ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 30-12-2024 04:48 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4649 الى صـ 4660
الحلقة (481)





القول في تأويل قوله تعالى:

[214 - 219] وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين .

[ ص: 4648 ] " وأنذر عشيرتك الأقربين أي: الأدنين. وإنه لا يخلص أحدا منه إلا إيمانه بربه عز وجل. وقد قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه: « يا فاطمة ابنة محمد ! يا صفية ابنة عبد المطلب ! لا أملك لكم من الله شيئا. أنقذوا أنفسكم من النار » . وقد بسط الأحاديث الواردة في ذلك، ابن كثير . فراجعه. وقوله تعالى: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين أي: لين جانبك لهم. مستعار من حال الطائر. فإنه إذا أراد أن ينحط خفض جناحه: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم أي: من النوم إلى التهجد: وتقلبك في الساجدين أي: المصلين. أي: تصرفك فيما بينهم بالقيام والركوع والسجود، إذا أممتهم. يعني: يراك وحدك ويراك في الجمع. والتوصيف بذلك للتذكير بالعناية بالصلاة ليلا وجمعا وفرادى. أو معنى الآية: لا يخفى عليه حالك، كلما قمت وتقلبت مع الساجدين، في كفاية أمور الدين. أو هي كناية عن رعايته صلوات الله عليه، والعناية به. كقوله تعالى: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا
القول في تأويل قوله تعالى:

[220 - 222] إنه هو السميع العليم هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين تنـزل على كل أفاك أثيم .

إنه هو السميع العليم أي: لما تقوله وبما تنويه: هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين أي: تتنزل وهو استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله بعد امتناع تنزلهم بالقرآن: تنـزل على كل أفاك أثيم أي: كذاب في قوله، في الكلام من وجه إلى آخر، ولا يبالي بذلك. لأنه أثيم كثير الإثم والفجور في فعله. [ ص: 4649 ] وحيث كان المقام النبوي منزها عن ذلك، اتضح استحالة تنزلهم عليه.

قال القاشاني: لأن تنزلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها، بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والقدر والخيانة وسائر الرذائل. فمن تجرد عن صفات النفس، وترقى إلى جناب القدس، وتنورت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية، وأشرق عقله بالاتصال بالعالم الأعلى، فلا يمكن للشياطين أن يتنزلوا عليه، ولا أن يتلقفوا المعارف والحقائق والشرائع. فإنهم معزولون عن استماع كلام الملكوت الأعلى، مرجومون بشهب الأنوار القدسية. وقوله تعالى: قل هل أنبئكم تقرير لقوله تعالى: وما ينبغي لهم وما يستطيعون لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية، المستمدة من الشياطين بالمناسبة، المستدعية لإلقائهم وتنزلهم بحسب الجنسية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[223 - 226] يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون

يلقون أي: الأفاكون: السمع أي: إلى الشياطين وأوهامهم ووساوسهم: وأكثرهم كاذبون أي: فيما يتكهنون به، وفيما يحكونه عن الشياطين. وقوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مر من بيان أحوالهم المضادة لأحواله عليه الصلاة والسلام.

والمعنى أن الشعراء [ ص: 4650 ] الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنه يتبعهم: أي: يجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن، لا غيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه. قاله أبو السعود.

وقوله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون، وتقرير له. أي: ألم تر أنهم في كل واد من أودية الخيال يهيمون على وجوههم، لا يقفون عند حد معين، بل يركبون للباطل والكذب وفضول القول كل مركب. ديدنهم الهجاء، وتمزيق الأعراض، والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار. ومدح من لا يستحق المدح، والغلو في الثناء والهجاء.

لطيفة:

في ذكر الوادي والهيام، تمثيل لذهابهم في شعب القول وفنونه وطرقه وشجونه. قال ابن الأثير: استعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها. وإنما خص الأودية بالاستعارة، ولم يستعر الطرق والمسالك، أو ما جرى مجراها -لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والروية، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض. فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق.

وأنهم يقولون ما لا يفعلون أي: مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم. أي: فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك، ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم، من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة، واتصف بمحاسن الصفات [ ص: 4651 ] الجليلة، وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة، وحاز جميع الكمالات القدسية، وفاز بجملة الملكات الأنسية، مستقرا على المنهاج القويم، مستمرا على الصراط المستقيم، ناطقا بكل أمر رشيد، داعيا إلى صراط العزيز الحميد، مؤيدا بمعجزات قاهرة، وآيات ظاهرة، مشحونة بفنون الحكم الباهرة، وصنوف المعارف الزاهرة، مستقلة بنظم رائق، أعجز كل منطيق ماهر، وبكت كل مفلق ساحر! قاله أبو السعود.

تنبيه:

قال الحافظ ابن كثير : اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا. هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا ؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون -على قولين: وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في (الطبقات) والزبير بن بكار في كتاب (الفكاهة) أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان، من أرض البصرة. وكان يقول الشعر، فقال:


ألا هل أتى الحسناء أن خليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية
ورقاصة تحثو على كل مبسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه
تنادمنا بالجوسق المتهدم


فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: إي والله! إنه ليسوؤني بذلك. ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر : (بسم الله الرحمن الرحيم: حم تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير أما بعد فقد بلغني قولك:


لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم


[ ص: 4652 ] وايم الله! إنه ليسوؤني ذلك. وقد عزلتك).

فلما قدم على عمر . بكته بهذا الشعر. وقال: والله! يا أمير المؤمنين ! ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر : أظن ذلك. ولكن، والله! لا تعمل لي عملا أبدا، وقد قلت ما قلت.

فلم يذكر أنه حده على الشراب، وقد ضمنه شعره. لأنهم يقولون ما لا يفعلون. ولكن ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به.

وحكى الزمخشري عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:


فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام


فقال: وقد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين ! قد درأ الله عني الحد بقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون

ثم استثنى تعالى الشعراء المؤمنين الصالحين، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[227] إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا أي: في شعرهم، بأن كان غالبه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والآداب الحسنة: وانتصروا أي: بشعرهم على عدوهم بأن هجوه: من بعد ما ظلموا أي: فكان هجاؤهم على سبيل [ ص: 4653 ] الانتصار ممن يهجوهم، جزاء وفاقا. قال الله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وقال تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم

قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : « اهجهم، أو قال هاجهم، وجبريل معك » ويروي الإمام أحمد عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أنزل في الشعر ما قد علمت، وكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده! لكأن ما ترمونهم به نضح النبل » .

تنبيهات:

الأول: قال في (الإكليل): في قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون الآية، ذم الشعر، والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه، وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم، انتصارا. انتهى.

وحكى الزمخشري عن عمرو بن عبيد، أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر. فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، محسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام.

الثاني: ذكر ابن إسحاق أنه لما نزلت: والشعراء يتبعهم الغاوون جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون. قالوا: قد علم الله حين أنزل [ ص: 4654 ] هذه الآية أنا شعراء. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال: أنتم.

قال ابن كثير : لكن هذه السورة مكية، فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات في شعراء الأنصار؟ وفي ذلك نظر. ولم يرو فيه إلا مرسلات لا يعتمد عليها. والله أعلم. ولكن الاستثناء دخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم، حتى يدخل فيه من كان متلبسا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله، ثم تاب وأناب ورجع وأقلع، وعمل صالحا، وذكر الله كثيرا، في مقابلة ما تقدم من الكلام السيئ. فإن الحسنات يذهبن السيئات. وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه. كما قال: عبد الله بن الزبعرى، لما أسلم:


يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت، إذ أنا بور إذ أجاري الشيطان في سنن الغي
ومن مال ميله مثبور


وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم فهو ابن عمه وأكثرهم له هجوا. فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقوله تعالى: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون تهديد شديد ووعيد أكيد، لما في "سيعلم" من تهويل متعلقه. وفي "الذين ظلموا" من إطلاقه وتعميمه. وفي "أي منقلب ينقلبون" من إبهامه وتهويله. كأنه لا يمكن معرفته، وقد رأوا ما حاق بهم في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
بسم الله الرحمن الرحيم

27- سُورَةُ النَّمْلِ


قال المهايمي: سميت بها، لاشتمالها على مقالتها، الدالة على علم الحيوان بنزاهة الأنبياء وأتباعهم، عن ارتكاب المكاره عمدا، وهو مما يوجب الثقة بهم. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية وآياتها ثلاث وتسعون.

[ ص: 4656 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1 - 3] طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون

طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين الإشارة إلى نفس السورة. والقرآن عبارة عن الكل أو عن الجميع المنزل. أي: تلك السورة آيات القرآن الذي عرف بعلو الشأن. وآيات كتاب عظيم المقدار، مبين لما تضمنه من الحكم والأحكام والمواعظ والاعتبار هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أي: هو هدى من الضلالة، وبشرى برحمة الله ورضوانه، لمن آمن وعمل صالحا من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأيقن بالآخرة، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.

لطيفة:

تكرير الضمير لإفادة الحصر والاختصاص على ما في (الكشاف).

ولصاحب (الانتصاف) وجه آخر قال: لما كان أصل الكلام، وهم يوقنون بالآخرة، ثم قدم المجرور على عامله، عناية به، فوقع فاصلا بين المبتدأ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره، وقد حال المجرور بينهما، فطرى ذكره ليليه الخبر، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور حيث بقي على حاله مقدما: ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها، بعد ما يوجب التطرية. فأقرب منها أن الشاعر قال:


سل ذو وعجل ذا وألحقنا بذا الشحم، إنا قد مللناه بخل


[ ص: 4657 ] والأصل (وألحقنا بذا الشحم) فوقع منتصف الرجز أو منتهاه (على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل) عند اللام. وبنى الشاعر على أنه لا بد، عند المنتصف أو المنتهى، من وقيفة ما. فقدر بتلك الوقفة بعدا بين المعرف وآلة التعريف. فطراها ثانية. فهذه التطرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرر ولا كلمة واحدة، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير.

ثم قال: فتأمل هذا الفصل فإنه جدير بالتأمل. والله أعلم.

ثم تأثر أحوال المؤمنين بأحوال الكفرة، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[4 - 8] إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين

إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أي: مددنا لهم في غيهم، فهم يتيهون في ضلالهم. وكان هذا جزاء على ما كذبوه به من الدار الآخرة والجزاء على الأعمال كما قال تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون أي: أشد الناس [ ص: 4658 ] خسرانا للنجاة وثواب الله وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم أي: لتؤتاه وتلقنه من عند حكيم في أمره ونهيه، عليم بالأمور جليها وخفيها. فخبره هو الصدق المحض والحكمة البالغة، كما قال: وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا والجملة مستأنفة، سيقت بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم، تمهيدا لما يعقبه من الأنباء الجليلة. وقد بدأ منها بما كان من أمر موسى عليه السلام واصطفائه وإيتائه من الآيات الباهرة ما أذل معانديه، وجعلهم مثل السوء. فقال سبحانه: إذ قال موسى لأهله أي: حين قفل من مدين إلى مصر، وأضل الطريق: إني آنست نارا أي: رأيتها: سآتيكم منها بخبر أي: عن الطريق: أو آتيكم بشهاب قبس أي: بشعلة مقتبسة: لعلكم تصطلون أي: تتدفئون به: فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها أي: بورك من في مكان النار ومن حول مكانها. ومكانها البقعة التي حصلت فيها. وتدل عليه قراءة أبي: (تباركت الأرض ومن حولها)، وعنه: بوركت النار. والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها، حدوث أمر ديني فيها، وهو تكليم الله موسى، واستنباؤه له، وإظهار المعجزات عليه. ورب خير يتجدد في بعض البقاع، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ويبث آثار يمنه في أباعدها. فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى فـ تلك البقعة المباركة؟ كذا في (الكشاف).

وقال السمين: (بارك) يتعدى بنفسه. فلذلك بني للمفعول: باركك الله، وبارك عليك، وبارك فيك وبارك لك. والمراد بـ(من) إما الباري تعالى وهو على حذف مضاف، أي: من قدرته وسلطانه في النار. وقيل المراد به موسى والملائكة. وكذلك قوله: ومن حولها وقيل المراد بـ(من) غير العقلاء. وهو النور والأمكنة التي حولها. انتهى.

ولذا قال الزمخشري : والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي [ ص: 4659 ] وحواليهما من أرض الشام. قال: ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله: ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين وحقت أن تكون كذلك. فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي إليهم، وكفاتهم أحياء وأمواتا.

ثم قال: ومعنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه، هي بشارة له بأنه قد مضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة. انتهى.

وقال القرطبي : هذا تحية من الله تعالى لموسى، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: "رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت".

وعن ابن عباس : لم تكن تلك النار نارا، وإنما كانت نورا يتوهج. وعنه: هي نور رب العالمين.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور أو النار. لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره » ثم قرأ أبو عبيدة : أن بورك من في النار ومن حولها

قال ابن كثير : وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة : وسبحان الله رب العالمين أي: الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات. قاله ابن كثير .

وقد أفاد أن المقام اقتضى التنزيه، دفعا لإيهام ما لا يليق من التشبيه. ثم إن موسى عليه السلام، أعلمه تعالى بأنه هو الذي يكلمه ويناجيه، لا ملك ولا خلق آخر، بل ذاته العلية المستحقة للألوهية والنعوت القدسية، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:


ابوالوليد المسلم 30-12-2024 05:00 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النَّمْلِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4661 الى صـ 4672
الحلقة (482)






[9 - 12] يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين

يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وفي إيثار هذه الأسماء الجليلة سر بديع. وهو الإشارة الجملية إلى روح إرساله عليه السلام. أي: أنا الله لا تلك المعبودات التي عكف عليها قوم فرعون، العزيز الغالب القاهر لكل عات متمرد، الحكيم في البعثة والإرسال، والتفضل والإفضال. ثم أمره تعالى أن يلقي عصاه من يده ليريه دليلا واضحا على أنه القادر على كل شيء، بقوله: وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان هو ضرب من الحيات، أسرعه حركة وأكثره اضطرابا: ولى أي: من الخوف: مدبرا ولم يعقب أي: لم يرجع على عقبه من شدة خوفه: يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون أي: لحفظي لهم وعنايتي بهم وعصمتي إياهم مما يؤذيهم. وفيه تبشير له باصطفائه بالرسالة والنبوة. وتشجيع له بنزع الخوف. إذ لا يتمكن من أداء الرسالة، ما لم يزل خوفه من المرسل إليه. وقوله تعالى: إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم استثناء منقطع. استدرك به ما عسى يختلج في الخلد من نفي الخوف عن كلهم. مع أن منهم من فرطت منه صغيرة ما، مما يجوز صدوره عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإنهم وإن صدر عنهم شيء من ذلك، فقد فعلوا عقيبه ما يبطله، ويستحقون به من الله تعالى مغفرة ورحمة. وقد قصد به التعريض بما وقع من [ ص: 4661 ] موسى عليه الصلاة والسلام، من وكزه القبطي والاستغفار. قاله أبو السعود. وسبقه الزمخشري حيث قال: يوشك أن يقصد بهذا، التعريض بما وجد من موسى. وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها، وسماه ظلما كما قال موسى: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ثم أشار تعالى إلى آية خارقة غير العصا، آتاه إياها، بقوله: وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء أي: آفة كبرص: في تسع آيات أي: غيرها تؤتاها، إذا جحد فرعون رسالتك. وهي ضرب ماء النهر بالعصا فينقلب دما. وإصعاد الضفادع على أرض مصر. وضرب التراب فتمتلئ الأرض قملا. وإرسال الجراد عليهم. والوباء الشديد. وإصابة أجسادهم بالقروح والدمامل والبثور. وإهلاك حصادهم بالبرد الشديد. وتغشيتهم بظلام كثيف، على ما روي، وفي: "تسع" أوجه: أحدها أنها حال ثالثة. أي: تخرج آية في تسع آيات. والثاني أنها متعلقة بمحذوف، أي: اذهب في تسع. والثالث أن يتعلق بقوله: وألق عصاك وأدخل يدك أي: في جملة تسع آيات. و(في) بمعنى: (مع): إلى فرعون أي: مرسلا بها إلى فرعون: وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين أي: خارجين عن الحدود، في الكفر والعدوان. وهذا تعليل للإرسال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[13 - 16] فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ ص: 4662 ] وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين

فلما جاءتهم آياتنا مبصرة أي: ظاهرة بينة: قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها أي: كذبوا بها بألسنتهم: واستيقنتها أنفسهم أي: عرفت أنفسهم أنها آيات يقينا، لا سيما عند إلقاء السحرة ساجدين: ظلما أي: للآيات، بتسميتها سحرا كقوله: بما كانوا بآياتنا يظلمون ولقد ظلموا بها: وعلوا أي: تكبرا عن الانقياد لموسى: فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي: من إهلاكهم بالإغراق، لغرقهم في بحر الفساد والإفساد: ولقد آتينا داود وسليمان علما أي: بالقضاء بين الناس، وحكمة باهرة: وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود أي: العلم والحكمة والنبوة أو الملك: وقال أي: تحدثا بنعمة الله وتنويها بمنته: يا أيها الناس علمنا منطق الطير أي: فهم صوته: وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين أي: البين الظاهر. وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » أي: أقول هذا القول شكرا، ولا أقوله فخرا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[17 - 25] وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون [ ص: 4663 ] فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون

وحشر لسليمان جنوده أي: جمع له عساكره: من الجن والإنس والطير فهم يوزعون أي: يحبسهم أولهم على آخرهم ليتلاحقوا: حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة أي: رأتهم متوجهين إلى واديها: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون أي: بمكانهم: فتبسم ضاحكا من قولها أي: تعجبا من حذرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها. وسرورا بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة، فيما بين أصناف المخلوقات، التي هي أبعدها من إدراك أمثال هذه [ ص: 4664 ] الأمور، وابتهاجا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم مرادها. قاله أبو السعود: وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي أي ألهمني شكرها: وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين أي: بحجة تبين عذره: فمكث غير بعيد أي: فلبث في الغيبة أمدا غير طويل: فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ وهي مدينة: بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم أي: سرير تجلس عليه، هائل مزخرف بأنواع الجواهر: وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا أي: هلا يسجدوا. كما قرأ بذلك. وجوز بعضهم أن يكون معمولا لما قبله. أي: فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، فحذف الجار مع (أن) أو تكون (لا) مزيدة، والمعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا: لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض أي: يظهر ما هو مخبوء فيهما من نبات ومعادن وغيرهما: ويعلم ما تخفون وما تعلنون قرئ بالتاء والياء على صيغة الغيبة. والجملة التحضيضية إما مستأنفة من كلامه تعالى، أو محكية عن قول الهدهد. واستظهر الزمخشري الثاني. قال: لأن في إخراج الخبء أمارة على أنه من كلام الهدهد، لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض. وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض، جلت قدرته ولطف علمه. ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة النظار بنور الله، مخايل كل مختص بصناعة أو فن أو من العلم، في روائه ومنطقه وشمائله.
[ ص: 4665 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[26] الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم

الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم أي: المحيط بالشمس وسائر الكواكب وكل شيء. فما أصغر عرشها في جنب عظمته! وما أضعف معبودها -الشمس- في جانب قدرته!.

