ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=216484)

ابوالوليد المسلم 14-05-2025 06:26 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 



حكم تأخير سداد ديون الميت لمصلحة الورثة
وبالنسبة للديون، قد يكون التعجيل بقضائها في بعض الأحيان يتضمن بعض الضرر على الورثة، مثل: كساد السوق، ورخص الأسعار، فمثلا: لو أن الميت توفي وعنده (عمارة) ، حتى ولو كان يسكنها أولاده، وليس عندهم سكن غيرها، فإنه يجب أن يسدد دينه ولو أن تباع (العمارة) ؛ لأن هذا ماله، ونفسه معلقة ومرهونة بدينه، وهو قد قام بإسكان وستر ورثته ومن يعول مدة حياته، فإذا وفى لهم فالواجب أن يوفوا له بعد موته، فلا تعطل ديونه وتبقى نفسه معلقة مرهونة بالدين، وقد ترك وفاء لهذا الدين.
وأعجب من هذا وأعظم ظلما للميت حينما يكون الميت قد ترك سدادا، مثل أن يكون عنده مزارع وأرض وسيارات، ولكن الورثة يؤخرون ذلك من أجل كساد السوق حتى يفضل لهم فضل من الإرث! فهذا من الظلم للميت.
فيجب أن يبادر بسداد دين الميت، ولا يجوز تأخير سداد الدين؛ لأن المال هو مال الميت، ولا يجوز أن يحبس الحق عن صاحبه، والميت محتاج أن تبرأ ذمته.
وقد اختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه) ، فقال بعضهم: مرهونة: بمعنى: محبوسة؛ لأن الرهن في أصل اللغة: الحبس، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] ، فهي فعيلة بمعنى: مفعولة، ورهينة بمعنى: مرهونة محبوسة.
وقال بعض العلماء في تفسير هذا الحديث إن معنى ذلك: أنه لا ينعم حتى يقضى عنه الدين، فيحبس عن النعيم حتى يقضى عنه الدين، وإلا فما معنى (نفس المؤمن مرهونة) ؛ لأن الحبس إما حبس عن النعيم، أو حبس فيه عذاب، وإذا كان الحبس فيه عذاب فهذا الأمر أعظم، نسأل الله السلامة والعافية.
فالأمر جد خطير، فلا ينبغي التساهل في حقوق الموتى من قضاء ديونهم، وهذا يحتم على كل شخص أن يتدارك الحقوق الواجبة عليه، فيحتاط، فإذا علم من ورثته من يوثق بدينه وأمانته أسند إليه وبين له الحقوق وكتبها، وأوصل الحقوق إلى أهلها، وخاصة إذا كان هناك أمر يحتاج إلى أمين وثقة يقوم عليه.
السبب في وجوب سداد الحقوق التي على الميت
والسبب في تشديد الشريعة في هذا الأمر ونص العلماء رحمهم الله على أهمية قضاء الديون: لما فيها من حقوق العباد، فإن حقوق الناس والخلق مبنية على المشاحة والمقاصة، وإن من الظلم أن يكون الإنسان قادرا على سداد ديونه، ويؤخر الناس في سدادها.
قال صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم يبيح لومه وعرضه) ، يعني: أن من امتنع عن سداد حقوق الناس فإنه ظالم، فإذا كان الميت قد ترك سدادا وامتنع ورثته من السداد، فقد أصبح الظلم من جهتين: ظلم لأصحاب الحقوق بتأخيرها، وظلم للميت حينما ترهن نفسه وتعلق.
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء) ، ثم نزل عليه الوحي فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا الدين سارني به جبريل آنفا) ، فالشهيد الذي له المنزلة والمكانة، وهو الذي يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمن من الفتان، ويبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما، ويزمل في ثيابه حتى تشهد له دماؤه وجراحه كما قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: (زملوهم في ثيابهم، فإني شفيع لهم وشهيد بين يدي الله) .
فهذه المنزلة العظيمة التي تبوأها الشهيد حتى أمن من عذاب القبر، لم يفك عنه حقوق الناس.
فالواجب أن يحتاط الإنسان، وألا يدخل في الدين إلا من حاجة ماسة، وإذا دخل في الدين سأل الله المعونة.
نصيحة لمن أراد أن يستدين
وإذا أراد الإنسان أن يقترض شيئا فعليه بأمرين مهمين: الأمر الأول: ألا يقترض إلا من حاجة شديدة ماسة، فإن من نزلت به فاقة وحاجة فردها إلى الله عز وجل، أوشك الله له بالفرج العاجل، فجعل الله قليله كثيرا، ويسيره عظيما، وبارك له، ومن يصبر يصبره الله.
وإذا ضاقت عليه الأمور لحاجة ماسة، مثل: طعام الأولاد والأهل، أو لشقة يستأجرها، أو يستدين لشراء سيارة من أجل نقلهم، وقد يكون عدم وجود هذه السيارة زيادة دين، فهذه حوائج يضطر إليها الإنسان فتبيح له الدين، وتبيح له المسألة، وإذا لم توجد حاجة ماسة فليتق الدين؛ فإن الدين في الحقيقة تبعة ومسئولية وبلاء على العبد، ولذلك قال بعض السلف في الدين: (هم الليل وذل النهار) .
وهذا إبراهيم بن أدهم حينما ركب البحر، فهاج البحر، وجاءت أمواج عظيمة حتى كادوا أن يغرقوا، فقيل له: يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة؟ فقال: إنما الشدة الحاجة إلى الناس.
نسأل الله العظيم بوجهه الكريم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، وأن يجعل لنا ولكم الغنى به سبحانه والفقر إليه.
فالمقصود: أن الإنسان يصبر قدر المستطاع، فإذا ضاقت عليه الأمور ووجدت الحاجة، فيطلب دينه ممن يعرف منه السماحة وحسن النفس وطيبها، ومن لا يضيق بالاستدانة منه؛ لأن مثل هذا حري به أن يسامح، وحري به أن يوسع عليه، فلا يضيق على نفسه مع وجود السعة، فإذا وجد غنيا كريما طيبا، وفيه الخير، ويحب معونة الناس؛ عرض عليه أمره، أما إذا كان الإنسان الذي يريد أن يسأله ويطلب منه -حتى لو كان قريبا- يعلم أنه سيضيق عليه، فالأفضل أن لا يضيق عليه؛ لأن المال الذي في الدين يبارك لصاحبه إذا أخذه على الوجه الحسن، ويضع الله فيه البركة، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم من كان سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى، فلابد أن يكون الإنسان سمحا، فلا يضيق على الناس في الدين، ولا يحرج أحدا بذلك ما أمكنه.
الأمر الثاني الذي ينبغي توفره: حسن النية، فينوي في قرارة قلبه أن يرد هذا المال عاجلا أو آجلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) .
فقوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) ، أي: في نيته وقرارة قلبه، والله يشهد ومطلع عليه أنه أخذها ليسدد عند وجود اليسر والسعة، ومن أخذها يريد إتلافها، أو أن يتلاعب بها، فكما أخذ دينا وقضى دينا جاء إلى دين آخر، ثم أخذ من فلان وفلان وأخذ يتلاعب، وهو يعلم أنه لن يستطيع السداد، ويعلم أنه يستطيع أن يضيق على فلان مع أنه غني فيماطله ويؤخره حتى ييأس من حقه، ثم ينفلت من التبعة، لكنه لن ينفلت من عقوبة الله جل جلاله، ولو كان صاحب الحق غنيا، فالحق حق، ولذلك أمر الله بالشهادة العادلة ولو كانت على فقير: {إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} [النساء:135] ، فلو كان الذي له الحق غنيا فلا تقل: إن هذا فقير، وقد استدان وهو ضعيف، وهذا غني، لا، فما دام أنه أخذ حقا فليرده إلى صاحبه، سواء كان غنيا أو فقيرا، فلا يجوز أن يأخذ أموال الناس وهو يريد إتلافها.
فمن يأخذ الأموال تلو الأموال وهو يعلم من قرارة قلبه أنه لن يسدد، بل أصبحت عادة له، فمن فعل ذلك فإن الله يفتح عليه باب الاستدراج حتى لا يبالي به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك ينزع الله البركة من المال الذي يأخذه، ولربما جعل الله حتفه ونقمته عليه في الذي أخذ، فيبني (عمارة) فتكون سببا في شقائه ومرضه، أو يأخذ سيارة فيكون فيها حتفه ونهايته والعياذ بالله، أو حتف ولد من أولاده، أو حتف عزيز عليه؛ لأنه كما يضر بالناس يضر الله به.
فالنية مهمة جدا، فلا يأخذ الإنسان الدين إلا من وجود حاجة وضرورة، ولا يأخذ إلا وفي نيته وفي قرارة قلبه أن يقضيه، ثم يستعين بالله عز وجل على قضاء دينه بأمرين أعظمهما وأجلهما: كثرة الدعاء، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من غلبة الدين وقهر الرجال، فيستعيذ بالله من غلبة الدين، ثم يبادر بالسداد ولو كان عنده ريال واحد من عشرة آلاف، فكلما تيسر له السداد قليلا كان أو كثيرا فليسدد، فإن هذا من أفضل وأبرك ما يكون في سداد الديون؛ لأن مثل هذا حري أن يعينه الله عز وجل، ويفتح له أبواب الفرج من حيث لا يحتسب.
وعلى كل حال: الدين أمره عظيم، حتى إنهم قالوا: إن الإنسان قد يؤذى في عبادته وخشوعه وصلاته وطاعته بسبب حقوق الناس، فتجد الرجل أخشع ما يكون قلبا، فإذا وقع في الدين تغير حاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه) أي: مرهونة بدينه، ولم يفرق بين الحياة والموت، وهذا الذي جعل بعض العلماء يتحاشى الدين ولا يحبه ولا يرضاه، حتى إنه يخشى أن يؤثر على صلاحه واستقامته؛ لأن صاحب الحق إذا طلب حقه أجحف بالإنسان، وشوش عليه في عبادته، وآذاه وأضره.
تيسير الله قضاء دين المحسنين
وأيا ما كان فالدين جائز ومشروع، فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد استدان، وإن كان بعض العلماء قد اعتذر فقال: رسول الأمة صلى الله عليه وسلم نيطت به حقوق، والناس كلهم يعولون عليه صلى الله عليه وسلم، وذلك مثلما يوجد في الفضلاء والكبراء، كشيخ القبيلة أو أميرها، فغالبا أنه يدخل في الشفاعات، ويواسي المعدومين والمحتاجين، فمثل هؤلاء غالبا يقعون في الدين؛ لكن لهم من الله عز وجل المعونة؛ لأنهم أخذوا الدنيا معونة على الدين، فما دام أنهم لا يريدون بها جاها ولا سمعة ولا فخرا، وإنما يفعلون ذلك رحمة بالناس، فمن رحم حري أن يرحمه الله عز وجل، وأن يبارك له في رزقه، وأن ييسر له من أمره.
ولقد جعل الله عز وجل للغارمين الذين يتحملون الديون، وهم رؤساء العشائر من الكبار الذين لهم مكانة، وأهل العلم وأهل الفضل الذين تأتيهم حوائج الناس دائما، وكذلك أهل الكرم، فهؤلاء لا يستطيعون أن يعتذروا، والكريم في بعض الأحيان يفضل أن يموت ولا أن يعتذر لصاحب الحاجة، وهذا شيء وضعه الله في القلوب، وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (ثلاثة لهم علي فضل، وذكر منهم: رجل نزلت به حاجة فاختارني من بين الناس) ، أي: جاء إلي من بين الناس ووقف علي وسألني هذه الحاجة.
فلا شك أنه لم يوجد ولن يوجد رجل عرف برحمة الناس -وكان ذلك بحسن نية- فضاق عليه الأمر إلا ووسعه الله عز وجل، وهذا شيء لا يخطر على بال، وقد رأينا من العلماء والفضلاء وأهل الفضل العجب في هذا.
ولذلك فلن تجد إنسانا كريم النفس يستدين إلا تكفل الله عز وجل برزقه، فنحن حينما ذكرنا مسألة الدين، قد يكون بعض الناس فيه رحمة، وأفضل ما يكون الكرم والإحسان في رجل عطوف شفوق رحيم بذوي رحمه، فتجده دائما ينظر إلى أخواته المحتاجات وإخوانه وقرابته المحتاجين، وينظر إلى العجزة وكبار السن من قرابته؛ فيستدين لهم ويتحمل عنهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى يجعل لمثل هذا من الفرج ما لم يخطر له على بال.
وهذا رجل ضاقت عليه الأرض بما رحبت في دين أهمه وأغمه -وكان من أفضل الناس في جماعته إحسانا وكرما، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن الصالحين الأخيار رحمه الله، نحسبه ولا نزكي على الله أحدا- يقول: إنه ضاق عليه الأمر في مبلغ كبير، حتى وقف عليه صاحب المبلغ وآذاه وسبه وشتمه؛ لأنه تأخر عليه، وقد وعده أكثر من مرة أن يفي فلم يستطع، يقول: فنزلت إلى بيت الله، فطفت فيه -وقد كان رجلا معروفا بمواساة المحتاجين، وهذا شيء أدركته عليه، وقد كان من أعجب ما رأيت من الرجال، تجد بيته بيت الأيتام والأرامل والمحتاجين، لا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت من صلاحه رحمه الله- يقول: وأنزلت حاجتي بالله سبحانه وتعالى، فوالله إني عند المقام أصلي ركعتي الطواف، وإذا برجل ثري غني موفق جاء وصلى بجواري، قال: فسلم علي وتبسم في وجهي وناولني كيسا، فإذا فيه ثلاثة أضعاف المبلغ الذي أردته!! فمن أنزل حاجته بالله عز وجل فإن الله لا يخيبه، وما من أحد أحسن إلى الناس وضيع الله إحسانه أبدا، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
ومن غريب ما رأيت في هذا: أن الوالد رحمه الله كان لا يمسك المال، ولا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت، وهذا شيء شهدته ورأيته فيه رحمه الله، وأشهد أمام الله أني رأيت فيه من الكرم والإحسان إلى الضعفة والمساكين ما الله به عليم، فمما حدث: أنه جاء في مرض موته رحمه الله، وكان عندنا عمال قد احتاجوا إلى مبلغ من المال، وقد كان رحمه الله يعطي الأجير أجره قبل نهاية الشهر، وقد كانت وفاته رحمه الله في آخر شهر جمادى -أي: قرابة الرابع والعشرين- فاحتاج العمال إلى المال، فجئت إليه وقلت له: إنهم يحتاجون إلى مبلغ كذا وكذا، وكان هذا بعد صلاة العصر في اليوم الذي سبق وفاته، فتألم وتغير وجهه، وقال: ليس عندي الآن شيء، لكني أرجو من الله ألا يضيق علي أمرا إلا وسعه.
والله ما زاد على هذه الكلمة، وأشهد بالله العظيم أنه ما إن انتهى من الكلمة إلا والباب يقرع، فإذا بأحد أبناء العم من القرابة جاء لزيارة الوالد، وقد كان عليه دين لوالدي -وقد توفي والدي وله على الناس ما لا يقل عن ثلاثة ملايين، وما وقفنا على أحد نسأله دينا للوالد، ولا نعلم ذلك أبدا من قبل، وفي آخر حياته كان يقول له بعض الناس: ألك حقوق على الناس؟ فيقول: حياتي كلها ما وقفت على رجل أقول له: أد ديني، أبعد أن شابت لحيتي وابيض شعري أفعل ذلك؟ فالشاهد: أنه جاء هذا القريب -انظر إلى تقدير الله عز وجل- ولو واجه الوالد لما قبل منه المال، لكن الوالد كان مريضا، فأدخلته في غرفة الضيوف، فجاء وقال لي: أريد أن أسلم على الوالد -وكان مريضا جدا إذ كانت عليه الحمى رحمه الله، وذلك في اليوم الذي سبق وفاته- فقلت له: لا يستطيع الآن أن يقابلك، ولو أنك عدت بعد العشاء أو في وقت آخر، فقال لي: سلم عليه وأعطه هذه الرسالة، وكنت لا أدري ما الذي بداخلها -انظر إلى تقدير الله عز وجل- فلو أنه جاء إلى الوالد وأعطاه المبلغ لغضب عليه ورفض قبوله، وأنا أعرف أنه إذا أعان أحدا فلا يأخذ منه بعد ذلك ما أعطاه إياه، ولو وسع الله عليه، رحمة الله عليه- فالشاهد: أنه أعطاني هذا الظرف، وأقسم بالله العظيم أن المبلغ الذي فيه هو راتب العمال الثلاثة، لا يزيد ولا ينقص، فجلست مع الوالد وقلت له: فلان يسلم عليك، ويقول: هذه الأمانة التي أخذها منك، فتغير وجهه وقال: أمانة ماذا؟ ففتحتها فإذا فيها المبلغ الذي يعادل ألفين وأربع مائة، وهي تعادل حقوق الثلاثة العمال.
وهذا من أعجب ما رأيت؛ لأن كلمته لما قال: أرجو من الله ألا يضيق علي شيئا إلا وسعه، فالدين إذا لم يسد به حوائج المحتاجين، ويواسي به المكروبين، ويقف به مع الضعفة والمحتاجين، فلاشك أن الأولى الابتعاد عنه ما لم يضطر الإنسان إلى ذلك.
وأما في هذا الزمان فلا شك أن الأمر أضيق، فقد كان أهل الفضل وأهل الكرم وأهل المال -من قبل- يحبون أهل العلم وطلاب العلم، ويواسونهم، لكن اليوم قل أن تجد من يكرم أهل العلم، وقل أن تجد من يقف عليه طالب العلم في حاجة لأحد إلا أذله وأهانه، ولاشك أن الله يأجر طالب العلم على هذا، لكن قد تكون النفس عزيزة، فتربأ بالإنسان أن يقف هذا الموقف مخافة أن يكون في ذلك تبعة عليه أمام الله سبحانه وتعالى.
فقد تغير الزمان وفسد، إلا من رحم ربي، وإن كان -والحمد لله- لا يزال هناك بعض أهل الخير، لكن الأمور قد تغيرت، وقد كان أهل العلم معروفين بهذا، وقصة الأوزاعي في ذلك مشهورة، كل هذا تحملوا فيه حقوق الناس، وأيا ما كان فالإنسان عليه أن يبتعد عن الدين ما لم يحتج إليه.
وقد كانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله تتدين وتستدين كثيرا، فقيل لها في ذلك، فقالت: ما أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) ، فكانت تعول على أن الله لا يخيبها، ولم يخيبها ربها سبحانه، فقد قضيت ديونها، وكفيت حاجتها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يغنينا من فضله، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه.
ولقد بين المصنف رحمه الله أنه يبدأ بالدين وبالحقوق الواجبة، وينبغي على طالب العلم أن ينتبه إلى أن المسألة التي ذكرناها حينما قلنا: أن يكون الذي وصى به من الواجبات، أو يكون من المستحبات، بمعنى: أن يكون الدين ضمن الوصية، فيجعل في وصيته من الثلث، كأن يقول: اقضوا ديني من الثلث، وحجوا عني من الثلث، وتصدقوا بكذا وكذا من الثلث، فلما جئنا نقضي الدين وجدناه سبعة آلاف ريال، ووجدنا -مثلا- أن الحج عنه بألف ريال، ووجدنا الذي وصى به أربعة آلاف ريال، فأصبح المجموع اثني عشر ألفا، وكان ثلث ماله عشرة آلاف ريال، وهذه مسألة التقديم، فنقدم الدين، ونقدم الحج، ثم نتصدق بنصف الأربعة آلاف تتمة للعشرة آلاف ريال، فمسألة التقديم هذه لا تشكل على طالب العلم؛ لأن الحقوق الواجبة يجب سدادها سواء وصى أو لم يوص، وإنما أدخلناها في الثلث أولا إذا نص على أنها تكون ضمن الثلث، فيقول: اقضوا الدين من الثلث، وحجوا عني من الثلث، واعتمروا عني من الثلث، وأدوا ثلاث فديات من الثلث، فيجعلها حقوقا واجبة.
فحينئذ ينظر فيها على التفصيل الذي ذكرناه في مسألة الثلث، وأما من حيث الأصل فلا إشكال أن الذي يجب هو المبادرة بسداد الدين، سواء وصى أو لم يوص.

