلها. ومن صيغه المأثورة: سبحان الله وبحمده. وعليه فسر تخصيص هذه الأوقات الإشارة إلى الدوام، مع أن لبعض الأوقات مزية يفضل بها غيرها.

الثاني: أنه الصلاة وهو الأقرب لآية: واستعينوا بالصبر والصلاة والآيات يفسر بعضها بعضا. والمعنى: صل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، قبل طلوع الشمس، يعني صلاة الفجر. وقبل غروبها، يعني صلاة الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها: ومن آناء الليل فسبح أي: من ساعاته، يعني المغرب والعشاء. وإنما قدم الوقت فيهما، لاختصاصهما بمزيد الفضل. وذلك [ ص: 4235 ] لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب تعالى. ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أفضل عند الله وأقرب.

قوله تعالى: وأطراف النهار تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذانا باختصاصهما بمزيد مزية. ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، والمرجح مشاكلته لـ: آناء الليل أو أمر بصلاة الظهر. فإنه نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الأخير. وجمعه باعتبار النصفين. أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار.

وقال الرازي : إنما أمر، عقيب الصبر، بالتسبيح، لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة. إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى . قلت: وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: لعلك ترضى أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، من رفع ذكرك. ونقهرك على عدوك وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك وهذا كقوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وقوله تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى

ثم أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من الزخارف، إنما هو فتنة لهم فلا ينبغي الرغبة فيه، وإن ما أويته أجل وأسمى، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[131] ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى .

ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم أي: أصنافا من الكفرة: [ ص: 4236 ] زهرة الحياة الدنيا أي زينتها. منصوب على البدلية من: أزواجا أو بـ: متعنا على تضمينه معنى: أعطينا وخولنا: لنفتنهم فيه أي: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم. فإن ذلك فان وزائل وغرور وخدع تضمحل.

قال أبو السعود : " لنفتنهم " متعلق بـ: " متعنا " جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلا، إثر إظهار بهجته حالا. أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه: ورزق ربك خير وأبقى أي: ثوابه الأخروي خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، كقوله تعالى: ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا أو المعنى ما أوتيت من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى، لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى. وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب. ومن لطائف الآية ما قاله الزمخشري رحمه الله، ونصه: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه، وإعجابا به وتمنيا أن يكون له. كما فعل نظارة قارون حين قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم حتى واجههم أولوا العلم والإيمان بـ: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا

وفيه: أن النظر غير الممدود معفو عنه . وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وإن من أبصر منها شيئا أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه، قيل: ولا تمدن عينيك أي: لا تفعل ما أنت معتاد له وضار به. ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجب غض النظر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، [ ص: 4237 ] فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[132] وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى .

وأمر أهلك بالصلاة يعني بأهله: أهل بيته أو التابعين له. أي: مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله: واصطبر عليها أي: على أدائها، لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة، والخشوع والمراقبة، التي ينتج عنها كل خير. ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها، إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها نفع ما، لتعاليه وتنزهه بقوله: لا نسألك رزقا نحن نرزقك أي: لا نسألك مالا. بل نكلفك عملا ببدنك نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلا. ومعنى نحن نرزقك: أي: نحن نعطيك المال ونكسبك ولا نسألكه. قاله ابن جرير.

وقال أبو مسلم : المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة. ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج. وهو كقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون وقال بعض المفسرين: معنى الآية. أقبل مع أهلك على الصلاة واستعينوا بها على خصاصتكم. ولا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، ونحن رازقوك. وهذا المعنى لا تدل عليه الآية منطوقا ولا مفهوما. وفيه حض على القعود عن الكسب، ومستند للكسالى القانعين بسكنى المساجد عن السعي المأمور به. وقد قال تعالى في وصف المتقين: رجال لا تلهيهم تجارة [ ص: 4238 ] ولا بيع عن ذكر الله إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة

وقوله تعالى: والعاقبة للتقوى أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل، لأهل التقوى والخشية من الله، دون من لا يخاف له عقابا ولا يرجو له ثوابا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[133] وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى

وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم، في سورة بني إسرائيل، من قوله تعالى: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب

وقوله تعالى: أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى أي: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب، من أنباء الأمم من قبلهم، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فكفروا بها لما أتتهم، كيف عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية، أن يكون حالهم حال أولئك. هذا ما قاله ابن جرير .

وذهب غيره إلى أن المعنى: أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور. مع أن الآتي بها أمي لم يرها ولم يعلم ممن علمها. فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف ففنده. [ ص: 4239 ] وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت: وقالوا لولا أنـزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنـزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ولذلك قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره. وهو الدليل وحده. وما عداه مما ورد في الأخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين، هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر، هو أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هاديا للضال مقوما للمعوج كافلا بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذا لهم من خسران كانوا فيه. وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء، أن يعارضوه بشيء من مثله، فعجزوا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به، إلى أن ألجؤهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جوائها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم. وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقا لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلا على المدعي، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وقال: [ ص: 4240 ] أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقال غير ذلك، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة. ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم من العقل.

معجزة القرآن جامع من القول والعلم. وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم. فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها. ونشر ما انطوى في أثنائها. وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها. ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها. أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضئ عقولهم بنور العلم. وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات.

وقال فاضل آخر: قضت مراحم الله جل شأنه أن يكون الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم. ينطلق بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يؤوب من استبصاره بندامة، بدون هذا الاعتبار بالعقل، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعا لذلك أن تسكن من اضطرابها. هذا، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية. وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة، يعطل من سير نواميسها وقتا ما. وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلا يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم. وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه، وأما الآن، حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنساني رشده، فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة. لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة المواد العلمية. فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أولا، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن طائفة الإسبيريت [ ص: 4241 ] الروحيين في أوربا تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات، من أن القوم لا يدعون النبوة، ولا يزعمون الرسالة. نعم، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif

ابوالوليد المسلم 31-08-2024 03:07 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4241 الى صـ 4255
الحلقة (454)





ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات، تكذيب علماء أوربا بكل المعجزات السابقة. وهو، وإن كان تهورا منهم، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق، ببدائه العقل، وقواعد العلم. صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى.

ثم أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلوات الله عليه، والإعذار ببعثته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[134] ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [135] قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى .

ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله أي: من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام: لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل أي: بالعذاب الدنيوي: ونخزى أي: بالعذاب الأخروي. أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها. [ ص: 4242 ] فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نـزل الله من شيء قل أي: لأولئك الكفرة المتمردين: كل أي: منا ومنكم: متربص أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: فتربصوا فستعلمون أي: عن قرب: من أصحاب الصراط السوي أي: المستقيم: ومن اهتدى أي: من الزيغ والضلالة. أي: هل هو النبي وأتباعه، أم هم وأتباعهم.

وقد حقق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

سميت بذلك لاشتمالها على فضائل جليلة، لجماعة منهم عليهم السلام.

وهي مكية واستثنى منها بعضهم آية أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها وهي مائة واثنتا عشرة آية. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي.

قال ابن الأثير : أي من أول ما أخذته وتعلمته بمكة. والتالد: المال القديم الذي ولد عندك، وهو نقيض الطارف.

[ ص: 4244 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1] اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون .

اقترب للناس حسابهم أي: دنا لأهل مكة ما وعدوا به في الكتاب من الحساب الأخروي وهو عذابهم: وهم في غفلة أي: عما يراد بهم: معرضون أي: مكذبون به. وإنما كان مقتربا لأن كل آت وإن طالت أوقات استقباله وترقبه، قريب. وقد قال تعالى: إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا وقال تعالى: ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ولا يخفى ما في عموم (الناس) من الترهيب البليغ. وإن حق الناس أن ينتبهوا لدنو الساعة، ليتلافوا تفريطهم بالتوبة والندم . كما أن في تسمية يوم القيامة، بيوم الحساب زيادة إيقاظ، لأن الحساب هو الكاشف عن حال المرء، ففي العنوان ما يرهب منه، ولو قيل بأن الحساب أعم من الدنيوي والأخروي لم يبعد، ويكون فيه إشارة إلى قرب محاسبة مشركي مكة بالانتصاف منهم والانتصار عليهم، كما أشير إليه في آية: فعسى الله أن يأتي بالفتح ووعد به النبي وصحبه في آيات كثيرة. إلا أن شهرة الحساب فيما بعد البعث الأخروي، حمل المفسرين على قصر الآية عليه. والله أعلم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[2] ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون .

[ ص: 4245 ] ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون تقريع لهم على مكافحة الحكمة بنقيضها. وتسجيل عليهم بالجهل الفاضح. فإن من حق ما يذكر أكمل تذكير، وينبه على الغفلة أتم تنبيه، أن تخشع له القلوب وتستحذي له الأنفس.

قال الزمخشري : بعد أن وصفهم بالغفلة مع الإعراض، قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ، فإن الله يجدد لهم الذكر وقتا فوقتا. ويحدث لهم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة، لعلهم يتعظون. فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر، التي هي أحق الحق وأجد الجد، إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. و(الذكر) هو الطائفة النازلة من القرآن. انتهى.

تنبيه:

استدل بهذه الآية من ذهب إلى حدوث كلامه تعالى المسموع. وهم المعتزلة والكرامية والأشعرية . فأما المعتزلة فقالوا إنما كان القرآن حادثا لكونه مؤلفا من أصوات وحروف. فهو قائم بغيره وقالوا: معنى كونه متكلما، أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم. كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبي عليه الصلاة والسلام، أو غيرهم كشجرة موسى.

وأما الكرامية ، فلما رأوا ما التزمه المعتزلة مخالفا للعرف واللغة، ذهبوا إلى أن كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى. فذهبوا إلى حدوث الدال والمدلول. وجوزوا كونه تعالى محلا للحوادث.

والأشعرية قالوا: إن الكلام المتلو دال على الصفة القديمة النفسية، التي هي الكلام عندهم حقيقة.

قالوا: فما نزل على الأنبياء من الحروف والأصوات، وسمعوها وبلغوها إلى أممهم، هو محدث موصوف بالتغير والتكثر والنزول. لا مدلولها التي هي تلك الصفة القديمة. والمسألة شهير ما للعلماء فيها. والقصد أن الآية المذكورة رآها من ذكر، حجة فيما ذهب إليها.

[ ص: 4246 ] وقد عد الإمام ابن تيمية ، عليه الرحمة والرضوان، هذا الاحتجاج من الأغلاط، وعبارته في كتابه (مطابقة المنقول للمعقول): احتج من يقول بأن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة، بهذه الآية، مع أن دلالة الآية على نقيض قولهم، أقوى منها على قولهم. فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث، وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم. والحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل الكلام. فإن العرب يسمون ما تجدد حادثا، وما تقدم على غيره قديما. وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى: كالعرجون القديم وقوله تعالى عن إخوة يوسف: إنك لفي ضلالك القديم وقوله تعالى: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم وقوله تعالى عن إبراهيم: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون انتهى.

وقال العارف ابن عربي في الباب التاسع والستين والثلاثمائة من فتوحاته في هذه الآية: المراد أنه محدث الإتيان، لا محدث العين. فحدث علمه عندهم حين سمعوه. وهذا كما تقول: حدث اليوم عندنا ضيف، ومعلوم أنه كان موجودا قبل أن يأتي. وكذلك القرآن جاء في مواد حادثة تعلق السمع بها. فلم يتعلق الفهم بما دلت عليه الكلمات. فله الحدوث من وجه والقدم من وجه.

فإن قلت: فإن الكلام لله والترجمة للمتكلم. فالجواب نعم. وهو كذلك بدليل قوله تعالى مقسما " إنه " يعني: القرآن: لقول رسول كريم . فأضاف الكلام إلى الواسطة [ ص: 4247 ] والمترجم، كما أضافه تعالى إلى نفسه بقوله: فأجره حتى يسمع كلام الله فإذا تلي علينا القرآن فقد سمعنا كلام الله تعالى. وموسى لما كلمه ربه سمع كلام الله. ولكن بين السماعين بعد المشرقين. فإن الذي يدركه من يسمع كلام الله بلا واسطة، لا يساويه من يسمعه بالوسائط. انتهى.

وبالحكمة فالمذهب المأثور عن أهل السنة والجماعة أئمة الحديث والسلف، كما قاله ابن تيمية في (منهاج السنة): أن الله تعالى لم ينزل متكلما إذا شاء بكلام يقوم به . وهو متكلم بصوت يسمع. وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما.

وبعبارة أخرى: أنه تعالى لم يزل متصفا بالكلام. يقول بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا. فكلامه حادث الآحاد، قديم النوع.

ثم قال رحمه الله: فإن قيل لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب. قلنا: نعم. وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء -فقد ناقض كتاب الله. ومن قال: إنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل. لأن الله تعالى يقول: فلما جاءها نودي وقال: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.

ثم قال رحمه الله: قالوا -يعني أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما- وبالجملة فكل ما يحتاج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته ، وأنه يتكلم إذا شاء ويتكلم شيئا بعد شيء، فنحن نقول به. وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وأنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فنحن نقول به. وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما. فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا: ومن [ ص: 4248 ] أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. وهو قول لازم لجميع الطوائف: ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ (الحوادث) مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائض، والله منزه عن ذلك. ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة.

ثم قال: والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته، منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم. كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم.

ثم قال: فنحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته: وإنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء. وقلنا إنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما ذاتا. فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم. ولا نقول إنه شيء واحد، أمر ونهي وخبر. فإن هذا مكابرة للعقل. ولا نقول إنه أصوات منقطعة متضادة أزلية، فإن الأصوات لا تبقى زمانين. وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله، لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة، ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم، لما كان أزليا لم يزل ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك. ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما. فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وإن صار محلا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه. ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب. والقول في الثاني كالقول في الأول. ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله. انتهى ملخصا.
ثم بين تعالى ما كانوا يتناجون به من ضلالهم، بقوله سبحانه:

[ ص: 4249 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[3] لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون .

لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أي: أسروا هذا الحديث ليصدوا عن سبيل الله. و(الذين) بدل من واو (أسروا) أو مبتدأ خبره (أسروا) أو منصوب على الذم: أفتأتون السحر أي: تنقادون له وتتبعونه. وقوله: وأنتم تبصرون حال مؤكدة للإنكار والاستبعاد. قال الزمخشري رحمه الله: اعتقدوا أن رسول الله لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحره. فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر.

قال أبو السعود : وزل عنهم أن إرسال البشر إلى عامة البشر، هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[4] قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم .

قال ربي حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. وقرئ: (قل) على الأمر له صلوات الله عليه: يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع أي: لما أسروه: العليم أي: به فيجازيهم.
ثم بين خوضهم في فنون الاضطراب وعدم اقتصارهم على ما تقدم من دعوى السحر، بقوله:

[ ص: 4250 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[5] بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون .

بل قالوا أضغاث أحلام أي: أخلاط يراها في النوم: بل افتراه أي: اختلقه: بل هو شاعر أي: ما أتى به شعر يخيل للناس معاني لا حقيقة لها. وهكذا شأن المبطل المحجوج، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل، ويتذبذب بين فاسد وأفسد: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون أي: مثل الآية التي أرسل بها الأولون. أي: حتى نؤمن له. ثم أشار تعالى إلى كذبهم في دعوى الإيمان بمجيء الآية، كما يشير إلى طلبهم لها، بقوله سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[6] ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون .

ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون أي: لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات. أفهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا، وأعطوا ما اقترحوا، مع كونهم أعتى منهم وأطغى. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم. إذ لو أتى به ولم يؤمنوا، استوجبوا عذاب الاستئصال، كمن قبلهم. وقدمنا أن رقي النوع البشري في العهد النبوي، اقتضى أن تكون الآية عقلية، لا كونية. فتذكر.

ثم أوضح جواب شبهتهم في منافاة البشرية للرسالة، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[7] وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .

[ ص: 4251 ] وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم أي: لا ملائكة. وقرئ بالياء وفتح الحاء: فاسألوا أهل الذكر أي: العلماء بالتوراة والإنجيل: إن كنتم لا تعلمون أي: أن الرسل بشر، فيعلموكم أن المرسلين لم يكونوا ملائكة. وفي الآية دليل على جواز الاستظهار بأقوال أهل الكتاب ومروياتهم، لحج الخصم وإقناعه.

تنبيه:

قال الرازي : فأما ما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية، في أن للعامي أن يرجع إلى فتيا العلماء، وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر- فبعيد. لأن هذه الآية خطاب مشافهة. وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة. ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين. انتهى.
ثم بين تعالى كون الرسل كسائر الناس، في أحكام الطبيعة البشرية، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[8] وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين .

وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام أي: جسدا مستغنيا عن الطعام، بل محتاجا إلى ذلك لجبر ما فات بالتحليل كما قال تعالى: وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وفي هذا التعريف الرباني عن حال المرسل، أكبر رادع لأولئك المنزوين عن الناس المتصيدين به قلوب الرعاع والعامة والحمقى ومن لا يزن عند ربه جناح بعوضة. إذ يرون تناول الطعام في المحافل وتكثير سواد الناس في المجامع والخروج للأسواق لقضاء الحاجات، من أعظم الهوادم لصروح الاعتقاد فيهم. فتراهم يأنفون من شراء حوائجهم بأيديهم، وهو السنة. ومن المشي بالأسواق، وهو المأذون فيه. ومن إجابة الدعوة، وهي واجبة، لأوهام في أنفسهم شيدوها. ومحافظة على السمعة حموا جانبها. [ ص: 4252 ] فتبا لهم من قوم مبتدعين، يعبدون قلوب الخلق ولا يعبدون الله. ويريدون حالة فوق ما عليه رسل الله. وما ذلك إلا لله. فما أجرأهم على منازعة الجبار! وما أصبرهم على النار! وقوله تعالى:

وما كانوا خالدين أي: في الدنيا، بل كانوا يعيشون ثم يموتون كما قال تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل. تنزل عليهم الملائكة بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه. وكونهم بشرا في تمام النعمة الإلهية. وذلك ليتمكن المرسل إليهم من الأخذ عنهم والانتفاع بهم. إذ الجنس أميل إلى الجنس.
القول في تأويل قوله تعالى:

[9] ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين .

ثم صدقناهم الوعد أي: في غلبتهم على أعدائهم: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي فأنجيناهم ومن نشاء أي: من أتباعهم ومن قضت الحكمة بإبقائه: وأهلكنا المسرفين أي: المجاوزين الحدود في الكفر. ثم نبه تعالى على شرف القرآن محرضا لهم على معرفة قدره، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[10] لقد أنـزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون .

لقد أنـزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أي: شرفكم وحديثكم الذي تذكرون به فوق شرف الأشراف: أفلا تعقلون أي: هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون وقيل: معنى: ذكركم موعظتكم [ ص: 4253 ] فالذكر بمعنى التذكير مضاف للمفعول. قال أبو السعود : وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه. فإن قوله تعالى: أفلا تعقلون إنكار توبيخي، فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب، والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة. ثم أشار تعالى إلى نوع تفصيل لإجمال هلاك المسرفين المتقدم له، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[11] وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين [12] فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون [13] لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون .

وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا أي: عذابنا النازل بهم: إذا هم منها يركضون أي: يهربون مسرعين. ثم قيل لهم استهزاء بلسان الحال أو المقال: لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه أي: من التنعم والتلذذ، و(في) ظرفية أو سببية: ومساكنكم أي: التي كثر فيها إسرافهم: لعلكم تسألون أي: تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[14] قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين [15] فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [16] وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين .

[ ص: 4254 ] قالوا أي: لما أيقنوا بنزول العذاب: يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم أي: تلك الكلمة وهي: (يا ويلنا) دعوتهم فلا تختص بوقت الدهشة، بل تدوم عليهم ما أمكنهم النطق: حتى جعلناهم حصيدا أي: كنبات محصود: خامدين أي: هالكين بإخماد نار أرواحهم: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين أي: بل للإنعام عليهم. وما أنعمنا عليهم بذلك إلا ليقوموا بشكرها وينصرفوا إلى ما خلقوا له. قال الزمخشري عليه الرحمة: أي: وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق، مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم، للهو واللعب. وإنما سويناها للفوائد الدينية، والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعد والمرافق التي لا تحصى. وقال أبو السعود : في هذه الآية إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم، مؤسس على قواعد الحكم البالغة، المستتبعة للغايات الجليلة. وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل والعقاب النازل بأهل القرى، من مقتضيات تلك الحكم، ومتفرعاتها. عن حسب اقتضاء أعمالهم إياه. وإن للمخاطبين المقتدين بآثارهم ذنوبا مثل ذنوبهم. أي: ما خلقناهما وما بينهما على هذا النمط البديع والأسلوب المنيع، خالية عن الحكم والمصالح. وإما عبر عن ذلك باللعب واللهو، حيث قيل: لاعبين لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة. بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه تعالى. بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه. ودليلا يقوده إلى تحصيل معرفتنا التي هي الغاية القصوى، بواسطة طاعتنا وعبادتنا. كما ينطق به قوله تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
وقوله تعالى:

[ ص: 4255 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[17] لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين .

لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب واللهو. أي: لو أردنا أن نتخذ ما يتلهى به ويلعب لاتخذناه من عندنا. كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها، وتسوية الفروش وتزيينها. لكن يستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة. فيستحيل اتخاذنا له قطعا. وقوله تعالى: إن كنا فاعلين جوابه محذوف دل عليه ما قبله. أي: لاتخذناه. وقيل: إن (إن) نافية. أي: ما كنا فاعلين. أي: لاتخاذ اللهو، لعدم إرادتنا إياه. فيكون بيانا لانتفاء التالي، لانتفاء المقدم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[18] بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون .

بل نقذف بالحق على الباطل إضراب عن اتخاذ اللهو بل عن إرادته. وتنزيه منه لذاته العلية كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب أو نريده، بل من شأننا أن ندحض الباطل بالحق: فيدمغه أي: يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكية: فإذا هو زاهق أي: هالك بالكلية. وقد استعير لإرسال الحق على الباطل (القذف) الذي هو الرمي الشديد بالجرم الصلب كالصخرة. ولمحقه للباطل. (الدمغ) الذي هو كسر الشيء الرخو الأجوف. وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدي إلى زهوق الروح، استعارة تصريحية تبعية. ويصح أن يكون تمثيلا لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه، برمي جرم صلب على رأس دماغها رخو ليشقه، وذكر: فإذا هو زاهق لترشيح المجاز. لأن من رمى فدمغ تزهق روحه. فهو من لوازمه. قال أبو السعود : وفي (إذا) الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان، ما لا يخفى. فكأنه زاهق من الأصل [ ص: 4256 ] وفي الآية إيماء إلى علو الحق وتسفل الباطل. وأن جانب الأول باق والثاني فان: ولكم الويل مما تصفون أي: مما تصفونه به من اتخاذ الولد ونحوه، مما تتنزه عظمته عنه. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارا، وبراءتهم من البنوة المفتراة عليهم، إثر إخباره عن ملكه للخلق كافة، بقوله:

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif





ابوالوليد المسلم 31-08-2024 03:15 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4256 الى صـ 4270
الحلقة (455)






القول في تأويل قوله تعالى:

[19] وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون .

وله من في السماوات والأرض أي: ملكا وتدبيرا: ومن عنده وهم الملائكة: لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون أي: لا يعيون ولا يتعبون منها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[20] يسبحون الليل والنهار لا يفترون .

يسبحون الليل والنهار لا يفترون أي: من تنزيهه وعبادته،
ثم أشار تعالى إلى تقرير وحدانيته في ألوهيته ونفي الأنداد ، إثر تقريره أمر الرسالة- فإن ما سلف من أول السورة كان في تحقيق شأن النبوة بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[21] أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون .

أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون أي: يبعثون الموتى ويخرجونهم من العدم إلى الوجود.

أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى. كلا فإن [ ص: 4257 ] ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك. فكيف جعلوها لله ندا، وعبدوها معه؟

قال الزمخشري رحمه الله: فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر، وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ كيف، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى؟ وذلك أنهم كانوا مع إقرارهم لله عز وجل بأنه خالق السماوات والأرض: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى، منكرين للبعث. ويقولون: من يحيي العظام وهي رميم وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثاني القديم. فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسا؟.

قلت: الأمر كما ذكرت. ولكنهم بادعائهم لها الإلهية، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار. لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور. والإنشار من جملة المقدورات. انتهى.

قال في (الانتصاف): فيكون المنكر عليهم صريح الدعوى ولازمها. وهو أبلغ في الإنكار.

ثم قال الزمخشري : وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة. انتهى.

لطيفة:

سر قوله تعالى: من الأرض هو التحقير، أي: تحقير الأصنام بأنها أرضية سفلية. وجوز إرادة التخصيص. أي: الآلهة التي من جنس الأرض. لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض. وإنما خصص الإنكار بها، لأن ما هو أرضي مصنوع بأيديهم كيف يدعي ألوهيته؟
ثم بين تعالى بطلان تعدد الآلهة بإقامة البرهان على انتفائه، بل على استحالته ، بقوله سبحانه:

[ ص: 4258 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[22] لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون .

لو كان فيهما أي: يتصرف في السماوات والأرض: آلهة إلا الله أي: غيره: لفسدتا أي: لبطلتا بما فيهما جميعا، واختل نظامهما المشاهد، كما قال تعالى في سورة المؤمنون: وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض قال أبو السعود : وحيث انتفى التالي، علم انتفاء المقدم قطعا. بيان الملازمة; أن الإلهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييرا وتبديلا، وإيجادا وإعداما وإحياء وإماتة. فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها، وهو محال لاستحالة وقوع المعلول المعين بعلل متعددة. وإما بتأثير واحد منها، فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعا، واعلم أن جعل التالي فسادهما بعد وجودهما، لما أنه اعتبر في المقدم تعداد الآلهة فيهما. وإلا فالبرهان يقضي باستحالة التعدد على الإطلاق فإنه لو تعدد الإله، فإن توافق الكل في المراد، تطاردت عليه القدر، وإن تخالفت تعاوقت. فلا يوجد موجودا أصلا. وحيث انتفاء التالي تعين انتفاء المقدم. انتهى.

وتفصيله كما في (المقاصد) أنه لو وجد إلهان بصفات الألوهية، فإذا أراد أحدهما أمرا كحركة جسم مثلا، فإما أن يتمكن الآخر من إرادة ضده أو لا. وكلاهما محال. أما الأول فلأنه لو فرض تعلق إرادته بذلك الضد، فإما أن يقع مرادهما وهو محال، لاستلزامه اجتماع الضدين. أو لا يقع مراد واحد منهما، وهو محال لاستلزامه عجز الإلهين الموصوفين بكمال القدرة على ما هو المفروض، ولاستلزامه ارتفاع الضدين المفروض امتناع خلو المحل عنهما، كحركة جسم وسكونه في زمان معين، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر وهو محال. لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، وعجز من فرض قادرا حيث لم يقع مراده. وهذا البرهان يسمى برهان التمانع. وإليه الإشارة بقوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فإن أريد بالفساد عدم [ ص: 4259 ] التكون، فتقريره أنه لو تعدد الإله لم تتكون السماء والأرض. لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما. والكل باطل. أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة. وأما الآخران فلما مر. وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام، فتقريره أنه لو تعدد الإله لكان بينهما التنازع والتغالب. وتميز صنع كل عن صنع الآخر، بحكم اللزوم العادي. فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام، الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد. ويختل الانتظام الذي به بقاء الأنواع. وترتب الآثار. انتهى.

هذا وقد قيل: إن المطلب هنا برهاني، والمشار إليه في الآية إقناعي. ولا يفيد العلم اليقيني فلا يصح الاستدلال بها على هذا المطلب، وممن فصل ذلك التفتازاني في (شرح العقائد النسفية) قادحا لما أشار إليه نفسه في (شرح المقاصد) من كون الآية برهانا، كما ذكرناه عنه. وملخص كلامه أن مجرد التعدد لا يستلزم الفساد بالفعل، لجواز الاتفاق على هذا النظام، أي: بالاشتراك أو بتفويض أحدهما إلى الآخر فلا يستلزم التعدد التمانع بالفعل بل بالإمكان. والإمكان لا يستلزم الوقوع، فيجوز أن لا يقع بينهما ذلك التمانع بل يتفقان على إيجادهما. ورد عليه بأن إمكان التمانع يستلزم التمانع بالفعل في كل مصنوع بطريق إرادة الإيجاد بالاستقلال. وكلما لزم التمانع لم يوجد مصنوع أصلا. فإنه لو وجد على تقدير التمانع المذكور اللازم للتعدد فإما بمجموع القدرتين، فيلزم عجزهما. أو بكل منهما فيلزم التوارد. أو بأحدهما فيلزم الرجحان من غير مرجح، لاستواء نسبة كل ممكن إلى قدرة كل من الإلهين والكل محال ضرورة، وحاصل الاستدلال أنه لو تعدد الآلهة لم يتكون مصنوع لأن التعدد مستلزم لإمكان التخالف المستلزم للتوارد أو العجز. فظهر أن الآية حجة قطعية لكون الملازمة فيها قطعية. وحقق بعضهم قطعية الملازمة بالعادة القاضية التي لم يوجد أخرمها قط في ملكين مقتدرين في مدينة واحدة، أن يطلب كل الانفراد بالملك والعلو على الآخر وقهره، فكيف بالإلهين والإله يوصف بأقصى غايات التكبر، فكيف لا يطلب الانفراد بالملك كما أخبر سبحانه بقوله: ولعلا بعضهم على بعض ؟ وهذا إذا تؤمل لا تكاد النفس تخطر نقيضه بالبال، فضلا عن إخطار فرضه، مع الجزم بأن الواقع هو الآخر. [ ص: 4260 ] فعلى هذا التقدير، فالملازمة علم قطعي. هذا ملخص ما جاء في رد مقالة السعد في الحواشي. وقد شنع عليه في مقالته المتقدمة غير واحد. وبالغ معاصره عبد اللطيف الكرماني في الانتقاد.

قال العلامة المرجاني : وقد سبقه في هذا أبو المعين النسفي في كتابه (التبصرة) وتابعه صاحب (الكشف) حيث شنع على أبي هاشم الجبائي تشنيعا بليغا. حتى نسبه إلى الكفر بقدحه في دلالة الآية قطعا على هذا المدعي، ولا يخفى أن الأفهام لا تقف عند حد. ولا تزال تتباين وتتخالف ما اختلفت الصور والألوان، ولا تكفير ولا تضليل، ما دام المرء على سواء السبيل.

وقد أوضح بيان هذه الملازمة مفتي مصر في رسالة (التوحيد) إيضاحا ما عليه من مزيد، وعبارته: ومما يجب له تعالى صفة الوحدة ذاتا ووصفا ووجودا وفعلا. أما الوحدة الذاتية فقد أثبتناها فيما تقدم بنفي التركيب في ذاته خارجا وعقلا. وأما الوحدة في الصفة، أي: أنه لا يساويه في صفاته الثابتة له موجود، فلما بينا من أن الصفة تابعة لمرتبة الوجود، وليس في الموجودات ما يساوي واجب الوجود في مرتبة الوجود. فلا يساويه فيما يتبع الوجود من الصفات. وأما الوحدة في الوجود وفي الفعل، ونعني بها التفرد بوجوب الوجود وما يتبعه من إيجاد الممكنات، فهي ثابتة، لأنه لو تعدد واجب الوجود لكان لكل من الواجبين تعين يخالف تعين الآخر بالضرورة. وإلا لم يتحصل معنى التعدد. وكلما اختلفت التعينات اختلفت الصفات الثابتة للذوات المتعينة، لأن الصفة إنما تتعين وتنال تحققها الخاص بها، بتعين ما يثبت له بالبداهة. فيختلف العلم والإرادة باختلاف الذوات الواجبة. إذ يكون لكل واحدة منها علم وإرادة يباينان علم الأخرى وإرادتها ويكون لكل واحدة علم وإرادة يلائمان ذاتها وتعينها الخاص بها. هذا التخالف ذاتي، لأن علم الواجب وإرادته لا زمان لذاته من ذاته لا لأمر خارج. فلا سبيل إلى التغير والتبدل فيهما كما سبق. وقد قدمنا أن فعل الواجب إنما يصدر عنه على حسب علمه وحكم إرادته، فيكون فعل كل صادرا على حكم يخالف [ ص: 4261 ] الآخر مخالفة ذاتية. فلو تعدد الواجبون لتخالفت أفعالهم بتخالف علومهم وإرادتهم. وهو خلاف يستحيل معه الوفاق. وكل واحد بمقتضى وجوب وجوده وما يتبعه من الصفات، له السلطة على الإيجاد في عامة الممكنات. فكل له التصرف في كل منها على حسب علمه وإرادته. ولا مرجح لنفاذ إحدى القدرتين دون الأخرى. فتتضارب أفعالهم حسب التضارب في علومهم وإرادتهم، فيفسد نظام الكون، بل يستحيل أن يكون له نظام، بل يستحيل وجود ممكن من الممكنات. لأن كل ممكن لا بد أي: يتعلق به الإيجاد على حسب العلوم والإرادات المختلفة. فيلزم أن يكون للشيء الواحد وجودات متعددة وهو محال فـ: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لكن الفساد ممتنع بالبداهة. فهو جل شأنه واحد في ذاته وصفاته لا شريك له في وجوده ولا في أفعاله. انتهى.

وأشار حجة الإسلام الغزالي في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) في بحث الوحدة، إلى أن هذه الآية لا أبين منها في برهان التوحيد، وأنه لا مزيد على بيان القرآن. قال الكلنبوي : الفساد المذكور في هذه الآية إما بمعنى خروج السماء والأرض عن هذا النظام المشاهد من بقاء الأنواع وترتيب الآثار كما هو الظاهر. وإما بمعنى عدم تكونهما في الأصل كما قالوا. ثم إن كل من يخاطب بها يعرف أن منشأ الفساد هو تعدد الإله . فهي بعبارتها تنفي آلهة متعددة غير الواجب تعالى، وبدلالتها تنفي تعدد الآلهة. انتهى.

وقوله تعالى: فسبحان الله رب العرش عما يصفون أي: من وجود شرك له فيهما والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالدليل المتقدم. أي: فسبحوه سبحانه اللائق به، ونزهوه عما يفترون. وفيه تعجب ممن يشرك مع المعبود الأعظم البارئ لأعظم المكونات وهو العرش، غيره ممن لا يقدر على شيء البتة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[23] لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

لا يسأل عما يفعل أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد لعظمته [ ص: 4262 ] وجلاله وكبريائه وعلوه وحكمته وعدله ولطفه: وهم يسألون الضمير للعباد. أي: يسألون عما يفعلون كقوله: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون

قال الزمخشري : إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبا وإجلالا، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم، كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم، أولى بأن لا يسأل عن أفعاله، مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بحكمة، ولا يجوز عليه خطأ، ثم قال: وهم يسألون أي: هم مملوكون مستعبدون خطاءون. فما أخلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه. انتهى.

قال ابن كثير : وهذه الآية كقوله تعالى: وهو يجير ولا يجار عليه

تنبيه:

قال الإمام الغزالي في (المضنون به على غير أهله): وأما معنى قول الله تعالى: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقوله تعالى: قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا فالسؤال قد يطلق ويراد به الإلزام. يقال: ناظر فلان فلانا وتوجه عليه سؤاله. وقد يطلق ويراد به الاستخبار، كما يسأل التلميذ أستاذه. والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال بمعنى الإلزام. وهو المعني بقوله: لا يسأل عما يفعل إذ لا يقال لم قول إلزام. فأما أن لا يستخبر ولا يستفهم، فليس كذلك. وهو المراد بقوله: لم حشرتني أعمى وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[24] أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون .

[ ص: 4263 ] أم اتخذوا من دونه آلهة كرره استعظاما لكفرهم، وإظهارا لجهلهم، وانتقالا إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة، ومع خلوها عن خصائص الإلهية. وتبكيتهم بإقامة البرهان على دعواهم. ولذا قال تعالى: قل هاتوا برهانكم أي: دليلكم على ما تفترون. أما من جهة العقل والنقل، فإنه لا صحة لقول لا برهان له ولا دليل عليه.

قال أبو السعود : وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانا، ضرب من التهكم بهم. وقوله تعالى: هذا ذكر من معي وذكر من قبلي إنارة لبرهانه، وإشارة إلى أنه مما نطقت له الكتب الإلهية قاطبة، وشهدت به ألسنة الرسل المتقدمة كافة. وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم. أي: هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد، المتضمن للبرهان القاطع العقلي، ذكر أمتي أي: عظتهم، وذكر الأمم السابقة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضا برهانكم. انتهى.

ثم أشار تعالى أنه لا ينجع فيهم المحاجة بتحقيق الحق وإبطال الباطل بقوله سبحانه: بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون أي: عن النظر الموصل إلى الهدى.
ثم بين تعالى أن التوحيد دعوى كل نبي ، بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[25] وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون .

وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه وقرئ يوحى بالياء وفتح الحاء: أنه لا إله إلا أنا فاعبدون كما قال: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال: ولقد بعثنا [ ص: 4264 ] في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. والفطرة شاهدة بذلك أيضا، والمشركون لا برهان لهم وحجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
ثم بين تعالى بطلان ما يفتريه بعض المشركين من أن الملائكة بناته، تعالى علوا كبيرا، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[26] وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [27] لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .

وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون أي: مقربون: لا يسبقونه بالقول أي: يتبعون قوله، فلا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به كما هو شأن العبيد المؤدبين: وهم بأمره يعملون فلا يعصونه في أمر. إشارة إلى مراعاتهم في أدب العبودية في الأفعال أيضا، كالأقوال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[28] يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون .

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم أي: مما قدموا وأخروا. فهو المحيط بهم علما: ولا يحيطون بشيء من علمه فكيف يخرجون عن عبوديته؟ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى أي: أن يشفع له، مهابة منه تعالى.

قال المهايمي : كيف يخرجون عن عبوديته ولا يقدرون على أدنى وجوه معارضته. لأنهم لا يشفعون [ ص: 4265 ] إلا لمن ارتضى. إذ الشفاعة لغير المرتضى نوع معارضة معه. وكيف يعارضونه: وهم من خشيته أي: قهره: مشفقون أي: خائفون.

قال ابن كثير : وقوله: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى كقوله: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له في آيات كثيرة بمعنى ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[29] ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين .

ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين الضمير في (منهم) للملائكة. لتقدم ذكرهم واقتضاء السياق، وكونه أبلغ في الرد والتهديد.

قال الزمخشري رحمه الله: وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية، فاجأ بالوعيد الشديد. وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم. إن كان ذلك على سبيل الفرض والتمثيل، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون كما قال: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون قصد بذلك تفظيع أمر الشرك، وتعظيم شأن التوحيد. انتهى.

وفي قوله: كذلك نجزي الظالمين إشعار بظلم من يقول تلك العظيمة. كيف لا؟ وقد استهان برتبة الإلهية وجاوز بها مقامها الأسمى.
[ ص: 4266 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[30] أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون .

أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون

هذا شروع في آياته الكونية، الدالة على وحدته في ألوهيته، التي عمي عنها المشركون، فلم يروها رؤية اعتبار وتدبر. ومعنى قوله: كانتا رتقا أي: لا تمطر ولا تنبت: ففتقناهما أي: بالمطر والنباتات. فالفتق والرتق استعارة. ونظير قوله تعالى: والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع و(الرجع) لغة هو الماء و(الصدع) هو النبات لأنه يصدع الأرض أي: يشقها. وقوله تعالى: فلينظر الإنسان إلى طعامه أي كيف انفردنا في إحداثه وتهيئته ليقيم بنيته: أنا صببنا الماء صبا أي: من المزن بعد أن لم يكن: ثم شققنا الأرض شقا أي: ثم بعد أن كانت الأرض رتقا متماسكة الأجزاء، شققناها شقا مرئيا مشهودا، كما تراه في الأرض بعد الري. أو شقا بالنبات.

وقال أبو مسلم الأصفهاني : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله تعالى: فاطر السماوات والأرض وكقوله: قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن فأخبر عن الإيجاد بلفظ (الفتق) وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ (الرتق).

قال الرازي : وتحقيقه أن العدم نفي محض. فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة. بل [ ص: 4267 ] كأنه أمر واحد متصل متشابه. فإذا وجدت الحقائق، فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها عن بعض، وينفصل بعضها عن بعض. فهذا الطريق حسن جعل (الرتق) مجازا عن العدم والفتق عن الوجود. انتهى.

وقال بعض علماء الفلك: معنى قوله تعالى: كانتا رتقا أي: شيئا واحدا.

ومعنى: ففتقناهما فصلنا بعضهما عن بعض.

قال: فتدل الآية على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي أنها إحدى هذه السيارات. وهي مثلها في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس وتستمد النور والحرارة منها. وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى. وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه، كلها مخلوقة من مادة واحدة، وهي مادة الشمس. وعلى طريقة واحدة. اهـ كلامه.

وقد يرجح الوجه الأول في تفسير الآية لقوله تعالى بعده: وجعلنا من الماء كل شيء حي فإن ذلك مما يبين أن لسابقه تعلقا بالماء. وعلى هذا فالرؤية في قوله تعالى: أولم ير بصرية. وعلى قول أبي مسلم وما بعده، علمية. على حد قوله تعالى لنبيه صلوات الله عليه: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل مع أنه لم يشاهد الحادثة، بل ولد بعدها. وإنما تيقنها بالأخبار الصادقة. وكذلك ما هنا من الفتق والرتق، بمعنييه الأخيرين، مما أخبر به الحق تعالى على لسان من قامت الحجة على صدقه وعصمته. فكان مما يسهل عليهم تصديقه فعلمه.

ومعنى قوله تعالى: وجعلنا من الماء كل شيء حي صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء، لا يحيا دونه. فيدخل فيه النبات والشجر. لأنه من الماء صار ناميا. وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر. وإسناده الحياة إلى ظهور النبات معروف في آيات شتى. كقوله تعالى: ويحيي الأرض بعد موتها وخص بعضهم الشيء بالحيوان، لآية: [ ص: 4268 ] والله خلق كل دابة من ماء ولا ضرورة إليه. بل العموم أدل على القدرة، وأعظم في العبرة، وأبلغ في الخطاب، وألطف في المعنى.

وقوله تعالى: أفلا يؤمنون إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده، مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الظاهرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[31] وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون .

وجعلنا في الأرض رواسي أي: جبالا ثوابت: أن تميد بهم أي: لئلا تتحرك وتضطرب بهم. فلولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب مما في جوفها من المواد الدائمة الجيشان.

وقوله تعالى: وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون الضمير في (فيها) للأرض. وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين، ولتوفية مقام الامتنان حقه. أو للرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق. وعلى الثاني اقتصر ابن كثير . قال: فقد يشاهد جبل هائل بين بلدين، وإذا فيه فجوة يسلك الناس فيها، رحمة منه تعالى: " و سبلا " بدل من: " فجاجا " أشير به إلى أنه مع السعة نافذ مسلوك، وأنه خلق ووسع لأجل السابلة، ومعنى: يهتدون أي: إلى مصالحهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[32] وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون .

وجعلنا السماء سقفا أي: على الأرض كالقبة عليها: محفوظا أي: عاليا محروسا أن [ ص: 4269 ] ينال أو محفوظا من التغير بالمؤثرات، مهما تطاول الزمان. كقوله تعالى: وبنينا فوقكم سبعا شدادا وهم عن آياتها معرضون أي: عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر، بالشمس والقمر وسائر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها، على الحساب القويم. والترتيب العجيب، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة. وأي جهل أعظم من جهل من أعرض عنها ولم يذهب به وهمه إلى تدبرها والاعتبار بها والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن عدم، ودبرها ونصبها هذه النصبة، وأودعها ما أودعها مما لا يعرف كنهه إلا هو، عزت قدرته ولطف علمه؟.

وقرئ: " عن آيتها " ، على التوحيد، اكتفاء بالواحدة في الدلالة على الجنس، أي: هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كالاستضاءة بقمريها والاهتداء بكواكبها، وحياة الأرض والحيوان بأمطارها. وهم عن كونها آية بينة على الخالق، معرضون. أفاده الزمخشري .
القول في تأويل قوله تعالى:

[33] وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون .

وهو الذي خلق الليل أي: ليسكنوا فيه: والنهار ليتحركوا لمعاشهم وينشطوا لأعمالهم: والشمس والقمر أي: ضياء وحسبانا: كل في فلك يسبحون أي: كل واحد منهما يجري في الفلك، كالسابح في الماء. و(الفلك) في اللغة كل شيء دائر.

قال بعض علماء الفلك: تشير الآية إلى حركة هذه الكواكب كآية: فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس وهما تدلان على أن حركة الكواكب ذاتية . لا كما يقول القدماء من أن الكواكب مركوزة في أفلاكها التي تدور بها، وبدورانها تتحرك الكواكب.
وقوله تعالى:

[ ص: 4270 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[34] وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون .

وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون نزلت حين قالوا: نتربص به ريب المنون فكانوا يقدرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، لما يأملون ذهاب الدعوة النبوية، وتبدد نظامها، بفقد واسطة عقدها. فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذه الآية، بما قضى أنه لا يخلد في الدنيا بشرا، لكونه مخالفا للحكمة التكوينية . وأعلم بحفظ تنزيله وحراسته من المؤثرات ما بقيت الدنيا بقوله: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون

قال ابن كثير : فقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات، وليس بحي إلى الآن. لأنه بشر سواء كان وليا، أو نبيا أو رسولا. انتهى.

وتقدم بسط ذلك في سورة الكهف فتذكر. وفي معنى الآية قول عروة الصحابي رضي الله عنه:


إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا: أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا


وقول الشافعي :


تمنى أناس أن أموت، وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى: تهيأ لأخرى مثلها، وكأن قد

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif





ابوالوليد المسلم 31-08-2024 03:27 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4271 الى صـ 4285
الحلقة (456)




القول في تأويل قوله تعالى:

[35] كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون .

كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير أي: نختبركم بما يجب فيه الصبر من المصائب، وما يجب فيه الشكر من النعم: فتنة أي: اختبارا. وهو مصدر مؤكد لـ " لنبلوكم " من غير لفظه: وإلينا ترجعون أي: فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر.

قال الزمخشري : وإنما سمى ذلك ابتلاء، وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم، لأنه في صورة الاختبار، أي: فهو استعارة تمثيلية. قال القاضي : وفي الآية إيماء بأن المقصود من هذه الحياة الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب تقريرا لما سبق. وقدم الشر لأنه اللائق بالمنكر عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[36] وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون .

وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون عني بهذه الآية مستهزئو قريش ، كأبي جهل وأضرابه ممن كان يسخر من رسالته صلوات الله عليه، ويتغيظ لسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم. كما قال تعالى: وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا وإضافة ذكر (للرحمن) من إضافة المصدر لمفعوله أي: بتوحيده. أو للفاعل، أي: بإرشاده الخلق ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم. أو بالقرآن. هم كافرون، أي: فهم أحق أن يهزأ بهم. وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص.
وقوله تعالى:

[ ص: 4272 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[37] خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون .

خلق الإنسان من عجل كقوله تعالى: وكان الإنسان عجولا جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق منه. كقولك: خلق زيد من الكرم، تنزيلا لما طبع عليه من الأخلاق، منزلة ما طبع هو منه من الأركان، إيذانا بغاية لزومه له، وعدم انفكاكه عنه، فالآية استعارة مكنية، بتشبيه العجل لكونه مطبوعا عليه، بمادته. ويجوز أن تكون تصريحية. والمراد بالإنسان الجنس. ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد: سأريكم آياتي أي: نقماتي في الدنيا كوقعة بدر. وفي الآخرة عذاب النار: فلا تستعجلون أي: بالإتيان بها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[38] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .

ويقولون متى هذا الوعد أي: الموعود من العذاب الأخروي، بطريق الاستهزاء والإنكار، لا لتعيين وقته: إن كنتم صادقين في إتيانه. قال الزمخشري : كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار. فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم. فقدم أولا ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها. ثم نهاهم وزجرهم. كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا. فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم.
ثم بين هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه، وأن عجلتهم لجهلهم بمغبته، بقوله تعالى:

[ ص: 4273 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[39] لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون [40] بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون .

لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم أي: لا يدفعونها عن أشرف أعضائهم وأقواها. فتقديم الوجه لشرفه، ولكون الدفع عنه أهم من غيره أيضا: ولا هم ينصرون أي: بدفع أحد عنهم. وجواب لو محذوف أي: لما استعجلوا. وقيل لو للتمني. لا جواب لها: بل تأتيهم بغتة فتبهتهم أي: فجأة فتحيرهم. لأنهم إن أرادوا الصبر عليها لم يقدروا عليه. وإن أرادوا ردها: فلا يستطيعون ردها أي: بسبب من الأسباب: ولا هم ينظرون أي: يمهلون ليستريحوا طرفة عين لتمام مدة الإنظار قبله. ثم أشار إلى تسليته عليه الصلاة والسلام عن استهزائهم، في ضمن وعيد لهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[41] ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون .

ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق أي: نزل: بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون أي عذابه أو جزاؤه، على وضع السبب موضع المسبب، إيذانا بكمال الملابسة بينهما، أو عين استهزائهم، إن أريد بذلك العذاب الأخروي، بناء على تجسم الأعمال. [ ص: 4274 ] فإن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصورة عرضية، تبرز في النشأة الأخرى بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح. أفاده أبو السعود .
القول في تأويل قوله تعالى:

[42] قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون [43] أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون .

قل من يكلؤكم أي: يحفظكم: بالليل والنهار من الرحمن أي: من بأسه أي: يفجأكم. وتقديم (الليل) لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعا وأشد وقعا. وفي لفظ (الرحمن) تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته، وتلقين للجواب. وقيل إنه إيماء إلى شدته. كغضب الحليم. وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته. ودلالة على شدة خبثهم. قال المهايمي : ولا يمنع من ذلك عموم رحمته. إذ بتعذيبكم يعتبر أهل عصركم ومن بعدهم. فيكون لإصلاح أمورهم الموجب لرحمته عليهم، ولا يغترون في ذلك بعموم رحمته حتى يرجى منعها عن ذلك: بل هم عن ذكر ربهم معرضون أي: لا يخطرونه ببالهم، فضلا أن يخافوا بأسه، ويعدوا ما هم عليه من الأمن والدعة حفظا وكلاءة، حتى يسألوا عن الكالئ: أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون أي: لهؤلاء المستعجلي ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم، إن نحن أحللنا بهم عذابنا وأنزلنا بهم بأسنا، من دوننا. ومعناه: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا. ثم وصف جل ثناؤه تلك الآلهة بالضعف والمهانة وما هي به من صفتها. ومعناه: كيف تستطيع آلهتهم التي يدعونها من دوننا أن تمنعهم منا، وهي لا تستطيع نصر أنفسها ولا هي بمصحوبة منا بالنصر والتأييد. أفاده [ ص: 4275 ] ابن جرير . فـ (فيصحبون) بمعنى يجارون يقال: (صحبك الله)، أي: أجارك وسلمك، كما في (الأساس) . قال ابن جرير: أي: لا يصحبون بالجوار لأن العرب محكي عنها: أنا لك جار من فلان وصاحب، بمعنى: أجيرك وأمنعك. وهم إذا لم يصحبوا بالجوار لم يكن لهم مانع من عذاب الله، مع سخطه عليهم، فلم يصحبوا بخير ولم ينصروا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[44] بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون .

بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر إضراب عما توهموا، ببيان أن الداعي إلى غيهم وعنادهم هو ما متعوا به في الحياة الدنيا ونعموا به هم ومن قبلهم حتى طال عليهم الأمد. لا تأتيهم واعظة من عذاب ولا زاجرة من عقاب حتى حسبوا أنهم على شيء وأنهم لا يغلبون: أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي: ننقص أرض الكفر فنخربها من نواحيها بقهرنا أهلها وغلبتنا لهم وإجلائهم عنها وقتلهم بالسيوف، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف. أفاده ابن جرير . وهذا كقوله تعالى: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون وقوله تعالى: أفهم الغالبون [ ص: 4276 ] أي: أفهؤلاء المشركون المستعجلون بالعذاب، الغالبون لنا، وقد رأوا قهرنا من أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الأرض؟

وفي التعريف تعريض بأنه تعالى هو الغالب المعروف بالقهر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون .

قل إنما أنذركم بالوحي أي: تنزيل الله الذي يوحيه إلي من عنده وأخوفكم به بأسه، لا بالإتيان بما تستعجلون، لأن ذلك ليس إلي، على ما فيه من الحكمة في هذه البعثة التي بنيت على البراهين العقلية، لا الخارقات الحسية كما قدمنا. ثم أشار إلى كمال جهلهم وعنادهم، بأن هذا الإنذار لا يجديهم، بقوله تعالى: ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون أي: فهم لا يصغون بسمع قلوبهم إلى تذكر ما في وحي الله من المواعظ والذكرى، فيتذكرون بها ويعتبرون فينزجرون إذا تلي عليهم، بل يعرضون عن الاعتبار به والتفكير فيه، فعل الأصم الذي لا يسمع ما يقال له فيعمل به. وتقييد تصامهم بقوله: إذا ما ينذرون مع أنهم لا يسمعون نذارة ولا بشارة، إما لأن المقام مقام إنذار، أو لأن من لا يسمع إذا خوف، كيف يسمع في غيره، فهو أبلغ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[46] ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين .

ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين أي: ولئن أصابهم شيء أدنى من عقوبته تعالى، لأذعنوا وذلوا وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم في التصام والإعراض وعبادة تلك الآلهة وتركهم عبادة من خلقهم.

[ ص: 4277 ] لطيفة:

في صدر الآية مبالغات. ذكر المس. وما في النفحة من معنى القلة. فإن أصل النفخ هبوب رائحة الشيء. والبناء الدال على المرة. والتنكير. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[47] ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين .

ونضع الموازين القسط ليوم القيامة بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه. أي: نقيم الموازين العادلة الحقيقية التي توزن بها صحائف الأعمال. وقيل: وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة، من غير أن يظلم مثقال ذرة. وإنما وصفت الموازين بالقسط وهو مفرد، لأنه مصدر وصف به للمبالغة، كأنها في نفسها قسط. أو على حذف المضاف أي: ذوات القسط. وقيل إنه مفعول له. واللام في ليوم القيامة للتعليل أو بمعنى في أي: لجزاء يوم القيامة أو لأهله أو فيه: فلا تظلم نفس شيئا أي: من حقوقها. أي: شيئا ما من الظلم. بل يوفى كل ذي حق حقه: وإن كان العمل أو الظلم: مثقال حبة من خردل أتينا بها أي: أحضرنا ذلك العمل المعبر عنه بمثقال حبة الخردل. للوزن. وأنث لإضافته إلى الحبة: وكفى بنا حاسبين أي: وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين. لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم، وما سلف في الدنيا من صالح أو سيئ منا.
وقوله تعالى:

[ ص: 4278 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[48] ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين [49] الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون .

ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين شروع في قصص الأنبياء، تسلية له صلوات الله عليه وعليهم، فيما يناله من أذى قومه، وتقوية لفؤاده على أداء الرسالة، والصبر على كل عارض دونها. قال أبو السعود : نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم إلى قوله: المسرفين وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم. وتصديره بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه. والمراد بـ(الفرقان) التوراة وكذا بـ(الضياء) و(الذكر). أي: وبالله لقد آتيناهما وحيا ساطعا وكتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل. وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل وذكرا يتعظ به الناس. وتخصيص (المتقين) بالذكر لأنهم المستضيئون بأنواره. انتهى. الذين يخشون ربهم بالغيب أي: يخافون عذابه وهو غير مشاهد لهم. وفيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون في الإنذار، ما لم يشاهدوا ما أنذروه: وهم من الساعة مشفقون أي: وجلون أن تأتي الساعة التي تقوم فيها القيامة فيردوا على ربهم، قد فرطوا في الواجب عليهم لله، فيعاقبهم بما لا قبل لهم به.
القول في تأويل قوله تعالى:

[50] وهذا ذكر مبارك أنـزلناه أفأنتم له منكرون .