تنبيه:

هذه السجدة من عزائم السجدات. قال الزمخشري : لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها. وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[27 - 32] قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون

قال أي: سليمان: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم أي: حسن مضمونه وما فيه: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين أي: لا تتكبروا علي، وأتوني منقادين لأمري: قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون أي: لا أبت [ ص: 4666 ] أمرا إلا بمحضركم ومشورتكم. ولا أستبد بقضاء إلا باستطلاع آرائكم والرجوع إلى استشارتكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[33 - 35] قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون .

قالوا نحن أولو قوة أي: في العدد والعدد: وأولو بأس شديد أي: نجدة وبلاء في الحرب: والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين أي: وأمر القتال أو الصلح مفوض إلى رأيك. فانظري ما هو أبقى لشرفك وملكك: قالت أي: مشيرة إلى اختيار خطة المسالمة وإيثارها، بالنظر لحالتها ومركزها وضعفها أمام عدوها، بأن القتال إنما يؤثر إذا لم يغلب على الظن دخول العدو في قرية العدو. وألا تعين الانقياد. وذلك معنى قولها: إن الملوك إذا دخلوا قرية أي: عنوة وقهرا: أفسدوها أي: أخربوها: وجعلوا أعزة أهلها أذلة أي: بالقهر والغلبة والقتل والأسر ونهب الأموال: وكذلك يفعلون تأكيد لما وصفت من حالهم، وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة. وقيل تصديق لها منه تعالى: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون أي: وإني سأرسل إلى سليمان وملئه رسلا بهدية توجب المحبة وتشبه الانقياد. من غير اختلال لشرفنا. ثم أنتظر بأي أمر يرجع المرسلون منه، حتى أعمل على حسب ذلك.
[ ص: 4667 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[36 - 40] فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم

فلما جاء سليمان أي: المرسلون منها: قال أتمدونن بمال فما آتاني الله أي: من الملك والحكمة والنبوة: خير مما آتاكم أي: فلا أبالي بجميع ما عندكم فضلا عن الهدية: بل أنتم بهديتكم تفرحون أي: إذا أهدي إليكم مثلها، أو أهديتم مثلها، تفرحون استكثارا أو افتخارا: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون أي: مهانون: قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك [ ص: 4668 ] وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر أي: ليختبرني أأشكر بالطاعة والعمل بالشريعة، أم أكفر بالمعصية والمخالفة. وقوله تعالى: ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم كقوله: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وكقوله: ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون
القول في تأويل قوله تعالى:

[41 - 42] قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين

قال نكروا لها عرشها أي: اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل للناس: ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون أي: لمعرفته: فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو قال المهايمي: لم تقل: (هو هو) خوفا من التكذيب، مع نوع من التغيير. ولا (لا) خوفا من التجهيل.

وقال الزمخشري : لم تقل: (هو هو) ولا (ليس به) وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتم. أي: فأتت بـ(كأن) الدالة على غلبة الظن.

قال الشهاب: وهذا إشارة إلى أن (كأن) ليس المراد بها هنا التشبيه بل الشك وهو مشهور فيها.

وقد أبدى صاحب (الانتصاف) فرقا بين (كأن) و(هكذا) في التشبيه. وعبارته: [ ص: 4669 ] وفي قولها: (كأنه هو) وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال بأن تقول: (هكذا هو) نكتة حسنة. ولعل قائلا يقول: كلتا العبارتين تشبيه. إذ كان التشبيه فيهما جميعا، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الإشارة، وفي الأخرى داخلة على المضمر، وكلاهما (أعني: اسم الإشارة والمضمر) واقع على الذات المشبهة. وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى. ويفضل قولها: هكذا هو بمطابقته للسؤال. فلا بد في اختيار: "كأنه هو" من حكمة. فنقول: حكمته، والله أعلم، أن: "كأنه هو" عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين. فكاد يقول: (هو هو) وتلك حال بلقيس. وأما (هكذا هو) فعبارة جازم بتغاير الأمرين، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير. فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة، لمطابقتها لحالها، والله أعلم. انتهى.

وقوله تعالى: وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام، شكرا لله على فضلهم عليها، وسبقهم إلى العلم بالله وبالإسلام. أي: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته، وبصحة ما جاء من عنده، قبل علمها الذي أومأ إليه قولها: "كأنه هو" والجملة عطف على مقدر اقتضاه المقام المقتضي، للإفاضة في وصفها برجاحة الرأي في الهداية للإسلام. والتقدير: أصابت في جوابها وقد رزقت الإسلام، وعلمت قدرة الله. وأوتينا العلم إلخ. وقيل إنه من كلام بلقيس، موصولا بقولها: "كأنه هو"، لا من كلام سليمان، كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها، فقالت: أوتينا العلم إلخ. أي: لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل. وهذا يدل على كمال عقلها.

أو المعنى: علمنا إتيانك بالعرش قبل الرؤية، أو هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار.

قال ابن كثير : ويؤيد الأول، أي: أنه من كلام سليمان، أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح، كما سيأتي، والله أعلم. وقوله تعالى:
[ ص: 4670 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[43 - 44] وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين

وصدها أي: وكان صدها عن الهداية: ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح أي: القصر، أو صحن الدار وكان سليمان عليه السلام اتخذ قصرا بديعا من زجاج، فأراد أن يريها منه عظمة ملكه وسلطانه، ومقدار ما آثره الله به: فلما رأته أي: صحنه: حسبته لجة أي: ماء عظيما: وكشفت أي: للخوض فيه: عن ساقيها قال إنه صرح ممرد أي: مملس: من قوارير أي: من الزجاج : قالت رب إني ظلمت نفسي أي: بكفرها السالف وعبادتها وقومها الشمس: وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين أي: متابعة له في دينه وعبادته لله وحده لا شريك له.

تنبيهات:

الأول: روى كثير من المفسرين ههنا أقاصيص لم تصح سندا ولا مخبرا. وما هذا سبيله، فلا يسوغ نقله وروايته.

قال الحافظ ابن كثير ، بعد أن ساق ما رواه ابن أبي شيبة عن عطاء مستحسنا له، ما مثاله: قلت: بل هو منكر غريب جدا. ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم.

ثم قال: والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم. كروايات كعب ووهب ، سامحهما الله تعالى، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب. مما كان ومما لم يكن. ومما حرف وبدل ونسخ.

[ ص: 4671 ] وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ، ولله الحمد والمنة.

الثاني: أشير في (التوراة) في الفصل الرابع من سفر الملوك الثالث إلى تفصيل نبأ سليمان عليه السلام وعظمة ملكه وسلطانه. ومما جاء فيه أن سليمان كان متسلطا على جميع الممالك من نهر الفرات إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر. وإن ملوك الأطراف كانوا يحملون له الهدايا خاضعين له كل أيام حياته أي: أنها تؤدي له الجزية، وإن كان محصورا في فلسطين. وأن الله تعالى آتاه حكمة وفهما ذكيا جدا، وسعة صدر. ففاقت حكمته حكمة جميع أهل المشرق وأهل مصر. وقال ثلاثة آلاف مثل. وتكلم. في الشجر، من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط. وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك. وأما صرحه وبيته عليه السلام، فقد جاء وصفه في الفصل الخامس من السفر المتقدم. وأنه أكمل بناءه في ثلاث عشرة سنة. وأنه بنى جازر وبيت حورون السفلى وبعلت وتدمر في أرض البرية. وجاء في الفصل العاشر من هذا السفر أيضا قصة ملكة سبأ ومقدمها من اليمن على سليمان لتخبر حكمته وعظمة ملكه، ودهشتها مما رأته وتحققته، وإيمانها بربه تعالى. ثم إعطاؤه إياها بغيتها. ثم انصرافها إلى أرضها.

وقد ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم لا يسوق أنباء ما تقدم سوق مؤرخ، بل يقصها موجزة ليتحقق أنه مصداق ما بين يديه، ومهيمن عليه، ولينبه على أن القصد منها موضع العبرة والحكمة. ومثار التبصر والفطنة.

الثالث: مما استنبط من آيات هذه القصة الجليلة، أن في قوله تعالى: فتبسم ضاحكا من قولها أنه لا بأس بالتبسم والضحك عن التعجب وغيره. وفي قوله تعالى: وتفقد الطير استحباب تفقد الملك أحوال رعيته. وأخذ منه بعضهم تفقد الإخوان، فأنشد:


تفقد الإخوان مستحسن فمن بداه نعم ما قد بدا سن سليمان لنا سنة
وكان فيما سنه مقتدى تفقد الطير على ملكه
فقال: ما لي لا أر الهدهدا


[ ص: 4672 ] وأن في قوله تعالى: لأعذبنه عذابا شديدا الآية، دليلا على أن العذاب على قدر الذنب، لا على قدر الجسد. وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك. وأن في قوله تعالى: فقال أحطت بما لم تحط به أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع: عندي من العلم ما ليس عندك، إذا تحقق ذلك. وأن في قوله تعالى: قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين قبول الوالي عذر رعيته، ودرءه العقوبة عنهم، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به. وأن في قوله تعالى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم إرسال الطير بالكتب. وأن في قوله تعالى: كتاب كريم استحباب ختم الكتب، لقول السدي : كريم بمعنى مختوم. وأن في قوله تعالى: قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة. وأن في قوله تعالى: أتمدونن بمال الآية، استحباب رد هدايا المشركين. كذا في (الإكليل) بزيادة.

ثم أخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[45 - 47] ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون



ابوالوليد المسلم 30-12-2024 05:06 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النَّمْلِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4672 الى صـ 4682
الحلقة (483)




[ ص: 4672 ] وأن في قوله تعالى: لأعذبنه عذابا شديدا الآية، دليلا على أن العذاب على قدر الذنب، لا على قدر الجسد. وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك. وأن في قوله تعالى: فقال أحطت بما لم تحط به أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع: عندي من العلم ما ليس عندك، إذا تحقق ذلك. وأن في قوله تعالى: قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين قبول الوالي عذر رعيته، ودرءه العقوبة عنهم، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به. وأن في قوله تعالى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم إرسال الطير بالكتب. وأن في قوله تعالى: كتاب كريم استحباب ختم الكتب، لقول السدي : كريم بمعنى مختوم. وأن في قوله تعالى: قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة. وأن في قوله تعالى: أتمدونن بمال الآية، استحباب رد هدايا المشركين. كذا في (الإكليل) بزيادة.

ثم أخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[45 - 47] ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون

ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون [ ص: 4673 ] أي: فريق مؤمن وفريق كافر. يختصمون خصومة لا يرجع فيها المبطل إلى الحق بعد ما تبين له. كقوله تعالى: قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة أي: بالعقوبة السيئة قبل التوبة الحسنة. أي: لم تدعون بحضور العقوبة ولا تطلبون من الله رحمته بالإيمان: لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا أي: تطيرنا أي: تشاءمنا: بك وبمن معك أي: من المؤمنين. وقد كانوا، لشقائهم، إذا أصيبوا بسوء قالوا: هذا من قبل صالح وصحبه: قال طائركم عند الله أي: سبيلكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عن الله. وهو قدره وقسمته، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. قاله الزمخشري .

قال الشهاب: لما كان المسافر من العرب إذا خرج مر به طائر سانحا، وهو ما وليه بميسرته، أو بارحا وهو ما وليه بميمنته - تيمنوا بالأول وتشاءموا بالثاني. ونسبوا الخير والشر إلى الطائر. ثم استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته. أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنقمة. ومنه طائر الله، لا طائرك: بل أنتم قوم تفتنون أي: مفتونون بضلالكم وكفركم. لا ترون حسنا إلا ما يوافق هواكم، ولا شؤما إلا يخالفه. ثم أخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤسائهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر، وتكذيب صالح عليه السلام، وما آل بهم الأمر، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[48 - 52] وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون [ ص: 4674 ] قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون

وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون أي: شأنهم وعادتهم الإفساد، كما يفيده المضارع وتأكيده بقوله: "في الأرض" الدال على عموم فسادهم. وهو صفة (رهط) أو (تسعة): قالوا تقاسموا بالله أي: ليحلف كل واحد منكم على موافقة الآخرين، بالله الذي هو أعظم المعبودين: لنبيتنه أي: لنقتلنه ليلا. قرئ بالتاء على خطاب بعضهم لبعض: وأهله أي: من آمن معه ثم لنقولن لوليه أي: الطالب ثأره علينا: ما شهدنا مهلك أهله أي: ما حضرنا مكان هلاك الأهل، مع تفرقهم في الأماكن الكثيرة، فضلا عن مكانه، فضلا عن مباشرته: وإنا لصادقون أي: ونحلف إنا لصادقون. أو: والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا: ومكروا مكرا أي: بهذه الحيلة: ومكرنا مكرا أي: بأن جعلناهم سببا لإهلاكهم: وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية أي: خالية ساقطة. لم تعمر بعدهم لأنهم استؤصلوا: بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون أي: بأنهم ما أخذوا إلا لظلمهم. وإن عاقبة الظلم الدمار والبوار.
القول في تأويل قوله تعالى:

[53 - 59] وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون [ ص: 4675 ] أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون

وأنجينا الذين آمنوا يعني صالحا عليه السلام ومن معه: وكانوا يتقون ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أي: قبحها ومضادتها لحكمه تعالى وحكمته: أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء أي: متجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة: بل أنتم قوم تجهلون أي: تفعلون فعل الجاهلين سفها وعمى عن العاقبة: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون أي: يتنزهون عن أفعالنا ويرونها رجسا. قالوه استهزاء: فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين أي: الباقين في العذاب: وأمطرنا عليهم مطرا أي: هائلا غير معهود: فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون قال الزمخشري : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته. وأن يستفتح بتحميده، والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما، على قبول ما يلقى إلى السامعين، وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب. فحمدوا الله عز وجل، وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمام [ ص: 4676 ] كل علم مفاد، وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة. وتبعهم المترسلون. فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم. والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين.

ثم قال: معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم. وذلك أنه آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله. ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء، إلا لداع يدعوه إلى إيثاره، من زيادة خير ومنفعة. فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير، ولكن هوى وعبثا، لينبهوا على الخطأ المفرط، والجهل المورط. وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول. وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته.

ثم عدد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عددها في موضع آخر. ثم قال: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء

لطيفة:

قال ابن القيم في (طريق الهجرتين) في هذه الآية: كلمة (السلام) هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية، وهي: (الحمد لله)، ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا. وعلى هذا، فيكون الوقف على الجملة الأخيرة، ويكون محلها النصب محكية بالقول.

ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب. وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.

[ ص: 4677 ] وهذا التقدير أرجح، وعليه يكون السلام من الله عليهم. وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله صلى الله عليهم وسلم.

وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم.

ولكن يقال على هذا: كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما. فلا يحسن أن يقول: قم وذهب زيد، ولا اخرج وقعد عمرو .

ويجاب على هذا بأن جملة الطلب، قد حكيت بجملة خبرية، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه. وهذا نظير قوله تعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

فقوله: وما تغني الآيات ليس معطوفا بالقول وهو انظروا بل معطوف على الجملة الكبرى.