إخراج الواجب من مال الميت وإن لم يوص به
قال رحمه الله: [ويخرج الواجب كله من دين وحج وغيره] .
(من): بيانية، كقوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة:1] ، فـ (من) هنا بيانية، وقد بين المصنف رحمه الله أن من الواجب الدين، وأن من الواجب الحج، فمثل للدين بحقوق العباد، ومثل للحج بحق الله عز وجل، ومن مات ولم يحج حج عنه وليه.
ويجب أن يستأجر عنه إذا كان الولي لا يريد أن يحج، أو لا يتيسر له الحج، فيستأجر من يحج عنه، وتدفع له مئونة الحج، ونفقة الحج ذهابا وإيابا.
ثم إما أن يحدد موضعا، فيقول له: حج عني من المدينة، فعند ذلك يجب أن يلتزم بوصيته، وإما أن يكون قد توفي أثناء الحج ولم يكن قد فعل الواجبات، فيوصي أن يكمل عنه، فيكمل من الموضع، ويكون إحرامه من الموضع الذي توفي فيه، وإما أن يطلق، فإذا أطلق قال بعض العلماء: إذا وجب عليه الحج وقصر حتى توفي فيجب الإحرام من الموضع الذي هو فيه؛ لأن الوكيل منزل منزلة الأصيل، فلو كان من أهل المدينة فلا يصح أن نقول لرجل من أهل جدة: حج عنه، فيحرم من جدة؛ لأنه وجب عليه وتعين عليه أن يحرم من المدينة، وهو الميقات الأبعد، فلا يحرم من ميقات أدنى إذا وجب عليه من الأبعد، وهذه مسألة صحيحة تشهد الأصول الشرعية بصحتها؛ لأن النائب عن الإنسان في الحج قائم مقامه، وعلى هذا يجب أن يحج عنه من الموضع الذي وجب عليه الحج وقصر فيه؛ لأن ذمته مشغولة بالحج على هذا الوجه.
وعلى كل حال: يجب أداء الحج عن الميت إذا ترك، سواء وصى أو لم يوص، وعلم وارثه بذلك.
قال رحمه الله: [من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به] .
أي: الواجب، فإذا كان الحج حج نافلة، فيحج من الثلث، ولا يحج من أصل المال، وينبغي أن تفرق بين أمرين: فالحقوق والواجبات والديون تقضى قبل قسمة المال، أو التركة عموما، فهي في رأس المال، لكن بالنسبة للوصايا والصدقات، وما خصص شيئا داخل الثلث، فهذه يتقيد فيها بالثلث، فينظر فيها بعد الانتهاء من الوجبات، وهذا هو الفرق بين الأمرين، فبين رحمه الله أنه يقضى الواجب من كل تركته، ويبدأ به؛ لورود النص في كتاب الله عز وجل بالأمر بكتابة الوصية والدين على قسمة المواريث.
قال رحمه الله: [فإن قال: أدوا الواجب من ثلثي؛ بدئ به] .
وذلك لأن الثلث في الحقيقة يؤخر من حيث الأصل، أي: يؤخر على الدين الواجب، فإذا أدخل الواجب في الثلث بدئ به، وكونه واجبا ثم جعله في الثلث لا يسقط ذلك مرتبته؛ بل يبدأ به، وهذا هو مراد المصنف.
فمثلا: الميت عليه دين عشرة آلاف ريال، فقال: لصالح علي عشرة آلاف ريال، أدوها من الثلث، فيبدأ بها، ولا يقال: إنها وصية في الثلث فتوفر، بل يبدأ بها؛ لأن الدين الواجب يبدأ به قبل قسمة المواريث، وعلى ذلك فتقدم، وكونها واجبة، وكونه يجعلها في الثلث، لا يقتضي تأخيرها عن مرتبة الوجوب كما ذكرنا.
تزاحم الحقوق الواجبة مع المستحبة في الوصية
قال رحمه الله: [فإن بقي شيء أخذه صاحب التبرع وإلا سقط] قوله: (فإن بقي شيء) بمعنى: إذا كان قد وصى بقضاء الدين من الثلث، ووصى بأشياء من الثلث، فإنه سيحدث ازدحام بين الدين وبين الصدقات والهبات، فلو قال: اقضوا ديني من الثلث، ووصيت لمحمد ابن عمي بعشرة آلاف ريال، ثم وجدنا الثلث عشرين ألفا، والدين الذي عليه خمسة عشر ألف ريال، فمعنى ذلك: أننا سنعطي ابن عمه خمسة آلاف، فسقط ما زاد على الثلث، ونعتبر الدين مقدما، فهذا أول شيء نقوم به؛ لأنه واجب، ثم بعد ذلك تعطى الوصية؛ لأن الاحتمال الذي جعل أهل العلم ينصون على هذه المسألة: أنه قد يقول قائل: فلننقل الحقوق الواجبة إلى أصل التركة، ونبقي الثلث حتى ننفذ الوصايا، فنقول: هذا لا يصح، فما دام أنه أدخل الدين ضمن وصيته بالثلث فيجب التقيد بذلك، ثم يعطى المستحب والنوافل بعد الواجب، فصارت المسألة راجعة إلى المسألة التي ذكرناها، وهو أنه لا يعطى المستحب مع وجود ما هو أوجب وآكد منه، فرجعت إلى الأصل وهو: البداءة بالواجبات قبل المستحبات والصدقات.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، نافعا يوم لقائه العظيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.





ابوالوليد المسلم 14-05-2025 06:33 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الوصايا)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (408)

صـــــ(1) إلى صــ(17)






شرح زاد المستقنع - باب الموصى له
يشرع لمن ترك ذرية ضعفاء وخشي عليهم بعد موته، أن يختار شخصا مسلما عاقلا بالغا حرا عدلا، ويوصي إليه ليقوم بأمرهم، وبتفريق الأموال حسب الوصية، ويجوز للمرأة أن تكون وصية على اليتامى وعلى الأموال.
كما أن الوصية تصح لكل من يصح أن يملك، حتى وإن كان حملا تحقق وجوده، ولا تصح الوصية لملك من الملائكة أو لحيوان أو لميت؛ لأنه لا يصح تملكهم.

مشروعية الوصية بالذرية إلى من يقوم عليهم ويرعاهم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وعلى أفضل رسله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الموصى له] .
شرع المصنف رحمه الله في هذا الباب في بيان ركن من أركان الوصية، وهو الشخص الذي يوصى له ويعهد إليه، والوصية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالوصية بالأموال.
القسم الثاني: يتعلق بالوصية بالأيتام والضعفة الذين يخلفهم الإنسان من وراء ظهره، كقرابته الذين يحتاجون إلى رعاية وعناية.
فأما بالنسبة للأموال، فيوصى للشخص أن يأخذ ذلك المال، ويوصى للشخص أن يقوم بتفريق الأموال، ولابد في هذا الوصي -الذي أقيم لتفريق الأموال أو لرعاية اليتامى والقيام على حقوقهم والإحسان إليهم من بعد أبيهم- أن تتوفر فيه أمور، ومن خلال هذه الأمور يمكن أن تتحقق المصالح التي من أجلها شرع الله الوصية، وكذلك تندرئ المفاسد والشرور التي شرع الله الوصية لدرئها ودفعها، والله سبحانه وتعالى ما ترك خيرا إلا ودل عباده عليه، وما ترك شرا إلا وحذرهم منه.
والأصل في الوصية للأشخاص الذين يقومون برعاية اليتامى وبتفريق الأموال ممن يوثق بدينه وأمانته قول الله تبارك وتعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} [النساء:9] ، فبينت هذه الآية الكريمة أن على كل مسلم حضره الموت، أو كان في عافية ولكنه يخشى أن يدهم عليه الأجل -وليس هناك أحد يضمن عمره- أن يتقي الله في هؤلاء اليتامى.
والإنسان لا يضمن -ولو كان في عز شبابه واكتمال صحته وعافيته- أن ينزل به أمر الله في ليل أو نهار، ولذلك من ولد له فليتق الله في مولوده ولو كان صغيرا؛ لأنه لا يضمن أن يعيش له، فأمر الله تبارك وتعالى من خشي على ذريته من بعده: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم} [النساء:9] ، فوصف الذرية بأنها ضعيفة، ووصف الشخص بأنه يخاف، إذا: تكون الذرية ضعيفة إذا كانت من اليتامى، سواء كانوا ذكورا أو كانوا إناثا، واليتم في الأنثى أشد منه في الذكر، فلذلك قال تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا} [النساء:9] أي: أولادا ضعافا، بخلاف ما إذا كان هؤلاء الأولاد عندهم إخوة كبار، وهم بالغون وفيهم أمانة، فيمكنهم أن يقوموا مقام الآباء، ويسدوا مسده في رعاية إخوانهم القصار واليتامى.
فأولا: أن تكون الذرية ضعيفة لا تملك لنفسها حولا ولا قوة.
ثانيا: أن يخشى هذا الرجل على هذه الذرية، وفي بعض الأحيان تكون الخشية بسبب عدم وجود قريب يقوم عليهم، فيخشى على أموالهم أن تؤكل، ويخشى على حقوقهم أن تضيع؛ بل ربما خشي على أعراضهم أن تنتهك، وهذا لاشك أنه يتأكد خاصة عند فساد الزمان وتغير الناس.
بل قد يخشى الإنسان من أقرب الناس منه، فكم من عم وكم من أخ أكل أموال قرابته! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء أعمامهم على أموالهم! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء إخوانهم على تلك الأموال! فإذا كان الأب يعلم أن ابنه الأكبر أو أن أبناءه الكبار فيهم قسوة، وفيهم جرأة على حدود الله عز وجل، أو كراهية لإخوانهم القصار؛ فعليه أن ينتقل حتى ولو لشخص أجنبي غريب يأمنه.

شروط يجب توافرها في الوصي
ولا بد أن تتوفر في هذا الشخص الأمور التي ينبغي مراعاتها في كل من يقوم بهذه الولايات؛ من جهة الدين ومن جهة الدنيا، فهناك أمور من جهة دينية، وهناك أمور من جهة دنيوية.
أما من أوصي إليه بالقيام على اليتامى ونحوهم، فمن الأمور التي تشترط فيه من ناحية دينية: أولا: الإسلام، فلو أنه لم يجد في أبنائه الكبار من يحسن النظر لليتامى من أولاده، ووجد أخاه، ولكن أخاه كافر، فلا يجوز أن يقيم الكافر وصيا على الأيتام المسلمين، بأي حال من الأحوال؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ، والذي يوصي إلى الكفار قد جعل السبيل للكافر على المسلم بالولاية عليه، وقال سبحانه وتعالى: {لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} [آل عمران:118] ، وما عرف أحد بعدو مثل تعريف الله جل جلاله لعباده المؤمنين بأعدائهم، ولذلك يقول في كتابه: {والله أعلم بأعدائكم} [النساء:45] .
فبين سبحانه وتعالى أن الكافر لا يراعي مصلحة المسلم مهما كان الأمر، إلا إذا كان هناك ضرر أكبر، أو كان هناك خديعة أو مكر، والله عز وجل {يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57] .
فلن تجد أصدق منه حديثا، ولا أصدق منه قيلا، ولا أصدق منه حكما، ولذلك قال تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} [التوبة:10] ، والإل: هو القرابة، والذمة: هي العهد، فالكافر لا يرقب في المؤمن إلا ولا ذمة، إلا إذا كانت له مصالح، فعندها يخاف من المصلحة أن تفوت، لا مراعاة للإل ولا للذمة، فليس عندهم عهد ولا ذمة، فالمقصود: أن الله تعالى لم يجعل للكافر على المؤمن ولاية لهذه النصوص.
ولما ولى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه كاتبا له نصرانيا -وكان بالشام- لأنه لم يجد في المسلمين من يحسن له الكتابة وتنظيم الكتابة، فعهد بذلك إلى نصراني من أهل الشام، فبلغ عمر ما فعله، فكتب إليه بهذه الآية: {لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم} [آل عمران:118] ، فقوله تعالى: {ودوا ما عنتم} [آل عمران:118] أي: ودوا عنتكم، وهذا يدل على أنه لا خير فيهم، فلا يجوز أن يكون الكافر وصيا على الأيتام، ولا قائما على شئونهم؛ لهذه النصوص.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يعلا عليه) ، واليتيم المسلم كالمسلم؛ لأن هذا عند العلماء مقعد على القاعدة المشهورة التي ذكرها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه: قواعد الأحكام، التي هي: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود) ، فأيتام المسلمين محكوم بإسلامهم تبعا لوالديهم.
الشرط الثاني: العقل، فلا يعهد لأولاده وأيتامه وذريته من بعده ولا يوصي لشخص مجنون؛ لأن المجنون لا يحسن النظر لنفسه فضلا على أن ينظر في مصلحة غيره؛ ولأن الشريعة الإسلامية إنما جعلت الوصية على اليتامى من أجل طلب مصالحهم ودرء الشرور -بإذن الله- عنهم، وهذا لا يمكن أن يتحقق بمن فقد العقل، حتى لو كان جنونه متقطعا فإنه لا يقام وصيا؛ لأنه لا يؤمن منه الضرر.
الشرط الثالث: أن يكون بالغا؛ لأن الصبي لا يحسن النظر، وفيه كذلك قصور، قال تعالى في كتابه: {الذين لم يبلغوا الحلم} [النور:58] ، فبين أن الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم دون العقل والتمييز والإدراك للأمور، فلو أقيم صبي وصيا على يتامى، أو وصيا على أموال في تفريقها؛ فإنه لا يحسن النظر، ولربما خدع وضحك عليه لنقص عقله.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم) أي: حتى يكتمل عقله ويحسن النظر بفضل الله عز وجل، ثم بهذا العقل الذي يميز فيه بين الأمور صالحها وضارها.
الشرط الرابع: أن يكون حرا؛ لأن العبد المملوك بين الله تعالى أنه مشغول بخدمة سيده؛ ولأنه لا ولاية له على نفسه، فكيف يلي على غيره؟ الشرط الخامس -في الوصي الذي يوصى إليه بالقيام على أمور اليتامى-: أن يكون من أهل العدالة، والعدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم.
العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فالعدل هو الذي استقام على طاعة الله تبارك وتعالى، والتزم شرائعه، وفعل ما أمره الله به، وترك ما حرم الله عليه، والفاسق هو من يرتكب الكبائر -ولو كبيرة واحدة- أو يصر على صغيرة حتى تصل إلى مقام الكبيرة، فمثل هذا يقولون: كما أنه ضيع حق الله بفسقه؛ فإنه سيضيع حقوق اليتامى؛ لأن أصل الفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت قشرتها، والفاسق سمي فاسقا لأنه قد خرج عن طاعة الله عز وجل، فإن خرج خروجا كليا -والعياذ بالله- بالكفر فهذا فسق الكفر، وإن خرج خروجا لا يخرجه عن الملة، فهذا فسق العصيان الذي لا يوصل الإنسان إلى حد الكفر.
فمثل هذا الذي يفعل الكبائر وفيه فسق لا يؤمن أن يضيع حقوق اليتامى ويتلاعب بها، فربما قبل الرشوة، فباع أموال اليتامى بثمن بخس، أو باعها حين يكون البيع ضررا على اليتامى، أو يشتري حيث يكون الشراء ضررا على اليتامى.
فالمقصود: أنه بفسقه فيه تهتك وفيه تساهل، فلا يؤمن منه أن يضيع حقوق هؤلاء اليتامى، وحينئذ يكون مقصود الشرع تحقيق المصالح، فتكون ولايته مضيعة لمقصود الشرع.
هذا من جهة الأمور التي ينبغي توفرها في الشخص الذي يوصى إليه.