وهذا أي: القرآن الكريم: ذكر أي: يتذكر به من يتذكر: مبارك أي: كثير الخير والنفع: أنـزلناه أفأنتم له منكرون أي: مع ظهور كون إنزاله كإيتاء [ ص: 4279 ] التوراة. وفي الاستفهام الإنكاري توبيخ لهم بأنه لا ينبغي لهم إنكاره وهم عارفون بمزايا إعجازه. وتقديم (له) للفاصلة أو للحصر. لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[51] ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين .

ولقد آتينا إبراهيم رشده أي: هدايته للحق وهو التوحيد الخالص: من قبل أي: من قبل موسى وهارون : وكنا به عالمين أي: علمنا أنه أهل لما آتيناه. أو علمنا أنه جامع لمكارم الأخلاق التي آتيناه إياها، فأهلناه لخلتنا وأخلصناه لاصطفائنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[52] إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون .

إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون أي: ما هذه الصور الحقيرة التي عكفتم على عبادتها. استفهام تحقير لها وتوبيخ على العكوف على عبادتها، بأنها تماثيل صور بلا روح، مصنوعة لا تضر ولا تنفع، فكيف تعبد؟.
القول في تأويل قوله تعالى:

[53] قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين [54] قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين .

قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين أي: فقلدناهم وتأسينا بهم. قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين أي: لا يخفى على عاقل لعدم استناد الفريقين إلى دليل، بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع. وفي الإتيان بـ(في) الظرفية دلالة على تمكنهم في ضلالهم، وأنه ضلال قديم موروث. فهو أبلغ من (ضالين).
[ ص: 4280 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[55] قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين [56] قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين .

قالوا أجئتنا بالحق أي: بالجد في دعوى الرسالة ونسبتنا إلى الضلال: أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين قال الزمخشري رحمه الله: الضمير في (فطرهن) للسماوات والأرض أو للتماثيل. وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. أي: لدلالته صراحة على كونها مخلوقة غير صالحة للألوهية، بخلاف الأول، وجوابه عليه السلام إما إضراب عما بنوا عليه مقالتهم في اعتقاد كونها أربابا لهم، كما يفصح عنه قولهم: نعبد أصناما فنظل لها عاكفين كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل: ربكم الآية. أو إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه. وقوله: من الشاهدين أي: المبرهنين عليه بالحجة، لا لقولكم العاطل منها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[57] وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين .

وتالله لأكيدن أصنامكم لأحتالن لفضيحتها بإظهار عجزها: بعد أن تولوا مدبرين أي: عنها بفراغكم من عبادتها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[58] فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون .

[ ص: 4281 ] فجعلهم جذاذا أي: قطعا مكسرة، بعد أن ولوا عنها، ليعلموا أنها لا تتحلم إلى هذا الحد. فهو عجزهم في الدفع عن أنفسهم. فتوقع عابدهم الدفع عن نفسه غاية السفه: إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون أي: فيسألونه: لم فعل بآلهتهم؟ فإذا ظهر عجزه عن النطق، فمن دونه أعجز منه في ذلك. فضلا عن الدفع للذي أظهر عجزهم فيه. فرجعوا فأتوا بيت الأصنام فوجدوها جذاذا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[59] قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين .

قالوا من فعل هذا أي: هذا الفعل الفظيع: بآلهتنا إنه لمن الظالمين أي: لجرأته على إهانتها وهي الجديرة عندهم بالتعظيم. أو لإفراطه في التجذيذ والحطم، وتماديه في الاستهانة بها. أو بتعريض نفسه للهلكة. والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتشنيع.
القول في تأويل قوله تعالى:

[60] قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم [61] قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون .

قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون أي: يحضرون عقوبته.

قال ابن كثير : وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام، أن يبين في هذا المحفل العظيم كثيرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضرا ولا تملك لها نصرا. فكيف يطلب منها شيء من ذلك؟.
[ ص: 4282 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[62] قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم [63] قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون .

قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا يعني الذي تركه لم يكسره. فإن ترددتم أنه فعلي أو فعله: فاسألوهم أي: يجيبوكم: إن كانوا ينطقون أي: والأظهر عجزهم الكلي المانع من القول بإلهيتها. والقول فيه، أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه، لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم. وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه عن إلزامهم الحجة، وتبكيتهم. ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة. وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد، لما رأى من زيادة تعظيمهم له. فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي متسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره، يسند إلى الحامل عليه. فيكون تمثيلا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم، لإشراكهم بعبادته الأصنام. ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا، غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. فكأنه قيل: فعله ذلك الكبير على مقتضى مذهبكم، والقضية ممكنة. وأظهر هذه الأوجه هو الأول. وعليه اقتصر الإمام ابن حزم في كتابه (الفصل) في الرد على من جوز على الأنبياء المعاصي، وعبارته: وأما قوله عليه السلام: بل فعله كبيرهم هذا فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم وهو في الحقيقة مهان ذليل مهين معذب في النار. فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له، على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر. وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم. ولم يقل إبراهيم هذا على [ ص: 4283 ] أنه محقق لأن كبيرهم فعله. إذ الكذب، إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وقصدا إلى تحقيق ذلك. وجلي أن مراده عليه السلام، على كل، إنما هو توجيههم نحو التأمل في أحوال أصنامهم كما ينبئ عنه قوله: فاسألوهم إن كانوا ينطقون أي: إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا. قال أبو السعود : وإنما لم يقل عليه السلام: إن كانوا يسمعون أو يعقلون، مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا، لما أن نتيجة السؤال هو الجواب، وأن عدم نطقهم أظهر، وتبكيتهم بذلك أدخل. وقد حصل ذلك أولا حسبما نطق به قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون .

فرجعوا إلى أنفسهم أي: فراجعوا عقولهم، ومراجعة العقل مجاز عن التفكير والتدبر، والمراد بالنفس النفس الناطقة، والرجوع إليها عبارة عما ذكر: فقالوا إنكم أنتم الظالمون أي: بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع، لا من كسرها، فلم تنسبونه إلى الظلم بقولكم: إنه لمن الظالمين
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون .

ثم نكسوا على رءوسهم أي: حياء من نقصهم، وخضوعا وانفعالا من إبراهيم ، قائلين: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون أي: ليس من شأنهم النطق، فكيف تأمرنا بسؤالهم؟.
[ ص: 4284 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[66] قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم [67] أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون .

قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون أي: قبح صنيعكم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع.

تنبيه:

ذكر في الكشاف في قوله تعالى: ثم نكسوا على رءوسهم أربعة أوجه. وحاصله كما في العناية -أن التنكيس قلب الشيء بجعل أعلاه أسفله. فإما أن يستعار للرجوع عن الفكرة المستقيمة في تظليم أنفسهم، إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها، مع عجزها فضلا عن كونها في معرض الألوهية. فقوله: لقد علمت معناه لم يخف علينا وعليك أنها كذلك وأنا اتخذناها آلهة مع العلم به. والدليل عليه قوله: أفتعبدون إلخ، أو أن التنكيس الرجوع عن الجدال الباطل إلى الحق في قولهم: لقد علمت لأنه نفي لقدرتها واعتراف بأنها لا تصلح للألوهية، وسمي (نكسا) وإن كان حقا، لأنه ما أفادهم مع الإصرار. ولكنه نكس بالنسبة لما كانوا عليه من الباطل. أو النكس مبالغة في إطراقهم خجلا وقولهم: لقد علمت لحيرتهم أتوا بما هو حجة عليهم. أو النكس مبالغة في الحيرة وانقطاع الحجة أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر. وفيه لغات كثيرة كما في كتب اللغة. قال الزمخشري : أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. ولما عجزوا عن المحاجة أخذوا في المضارة، شأن المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة لم يكن أحد أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته.
[ ص: 4285 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[68] قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين .

قالوا حرقوه أي: لأنه استحق أشد العقاب عندهم، والنار أهول ما يعاقب به: وانصروا آلهتكم أي: بالانتقام لها: إن كنتم فاعلين أي: به شيئا من السياسة، فلا يليق به غيرها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[69] قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم .

قلنا أي: تعجيزا لهم ولأصنامهم، وعناية بمن أرسلناه، وتصديقا له في إنجاء من آمن به: يا نار كوني بردا أي: باردة على إبراهيم، مع كونك محرقة للحطب: وسلاما على إبراهيم أي: ولا تنتهي في البرد إلى حيث يهلكه، بل كوني غير ضارة. وجوز كون سلاما منصوبا بفعله. والأمر مجاز عن التسخير، كما في قوله: كونوا قردة ففيه استعارة بالكناية بتشبيهها بمأمور مطيع، وتخييلها الأمر والنداء، ولذا قال أبو مسلم : المعنى أنه سبحانه وتعالى جعل النار بردا وسلاما، لا أن هناك كلاما، كقوله: أن يقول له كن فيكون أي: فيكونه. فإن النار جماد ولا يجوز خطابه. وهو ظاهر.

تنبيه:

قال الرازي : لهم في كيفية برودة النار ثلاثة أقوال:

أحدها: أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والاحتراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق. والله على كل شيء قدير.

وثانيها: أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه. كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة. وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة. وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif





ابوالوليد المسلم 31-08-2024 05:07 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4286 الى صـ 4300
الحلقة (457)






ثالثها: أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلا يمنع من وصول أثر النار إليه.

قال المحققون: والأول أولى لأن ظاهر قوله: يا نار كوني بردا أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها، لا أن النار بقيت كما كانت.
القول في تأويل قوله تعالى:

[70] وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين [71] ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين .

وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين أي: أرادوا أن يكيدوه بالإضرار، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين. قال الزمخشري : غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت. وفزعوا إلى القوة والجبروت فنصره وقواه: ونجيناه ولوطا أي: لأنه هاجر معه: إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين وهي أرض الشام . بورك فيها بكثرة الأنبياء وإنزال الشرائع التي هي طريق السعادتين. وبكثرة النعم والخصب والثمار وطيب عيش الغني والفقير. وقد نزل إبراهيم عليه السلام بفلسطين ، ولوط عليه السلام بسدوم .
ثم بين بركته تعالى على إبراهيم بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[72] ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين .

ووهبنا له إسحاق أي: بدعوته: رب هب لي من الصالحين ويعقوب نافلة أي: زيادة وفضلا من غير سؤال. ثم أشار إلى أن منشأ البركة فيهما الصلاح بقوله: وكلا جعلنا صالحين بالاستقامة والتمكين في الهداية.
[ ص: 4287 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[73] وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين .

وجعلناهم أئمة أي: قدوة يقتدى بهم في أمور الدين، إجابة لدعائه عليه السلام بقوله: ومن ذريتي يهدون بأمرنا أي: يهدون الناس إلى الحق بأمرنا لهم بذلك وإذننا. قال الزمخشري : فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله، فالهداية محتومة عليه، مأمور هو بها، من جهة الله. ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. وأول ذلك أن يهتدي بنفسه، لأن الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدي أميل: وأوحينا إليهم فعل الخيرات أي: أن تفعل الخيرات، مما يختص بالقلوب أو الجوارح: وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين أي: بالتوحيد الخالص والعمل الصالح.
القول في تأويل قوله تعالى:

[74] ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين .

ولوطا آتيناه حكما أي: حكمة. وهو ما يجب فعله: وعلما أي: بما ينبغي علمه للأنبياء. وقد بعثه الله تعالى إلى سدوم فكذبه أهلها وخالفوه فأهلكهم الله ودمر عليهم ما قص خبرهم في غير ما موضع في كتابه العزيز، وقد أشار إلى ذلك في ضمن بيان عنايته به وكرامته له بقوله: ونجيناه من القرية أي: من عذابها: التي كانت تعمل الخبائث [ ص: 4288 ] يعني اللواطة، وكانت أشنع أفعالهم. وبها استحقوا الإهلاك. ولذا ذهب بعض الفقهاء إلى رمي اللوطي منكسا من مكان عال، وطرح الحجارة عليه ، كما فعل بهم: إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا أي: في أهلها: إنه من الصالحين أي: العاملين بالعلم، الثابتين على الاستقامة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[76] ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم .

ونوحا إذ نادى من قبل أي: دعا ربه في إهلاك قومه لما كذبوه بقوله: أني مغلوب فانتصر رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم وهو الطوفان، أو من الشدة والتكذيب والأذى. فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز وجل فلم يؤمن به إلا القليل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77] ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين .

ونصرناه من القوم أي: نصرناه نصرا مستتبعا للانتصار والانتقام من قومه: الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين أي: فلم يبق منهم أحد كما دعا نبيهم.
[ ص: 4289 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[78] وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين .

وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث أي: الزرع: إذ نفشت فيه غنم القوم أي: رعته ليلا: وكنا لحكمهم شاهدين أي: لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما، عالمين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[79] ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين .

ففهمناها أي: الفتوى أو الحكومة المفهومين من السياق: سليمان أي: فكان القضاء فيها قضاءه، لا قضاء أبيه. روي عن ابن عباس أن غنما أفسدت زرعا بالليل، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث، فقال سليمان : بل تؤخذ الغنم فتدفع إلى أصحاب الزرع فيكون لهم أولادها وألبانها ومنافعها. ويبذر أصحاب الغنم لأهل الزرع مثل زرعهم فيعمروه ويصلحوه، فإذا بلغ الزرع الذي كان عليه، ليلة نفشت فيه الغنم، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وكذا روي عن ابن مسعود موقوفا لا مرفوعا. والله أعلم بالحقيقة. وقوله تعالى: وكلا آتينا حكما وعلما أي: وكل واحد منهما آتيناه حكمة وعلما كثيرا، لا سليمان وحده. ففيه دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه السلام بالتفهم، من عدم كون حكم داود عليه السلام حكما شرعيا.

[ ص: 4290 ] تنبيهات:

الأول: استدل بالآية على أن خطأ المجتهد مغفور له ، وعكس بعضهم، فاستدل بالآية على أن كل مجتهد مصيب .

قال: لأنها تدل بظاهرها على أنه لا حكم لله في هذه المسألة قبل الاجتهاد. وأن الحق ليس بواحد. فكذا غيرها إذ لا قائل بالفصل. إذ لو كان له فيها حكم تعين. وهذا مذهب المعتزلة، كما بين في الأصول. ورد بأن مفهوم قوله: ففهمناها سليمان لتخصيصه بالفهم دون داود عليه السلام، يدل على أنه المصيب للحق عند الله. ولولاه لما كان لتخصيصه بالفهم معنى. والمستدلون يقولون: إن الله لما لم يخطئه، دل على أن كلا منهما مصيب. وتخصيصه بالفهم لا يدل على خطأ داود عليه السلام، لجواز كون كل مصيبا. ولكن هذا أرفق وذاك أوفق، بالتحريض على التحفظ من ضرر الغير. فلذلك استدل بهذه الآية كل. فكما لم يعلم حكم الله فيها، لم يعلم تعين دلالتها. كذا في (العناية).

وجاء في (فتح البيان) ما مثاله: لا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيبا فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها، بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما: أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مخطئا. فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له؟ فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين. وإلا لزم توقف حكمه عز وجل على اجتهادات المجتهدين، واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضا يستلزم أن يكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين، بالحل والحرمة، حلالا وحراما في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد ، له اجتهاد في تلك [ ص: 4291 ] الحادثة، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه وتعالى فيها إلا بانقطاع المجتهدين. واللازم باطل فالملزوم مثله. والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة. لكن لا يصرون على الخطأ. كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان، لما ظهر له أنه الصواب.

قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده.

الثاني: دلت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام. وهو مذهب الجمهور. ومنعه بعضهم. ولا مسند له. لأن قضاء داود لو كان بوحي لما أوثر قضاء ابنه سليمان عليه. ومما يدل على وقوعه دلالة ظاهرة قوله تعالى: عفا الله عنك لم أذنت لهم فعاتبه على ما وقع منه. ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه. ومنه ما صح عنه صلوات الله عليه من قوله: « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي » ومثل ذلك لا يكون فيما عمله بالوحي، ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة. وأيضا، فالاستنباط أرفع درجات العلماء. فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل. وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب.

قال الرازي : إذا غلب على ظن نبي أن الحكم في الأصل معلل بمعنى، ثم علم أو ظن قيام ذلك معنى في صورة أخرى، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل. وعنده مقدمة يقينية، وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب ، فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون. وعند هذا، إما أن يقدم على الفعل والترك معا، وهو محال، لاستحالة الجمع بين النقيضين. أو يتركهما وهو محال، لاستحالة الخلو عن النقيضين. أو يرجح المرجوح على الراجح وهو [ ص: 4292 ] باطل ببديهة العقل، أو يرجح الراجح على المرجوح، وذلك هو العمل بالقياس- وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس. وهي قائمة أيضا في حق الأنبياء عليهم السلام. انتهى.

الثالث: قال السيوطي في (الإكليل): استدل بها على جواز الاجتهاد في الأحكام ووقوعه للأنبياء . وقد ذكرناه قبل. وأن المجتهد قد يخطئ، وأنه مأجور مع الخطأ غير آثم، لأنه تعالى أخبر بأن إدراك الحق مع سليمان، ثم أثنى عليهما. وقد تقدم أولا. واستدل بها من قال برجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه. وفيها تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار . لأن النفش لا يكون إلا بالليل، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن شريح والزهري وقتادة . ومن عمم الضمان فسره بالرعي مطلقا. وذهب قوم منهم الحسن إلى أن صاحب الزرع تدفع إليه الماشية، ينتفع بدرها وصوفها حتى يعود الزرع كما كان. كما حكم به سليمان في هذه الواقعة. إذ لم يرد في شرعنا ناسخ مقطوع به عندهم. انتهى.

الرابع: روى ابن جرير عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غزلا لي. فقال شريح: نهارا أم ليلا؟ فإن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه. وإن كان ليلا فقد ضمن، ثم قرأ هذه الآية.

قال ابن كثير : وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيصة . أن ناقة البراء بن عازب [ ص: 4293 ] دخلت حائطا. فأفسدت فيه. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط، حفظها بالنهار. وما أفسد المواشي بالليل ضامن على أهلها. وقد علل هذا الحديث. وروى ابن أبي حاتم أن إياس بن معاوية ، لما استقضى أتاه الحسن، فبكى. فقال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار. ورجل مال به الهوى فهو في النار. ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء، حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم. قال الله تعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية. فأثنى الله على سليمان، ولم يذم داود.