على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى: قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون وقوله: وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين

والمقصود أنه على هذا القول، يكون الله سبحانه قد سلم على المصطفين من عباده، والرسل أفضلهم. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[60 - 63] أمن خلق السماوات والأرض وأنـزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ ص: 4678 ] أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون

أمن خلق السماوات والأرض إضراب وانتقال، من التبكيت تعريضا، إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد. أي: بل من خلق السماوات والأرض، وأودع فيهما من المنافع ما لا يحصى: وأنـزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة أي: بساتين ذات حسن ورونق يبهج النظار: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله أي: أإله آخر كائن مع الله، الذي ذكر بعض أفعاله، التي لا يكاد يقدر عليها غيره، حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة؟ وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركون به تعالى، في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية، بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد. قال أبو السعود: بل هم قوم يعدلون أي: عن طريق الحق. أو به تعالى غيره أمن جعل الأرض قرارا أي: قارة لا تنكفئ بمن عليها. أو مستقرا لمن عليها، يتمتعون بمنافعها: وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أي: برزخا مانعا من الممازجة: أإله مع الله أي: في الوجود، أو في إبداع هذه البدائع: بل أكثرهم لا يعلمون أي: شيئا من الأشياء. ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك، مع كمال ظهوره: أمن يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر، إلى اللجأ والتضرع إلى الله تعالى، اسم مفعول من (الاضطرار) الذي هو افتعال من [ ص: 4679 ] (الضرورة) وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ أي: الالتجاء والاستناد.

قال ابن كثير : ينبه تعالى أنه المدعو عند الشدائد، الموجود عند النوازل، كما قال تعالى: وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه

وقال تعالى: ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون وهكذا قال هاهنا: أمن يجيب المضطر إذا دعاه أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟.

وقال ابن القيم في (الجواب الكافي): إذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف انكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا ورقة، ثم توسل إليه تعالى بأسمائه وصفاته وتوحيده، فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا. ولا سيما إن صادف الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم. ثم ساقها ابن القيم مسندة.

ثم قال: وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله. أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته. أو صادف الدعاء وقت إجابة، ونحو ذلك، فأجيبت دعوته. فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي. فانتفع به. فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده، كاف في حصول المطلوب، كان غالطا. وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس. ومن هذا قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب. فيظن الجاهل أن السر للقبر ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله. فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله، كان أفضل وأحب إلى الله. انتهى.

وقوله تعالى: ويكشف السوء أي: كل ما هو يسوء مما يضطر فيه وغيره: ويجعلكم خلفاء الأرض أي: خلفاء فيها. وذلك توارثهم سكانها، والتصرف فيها قرنا بعد قرن [ ص: 4680 ] أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. قاله الزمخشري أإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر أي: بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض، إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر: ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وهي المطر: أإله مع الله تعالى الله عما يشركون
القول في تأويل قوله تعالى:

[64 - 65] أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون

أمن يبدأ الخلق ثم يعيده أي: بعد الموت بالبعث. فإن قيل: هم منكرون للإعادة، فكيف خوطبوا بها خطاب المعترف؟ أجيب بأنها لظهورها ووضوح براهينها، جعلوا كأنهم معترفون بها، لتمكنهم من معرفتها -فلم يبق لهم عذر في الإنكار. فلا حاجة إلى القول بأن منهم من اعترف بها، فالكلام بالنسبة إليه: ومن يرزقكم من السماء والأرض أي: مما ينزله من مائها وما يخرجه من نباتها: أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت. أي: هاتوا برهانا عقليا أو نقليا، يدل على أن معه تعالى إلها. لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله تعالى، فإنهم لا يدعونه صريحا. وفي إضافة (البرهان) إلى ضميرهم، تهكم بهم. لما فيها من إيهام أن لهم برهانا. وأنى لهم ذلك؟ قاله أبو السعود: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله أي: فإنه المتفرد بذلك وحده، كما قال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو في آيات [ ص: 4681 ] لا تحصى. والاستثناء منقطع، لاستحالة أن يكون تعالى ممن في السماء والأرض، أو متصل، على أن المراد ممن في السماوات والأرض، من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها مجازا مرسلا أو استعارة. فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه: وما يشعرون أيان يبعثون أي: متى ينشرون.
القول في تأويل قوله تعالى:

[66] بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون

بل ادارك علمهم في الآخرة قال السمين: فيه وجهان: أحدهما: أن في على بابها، وادارك وإن كان ماضيا لفظا، فهو مستقبل معنى، لأنه كائن قطعا. كقوله: أتى أمر الله

وعلى هذا فـ(في) متعلق بـ(ادارك).

والثاني: أن (في) بمعنى الباء. أي: بالآخرة.

وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم. كقولك: (علمي بزيد كذا)، انتهى.

والوجه الثاني على الاستفهام. أي: بل هل ادارك علمهم فيها، أي: بلغ وانتهى؟ كلا. وقد قرئ: (بل اءدرك) بهمزتين، (بل آءدرك) بألف بينهما، (أم أدرك) و(أم تدارك).

قال الرازي: وهي (أم) التي بمعنى (بل) والهمزة. فالمعنى على الاستفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم بها، وأنهم لم يبرحوا في حضيض الجهالة بحقيتها، مع ما يتلى عليهم من أدلة ثبوتها.

وقد جنح إلى الكلام على تقدير الاستفهام، السيوطي والمهايمي. وذهب غيرهما إلى إبقاء (بل) على أصلها من الإضراب الانتقالي. وقرروه بما فيه خفاء ودقة ويبعده ما ذكرنا [ ص: 4682 ] من القراءات الصريحة في الاستفهام. وهي مما يرجع إليها إذا اشتبه المقام. كما تقرر في قواعد التفسير: بل هم في شك منها أي: مرية، مع تقرير ما يزيله ويكشف غشاوته: بل هم منها عمون أي: في عماية وجهل كبير.

قال الزمخشري : فإن قلت: هذه الاضطرابات الثلاثة ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث. ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة. ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، فلا يزيلونه. والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض، كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم، لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل؟ ثم بما هو أسوأ حالا، وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه، وفرجه، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه. فلذلك عداه بـ(من) دون (عن) لأن الكفر بالعاقبة والجزاء، هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67 - 70] وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون

وقال الذين كفروا أي: بوعد الله وآياته وعلمه وقدرته وحكمته: أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون أي: من القبور: لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين أي: أحاديثهم وأكاذيبهم التي سطروها بعبارة مموهة: قل سيروا في الأرض أي: لتبصروا آثار القائلين هذا القول قبلكم: فانظروا كيف كان [ ص: 4683 ] عاقبة المجرمين بإنكاره. وهي دمارهم وهلاكهم بالاستئصال: ولا تحزن عليهم أي: على قولهم وتكذيبهم. فإنه سيكون لك من المصدقين من لا يبالي معهم بهؤلاء كقوله تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ولا تكن في ضيق مما يمكرون أي: في حرج من مكرهم وكيدهم لك. ولا تبال بذلك، فإن الله يعصمك من الناس.

ابوالوليد المسلم 30-12-2024 05:10 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النَّمْلِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4683 الى صـ 4693
الحلقة (484)





القول في تأويل قوله تعالى:

[71 - 76] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون

ويقولون متى هذا الوعد أي: بالعذاب: إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم أي: لحقكم أو دنا لكم: بعض الذي تستعجلون أي: من العذاب، فحصل لهم القتل ببدر. ولعذاب الآخرة أمر. قال الزمخشري : وعسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم، يدل على صدق الأمر وجده، وما لا مجال للشك بعده. وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجلون بالانتقام، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم، ووثوقهم أن عدوهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم. فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده. انتهى. أي: لأن حقيقة الترجي محال في حقه تعالى. فهو على هذا استعارة تمثيلية. قاله [ ص: 4684 ] الشهاب: وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون أي: لذو إفضال وإنعام عليهم، بتأخير العقوبة وعدم معاجلتهم بها. ولكن أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه، بل بجهلهم يستعجلونها: وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون أي: من عداوة رسوله ونصب المكايد له. وهو معاقبهم على ذلك: وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين أي: وما من خافية فيهما، إلا وقد علمها الله وأحاط بها وأثبتها في اللوح البين، المثبت فيه مقدوراته تعالى. أو المراد بالكتاب القضاء العدل، على طريق الاستعارة، بتشبيهه بالكتاب الجامع للوقائع، كالسجل: إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون أي: فهو مصدق لما بين يديه، ومهيمن عليه. يقص القصص الحق، ويفصل بين ما اختلفوا فيه بالصدق. فالمعول من أنبائهم عليه، ومرد ما اختلفوا فيه إليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77 - 81] وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون

وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين أي: بما فيه من إقامة الدلائل ورفع الشبه التي يعقلها المؤمنون المنصفون المصدقون بالحق، المذعنون له: إن ربك يقضي بينهم بحكمه أي: بين من آمن بالقرآن ومن كفر به، بعدله وحكمته: وهو العزيز أي: فلا يرد قضاؤه الغالب [ ص: 4685 ] في انتقامه من المبطلين: العليم أي: بالفصل بينهم وبين المحقين. ثم أمره تعالى بقلة المبالاة بأعدائه، وبالمضي في دعوته وانتظار الوعد الحق، بقوله: فتوكل على الله إنك على الحق المبين أي: الأبلج الذي لا ريب فيه.

قال الزمخشري : وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته، وأن مثله لا يخذل. ثم أشار تعالى إلى كفاية نفع دعوته للمؤمنين، الذين هم أولياؤه وحزبه، وإلى أن الكل لا يرجى منهم الهداية، كآية: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين تسلية عما كان يهمه من إيمانهم، بقوله سبحانه: إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون قال الزمخشري : شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله فكانوا أقماع القول، لا تعيه آذانهم. وكان سماعهم كلا سماع. كانت حالهم، لانتفاء جدوى السماع، كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع، وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، وأن يجعلهم هداة بصراء، إلا الله عز وجل. فإن قلت: ما معنى قوله: إذا ولوا مدبرين قلت: هو تأكيد لحال الأصم . لأنه إذا تباعد عن الداعي، بأن يولي عنه مدبرا، كان أبعد عن إدراك صوته. انتهى.

وإيراد قوله: وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إثر ما تقدم، للمبالغة في نفي الهداية. وقوله تعالى: إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا أي: ما تسمع سماعا يجدي السامع نفعا، إلا من شأنه الإيمان بها فهم مسلمون تعليل لإيمانهم بها. كأنه قيل: فإنهم منقادون للحق. وقيل: معناه مخلصون، من قوله: بلى من أسلم وجهه لله يعني جعله سالما لله خالصا له.
[ ص: 4686 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[82] وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون

وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون اعلم أن في هذا الوعيد وجوها من التأويل:

الأول: أنه دنيوي، عنى به نصر الرسول صلوات الله عليه، عليهم. والمعنى أن أولئك الصم عن سماع الآيات، العمي عن النظر فيها، الجاحدين لها، سيأتيهم أنباء حقيقة ما كانوا يدعون إليه من نصر الداعي وهو الرسول وأتباعه، وتكثير سوادهم حتى يظفروا بمناوئيهم. ويظهروا على عدوهم. وذلك بأن تدب إليهم من المؤمنين دابة عظمى تملأ السهل والربا، تزلزل أركانهم وتهدم بنيانهم وتقوض خيامهم وتدك أعلامهم. فتكلمهم حينئذ بلسان الحال أو المقال، بأنهم إنما أخذوا بالعقاب، وحل بهم شديد العذاب لضلالهم وإضلالهم العباد. وسعيهم في الأرض الفساد. فإن الإيمان دعامة الصلاح والإصلاح. وقائد الفلاح والنجاح، وقد سبقت كلمته لعباده المرسلين إنهم لهم المنصورون، وإن جنده لهم الغالبون. وقد صدق الله وعده. وأعز جنده.

والوجه الثاني: أن الدابة حيوان بخلاف ما نعرفه. يختص خروجها بحين القيامة، قال بعضهم: والمعنى إذا قامت القيامة بعث الله نوعا مخصوصا من دواب هذه الأرض، كما يبعث غيره من أنواع الدواب الأخرى. وينطقه فيوبخ الإنسان على كفره، كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضا. قال: فليس المراد من قوله: "دابة" الفرد، بل النوع. كما في قولك: أرسل الله عليهم دودة أتلفت زرعهم، أي: ديدانا كثيرة، من نوع واحد مخصوص.

وقد روي فيها أحاديث وآثار كثيرة، لم يصحح البخاري منها شيئا، لاضطراب متونها [ ص: 4687 ] وضعف رجالها. وأمثل مأثورها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: « إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى. وأيهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريبا » .

ومعلوم أن أمور الآخرة من عالم الغيب. ولا يؤخذ فيها إلا بما كان قطعي الثبوت.

الوجه الثالث: نقله الراغب في مفرداته قال: وقيل عنى بالدابة الأشرار الذين هم في الجهل بمنزلة الدواب. فتكون الدابة جمعا، اسما لكل ما يدب. نحو: خائنة جمع خائن. انتهى.

ولعل الآية كقوله تعالى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين فإن يأجوج ومأجوج كالدابة، لما يغطي بدبيبه وجه الأرض- فهو مثل في الكثرة. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[83-84] ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون

ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون أي: يحبس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه. كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله: فوجا فإن الفوج الجماعة الكثيرة. أفاده الزمخشري : حتى إذا جاءوا أي: إلى المحشر: قال أي: ليفضحهم في هذا اليوم المشهود: [ ص: 4688 ] أكذبتم بآياتي أي: الناطقة بلقاء يومكم هذا وقوله: ولم تحيطوا بها علما جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه. ومؤكدة للإنكار والتوبيخ. أي: أكذبتم بها بادئ الرأي، غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق حتما؟ وهذا نص في أن المراد بالآيات، فيما سلف في الموضعين، هي الآيات القرآنية، لأنها هي المنطوية على دلائل الصحة، وشواهد الصدق التي لم يحيطوا بها علما، مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها. لا نفس الساعة وما فيها. أفاده أبو السعود: أماذا كنتم تعملون أي: بها. أو ماذا كان عملكم؟ هل هو إلا الفساد والإفساد؟ وصد السبيل عن العباد؟ ولذا حقت كلمة العذاب عليهم. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[85 - 89] ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون

ووقع القول أي: مدلوله وهو العقاب الموعودون به: عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا أي: ليبصروا، بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور المعاش: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ويوم ينفخ [ ص: 4689 ] في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه أي: حضروا الموقف بين يديه: داخرين أي: صاغرين: وترى الجبال عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير: تحسبها جامدة أي: ثابتة في أماكنها: وهي تمر مر السحاب أي: في تخلل أجزائها وانتفاشها. كما في قوله تعالى: وتكون الجبال كالعهن المنفوش صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون أي: فيجازيهم عليه.

تنبيه:

ما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو ما ذهب إليه كثير. قالوا: المراد بهذه الآية تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة، حينما يبيد الله تعالى العوالم، كما قال: وسيرت الجبال فكانت سرابا وكما قال: وإذا الجبال نسفت وقال: وتكون الجبال كالعهن المنفوش

وقال بعض علماء الفلك: لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية ما قالوه، لعدة وجوه:

الأول: أن قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة لا يناسب مقام التهويل والتخويف إذا أريد بها بما يحصل يوم القيامة. وكذلك قوله: صنع الله الذي أتقن كل شيء لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة، على أن محل هذه الآية على المستقبل، مع أنها صريحة في إرادة الحال، شيء لا موجب له. وهو خلاف الظاهر منها.

الثاني: أن سير الجبال للفناء يوم القيامة، يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر كما قال: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله أي: من الملائكة. فما معنى قوله إذن: وترى الجبال تحسبها جامدة

[ ص: 4690 ] الثالث: أن تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة، إذا رآه أحد شعر به. لأنه ما دام وضعها يتغير بالنسبة للإنسان، فيحس بحركتها. وهذا ينافي قوله تعالى: تحسبها جامدة أي: ثابتة. أما في الدنيا فلا نشعر بحركتها، لأننا نتحرك معها ولا يتغير وضعنا بالنسبة لها. وهذا بخلاف ما يحصل يوم القيامة. فإن الجبال تنفصل عن الأرض وتنسف نسفا. وهذا شيء يراه كل واقف عندها.

الرابع: ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة، لورود آية: ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا المذكورة قبلها في نفس هذا السياق، والمراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى، المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار، ليكون ذلك دليلا على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة فإن القادر على ضبط حركات هذه الأجرام العظيمة، لا يصعب عليه أن يعيد الإنسان، وأن يضبط حركاته وأعماله ويحصيها عليه. ولذلك ختم هذه الآية بقوله: إنه خبير بما تفعلون فذكر هذه الأشياء في هذا السياق، هو كذكر الدليل مع المدلول، أو الحجة مع الدعوى. وهي سنة القرآن الكريم. فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائما، حتى لا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارج عنها. وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره. اهـ كلامه.