أمور يستحب توافرها في الموصي
وهناك أمور تستحب في الموصي، وينبغي لمن يوصي أن ينظر إلى الأكمل والأفضل؛ ومن هذه الشروط المستحبة: أولا: ألا يخرج عن القرابة، فإذا أراد أن يوصي لأيتامه فيبدأ بأقرب الناس إليه، ممن يحسن النظر؛ لأن القريب في الغالب فيه شفقة القرابة، ويخاف من الله جل وعلا أكثر؛ لأن القرابة تدعو إلى الشفقة وإلى الرحمة، فإذا كان هناك من أقربائه من يمكن أن يقوم بالنظر في عياله وأولاده وأيتامه من بعده، فلا يعدل إلى الغريب، ولا ينتقل إلى الأجنبي، ولأنه ربما احتاج الوصي أن يخاطب أمهم، ولربما احتاج أن يختلط باليتامى، فعندما يكون من الأقربين يكون ذلك أخف على أولاده وأيتامه وأجبر لقلوبهم، بخلاف ما إذا كان أجنبيا فإنه يكون أدعى إلى التهم، ويكون في ذلك من التضييق والعنت ما الله به عليم، فيبدأ بالأقرباء قبل الغرباء.
ثانيا: من أهم ما ينبغي أن ينتبه له بعد هذه الشروط الدينية هو مراعاة الأمور الدنيوية المهمة التي من أهمها: حسن النظر في الأمور؛ فإن الله عز وجل فضل الناس بالعقول، وفضلهم بحسن النظر، فهذا العقل هو الذي ارتقى الإنسان به من مستوى البهيمية إلى مستوى الآدمية والتكريم من الله جل وعلا، وهو نور من الله سبحانه وتعالى تنكشف به حقائق الأمور، فيميز الإنسان بهذا العقل بين الصالح وبين الضار، ولذلك تجد من فقد عقله بسكر أو جنون -والعياذ بالله- يكون حاله في بعض الأحيان أردأ من حال الطفل، ولربما ذهب ورمى بنفسه في النار، مع أن البهيمة إذا رأت النار فرت منها، ولكنه ربما جاء في حال سكره وحال ذهاب عقله -والعياذ بالله- فيرمي بنفسه، ولربما قتل نفسه والعياذ بالله، فالعقل من أتم النعم التي أنعم الله عز وجل بها على العبد بعد نعمة الدين، ولذلك وصف الله الدين مع العقل بأنه نور على نور.
فإذا جاء الإنسان يوصي بقرابته وأوليائه إلى شخص فعليه أن ينتبه لهذه الجوانب المهمة من اكتمال العقل، فقد يكون عاقلا ولكنه غير مكتمل العقل، فينظر إلى الشخص الذي عرف بسداد الرأي، فمثلا: إذا كان الذي يريد أن يوصي غنيا ثريا، فينبغي أن يتنبه إلى جانب حفظ المال وتنميته، فإذا وجد الشخص المعروف بحسن النظر في تنمية الأموال واستثمارها عهد إليه بالقيام على أمواله؛ لأن مال اليتيم يحتاج إلى ذلك، وهذا أكمل وأفضل، فيحفظ المال وينمو، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) .
فندب إلى أن يكون الولي ممن يحسن النظر في استثمار الأموال وحسن رعايتها، وهذه المرتبة مرتبة الأحسن والأكمل، أما إذا لم يجد الموصي من يحسن تنمية أموال أيتامه؛ فليبحث عن الشخص الذي عرف بالحيطة والحذر والخوف في حفظ الأشياء، وله أن يختبره حتى يعلم أمانته وحفظه، حتى إذا لقي الله جل جلاله ووقف بين يدي الله وأبناؤه خصومه فيمن ولاهم عليه يقول: رضيت لهم ما أرضاه لنفسي.
فعليه أن ينظر وكأنه يتيم من هؤلاء اليتامى، فينظر الذي يرضى في حفظه ورعايته لهذه الأموال، سواء كان من القرابة أو من غيرهم.
فالإنسان عندما لا يجد من يحسن الاستثمار، أو وجد رجلا يستثمر الأموال ولكنه يخاطر في استثماراته، ووجد شخصا غيره لا يستثمر، لكنه إذا أمسك شيئا حفظه حتى يؤديه على أتم وجوه؛ فحينئذ تجتنب جانب المخاطرة، وتعهد بأبنائك إلى من عرف بالحفظ، فالحفظ حسن والاستثمار أحسن، لكن حينما كان الاستثمار فيه مخاطرة وصاحبه لا يعرف بالحذر، فتعدل إلى من يعرف بالحفظ؛ لأن المسلم لا يخاطر لنفسه، فكذلك لأيتامه الذين أمر بالنظر في مصالحهم.
كذلك أيضا عليه أن يبحث في الأمور الدنيوية من ناحية أخلاق الرجل في دينه وحسن معاملته؛ لأن أيتامه من بعده ربما احتاجوا أن يدخلوا على هذا الرجل المرة بعد المرة، وقد يكون الرجل فظا غليظا، فقد تجده يحسن حفظ الأموال أو استثمارها، لكن أخلاقه شرسة ومعاملته سيئة؛ فيعيش اليتيم تحت القهر، فلا يستطيع أن يبث حاجته وأن يبث حزنه، ولا يستطيع أن يسأل حاجته، أو أن يصل إلى ماله وماله بين يديه، فلا ينبغي أن يولي عليهم من عرف بالشدة والأذية والتضييق، وإنما يراعي فيه الأخلاق الطيبة، والتواضع والإلف والحلم والرحمة، ويوصيه بتقوى الله عز وجل، وحسن النظر في أيتامه وأولاده من بعده، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يحتاطون في هذا الأمر كثيرا.

حكم وصية الرجل إلى المرأة بالقيام على الأيتام والأموال
ويجوز أن تولى المرأة، فإذا كانت زوجة الإنسان معروفة بالصلاح والأمانة، ومعروفة بالرعاية والضبط التام لأموال اليتامى، وكذلك برعايتها؛ عهد إليها؛ لأن المرأة -على أصح أقوال العلماء- يجوز أن تلي وأن يوصى إليها برعاية الأيتام، وكذلك بحفظ المال وتفريقه، والدليل على ذلك فعل السلف، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تولت أمور أيتام أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه توفي قبلها، فوليت أمور أيتامه من بعده؛ فكانت هي التي تقوم على شئونهم وترعى أحوالهم.
وكذلك صح عن عمر رضي الله عنه -كما في الصحيحين- أنه عهد بالوقف الذي أوقفه بخيبر -وقد تقدم معنا- وأوصى أن تكون بنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها هي التي تليه على الوقف.
فدل ذلك على أنه يجوز أن يوصى بتفريق الأموال إلى المرأة، قياسا على فعل عمر في الوقف، وبرعاية الأيتام نصا في خبر أم المؤمنين عائشة، حيث وقع فعل هذا بحضور الصحابة وبعلمهم رضي الله عنهم ولم ينكر عليها ذلك، وهي من فقهاء الصحابة رضي الله عنها وأرضاها.
وقد شدد في هذا بعض السلف، فكان عطاء بن أبي رباح رحمه الله لا يرى أن يوصى للمرأة، والصحيح: أنه يجوز ويصح أن يوصي للمرأة، وخاصة إذا عرفت بالأمانة والحفظ وحسن الرعاية والتدبير لأموال أيتامه من بعده.

اشتراط كون الموصى له يصح تملكه
يقول رحمه الله: [باب الموصى له] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالشخص الذي يوصى له، فيعهد إليه برعاية أيتام أو تفريق مال، أو يوصى له مباشرة بأن يقال: أعطوا محمدا عشرة آلاف، أو أعطوه الثلث، أو نحو ذلك، فإنه يشمل هذا ويشمل هذا، فهناك يكون موصى له، وأيضا يعتبر وصيا من جهة كونه قائما بالرعاية للمال والأيتام.
قال رحمه الله: [تصح لمن يصح تملكه] .
إذا وصى بمال فلابد أن يكون الشخص الذي يوصى له ممن يصح تملكه للمال، فإن كان ممن لا يصح تملكه للمال؛ كالمعدوم، كأن يقول: أعطوا ابن فلان، ولم يولد له بعد، وليس هناك حمل تحقق وجوده، فهذا غير موجود.
وكذلك أيضا بين أنه لا بد أن يكون ممن يصح تملكه، فيوصى للشخص الذي يكون أهلا للولاية على المال، وكذلك استحقاقه.
فأما إذا كان لا يصح تملكه للمال؛ مثل الحربي، فلو وصى بماله لحربي فلا يصح تملكه للمال، ولا تجوز الوصية له؛ لأن أموال الكفار ملك للمسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم) .
فدل هذا على أن الحربي -أي: المحارب للمسلمين من الكفار إذا لم يفعل ذلك، فمعناه أنه لم يسلم، وأنه باق على محاربته للمسلمين؛ وحينئذ لا استحقاق له في المال، فلو قال: وصيت لأخي فلان بعشرة آلاف، وكان أخوه حربيا كافرا، لم يصح؛ لأنه ليس له يد على ذلك المال؛ لأن الشريعة رفعت يد الكافر عن ماله إذا كان محاربا.
وقوله: (تصح) أي: الوصية (لمن) أي: للشخص الذي (يصح تملكه) ، فلو قال مثلا: وصيت لبهيمة، فإنه لا يصح تملكها، وكذلك أيضا لو قال: وصيت لملك من الملائكة، فلا يصح تملك هؤلاء؛ لكن إذا وصى لشخص معين يصح تملكه صحت الوصية؛ لأن الوصية يراد منها إيصال الحق إلى شخص، سواء كان ذلك على سبيل الصلة والبر، أو على سبيل المحاباة وكسب المودة، وهذا المعنى لا يتحقق فيمن لا يصح تملكه، كالبيهمة، والملك، والحربي، ونحوهم.
وظاهره العموم كما ذكر المصنف، فيشمل الذكر والأنثى، ويشمل الصغير والكبير، فيصح أن يوصي بماله لصغير فيقول مثلا: ثلث مالي وصية لذلك الولد، ولو كان دون البلوغ، وهكذا لو وصى لحمل تحقق وجوده فإنه يصح تملكه.
فعلى هذا لا بد أن يكون الشخص الذي يوصى له ممن يصح تملكه، ويشمل ذلك الرجال والنساء كما ذكرنا.

حكم الوصية بالمال للعبد
قال رحمه الله: [ولعبده بمشاع كثلث] .
أي: وتصح الوصية لعبده بمشاع كثلث، كأن يقول: ثلث مالي لعبدي فلان، وذكر العبد هنا؛ لأن الإشكال في العبد أنه بعد وفاة سيده يكون ملكا للورثة، فإذا وصى له فإن جميع ما يوصى به لهذا الرقيق سيكون إلى الورثة، فصارت الوصية في ظاهرها لغير وارث وفي حقيقتها أنها لوارث، ومن هنا يذكر العلماء مسألة الرقيق من هذا الوجه، ومرادهم التمثيل على وصية في ظاهرها للغير ولكنها في حقيقتها آيلة إلى الورثة.
لكن إذا قال: وصيت بثلث مالي لفلان، من أرقائه وعبيده، أو قال: أوصيت أن يعتق فلان من ثلثي ونحو ذلك، فحينئذ ينظر، فإذا استغرق الثلث الذي وصى به قيمة العبد فهو حر، فلو كانت قيمته تسعة آلاف ريال، وكان قد ترك سبعة وعشرين ألفا، فالثلث تسعة آلاف، فحينئذ يعتق من هذا الثلث، وأما إذا كان زائدا فحينئذ يعتق ويملك ما زاد، فلو قال: وصيت بثلثي لمحمد -وهو من عبيده- والثلث تسعة آلاف، وقيمة الرقيق ثلاثة آلاف؛ عتق بالثلاثة وملك ستة آلاف؛ لأنه تكون له يد على المال، وحينئذ يعتق ويملك.
قال رحمه الله: [ويعتق منه بقدره ويأخذ الفاضل] .
قوله: (ويأخذ الفاضل) الفاضل هو الزائد، يقال: فضل الشيء إذا زاد، ومنه فضل الإنسان، إذا كان محافظا على الطاعة؛ لأن الطاعة والبر إذا كانت غير واجبة فهي فضل وزيادة على الواجب.
قال رحمه الله: [وبمائة أو معين لا تصح له] .
فإن عين وقال: بمائة درهم، أو أوصيت له بألف، فهذه المائة أو الألف ستعود إلى الرقيق وليست في رقبته، وإنما تعود ملكا له، وبمجرد ما تقع يده على ذلك المال سينتقل إلى ورثة الموصي، فكأنه يوصي إلى ورثته؛ لأن الرقيق لا يملك، والدليل على أنه لا يملك قوله تعالى: {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} [النحل:75] ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) ، فأخلى يد الرقيق عن الملكية، وجعل ماله إما للبائع وإما للمشتري، فدل على أنه لا يملك.
وعلى هذا فلو وصى له بمعين -كمائة أو ألف أو ألفين- فهذا المعين بمجرد أن تحكم بصحة الوصية سيدخل إلى ملكية العبد، والعبد وما ملك سيكون لسيده، فهو في الحقيقة سيؤول إلى وصية لوارث، بخلاف ما ذكرناه في مسألة المشاع والثلث.

صحة الوصية بحمل أو لحمل تحقق وجوده

قال رحمه الله تعالى: [وتصح بحمل ولحمل تحقق وجوده] .
قوله: (وتصح بحمل) ، أي: إذا وصى بحمل جاريته؛ لأن الحمل يكون من الرقيق تبعا لأمه.
أو يكون الحمل حمل ناقة أو حمل شاة، فقال: ما في بطن هذه الشاة -والحمل موجود- يعطى لمحمد أو يعطى لعلي، فهذه وصية منه بهذا الحمل، فتصح الوصية بحمل.
وقوله: (ولحمل تحقق وجوده قبلها) ، أي: قبل الوصية، فالضمير عائد للوصية، إذا: يشترط أن يتحقق من وجود الحمل قبل الوصية حتى تصح الوصية؛ لأنه إذا لم يتحقق من وجود الحمل قبل الوصية كانت لمعدوم، ولا تصح حينئذ الوصية من هذا الوجه، فإذا وصى لحمل كأن يكون -مثلا- ولد أخيه، أو أخته، فيقول مثلا: وصيت بألف ريال تعطى لحمل فلانة، فيشترط في هذا الحمل أن يتحقق من وجوده حتى تصح الوصية، وقد يوصي للحمل لأنه سيكون يتيما، كأن توفي أخوه وزوجته حامل، فأحب أن يصل أولاد إخوانه من اليتامى، فقال: أوصي بثلث مالي لحمل فلانة، يقصد زوجة أخيه.