ثم قال يعني الحسن: إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثا: لا يشتروا به ثمنا قليلا. ولا يتبعوا فيه الهوى. ولا يخشوا فيه أحدا. ثم تلا: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وقال: فلا تخشوا الناس واخشون وقال: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا

ثم قال ابن كثير : وقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر » فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار.

وفي السنن: « القضاة ثلاثة: قاض في الجنة وقاضيان في النار. رجل علم الحق [ ص: 4294 ] وقضى به فهو في الجنة. ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار » .

ثم بين سبحانه ما خص كلا من داود وسليمان من كراماته، إثر بيان كرامته العامة لهما، بقوله: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين أي: سخرنا الجبال والطير يقدسن الله معه، بصوت يتمثل له أو يخلق فيها. قال ابن كثير : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه (الزبور) وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه. وترد عليه الجبال تأويبا، ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب جدا، فوقف واستمع لقراءته وقال: « لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود ». قال: يا رسول الله! لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا.

قال أبو عثمان الهندي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه. انتهى.

وتقديم الجبال على الطير، لأن تسبيحها أعجب وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد. والتذييل بقوله: وكنا فاعلين إشارة إلى أنه ليس ببدع في جانب القدرة الإلهية، وإن كان عند المخاطبين عجيبا. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة ص: واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب
[ ص: 4295 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[80] وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون .

وعلمناه صنعة لبوس لكم أي: عمل الدروع الملبوسة. قيل كانت الدروع قبله صفائح، فحلقها وسردها. أي: جعلها حلقا وأدخل بعضها في بعض كما قال تعالى: وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد أي: لا توسع الحلقة فتقلق المسمار. ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة. ولهذا قال: لتحصنكم من بأسكم أي: لتحفظكم من جراحات قتالكم: فهل أنتم شاكرون أي: لنعم الله عليكم، لما ألهم عبده داود فعلمه ذلك رحمة بكم فيما يحفظ عليكم في المعامع حياتكم. وفي إيراد الأمر بالشكر على صورة الاستفهام، مبالغة في التقريع والتوبيخ، لما فيه من الإيماء إلى التقصير في الشكر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[81] ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين .

ولسليمان الريح عاصفة أي: سخرناها له: تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وهي بيت المقدس: وكنا بكل شيء عالمين أي: ما تقضيه الحكمة البالغة فيه. وهذا كقوله تعالى: فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب

قال الزمخشري رحمه الله: فإن قلت: وصفت هذه الريح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى، فما التوفيق بينهما؟ قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم. فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال: غدوها شهر ورواحها شهر فكان جمعها بين الأمرين، [ ص: 4296 ] أن تكون رخاء في نفسها، وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان، وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم، آية إلى آية، ومعجزة إلى معجزة.

قال في (الانتصاف): وهذا كما ورد في وصف عصا موسى تارة بأنها جان وتارة بأنها ثعبان. والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم الجافي منها. ووجه ذلك أنها جمعت الوصفين فكانت في خفتها وفي سرعة حركتها كالجان، وكانت في عظم خلقها كالثعبان، ففي كل واحد من الريح والعصا، على هذا التقرير، معجزتان. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[82] ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين .

ومن الشياطين من يغوصون له أي: في البحر لاستخراج نفائسه، تكميلا لخزائنه وتزيينا لقومه: ويعملون عملا دون ذلك أي: غير ذلك كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال تعالى: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان وكنا لهم حافظين أي: مؤيدين ومعينين.

تنبيه:

الشياطين المذكورون، إما مردة الإنس وأشداؤهم، وإما مردة الجن لظاهر اللفظ. وعليه قال الجبائي: كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل؟ وإنما يمكنهم الوسوسة. وأجاب بأنه تعالى كثف أجسامهم خاصة وقواهم، وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزا لسليمان عليه السلام. والله أعلم.
[ ص: 4297 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[83] وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [84] فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين .

وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين أي: اذكر أيوب وما أصابه من البلاء ودعاءه ربه في كشف ما نزل به، واستجابته تعالى دعاءه وما امتن به عليه في رفع البلاء. وما ضاعف له بعد صبره من النعماء، لتعلم أن النصر مع الصبر، وأن عاقبة العسر اليسر. وأن لك الأسوة بمثل هذا النبي الصبور، فيما ينزل أحيانا بك من ضر. وأن البلاء لم ينج منه الأنبياء. بل هم أشد الناس ابتلاء. كما في الحديث « أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل » .

وإن من أسباب الفرج دعاءه تعالى والابتهال إليه والتضرع له، وذكره بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. وإن البلاء لا يدل على الهوان والشقاء. فإن السعادة والشقاء في هذا العالم لا يترتبان على صالح الأعمال وسيئها. لأن الدنيا ليست دار جزاء. وإن عاقبة الصدق في الصبر ، هي توفية الأجر ومضاعفة البر. وقد روي أن أيوب عليه السلام، لما امتحن بما فقد أرزاقه وهلك به جميع آل بيته، وبما لبث يعاني من قروح جسده آلاما، وصبر وشكر، رحمه مولاه فعادت له صحة بدنه وأوتي أضعاف ما فقده. ورزق عدة أولاد، وعاش عمرا طويلا أبصر أولاده إلى الجيل الرابع. ولذا قال تعالى: وذكرى للعابدين أي: تذكرة لغيره [ ص: 4298 ] من العابدين ليصبروا كما صبر، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة. وبالجملة فالسر هو تثبيت قلوب المؤمنين وحملهم على الصبر في المجاهدة في سبيل الحق. وقد روى المفسرون ههنا في بلاء أيوب روايات مختلفات، بأسانيد واهيات، لا يقام لها عند أئمة الأثر وزن. ولا تعار من الثقة أدنى نظر. نعم يوجد في التوراة سفر لأيوب فيه من شرح ضره، بفقد كل مقتنياته ومواشيه وآل بيته، وبنزول مرض شديد به، عدم معه الراحة ولذة الحياة، غرائب. إلا أنها مما لا يوثق بها جميعها. لما داخلها من المزيج، وتوسع بها في الدخيل، حتى اختلط الحابل بالنابل. وإن كان يؤخذ من مجموعها بلاء فادح وضر مدهش. ولو علم الله خيرا في أكثر مما أجمله في تنزيله الحكيم، لتفضل علينا بتفصيله. ولذا يوقف عند إجماله فيما أجمل، وتفصيله فيما فصل.

تنبيه:

قال بعضهم: أكثر المحققين على أن أيوب كان بعد زمن إبراهيم عليهما السلام. وأنه كان غنيا من أرباب العقار والماشية. وكان أميرا في قومه. وأن أملاكه ومنزله في أرض خصيبة رائعة التربة كثيرة المتسلسلة في الجنوب الشرقي من البحر الميت. ومن جبل سعير بين بلاد أدوم وصحراء العربية . والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[85] وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين [86] وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين .

وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين أي: على القيام بأمر الله، وعلى شدائد النوب، وعلى احتمال الأذى في نصرة دينه تعالى، ففيهم أعظم أسوة: وأدخلناهم في رحمتنا أي: في النبوة أو في نعمة الآخرة: إنهم من الصالحين أي: الكاملين في الصلاح.

[ ص: 4299 ] قال ابن كثير : أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وقد تقدم ذكره في سورة مريم. وكذا إدريس عليه السلام. وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي.

وقال آخرون: إنما كان رجلا صالحا، وكان ملكا عادلا وحكما مقسطا، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم.

وذهب بعض المحققين إلى أن ذا الكفل هو حزقيل عليه السلام.
القول في تأويل قوله تعالى:

[87] وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [88] فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين .

وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين أي: اذكر ذا النون يعني صاحب الحوت، وهو يونس عليه السلام، وصبره على ما أصابه، ثم إنابته ونجاته، ليتثبت في نبئه فؤادك ويقوى على الصبر على ما يقوله الطغاة جنانك. وهذه القصة مذكورة ههنا وفي سورة (الصافات) وفي سورة (ن). وذلك أن يونس بن متى عليه السلام، أمره الله أن ينطلق إلى أهل نينوى -من أرض الموصل ، كرسي سلطنة الأشوريين ليدعوهم إلى الإيمان به تعالى وحده، وإلى إقامة القسط ونشر العدل وحسن السيرة. وكانوا على الضد من ذلك، تعاظم كفرهم وتزايد شرهم. فخشي أن لا يتم له الأمر معهم، فأبق من بيت المقدس إلى يافا . ونزل في سفينة سائرة إلى ترشيش ليقيم فيها. فأرسل الله ريحا شديدة على البحر أشرفت السفينة معه على الغرق. فتخفف الركاب من أمتعتهم [ ص: 4300 ] فلم يفد، فوقع في أنفسهم أن في السفينة شخصا سيهلكون بسببه، فاقترعوا لينظروا من هو فخرجت القرعة على يونس، فقذفوه في البحر وسكن جيشانه وتموجه. وهيأ الله حوتا ليونس فابتلعه، فمكث في جوف الحوت ثلاثة أيام. ثم دعا ربه فاستجاب له، وألقاه الحوت على الساحل. ثم أوحى الله إلى يونس ثانية بالمسير إلى نينوى ، ودعوتها إلى الله تعالى، فوصلها ونادى فيهم بالتوحيد والتوبة. وتوعدهم إن لم يؤمنوا أن تنقلب بهم نينوى ، فلما تحققوا ذلك آمنوا. فرفع الله عنهم العذاب، قال تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين

تنبيهات:

الأول: يونس عليه السلام يسمى في التوراة (يونان) وهو عبراني. ويقال إنه من جت حافر وهي قرية في سبط زبولون، في شمال الأرض المقدسة. وإنه نبئ قبل المسيح بنحو ثمانمائة سنة. والله أعلم.

الثاني: أكثر المفسرين (كما حكاه الرازي ) على أن يونس ذهب مغاضبا لربه. وأنه ظن بإباقه إلى الفلك، وتركه المسير إلى نينوى أولا، أن يترك ولا يقاص. قال بعض المحققين: إنما خالف يونس أولا الأمر الإلهي وترخص فيه، مخافة أن يظن أنه نبي كاذب إذا تاب أهل نينوى وعفا الله عن جرمهم. وإيثار صيغة المبالغة في (مغاضبا) للمبالغة. لأن أصله يكون بين اثنين، يجهد كل منهما في غلبة الآخر. فيقتضي بذل المقدور والتناهي. فاستعمل في لازمه للمبالغة، دون قصد (مفاعلة) وقد استدل بظاهر هذه الآية وأمثالها، من ذهب إلى جواز صدور الخطأ من الأنبياء، إلا الكذب في التبليغ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه، لأنه حجة الله على عباده. وإلا ما يجري مجرى بيان الوحي، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ في حال بيان المشروع. وهو قول الكرامية في المرجئة كما في (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد). [ ص: 4301 ] وقول الباقلاني من الأشعرية (على ما حكاه ابن حزم في الملل): وأما الجمهور المانعون من ذلك، فلهم في هذه الآية وأشباهها تأويلات. ونحن نؤثر ما قاله ابن حزم في هذا المقام، لأنه أطلق لسانا، قال رحمه الله: (بعد أن حكى مذهب الكرامية المذكور): وذهب أهل السنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif





ابوالوليد المسلم 31-08-2024 05:16 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4301 الى صـ 4315
الحلقة (458)





ثم قال: وهذا القول الذي ندين الله تعالى به. ولا يحل لأحد أن يدين بسواه. ونقول: إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد . ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى، والتقرب به منه. فيوافق خلاف مراد الله تعالى. إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم على ذلك ولا بد، إثر وقوعه منهم. وربما يبغض المكروه في الدنيا، كالذي أصاب آدم ويونس والأنبياء عليهم السلام، بخلافنا في هذا. فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه، ولا بما قصدنا به وجه الله عز وجل، فلم يصادف مراده تعالى. بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجرا واحدا.

ثم قال (في الكلام على يونس عليه السلام): وأما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبا، فلم يغاضب ربه قط، ولا قال الله تعالى إنه غاضب ربه. فمن زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب، وزائدا في القرآن ما ليس فيه. هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل، أنه يغاضب ربه تعالى. فكيف أن يفعل ذلك نبي من الأنبياء؟ فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه، ولم يوافق ذلك مراد الله عز وجل، فعوقب بذلك. وإن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عز وجل. وأما قوله تعالى: فظن أن لن نقدر عليه فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال. إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل. فكيف بنبي مفضل على الناس في العلم؟ ومن المحال المتيقن أن يكون نبي يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه. وهو يرى أن آدميا مثله يقدر عليه. ولا شك في أن من نسب هذا للنبي صلى الله عليه وسلم الفاضل، فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه. فكيف إلى يونس بن متى الذي يقول فيه [ ص: 4302 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تفضلوني على يونس بن متى ؟ » فقد بطل ظنهم بلا شك، وصح أن معنى قوله: فظن أن لن نقدر عليه أي: لن نضيق عليه كما قال تعالى: وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه أي: ضيق عليه. فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه، إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك: وإنما نهى الله عز وجل، محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت، فنعم، نهاه الله عز وجل عن مغاضبة قومه، وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم. وأما قوله تعالى: أنه استحق الذم والملامة، لولا النعمة التي تداركه بها، للبث معاقبا في بطن الحوت، فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه، مما يظنونه خيرا وقربة إلى الله عز وجل، إذا لم يوافق مراد ربهم. وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين. والظلم وضع الشيء في غير موضعه. فلما وضع النبي صلى الله عليه وسلم المغاضبة في غير موضعها، اعترف في ذلك بالظلم. لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم. انتهى كلام ابن حزم.

وأقول: إن الذي يفتح باب الإشكالات هو التعمق في الألفاظ. والتنطع في شرحها وتوليد معاني ولوازم لها، والتوسع في وجوهها توسعا يميت رونق التركيب ونصاعة بلاغته. ومعلوم أن التنزيل الكريم فاق سائر أساليب الكلام المعهودة بأسلوبه البديع. ولذا كانت آية تأخذ بمجامع القلوب رقة وانسجاما. وبلاغة وانتظاما. فلا ترى في كلمه إلا المختارات لطفا، ولا في جمله إلا الفخيمات تركيبا، ولا في إشاراته إلا الأقوى رمزا، ولا في كناياته إلا الأعلى مغزى. ومن ذلك سنته في الملام والوعيد من إفراغ القول في أبلغ قالب شديد، مما يؤخذ منه شدة الخطب، وقوة العتب وذلك لعزة الجناب الإلهي والمقام الرباني. فالعربي البليغ طبعا، الذائق جبلة، إذا تلي عليه مجمل نبأ يونس عليه السلام في هذه الآية، يدهش لما ترمي [ ص: 4303 ] إليه من قوة العتب والملام، وأنه بإباقه غاضب مولاه، غضبا لا يماثل الغضب على العصاة. فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأنه ظن أن ينسى فلا يؤاخذ. ويفلت فلا يحصر. فأتاه ما لم يكن على بال. ووقع في شرك قدرة المتعال، ثم تداركته النعمة، ولحقته الرحمة. هذا مجمل ما يفهم من الآية منطوقا ومفهوما. فافهم ما ذكرته لك. فإنه يبلغك من التحقيق أملك.

الثالث: عد بعض الملاحدة ابتلاع الحوت يونس محالا. فكتب بعض المحققين مجيبا بأن هذا إنكار لقدرة الله فاطر السماوات والأرض. الذي له في خلقه غرائب. ومنها الحيتان المتنوعة الهائلة الجثث، التي لم يزل يصطاد منها في هذا العصر، وفي بطونها أجساد الناس بملابسهم. وكتب آخر: لم يتعرض لتعيين نوع الحوت الذي ابتلع يونس. ولعله فيما قال قوم من المحققين. من النوع المعروف عند بعضهم (بالزفا) وهو من كبار الحيتان يكون في بحر الروم، واسع الحلقوم، حتى أنه ليبتلع الرجل برمته، دون أن يشدخه أو يجرحه. حتى يبقى في الإمكان أن يخرج منه وهو حي: ومع ذلك فلم يكن بغير معجزة بقاؤه ثلاثة أيام في جوف هذا الحوت، ولبث مالكا رشده متمكنا من التسبيح والدعاء. انتهى.

الرابع: الجمع في قوله: في الظلمات إما على حقيقته، وهي ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل. وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. أو مجاز، يجعل الظلمة لشدتها وتكاثفها في بطن الحوت كأنها ظلمات. والمراد منها أحد المذكورات، أو بطن الحوت. وقدمه الزمخشري ونظره بآية: ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات

الخامس: قوله تعالى: فاستجبنا له أي: دعاؤه: ونجيناه من الغم يعني بأن قذفه الحوت إلى الساحل، قيل لم يقل فنجيناه كما قال في قصة أيوب عليه السلام: فكشفنا لأنه دعا بالخلاص من الضر، فالكشف المذكور يترتب على استجابته. [ ص: 4304 ] ويونس عليه السلام لم يدع، فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. ورد بأن الفاء في قصة أيوب تفسيرية. والعطف هنا أيضا تفسيري. والتفنن طريقة مسلوكة في علم البلاغة. ثم لا نسلم أن يونس لم يدع بالخلاص ولو لم يكن دعاء لم تتحقق الاستجابة. واستظهر الشهاب في سر الإتيان بالفاء ثمة. والواو هنا غير التفنن المذكور. أن يقال: إن الأول دعاء بكشف الضر وتلطف في السؤال.

فلما أجمل في الاستجابة، وكان السؤال بطريقة الإيماء، ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية. وأما هنا، فإنه لما هاجر من غير أمر، على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام. كان ذلك ذنبا. كما أشار إليه بقوله: من الظالمين فما أومأ إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه من سيئات الأبرار. فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته: وليس ما بعده تفسيرا له، بل زيادة إحسان على مطلوبه. ولذا عطف بالواو. انتهى.

السادس: قوله: وكذلك ننجي المؤمنين أي: إذا كانوا في غموم، وأخلصوا في أدعيتهم منيبين، لا سيما بهذا الدعاء: وقد روي في الترغيب آثار: منها عند أحمد والترمذي: ( دعوة ذي النون، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له ). وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[89] وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين .

وزكريا أي: واذكر خبره: إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا أي: حين طلب أن يهبه ربه ولدا يكون من بعده نبيا، ولا يتركه فردا وحيدا بلا وارث، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضا. وقوله: وأنت خير الوارثين [ ص: 4305 ] ثناء مناسب للمسألة. قال الغزالي في (شرح الأسماء الحسنى): الوارث هو الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك. وذلك هو الله سبحانه، إذ هو الباقي بعد فناء خلقه، وإليه مرجع كل شيء ومصيره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[90] فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين .

فاستجبنا له أي: دعاءه: ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه أي: أصلحناها للولادة بعد عقرها، معجزة وكرامة له. وقوله تعالى: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات تعليل لما فصل من فنون إحسانه تعالى، المتعلقة بالأنبياء المذكورين، أي: كانوا يبادرون في كل باب من الخير. وإيثار (في) على (إلى) للإشارة إلى ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير. لأن (إلى) تدل على الخروج عن الشيء والتوجه إليه: ويدعوننا رغبا ورهبا أي: ذوي رغب ورهب، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة: وكانوا لنا خاشعين أي: مخبتين متضرعين. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[91] والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين .

والتي أحصنت فرجها أي: اذكر نبأ التي أحصنته إحصانا كليا، عن الحلال والحرام جميعا. كما قالت: ولم يمسسني بشر والتعبير عنها بالموصول، لتفخيم شأنها، وتنزيهها عما زعموه في حقها، بادئ بدء: فنفخنا فيها من روحنا أي: نفخنا [ ص: 4306 ] الروح في عيسى فيها. أي: أحييناه في جوفها. فنزل نفخ الروح في عيسى ، لكونه في جوف مريم، منزلة نفخ الروح فيها. ونفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. وقيل المعنى: فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا جبريل عليه السلام، أي: أمرناه فنفخ. أو فنفخنا فيها بعض روحنا، أي: بعض الأرواح المخلوقة لنا. وذلك البعض هو روح عيسى ، لأنها وصلت في الهواء الذي نفخه في رحمها: وجعلناها وابنها أي: نبأهما: آية للعالمين أي: في كمال قدرته واختصاصه من شاء بما شاء. وقد كان من آيتهما إتيان الرزق لمريم في غير أوانه. وتثمير النخل اليابس. وإجراء العين، ونطق ابنها في المهد. وإحياء الموتى. وإبراء الأكمه والأبرص.

قال الزمخشري : فإن قلت: هلا قيل: آيتين كما قال: وجعلنا الليل والنهار آيتين ؟ قلت: لأن حالهما بمجموعها آية واحدة. وهي ولادتها إياه من غير فحل. انتهى. وقيل: المعنى وجعلناها آية وابنها آية. فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. ولما أنهى ما ذكر تعالى من شأن جماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم، أشار إلى أن عقائدهم وأصول دينهم واحدة، بقوله سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[92] إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .

إن هذه أي: علة التوحيد والاستسلام لمعبود واحد لا شريك له: أمتكم أي: ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها. والخطاب للناس كافة: أمة واحدة أي: غير مختلفة. بل هي ملة واحدة. أي: أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة واحدة ودين واحد. كما قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام وأنا ربكم أي: لا إله لكم غيري: فاعبدون أي: ولا تشركوا بي شيئا.

[ ص: 4307 ] تنبيه:

قلنا: إن الأمة هنا بمعنى الملة، وهو الدين المجتمع عليه، كما في قوله: إنا وجدنا آباءنا على أمة أي: على دين يجتمع عليه. والأمة بهذا المعنى هو ما رجحه كثير من المفسرين في هذه الآية، وفي آية: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وتطلق (الأمة) بمعنى الجماعة. كما هي في قوله تعالى: وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون أي: جماعة. وكما في قوله: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقا، وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع، يعتبرون بها واحدا، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة. وتطلق الأمة بمعنى السنين كما في قوله تعالى: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة وفي قوله: وادكر بعد أمة وبمعنى الإمام الذي يقتدى به،كما في قوله: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة، على ما ذكرنا. وإنما خصصه العرف تخصيصا. كذا حققه العلامة محمد عبده رحمه الله في تفسير آية: كان الناس أمة واحدة
[ ص: 4308 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[93] وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون .

وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون أي: تفرق الناس في دينهم الذي أمرهم الله به، ودعاهم إليه، فصاروا فيه أحزابا ومللا.

قال الزمخشري رحمه الله: والأصل (وتقطعتم) إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات. كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه، إلى آخرين، ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله؟ والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يتورع الجماعة الشيء ويقتسمونه. فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة، إليه يرجعون. فهو محاسبهم ومجازيهم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون .

فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون أي: فمن عمل من هؤلاء، الذين تفرقوا في دينهم، بما أمر الله به من العمل الصالح، وأطاعه في أمره ونهيه، وهو مقر بوحدانية الله، مصدق وعده ووعيده، متبرئ من الأنداد والآلهة، فلا كفران لسعيه، بل يشكر الله عمله هذا، ويثيبه ثواب أهل طاعته. وقوله تعالى: وإنا له أي: لسعيه المشكور: كاتبون أي: مثبتوه في صحيفة أعماله، ولا نضيعه.

تنبيه:

الكفران مصدر من: (كفر فلان النعمة كفرا وكفرانا) وأوثر (لا كفران) على (لا نكفر) للمبالغة. لأن نفي الجنس مستلزم له وأبلغ في التنزيه بعمومه. وعبر عن العمل [ ص: 4309 ] بالسعي لإظهار الاعتداد به. والآية كقوله تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا

ثم أشار إلى مقابل هؤلاء، وهم من أعرض عن ذكره تعالى، بلحوق الوعيد لهم، لما جرت به سنته تعالى، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[95] وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون .

وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون أي: وحرام على أهل قرية فسقوا عن أمر ربهم، فأهلكهم بذنوبهم، أن يرجعوا إلى أهلهم، كقوله تعالى: ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وقوله: فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون وزيادة (لا) هنا لتأكيد معنى النفي من (حرام) وهذا من أساليب التنزيل البديعة البالغة النهاية في الدقة. وسر الإخبار بعدم الرجوع مع وضوحه، هو الصدع بما يزعجهم ويؤسفهم ويلوعهم من الهلاك المؤبد، وفوات أمنيتهم الكبرى، وهي حياتهم الدنيا. وجعل أبو مسلم هذه الآية من تتمة ما قبلها، و(لا) فيها على بابها. وهي مع (حرام) من قبيل نفي النفي. فيدل على الإثبات. والمعنى: وحرام على القرية المهلكة، عدم رجوعها إلى الآخرة. بل واجب رجوعها للجزاء. فيكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث. وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد. وأنه سبحانه سيحييه، وبعمله يجزيه. واللفظ الكريم يحتمله ويتضح فيه. إلا أن الأول لرعاية النظائر من الآي أولى. وأما ذكر سواهما، فلا يدل عليه السياق ولا النظير. وفيه ما يخل بالبلاغة من التعقيد وفوات سلاسة التعبير.
ثم أشار إلى تحقق نصر الرسل وغلبتهم، وكثرة أتباعهم حتى يحيطوا بأعدائهم من كل جانب، وينزلوا بهم ما تشخص لهم أبصارهم، يورثهم طول الندامة، بقوله تعالى:

[ ص: 4310 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[96] حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون .

حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج علم لكل أمة كثيرة العدد مختلطة من أجناس شتى: وهم من كل حدب ينسلون أي: من كل نشز من الأرض يسرعون، متجندين لقهر أعدائهم، تحت راية نبيهم أو أميره أو خليفته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[97] واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين .

واقترب الوعد الحق أي: طلعت طلائع النصر والقهر، ودحر الباطل والكفر: فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا أي: لهول ما حل بساحتهم والدهشة منه، قائلين: يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا أي: لم نعلم أنه حق: بل كنا ظالمين أي لأنفسنا، بالإخلال بالنظر والإباء والعناد. ثم أشار إلى شأنهم في الآخرة بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[98] إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [99] لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [100] لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون .

إنكم وما تعبدون من دون الله أي: من الأوثان والأصنام: حصب جهنم أي: ما يرمى به إليها: أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون أي: فلا منجى لهم منها.

[ ص: 4311 ] قال الزمخشري : فإن قلت: لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة. حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدو باب من العذاب. ولأنهم قدروا أنهم يستشفعون بهم في الآخرة، ويستنفعون بشفاعتهم. فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا، لم يكن شيء أبغض إليهم منهم: لهم فيها زفير أي: ترديد نفس تنتفخ منه الضلوع: وهم فيها لا يسمعون أي: من الهول وشدة العذاب.
ثم بين تعالى حال المؤمنين إثر حال الكافرين، حسبما جرت به سنة التنزيل، من شفع الوعد بالوعيد، وإيراد الترغيب مع الترهيب، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[101] إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون [102] لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون [103] لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .

إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أي: الخصلة الحسنى، وهي السعادة أو التوفيق: أولئك عنها مبعدون لأنهم في غرفات الجنان آمنون. إذ وقاهم ربهم عذاب السعير: لا يسمعون حسيسها أي: صوتا يحس به منها، لبعدهم عنها وعما يفزعهم: وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر أي: للحشر كما قال تعالى: ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض وتتلقاهم الملائكة أي: تستقبلهم مهنئين لهم قائلين: هذا يومكم الذي كنتم توعدون أي في الدنيا، وتبشرون بنيل المثوبة الحسنى فيه.
وقوله تعالى:

[ ص: 4312 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[104] يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [105] ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [106] إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين [107] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

يوم نطوي السماء أي: اذكره. أو ظرف لـ: لا يحزنهم أو لـ: " تتلقاهم " . والطي ضد النشر. وقوله: كطي السجل للكتب أي: كما يطوى السجل وهو الكتاب. واللام في (للكتب) لام التبيين. ولذلك قرئ: (الكتاب) بالإفراد. أو بمعنى (من) وفيه قرب من الأول. أو (الكتب) بمعنى المكتوب. أي: كطي الصحيفة على مكتوبها. فاللام بمعنى (على) وهو ما اختاره ابن جرير .

تنبيه:

ما نقل عن ابن عباس أن السجل اسم رجل كان يكتب للنبي صلوات الله عليه ، كما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، فأثر منكر لا يصح.

قال ابن كثير : وقد صرح بوضعه جماعة من الحفاظ، وإن كان في سنن أبي داود. منهم شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي.

وكذلك تقدم في رده الإمام ابن جرير وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل. [ ص: 4313 ] وكتاب النبي صلوات الله عليه، معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل.

وصدق رحمه الله في ذلك. وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث.

وأما من ذكره في أسماء الصحابة، فإنما اعتمد على هذا الحديث. والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة. انتهى.

هذه الآية كآية: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون وطي السماء كناية عن انكدار نجومها، ومحو رسومها، بفساد تركيبها واختلال نظامها. فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما نراه اليوم. فيخرب العالم بأسره: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين أي: منجزين إياه. ثم أشار إلى تحقيق مصداقه، بإعزاز المنبئ عنه، وإيراثه ملك جاحده بقوله تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون أي: العاملون بطاعته. المنتهون إلى أمره ونهيه. دون العاملين منهم بمعصيته، المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته. و(الزبور) علم على كتاب داود عليه السلام، ويقال: المراد به كل كتاب منزل. والذكر -قالوا- التوراة أو أم الكتاب. يعني اللوح الذي كتب فيه كل شيء قبل الخلق، والله أعلم. وقوله تعالى: إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. أو إلى العبرة في إيراث الأرض الصالحين ودحر المجرمين. و(البلاغ) الكفاية. وقوله: لقوم عابدين أي: يعبدون الله، بما شرعه وأحبه ورضيه. ويؤثرون طاعته على طاعة الشياطين وشهوات النفس: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أي: وما أرسلناك بهذه الحنيفية والدين الفطري، إلا حال كونك رحمة للخلق، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين. وفي جعله نفس الرحمة مبالغة جلية. وجوز كون (رحمة) مفعولا له. أي: للرحمة، فهو نبي الرحمة.

[ ص: 4314 ] تنبيه:

قال الرازي : إنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا. أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم. فبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب. فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام. ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قرينا له. قال الله تعالى: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء إلى قوله تعالى: وهو عليهم عمى وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه. انتهى.

وقد أشرت إلى وجه الرحمة في بعثته صلوات الله عليه ، في (الشذرة) التي جمعتها في سيرته الزكية، في بيان افتقار الناس جميعا إلى رسالته، فقلت: كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار، ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار، علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين، وأكبر منة الله به على العالمين، فقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرق من الملل، ما بين مشبه لله بخلقه، وملحد في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح، وشرك صراح، وفساد عام، وانتهاب للأموال والأرواح واغتصاب للحقوق، وشن للغارات، ووأد للبنات وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزلة، واعتقاد لأضاليل المتكهنة. وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامات طبقت أكناف الأرض، استمرت الأمم على هذه الحال، الأجيال الطوال، حتى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح. فأحدث بعد ذلك أمرا، وجعل بعد عسر يسرا. فإن النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تولت. وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولا ليعتقهم من أسر الأوثان، [ ص: 4315 ] ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من النار والعار، ويرفع عنه الآصار، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحق. قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[108] قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [109] فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون [110] إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون [111] وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين [112] قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون .

قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي: ما يوحى إلي، إلا استئثاره تعالى بالوحدانية في الألوهية. ومعنى القصر على ذلك، أنه الأصل الأصيل، وما عداه راجع إليه في جنبه. فهو قصر دعائي: فهل أنتم مسلمون أي: منقادون لما يوحى من التوحيد، مستسلمون له: فإن تولوا أي: عن التوحيد: فقل آذنتكم على سواء أي: أعلمتكم وهديتكم على كلمة سواء بيننا وبينكم، نؤمن بها ونجني ثمرات سعادتها في الدارين. أو المعنى دللتكم على صراط مستقيم، وبلغتكم الأمر به. فإن آمنتم به فقد سعدتم، وإلا فإن وعد الجاحدين آتيكم، وليس بمصروف عنكم. وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك، لأن الله تعالى لم يعلمني علمه، ولم يطلعني عليه كما قال: وإن أدري أي: وما أدري: أقريب [ ص: 4316 ] أم بعيد ما توعدون أي: من الفتح عليكم، وإيراث أرضكم غيركم، ولحوق الذل والصغار بعصيانكم: إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون أي: فسيجزيكم على ذلك: وإن أدري لعله فتنة لكم أي: وما أدري لعل تأخير جزائكم استدراج لكم، وزيادة في افتتانكم، أو ابتلاء لينظر كيف تعملون. فـ(الفتنة) إما مجاز عن الاستدراج بذكر السبب وإرادة المسبب، أو هو بمعناه الأصلي. فهو استعارة مصرحة. وقوله تعالى: ومتاع إلى حين أي: تمتيع لكم إلى أجل مقدور. والتمتيع بمعنى الإبقاء والتأخير: قال وقرئ: :" قل رب احكم بالحق " أي: افصل بيننا وبينهم بالحق. وذلك بنصر من آمن بما أنزلت، على من كفر به، كقوله تعالى: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون أي: من الكذب والافتراء على الله ورسوله. بنصر أوليائه، وقهر أعدائه. وقد أجاب سبحانه دعوته، وأظهر كلمته، فله الحمد في الأولى والآخرة، إنه حميد مجيد.

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif





ابوالوليد المسلم 31-08-2024 05:32 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْحَجِّ
المجلد الحادى عشر
صـ 4316 الى صـ 4335
الحلقة (459)





قال الرازي : قال القاضي: إنما ختم الله هذه السورة بقوله: قال رب احكم بالحق لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان لهم الغاية، وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه. فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفا أن المقصود مصلحتهم. فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم، فعليك بالانقطاع إلى ربك، ليحكم بينك وبينهم بالحق. إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره. وإما بتأخير ذلك. فإن أمرهم، وإن تأخر فما هو كائن قريب. وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه، كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول، كالاستعجال للأمر بمجاهدتهم. وبالله التوفيق.
سُورَةُ الْحَجِّ

سُمِّيَتْ بِهِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَصْلِ وُجُوبِهِ وَالْمَقْصُودِ مِنْ أَرْكَانِهِ ، وَهُوَ الطَّوَافُ ، إِذِ الْإِحْرَامُ نِيَّةٌ ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ مِنَ اسْتِعْدَادِهِ ، وَالسَّعْيُ مِنْ تَتِمَّتِهِ ، وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْهُ .

وذكر فيها منافعه وتعظيم شعائره وغير ذلك ، مما يشير إلى فوائده وأسراره . أفاده المهايمي .

وعن مجاهد ، عن ابن عباس : أنها مكية سوى ثلاث آيات هذان خصمان ، إلى تمام الآيات الثلاث ، فإنهن نزلن بالمدينة ، وفي آثار أخرى أنها كلها مدنية ، كما في الإتقان وآياتها ثمان وسبعون آية .

[ ص: 4321 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى :

[1] يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم .

{ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } يأمر تعالى عباده بتقواه التي هي من جوامع الكلم ، في فعل المأمورات واجتناب المنهيات .

قال المهايمي : أي : احفظوا تربيته عليكم ، بصرف نعمه إلى ما خلقها لأجله ، لئلا تقعوا في الكفران الموجب لانقلاب التربية عليكم ، بالانتقام منكم . انتهى .

أي فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية ، مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ، لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترغيبا وترهيبا . أي : احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم ، وقوله تعالى : { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } تعليل لموجب الأمر ، بذكر بعض عقوباته الهائلة . فإن ملاحظة عظمها وهولها ، وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته ، من الأحوال والأهوال ، التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى ، مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة . و(الزلزلة ) التحريك الشديد والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارها ويخرجها عن مراكزها . وإضافتها للساعة ، من إضافة المصدر إلى فاعله مجازا ، كأنها هي التي تزلزل . أو إلى ظرفه ، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } ، وفي التعبير عنها بـ(الشيء ) ، إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها ، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام . أفاده أبو السعود .

وقد وصف عظمها في كثير من السور والآيات . كسورة التكوير وسورة الانفطار [ ص: 4322 ] وسورة الانشقاق وسورة الزلزال وغيرها . وقد أشير إلى شيء من بليغ هولها بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[2] يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد .

{ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت } أي : عن إرضاعها . أو عن الذي أرضعته وهو الطفل : { وتضع كل ذات حمل حملها } أي : ما في بطنها لغير تمام : { وترى الناس سكارى } أي : كأنهم سكارى : { وما هم بسكارى } أي : على التحقيق : { ولكن عذاب الله شديد } أي : ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله ، هو الذي أذهب عقولهم ، وطير تمييزهم ، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه . قاله الزمخشري .

لطيفة :

قال الناصر في (" الانتصاف " ) : العلماء يقولون : إن من أدلة المجاز صدق نقيضه ، كقولك : (زيد حمار ) ، إذا وصفته بالبلادة . ثم يصدق أن تقول : (وما هو بحمار ) ، فتنفي عنه الحقيقة . فكذلك الآية . بعد أن أثبت السكر المجازي نفي الحقيقي أبلغ نفي مؤكد بالباء . والسر في تأييده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ، ليس من المعهود في شيء ، وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله . والاستدراك بقوله : { ولكن عذاب الله شديد } راجع إلى قوله : { وما هم بسكارى } كأنه تعليل لإثبات السكر المجازي . كأنه قيل إذا لم يكونوا سكارى من الخمر ، وهو السكر المعهود ، فما هذا السكر الغريب وما سببه ؟ فقال : سببه شدة عذاب الله تعالى . انتهى .