وقال العلامة المرجاني في مقدمة كتابه (وفية الأسلاف، وتحية الأخلاف) في بحث علم الهيئة، ما مثاله:

ويدل على حركة الأرض قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب الآية. فإنه خطاب لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في هذه الرؤية. وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها، مع كونها متحركة في الواقع بحركة الأرض، ودوام مرورها مر السحاب في سرعة السير والحركة. قال: وقوله: صنع الله من المصادر المؤكدة لنفسها. وهو مضمون الجملة السابقة. يعني أن هذا المرور هو صنع الله. [ ص: 4691 ] كقوله تعالى: "وعد الله" ، صبغة الله ثم الصنع هو عمل الإنسان، بعد تدرب فيه وترو وتحري إجادة. ولا يسمى كل عمل صناعة، ولا كل عامل صانعا حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه. وقوله: الذي أتقن كل شيء كالبرهان على إتقانه، والدليل على إحكام خلقته، وتسويته مروره على ما ينبغي. لأن إتقان كل شيء، يتناول إتقانه. فهو تثنية للمراد وتكرير له، كقوله تعالى: ومن كفر فإن الله غني عن العالمين قال: وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد، وأنحاء من المبالغة. فمن ذلك تعبيره (بالصنع) الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل على الحكمة. وإضافته إليه تعالى تعظيما له وتحقيقا لإتقانه وحسن أعماله. ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء، ومن جملته هذه المرور. ثم إيراده بالجملة الاسمية الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور. ثم التقييد بالحال، لتدل على أنها لا تنفك عنها دائما. فإن قوله تعالى: وهي تمر مر السحاب حال من المفعول به، وهو الجبال. ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال.

فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها في هذه النشأة. وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام. وأن حسبانها جامدة لعدم تبين حركة كبار الأجرام إذا كانت في سمت واحد. فإن ذلك لا يلائم المقصود من التهويل على ذلك التقدير. على أن ذلك نقض وإهدام، وليس من صنع وإحكام. قال: والعجب من حذاق العلماء المفسرين، عدم تعرضهم لهذا المعنى، مع ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء. مع أنه أولى وأحق من تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية، على ما شحنوا بها كتبهم. وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى، ولا بعيد عن حكمته، ولا القول به بمصادم للشريعة والعقيدة الحقة، بعد أن تعتقد أن كل شيء حادث بقدرة الله تعالى وإرادته وخلقه بالاختيار، كائنا ما كان، وهو العلي الكبير، وعلى ما يشاء قدير.

[ ص: 4692 ] واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: ألم يروا أنا جعلنا الليل الآية. اعتراض في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة، كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان. ومثل ذلك ليس بعزيز في القرآن.

وفائدته هنا، التنبيه على سرعة تقضي الآجال ومضي الآماد. والتهويل من هجوم ساعة الموت وقرب ورود وقت المعاد. فإن انقضاء الأزمان، وتقضي الأوان، إنما هو بالحركة اليومية المارة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان. وهذا المرور وإن لم يكن مبصرا محسوسا، لكن ما ينبعث منه تبدل الأحوال، بما يطرأ من تعاقب الليل والنهار وغيره، بمنزلة المحسوس المبصر: فاعتبروا يا أولي الأبصار فيكون هذا معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، مخصوصة به، إذ لم يخبر به غيره من الأنبياء.

فليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع عند قيام الساعة ووفاء النشأة الآخرة. إذ ليس هو من (الصنع) في شيء. بل هو إفساد أحوال الكائنات، وإخلال نظام العالم، وإهلاك بني آدم. اهـ .كلام المرجاني.

من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون أي: لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل. وقرئ: (فزع يومئذ) بالإضافة وكسر الميم وفتحها. وفزع منونا وفتح الميم، على أنه ظرف (لآمنون) أو المحذوف هو صفة للفزع. والتنوين في (يومئذ) عوض عن جملة محذوفة، أي: يوم إذا جاءوا بالحسنة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[90 - 93] ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين [ ص: 4693 ] وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون

ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون أي: من الشرك والمعاصي: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة أي: مكة: الذي حرمها أي: جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها. وفيه تعريض بجحدهم نعمته تعالى في ذلك، حيث آمنهم من خوف، وأجلهم في أعين القبائل، ووقاهم من الفتن المنتشرة عند غيرهم، إجلالا لهذا البيت. وهم لم يرعوا هذه النعمة بالقيام بواجب شكرها، من عبادته تعالى وحده، وسعيهم بالإصلاح: وله كل شيء أي: خلقا وملكا. فهو خالق كل شيء ومليكه: وأمرت أن أكون من المسلمين أي: ممن أسلم وجهه لله، لا لغيره.

وأن أتلو القرآن أي: عليكم، تلاوة الدعوة إلى الإيمان به، لما اشتمل عليه من سعادة الدارين: فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه أي: فمن اتبع ما فيه من توحيد الله، ونفي الأنداد عنه، والدخول في الملة الحنيفية، واتباع ما أنزل علي من الوحي، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه، لا إلي: ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين أي: ومن ضل عن الإيمان وأخطأ بزيغه طريق الهدى، ولم يتبعني، فلا علي. وما أنا إلا رسول منذر، وما على الرسول إلا البلاغ المبين: وقل الحمد لله أي: على ما هدانا لهذا الدين، ومن علينا بصراطه المستقيم: سيريكم آياته فتعرفونها كقوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وقوله: ولتعلمن نبأه بعد حين وما ربك بغافل عما تعملون أي: من الشرك والتكذيب ونصب المكايد. بل هو شهيد رقيب، جل جلاله وعظم نواله، ولا إله غيره.

ابوالوليد المسلم 30-12-2024 05:16 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْقَصَصِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4694 الى صـ 4704
الحلقة (485)





بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

28- سُورَةُ الْقَصَصِ

سميت به لاشتمالها على قوله تعالى: فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين الدالة على أن من هرب من مكان الأعداء، إلى مكان الأنبياء اعتبارا بقصصهم الدالة على نجاة الهاربين، وهلاك الباقين بمكان الأعداء- أمن من الهلاك. وهذا أيضا من أعظم مقاصد القرآن، مع اشتمالها على ما لا يشتمل عليه غيرها من أنباء موسى، أفاده المهايمي.

والسورة مكية كلها. وقيل إلا من قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب إلى قوله الجاهلين فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشي الذين قدموا وشهدوا وقعة أحد.

وقوله تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن الآية، لما روي من نزولها بالجحفة حين الهجرة إلى المدينة. والله أعلم. وهي ثمان وثمانون آية، بالاتفاق.

[ ص: 4695 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1 - 4] طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين

طسم تقدم الكلام على هذه الحروف غير ما مرة: تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون أي: نقرأ عليك، بواسطة الروح الأمين، تلاوة ملتبسة بالحق. كما قال تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص ثم استأنف ما يجري مجرى التفسير للمجمل الموعود، بقوله: إن فرعون علا في الأرض أي: تكبر وتجاوز الحد في الطغيان، في أرض مصر: وجعل أهلها شيعا أي: فرقا وأصناما في استخدامه وطاعته: يستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل: يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم وذلك إماتة لرجالهم، وتقليلا لعددهم، كيلا يكثروا فينازعوه الملك: إنه كان من المفسدين أي: المتمكنين في الإفساد وقهر العباد.

ثم أشار تعالى إلى فرجه الذي جعله لتلك الطائفة، بقوله:
[ ص: 4696 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[5 - 8] ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين

ونريد أن نمن أي: نتفضل: على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة أي: يقتدى بهم في الدين بعد أن كانوا أتباعا مسخرين: ونجعلهم الوارثين أي: لملك عدوهم. كما قال تعالى: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون إلى قوله: يعرشون ونمكن لهم في الأرض أي: بالتصرف فيها تصرف الملوك: ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم أي: من أولئك المستضعفين: ما كانوا يحذرون أي: من هلاكهم وذهاب ملكهم، جزاء إفسادهم وعدم إصلاحهم وطغيانهم: وأوحينا إلى أم موسى أي: إثر ولادته في تلك الشدة: أن أرضعيه فإذا خفت عليه أي: من أولئك الدباحين الذين بأيديهم الشفار المرهفة العاملة في تلك الأنفس الزكية: فألقيه في اليم أي: في البحر، وهو النيل: ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه [ ص: 4697 ] آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا أي: في هلاكهم على يديه.

قال أبو السعود: واللام لام العاقبة. أبرز مدخولها في معرض العلة، لالتقاطهم. تشبيها له في الترتب عليه، بالغرض الحامل عليه: إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين أي: مجرمين فعاقبهم الله بأن ربى عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم، على أيديهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[9 - 11] وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون

وقالت امرأت فرعون أي: لفرعون، حين أخرجته من التابوت: قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون أي: بما سيكون: وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أي: خاليا من العقل. لما دهمها من فرط الجزع، وأطار عقلها من الدهش، لما بلغها وقوعه في يد فرعون: إن كادت لتبدي به أي: بأمره وقصته، وأنه ولدها: لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين أي: لولا أن ألهمناها الصبر. شبه بربط الشيء المنفلت ليقر ويطمئن. ومعنى: من المؤمنين أي: المصدقين بوعد الله. وهو قوله: إنا رادوه إليك

قال الزمخشري : ويجوز، وأصبح فؤادها فارغا من الهم، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه. إن كادت لتبدي بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت. لولا أنا [ ص: 4698 ] طامنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله، لا بتبني فرعون وتعطفه: وقالت لأخته قصيه أي: اتبعي أثره لتنالي خبره: فبصرت به عن جنب بضم النون وسكونها. أي: عن بعد: وهم لا يشعرون أي: أنها تتعرف حاله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[12 - 17] وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين

وحرمنا عليه المراضع من قبل أي: من قبل قصها أثره. و(المراضع) جمع مرضع [ ص: 4699 ] بضم الميم وكسر الضاد. وهي المرأة التي ترضع. وترك (التاء) لاختصاصه بالنساء. أو جمع (مرضع) بفتح الميم مصدر ميمي، جمع لتعدد مواده. أو اسم موضع الرضاع، وهو الثدي: فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون أي: في رضاعه وتربيته: فرددناه إلى أمه كي تقر عينها أي: برؤيته: ولا تحزن أي: بفراقه: ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ولما بلغ أشده أي: كمال قوته واستوى أي: اعتدل مزاجه: آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين أي: في أعمالهم. ثم بين تعالى من نبئه عليه السلام، ما تدرج به إلى ما قدر له من الرسالة، بقوله سبحانه: ودخل المدينة أي: مصر آتيا من قصر فرعون: على حين غفلة من أهلها قيل وقت القيلولة. وقيل بين العشائين: فوجد فيها رجلين يقتتلان أي: يتنازعان: هذا أي: الواحد: من شيعته أي: ممن يشايعه على دينه وهم بنو إسرائيل: وهذا أي: الآخر: من عدوه أي: من خالفه في دينه وهم القبط: فاستغاثه أي: سأله الإغاثة: الذي من شيعته لكونه مظلوما: على الذي من عدوه لكونه ظالما. وإغاثة المظلوم واجبة فوجبت إغاثته من جهتين: فوكزه موسى أي: ضربه بجمع كفه: فقضى عليه أي: فقتله: قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين يشير إلى تأسفه على ما أفضى وكزه، من قتله. وسماه ظلما واستغفر منه بالنسبة إلى مقامه: قال رب إني ظلمت نفسي أي: بقتله: فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف. أي: أقسم بإنعامك علي بالمغفرة، لأتوبن ولا أظاهر المجرمين. وأن يكون استعطافا كأنه قال: رب! اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة. فلن أكون، إن عصمتني، ظهيرا للمجرمين. وأراد بمظاهرتهم، إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده، وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له. قاله الزمخشري .

قال الناصر: لقد تبرأ عليه السلام من عظيم. لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده. [ ص: 4700 ] ويروى أنه يقال يوم القيامة: أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة، أو برى لهم قلما، فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار.
القول في تأويل قوله تعالى:

[18 - 23] فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير

فأصبح في المدينة خائفا يترقب أي: الاستقادة أو الأجناد: فإذا الذي استنصره بالأمس أي استعانه فقتل من أجله منازعه القبطي: يستصرخه أي: يستغيثه من قبطي آخر: قال له موسى إنك لغوي مبين أي: بمخاصمتك الناس مع عجزك، [ ص: 4701 ] وجرك إليهم ما لا تحمد عقباه: فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما أي: لموسى وللإسرائيلي، وهو القبطي: قال أي: ذلك العدو وهو القبطي، لا الإسرائيلي كما وهم: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين أي: بين الناس بالقول والفعل.

قال الزمخشري : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى أي: يسرع لفرط حبه لموسى: قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك أي: يتشاورون بسببك: ليقتلوك فاخرج أي: من حد مملكتهم: إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب أي: لحوق الطالبين: قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه أي: جعل وجهه: تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل أي: فلا يلحقني فيه الطالبون: ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة أي: جماعة كثيفة: من الناس يسقون أي: مواشيهم: ووجد من دونهم امرأتين تذودان أي: تمنعان مواشيهما عن الماء، لوجود من هو أقوى منهما عنده، فلا تتمكنان من السقي: قال ما خطبكما أي: ما شأنكما في الذود: قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء أي: عاداتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء، عجزا عن مساجلتهم، وحذرا من مخالطة الرجال: وأبونا شيخ كبير أي: فيعجز عن الخروج والسقي. أي: ما لنا رجل يقوم بذلك إلا هو، وقد أضعفه الكبر، فاضطرنا الحال إلى ما ترى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[24 - 25] فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنـزلت إلي من خير فقير فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين

[ ص: 4702 ] فسقى لهما أي: فسقى غنمهما، لأجلهما من غير أجر: ثم تولى إلى الظل أي: الذي كان هناك، من شدة الحر: فقال رب إني لما أنـزلت إلي من خير فقير أي: محتاج. والخير أعم من المال أو القوة أو الطعام. وعلى الأخير حمله الأكثرون بمعونة المقام: فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص أي: أخبره بجميع ما جرى عليه إلى خروجه لما تآمروا بقتله: قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين أي: بالخروج عند حد ولايتهم، إذ لا سلطان لهم بأرضنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[26 - 28] قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل

قالت إحداهما يا أبت استأجره أي: اجعله أجيرك ليرعى غنمك، فإنه حقيق بذلك: إن خير من استأجرت القوي الأمين أي: خير من أردت جعله أجيرا، القوي على العمل المؤتمن فيه.

قال الزمخشري : وقولها: إن خير من استأجرت القوي الأمين كلام حكيم جامع لا يزاد عليه. لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان، أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك، [ ص: 4703 ] فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة، أن تقول: استأجره لقوته وأمانته. انتهى.

قال الناصر: وهو أيضا أجمل في مدح النساء للرجال، من المدح الخاص. وأبقى للحشمة. وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه. وما أحسن ما أخذ الفاروق رضي الله عنه هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوي. ففي مضمون الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين، فكان قويا وأمينا: يستعين به على ما كان بصدده رضي الله عنه. انتهى. قال إني أريد أي: لقوتك وأمانتك، ما يقوي المودة ويجذب القلوب: أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج أي: على أن تكون أجيري لرعي المواشي بأجرة على ابنتي، هي مهرها عليك، ثماني سنين: فإن أتممت عشرا فمن عندك أي: فهو من عندك بطريق التفضل: وما أريد أن أشق عليك أي: بإلزام أتم الأجلين وإيجابه: ستجدني إن شاء الله من الصالحين أي: في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد: قال ذلك بيني وبينك أي: ذاك الذي عاهدتني عليه، لا نخرج عنه جميعا: أيما الأجلين قضيت أي: أتممت: فلا عدوان علي أي: بطلب الزيادة على ثمان، أو الخروج بالأهل قبل عشر: والله على ما نقول وكيل أي: شاهد وحفيظ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[29 - 31] فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين [ ص: 4704 ] وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين

فلما قضى أي: أتم: موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أي: من الطريق، من ضوئها، أو ممن عندها: أو جذوة مثلثة الجيم، وقد قرئ بها كلها، أي: عود فيه شيء: من النار لعلكم تصطلون أي: تستدفئون: فلما أتاها أي: قرب منها: نودي من شاطئ أي: جانب: الواد الأيمن أي: المبارك. يقال: يمن فهو ميمون وأيمن. وتفسيره بخلاف الأيسر بعيد، لأن ألفاظ التنزيل وآيه يفسر بعضها بعضا. وقد جاء في غير آية توصيف الوادي بالمقدس، وبقعته بالمباركة، والمعنى واحد. وإن أدهش التفنن في التعبير عنه ببديع تلك المباني: في البقعة المباركة أي: التي بورك مكانها بالتجلي الإلهي: من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز أي: تتحرك: كأنها جان أي: حية صغيرة، في سرعة الحركة: ولى مدبرا أي: أعرض بوجهه عنها. جاعلا ظهره إليها: ولم يعقب أي: لم يرجع: يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين أي: من المخاوف.


ابوالوليد المسلم 30-12-2024 05:36 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْقَصَصِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4705 الى صـ 4715
الحلقة (486)







[32 - 35] اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون [ ص: 4705 ] قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون

اسلك يدك في جيبك أي: أدخلها فيه: تخرج بيضاء من غير سوء أي: عيب: واضمم إليك جناحك أي: يدك: من الرهب أي: الخوف. قرئ بفتحتين، وضمتين، وفتح وسكون، وضم وسكون. قال ابن أسلم وابن جرير : مما حصل لك من خوفك من الحية قال ابن كثير : والظاهر أن المراد أعم من هذا. وهو أنه أمر عليه السلام، إذا خاف من شيء، أن يضم إليه يده، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف. وربما استعمل أحد ذلك، على سبيل الاقتداء، فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجد أو يخف إن شاء الله تعالى. وبه الثقة فذانك إشارة إلى العصا واليد: برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا أي: فيكون أحسن بيانا. ولا يتحمل ذلك ما لم يكلف بمثل ما كلفت به: فأرسله معي ردءا أي: معينا: يصدقني أي: لنشاط قلبي: إني أخاف أن يكذبون أي: يتفقوا على تكذيبي المؤدي إلى أنواع الأذيات.