إذا أوصى أن يحج عنه بمال يكفي لأكثر من حجة
قال رحمه الله: [وإذا أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألف؛ صرف من ثلثه مئونة حجة بعد أخرى حتى ينفد] .
الإنسان إذا وصى بالحج أو بالعمرة، فإما أن يكونا واجبين عليه، وإما أن يكونا غير واجبين، فإن كانا واجبين فلا إشكال، فإنها ستخرج سواء وصى أو لم يوص؛ لأن دين الله أحق أن يقضى؛ ولكن إذا وصى وقال: حجوا عني، فإن حدد مالا فقال: هذه العشرة آلاف يحج بها عني، أو ثلث مالي يحج به عني، فحينئذ نأخذ هذا الثلث كاملا نحجج عنه، فإذا حججنا عنه لم يخل من حالتين: فإما أن يكفي الثلث، وإما أن لا يكفي.
فإن كان الثلث كافيا فعلى ضربين: إما أن يكفي ويزيد، وإما أن يكفي ولا يزيد.
فإن كان يكفي ولا يزيد فلا إشكال، مثال ذلك: لو أنه قال: خذوا من مالي ألف ريال وحجوا بها عني، ثم جئنا لشخص وقلنا له: أتحج عن فلان؟ قال: نعم، فنظرنا في مئونة الحج وكلفته فإذا هي ألف ريال؛ فحينئذ وصى بمال يكفي للحج ولا يزيد، فحينئذ لا إشكال.
الحالة الثانية: أن يكفي ويزيد، فإذا كفى المال وزيادة؛ حج عنه بالأصل، ثم كرر الحج سنوات حتى ينفد المال كله؛ لأن هذا المال شبه الموقوف على هذه الطاعة، فيحجج بهذا المال عنه.
لكن الإشكال إذا كان المال يكفي لأربع حجج، فهل تكون هذه الأربع الحجج متتابعة، بحيث نحج عنه في أربع سنوات، أو يمكن أن يستأجر أربعة أشخاص في حجة واحدة؟ هذا فيه تفصيل عند بعض العلماء، فبعض العلماء يقول: لا يحج عن الميت إلا حجة واحدة؛ لأن البدل آخذ حكم مبدله، كما أنه لا يمكن أن يأتي بحجتين في عام واحد؛ فكذلك لا يصح أن يحجج عنه حجتين في عام واحد؛ ولأننا لو فتحنا هذا الباب في باب النوافل لصح أن يأتي هو بحج ويستأجر الغير معه ليحج أيضا عنه، على القول بجواز التنفل عن الحي مع القدرة، وهذا من حيث النظر صحيح، ومن حيث الأصل أيضا له وجهه.
وبعض العلماء يقول: بل يمكن أن يحجج عنه أربعا أو خمسا في زمان واحد على حسبه، فمثلا: لو ترك خمسة آلاف، وكل ألف ريال تكفي لحجة عنه، فبعض العلماء يقول: أستأجر خمسة أشخاص؛ وذلك لأنني لا أضمن في العام القادم أن تكون الحجة بألف، وقالوا: إنه يجوز في الأموات بعد موتهم ما لا يجوز للإنسان في حال حياته، فيخفف في هذا من هذا الوجه.
وأيا ما كان فكلا القولين له وجهه، وما ذكرناه من أنه لا يجمع بين الحجتين في عام واحد له قوة.
هذا بالنسبة إذا كانت تكفي وزيادة، والحكم الذي يهمنا أنه ما دام قد قال: ثلث مالي يصرف في الحج، أو هذه الألف يحج بها عني، فإن هذا المال كله ينفق في الحج، ولا نقتصر على حجة واحدة إلا إذا قال: خذوا من ثلث مالي حجة واحدة؛ أو عمرة واحدة، فحينئذ يقتصر على ما طلب وسأل، ويصرف من المال بقدره.
أما إذا كان لا يكفي أن يحج عنه، فبعض العلماء يقول: إنه ينظر إلى أقرب الأماكن؛ لأنه لا يمكن أن يحج عنه من بلده ومن مكانه، ويمكن أن ينظر إلى أقرب الأماكن، كأن يستأجر شخص من أهل مكة ويحج عنه، أو ينظر ممن يرضى بالقليل ويقوم بالحج عنه، وأيا ما كان فإن المال الذي عين للحج مصروف في ذلك الحج، إلا إذا تعذر الوجود وتعذر من يحج عنه، فحينئذ ينتظر حتى يتمكن من صرف ذلك المال في الحج.
وقوله: (صرف من ثلثه مئونة حجة بعد أخرى حتى ينفد) ، أي: حتى ينفذ الثلث؛ لأنه لم يخص حجة واحدة، ولا عمرة واحدة، لكنه لو خص وقال: يحج عني حجة واحدة، أو يحج عني السنة القادمة، أو يحج عني حجتين، فحدد وعين، فيتعين الحكم ويختص الحكم بما عين من أجله، أما إذا كان قد أطلق فإننا نستنفد الثلث كاملا، ولو شمل ذلك عشر حجج، لكن على التفصيل الذي ذكرناه.






ابوالوليد المسلم 14-05-2025 06:39 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




حكم الوصية للملائكة أو للبهائم أو للميت
قال رحمه الله: [ولا تصح لملك وبهيمة وميت] .
فلا تصح الوصية لملك، كأن يقول مثلا: هذه الألف لجبريل، فلا تصح الوصية، وهذا من الأمور المبتدعة التي يفعلها أهل الجهل، مثلما يقول بعضهم: وهبت ثواب قراءتي وصلاتي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يقال له: أنت وصلاتك وعبادتك كلها في ميزان حسنات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى جعل له أجر الأمة كلها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له أجره) ، فذلك تحصيل حاصل.
وقد قرر الأئمة رحمهم الله أن هذا من الأمور المستحدثة على المسلمين، فالثواب حاصل، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأرفع من أن تتصدق عليه بحسنة ذكر أو طاعة، فمقامه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه أجل وأكرم عليه الصلاة والسلام.
فالمقصود من هذا: أنه لا يوصى لملك، ولا لبهيمة، فمثلها لا يملك؛ لأنه يتعذر هذا الإيصال، وهكذا إذا كانت لمبهم، كقوله: أوصي لرجل؛ قال طائفة من العلماء: لا تصح؛ لأنه لا يمكن الإيصال، فمن هو هذا الرجل؟ لا يمكن تعيينه، ففي هذه الحالة يتعذر الإيصال إلى الملك، والمبهم يتعذر التعيين ما لم يعين هو، والأصل يقتضي أن تكون الوصية واضحة، وأن تكون بينة معلومة.
وقوله: (وبهيمة) ، كقوله: أوصي لبهيمة، مثلما يقع عند أهل الكفر والعياذ بالله، فيترك ورثته عالة يتكففون الناس، ويوصي بملايينه لكلبه، نسأل الله السلامة والعافية! وصدق الله جل جلاله حيث يقول: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان:44] ، فبمجرد ما يخرج الإنسان عن الدين ويترك شرع ربه؛ فإنه ينزل إلى مستوى أحط من البهيمة: {إن هم إلا كالأنعام} [الفرقان:44] ، وليس هذا فقط: {بل هم أضل سبيلا} [الفرقان:44] ، فهم أضل سبيلا وأضل فكرا، وهل من عنده عقل يوصي لبهيمة؟! فالكلب عندهم -أكرمكم الله- أحب وأكرم من صلة القرابة؛ لأنها مجتمعات مدمرة منحطة، ولو مدحت وأثني عليها ووضعت في السماء، لكن هذا كله خلاف الحقيقة، ولذلك من أراد الحقيقة والجوهر فلينظر إلى عظمة هذا الدين، وعظمة هذا الإسلام الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهو العز والكرامة.
فالوصية للكلاب وللبهائم لا يفعلها إلا إنسان ليس عنده عقل، ولو وصى لبهيمة لم تصح، والوصية للكلاب ولدور الكلاب ولدور الحيوانات لا تصح.
لكن في بعض الأحيان يقول بعض العلماء: إذا جعل قدرا من بستان أو من طعام عنده صدقة على بهائم المسلمين، أو علفا لدواب المسلمين، أو علفا لدواب الجهاد في سبيل الله ونحو ذلك، فهذا اغتفره العلماء رحمهم الله، وله وجهه.
لكن أن نقول: هذه العشرة آلاف أعطوها الكلب الفلاني، أو ضعوها في رصيده -والعياذ بالله- في البنك، فهذا لا يصح في شريعة الله عز وجل، والشريعة قد أعطت كل ذي حق حقه.
ولذلك يصرف المال في وجهه، لكن عند العلماء إشكال فيما إذا وصى مثل هذه الوصايا، فهل تبطل الوصية من أصلها، أم أنه ينظر إلى جهة يمكن أن تصحح بها الوصية، فتصرف لضعفة المسلمين ولفقرائهم؟ نقول: هذا فيه تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله باختلاف أنواع الوصايا، ومن أمثلتها: الوصية إلى ما لا نفع فيه، أو الوصية إلى ما فيه ضرر، فلا تجوز الوصية إلى دور فيها محرمات، فهل تبطل الوصية من أصلها أو تصرف، فبدلا من أن تذهب إلى دور المحرمات تذهب إلى دور المساجد وإلى دور العلم؟ اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إذا وصي بها -مثلا- إلى طوائف ضالة، أو إلى ملل أو نحل، كأن: وصى بماله -والعياذ بالله- في المساهمة في بناء الكنائس، أو طبع التوراة أو الإنجيل، فلا تصح؛ لأنها وصية بضلال، فيقولون: إنه قد يكون جاهلا ويظن أن الطاعة في مثل هذا، فننظر إلى الطاعة الحقيقية فنصحح وصيته؛ لأن القاعدة: أن الإعمال أولى من الإهمال.
ومن أهل العلم من قال: تبطل الوصية من أصلها ولا تصحح، فعند العلماء هذا التفصيل في هذه المسألة.
وهكذا لو وصى لميت فلا يصح؛ لأن الوصية يشترط فيها القبول، والميت يتعذر منه القبول.

حكم من وصى لحي وميت يعلم موته أو يجهله
قال رحمه الله: [فإن وصى لحي وميت يعلم موته فالكل للحي] .
إذا وصى الموصي فقال: هذه عشرة آلاف من ثلثي، تعطون زيدا خمسة آلاف وعمرا خمسة آلاف، وهو يعلم أن زيدا قد مات، فحينئذ لا تصح لزيد؛ لكن هل يأخذ عمرو الخمسة أم العشرة كاملة؟ قال بعض العلماء كما اختاره المصنف: تصرف العشرة آلاف كلها لعمرو؛ لأنه لما كان يعلم أن زيدا قد مات فكأنه يقول: اصرفوها كلها لعمرو.
ولكن هذا فيه نظر، والأقوى ما ذكره بعض العلماء: أنه إذا كان يعلم موته، فنبقى على الأصل مادام ميتا؛ لأنه ربما كان يعلم موته ونسي -ذهل أو غفل- فتكون كالوصية للميت الذي لا يعلم موته، ولأنه عين وحدد، والمعين لا يصرف إلى غيره؛ لأن فائدة التعيين الحصر والقصر بذلك الذي سمى، فلما كان الذي سماه وعينه ممن تبطل الوصية بالنسبة له، بطلت في حقه، وبقيت في حق غيره صحيحة.
قال رحمه الله: [وإن جهل فالنصف] .
قوله: (وإن جهل) أي: جهل موته، يعني فلا يدري هل هو حي أم ميت، فقال لهم: أعطوا زيدا خمسة آلاف وعمرا خمسة آلاف، ولا يدري هل زيد حي أو ميت، ثم تبين أن زيدا كان ميتا؛ فحينئذ يصرف النصف لعمرو، فالمصنف يختار التفصيل.
والصحيح: أنه لا تفصيل، فالنصف لعمرو في كلتا المسألتين، أي: هو لعمرو في حال علمه بموت زيد لاحتمال أن يكون نسي، ولعمرو في حال عدم علمه أو جهله بالحال أو شكه في حياته؛ لأنه قد عين، وفائدة التعيين صرف الحق لمن عين له.

حكم من وصى بماله لابنيه وأجنبي
قال رحمه الله: [وإن وصى بماله لابنيه وأجنبي، فردا وصيته فله التسع] .
من المعلوم أنه إذا وصى بالمال كله فلا يصح إلا في حدود الثلث، فمعنى ذلك: أن الوصية باطلة في الثلثين وصحيحة في الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له سعد: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا) ، فدل على أن المال كله لا تصح الوصية به إلا في حدود الثلث، فإذا صحت في حدود الثلث فهنا قد سمى المصنف ثلاث جهات، الجهتان الأوليان: ابناه زيد وعمرو مثلا، والجهة الثالثة: الأجنبي، وليكن عليا، فزيد وعمرو يستحقان ثلثي الثلث، والأجنبي -الذي هو علي- يستحق ثلث الثلث؛ لأن الوصية بطلت في الثلثين وصحت في الثلث.
فمثلا: لو كان عندك تسعة آلاف ريال، وأوصيت بجميع التسعة آلاف ريال لهؤلاء الثلاثة، فنقول: ليس من حقك أن تعتدي على حقوق الورثة وتوصي بالتسعة آلاف كاملة، بل تصح وصيتك في ثلاث آلاف، وتبطل في ستة آلاف، والستة آلاف تقسم ميراثا شرعيا حكم الله سبحانه وتعالى به من فوق سبع سماوات، ويعطى كل ذي حق حقه.
وابناه من الوارثين، يعني: ابناه ذكرا في الثلث الذي سنصحح الوصية به، فابناه زيد وعمرو لما كانا ابنين له فلا وصية لوارث؛ فبطلت أيضا في الابنين، ولا يستحقان إلا أن يجيز الورثة، وتبقى الوصية لعلي الأجنبي، فيستحق ألف ريال، والألف ريال بالنسبة للتسعة آلاف ريال -التي هي أصل المال- هو التسع، فقال رحمه الله: (صحت في التسع) أي: أعطي علي -الأجنبي- تسع ماله؛ لأنها لم تصح في الثلثين؛ لأنها زيادة على القدر الذي أباحه الله في الوصية، ولم تصح في زيد وعمرو وهما ابناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث) ، فبقيت ثلاثة آلاف قسمت بين الابنين والأجنبي، فبطلت في حق الابنين، وذلك بألفين، وصحت في حق الأجنبي، وذلك بألف ريال، وهي تعادل تسع ماله.
الأسئلة