[ ص: 4323 ] ثم أشير لحال المنكرين للساعة ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[3] ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد .

{ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } أي : يخاصم في شأنه تعالى بغير علم . فيزعم أنه غير قادر على إحياء من قد بلي وصار ترابا ، ونحو ذلك من الأباطيل : { ويتبع } أي : في جداله : { كل شيطان مريد } أي : عات متمرد . كرؤساء الكفر الصادين عن الحق . ثم أشار لوصف آخر لهذا الشيطان المتبع ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[4] كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير .

{ كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } أي : قضى على الشيطان أنه يضل من تولاه بأن اتخذه وليا ، وتبعه ، ولا يهديه إلى الحق ، بل يسوقه إلى عذاب جهنم الموقدة . وسوقه إياه إليه ، بدعائه إلى طاعته ومعصية الرحمن .

تنبيه :

قيل : نزلت الآية في النضر بن الحارث ، وكان جدلا .

قال الزمخشري : وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز ، من الصفات والأفعال . ولا يرجع إلى علم ، ولا يعض فيه بضرس قاطع . وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة فهو يخبط خبط عشواء ، غير فارق بين الحق والباطل . انتهى .
ثم بين تعالى الحجة القاطعة لما يجادلون فيه ، بقوله :

[ ص: 4324 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[5] يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنـزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج .

يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث أي : من إمكانه وكونه مقدورا له تعالى . أو من وقوعه : فإنا خلقناكم من تراب أي : خلقنا أول آبائكم ، أو أول موادكم ، وهو المني ، من تراب . إذ خلق من أغذية متولدة منه . وغاية أمر البعث أنه خلق من التراب : ثم من نطفة أي : تولدت من الأغذية الترابية : ثم من علقة أي : قطعة من الدم جامدة : ثم من مضغة أي : قطعة من اللحم بقدر ما يمضغ : مخلقة وغير مخلقة أي مصورة وغير مصورة والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء . ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا : لنبين لكم أي : بهذا التدريج ، قدرتنا وحكمتنا ، وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة ، قبلها أخرى . وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا ، قدر على ذلك ثانيا ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى وهو وقت الوضع .

قال أبو السعود : استئناف مسوق لبيان حالهم ، بعد تمام خلقهم . وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبيين ، مع كونهما من متمماته ، ومن مبادئ التبيين أيضا . لما أن دلالة الأول على كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات ، التي من جملتها البعث [ ص: 4325 ] المبحوث عنه ، أجلى وأظهر . أي : ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها إلى أجل مسمى .

ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم أي : كمال قوتكم وعقلكم . قال أبو السعود علة لـ : { نخرجكم } معطوفة على علة أخرى مناصبة لها . كأنه قيل : ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا . ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والتمييز : ومنكم من يتوفى أي : بعد بلوغ الأشد أو قبله : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخرف . والأرذل الأردأ : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا أي : من بعد علم كثير ، شيئا من الأشياء ، أو شيئا من العلم ، مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله واللام لام العاقبة .

قال البيضاوي : والآية - يعني : ثم نخرجكم إلخ - استدلال ثان على إمكان البعث ، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة . فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره .

ثم أشار تعالى إلى حجة أخرى على صحة البعث ، بقوله : وترى الأرض هامدة أي : ميتة يابسة : فإذا أنـزلنا عليها الماء أي : المطر : اهتزت أي : تحركت بالنبات : وربت أي : انتفخت وعلت ، لما يتداخلها من الماء ويعلو من نباتها : وأنبتت من كل زوج أي : صنف : بهيج أي : حسن رائق يسر ناظره وهذه الحجة الثالثة ، لظهورها وكونها مشاهدة معاينة ، يكررها الله تعالى في كتابه الكريم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[6 - 7] ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور .

ذلك بأن الله هو الحق أي : ذلك الذي ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة ، وتصريفه في أحوال متباينة ، وإحياء الأرض بعد موتها ، حاصل بسبب أن الله هو الحق [ ص: 4326 ] وحده في ذاته وصفاته وأفعاله . المحقق لما سواه من الأشياء ، فهي من آثار ألوهيته وشؤونه الذاتية وحده ; وما سواه مما يبعد باطل ، لا يقدر على شيء من ذلك : وأنه يحيي الموتى أي : يقدر على إحيائها ، إذ أحيا النطفة والأرض الميتة : وأنه على كل شيء قدير فإن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة ، لا يمتنع عليها شيء : وأن الساعة آتية لا ريب فيها أي : لاقتضاء الحكمة إياها . فهي في وضوح دلائلها التكوينية ، بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها : وأن الله يبعث من في القبور أي : من الأموات ، إحياء إلى موقف الحساب .
القول في تأويل قوله تعالى :

[8 - 10] ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد .

ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير أي : يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلم ضروري ولا باستدلال ونظر صحيح ، يهدي إلى المعرفة . ولا بوحي مظهر للحق . أي : بل بمجرد الرأي والهوى ، وهذه الآية في حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر المقلدين - بفتح اللام - كما أن ما قبلها في حال الضلال الجهال المقلدين - بكسر اللام - فلا تكرار أو أنهما في الدعاة المضلين واعتبر تغاير أوصافهم فيها ، فلا تكرار أيضا .

قال في (" الكشف " ) : والأول أظهر وأوفق بالمقام . وكذا اختاره أبو مسلم فيما نقله عنه الرازي ، ثم قال : فإن قيل كيف يصح ما قلتم ، والمقلد لا يكون مجادلا ؟ قلنا : قد يجادل تصويبا لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها ، وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد .

[ ص: 4327 ] وقوله : ثاني عطفه حال من فاعل (يجادل ) أي : عاطفا لجانبه إعراضا واستكبارا عن الحق ، إذا دعي إليه .

قال الزمخشري : ثني العطف عبارة عن الكبر والخيلاء . كتصعير الخد ولي الجيد . وقوله : ليضل عن سبيل الله أي : ليصد عن دينه وشرعه ، متعلق بـ(يجادل ) علة له : له في الدنيا خزي أي : إهانة ومذلة ، كما أصابه يوم بدر من الصغار والفشل : ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق أي : النار المحرقة : ذلك بما قدمت يداك على الالتفات ، أو إرادة القول . أي : يقال له يوم القيامة : ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال والإضلال . وإسناده إلى يديه ، لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي وأن الله ليس بظلام للعبيد أي : بل هو العدل في معاقبة الفجار ، وإثابة الصالحين .
القول في تأويل قوله تعالى :

[11] ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين .

ومن الناس من يعبد الله على حرف شروع في حال المذبذبين ، إثر بيان حال المهاجرين . أي : ومنهم من يعبده تعالى على طرف من الدين ، لا في وسطه وقلبه . وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم ، لا على سكون وطمأنينة . كالذي ينحرف إلى طرف الجيش . فإن أحس بظفر وغنيمة قر وإلا فر : فإن أصابه خير أي : دنيوي من صحة وسعة : اطمأن به أي : ثبت على ما كان عليه ظاهرا : وإن أصابته فتنة أي : ما يفتتن به من مكروه ينزل به : انقلب على وجهه أي : رجع إلى ما كان عليه من الكفر : خسر أي : بهذا الانقلاب : الدنيا والآخرة أي : ضيعهما بذهاب عصمته ، وحبوط عمله ، بالارتداد : ذلك هو الخسران المبين أي : الواضح الذي لا يخفى على ذي بصيرة .

[ ص: 4328 ] تنبيه :

قال ابن جرير : يعني جل ذكره بقوله : ومن الناس إلخ أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مهاجرين من باديتهم . فإن نالوا رخاء ، من عيش بعد الهجرة ، والدخول في الإسلام ، أقاموا على الإسلام . وإلا ارتدوا على أعقابهم . وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل . ثم أسنده من طرق .

وهذا مما يؤيد أن السورة مدنية كما قاله جمع . وتقدم ذلك . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[12] يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد .

يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه أي : حال ثابتة من فاعل (انقلب ) والأولى (خسر ) ولذلك قرئ (خاسر ) أي : ارتد عن دين الله يدعو من دونه آلهة لا تضره ، إن لم يعبدها في الدنيا ، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها - وقال أبو السعود : (يدعو ) استئناف مبين لعظيم الخسران : ذلك هو الضلال البعيد أي : عن الحق والهدى . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[13] يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير .

يدعو أي : هذا المنقلب على وجهه ، إذا أصابته فتنة : لمن ضره أقرب من نفعه أي : وثنا أو صنما ، ضره في الدنيا بالذل والخزي وفي الآخرة بالعذاب ، أسرع إليه من نفعه الذي يتوقعه بعبادته ، وهو الشفاعة والتوسل به إلى الله تعالى . فاللام زائدة في المفعول به ، [ ص: 4329 ] وهو (من ) كما زيدت في قوله تعالى : ردف لكم في وجه . وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه : { يدعو من ضره } بغير لام . وهي مؤيدة للزيادة . و(ضره ) مبتدأ ، وأقرب خبر . وفي الآية وجوه كثيرة هذا أظهرها . وإثبات الضرر له هنا ، باعتبار معبوديته . ونفيه قبل باعتبار نفسه . والآية بمثابة الاستدراك أو الإضراب عما قبلها ، بإثبات ضر محقق لاحق لعابده ، تسفيها وتجهيلا لاعتقاده فيه أنه يستنفع به حين يستشفع به وإيراد صيغة التفضيل ، مع خلوه عن النفع بالمرة ، للمبالغة في تقبيح حاله ، والإمعان في ذمه : لبئس المولى أي : الناصر له : ولبئس العشير أي : المصاحب له .

ولما بين سوء حال الكفرة من المجاهرين والمذبذبين ، أعقبه بكمال حسن حال المؤمنين ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[14] إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد .

إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد أي : من الأفعال المبنية على الحكمة ، التي من جملتها إثابة من أطاعه وتعذيب من عصاه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[15] من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .

من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء [ ص: 4330 ] أي : بحبل إلى ما يعلوه : ثم ليقطع أي : ليختنق : فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ أي : غيظه . والمعنى من استبطأ نصر الله وطلبه عاجلا ، فليقتل نفسه . لأن له وقتا لا يقع إلا فيه . فالآية في قوم من المسلمين استبطؤوا نصر الله ، لاستعجالهم وشدة غيظهم ، وحنقهم على المشركين . وجوز أن تكون في قوم من المشركين ، والضمير في (ينصره ) للنبي صلى الله عليه وسلم . والمعنى : من كان منهم يظن أن لن ينصر الله نبيه ، فليختنق وليهلك نفسه ، ثم لينظر في نفسه ، هل يذهبن احتياله هذا في المضارة والمضادة ، ما يغيظه من النصرة ؟ كلا . فإن الله ناصر رسوله لا محالة . قال تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
القول في تأويل قوله تعالى :

[16 - 17] وكذلك أنـزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد .

وكذلك أنـزلناه أي : القرآن الكريم : آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة ، أنه يقضي بينهم في الآخرة بالعدل . فيدخل من آمن منهم به وعمل صالحا ، الجنة . ومن كفر به ، النار . فإنه تعالى شهيد على أفعالهم ، حفيظ لأقوالهم ، عليم بسرائرهم وما تكنه ضمائرهم . وتقدم في سورة البقرة التعريف بـ(الصابئين ) والمراد بـ(الذين ) أشركوا [ ص: 4331 ] كفار العرب خاصة . لأن المشركين في إطلاق التنزيل ، بمثابة العلم لهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[18] ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء .

ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس بيان لعظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته . بانقياد هذه العوالم العظمى له ، وجريها على وفق أمره وتدبيره . فالسجود فيها مستعار من معناه المتعارف ، لمطاوعة الأشياء له تعالى ، فيما يحدث فيها من أفعاله ، يجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها . ووجه الشبه الحصول على وفق الإرادة من غير امتناع منها فيهما . وقوله : وكثير من الناس إما معطوف على ما قبله ، إن جوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا ، فيكون السجود في الجمادات الانقياد ، وفي العقلاء العبادة . أو مبتدأ خبره محذوف . أو فاعل لمضمر ، إن لم يجوز ذلك . وقوله تعالى :

وكثير حق عليه العذاب أي : من الناس . أي : بكفره واستعصائه : ومن يهن الله أي : بأن كتب عليه الشقاوة حسبما علمه من صرف اختياره إلى الشر : فما له من مكرم أي : يكرمه بالسعادة : إن الله يفعل ما يشاء
القول في تأويل قوله تعالى :

[19] هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم .

هذان خصمان اختصموا في ربهم يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين المنقسم [ ص: 4332 ] إلى الفرق الخمس المبينة في الآية قبل . و(الخصم ) في الأصل مصدر . ولذا يوحد وينكر غالبا . ويستوي فيه الواحد المذكر وغيره ومعنى اختصموا في ربهم أي : في دينه وعبادته . والاختصام يشمل ما وقع أحيانا من التحاور الحقيقي بين أهل الأديان المذكورة ، والمعنوي . فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقية ما هو عليه ، وبطلان ما عليه صاحبه ، وبناء أقواله وأفعاله عليه ، خصومة للفريقين الآخر . وإن لم يجز بينهما التحاور والخصام . ثم أشار إلى فصل خصومتهم المذكور في قوله تعالى : إن الله يفصل بينهم يوم القيامة بقوله سبحانه : فالذين كفروا قطعت أي : قدرت : لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم أي : الماء الحار .
القول في تأويل قوله تعالى :

[20 - 24] يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد .

يصهر أي : يذاب : به ما في بطونهم أي : من الأمعاء والأحشاء : والجلود ولهم مقامع أي : سياط يضربون بها : { من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم [ ص: 4333 ] فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول } كما قال تعالى : تحيتهم فيها سلام وقولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وهدوا إلى صراط الحميد أي : المحمود ، وهو الجنة . أو الحق تعالى ، المستحق لغاية الحمد .
القول في تأويل قوله تعالى :

[25] إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم .

إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام أي : مكة : الذي جعلناه للناس سواء العاكف أي : المقيم : فيه والباد أي : الطارئ : ومن يرد فيه بإلحاد أي : بميل عن القصد : بظلم أي : بغير حق : نذقه من عذاب أليم أي : جزاء على هتكه حرمته . ويشمل الإلحاد الإشراك ومنع الناس من عمارته ، واقتراف الآثام . وتدل الآية على أن الواجب على من كان فيه ، أن يضبط نفسه ، ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده . وقد ذهب بعض السلف إلى أن السيئة في الحرم أعظم منها في غيره ، وأنها تضاعف فيه ، وإن هم بها فيه أخذ بها . ومفعول (يرد ) إما محذوف ، أي : يرد شيئا أو مرادا ما ، والباء للملابسة . أو هي زائدة و (إلحادا ) مفعوله . أو للتعدية لتضمينه معنى (يلتبس ) . و(بظلم ) حال مرادفة . أو بدل مما قبله ، بإعادة الجار . أو صلة له . أي : ملحدا بسبب الظلم . وعلى كل ، فهو مؤكد لما قبله . ومن قوله : نذقه إلخ يؤخذ خبر إن ويكون مقدرا بعد قوله : والباد مدلولا عليه بآخر الآية ، كما ارتضى ذلك أبو حيان في (" البحر " ) . [ ص: 4334 ] ثم أشار تعالى إلى تقريع وتوبيخ من عبد غيره وأشرك به في البقعة المباركة ، التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[26] وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود .

وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أي : واذكر إذ عيناه وجعلناه له مباءة ، أي : منزلا ومرجعا لعبادته تعالى وحده فـ(أن ) في قوله تعالى : أن لا تشرك بي شيئا مفسرة لـ : بوأنا من حيث إنه متضمن لمعنى (تعبدنا ) لأن التبوئة للعبادة . أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك بي شيئا : وطهر بيتي أي : من الأصنام والأوثان والأقذار : للطائفين والقائمين والركع السجود أي : لمن يطوف به ويقيم ويصلي . أو المراد بالقائمين وما بعده : (المصلين ) ، ويكون عبر عن الصلاة بأركانها ، للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك ، فكيف وقد اجتمعت ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى :

[27 - 28] وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير .

وأذن في الناس بالحج أي : ناد فيهم به ، قال الزمخشري : والنداء بالحج أن يقول : حجوا ، أو عليكم بالحج : يأتوك رجالا أي : مشاة ، جمع (راجل ) : وعلى كل ضامر [ ص: 4335 ] أي : ركبانا على كل بعير مهزول ، أتعبه بعد الشقة فهزله . والعدول عن ركبانا الأخصر ، للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة ، وقوله تعالى : { يأتون } صفة لكل ضامر ، لأنه في معنى الجمع . وقرئ يأتون صفة للرجال والركبان . أو استئناف ، فيكون الضمير للناس : من كل فج عميق أي : طريق واسع بعيد : ليشهدوا منافع لهم أي : ليحضروا منافع لهم دينية ودنيوية : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام أي : على ما ملكهم منها ، وذللها لهم ، ليجعلوها هديا وضحايا . قال الزمخشري : كنى عن النحر والذبح ، بذكر اسم الله . لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا . وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه - زاد الرازي - وأن يخالف المشركون في ذلك . فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان ، قال القفال : وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها . فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته ، طلبا لمرضاة الله تعالى ، واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته . والأيام المعلومات أيام العشر . أو يوم النحر وثلاثة أيام أو يومان بعده . أو يوم عرفة والنحر ويوم بعده . أقوال للأئمة .

قال ابن كثير : ويعضد الثاني والثالث قوله تعالى : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام يعني به ذكر الله عند ذبحها . انتهى .

أقول : لا يبعد أن تكون (على ) تعليلية ، والمعنى : ليذكروا اسم الله وحده في تلك الأيام بحمده وشكره وتسبيحه ، لأجل ما رزقهم من تلك البهم . فإنه هو الرزاق لها وحده والمتفضل عليهم بها : ولو شاء لحظرها عليهم ولجعلها أوابد متوحشة . وقد امتن عليهم بها في غير موضع من تنزيله الكريم . كقوله سبحانه : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif

ابوالوليد المسلم 31-08-2024 05:40 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْحَجِّ
المجلد الحادى عشر
صـ 4336 الى صـ 4350
الحلقة (460)





[ ص: 4336 ] والسر في إفراده هذه النعمة ، والتذكير بها دون غيرها من نعمه وأياديه ، أن بها حياة العرب وقوام معاشهم . إذ منها طعامهم وشرابهم ولباسهم وأثاثهم وخباؤهم وركوبهم وجمالهم . فلولا تفضله تعالى عليهم بتذليلها لهم ، لما قامت لهم قائمة . لأن أرضهم ليست بذات زرع وما هم بأهل صناعة مشهورة ، ولا جزيرتهم متحضرة متمدنة . ومن كانوا كذلك ، فيجدر بهم أن يذكروا المتفضل عليهم بما يبقيهم ، ويشكروه ويعرفوا له حقه . من عبادته وحده وتعظيم حرماته وشعائره . فالاعتبار بها من ذلك ، موجب للاستكانة لرازقها ، والخضوع له والخشية منه . نظير الآية - على ما ظهر لنا - قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف هذا أولا . وثانيا : قد يقال : إنما أفردت لتتبع بما هو البر الأعظم والخير الأجزل . وهو مواساة البؤساء منها . فإن ذلك من أجل ما يرضيه تعالى ، ويثيب عليه . والله أعلم .