قال الزمخشري : فإن قلت: تصديق أخيه، ما الفائدة فيه؟ قلت: ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ويبسط القول فيه ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة. فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله: وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك. لا لقوله صدقت. فإن سحبان وباقلا يستويان فيه. أو يصل جناح كلامه بالبيان حتى يصدقه الذي يخاف تكذيبه. فأسند التصديق إلى هارون لأنه السبب فيه، إسنادا مجازيا. انتهى قال سنشد عضدك بأخيك أي: سنقويك به ونعينك.

[ ص: 4706 ] قال الشهاب: والشد التقوية، والعضد من اليد معروف. فهو إما كناية تلويحية عن تقويته، لأن اليد تشد بشدة العضد، والجملة تشتد بشدة اليد، ولا مانع من الحقيقة كما توهم. أو استعارة تمثيلية. شبه حال موسى في تقويته بأخيه عليهما السلام، بحال اليد في تقويتها بيد شديدة ونجعل لكما سلطانا أي: غلبة ومهابة في قلوبهم أو حجة: فلا يصلون إليكما أي: بإيذاء، فضلا عن القتل: بآياتنا متعلق بمحذوف أي: اذهبا بآياتنا. أو بـ(نجعل) أي: نسلطكما بها أو بمعنى: (لا يصلون) أي: تمتنعون منهم بها. أو قسم، جوابه (لا يصلون) مقدر. أو صلة لـ(الغالبون) في قوله: أنتما ومن اتبعكما الغالبون وتقدمه، إما للفاصلة أو للحصر. أي: الغالبون عليهم، وإن غلبوكم وغلبوا العالمين قبلكم.


[36 - 38] فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين

فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى أي: مبتدع لم يسبق له نظير. أو تفتريه على الله بنسبته له، وأنت تعلمته من غيرك، فالافتراء بمعنى الاختلاق أو الكذب: وما سمعنا بهذا أي: السحر أو ادعاء النبوة، أو بأن للعالم إلها يرسل الرسل [ ص: 4707 ] بالآيات: في آبائنا الأولين أي: كائنا في أيامهم. قال الشهاب: وهذا إما تعمد للكذب وعناد بإنكار النبوات، وإن كان عهد يوسف قريبا منهم. أو لأنهم لم يؤمنوا به أيضا: وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار قال المهايمي: معناه: كفى دليلا على كونها آيات، أنها خوارق ولم يسبق لها نظير. مع أن ما جئت به هدى. والساحر لا يدعو في العموم إلى هدى. فإن لم تعترفوا بكونه هدى، فربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده، ويعلم ذلك بالعاقبة،

فإن الله يحسن عاقبة أهل الهدى لا محالة. لأنه يعلم من تكون له عاقبة الدار. وهي العاقبة المحمودة. والمراد بـ(الدار): الدنيا. وعاقبتها وعقباها: أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان. وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. وهذه لا تكون للساحر إذا ادعى النبوة، لأنه ظالم، فلا يفلح بالعاقبة الحميدة كما قال: إنه لا يفلح الظالمون أي: بالدار وإن وجدوا بعض مقاصدهم أولا استدراجا، فلا يفوزون بالعقبى الحميدة. وإنما غاية أمرهم انقطاع أثرهم وسوء ذكرهم. وقد حقق الله هذا الوعد فجعل عاقبة قوم موسى رفيعة. ونهاية أعدائه وضيعة: وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري هذا حكاية لتمرده وعتوه وطغيانه في تفوهه بتلك العظيمة. كما واجه موسى عليه السلام بها في قوله: قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين وكما قال تعالى عنه: فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى يعني أنه جمع قومه ونادى فيهم معلنا بذلك. فانتقم منه بما جعله عبرة لمن اعتبر: فأوقد لي يا هامان على الطين أي: نارا، فأتخذ منه آجرا.

قال الزمخشري : ولم يقل: (اطبخ لي الآجر واتخذه)، لأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن وعلو طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة. وهامان وزيره ومدبر رعيته: فاجعل لي أي: من الآجر: صرحا أي: قصرا رفيعا إلى السماء: لعلي أطلع إلى إله موسى [ ص: 4708 ] يعني العلي الأعلى، تبارك وتعالى: وإني لأظنه من الكاذبين أي: في دعواه الألوهية، والعلو لباري الأرض والسماوات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[39 - 43] واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون

واستكبر هو أي: بدعوى الألوهية لنفسه، ونفيها عن الله تعالى، وقصد الاطلاع إلى الله سبحانه، وادعاء العمل الكلي لنفسه مع جهله بربه: وجنوده في الأرض بغير الحق أي: بل بالفساد ورد الحق، والصد عن سبيل الله: وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون بضم الياء وفتحها قراءتان: فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة أي: يلعنهم كل مؤمن يسمعهم: ويوم القيامة هم من المقبوحين أي: من المطرودين، المبعدين: ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس أي: أنوارا للقلوب: وهدى أي: إلى الاعتقادات الصحيحة ودلائلها: ورحمة أي: بالإرشاد إلى العمل الصالح: لعلهم يتذكرون أي: فيتعظون به ويهتدون بسببه.

[ ص: 4709 ] ثم أشار تعالى إلى كون التنزيل وحيا من علام الغيوب، ببيان أنه ما فصل من هذه الأنباء لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم، وكلاهما معلوم الانتفاء، فتحقق صدق الإيحاء. وذلك قوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[44 - 46] وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون

وما كنت بجانب الغربي أي: الوادي الغربي الذي كوشف فيه موسى عن المناجاة: إذ قضينا أي: قدرنا وأنهينا: إلى موسى الأمر أي: أمر الإرسال والإنباء: وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا أي: بين زمانك وزمان موسى: فتطاول عليهم العمر أي: أمد انقطاع الوحي، واندرست معالم الهدى، وعم الضلال والبغي والردى، فاقتضت رحمتنا إرسالك لنخرجهم من الظلمات إلى النور: وما كنت ثاويا أي: مقيما: في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين أي: لك، وموحين إليك تلك الآيات. أي: ما كان الإنباء بها إلا وحيا مصدره الرسالة: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا أي: وقت ندائنا موسى: ولكن رحمة من ربك أي: ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وبغيره، لرحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك أي: من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى: لعلهم يتذكرون أي: يتعظون بإنذارك.
[ ص: 4710 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[47 - 48] ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون

ولولا أن تصيبهم مصيبة أي: عقوبة: بما قدمت أيديهم أي: من الكفر والفساد: فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين أي: بها. وجواب: لولا الأولى محذوف، ثقة بدلالة الحال عليه. أي: ما أرسلناك. لكن قولهم هذا عند عقوبتهم محقق. ولذا أرسلناك قطعا لمعاذيرهم.

قال الزمخشري : ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي، جعل كل عمل معبرا عنه باجتراح الأيدي، وتقديم الأيدي، وإن كان من أعمال القلوب. وهذا من الاتساع في الكلام، وتصيير الأقل تابعا للأكثر، وتغليب الأكثر على الأقل: فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أي: من قلب العصا حية، وفلق البحر، وغيرهما من الآيات. تعنتا وعنادا، كما قالوا: لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك وما أشبه ذلك. وقوله: أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل رد عليهم، وإظهار لكون ما قالوه تعنتا محضا، لا طلبا لما يرشدهم إلى الحق. أي: أو لم يكفر أبناء جنسهم، ومن مذهبهم مذهبهم، وعنادهم عنادهم وهم القبط، بما أوتي موسى من الكتاب: قالوا أي: في موسى وهارون عليهما السلام سحران تظاهرا أي: تعاونا. وقرئ: "سحران" أي: ذوا سحرين; أو جعلوهما [ ص: 4711 ] سحرين مبالغة: وقالوا إنا بكل كافرون ثم أشار تعالى إلى أن الآية العظمى للنبي صلوات الله عليه، هي الآيات النفسية العلمية، لا الكونية الآفاقية التي كانت لغيره، جريا على سنة الارتقاء. فإن النوع الإنساني كان، لما جاء الإسلام قد استعد إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان، والتمييز بين الخير والشر بالدليل والحجة. وكان لا بد له في هذا الطور من معلم ومرشد، كما في الأطوار الأخرى، أرسل الله إليه رسولا يهديه إلى طرق النظر والاستدلال، ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى. وأن لا يأخذ شيئا إلا بدليل وبرهان، يوصل إلى العلم. فكانت عمدته صلى الله عليه وسلم في الاستدلال على نبوته ورسالته نفسه الكريمة، وما جاء به من النور والهدى، كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب، بما يبديه من العلم والعمل الناجح فيها. وقد بسط هذا في مواضعه. وهذا معنى قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[49 - 55] قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون [ ص: 4712 ] وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين

قل أي: لهؤلاء الجاحدين: قد مضى دور الخوارق التي تقترحونها، ونسخ تعالى من تلك الآيات بما أتى بخير منها، وهو آية الهداية التي تصلح بها قلوب العالمين. والذكرى التي تزع النفوس عن الشر، وتحملها على الخير. بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين، ويحق الشقاء على الجاحدين المعاندين. فإن يك هذا سحرا، ولديكم ما هو أهدى: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أي: من التوراة والقرآن: أتبعه أي: ولا أعاندكم مثل ما تعاندونني: إن كنتم صادقين أي: في أنهما سحران مختلقان. أو في أنه يمكن الإتيان بما هو أهدى منهما.

قال أبو السعود: ومثل هذا الشرط مما يأتي به من يدل بوضوح حجته وسنوح محجته. لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين، أمر بين الاستحالة. فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام. انتهى. أي: لا للشك والتردد.

قال الشهاب: وهذا جواب عما يقال أن عدم إتيانهم به معلوم. وهذا كما يقول المدل: إن كنت صديقك القديم، فعاملني بالجهل. وكذا في إيراد كلمة إن مع امتناع صدقهم، نوع تهكم بهم: فإن لم يستجيبوا لك أي: فلم يأتوا بذلك الكتاب، ولم يتابعوا الكتابين: فاعلم أنما يتبعون أهواءهم أي: الزائغة من غير برهان: ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله الاستفهام إنكاري للنفي. أي: لا أحد أضل منه. كيف لا؟ وهو أظلم الظلمة. بتقديم هواه على هدى الله. كما قال تعالى: إن الله لا يهدي القوم الظالمين أي: الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى، والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين.

[ ص: 4713 ] قال الرازي: وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، وأنه لا بد من الحجة والاستدلال. انتهى ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون أي: أنزلنا عليهم القرآن متواصلا، بعضه إثر بعض، وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا، ومواعظ، حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. وقرئ (وصلنا) بالتشديد والتخفيف: الذين آتيناهم الكتاب من قبله أي: القرآن: هم به يؤمنون وهم مؤمنو أهل الكتاب وأولياؤهم: وإذا يتلى عليهم أي: القرآن: قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله أي: من قبل نزوله: مسلمين أي: منقادين له، لما عندنا من المبشرات به. أو على دين الإسلام، وهو إخلاص الوجه له تعالى بدون شرك: أولئك أي: الموصوفون بما ذكر من النعوت: يؤتون أجرهم مرتين يعني مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرة على إيمانهم بالقرآن: بما صبروا أي: بصبرهم وثباتهم على الإيمانين. أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده. أو على أذى من نابذهم: ويدرءون أي: يدفعون: بالحسنة السيئة أي: بالحكمة الطيبة، ما يسوؤهم: ومما رزقناهم ينفقون أي: للبؤساء والفقراء، وفي سبيل البر والخير، فرارا عن وصمة الشح، وتنبها لآفاته.

وإذا سمعوا اللغو أي: من الجهال. وهو كل ما حقه أن يلغى ويترك، من العبث وغيره: أعرضوا عنه أي: تكريما للنفس عن ملابسة الأدنياء، وتشريفا للسمع عن سقط باطلهم: وقالوا أي: لهم: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم أي: بطريق التوديع والمتاركة; وعن الحسن رضي الله عنه: كلمة حلم المؤمنين: لا نبتغي الجاهلين أي: لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، ولا نريد مجازاتهم بالباطل على باطلهم. قال الرازي: قال قوم: نسخ ذلك بالأمر بالقتال. وهو بعيد. لأن ترك المسافهة مندوب. وإن كان القتال واجبا.

تنبيه:

قال ابن كثير عن سعيد بن جبير : إنها نزلت في سبعين من القسيسين. بعثهم النجاشي . [ ص: 4714 ] فلما قدموا النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم: يس والقرآن الحكيم حتى ختمها. فجعلوا يبكون وأسلموا.

وقال محمد بن إسحاق في (السيرة): ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد. فجلسوا إليه وكلموه وسألوه. ورجال من قريش في أنديتهم. حول الكعبة. فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع. ثم استجابوا لله وآمنوا به، وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش. فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب. بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، لتأتوهم بخير الرجل. فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال. ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قالوا لهم. فقالوا لهم: سلام عليكم. لا نجاهلكم. لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا.

قال: ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران. فالله أعلم أي ذلك كان.

قال: ويقال، والله أعلم، إن فيهم نزلت هذه الآيات: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله: لا نبتغي الجاهلين

قال: وسألت الزهري عن الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم. والآيات اللاتي في سورة المائدة: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا إلى قوله: فاكتبنا مع الشاهدين
[ ص: 4715 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[56 - 58] إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين

إنك لا تهدي من أحببت أي: لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم: ولكن الله يهدي من يشاء أي: أن يهديه فيدخله في الإسلام بعنايته: وهو أعلم بالمهتدين أي: القابلين للهداية. لاطلاعه على استعدادهم وكونهم غير مطبوع على قلوبهم.


ابوالوليد المسلم 30-12-2024 05:41 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْقَصَصِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4716 الى صـ 4726
الحلقة (487)





تنبيه:

روى البخاري في (صحيحه) في تفسير هذه الآية عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة . فقال: أي: عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، [ ص: 4716 ] ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول لا إله إلا الله.

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والله! لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» . فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء


قال ابن كثير : وهكذا رواه مسلم في صحيحه والترمذي أيضا من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم، عن أبي هريرة . والإمام أحمد من حديثه أيضا، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه الإسلام. انتهى.

وقال ابن حجر في (فتح الباري): لم تختلف النقلة في أنها نزلت في أبي طالب. انتهى. وقدمنا مرارا معنى قولهم نزلت الآية في كذا. فانظر المقدمة، وغير موضع بعدها.

ثم ذكر تعالى من تعنتهم، شبهة استروح بها الحارث بن عامر بن نوفل، فيما رواه النسائي ، قوله سبحانه: وقالوا إن نتبع الهدى معك أي: ونخالف العرب: نتخطف من أرضنا أي: مكة. فرد عليهم تعالى بقوله: أولم نمكن لهم حرما آمنا أي: ألم نعصمهم من عدوهم ونجعل مكانهم حرما ذا أمن، لحرمة البيت الحرام، الذي تتناجز العرب حوله وهم آمنون: يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون أي: جهلة لا يتفكرون. ولو علموا أن ذلك رزق من عند الله، لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذ آمنوا به وخلعوا أنداده وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها أي: كفرت بها فلم تحفظ حق الله فيها فدمرت: فتلك مساكنهم [ ص: 4717 ] لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين أي: منهم. إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم. وموصوف (قليلا) المستثنى، إما (زمان) أي: إلا زمانا قليلا، إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم. وإما (مكان) أي: إلا مكانا قليلا يصح لسكنى البعض، واندثر الباقي. أو (مصدر) أي: سكنا قليلا من شؤم معاصيهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[59 - 62] وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون

وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا أي: الناطقة بالحق. ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب. وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة: وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون أي: بالكفر بالآيات وتكذيب الرسل سعيا بالفساد، وإباء عن سبيل الصلاح والرشاد: وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها أي: فهو مما يتمتع ويتزين به أياما قلائل. وهي مدة الحياة المقتضية: وما عند الله خير أي: متاعا وزينة في نفسه، لخلوه عن شوائب الألم: وأبقى لأنه أبدي لا يزول: أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا أي: بإيمانه وعمله الصالح: فهو لاقيه كمن متعناه متاع [ ص: 4718 ] الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين أي: من الذين أحضروا للحساب أو للنار أو العذاب.