حكم الوصية بالدفن في مكان معين
السؤال هل يشرع أن يوصي الشخص أن يدفن ببلد ما، أو مكان معين، وإذا شق ذلك على الورثة فهل لابد من إنفاذ الوصية؟
الجواب لا بأس أن يوصي بدفنه في مكان معين أو في بلد معين، ما دام أنه في ذلك البلد، وفي هذا تفصيل.
فإذا كان -مثلا- في نفس البلد، وليس هناك حرج ولا مشقة على الورثة في تنفيذ وصيته، فلا بأس، وقد أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنهم وصوا في دفنهم، فتارة يوصي بأن يدفن في مكان لا يعلم به أحد؛ كالرجل الصالح والعالم يخاف الفتنة، أو كان بين أناس يعظمونه وهو يخاف الفتنة، فيأمر أن يغيب في مكان لا يطلع عليه أحد، كأن يخاف -نسأل الله السلامة والعافية- أن يغلوا فيه، كما أثر عن علي رضي الله عنه أنه وصى أن يدفن في داره بالكوفة، فدفن ليلا وغيب قبره؛ لأنه كان هناك من يعتقد -والعياذ بالله- أنه إله، ويعظمونه، فخاف من عبادته وتعظيمه.
فإذا وجدت مقاصد شرعية بالتعيين فلا بأس، ومثل أن يكون في موضع يعلم أن هذا الموضع عرضة للسيل، وأن قبره قد يكشف، فقال: إذا أنا مت فادفنوني في موضع كذا، أو في المقبرة الفلانية.
أو يكون هناك مقبرة تدفن على السنة، ومقبرة لا تراعي السنة، فيقول: ادفنوني في المقبرة التي تراعي السنة، أو يكون هناك مقبرة فيها لحد ومقبرة فيها شق، فيختار ما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام من مقبرة اللحد، فيقول: إذا أنا مت فأوصي أن يكون دفني في القبور التي فيها لحد، ونحو ذلك من المقاصد الشرعية، وهذا من حق الإنسان، وهو من الوصية المشروعة.
لكن التكلف في الانتقال من بلد إلى بلد، هذا لا يجوز؛ لتعطيل الميت من أجله، ولذلك ثبت في حديث شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) .
فتعطيل الجنائز وتأخيرها من أجل نقلها ونحو ذلك لا ينبغي، وقد يصل إلى درجة الحرمة، خاصة إذا أدى إلى تعفن الميت وتفسخه وتضرر من يحمله، وتأذي المصلين عليه في المسجد، فهذه أمور لا بد أن توضع في البال، وأعظم من هذا أن يشق، ثم بعد ذلك يحنط من أجل يظل فترة طويلة.
فكل هذه الأمور ينبغي اتقاؤها والبعد عنها؛ لأنها مخالفة لشرع الله؛ لما فيها من الاعتداء على حرمة المسلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة عند ابن ماجة أنه قال: (كسر عظم المؤمن ميتا مثل كسره حيا) ، أي: في الإثم، فللميت حرمة، ولا يجوز تعطيل الجنائز حتى يحضر ولده، أو يحضر فلان أو فلان، مجاملة له أو عاطفة، فالميت إذا مات فإنه يسرع بتجهيزه وتكفينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (أسرعوا بالجنازة) ، فهذا أمر يقتضي المبادرة، لكن لو وجدت حالات ضرورية تؤدي إلى تأخير دفنه، مثل أن يراد أن يعرف سبب وفاته، أو وجدت أمور مهمة لابد من الاطلاع عليها في سبب وفاته، فهذه أحوال استثنائية تؤخر بقدر الضرورة والحاجة.
وعلى كل حال: التوسع في هذا الأمر وتأخير الجنائز من أجل نقلها إلى أماكن أخر بوصية أو غيرها لا تشرع عند تأثر جثة الميت، وهذا -كما ذكرنا- مخالف للأصل الذي دلت عليه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

حكم دفع صداق الزوجة المتبقي بعد موت الزوج
السؤال هل بقية الصداق للزوجة يعتبر دينا يجب سداده مباشرة؟
الجواب هذا حق لازم يجب دفعه ويعتبر دينا، فإنه إذا مات الزوج فإنه وذمته مرهونة لزوجته حتى يؤدي مهرها كاملا.
وهنا مسألة مهمة في السؤال وهي: أن من مات حلت ديونه، وهذه قاعدة مهمة، فلو كان عليه أقساط من البنك مؤخرة، أو كان عليه أقساط لمن يدينه مؤجلة، فقد حلت ديونه، أي: يجب سدادها فورا؛ لأن روحه تبقى مرهونة، قال صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ، والمرهون هو: المحبوس، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] أي: محبوسة، وقال بعض العلماء: محبوسة عن النعيم حتى يؤدى عنه الدين، ولذلك قال أبو قتادة رضي الله عنه لما توفي الأنصاري وعليه ديناران -كما في الصحيح- قال: (فلم يزل يلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ فقلت: نعم.
فقال: الآن بردت جلدته) ، مع أن أبا قتادة رضي الله عنه قد تحمل عنه الدين.
وبعض الورثة يقول: أنا أتحمل عن والدي، وكأنه يظن أنه قد انتقلت الذمة إليه، مع أنه لا تبرأ ذمة الميت حتى يؤدى دينه حقيقة؛ لأن أبا قتادة تحمل، وقال: هما علي يا رسول الله! ثم كان يسأله عن قضائه، فلما، قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (الآن بردت جلدته) ، وهذا يدل على عظم أمر الدين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين، سارني به جبريل آنفا) .
فالمهر دين، ويجب على الزوج أن يسدده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) ، فإذا قال لها: صداقك نصفه معجل ونصفه بعد سنة أو بعد سنتين، أو إذا أنا مت، فهذا يجب الوفاء به عند أجله، ولا يجوز التأخير، خاصة إذا كان قادرا على السداد؛ لأنه ظلم، وما دام أن المرأة قد أعطته حقه فينبغي عليه أن يعطيها حقها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) ، فإذا كان هذا بين البهائم فكيف يكون بين الآدميين؟! وهذه حقوق لا يجوز التساهل فيها.
وكذلك ينبغي أن ينبه على الورثة أن كل شخص من القرابة له دين على الميت والقريب، فالأفضل والأكمل أن يأخذوا الدين ويعطوه للقريب، ولا يحرجوه بقولهم: أتسامح الميت أم لا؟ فكل إنسان قد يستحي، والمرأة قد تجامل، لكن عليك أن تعطيها مالها في يدها، وتعطيها إرثها واستحقاقها كاملا، ثم هي أدرى، فقد تسامح، وقد يكون فضلها في أخذ هذا المال والتصدق به على أقرباء أولى من زوجها، فهي أدرى بمالها، وهذا حق من حقوقها، فلا ينبغي التضييق على الزوجات في ذلك، ولا منعهن مما جعل الله لهن، والله تعالى أعلم.

حكم إحرام المقيم بمكة للعمرة من بيته
السؤال إذا أحرم المقيم للعمرة من بيته ولم يخرج إلى الحل، فما حكم عمرته؟
الجواب العمرة صحيحة إذا قام بها على وجهها، ولكن عليه دم؛ لأن ميقات المكي أن يخرج في العمرة إلى الحل، وأن يجمع بين الحل والحرم؛ لأنه في الحج يجمع بين الحل والحرم، ولذلك صح في الحج أن يحرم من بيته، وأما بالنسبة للعمرة فلا يحرم إلا من الحل، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة رضي الله عنها: (لما سألته صلى الله عليه وسلم أن تحرم بعمرة، فأمر عبد الرحمن أن يعمرها من الحل) ، وهذا واضح الدلالة؛ لأن عائشة رضي الله عنها أنشأت العمرة بمكة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة) .
أولا: هذه الزيادة مختلف في كونها مرفوعة أو موقوفة؛ لكن حديث عائشة مرفوع، فيقدم المرفوع الذي لا شك في رفعه على المختلف في رفعه.
ثانيا: قوله: (حتى أهل مكة يهلون من مكة) عام مخصص؛ لأن حديث عائشة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن عباس متقدم على حديث عائشة، ولذلك يؤخذ بآخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه بتخصيص العموم في قوله إذا صح مرفوعا: (حتى إن أهل مكة يهلون من مكة) ، فـ عائشة لا نستطيع أن نقول بأنها آفاقية؛ لأن بعضهم يقول: إذا كان المكي آفاقيا فإنه يخرج إلى الحل، وإذا كان من أهل مكة فلا يخرج، وفي الحقيقة: أن هذه التفصيلات لا نعرف لها أصلا.
ولذلك أوصي كل طالب -خاصة في هذا الزمان، وأشدد عليه في الوصية- أنه إذا كان يريد أن يتقي الله ويأخذ علما بحق على منهج السلف؛ فعليه أن يعرف كل قول يقال به الآن هل هو قول قال به أئمة العلم أم لا؟ ولا نريد من أحد ممن ينتسب إلى العلم -سواء في زماننا أو من المتأخرين- أن يأتينا بشيء من عنده، فالعلم هو الأثر والاتباع، وهذا هو السير على منهج السلف الصحيح، وإذا جاء أحد يتكلم في فهم حديث فنقول له: هل هذا الفهم فهم منك أنت باجتهادك ونظرك، والأمة منذ أربعة عشر قرنا لم تفهم؟ فحينئذ هذا لك، وتتولى تبعته أمام الله سبحانه وتعالى، وهو خروج عن سواد الأمة الأعظم.
ولذلك كان بعض العلماء يقول: إذا اختلف العلماء في فهم النص على قولين، ومضت على ذلك القرون المفضلة، فإنه لا يجوز استحداث فهم جديد خارج عن هذا الفهم؛ لأنه لا يعقل أن القرون المفضلة كلها تقول: إما كذا أو كذا، ويأتي هذا ويفهم فهما آخر، ولا شك أن هذا هو سبيل المؤمنين، فإذا مضت القرون المفضلة كلها على هذا السبيل فقد استبان أن الحق إما في هذا أو في هذا، فإذا جاء يحدث قولا ثالثا خرج به عن سواد الأمة، سواء كان من متأخري المتأخرين أو من متقدمي المتأخرين، ونحن أمة يرتبط أولها بآخرها، قديمها جديد، وجديدها قديم، بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نريد جديدا من عندنا.
والمشكلة: أنه ليس عندنا ضبط للأصول، ولا ضبط لقواعد الفهم؛ لأن أبسط ما ينبغي أن يكون في الإنسان الذي يجتهد -وهو ليس بالبصير بالقاعدة التي يدل عليها الشاهد- هو الورع.
فإذا كان الشخص ليس عنده ورع إلى درجة أن يأتي ويجتهد، فهذه مصيبة، فأساس الاجتهاد الحق هو الورع، ولذلك لا تجد أحدا من أئمة الاجتهاد ودواوين العلم السابقين الذين فتح عليهم في فهم الاجتهاد إلا وقد قام علمه على الورع، وانظر إلى أئمة الإسلام، تجدهم أئمة في الورع، وبهذا استقامت أمور الفهم لهم؛ لأن من تورع فتح الله عليه، ومن قال فيما لا علم له: الله أعلم؛ ورثه علم ما لم يعلم، وفتح الله عليه {وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء:113] .
فالإنسان الذي يأتي بالأفهام من عنده، ويأتي ويخترع في الأحاديث، ويجلس طلاب العلم يتناقشون في أحاديث ويأتون فيها بأفهام جديدة، وكل يوم يأتينا فهم جديد، فبعض طلاب العلم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا يا أخي! من هذا الذي يقول؟ ومن هذا الذي نصب نفسه ليتكلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! كان بعض العلماء يقول: (حق على من يفسر كلام الله أو يؤول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقل نفسه بين الجنة والنار) ، نريد الشيء الذي قاله العلماء، نريد شيئا مبنيا على أصل صحيح وحجة ومحجة تلقى الله عز وجل بها راضيا مرضيا عنك، أما أن نأتي بأفهام وحجج جديدة لا أصل لها، فهذا لا ينبغي.
أما حديث عائشة فهو واضح، ودلالته واضحة، حيث إنها أنشأت عمرتها من مكة، ولا أعرف أحدا من أهل العلم من المتقدمين يقول: إن هذا خاص بـ عائشة.
وأقولها من الآن: على كل طالب -والطالب خاصة الذي يدرس في الفقه، والذي يريد أن يعلم الناس- أن يتقي الله عز وجل ويعرف كل قول -حتى ولو كان مني- هل قال به أحد من أهل العلم ممن مضى وعنده دليل وحجة أم لا؟ وهذا هو العلم، وهذا الذي يوصى به طلبة العلم، وهذه هي النصيحة لله ولدينه وشرعه، من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى تكون الأفهام واضحة، فلا يشوش على علم السلف بعلم الخلف الذي لا أصل له، ولا يشوش على هذه المحجة الواضحة التي ورثتها الأمة جيلا بعد جيل، ورعيلا بعد رعيل، واجتهادات العلماء تحتاج إلى من يضبطها فضلا عن أن نأتي أيضا باجتهادات وآراء جديدة، واليوم يجتهد البعض في مسائل واضحة في الأحكام، وغدا -والعياذ بالله- قد يدخلون في العقيدة وفي صميم الدين، فيحدثون ما لم يكن عليه أئمة الإسلام فيضلوا ويضلوا، نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا من الزلل.