فكلوا منها أي : من لحومها . والأمر للندب . وإزاحة ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه ، أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ ، فأكل من لحمها ، وحسا من مرقها .

وعن إبراهيم قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم . فرخص للمسلمين فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل .

قال في (" الإكليل " ) : والأمر للاستحباب حيث لم يكن الدم واجبا بإطعام الفقراء . وأباح مالك الأكل من الهدي الواجب ، إلا جزاء الصيد والأذى والنذر ، وأباحه أحمد ، إلا من جزاء الصيد والنذر . وأباح الحسن الأكل من الجميع تمسكا بعموم الآية . وذهب قوم إلى أن [ ص: 4337 ] الأكل من الأضحية واجب ، لظاهر الأمر . وقوم إلى أن التصدق منها ندب ، وحملوا الأمر عليه . ولا تحديد فيما يؤكل أو يتصدق به ، لإطلاق الآية . انتهى .

وأطعموا البائس أي : الذي أصابه بؤس : أي : شدة : الفقير أي : الذي أضعفه الإعسار ، والأمر هنا للوجوب . وقد قيل به في الأول أيضا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[29 - 31] ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق .

ثم أي : بعد الذبح : ليقضوا تفثهم أي : ليؤدوا إزالة وسخهم من الإحرام ، بالحلق والتقصير وقص الأظفار ولبس الثياب : وليوفوا نذورهم أي : ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم : وليطوفوا بالبيت العتيق أي : طواف الإفاضة . وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج . ويقع به تمام التحلل . والعتيق : (القديم ) . لأنه أول بيت وضع للناس . أو المعتق من تسلط الجبابرة : ذلك خبر محذوف . أي : الأمر ذلك . وهو وأمثاله من أسماء الإشارة ، تطلق للفصل بين الكلامين ، أو بين وجهي كلام واحد .

قال الشهاب : والمشهور في الفصل (هذا ) كقوله : هذا وإن للطاغين لشر مآب [ ص: 4338 ] واختيار (ذلك ) هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته . وهو من الاقتضاب القريب من التخلص ، لملاءمة ما بعده لما قبله ، كما هنا : ومن يعظم حرمات الله أي : أحكامه . أو الحرم وما يتعلق بالحج من المناسك . و(الحرمات ) جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه ، بل يحترم شرعا : فهو خير له عند ربه أي : ثوابا . و(خير ) اسم تفضيل حذف متعلقه . أي : من غيره ، أو ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقديره ، قاله الشهاب . والثاني هو الأظهر ، لأنه أسلوب التنزيل في موضع لا يظهر التفاضل فيها . وإيثاره ، مع ذلك ، لرقة لفظه ، وجمعه بين الحسن والروعة : وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم أي : آية تحريمه . وذلك قوله في سورة المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم والمعنى : أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها ، إلا ما استثناه في كتابه . فحافظوا على حدوده . وإياكم أن تحرموا مما أحل لكم شيئا . كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك . وأن تحلوا مما حرم الله . كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك . أفاده الزمخشري .

فاجتنبوا الرجس من الأوثان تفريع على ما سبق من تعظيم حرماته تعالى . فإن ترك الشرك واجتناب الأوثان من أعظم المحافظة على حدوده تعالى . و(من ) بيانية . أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، كما تجتنب الأنجاس . وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها . قال الزمخشري : سمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام ، على طريق التشبيه . يعني أنكم ، كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه ، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة . ونبه على هذا المعنى بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه جعل العلة في اجتنابه أنه رجس ، والرجس مجتنب . وقوله تعالى : واجتنبوا قول الزور تعميم بعد تخصيص . فإن عبادة الأوثان رأس الزور . كأنه لما حث على تعظيم الحرمات ، أتبعه ذلك ، ردا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب . وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك ، [ ص: 4339 ] وإعلاما بأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه ، وصدق القول ، أعظم الحرمات وأسبقها خطوا : حنفاء لله مخلصين له الدين ، منحرفين عن الباطل إلى الحق : غير مشركين به أي : شيئا من الأشياء . ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى ، فقال تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أي : سقط منها فقطعته الطيور في الهواء : أو تهوي به الريح أي : تقدمه : في مكان سحيق أي : بعيد مهلك لمن هوى فيه . و(أو ) للتخيير أو التنويع . قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق . فإن كان تشبيها مركبا ، فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية . بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ، فتفرق مزعا في حواصلها . أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة . وإن كان مفرقا ، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله ، بالساقط من السماء . والأهواء التي تتوزع أفكاره ، بالطير المختطفة . والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة ، بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة . فكتب الناصر عليه : أما على تقدير أن يكون مفرقا فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوي من السماء ، إلى التنبيه على أحد أمرين : إما أن يكون الإشراك المراد ردته ، فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده وإما أن يكون الإشراك أصليا ، فيكون قد عد تمكن المشرك من الإيمان ومن العلو به ثم عدوله عنه اختيارا ، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط ، ولكن كانوا متمكنين منه . وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر ، بالطير المختطفة ، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوي مع الريح في مكان سحيق - نظر . لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين . فإذا جعل الأول مثلا لاختلاف الأهواء [ ص: 4340 ] والأفكار ، والثاني مثلا لنزغ الشيطان فقد جعلهما شيئا واحدا . لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء ، مضاف إلى نزغ الشيطان ، فلا يتحقق التقسيم المقصود . والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك . فنقول : لما انقسمت حال الكفر إلى قسمين لا مزيد عليهما ، الأول منهما : المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة . فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته ، فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر ، وذلك حال المذبذب . لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه . والثاني : مشرك مصمم على معتقد باطل . لو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع . لا سبيل إلى تشكيكه ، ولا مطمع في نقله عما هو عليه ، فهو فرح مبتهج بضلالته .

فهذا مشبه في إقراره على كفره ، باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقر فيه . ويظهر تشبيه بالاستقرار في الوادي السحيق ، الذي هو أبعد الأحباء عن السماء ، وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى : أولئك في ضلال بعيد و : ضلوا ضلالا بعيدا أي : صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين والله أعلم . انتهى كلامه .

ولا يخفى أن في النظم الكريم مساغا له . إلا أنه لا قاطع به . نعم ، هو من بديع الاستنباط ، ورقيق الاستخراج . فرحم الله ناسخه .

قال ابن كثير : وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام . وهو قوله تعالى : قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى الآية .
[ ص: 4341 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[32] ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب .

ذلك ومن يعظم شعائر الله أي : علائم هدايته ، وهو الدين . أو معالم الحج ومناسكه . أو الهدايا خاصة ، لأنها من معالم الحج وشعائره تعالى . كما تنبئ عنه آية : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله وهو الأوفق لما بعده . وتعظيمها أن يختارها عظام الأجرام حسانا سمانا ، غالية الأثمان . ويترك المكاس في شرائها . فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن : الهدي والأضحية والرقبة .

وعن سهل : كنا نسمن الأضحية في المدينة وكان المسلمون يسمنون . رواه البخاري .

وعن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين . رواه البخاري

وعن البراء مرفوعا : « أربع لا تجوز في الأضاحي ، العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ظلعها ، والكسيرة التي لا تنقي » رواه أحمد وأهل السنن فإنها أي : فإن تعظيمها : من تقوى القلوب أي : من أفعال ذوي التقوى . والإضافة إلى القلوب ، لأن التقوى وضدها تنشأ منها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[33] لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق .

لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق أي : لكم في الهدايا منافع درها ونسلها وصوفها وظهرها إلى وقت نحرها . وقد روي في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال : « اركبها » . قال : إنها بدنة قال : « اركبها ويحك . في الثانية أو الثالثة » . وقوله : ثم محلها أي : محل الهدايا وانتهاؤها إلى البيت العتيق وهو الكعبة كما قال تعالى : هديا بالغ الكعبة وقال : والهدي معكوفا أن يبلغ محله

قال في (" الإكليل " ) : فيه أن الهدي لا يذبح إلا بالحرم . وقيل : المعنى : محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت العتيق . فيقتضي أن الحاج بعد طواف الإفاضة . يحل له كل شيء . وكذا روي عن ابن عباس : ما طاف أحد بالبيت إلا حل ، لهذه الآية . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[34] ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين .

ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ ص: 4343 ] أي : شرعنا لكل أمة أن ينسكوا . أي : يذبحوا لوجهه تعالى ، على وجه التقرب . وجعل العلة ، أن يذكر اسمه . تقدست أسماؤه . على النسائك . فـ(منسكا ) مصدر ميمي على أصله . أو بمعنى المفعول . وفي الآية تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعما .

فإلهكم إله واحد فله أسلموا أي : أخلصوا له الذكر خاصة ، لا تشوبوه بإشراك وبشر المخبتين
القول في تأويل قوله تعالى :

[35 - 36] الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون .

الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم أي : خافت لتأثرهم عند ذكره مزيد تأثر : والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها أي : في ذبحها تضحية : خير من المنافع الدينية والدنيوية : فاذكروا اسم الله عليها صواف أي : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن . وعن ابن عباس : قياما على ثلاث قوائم ، معقولة يدها اليسرة . يقول : بسم الله ، والله أكبر ، لا إله إلا الله : اللهم منك ولك . وفي الصحيحين عن ابن عمر ; أنه أتى على رجل قد أناخ [ ص: 4344 ] بدنة وهو ينحرها . فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع ، قال فيه : فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة . جعل يطعنها بحربة في يده ، فإذا وجبت جنوبها أي : سقطت على الأرض ، وهو كناية عن الموت : فكلوا منها وأطعموا القانع أي : السائل : والمعتر أي : المتعرض بغير سؤال . أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال ، والمعتر المتعرض بسؤال وقد استنبط أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء : فيأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويتصدق بثلث .

كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون أي : ذللناها لكم ، لتشكروا إنعامنا ، والشكر صرف العبد ما أنعم عليه ، إلى ما خلق لأجله .
القول في تأويل قوله تعالى :

[37] لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين .

لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم أي : لن يصيب رضاءه لحومها المتصدق بها ، ولا دماؤها المهراقة ، من حيث أنها لحوم ودماء . ولكن بمراعاة النية والإخلاص ، ابتغاء وجهه الأعلى ، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم إلى آخرها : كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم أي : لتعرفوا عظمته فتوحدوه بالعبادة على ما أرشدكم إلى طريق تسخيرها ، وكيفية التقرب بها على لسان أكرم رسله المبعوث بسعادة الدارين . وإنما كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا بما بعده . [ ص: 4345 ] وفي التعليل المذكور شاهد لما قدمناه أولا في معنى قوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فتذكر . وقوله تعالى : وبشر المحسنين أي : المخلصين في أعمالهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[38] إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور .

إن الله يدافع عن الذين آمنوا كلام مستأنف ، مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ، ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم ، بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج ، ليتفرغوا إلى أداء مناسكه . كذا قاله أبو السعود . وسبقه الرازي إليه . والأولى أن يقال : إنه طليعة لما بعده من الإذن بالقتال ، مبشرة بغاية النصرة والحفظ والكلاءة والعاقبة للمؤمنين . تشجيعا لهم على قتال من ظلمهم ، وتشويقا إلى استخلاص بيته الحرام ، ليتسنى لهم إقامة شعائره وأداء مناسكه . وقوله تعالى : إن الله لا يحب كل خوان كفور أي : في أمانة الله : كفور أي : لنعمته بعبادته غيره ، فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم . وصيغة المبالغة فيهما ، لأنه في حق المشركين ، وهم كذلك ولأن خيانة أمانة الله وكفران نعمته لا يكون حقيرا ، بل هو أمر عظيم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[39 - 40] أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .

[ ص: 4346 ] أذن للذين يقاتلون أي : يقاتلهم المشركون . والمأذون فيه محذوف ، لدلالة المذكور عليه . وقرئ بكسر التاء بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله أي : بغير حق سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين ، لا موجب الإخراج والتسيير . ومثله : هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم .

ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا أي : لولا كفه تعالى المشركين بالمسلمين ، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين ، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم ، وعلى متعبداتهم فهدموها .

قال ابن جرير : ومنه كفه تعالى ببعضهم التظالم . كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفه تعالى لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق . ونحو ذلك . وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض . لولا ذلك لتظالموا . فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم ، وما سمى جل ثناؤه . و(الصوامع ) : مباني الرهبانية لخلوتهم . و(البيع ) : معابد النصارى . و(الصلوات ) : روي عن ابن عباس أنه عنى بها كنائس اليهود . سميت بها لأنها محلها . وقيل هي بمعناها الحقيقي . و(هدمت ) : بمعنى عطلت . أو فيه مضاف مقدر : ولينصرن الله من ينصره أي : ينصر دينه وأولياءه .

قال القاضي : وقد أنجز الله وعده ، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم إن الله لقوي عزيز
القول في تأويل قوله تعالى :

[41] الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور .

[ ص: 4347 ] الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور أي : مرجعها إلى حكمه وتقديره . وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم . ثم أشار تعالى إلى تسلية نبيه صلى الله عليه وسلم ، عما يناله من أذى المشركين ، وحاضا له على الصبر على ما يلحقه منهم من التكذيب ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[42 - 44] وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير .

وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وهم قوم هود : وثمود وهم قوم صالح : وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وهم قوم شعيب : وكذب موسى وإنما لم يقل و(قوم موسى ) كسابقه ، لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط . وفيه شيء آخر كأنه قيل ، بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم : وكذب موسى مع وضوح آياته وعظم معجزاته ، فما ظنك بغيره ؟ أفاده الزمخشري .

قال الناصر : ويحتمل عندي ، والله أعلم ، أنه لما صدر الكلام بحكاية تكذيبهم ، ثم عدد أصناف المكذبين وطوائفهم ، ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام ، حسن تكريره ليلي قوله : فأمليت للكافرين فيتصل المسبب بالسبب ، كما قال في آية (ق ) بعد تعديدهم : كل كذب الرسل فحق وعيد فربط العقاب والوعيد ، ووصلهما [ ص: 4348 ] بالتعذيب ، بعد أن جدد ذكره ، والله أعلم .

وإيراد من زعم بأن موسى كذبه قومه بعبادة العجل ، إيراد من لم يفهم معنى التكذيب الذي هو رد دعوة النبي وعدم الإيمان به والإصرار على الكفر بوحيه ، والقيام في وجهه وصد الناس عن اتباعه . وما وقع من قوم موسى هو تخليط ، وخطأ اجتهاد ، وتعنت ولجاج مع الاستظلال بظل دعوته ، والانتظام في سلك إجابته . وقوله تعالى : فأمليت للكافرين أي : أمهلتهم : ثم أخذتهم أي : بالعقوبة : فكيف كان نكير أي : إنكاري عليهم بالإهلاك .
القول في تأويل قوله تعالى :

[45] فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد .

فكأين من قرية أي : فكم من أهالي قرية : أهلكناها أي : بالعذاب : وهي ظالمة أي : مشركة كافرة : فهي خاوية أي : ساقطة : على عروشها أي : سقوفها : وبئر معطلة أي : وكم من بئر متروكة لا يستقى منها ، لهلاك أهلها : وقصر مشيد أي : مرفوع . من (شاد البناء ) : رفعه . أو معناه مطلي ومعمول بالشيد ، بالكسر ، وهو الجص ، أي : مجصص ، أخليناه عن ساكنيه ، ومن شواهد الأول قول عدي بن زيد :


شاده مرمرا وجلله كل سا ، فللطير في ذراه وكور
القول في تأويل قوله تعالى :

[46] أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .

أفلم يسيروا أي : أهل مكة في تجارتهم : في الأرض فتكون لهم أي : بما يشاهدونه من مواد الاعتبار : قلوب يعقلون بها أي : ما يجب أن يعقل من التوحيد : أو آذان يسمعون بها أي : ما يجب أن يسمع من الوحي والتخويف : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور الضمير في (فإنها ) للقصة . أو مبهم يفسره (الأبصار ) . والمعنى : ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى والانهماك في الغفلة . وفائدة ذكر الصدور هو التأكيد مثل : يقولون بأفواههم و : طائر يطير بجناحيه إلا أنه لتقرير معنى الحقيقة ، وهنا لتقرير معنى المجاز .

وقال الزمخشري : الفائدة زيادة التصوير والتعريف وعبارته : الذي قد تعورف واعتقد ; أن العمى على الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها . واستعماله في القلب استعارة ومثل . فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ، ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار . كما تقول : (ليس المضاء للسيف ، ولكنه للسانك الذي بين فكيك ) ، فقولك : (الذي بين فكيك ) تقرير لما ادعيته للسانه ، وتثبيت . لأن محل المضاء هو هو لا غير . وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف . وأثبته للسانك ، فلتة ولا سهوا مني ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا .
[ ص: 4350 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[47] ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .

ويستعجلونك بالعذاب أي : المبين في آية : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ولن يخلف الله وعده أي : فيصيبهم ما أوعدهم به ، ولو بعد حين : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون أي : هو تعالى حليم لا يعجل ، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه ، كيوم واحد عنده ، بالنسبة إلى حلمه . لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه لا يفوته شيء . وإن أنظر وأملى . ولهذا قال بعده :
القول في تأويل قوله تعالى :

[48] وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير .

وكأين من قرية أمليت لها أي : أمهلتها : وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير إلى حكمي مرجع الكل فأجزيهم بأعمالهم . فتأثر هذه الآية ما قبلها صريح في بيان خطئهم في الاستعجال المذكور ، ببيان كمال سعة حلمه تعالى ، وإظهار غاية ضيق عطنهم ، المستتبع لكون المدة القصيرة عنه تعالى ، مددا طوالا عندهم ، حسبما ينطق به قوله تعالى : إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ولذلك يرون مجيئه بعيدا ، ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ، ويجترئون على الاستعجال به ، ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها ، وقوعا وإخبارا ، ما عنده تعالى من المقدار . أفاده ابن كثير وأبو السعود .

https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif


الساعة الآن : 05:35 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 357.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 357.03 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.14%)]