قال الشهاب: وقد غلب لفظ (المحضر) في القرآن في المعذب. وإليه أشار الزمخشري ، وصرح به في البحر: ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون
القول في تأويل قوله تعالى:

[63 - 68] قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون

قال الذين حق عليهم القول أي: وجب وثبت مقتضاه. وهو لحوق الوعيد بهم. والمراد بهم، رؤساء الضلال، وقادة الكفر والفساد: ربنا هؤلاء الذين أغوينا أي: أضللناهم. قال أبو السعود: ومرادهم بالإشارة، بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم. وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده: أغويناهم كما غوينا أي: أضللناهم بالوسوسة والتسويل، كما ضللنا باختيارنا، وإيثار ما يفنى على ما يبقى: تبرأنا إليك أي: من الكفر والشرك والمعاصي. أو منهم ومما اختاروه: ما كانوا إيانا يعبدون أي: بل كانوا يعبدون [ ص: 4719 ] أهواءهم وشهواتهم: وقيل ادعوا شركاءكم ليشفعوا لكم: فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون أي: تمنوا ذلك لينقذوا من العذاب العظيم: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين أي: الداعين إلى الهداية وإصلاح الأعمال والأخلاق: فعميت عليهم الأنباء يومئذ أي: فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم. وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة. قال الشهاب: ففيه استعارة تصريحية تبعية. استعير العمى لعدم الاهتداء فهم لا يهتدون للأنباء. ثم قلب للمبالغة. فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم. وضمن معنى الخفاء. فعدي بـ(على). ففيه أنواع من البلاغة. الاستعارة والقلب والتضمين. والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل. أو ما يعمها وغيرها منكل ما يمكن الجواب به: فهم لا يتساءلون أي: لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب، لفرط الدهشة. أو لعلمه بأنه مثله في العجز عن الجواب. أو لعجزهم عن النطق وكونهم مختوما على أفواههم. ثم إن هذا الوعيد لاحق للمصر : فأما من تاب أي: من الشرك: وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين أي: أن يفلح عند الله. و(عسى) من الكرام تحقيق. ويجوز أن يراد ترجي التائب وطمعه. كأنه قال: فليطمع أن يفلح. قاله الزمخشري : وربك يخلق ما يشاء ويختار أي: بمقتضى مشيئته وعنايته، ما يريد: ما كان لهم الخيرة أي: في ذلك. بل الخيرة له في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه.

قال الزمخشري : الخيرة من التخير، كالطيرة من التطير، تستعمل بمعنى المصدر وهو التخير، وبمعنى المتخير. كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه. والقصد تقرير انفراده بالألوهية وحده. ولذا قال: سبحان الله وتعالى عما يشركون من الأصنام والأنداد التي لا تخلق شيئا ولا تختار.

تنبيه:

للإمام ابن القيم في مقدمة (زاد المعاد) مقالة في هذه الآية الكريمة، جديرة بأن تؤثر [ ص: 4720 ] عنه. قال رحمه الله: وبعد. فإن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات. قال تعالى: وربك يخلق ما يشاء ويختار وليس المراد هاهنا بالاختيار، الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار، وهو سبحانه كذلك. وليس المراد بالاختيار هنا هذا المعنى. وهذا الاختيار داخل في قوله: "يخلق ما يشاء" فإنه لا يخلق إلا باختياره. وداخل في قوله تعالى: "ما يشاء" فإن المشيئة هي الاختيار. وإنما المراد بالاختيار هنا الاجتباء والاصطفاء. فهو اختيار بعد الخلق. والاختيار العام اختيار قبل الخلق. فهو أعم وأسبق. وهذا أخص وهو متأخر. فهو اختيار من الخلق والأول اختيار للخلق. وأصح القولين أن الوقف التام على قوله: ويختار ويكون: ما كان لهم الخيرة نفيا. أي: ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده. فكما أنه هو المتفرد بالخلق، فهو المتفرد بالاختيار منه. فليس لأحد أن يخلق ولا يختار سواه. فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحال رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له. وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه. وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل، إلى أن (ما) في قوله تعالى: ما كان لهم الخيرة موصولة وهي مفعول (يختار) أي: ويختار الذي لهم الخيرة. وهذا باطل من وجوه:

أحدها: أن الصلة حينئذ تخلو من العائد. لأن الخيرة مرفوع بأنه اسم (كان) و(لهم) خبره. فيصير المعنى: ويختار الذي كان الخيرة لهم. وهذا التركيب محال من القول. فإن قيل: يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفا، ويكون التقدير: ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه. أي: ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره. قيل: هذا يفسد من وجه آخر. وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد. فإنه إنما يحذف مجرورا إذا جر بحرف جر الموصول بمثله، مع اتحاد المعنى نحوه قوله تعالى: يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ونظائره. ولا يجوز أن يقال جاءني الذي مررت، ورأيت الذي رغبت، ونحوه.

الثاني: أنه لو أريد هذا المعنى لنصب (الخيرة) وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول. فكأنه يقول: ويختار ما كان لهم [ ص: 4721 ] الخيرة. أي: الذي كان هو عين الخيرة لهم. وهذا لم يقرأ به أحد البتة. مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير.

الثالث: أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار وإرادتهم أن يكون الخيرة لهم. ثم ينفي هذا سبحانه عنهم، ويبين تفرده بالاختيار، كما قال تعالى: وقالوا لولا نـزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه. وأخبر أن ذلك ليس إليهم. بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم. وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل، على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح. وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات. وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل. فهو القاسم ذلك وحده لا غيره. وهكذا هذه الآية. بين فيها انفراده بالخلق والاختيار. فالله سبحانه أعلم بمواقع اختياره كما قال: وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته أي: الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة، دون غيره.

الرابع: أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال: ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ولم يكن شركهم مقتضيا لإثبات خالق سواه، حتى نزه نفسه عنه. فتأمله فإنه في غاية اللطف.

الخامس: إن هذا نظير قوله في الحج: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ثم قال: الله يصطفي من [ ص: 4722 ] الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور وهذا نظير قوله في القصص: وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ونظير قوله في الأنعام: الله أعلم حيث يجعل رسالته فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محال اختياره، بما خصصها به بعلمه، بأنه يصلح له دون غيره فتقدير السياق في هذه الآيات تجده متضمنا لهذا المعنى دائرا عليه. والله أعلم.

السادس: إن هذه الآية مذكورة عقيب قوله: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار فكما خلقهم وحده سبحانه، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحا، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه، وكان هذا الاختيار راجعا إلى حكمته وعلمه سبحانه، لمن هو أهل له. لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم. فسبحان الله وتعالى عما يشركون.

ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فصل) فإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه، دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته. وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره. فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص، المشهور أثره في هذا العالم، من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله وصدق رسوله. فنشير منه إلى شيء يسير يكون منبها على ما وراءه، دالا على ما سواه. فخلق الله السماوات سبعا. فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه. وأسكنها من شاء من خلقه. فلها مزية وفضل على سائر السماوات. ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى. وهذا التفضيل والتخصيص، مع تساوي [ ص: 4723 ] مادة السماوات، من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار. ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها. وفي بعض الآثار: إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه. ومن هذا اختياره من الملائكة، المصطفين منهم على سائرهم. كجبريل وميكائيل وإسرافيل. وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم. واختيار الرسل منهم واختياره أولي العزم منهم. واختياره منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهم وسلم. ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس أنواع بني آدم. ثم اختار منهم بني كنانة بن خزيمة. ثم اختار من ولد كنانة قريشا. ثم اختار من قريش بني هاشم. ثم اختار من بني هاشم، سيد ولد آدم محمدا صلى الله عليه وسلم. وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين. واختار منهم السابقين الأولين. واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان. واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها. واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم. ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها. وهي البلد الحرام. فإنه سبحانه اختاره لنبيه، وجعله مناسك لعباده. وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق. فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين، كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا. وجعله حرما آمنا لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد ولا يختلى خلاه، ولا يلتقط لقطته للتملك. بل للتعريف ليس إلا. ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض. فخير الأيام عند الله يوم النحر. وهو يوم الحج الأكبر كما في (السنن). وأفضل الشهور شهر رمضان. وعشره الأخير أفضل الليالي. وليلة القدر أفضل من ألف شهر. ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام. انتهى ملخصا.

وقد أوسع المقال وجود الاستدلال. فرحمه الله ورضي عنه وأرضاه. وقوله تعالى: سبحان الله أي: تنزيها لله الذي لا يزاحم اختياره اختيار: وتعالى عما يشركون
[ ص: 4724 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[69 - 71] وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون

وربك يعلم ما تكن أي: تخفي: صدورهم أي: من الكيد والمكر: وما يعلنون أي: من الأقوال والأفعال: وهو الله لا إله إلا هو أي: وهو المستحق للألوهية والعبادة وحده: له الحمد في الأولى والآخرة أي: لأنه المولى للنعم كلها في الدارين: وله الحكم أي: القضاء النافذ في كل شيء. يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته. ويحكم عليه بموجب إرادته: وإليه ترجعون أي: بالبعث للجزاء: قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون أي: هذا الكلام الحق، سماع تدبر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[72 - 76] قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ ص: 4725 ] ونـزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين

قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون أي: هذه المنفعة فتقوموا بشكرها: ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه أي: في الليل: ولتبتغوا من فضله أي: في النهار: ولعلكم تشكرون أي: نعمه الظاهرة والباطنة، والجسمانية والروحانية، باستعمالها فيما وجب من طاعته. وذلك فيما خلقت له.

ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونـزعنا أي: وأخرجنا: من كل أمة شهيدا أي: نبيا يشهد عليهم بما كانوا عليه. كقوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد فقلنا أي: لكل أمة من تلك الأمم: هاتوا برهانكم أي: على ما أنتم عليه. أحق هو أم لا؟ فعجزوا عن آخرهم. وظهر برهان النبي، كما قال تعالى: فعلموا أن الحق لله أي: في الألوهية، لا يشاركه فيها أحد: وضل عنهم أي: غاب عنهم غيبة الضائع: ما كانوا يفترون أي: من الباطل والمذاهب المختلفة، والطرق المتشعبة المتفرقة.

إن قارون كان من قوم موسى أي: من شاكلتهم في الكفر والطغيان. وقوم موسى، جماعته الذين أرسل إليهم، وهم القبط وطاغيتهم فرعون: فبغى عليهم أي: بالكبر والاستطالة عليهم لما غلب عليه الحرص ومحبة الدنيا، لغروره وتعززه برؤية زينة نفسه:وآتيناه من الكنوز أي: من الأموال [ ص: 4726 ] المدخرة: ما إن مفاتحه أي: مفاتيح صناديقه. على حذف مضاف. أو الإضافة لأدنى ملابسة. وقيل خزائنه: لتنوء أي: تثقل: بالعصبة أي: الجماعة الكثيرة من الرجال أو البغال: أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح أي: بزخارف الدنيا فرحا يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها: إن الله لا يحب الفرحين أي: هذا الفرح، لما فيه من إيثارها عن الآخرة، والرضا بها عنها، والإخلاد إليها. وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77 - 78] وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون .

وابتغ فيما آتاك الله أي: اطلب من الغني الذي تفضل الله به عليك، بعد الفاقة: الدار الآخرة أي: بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب. وتجعله زادك إلى الآخرة: ولا تنس نصيبك من الدنيا وهو أن تأخذ منه ما يصلحك ويرفهك: وأحسن أي: إلى الناس. أو افعل الإحسان من وجوهه المعروفة: كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض أي: بهذا المال الذي جعله سبب صلاحها: إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أي: بطرق التجارة أو المكاسب: أولم يعلم أي: مما سمع بالتواتر: أن الله قد أهلك من قبله من القرون أي: الكثيرة، بحيث صارت سنة له: من هو أشد منه قوة أي: بالأموال والأتباع: وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم [ ص: 4727 ] المجرمون أي: لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال، ليعتذروا عنها. بل متى حق عليها القول بفسقهم، أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر. ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، بقوله سبحانه:

ابوالوليد المسلم 30-12-2024 05:45 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْقَصَصِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4727 الى صـ 4737
الحلقة (488)





القول في تأويل قوله تعالى:

[79 - 82] فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون

فخرج أي: قارون باغيا: على قومه في زينته أي: مغترا بالنظر فيها: قال الذين يريدون الحياة الدنيا أي: جريا على سنن الجبلة البشرية، من الرغبة في السعة واليسار: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير أي: مما تتمنونه: لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها أي: هذه الكلمة التي فاه بها الذين أوتوا العلم. أو الجنة. أو السيرة والطريقة، وهي الإيمان والعمل الصالح: إلا الصابرون أي: على الطاعات عن الشهوات، وعلى زمام النفس أن [ ص: 4728 ] تجري في أعقاب المزخرفات. و(ويلك) في الأصل دعاء بالهلاك. والمراد به هنا الزجر عن هذا التمني، مجازا. وهو منصوب على المصدرية: فخسفنا به وبداره أي: المشتملة على أمواله: الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله أي: بدفع العذاب عنه: وما كان من المنتصرين أي: بقوة نفسه وماله: وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده أي: من شقي وسعيد : ويقدر أي: يقبض. فلا دلالة في البسط على السعادة. ولا في القبض على الشقاوة. بل يفعل سبحانه كل واحد من البسط والقدر بمحض مشيئته، لا لكرامة توجب البسط، ولا لهوان يقتضي القبض: لولا أن من الله علينا أي: بعدم إيتائه متمنانا: لخسف بنا أي: كما خسف به: ويكأنه لا يفلح الكافرون أي: لنعمة الله في صرفها في غير سبيلها. أو المكذبون برسله اغترارا بزخارفهم.

فائدة:

في ويكأن مذاهب:

الأول: أن (وي) كلمة برأسها. وهي اسم فعل، معناها أعجب. أي: أنا. والكاف للتعليل. و(أن) وما في حيزها مجرورة بها. أي: أعجب لأن الله يبسط الرزق إلخ. وقياس هذا القول أن يوقف على (وي) وحدها، وقد فعل ذلك الكسائي .

الثاني: أنه مركب من (وي) للتعجب (وكأن) للتشبيه. والمعنى: ما أشبه الأمر أن الله يبسط. أي: ما أشبه أمر الدنيا والناس مطلقا إلى آخر أمر قارون وما شوهد من قصته. والأمر مأخوذ من الضمير. فإنه للشأن. والمراد من تشبيه الحال بهذه الحال، أنه لتحققه وشهرته، يصلح أن يشبه به كل شيء. كما أشار إليه في الكشف.

الثالث: قال بعضهم: (كأن) هنا للتشبيه. إلا أنه ذهب منها معناه. وصارت للخبر واليقين. وهذا أيضا يناسبه الوقف على (وي).

[ ص: 4729 ] الرابع: زعم الهمداني في (الفرائد) أن مذهب سيبويه والخليل أن (وي) للتندم. و(كأن) للتعجب. والمعنى: ندموا متعجبين في أن الله يبسط إلخ.

قال الشهاب: وكون (كأن) للتعجب، لم يعهد.

الخامس: ذهب الكوفيون إلى أنه مركب من (ويك) بمعنى (ويلك) فخفف بحذف اللام. والعامل في (أن) اعلم، المقدر. والكاف على هذا ضمير في محل جر. وهذا يناسب الوقف على الكاف. وقد فعله أبو عمرو .

السادس: أن (ويك) كلمة برأسها. والكاف حرف خطاب. ويقرب هذا مما قبله. قال أبو البقاء : وهو ضعيف لوجهين: أحدهما أن معنى الخطاب هنا بعيد. والثاني: أن تقدير (وي) اعلم، لا نظير له، وهو غير سائغ في كل موضع. انتهى.

السابع: أن (ويكأن) كلها كلمة مستقلة بسيطة. ومعناها ألم تر. وربما نقل ذلك عن ابن عباس . ونقل الفراء والكسائي أنها بمعنى: (أما ترى إلى صنع الله)، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى: (رحمة لك) في لغة حمير. ولم يرسم في القرآن إلا (ويكأن) و(ويكأنه) متصلة في الموضعين. فعامة القراء اتبعوا الرسم. والكسائي وقف على (وي) وأبو عمرو على (ويك).

وهذا ما يستفاد من حواشي القاضي والسمين. وعندي أنها مركبة من (وي) للتعجب و(كأن) التي للتحقيق وهي أحد معانيها المعروفة. والوقف على (وي). ولا يشكل على ذلك كتابتها في المصاحف متصلة، لأن الكتابة -كما قال ابن كثير - أمر وضعي اصطلاحي، والمرجع إلى اللفظ العربي.

وقد اتفق اللغويون على أن (وي) كلمة تعجب. يقال (ويك) و(وي لزيد )، وتدخل على (كأن) المخففة والمشددة، ومن شواهد الأولى قول الشاعر:


سالتاني الطلاق. أن رأتاني قل مالي. قد جئتماني بنكر وي كأن من يكن له نشب يح
بب ومن يفتقر يعش عيش ضر


وهذا البيت مما يدل على ما استظهرته، بله الاستعمال إلى هذه الأجيال.

[ ص: 4730 ] قال ابن كثير : وقد ذكر ههنا إسرائيليات، أضربنا عنها صفحا. ونحن تأسينا به، بل فقناه في الإضراب عن كثير من مرويه، الموقوف والضعيف الذي سودت به الصحف.

ثم أشار تعالى إلى مقابل حال قارون، من حال خلص عباده، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[83 - 84] تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون

تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض أي: غلبة وتسلطا بسوء وتكبر: ولا فسادا أي: بظلم وعدوان وصد عن سبيل الله تعالى: والعاقبة أي: النهاية الحميدة: للمتقين أي: الذين يتقون ما لا يرضاه تعالى من الأقوال والأفعال.

قال الزمخشري ، قدس الله روحه: لم يعلق الموعد بترك العلو والفساد. ولكن بترك إرادتهما، وميل القلوب إليهما. كما قال: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فعلق الوعيد بالركون. وعن علي رضي الله عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه. فيدخل تحتها.

وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال: ذهبت الأماني هاهنا. وعن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يرددها حتى قبض. ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون، والفساد لقارون، متعلقا بقوله: إن فرعون علا في الأرض ولا تبغ الفساد في الأرض ويقول: من لم يكن [ ص: 4731 ] مثل فرعون وقارون، فله تلك الدار الآخرة. ولا يتدبر قوله: والعاقبة للمتقين كما تدبره علي والفضيل وعمر رضي الله عنهم من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون معناه: فلا يجزون إلا.. إلخ. فوضع فيه الموصول والظاهر، موضع الضمير، لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم، والزيادة تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين. ومعنى قوله: إلا ما كانوا يعملون أي: مثله. وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع، أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها. ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وسبعمائة. وهو معنى قوله: فله خير منها كذا في الكشاف.
القول في تأويل قوله تعالى:

[85 - 86] إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين

إن الذي فرض عليك القرآن أي: أوجب عليك تلاوته على الناس، وتبليغه إليهم، وصدعهم به: لرادك أي: بعد الموت: إلى معاد أي: مرجع عظيم. وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه. فتنوينه للتعظيم، ووجهه -كما في (العناية)- أن المعاد صار كالحقيقة في المحشر. لأنه ابتداء العود إلى الحياة، ورده على ما كان عليه فجعل معاده عظيما لعظمة مقامه فيه.

وقال ابن كثير : المعاد هو يوم القيامة. يسأله عما استرعاه من أعباء النبوة. كما قال تعالى: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين وقال تعالى: يوم يجمع [ ص: 4732 ] الله الرسل فيقول ماذا أجبتم وقال: وجيء بالنبيين والشهداء وعن ابن عباس روايات: إلى يوم القيامة. إلى الموت. إلى الجنة أخرجت عنه من طرق. كما أسنده ابن كثير .

والذي رواه البخاري والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: لرادك إلى مكة كما أخرجك منها. وعن الضحاك قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة، اشتاق إلى مكة. فنزلت الآية.

قال ابن كثير : وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، وإن كان مجموع السورة مكيا ، والله أعلم.

ثم قال: ووجه الجمع بين هذه الأقوال، أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح، الذي هو عند ابن عباس على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم. كما فسر ابن عباس سورة: إذا جاء نصر الله والفتح أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه، وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب ووافقه عمر على ذلك، وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم. ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله تعالى: لرادك إلى معاد بالموت. وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت. وتارة بالجنة التي هي جزاؤه على أدائه رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الجن والإنس. ولأنه أكمل خلق الله على الإطلاق. انتهى.

قل ربي أعلم من جاء بالهدى يعني نفسه الكريمة. أي: بما يستحقه من المثوبة: ومن هو في ضلال مبين يعني المشركين. أي: بما يستحقونه من العذاب. والجملة تقرير للوعيد السابق: وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب أي: ما كنت تظن، قبل إنزال الوحي إليك، أن الوحي ينزل عليك: إلا رحمة من ربك أي: ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك: فلا تكونن ظهيرا للكافرين أي: معينا لهم. ولكن نابذهم وخالفهم. وحكى الكرماني في (الغرائب) أن معناه: فلا تكن بين ظهرانيهم، وأنه أمر بالهجرة.
[ ص: 4733 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[87 - 88] ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنـزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون

ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنـزلت إليك أي: عن تبليغها بعد إنزالها، والأمر بالصدع بها لضيق صدرك من مكرهم. فإن الله معك، ومعل كلمتك ومؤيد دينك. ولذا قال: وادع إلى ربك أي: إلى عبادته وحده لا شريك له: ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر

قال القاضي: هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين من مساعدته لهم. أي: لأنه لا يتصور منه ذلك حتى ينهى عنه. فكأنه لما نهاه عن مظاهرتهم ومداراتهم، قال إن ذلك مبغوض لي كالشرك. فلا تكن ممن يفعله. أو المراد نهي أمته، وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم. كذا في (العناية).

لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه أي: إياه و(الوجه) يعبر به عن الذات كما قال: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وفي قوله تعالى: هالك وجوه: حمله على المستقبل، أو هو عرضة للهلاك والعدم، أو هالك في حد ذاته، لأن وجوده ليس ذاتيا بل لاستناده إلى واجب الوجود، فهو بالقوة وبالذات معدوم حالا. والمراد بالمعدوم ما ليس له وجود ذاتي. لأن وجود غيره كلا وجود. إذ هو في كل آن قابل للعدم. وعن مجاهد والثوري : (إلا وجهه) أي: ما أريد به وجهه. حكاه البخاري في (صحيحه).

[ ص: 4734 ] قال ابن جرير : ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر:


أستغفر الله ذنبا، لست محصيه رب العباد، إليه الوجه والعمل


قال ابن كثير : وهذا القول لا ينافي القول الأول. فإن هذا إخبار عن كل الأعمال، بأنها باطلة، إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. انتهى.

وفيه بعد وتكلف يذهب رونق النظم، وماء الفصاحة. لا سيما وآي التنزيل يفسر بعضها بعضا. والآية الثانية التي ذكرناها بمعنى هذه. وتلك لا تحتمل ذاك المعنى، فكذا هذه: له الحكم أي: القضاء النافذ في الخلق: وإليه ترجعون أي: يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

29- سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ

سميت بها لاشتمالها على آية مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت الآية، المشير إن من اعتمد على قوة الأصنام وحفظها عن العذاب كالعنكبوت، اعتمدت على قوة بيتها التي لا تحتمل مس أدنى الحشرات والرياح، وحفظها عن الحر والبرد. وهذا أتم في الدعوة إلى التوحيد الذي هو أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايمي.

وهي مكية. واستثني من أولها إلى قوله تعالى: وليعلمن المنافقين وقوله: وكأين من دابة الآية، ويقال إنها آخر ما نزل بمكة. وآيها تسع وستون. قال الداني : متفق عليه.

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1 - 3] الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين

الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون أي: أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم، وأظهروا القول بالإيمان، أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمحنهم الله بضروب المحن، حتى يبلو صبرهم وثبات أقدامهم وصحة عقائدهم. لتمييز المخلص من غير المخلص. كما قال: لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وكقوله: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين وقوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب وكل هذه الآيات وأمثالها مما نزل بمكة في تثبيت قلوب المؤمنين، وتصبيرهم على ما كان ينالهم [ ص: 4737 ] من أذى المشركين: ولقد فتنا الذين من قبلهم أي: من أتباع الأنبياء عليهم السلام، بضروب من الفتن من أعدائهم، كما دون التاريخ اضطهادهم. أي: فصبروا وما وهنوا لما أصابهم حتى علت كلمة الله: فليعلمن الله الذين صدقوا أي: في قولهم: "آمنا": وليعلمن الكاذبين أي: فيه: وذلك بالامتحان.

فإن قيل: يتوهم من صيغة الفعل أن علمه حدث، مع أنه قديم. إذ علمه بالشيء قبل وجوده وبعده، لا يتغير. يجاب بأن الحادث هو تعلق علمه بالمعلوم بعد حدوثه.

وقال الناصر: فائدة ذكر العلم هاهنا، وإن كان سابقا على وجود المعلوم هو التنبيه بالسبب على المسبب. وهو الجزاء كأنه قال تعالى: ليعلمنهم فليجازينهم بحسب علمه فيهم.

وقال المهايمي: فليعلمن الله أي: يظهر علمه عند خلقه بصدق إيمان: الذين صدقوا فيه، بدلالة ثباتهم عليه عند المصائب: وليعلمن أي: وليظهر علمه بكذب دعوى: الكاذبين لئلا يشهدوا عنده بإيمان الكاذبين، فينسب في تعذيبهم إلى الظلم. وليثق المؤمنون بمحبة الصادقين، ويستظهروا بها، ويحذروا عن مكر الكاذبين. انتهى.




ابوالوليد المسلم 30-12-2024 05:51 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4738 الى صـ 4748
الحلقة (489)







[4 - 7] أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون

أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا أي: يفوتونا، فلا نقدر على مجازاتهم بمساوئ أعمالهم: ساء ما يحكمون أي: بئس الذي يحكمونه حكمهم: من كان يرجو لقاء الله أي: في الجنة من رؤيته، والفوز بكرامته: فإن أجل الله وهو الموت: لآت أي: فليبادر ما يصدق رجاءه ويحقق أمله من الثواب والتواصي بالحق والصبر والرغبة فيما عنده تعالى. أو المعنى: من كان يرجو لقاء الله، من كل من صدق في إيمانه، وأخلص في يقينه، فاعلم أن أجل الله لآت. وهو الوقت الذي جعله الله أجلا وغاية لظهور النصر والفتح وعلو الحق وزهوق الباطل. أي: فلا يستبطئنه. فإنه آت بوعد الله الحق وقول الصدق. ولم أر من ذكره ولعله أنسب بقرينة السياق والسباق. والله أعلم:وهو السميع العليم أي: السميع لأقوالهم العليم بضمائرهم وأحوالهم: ومن جاهد أي: في الصبر على البلاء والثبات على الحق مع ضروب الإيذاء: فإنما يجاهد لنفسه أي: لأنه يمهد لنفسه، ما يجني به ثمر غرسه: إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون أي: أحسن جزاء أعمالهم.


[8 - 9] ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين

ووصينا الإنسان بوالديه حسنا أي: أمرناه أمرا مؤكدا بإيلاء والديه فعلا ذا حسن عظيم: وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما أي: في الشرك، إذا حملاك عليه. ومعنى: ما ليس لك به علم أي: لا علم لك بإلهيته. قال القاضي: عبر عن نفيها بنفي العلم بها، للإيذان بأن ما لم يعلم صحته، لا يجوز اتباعه، وإن لم يعلم بطلانه. فكيف بما علم بطلانه؟ إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون أي: إلي مرجع من آمن منكم ومن أشرك. فأجازيكم حق جزائكم. فيه التحذير من متابعتهما على الشرك [ ص: 4739 ] والحث على الثبات والاستقامة في الدين، بذكر المرجع والوعيد. وقد روي أن سعد بن أبي وقاص الزهري رضي الله عنه حين أسلم، قالت أمه: يا سعد ! بلغني أنك قد صبأت. فوالله! لا يظلني سقف بيت من الضح والريح. وإن الطعام والشراب علي حرام، حتى تكفر بمحمد وكان أحب ولدها إليها. فأبى سعد . وبقيت ثلاثة أيام كذلك. فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه. فنزلت هذه الآية، والتي في لقمان، والتي في الأحقاف. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان. وروى الترمذي عن سعد قال: قال: نزلت في أربع آيات. فذكر قصته وقال: قالت أم سعد : أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت، أو تكفر. فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها. فنزلت هذه الآية. قال ابن كثير : وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضا.

وقال الترمذي : حسن صحيح: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين أي: في زمرة الراسخين في الصلاح والكمال.

قال الزمخشري : والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين، وهو متمنى أنبياء الله.

قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وقال في إبراهيم عليه السلام: وإنه في الآخرة لمن الصالحين أو المعنى: في مدخل الصالحين وهي الجنة. وهذا نحو قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم الآية.
[ ص: 4740 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[10] ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين

ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله أي: جعل ما يصيبه في الصرف عن الإيمان من ضروب الإيذاء، بسببه، مثل عذاب الله في الشدة والهول، فيرتد عن الدين. مع أن مقتضى إيمانه أن يصبر ويتشجع ويتلقى ما يناله في الله بالرضا، يرى العذاب فيه عذوبة والمحنة منحة. فإن العاقبة للتقوى وسعادة الدارين لأهلها: ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين أي: من التلبيس والإخلاص. وهذه الآية كقوله تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه إلى قوله: ذلك هو الضلال البعيد وكقوله سبحانه: الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين وقال تعالى: فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين
القول في تأويل قوله تعالى:

[11 - 13] وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين [ ص: 4741 ] وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون

وليعلمن الله الذين آمنوا أي: بإخلاصهم: وليعلمن المنافقين ثم بين تعالى حمل كفار قريش لمن آمن على الكفر بالاستمالة، بعد بيان حملهم لهم عليهم بالأذية، بقوله: وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم أي: إن كان ذلك خطيئة يؤاخذ عليها بالبعث، فتبعتها علينا وفي رقابنا.

قال ابن كثير : كما يقول القائل: افعل كذا وخطيئتك في رقبتي. قال الله تعالى تكذيبا لهم: وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وهي أوزار أنفسهم: وأثقالا مع أثقالهم أي: وأوزارا أخر مع أوزار أنفسهم. يعني أوزار الإضلال والحمل على الكفر والصد عن سبيل الله. كما قال تعالى: ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم وفي الصحيح: « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا » : وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون أي: من الأكاذيب والأباطيل. ثم بين تعالى افتتان الأنبياء بأذية أممهم، إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار، تأكيد الإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء، وحثا لهم على الصبر تأسيا بالأنبياء، فقال سبحانه:
[ ص: 4742 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[14 - 19] ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير

ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية أي: هذه الحادثة الهائلة موعظة: للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا أي: كذبا، في تسميتها آلهة وشركاء لله، وشفعاء إليه: إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن [ ص: 4743 ] تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين أي: التبليغ الذي يزيل كل لبس وما عليه أن يصدقه قومه: أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إرشاد إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه مع وضوح دليله، وذلك بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم وجدوا وصاروا أناسا سامعين مبصرين. فالذي بدأ هذا، قادر على إعادته. فإنه سهل عليه، يسير لديه. فقوله تعالى: "ثم يعيده" عطف على "أولم يروا" لا على "يبدئ" لعدم وقوع الرؤية عليه. فهو إخبار بأنه تعالى يعيد الخلق قياسا على الابتداء. وقد جوز العطف على "يبدئ" بتأويل (الإبداء) بإبداء ما يشاهده، كالنبات وأوراق الأشجار وغيرهما. والإعادة بإنشائه تعالى كل سنة، مثل ما أنشأه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما. فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث وقوعه من غير ريب. فيصح حينئذ العطف.

قال الشهاب: لكنه غير ملاق لما وقع في غير هذه الآية.

قال: وبهذا التقرير سقط ما قيل: إن أريد بالرؤية العلم فكلاهما معلوم. وإن أريد الإبصار فهما غير مرئيين. مع أنه يجوز أن يجعل ما أخبر به الله تعالى لتحققه، كأنه مشاهد: إن ذلك أي: ما ذكره، وهو الإعادة: على الله يسير
القول في تأويل قوله تعالى:

[20 - 24] قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير [ ص: 4744 ] والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون

قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق أي: كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى. فإن ترتيب النظر على السير في الأرض، مؤذي يتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها: ثم الله ينشئ النشأة الآخرة أي: الخلق الآخر: إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء أي: بعد النشأة الثانية، وهم المنكرون لها: ويرحم من يشاء وهم المؤمنون بها: وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء أي: بالتواري في الأرض، ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها، لو استطعتم الرقي فيها. أو القلاع الذاهبة فيها. فيكون المراد بالسماء ما ارتفع. وقيل: المعنى: ولا من في السماء، فحذف اسم الموصول وهو مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير: ولا من في السماء بمعجزه، والجملة معطوفة على جملة "أنتم بمعجزين" وفيه تكلف وضعف صناعي: وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير أي: يدافع عنكم ما يراد بكم: والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم ثم أشار تعالى إلى ما أجاب به قوم إبراهيم، بعد دعوته إياهم وعظاته البالغة، بقوله: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون
[ ص: 4745 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[25 - 29] وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين

وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا أي: لتتوادوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها: ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا أي تتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع. كما قال تعالى: كلما دخلت أمة لعنت أختها وقال تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ومأواكم النار وما لكم من ناصرين

[ ص: 4746 ] تنبيه:

قال السمين: في (ما) من قوله تعالى: (إنما اتخذتم) ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها موصولة بمعنى (الذي) والعائد محذوف، وهو المفعول الأول و: "أوثانا" مفعول ثان. والخبر (مودة) في قراءة من رفع. والتقدير: إن الذي اتخذتموه أوثانا مودة، أي: ذو مودة، أو جعل نفس المودة مبالغة. ومحذوف على قراءة من نصب مودة أي: الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة لا ينفعكم، أو يكون عليكم، لدلالة قوله: ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض

والثاني: أن تجعل (ما) كافة، و(أوثانا) مفعول به. و(الاتخاذ) هاهنا متعد لواحد. أو لاثنين، والثاني هو "من دون الله" فمن رفع (مودة) كانت خبر مبتدأ مضمر، أي: هي مودة أي: ذات مودة. أو جعلت نفس المودة مبالغة. والجملة حينئذ صفة لـ(أوثانا) أو مستأنفة. ومن نصب كان مفعولا له، أو بإضمار (أعني).

الثالث: أن تجعل (ما) مصدرية، وحينئذ يجوز أن يقدر مضاف من الأول. أي: أن سبب اتخاذكم أوثانا مودة، فيمن رفع (مودة) ويجوز أن لا يقدر، بل يجعل نفس الاتخاذ هو المودة مبالغة. ومن القراء من رفع (مودة) غير منونة وجر (بينكم) ومنهم من نصب مودة منونة ونصب بينكم ومنهم من نصب مودة منونة وجر بينكم. فالرفع تقدم. والنصب تقدم أيضا فيه وجهان. وجوز ثالث، وهو أن يجعل مفعولا ثانيا عن المبالغة والإضافة للاتساع في الظرف.

ونقل عن عاصم أنه رفع (مودة) غير منونة ونصب (بينكم) وخرجت على إضافة مودة للظرف. وإنما بني لإضافته إلى غير متمكن.