الضابط في الترويح يوم العيد
السؤال ما هو الضابط في الترويح على الأهل والقرابة في أيام الأعياد والمناسبات؟
الجواب إن الله تبارك وتعالى جعل يومي عيد الفطر والأضحى يومين من أيام الإسلام، وعيدين لأهل هذه الملة، وجعلهما يوم فرحة وسرور، يوسع المسلم فيهما على نفسه وعلى أهله وولده، وعلى إخوانه المسلمين، حتى شرع الله زكاة الفطر من رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: (أغنوهم عن السؤال يوم العيد وليلته) ، فهذا يدل على أن المقصود هو التوسعة؛ حتى يشهد الناس الفرح والسرور المأذون به شرعا في هذا اليوم المبارك الذي أتموا فيه ركنا من أركان الدين، ووفقهم الله عز وجل لصيام هذا الشهر الذي فرض عليهم صيامه، وشكرا لله عز وجل على توفيقه لهم على قيام ما استطاعوا أن يقوموه من هذا الشهر المبارك، فالفرحة والسرور أول ما تنبغي أن تكون فرحة بنعمة الله، وأن تكون فرحة برحمة الله التي هي أحق أن يفرح بها وأن يفرح فيها.
وهذه الفرحة تكون حينما يستشعر الإنسان كيف مضت عليه هذه الثلاثون يوما؛ فيفرح أن الله وفقه لصيامه، ولو شاء الله جل جلاله لأصابه المرض فما استطاع أن يصوم، ولو شاء الله جل جلاله لأصابته فتنة في دينه فما استطاع أن يصوم، ولو شاء الله جل جلاله أن يبتليه في هذه العبادة بشيء يفسد عليه أجره، ويحبط عليه عمله، لما أعجز الله عن ذلك شيء.
إذا: يحس الإنسان أن الله وفقه لهذا الخير في ثلاثين يوم أو تسعة وعشرين يوما؛ فيكون به في فرحة وغبطة أن الله استكمل له شهره، فيسأل الله عز وجل ويحسن الظن بالله أن يكمل له أجره، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فإذا به يصبح يوم العيد فرحا مسرورا بنعمة الله؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن الدين والتوفيق للدين لا يعطيه إلا لمن أحب، والله أعلم حيث يجعل هذه البركات والخير؛ لأن الإسلام كله بركة، ولذلك وصف الله القرآن بأنه مبارك، فمن التزم أوامره وسار على نهجه فقد أصاب بركة الإسلام وخيره وطهره وعفته.
فإذا أصبح في يوم العيد، أصبح وقلبه معلق بالله جل جلاله، مليء بالفرح والسرور، فهذا أول ما ينبغي، فإذا استقر هذا الفرح في القلب وجب عليه أن يشكر، فلهج لسانه بالذكر والشكر، فقال بملء قلبه ولسانه: الله أكبر {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} [البقرة:185] .
هذه هي الفرحة الأولى التي دل عليها كتاب الله من فوق سبع سماوات، وهي أن يمتلئ قلبك بتوحيده والبراءة من الحول والقوة، وسؤال الله جل جلاله أن يجعل هذا الشهر في ميزان حسناتك فتلقاه أمامك، فإذا بالله جل جلاله يضاعف أجر الصوم، حتى قال الله جل جلاله في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) .
فإذا شعر الإنسان أنه سيثاب ويكافأ من الله؛ فرح فرحا شديدا برحمة الله جل جلاله بعد فرحه بتوفيق الله، ولذلك شرع الله التكبير إكبارا له سبحانه، وشرع التكبير بمجرد مغيب شمس آخر يوم من رمضان، فيقول المسلم: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) شكرا لله وثناء عليه وتمجيدا له وإعظاما لنعمته.
فإذا شكر الله عز وجل وابتدأ بتوحيد الله؛ فتح الله عليه بركات ذلك اليوم وخيره وطهره.
ومن أعظم الفرحة في يوم العيد: فرحة الاجتماع، فقد شرع الله عز وجل الاجتماع في هذا اليوم بصلاة العيد، حتى إن المرأة الحائض والمرأة ذات الخدر التي أمر بسترها ولزومها لبيتها تخرج إلى صلاة عيد الفطر، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج العواتق وذوات الخدور والحيض، وقال: (أما الحيض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين) ، فيشهدن الخير في هذا اليوم المبارك.
فالضوابط كلها منحصرة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيتذكر المسلم وهو خارج لصلاة عيد الفطر كيف خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإنه لم يخرج مختالا ولا فخورا، ولا أشرا ولا بطرا، ولا غرورا، إنما خرج لله وفي الله، خرج خاشعا متخشعا متذللا لربه سبحانه وتعالى في ذلك اليوم، وخرج -كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- حين بدا حاجب الشمس، فما وصل إلى المصلى إلا وقد ارتفعت الشمس، فابتدأ أولا بالصلاة -عليه الصلاة والسلام- ثم بعد ذلك خطب فذكر الناس ووعظهم، وأمر النساء بالصدقة، ثم أذن للأمة بكل ما فيه توسعة وخير ما لم يكن من الحرام، أو فيه إسراف في المباح، وهذا هو شرع الله، فشرع الله هو الوسطية، ولما قال الله تعالى: {وكلوا واشربوا} [الأعراف:31] نقلنا من تعذيب النفوس بالجوع والعطش والرهبنة، وقال: {ولا تسرفوا} [الأعراف:31] ، ثم منعنا وحجزنا عن الغلو في ذلك، كما هو عمل أهل الترف.
فنحن نقول: افرحوا، فليس يوم العيد بيوم حزن ولا نكد ولا نحس؛ بل يفرح المسلم؛ ولكن يفرح برحمة الله عز وجل وبنعمته، ولا يغلو في فرحه إلى الوقوع في المحرمات.
لقد وسع عليه الصلاة والسلام، ومن دلائل توسيعه: أنه لما رأى أهل الحبشة وهم يلعبون بالسلاح في داخل المسجد فما أنكر عليهم ذلك، رغم أنه المسجد الذي شعت منه أنوار الرسالة، والذي تفجرت فيه ينابيع الحكمة، وهو المسجد الذي دوت في جنباته آيات التنزيل، وهو الذي كانت فيه مواقف الصدق -قولا وعملا واعتقادا- من تلك الأمة المصطفاة المجتباة، هذا المسجد المطهر المشرف المكرم الذي شرفه الله، وجعل الصلاة فيه بألف صلاة، وإذا بهم يلعبون فيه!! فانظر إلى عزة الإسلام وإلى مرونته المنضبطة، وليست مرونة منفلتة، فيوم الفرحة يوم فرحة، ويوم الشدة يوم شدة، ويوم العبادة يوم عبادة.
أصبح عليه الصلاة والسلام يوم العيد والأحباش يعلبون بالحراب، وبالأمس كان البكاء والخشوع والخضوع والاستكانة والتهجد بين يدي الله جل جلاله يا لعظمة هذا الدين! دين مرن منضبط في مرونته، ليس بدين لعب، ولا دين عبادة برهبانية يجلس الإنسان فيها دهره كله وهو لازم معتكفه.
إنها أيام مضت، وعشر ليال انقضت، هي مدرسة لأولي العزائم الصادقة والنفوس الأبية المؤمنة المستجيبة لله جل جلاله، حتى إن قائدها وخيرها صلوات الله وسلامه عليه كان يدخل في المعتكف من أجل أن يتفرغ لعبادة ربه سبحانه وتعالى، ويصبح يوم العيد وإذا بالناس يلعبون في المسجد: المسجد بالأمس مليء بالعبادة واليوم يلعبون فيه! فجاء عمر ليحصبهم، فنهاه وزجره، وقال: (هذا يوم عيدنا) ، يوم عيد للإسلام والمسلمين، ويوم فرحة لأولياء الله الذين ظمئت أحشاؤهم، وجاعت أمعاؤهم، وتفطرت أقدامهم وهم منتصبون في جوف الليل بين يدي الله جل جلاله ركعا وسجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا.
فإذا بذلك المسجد يصبح محلا للفرح والسرور؛ لكنه فرح منضبط، فلا يستطيع أحد أن يتهم هذا الدين بالتضييق، ولا يستطيع أحد أن يطعن في هذا الدين؛ وإذا برسول الأمة عندما رأى أهل الحبشة يأذن لهم، ولم ينقم عليهم ذلك.
ولا يقف الأمر عند هذا؛ بل عندما دخل بيته فإذا بحبه وزوجه عائشة رضي الله عنها وأرضاها تسأله أن تنظر إليهم، فما منعها من النظر، ولا قال لها: لا تنظري، فما منعها من شيء يدخل السرور عليها، وهذا بشرط أمن الفتنة؛ لأن الحبشة كانت الفتنة فيهم مأمونة، ولا ينبغي لأحد أن يقول: يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال، ويستدل بهذا الحديث؛ لأن قوله ذلك يصبح غلوا في الفرح لتفرح المرأة ولكن بشرط ألا يكون هذا الفرح فتنة للأهل والولد؛ لأن في ذلك مخالفة لشرع الله، وهذه الحواجز والقيود يقصد بها صلاح الدين والدنيا والآخرة.
فقامت تنظر، وما قال لها: أنا رسول الأمة، وانتظري حتى يأتي أخوك ويقف لك، لم يقل لها ذلك، بل وقف عليه الصلاة والسلام على قدميه رسول الأمة صلى الله عليه وسلم الذي وقف بين يدي الله جل جلاله راكعا ساجدا يبتغي فضلا من ربه ورضوانا، ويشتري رحمة ربه بإدخال السرور على أهله بالوقوف على قدميه الشريفتين، وقف عليه الصلاة والسلام، ووقفت من ورائه، تقول رضي الله عنها: (وأنا أنظر إليهم من ورائه) ، وهذه هي الحشمة والعفاف، فقد كانت رضي الله عنها على حشمة وعفاف، فكانت تفرح أيضا، ويدل هذا على أن المرأة تفرح لكن بشرط أن تكون محتشمة، عفيفة، رزانا، حصانا، متحفظة.
فقالت رضي الله عنها: (وأنا أنظر إليهم من خلفه) ، وما قالت: أنظر من خلف الباب، بل من وراء النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فإن المرأة المؤمنة بدلا من أن تذهب إلى الفرح بغيبة محرمها، عليها أن تبحث عن محرمها حتى يصونها ويحفظها، وهذه أم المؤمنين رضي الله عنها تحرص على ذلك.
ثم تقول رضي الله عنها: (فيقول لي: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد.
فيقول: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد) ، ثم تقول رضي الله عنها وأرضاها: (فاقدروا قدر الصبية الجهلاء) ، ومعناه: أنها أخذت -كما يقولون- راحتها واستجمام قلبها، وفي هذا دليل على أمور: أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها في الفرحة، فدل هذا على أن من السنة في يوم العيد أن تحدث فرحة لأهلك، ومن الفرحة: أن تأخذهم إلى مكان تتسع وتنشرح فيه صدورهم، والمؤمن دائما يكون عاقلا، وقد كان من مشايخنا وأهل الفضل والعلماء في بعض الأحيان يدخلون السرور حتى بطريق غير مباشر، فالزوجة إذا كانت تستحي من زوجها وتألف ولدها، فيأمر ولدها أن يأخذها، فعليك دائما أن تحرص على إدخال السرور عليهم؛ لأنك إذا وسعت على أهلك وسع الله عليك، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن بالتوسعة على بيوت المسلمين حينما وقف عليه الصلاة والسلام.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالتوسعة بفضول النظر؛ لأن اللعب من الفضول، والنظر إلى اللعب من الفضول فأذن بذلك؛ لكنه بشرط أمن الفتنة والمحافظة.
ثالثا: وهذه وقفة تحتاج إلى أن نتأملها ف





ابوالوليد المسلم 14-05-2025 06:44 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الوصايا)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (409)

صـــــ(1) إلى صــ(16)





شرح زاد المستقنع - باب الموصى به
تجوز الوصية بما يعجز عن تسليمه؛ كالعبد الآبق ونحوه، وتجوز بالمعدوم والمجهول، كالصيد ونحوه مما فيه منفعة من جهة معينة، وتبطل الوصية بتلف الشيء الموصى به، ولا يعدل عنه إلى غيره.

أحكام ومسائل متعلقة بالشيء الموصى به
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الموصى به] .
شرع المصنف رحمه الله في هذا الباب في بيان ما يتعلق بالشيء الموصى به، ويعتبر هذا الشيء ركنا من أركان الوصية؛ لأن الإنسان يعهد بالشيء إلى غيره، وهذا الشيء منه ما تصح الوصية به، ومنه ما لا تصح الوصية به.
فنظرا لاختلاف حكم الشرع فيه؛ ناسب أن يعقد المصنف رحمه الله له بابا مستقلا، فيبين ما هي الشروط التي ينبغي توفرها في الشيء الذي يوصى به، ومن عادة الشريعة أنها تفرق في محل العقود، فالموصى به محل للوصية، كما أن الشيء المبيع محل لعقد البيع، والشيء المؤجر محل للإجارة، والشيء الموهوب محل للهبة.
فتارة تشدد الشريعة في الأشياء التي هي محل للعقود، وتشترط شروطا لابد من توفرها للحكم بصحة عقودها، وهذا التشدد من الشريعة قصدت به حفظ الحقوق للناس، فلا تقصد به تضييقا عليهم، ولا تعسيرا في تشريعاتها لهم، وإنما قصدت حفظ الحقوق، فالشيء المبيع له شروط، والشيء المؤجر له شروط، والشيء الموهوب، والشيء الموصى به، كل ذلك له شروط معينة.
فتارة تكون الشروط قوية -كما ذكرنا- وتارة تكون خفيفة، والموصى به أمره خفيف، والشرع يخفف في شروطه، والعلماء رحمهم الله يبينون جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الشيء الموصى به، ويظهر من خلال هذا البيان أن الشريعة قصدت التوسعة، والسبب في هذا: أن يعلم طالب العلم أن الشيء الموصى به في الغالب أشبه بالهبة، والشخص إذا وهب الشيء فهو محسن متفضل، والله تعالى يقول: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] .
فلك أن توصي بالقليل، ولك أن توصي بالكثير، ما دام أنه دون الحد الذي حده الشرع، ولك أن تزيد عن هذا الحد إذا سامح أصحاب الحق -وهم الورثة- فأجازوا وصيتك.
والمقصود: أن الشيء الذي يوصى به تارة يكون مأذونا بالوصية به، وتارة يكون غير مأذون به.
فهنا يتكلم العلماء رحمهم الله على الأشياء التي يكون من حق الإنسان أن يوصي بها، فإذا تضمنت الوصية بالشيء ما يقصده الشرع من حصول المحبة، وحصول البر والإحسان والصلة والرفق، أجازت الشريعة الوصية، وإذا تضمن الشيء الموصى به ما يكون وسيلة لحرام، أو يكون وسيلة إلى غرض يهدم أصول الشريعة أو يعارضها؛ فحينئذ لا تجوز الوصية، فلو وصى بكتب محرمة، ككتب السحر، وكتب الضلالات التي فيها الأمور التي تؤثر في العقيدة وتضل الناس، فلا تجوز الوصية؛ لأن هذا شيء موصى به محرم.
كذلك لو وصى بآلات اللهو التي لم يأذن بها الشرع فإنه يتضمن معارضة الشرع؛ ولو قالت الشريعة: تجوز الوصية بذلك، لتناقضت، فكيف تقول: إنها آلات محرمة، ثم تجيز الوصية بها؟ فلابد من أن يكون المحل الذي ترد عليه الوصية مأذونا به شرعا، ولأجل التفريق بين ما يحل وما يحرم وما يباح؛ فإنه لا بد من بيان المسائل والأحكام التي سيعرج المصنف رحمه الله في بيانها.
يقول رحمه الله: (باب الموصى به) ، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالشيء الذي يجوز أن يوصى به، والشيء لا يجوز أن يوصى به.

حكم الوصية بما يعجز عن تسليمه
قال رحمه الله: [تصح بما يعجز عن تسلميه؛ كآبق وطير في الهواء، وبالمعدوم، كما يحمل حيوانه وشجرته أبدا أو مدة معينة، فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية] .
قوله: (تصح بما يعجز عن تسليمه) ، الشيء المعجوز عن تسليمه يصح في بعض الأحيان أن تتعامل وتتعاقد به، كما في الوصية هنا، ولا يصح في بعض الأحيان التعامل به، فلو كان الشيء المعجوز عن تسليمه مباعا؛ لم يصح البيع.
والمقصود بالمعجوز عن تسليمه: عجز عن الشيء إذا لم يستطع، ومعنى ذلك: أنك توصي بشيء أنت عاجز عن دفعه وإيصاله للموصى له، ويعجز من يقوم مقامك من الورثة عن إيصاله إلى الموصى له.
وقوله: (كآبق) أي: مثل العبد إذا أبق وشرد عن سيده، ولم يستطع معرفة مكانه، أو لم يستطع أخذه؛ فحينئذ يكون معجوزا عن تسليمه، فصاحبه المالك له يعجز عن تسليمه، وإذا وصى بعبد آبق، أو بعير شارد، وهم يمثلون بهذه الأمثلة لأنها كانت في زمانهم، كما إذا شرد البعير، أو شردت البقرة، أو شردت الشاة؛ فحينئذ يصعب أن يحصل الإنسان عليه في الغالب، فإذا لم يستطع أن يجده فإنه لن يستطع تسليمه للغير، فهو معجوز عن تسليمه.
فكل شيء فقد ولم يستطع صاحبه أن يعرف مكانه، أو عرف مكانه ولكنه لا يستطيع أخذه، مثل: المغصوب ونحوه؛ فإنه معجوز عن تسليمه، فهذا النوع من الأشياء لا يجوز أن تتعامل به في عقود المعاوضات.
فلا تجيز لك الشريعة أن تبيع شيئا معجوزا عن تسليمه، ولكن تجيز لك أن توصي به وما الفرق بين الأمرين؟ لأنه في البيع إذا اشترى منك إنسان شيئا ضائعا منك؛ كساعة مفقودة، أو بعير شارد، أو دابة فرت منك، أو طير طار منك، كان عندك ثم طار؛ فإنه في هذه الحالة تغرر به؛ لأنه يحتمل أن يأخذ ذلك الشيء ويحتمل ألا يأخذه، والغالب أنه لا يأخذه، فأصبحت آخذا لمال أخيك بدون حق.
وهذه العلة أشارت إليها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أنس في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها) ، ثم علل عليه الصلاة والسلام وقال كما تقدم معنا في البيع: (أرأيت إن منع الله الثمرة) أي: أخبرني، لو بعت هذا الشيء المعجوز عن تسليمه ولم يستطع من اشتراه منك أن يصل إليه، ثم قال عليه الصلاة والسلام (فبم تستحل مال أخيك؟) أي: بأي حق تأخذ الخمسمائة ريال التي دفعها لك أخوك المسلم لقاء ذلك البعير، فإذا أصبح غير مستطيع الوصول إلى البعير، كان أخذك لهذه الخمسمائة من أكل المال بالباطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فبم تستحل مال أخيك؟) .
وهذا يدل على أن الشريعة في المعاوضات تريد إيصال كل عوض إلى صاحبه، وهذا هو ما قرره الأئمة رحمهم الله، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله في بيع المعدوم كلام نفيس في مجموع الفتاوى، بين أن العدل أن يعطى كل ذي حق حقه في المعاوضات.
فمن اشترى شيئا لقاء شيء فإنه ينبغي أن يمكن من ذلك الشيء الذي اشتراه؛ فإذا لم يمكن منه فقد ظلم؛ لأنه أعطى غيره ولم يأخذ منه، وهو إنما أعطى الغير ليأخذ؛ فالبائع أعطى السلعة من أجل أن يأخذ الثمن، والمشتري أعطى الثمن من أجل أن يأخذ السلعة؛ فإذا ظلم أحدهما الآخر فأخذ منه ولم يعط، فقد أكل ماله بالباطل، وهذا هو الذي جعل الأمر يختلف بين الوصية وبين البيع، وحينئذ في الوصية حينما يقول الشخص: أوصيت ببعيري الشارد لمحمد، فهذه الوصية ليس لها عوض يقابلها، أي: لم يدفع محمد مالا إلى الميت الذي وصى، وإنما تفضل الميت وتبرع وأحسن وأفضل حينما قال: هذا البعير الشارد أعطوه محمدا، فإن حصل محمد على البعير الشارد فقد تحقق المقصود والموصي له أجره، وإن لم يحصل فلا ضرر عليه؛ لأنه لم يدفع شيئا في مقابل هذا البعير.
ومن هنا صحت الوصية بالمجهول، وصحت بالمعدوم، وصحت بالمعجوز عن تسليمه؛ لأنه لا غرر في ذلك، فتصح الوصية بالبعير الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، فلو أن سمكة كان يملكها ثم سقطت في الماء فوهبها، صحت؛ لأن هذا كله لا غرر فيه على الموصى له.
وقوله: (وطير في الهواء) الطير في الهواء -طبعا- يصعب الوصول إليه، ولكن أيا ما كان فالوصية تخالف البيع؛ لأن الوصية لا عوض فيها، والبيع فيه عوض.