وأشار العلامة القاشاني إلى جواز أن يكون قوله تعالى: "في الحياة الدنيا" خبرا لـ(ما) إن كانت اسمية. وهو وجه لم يتعرض له المعربون هنا، ولا مانع منه. وعبارته:

[ ص: 4747 ] إنما اتخذتم من دون الله شيئا عبدتموه مودودا فيما بينكم في الحياة الدنيا أو: إن كل ما اتخذتم من دون الله شيئا مودودا فيما بينكم في الحياة الدنيا، أو: إن كل ما اتخذتم أوثانا مودود في هذه الحياة الدنيا. أو لمودة بينكم في هذه، على القراءتين.

ثم قال: والمعنى أن المودة قسمان: مودة دنيوية، ومودة أخروية. والدنيوية منشؤها النفس، والأخروية منشؤها الروح. فكل ما يحب ويود من دون الله، لا لله ولا بمحبة الله، فهو محبوب بالمودة النفسية. وهو هوى زائل، كلما انقطعت الوصلة البدنية زالت ولم تصل إلى إحدى القيامات، فإنها نشأت من تركيب البدن واعتدال المزاج. فإذا انحل التركيب وانحرف المزاج، تلاشت وبقي التضاد والتعاند، بمقتضى الطبائع، لقوله تعالى: ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض الآية. ولهذا شبهها ببيت العنكبوت في الوهن.

وأما الأخروية فمنشؤها المحبة الإلهية. وتلك المودة هي التي تكون بين الأصفياء والأولياء، لتناسب الصفات، وتجانس الذوات، لا تتصفى غاية الصفاء إلا عند زوال التركيب. فيصير يوم القيامة محبة صرفة الهيئة، بخلاف تلك. انتهى.

فآمن له أي: صدق إبراهيم فيما دعاه إليه: لوط وقال إني مهاجر أي: من أرض قومي: إلى ربي أي: لا إلى غيره بل إلى عبادته وإقامة شعائر دينه والقيام بدعوة الخلق إلى الحق من شرعه وتوحيده: إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له أي: لإبراهيم: إسحاق ويعقوب أي: ولدا ونافلة، بمباركة الذرية: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا أي: بإيتاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملك إليه والثناء إلى آخر الدهر والصلاة عليه: وإنه في الآخرة لمن الصالحين ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة أي: الفعلة المتناهية في القبح: ما سبقكم بها من أحد من العالمين أي: لتحاشي الطباع عنها. ثم فصلها بعد الإجمال، لزيادة تنفير النفوس منها: أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل أي: سبيل النسل بإتيان ما ليس بحرث. [ ص: 4748 ] أو بعمل قطاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال: وتأتون في ناديكم المنكر أي: ما لا يليق من الأقوال والأفعال: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين
القول في تأويل قوله تعالى:

[30 - 33] قال رب انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين

قال رب انصرني على القوم المفسدين أي: الذين يفسدون كل برهان عقلي ونقلي، وكل حكمة إلهية: ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى أي: بالبشارة بالولد والنافلة، وهم الملائكة. بعثوا لنصر لوط وتبشيره بهلاك قومه: قالوا أي: لإبراهيم عليه السلام: إنا مهلكو أهل هذه القرية أي: قرية سدوم: إن أهلها كانوا ظالمين أي: بتنزيلهم الرجال منزلة النساء، وقطع السبل، وفعل المنكر وترك المعروف: قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين أي: الباقين في العذاب أو القرية: ولما أن جاءت رسلنا أي: المذكورون بعد مفارقتهم لإبراهيم عليه السلام: لوطا سيء بهم أي: اعترته المساءة بسببهم مخافة أن يقصدوهم: وضاق بهم [ ص: 4749 ] ذرعا أي: ضاق بشأن ذرعه، أي: طاقته: وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك أي: مما يصيبهم من العذاب: إلا امرأتك كانت من الغابرين

ابوالوليد المسلم 30-12-2024 05:56 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4749 الى صـ 4759
الحلقة (490)







[34 - 38] إنا منـزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين .

إنا منـزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء أي: عذابا عظيما من جهتها: بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون يعني قصتها العجيبة، أو آثارها الخربة: وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر أي: توقعوه، وما سيقع فيه من فنون الأهوال: ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي: بالبغي على أهلها، كنقص المكيال والميزان، وقطع الطريق على الناس، فإن عاقبة ذلك الدمار: فكذبوه فأخذتهم الرجفة أي: الصيحة التي هي منشأ الزلزلة الشديدة: فأصبحوا في دارهم أي: بلدهم أو منازلهم: جاثمين أي: هلكى ميتين: وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين أي: عقلاء متمكنين من النظر والافتكار بواسطة الرسل عليهم السلام، فإنهم أوضحوا السبل، فلم يكن لهم في ذلك عذر، ولكنهم لم يفعلوا، عنادا وكبرا.


[39 - 40] وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين أي: فائتين الله سبحانه. بل لحقهم عذابه فدمرهم تدميرا. ولذا قال: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا أي: ريحا عاصفا، فيها حصاء، وهم قوم لوط: ومنهم من أخذته الصيحة كمدين وثمود: ومنهم من خسفنا به الأرض كقارون: ومنهم من أغرقنا كقوم نوح وفرعون وقومه: وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون أي: يفعل ما يوجب ذلك، من البغي والفساد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[41 - 44] مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين

مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا أي: تعتمد على قوته وتظنه محيطا بها، دافعا عنها الحر والبرد: وإن أوهن البيوت أي: أضعفها: لبيت العنكبوت أي: لأنه لا يحتمل مس أدنى الحيوانات وأضعف الرياح. ولا يدفع شيئا من الحر والبرد. وهذا مثلهم: لو كانوا يعلمون أي: شيئا ما. أو إن أولياءهم أوهى من ذلك ثم الغرض من التشبيه هو تقرير وهن دينهم، وإنه بلغ الغاية فيه، وهو إما تشبيه مركب من الهيئة المنتزعة، فمدار قطب التمثيل على أن أولياءهم بمنزلة نسج العنكبوت في ضعف الحال وعدم الصلاحية للاعتماد. وعلى هذا فقوله: وإن أوهن البيوت تذييل يعرف الغرض من التشبيه. وقوله: لو كانوا يعلمون إيغال في تجهيلهم. لأنهم لا يعلمونه مع وضوحه لدى من له أدنى مسكة. وإما أن يكون من تشبيه المفرد، لأن المقصود بيان حال العابد والمعبود. وفي الآية لطائف بيانية ذكرت في المطولات. وقوله: إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء بالياء والتاء في (تدعون) قراءتان. و(ما) إما استفهامية منصوبة بـ(يدعون) و(من) الثانية للتبيين. أو نافية و(من) مزيدة. و(شيء) مفعول (تدعون) أو مصدرية بمعنى الدعوة و(شيء) مصدر بمعناه أيضا. أو موصولة مفعول لـ(يعلم) ومفعول (يدعون) عائده المحذوف. والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل. وعلى الآخرين وعيد لهم. أفاده القاضي: وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال يعني هذا المثل ونظائره في التنزيل: نضربها للناس أي: ليقرب ما بعد من أفهامهم. فإن الأمثال والتشبيهات طرق تبرز فيها المعاني المحتجبة للأفهام: وما يعقلها أي: يدرك حسنها وفوائدها: إلا العالمون أي: الراسخون في العلم الكاملون فيه. وعن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها، إلا أحزنني. لأني سمعت الله تعالى يقول: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون خلق الله السماوات والأرض بالحق أي: محقا مراعيا للحكم والمصالح، مقدسا عن أن يقصد به باطلا. فالباء للملابسة، والجار والمجرور حال. وهذا كقوله تعالى: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين إن في ذلك لآية للمؤمنين


[45 - 46] اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنـزل إلينا وأنـزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون

اتل ما أوحي إليك من الكتاب أي: تقربا إلى الله تعالى بقراءته، وتحفظا لألفاظه، واستكثارا لما في تضاعيفه من المعاني. فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وتذكيرا للناس، وحملا لهم على العمل بما فيه، من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أي: تكون سببا للانتهاء عن ذلك. ففيه تجوز في الإسناد. فإن قلت: كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته! قلت: الصلاة التي هي الصلاة عند الله، المستحق بها الثواب، أن يدخل فيها مقدما للتوبة النصوح متقيا، لقوله تعالى: إنما يتقبل الله من المتقين ويصليها خاشعا بالقلب والجوارح. ثم يحوطها بعد أن يصليها، فلا يحبطها، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من لم تأمره صلاته بالمعروف، وتنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا.

عن الحسن رحمه الله: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه. أفاده الزمخشري . وقوله تعالى: ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون قال الزمخشري : أي: وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله، كما قال: [ ص: 4753 ] فاسعوا إلى ذكر الله وإنما قال: ولذكر الله ليستقل بالتعليل. كأنه قال: وللصلاة أكبر، لأنها ذكر الله. أو: ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما، أكبر. فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، ولذكر الله إياكم برحمته، أكبر من ذكركم إياه بطاعته. انتهى. فـ(ذكر) على الأولين مصدر مضاف للمفعول. وعلى ما بعدهما مضاف للفاعل، والمفعول محذوف. والمفضل عليه في الأولين غيره من الطاعات. وفي الأخير قوله: (من ذكركم).

وقال الرازي: لما ذكر تعالى أمرين، وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة، بين ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم، فقال: ولذكر الله أكبر وأنتم إذا ذكرتم آباءكم بما فيهم من الصفات الحسنة، تنبشون لذلك وتذكرونهم بملء أفواهكم وقلوبكم. لكن ذكر الله أكبر، فينبغي أن يكون على أبلغ وجه التعظيم. أما الصلاة فكذلك. لأن الله يعلم ما تصنعون. وهذا أحسن صنعكم. فينبغي أن يكون على وجه التعظيم. وفي قوله: ولذكر الله أكبر مع حذف بيان ما هو أكبر منه، لطيفة. وهي أن الله لم يقل: أكبر من ذكر فلان، لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة. إذ لا يقال الجبل أكبر من خردلة وإنما يقال: هذا الجبل أكبر من هذا الجبل. فأسقط المنسوب كأنه قال: (ولذكر الله له الكبر لا لغيره)، وهذا كما يقال في الصلاة: (الله أكبر) أي: له الكبر لا لغيره. انتهى.

ولما بين تعالى طريقة إرشاد المشركين، ونفع من انتفع، وحصول اليأس ممن امتنع، بين طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن أي: بالخصلة التي هي أحسن. وهي اللين والأناة: إلا الذين ظلموا منهم أي: بالاعتداء، بأن أفحشوا في المقال وأقذعوا في الجدال، فلا حرج في مقابلتهم بالعنف، لتنكبهم عن جادة اللطف. وهذا كما قال تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وهذه الآية أصل في آداب المناظرة والجدل: وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم [ ص: 4754 ] وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون أي: مطيعون له خاصة. وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.

قال ابن كثير : يعني إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه، فهذا لا يقدم على تكذيبه، لأنه قد يكون حقا. ولا على تصديقه، فلعله أن يكون باطلا. ولكن يؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط. وهو أن يكون منزلا، لا مبدلا مؤولا. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم. وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون » . وهذا الحديث تفرد به البخاري .

وروى الإمام أحمد عن أبي نملة الأنصاري مرفوعا: « إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم. وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله. فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم » . ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان. لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل. وما أقل الصدق فيه. ثم ما أقل فائدة كثير منه، لو كان صحيحا.

روى البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث. تقرؤونه محضا لم يشب. وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هذا من عند الله ليشتروا [ ص: 4755 ] به ثمنا قليلا. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا، والله! ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم.

وقال البخاري : وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري . أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة. وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب. وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. معناه أنه يقع منه الكذب من غير قصد. لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة. لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة. ومع ذلك. وقرب العهد، وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة، لا يعلمها إلا الله عز وجل. ومن منحه الله علما علم بذلك كل بحسبه. ولله الحمد والمنة. انتهى.


[47 - 48] وكذلك أنـزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون

وكذلك أنـزلنا إليك الكتاب أي: مثل ذلك الإنزال، أنزلنا إليك الكتاب. أي: أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية: فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء أي: العرب: من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك أي: فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لما [ ص: 4756 ] يكفل سعادة الدارين في شرائعه وقضاياه، على أمي لم يعرف بالقراءة والتعلم، خارق للعادة. وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي، ونفي للتجوز في الإسناد: إذا لارتاب المبطلون أي: لو كنت ممن يخط ويقرأ، لقالوا: لعله تعلمه أو كتبه بيده، من كتب مأثورة عن الأنبياء.

تنبيه:

قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب. وفيها رد على من زعم أنه كتب. انتهى.

وقال ابن كثير : وهذه صفته في الكتب المتقدمة. كما قال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده. بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم. ومن زعم، من متأخري الفقهاء، كالقاضي ابن الوليد الباجي ومن تابعه، أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله . فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري : (ثم أخذ فكتب) وهذه محمولة على الرواية الأخرى: (ثم أمر فكتب) ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي، وتبرأوا منه وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم. وإنما أراد الرجل أعني الباجي فيما يظهر عنه. أنه كتب ذلك على وجه المعجزة. لا أنه كان يحسن الكتابة. وما أورده بعضهم من الحديث; أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له. انتهى.

وقال الشهاب: وممن ذهب إلى أنه كان يحسن الكتابة، أبو ذر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة. وصنف فيه كتابا، سبقه إليه ابن منبه . ولما قال أبو الوليد ذلك، طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة [ ص: 4757 ] على مدعاه وكتب به إلى علماء الأطراف. فأجابوا بما يوافقه. وأن معرفة الكتابة بعد أميته لا تنافي المعجزة. بل هي معجزة أخرى. لكونها من غير تعليم. ورد الإمام محمد بن مفوز كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: (كتب) فمعناه أمر بالكتابة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[49 - 50] بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وقالوا لولا أنـزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين .

بل هو أي: القرآن: آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم أي: العلماء به وحفاظه. وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز، وكونه محفوظا في الصدور، يتلوه أكثر الأمة ظاهرا. بخلاف سائر الكتب. فإنها لم تكن معجزات، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف. ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة « صدورهم أناجيلهم » . كذا في الكشاف وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وقالوا لولا أنـزل عليه آيات من ربه يعنون ما كانوا يقترحونه في تعنتهم: قل إنما الآيات عند الله أي: هو يملك إنزالها، ولو شاء لفعل: وإنما أنا نذير مبين أي: ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته، لا الإتيان بما تقترحونه. ثم أشار إلى أن في آية تنزيل الكتاب، غنية عن كل آية مقترحة. لما أن الدور انقلب من الآيات الآفاقية، إلى الآيات العلمية، وفاقا لسنة الترقي، بقوله سبحانه:


[51 - 56] أولم يكفهم أنا أنـزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون

أولم يكفهم أي: آية مغنية عما اقترحوه: أنا أنـزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم أي: وفيه نفسه من الآيات والمعجزات ما لا يرتاب معه إلا من سفه نفسه، وكابر حسه: إن في ذلك أي: الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة بالغة ظاهرة: لرحمة أي: لنعمة عظيمة في هدايته إلى الحق وإلى صراط مستقيم: وذكرى لقوم يؤمنون أي: تذكرة لقوم، همهم الإيمان دون التعنت: قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا أي: إني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم، وإنكم قابلتموني بالجحد والتكذيب. يعني. كفى علمه بذلك. وجوز أن يكون المعنى شهيدا بصدقي بالتأييد والحفظ، أي: هو شاهد على ما جئت به، مصدق له تصديق الشاهد لدعوى المدعي.

قال ابن كثير : أي: فلو كنت غير محق، لانتقم مني، كما قال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به. ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات. انتهى يعلم ما في السماوات والأرض أي: فلا يخفى عليه حالي وحالكم: والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب أي: استهزاء: ولولا أجل مسمى أي: لكل عذاب أو قوم، وهو وقته المعين له فيهما: لجاءهم العذاب أي: عاجلا: وليأتينهم بغتة أي: فجأة في الدنيا. كوقعة بدر. فقد كانوا لغرورهم لا يتوقعون غلبة المسلمين. أو في الآخرة عند نزول الموت بهم: يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين أي: ستحيط بهم. أي: يستعجلونك بالعذاب وهو واقع بهم لا محالة. أو هي كالمحيطة بهم. لأن كل آت قريب.

يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون أي: جزاءه: يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون وهذا خطاب لمن لم تمكنه عبادته تعالى وحده في أرضه، لإيذائه في الله واضطهاده في جانبه، أن يهاجر عنها إلى بلد ما، يقدر أنه فيه أسلم قلبا، وأصح دينا، وآمن نفسا. وأن يتجنب المقام في بلده على تلك الحالة، كيلا يفتنه الكافرون. أو يعرض نفسه للتهلكة، وقد جعل له منها مخرج. وكون أرض الله واسعة، مذكور للدلالة على المقدر. وهو كالتوطئة لما بعده. لأنها مع سعتها، وإمكان التفسح فيها، لا ينبغي بأرض لا يتيسر بها للمرء ما يريده. كما قيل:


وكل مكان ينبت العز طيب


وقال آخر:


إذا كان أصلي من تراب فكلها بلادي، وكل العالمين أقاربي




الساعة الآن : 08:29 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 397.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 396.64 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.13%)]