حكم الوصية بالمعدوم
وقوله: [وبالمعدوم] كالذي تحمل أمته، أو الذي تحمل نخله؛ فالذي تحمل أمته أو جاريته قد يكون أثناء الوصية غير موجود، لكنه يوجد بعد ذلك، فحينئذ يكون ملكا للموصى له، ولو قال: ثمرة بستاني السنة القادمة، فهنا ثمرة البستان معدومة الآن.
والمعدوم: هو غير الموجود والذي يرجى حدوثه، وقد لا يحدث أصلا؛ لكنه معدوم، فالنخل له زمان يكون الثمر موجودا فيه، وزمان لا يوجد فيه الثمر، فلو جاء الموصي في الزمان الذي ليس فيه ثمر -والذي يسمونه مرحلة السكون، وهي تقارب شهرين يسكن فيها النخل فلا طلع فيه ولا ثمر، والشهران هذان اللذان هما بين الجداد جد النخل وبين الطلع- فلو وصى فيهما فقال: ثلث ثمر البستان السنة القادمة؛ فأثناء الوصية يكون معدوما، أي: غير موجود؛ فحينئذ تصح، والذي يخرجه البستان يعطى منه النصيب الذي وصى به.
وقوله: (كما يحمل حيوانه وشجرته أبدا) .
أي: كالذي يحمل حيوانه، مثلما ذكرنا في الناقة والبقرة والشاة والشجر والنخيل، كأن يقول: نخل البستان، أو يكون عنده عنب؛ فيقول: ثم العنب للسنة القادمة أوصيت به لفلان، أو أوصيت به لأبناء عمومتي، أو نحو ذلك، يختص بها من سمى في وصيته؛ فإنه يصح.
وقوله: (أو مدة معينة) .
سواء كان مطلقا أو مقيدا أو مدة معينة، فيقول: أوصيت بثمرة بستاني هذه السنة، أو أوصيت بثمرة بستاني لمدة سنتين لمحمد، أو ثلاث سنوات لأرحامي أو قرابتي، أو نحو ذلك.
وقوله: (فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية) .
الفاء: للتفريع، وذلك من دقة العلماء رحمهم الله، وهم يذكرون الأمثلة من باب ترتيب الأفكار في الذهن، وهذا يعين طالب العلم على فهم المسائل، ويعين المفتي على الإفتاء، ويعين القاضي على القضاء، فعند العلماء أصول، وعندهم فروع مترتبة على هذه الأصول، ولذلك قسمت المسائل في الأبواب والفصول حتى تركز وتنتبه لها، فالأبواب الرئيسية تعتبر أصولا، ثم الفصول مبنية على هذه الأصول، ثم قد يكون في داخل الفصل والباب أصل وفرع.
فأول ما تبحث في مشروعية الشيء، أي: في إذن الشرع به، فإذا ثبت هذا الشيء، فتقول: ما الذي ينبني أو يترتب على ثبوته؟ فإنه هنا عندما قال: ثمرة بستاني للسنة القادمة لمحمد، ويقتضي عقلا إما أن يحمل البستان وإما ألا يحمل، فالفاء هنا للتفريع.
فيريد أن يبين حالة عدم خروج الثمرة؛ لأن السؤال الذي يحتاجه من يستفتي ويقضى به في القضاء هو في حالة عدم وجود شيء، فقد يأتي الموصى إليه ويطالب الورثة ببديل، ويقول: ما دام أن الوصية ثابتة، ولي عند الموصي هذا الشيء الذي وصى به؛ فإنني لم أجد شيئا؛ لأن الثمرة لم تخرج، ولذلك أطالبكم ببدل وعوض عنه من ماله.
فنقول في هذه الحالة كما يقول المصنف رحمه الله: (فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية) ، فلا شيء له، وهذا لا شك أنه عين العدل والإنصاف، حيث وصى بثمرة بستانه، فإذا لم يخرج من البستان شيء فلا شيء له؛ لأن هذا مترتب على وجود شيء من البستان، أما إذا لو يوجد شيء فلا شيء له.
حكم الوصية بكلب الصيد ونحوه
قال رحمه الله: [وتصح بكلب صيد ونحوه] .
بين المصنف رحمه الله أنه يجوز ويصح للمسلم أن يوصي بشيء معدوم وبشيء معجوز عن تسليمه، ولكن إذا كان الشيء الموصى به فيه منفعة، وهذه المنفعة مأذون بها في أحوال ضيقة وخاصة؛ فإنه لا يصح إلا الذي أذن به الشرع، مثال ذلك: الكلب، فإن الكلب -أكرمكم الله- منه ما حرم الشرع، ومنه ما أذن بمنافعه، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل نوع من الكلاب، وحرم اتخاذ الكلاب مطلقا في الأصل، ثم خصص واستثنى عليه الصلاة والسلام ثلاثة أنواع من الكلاب: كلب الصيد، وكلب الحراسة في الماشية والزرع.
فهذا الذي استثناه عليه الصلاة والسلام هو الذي يجوز للمسلم أن يتخذه من الكلاب، فله أن يتخذ كلبا من أجل الصيد، أو يتخذ كلبا من أجل أن يحرس زرعه وحرثه وما يكون في بستانه، ويتخذ كلبا لحراسة الماشية من الذئب ونحوه، فهذا الذي أذن به الشرع يجوز أن يوصي به إذا كانت فيه هذه المنفعة، وهي منفعة الصيد، ولذلك قال: (بكلب صيد) ، حتى يفهم أن كلب الحرث والماشية كذلك؛ فإذا وصى بكلب الحرث والماشية صحت الوصية؛ فلا يفهم منه كلب الصيد فقط؛ لأن الحاجة في الحرث والماشية أشد من الصيد، وهذا من دقة المصنف حيث إنه ينبه بالأدنى على الأعلى.
فلما قال: (كلب صيد) شمل ذلك كلب الحرث وكلب الماشية، والإذن بكلب الصيد -من ناحية فقهية- أقوى من الإذن بكلب الحرث والماشية؛ لأن الإذن بكلب الصيد جاء نصا في القرآن، حيث قال الله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة:4] ، والإذن بكلب الماشية والزرع جاء بالسنة في الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح: (من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية) .
فهذا نوع من التمثيل قصد به المصنف أن يبين أن كل شيء فيه منفعة وأصله محرم -أي: فيه أشياء محرمة ومنافع مباحة- فإنه تجوز الوصية به إذا كان للشيء المباح.
وقد ذكر هذه المسألة وفصل فيها الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، وذكر من ذلك: الوصية بالطبل وبالدف، وكذلك بآلات اللهو، وبين أن الأشياء المحرمة مطلقة التحريم لا تجوز الوصية بها مطلقا، فلو وصى بآلات محرمة فلا تصح الوصية، وهي باطلة، ولو وصى بخمر أو ميتة أو خنزير فإنها لا تصح الوصية، لكن لو وصى بدف حلت وصحت الوصية، وهي وصية مأذون بها شرعا، والدف حلال لمن وصي له؛ لأن الشرع أذن به في النكاح.
فهذا عند العلماء رحمهم الله أصل في المنافع، فبعد أن وصى بالذوات، شرع في بيان المنافع، فكل ما كانت فيه منفعة مباحة وصى صاحبه قبل موته بمنافعه إلى شخص؛ أعطي هذه المنافع ومكن منها.
فمثلا: البيت فيه منفعة السكن، والسيارة فيها منفعة الركوب، والفندق فيه منفعة السكن أيضا، ونحو ذلك، فهذه الأشياء لو أعطيت منافعها مدة معلومة لشخص معين، أو وصي بها مدة معلومة؛ صحت الوصية تلك المدة، ومكن من أخذ حقه منها، بناء على وصية الميت المالك لذلك الشيء.

حم الوصية بالزيت المتنجس
قال رحمه الله: [وبزيت متنجس] .
هناك الزيت النجس والزيت المتنجس، فالزيت النجس: هو النجس بعينه، ولا يمكن بحال أن تطهره، فلو جئنا وأخذنا زيتا مستخرجا من شحوم الميتة ومن أدهانها، فإنه نجس، ونجاسته عينية، ولو صببت عليه ماء الدنيا كله لما طهره، ولو طبخته فإنه لا يطهر أيضا؛ لأنه نجس بعينه.
والمتنجس: هو الشيء الذي يكون في أصله طاهرا ودخلت عليه النجاسة، فتقول: هذا ثوب متنجس، أي: دخلت عليه النجاسة ويقبل التطهير.
فهناك فرق بين النجس وبين المتنجس، فما كان من الأشياء المتنجسة ويمكن تطهيره فإنه يجوز بيعه، فمثلا: لو كان الثوب متنجسا صح بيعه، لكن لو كان زيتا نجسا لم يصح بيعه ولا شراؤه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام، قالوا: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟ -أي: أدهانها والزيوت المستخلصة منها والسمن ونحوه- فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود! حرمت عليهم الميتة فجملوا شحومها ثم أذابوها فباعوها؛ فاستحلوا ما حرم الله عليهم بأدنى الحيل) .
فهذا يدل على أن النجس بعينه لا يجوز بيعه، ولذلك جاءت الرواية الأخرى: (لا، هو حرام) أي: لا يجوز الانتفاع بالأدهان النجسة بأعيانها؛ لأنه لا يمكن تطهيرها، لكن لو كان عند إنسان زيت زيتون وقع فيه بول، أو اختلط بنجاسة، فعند العلماء خلاف: إذا تنجس الزيت فهل تكون نجاسته نجاسة ممازجة أم نجاسة مجاورة؟ وهذا قد سبق الكلام عليه في باب بيع الزيت.
فحينئذ: لو كان الزيت متنجسا لا نجسا بعينه؛ فقال -مثلا-: زيت الزيتون هذا الذي وقعت فيه نجاسة وصيت به لمحمد، أو وصيت به لزيد، صحت الوصية؛ لأنه يمكن تطهير هذا الزيت؛ إما بالطبخ وإما بالغسل، وقد قلنا: يغسل الزيت بأن تزيد ماء على النجاسة الواقعة فيه بما يخالط هذه النجاسة ويذهب عينها.
والدليل على ذلك: حديث الأعرابي، فإنه لما بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه ذنوب من ماء، وهذا الذنوب أكثر من البول، فدل ذلك على أن النجاسة إذا ورد عليه الماء الطهور الأكثر منها طهرها، فالزيت المتنجس عندما يقع فيه البول فإنه لا يمازجه ممازجة تامة، وحينئذ يبقى منفصلا عنه، وتجد طبقة البول منفصلة عن طبقة الزيت؛ لأن الزيت والسمن لا يقبلانها؛ ففي هذه الحالة يصب عليه الماء، فيختلط الماء بالبول، ويصبح بكثرته مكاثرا له، ويحكم بطهارة ذلك النجس، وحينئذ يحكم بطهارة الزيت، ويصح الانتفاع به أكلا وشربا ودهانا، كما سبق بيانه في كتاب البيع.
وقوله: [وله ثلثهما ولو كثر المال إن لم تجز الورثة] .
فإذا كان وصى بالزيت، أو وصى بالكلب، أو وصى بالأشياء التي ذكرناها من المعدومات والمعجوز عن تسليمها، وكانت تعادل الثلث؛ فإنه يأخذها كاملة.
وإن كانت دون الثلث؛ فإنه يأخذ ما يعادل الثلث من المال كله من ذلك الشيء الذي وصى به، فيكون له ثلثه.
وقال بعض العلماء: له ثلث المعين، فإذا قال: هذا المعين لفلان؛ فإنه حينئذ يشاركه الورثة في ثلثيه، ولكن العمل بما ذكرناه، أنه يستحقه كاملا إن كان ذلك الشيء دون الثلث، وقد اختار المصنف رحمه الله ما ذكرناه من أنه يقتطع ثلث الموصى به، وقد بينا أن الصحيح أنه يقتطعه كاملا إذا كان يعادل الثلث فأقل.
وقوله: [ولو كثر المال إن لم تجز الورثة] .
(ولو) إشارة إلى الخلاف، وإذا أجازت الورثة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ما زاد عن الثلث إذا أجازه الورثة فإنه نافذ، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في حكم من وصى بما هو أكثر من الثلث، بأن وصيته تصح وتمضي إذا أجاز الورثة؛ لأن الحق لهم، وهل يكون ذلك تنفيذا للوصية أو يكون عطية مستأنفة؟ بينا هذه المسألة وبينا أقوال العلماء رحمهم الله فيها.

حكم الوصية بالمجهول
قال رحمه الله: [وتصح بمجهول كعبد وشاة] .
أي: وتصح الوصية بمجهول، فلو أن رجلا عنده سيارات فقال: وصيت بسيارة من سياراتي لمحمد، أو وصيت بعبد من عبيدي، أو بشاة من غنمي، أو بناقة من إبلي ونحو ذلك، فإذا وصى بمجهول فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يقول: بعبد من عبيدي.
والحالة الثاني: أن يقول: بعبد.
ونمثل بما هو موجود الآن، فإن قال: وصيت بعمارة من عماراتي إلى خال أولادي، ولنفرض أن عنده ثلاث عمائر، وكل عمارة تعادل مليون ريال، فإنه: يعطى عمارة من هذه العمارات الثلاث، وهنا يختلف العلماء، فإذا كانت العمائر متفاوتة، ففيها العمائر الغالية الجيدة، وفيها العمائر التي هي دون ذلك؛ فعند ذلك يأخذ أقل ما يصدق عليه أنه عمارة منها، أي: أقلها ثمنا وأقلها قيمة مما يصدق عليه أنه عمارة؛ لأنه وصى بعمارة من عماراته، واليقين أن الأصل أنها ملك للورثة، فلما قال: بعمارة من عماراتي، فأقل ما يصدق عليه أنها عمارة يعطاها، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ومنهم أئمة الحنابلة رحمهم الله.
وخالف بعض الفقهاء كبعض أصحاب الإمام الشافعي فقالوا: يعطى أحسن العمائر، فيبحث عن أفضلها وأغلاها ثمنا وأجودها ثم يعطى ذلك.
والصحيح: أنه ينظر إلى أقل ما يصدق عليه أنه عمارة، كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن الأصل أنها ملك للورثة، فلما قال: عمارة من عماراتي، فهذا الوصف يصدق على أقل عمارة، فهي عمارة من عماراته، فلو كان يريد الأجود للزمه أن يقول: أفضلها وأحسنها؛ لأنه وصف زائد عن الاستحقاق، فكان الواجب ذكره، فلما لم يذكره فهمنا أنه يريد أقل ما يصدق عليه أنه عمارة.
وهذا من جهة الألفاظ، ولذلك لو أن شخصا قال: إذا نجح ولدي فلله علي أن أطعم مسكينا، فإذا قال ذلك ولم يحدد، فنقول له: أطعم أقل ما يصدق عليه أنه إطعام، وهذا في الاستحقاقات، فعلى هذا نقول: إنه يعطى أقل هذه العمائر مما يصدق عليه الوصف الذي ذكره في الوصية.
وفي الحالة الثانية إذا قال: أوصيت بعمارة لفلان، فإذا لم يكن عنده عمائر، فلا إشكال أنه يؤخذ من ماله ما يكفي لشراء أقل ما يصدق عليه أنه عمارة في عرفنا، فمثلا: لو وجدنا أن العمارة في عرفنا تصدق على دورين، أو على ثلاثة أدوار، فنشتريها بحسب العرف.
فننظر إذا كانت قيمة هذه العمارة مثلا خمسمائة ألف، والذي ترك ثلاثة ملايين، فهي إذا هي دون الثلث، فيشترى له عمارة بخمسمائة ألف ويعطاها، لكن لو قال في هذه الحالة: أوصيت بعمارة، وعنده عمائر، وعنده سيولة، فهل نعطي الموصى له من العمائر التي يملكها الشخص، أم أن الورثة يشترون له عمارة من الخارج؟ والسبب في هذا: أنه ربما تكون عنده ثلاث عمائر، وكل عمارة بمليون، مع أنه لو اشتريت له عمارة من الخارج فستكون قيمتها مائة ألف، فمن مصلحة الورثة أن يشتروا له عمارة من الخارج، فقال بعض العلماء: ما دام أنه قال: أوصيت بعمارة، وسكت، ولم يبين أنها من عمائره؛ فحينئذ من حق الورثة أن يشتروا له عمارة من الخارج، ويكون حينئذ قد برئت الذمة، ويستحق هذا الشيء الذي يصدق عليه أنه عمارة؛ لأنه لو كان يريد من عمائره لقال: بعمارة من عمائري.
وعلى هذا تدخل مسألة السيارة، ومسألة المزرعة، فإذا كان يملك مزارع فحينئذ من حق الورثة صرفه عن مزارعه بشراء مزرعة؛ لأن الوصية تصح بذلك.
قالوا: لأنه لو أراد مزرعته لقال بمزرعة من مزارعي، وبسيارة من سياراتي، وبعمارة من عمائري، فلما قال: بسيارة، أو أرض، أو بكتاب، أو بمزرعة، فحينئذ أقل ما يصدق عليه هذا الوصف يشترى ويعطاه.

اعتبار العرف في الوصية بالمجهول
قال رحمه الله: [ويعطي ما يقع عليه الاسم العرفي] .
هناك ثلاثة أنواع من الحقائق، يسميها العلماء: الحقائق: النوع الأول: الحقيقة اللغوية.
النوع الثاني: الحقيقة العرفية.
النوع الثالث: الحقيقة الشرعية.
فالحقيقة اللغوية: هي التي تعارف عليها واصطلح عليها أهل اللغة، واللسان العربي في الجاهلية وصدر الإسلام، على خلاف في مسألة الاحتجاج بصدر الإسلام في الشواهد والأشعار، وإن كان الصحيح أنه يعتبر من الحقائق اللغوية ويعمل بها.
وهذه الحقائق، والمسميات اللغوية، قد تكون في بعض الأحيان أعم من المسميات الشرعية، فمثلا: الصلاة، فالصلاة في لسان العرب تشمل الدعاء، وتشمل الرحمة، وتشمل البركة، ثم جاءت الشريعة -وهذه هي حقيقة شرعية- وأطلقت الصلاة على عبادة مخصوصة، وإن كانت الشريعة تستعمل في بعض الأحيان الصلاة بالمعنى العام الذي هو الدعاء، كقول كعب بن عجرة رضي الله عنه: (كم أجعل لك من صلاتي؟) يعني: من دعائي.
وقد تأتي بمعنى الرحمة: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب:56] ؛ لأن الصلاة من الله على نبيه عليه الصلاة والسلام رحمته له عليه الصلاة والسلام.
فالشاهد: أنه إذا استعملت الصلاة بمعنى الرحمة، أو البركة، أو الدعاء، فهذه حقيقة لغوية وإطلاق لغوي، وإذا استعملت الصلاة بمعنى العبادة المعروفة ذات الركوع والسجود، المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم بنية التقرب إلى الله عز وجل؛ فهذا لا إشكال أنه حقيقة شرعية.
ومثلا: الوضوء، فالوضوء في لغة العرب: غسل الشيء، تقول: توضأت؛ إذا غسلت يديك، وإذا أردت الحقيقة الشرعية تقول: توضأ، وقصدك: غسل ومسح الأعضاء التي أمر المسلم بغسلها ومسحها، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الجنب لما سئل هل ينام وهو جنب؟ فقال لـ عمر: (توضأ واغسل ذكرك ثم نم) .
فهل نحمل قوله: (توضأ) على الحقيقة اللغوية ونقول: مراد النبي صلى الله عليه وسلم غسل مواضع الأذى وغسل الفرج؟ أم أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء المعروف الخاص بالأعضاء؟ وهذا من تعارض الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية.
أيضا: يتعارض العرف مع الحقيقة اللغوية كما تتعارض الشرعية، فمثلا: لو أن شخصا قال: والله لا آكل اللحم -والفقيه وطالب العلم لا بد أن يفهم هذه الحقائق ومدلولاتها، وما الذي يقدم منها- فهل معنى ذلك: أننا نحرم عليه لحم الإبل والبقر والغنم والطيور والأسماك والصيد وكل ما يصدق عليه أنه لحم في لغة العرب؟ أم أننا نخصص التحريم، ونقول له: يحرم عليك اللحم التي تأكله في عرفك وبيئتك؟ لأنه لو قال: نحن في بيئتنا لا نأكل إلا لحم الدجاج، وإذا قصد الدجاج فحينئذ لا إشكال، لكن لو قال: والله لا آكل اللحم، فهل نصرفه إلى ما يتعارف عليه، أو نصرفه إلى الحقيقة اللغوية؟ هذه كلها مباحث ومسائل يبحثها العلماء رحمهم الله ويتعرضون لها؛ لأنها تتصل بأحكام شرعية مهمة.
وكذلك هنا الذي وصى، فإن قال: أوصيت بمزرعة لمحمد، وقد يكون ثريا، وهناك مزارع بمليون، ومزارع بنصف مليون، ومزارع بمائة ألف، فهل نقول: العبرة به هو أم العبرة بعرفه وبيئته وما يصدق عليه أنه مزرعة؟ نقول: العبرة بالعرف والبيئة، فنشتري له أقل ما يصدق عليه أنه مزرعة.
وكذلك لو قال: أوصيت لمحمد بسيارة، وهذا الغني الثري لو أراد أن يشتري سيارة لنفسه لاشترى بمائتي ألف، فهل معنى ذلك: أن الورثة يطالبون بشراء سيارة ذات القيمة الغالية بناء على الشخص الموصي؟ نقول: لا، وهذا الذي قصده المصنف في عرفه.
مسألة ثانية: لما قال بالعرف، فالعبرة بعرف الموصي، لأنك تجد السيارات في بعض الدول تشترى -مثلا- بخمسة آلاف ريال، وفي بعض الدول تشترى بعشرة آلاف، وفي دول أخرى بمائة ألف، وفي بعضها بأكثر، فنقول: العبرة بعرف الموصي، أي: بيئته التي هو فيها، ومدينته التي هو فيها، فأقل ما يصدق عليه أنه سيارة، فتشترى له، وتتم الوصية على هذا الوجه.






ابوالوليد المسلم 14-05-2025 06:49 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




إذا أوصى بثلث ماله ثم طرأ مال جديد
قال رحمه الله: [وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالا ولو دية دخل في الوصية] .
يقول رحمه الله: (وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالا) أي: طرأ المال بعد الوصية، وهذا هو المراد بالاستحداث، وصورة المسألة ومثالها: شخص وصى بمليون، وهو يملك مليونين، فالمليون يعادل النصف، فاستحدث مالا، أي: طرأ مال بعد الوصية، فأصبح يملك ستة ملايين، فأصبح المليون دون الثلث، فإذا حدث شيء بعد الوصية وعند الموت، كان الذي أوصى به دون الثلث، ونفذت الوصية ومضت، وفائدة هذه المسألة أيضا في النسب والتقديرات، فإنه لم يوص بمبلغ معين -وفي الصورة الأولى أوصى بمبلغ معين- فاستحدث مالا في الأنصبة، وهذا مراد المصنف، كأن يقول: أوصيت بثلث مالي، وهو يملك ستة ملايين، فمعناه: أنه سيكون للموصى له مليونان، والمليونان تعادلان ثلث الستة ملايين، وبعدما انتهت الوصية ملك -مثلا- ستة ملايين أخرى، فحينئذ تنتقل الوصية من المليونين إلى أربعة ملايين، فالنسب تدخل في المستحدثات، فكلما حدث من زيادة فإن النسبة تدخل عليه؛ لأنه قال: بثلث مالي.
والعبرة بماله عند وفاته، والعكس بالعكس، فلو حدث نقص فإنه حينئذ يؤثر، فلو قال مثلا: أوصيت بثلث مالي، وكان يملك ستة ملايين، فقلنا: الأصل أن الموصى له يأخذ مليونين، ثم حدث انكسار وعجز، فأصبح يملك ثلاثة ملايين؛ فإنه يعطى مليونا واحدا، فيحتمل الغرم والغنم.
مسألة دخول الدية في الإرث والوصية
وقوله رحمه الله: (ولو دية) (لو) : إشارة إلى خلاف مذهبي، فإن للعلماء في الدية خلاف، والصحيح: لو أن شخصا وصى وقال مثلا: وصيت بثلث مالي لمحمد، ومحمد هذا من قرابته غير الوارثين، ثم قتل خطأ -الذي هو الموصي- فمعنى ذلك: أنه سيرتفع نصيبه بالدية، فهل تدخل الدية في الإرث أو لا تدخل؟ الذي عليه العمل عند الأئمة والعلماء أن الدية موروثة وتدخل في الإرث، ولذلك قال الإمام أبو عبد الله إمام أهل السنة رحمه الله أحمد بن حنبل: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية في الإرث) ، يعني: أنها تدخل في الميراث.
فالمرأة ترث من دية زوجها، ويرث الزوج من دية زوجته، فالدية تابعة للإرث، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة الإسلام.
وعلى هذا فقوله: (ولو دية) إشارة إلى خلاف، فبعض العلماء يقول: إن الدية لا يدخل فيها الوصية، ولا ترفع نصيب الموصى له؛ لأن الدية -مثلا- لو كانت مائة ألف لرفعت نصيب الموصى له.
فلو قال مثلا: وصيت بثلث مالي، وعنده عشرون ألف ريال؛ فثلث المال سيكون دون السبعة آلاف بكسر؛ لكن لو أدخلنا الدية، والدية مائة ألف، فسيكون ثلث ماله أربعين ألفا، فيأخذ أربعين ألفا؛ لأنه يصبح الذي تركه الموصي مائة وعشرين ألفا، مائة من الدية، والعشرين من أصل المال، فيصبح تاركا لمائة وعشرين، فيأخذ ثلثها وهو أربعون ألفا، وعلى كل حال: فإن الوصية تدخل وتحتسب من الدية، والدية تورث.

بطلان الوصية بتلف المعين الموصى بها
قال رحمه الله: [ومن أوصي له بمعين فتلف بطلت] .
عند العلماء: المعين والموصوف في الذمة، وهذا من أروع ما تميزت به هذه الشريعة الإسلامية، التي جاءت بتشريعات وأحكام ومسائل وافية شاملة عامة كاملة، وهذا من أعجب ما يكون، أن الشريعة دخلت حتى في تفصيلات العقود، فتفرق بين التعيين والوصف في الذمة.
والعلماء يقسمون الأشياء في العقود إلى: معين، وموصوف في الذمة.
فأنت إذا بعت، أو أجرت، أو وهبت، فإما أن يقع عقدك على معين، أو موصوف في الذمة، فالمعين كأن تقول له: بعني بهذه العشرة، فهذا معين، فلو تلفت العشرة فسد البيع، ولا يقام غيره إذا كان المبيع على معين يفوت بفواته، هذا إذا تم التعاقد على معين يفوت بفواته، وفي الإجارة على مركوب معين، فلو قال: استأجر امرأة لترضع طفلا معينا، ثم أصيب هذا الطفل بمرض وتعذر إرضاعه؛ انفسخت الإجارة.
وكذلك لو استأجر دارا وقال: أؤجرك هذه العمارة، وهذه كلها معينات، وبناء على ذلك: لو جئت تشتري كتابا، وقلت له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فقال: بعشرة ريال، ثم دفعت العشرة الريال وخرجت من المكتبة فوجدت الكتاب قد طمست منه صفحة أو صفحتان، فرجعت إليه، وقلت له: هذا الكتاب فيه صفحة مطموسة أو صفحتان، وهذا عيب يؤثر، فرد لي العشرة، فقال: لن أرد العشرة ولكن سأعطيك بدلا منه؛ فهنا ليس من حقه أن يعطيك بدلا منه؛ لأن البيع وقع على معين يفوت بفواته، لكن لو قلت له: أعطني نسخة من بداية المجتهد، أو من زاد المستنقع، فقال لك: بعشرة ريال، فجاءك بنسخة ووجدت فيها عيبا، ولو كانت كلها مطموسة الصفحات، فقلت له: أعطني العشرة، فهنا لا تملك إلزامه؛ لأن البيع كان على موصوف في الذمة، ومن حقه أن يأتي ببديل عن الذي اشتريته.
إذا: العقود إما أن تكون على شيء معين يفوت العقد بفواته، وإما أن تكون على موصوف في الذمة.
وهنا في الوصية يبحث العلماء في محل الوصية في المعين والموصوف، فحينما يقول: أوصيت بعمارة، وذكر أوصافها، فهذا وصف يصدق على كل عمارة تتحقق فيها هذه الأوصاف التي ذكرها الموصي، أما لو قال: وصيت بهذه السيارة، وهذه السيارة دون الثلث، ثم شاء الله عز وجل عندما توفي أن تلفت السيارة؛ فعند ذلك تبطل الوصية، وإن قال: وصيت بهذه الشاة، فلما توفي ماتت الشاة، فحينئذ تبطل الوصية؛ لأنه يستحيل تنفيذ الوصية؛ فحينئذ تبطل وتفوت بفواته، وهذا هو معنى قوله: (بمعين) .
وهذه المسألة قد حكي الإجماع عليها، وممن حكى الإجماع عليها الإمام ابن المنذر رحمه الله، ونقل هذا عن الإمام ابن قدامة رحمه الله، وغيرهم من الأئمة، حيث قال: أجمع كل من نحفظ عنه العلم -يعني: من الأئمة والعلماء رحمهم الله جميعا برحمته الواسعة- أن الوصية بالمعين إذا تلف فاتت بفواته.
أي: يحكم ببطلانها.
قال رحمه الله: [وإن أتلف المال غيره فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة] .
يعني: إذا وصى بسيارة لمعين صحت الوصية، وإذا تلفت هذه السيارة فاتت الوصية بفواتها.
وفائدة هذه المسألة الأولى التي ذكرنا فيها الإجماع: أنه لو تلفت السيارة وقال الموصى له: أريد بدلا عنها؛ لأن الميت وصى لي، وقد تلفت السيارة، فأعطوني بدلا عنها؛ لم يكن من حقه ذلك؛ لأنه وصى له بمعين فات بفواته.
والعكس: فلو وصى له بسيارة، وكانت السيارة دون الثلث أثناء الوصية، ثم لما توفي الموصي أو قبل وفاة الموصي، وهناك أموال غير السيارة، فشاء الله عز وجل أنه توفي عن مزرعة والسيارة، فالسيارة قيمتها تعادل الثلث من المال، فمثلا: قيمة المزرعة مائة ألف، والسيارة قيمتها خمسون ألفا، فالسيارة تعادل ثلث المال، فعند ذلك صحت الوصية ومضت؛ لكن أراد الله عز وجل أن احترقت المزرعة أو تلفت، فأصبحت قيمتها عشرة آلاف ريال، أو تلفت بالكلية فلم تساو شيئا، فأصبح حينئذ لا يوجد إلا السيارة، فحينئذ يكون له ثلثها، ولا يدخل عليه الضرر -من حيث الأصل-، لكن لا يؤثر فوات المال من غيره على الموصى به، فلا يفوت الوصية كلها؛ لأن تلف غيرها ليس تلفا لها بعينها، وحينئذ تبقى الوصية في المعين كما هي.


الأسئلة




علة إذن الشرع بالرجوع في الوصية دون الهبة
السؤال أشكل علي أن الوصية تشابه الهبة في وجوه وتختلف في وجوه أخرى؛ فمثلا: يجوز الرجوع في الوصية، ولا يجوز في الهبة، فما توضيح ذلك؟
الجواب الوصية يجوز الرجوع فيها لحكم وأسرار عظيمة، وقد نبه العلماء رحمهم الله على جملة من هذه الحكم ومنهم: الإمام القرافي في كتابه النفيس: الذخيرة.
ومن أعظم هذه الحكم: أولا: أن الشريعة لما أذنت بالرجوع في الوصية فتحت باب الوصية، وشجعت الناس على أن يوصوا؛ لأن الإنسان لو علم أنه لا يملك أن يرجع في وصيته لخاف من الوصية؛ لأنها ستكون إلزاما، ولا يستطيع أن يعدل أو أن يبدل أو يغير.
ثانيا: أن الوصية مترتبة على الموت، فهي تصرف مضاف إلى ما بعد الموت، والإنسان لا يعلم متى أجله، وكم من مريض مد الله في عمره فعاش أكثر من الصحيح! وكم من صحيح اغتر بحاله فمات في طرفة عين! فالآجال لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يضمن الإنسان أن يمد له في عمره، وينسأ له في أجله، وأيضا: لا يضمن أن يأتيه الأجل فجأة، فجمعت الشريعة بين الاثنين: خوف إتيان الموت فجأة، فتكتب الوصية بناء على هذه الحالة.
وإن مد في العمر وطرأت أمور، فمثلا: قد أوصي لأجنبي وليس عندي أحد من أولادي، ثم يشاء الله أن يأتيني بولد، فأغير وأبدل تلافيا لما جد وطرأ، فهذا عين الحكمة، وعين العدل، وعين المصلحة، فقد جاءت الوصية على الصفة التي تحقق الهدف منها.
وقد يوصي الإنسان وليس عنده أولاد، ثم بعد ذلك يطرأ له أولاد، وقد يوصي بالقليل وعنده أولاد، ثم بعد ذلك قد يموت أولاده قبله، ففتحت الشريعة باب الرجوع تحقيقا للمصالح ودرءا للمفاسد، وتداركا لما يمكن أن يفوت لو حكم بعدم الرجوع.
هذا بالنسبة لإذن الشريعة بالرجوع في الوصية.
وقد منعت الشريعة من الرجوع في الهبة، وهذا ما يقوله العلماء: أن الشريعة تجمع بين المتضادين في حكم، وتفرق بين المتماثلين في حكم، فهنا منعت من الرجوع في الهبة وأجازته في الوصية؛ لأن المقصود من الوصية: إيصال الحقوق إلى أهلها، وحصول البر للموصين بها من الأجر والمثوبة والصلة، فهو بوصيته إذا أمكنه الرجوع تتحقق هذه المصالح، أما في الهبة فالأصل في مشروعية الهبة إنما هو طلب المحبة والمودة والصلة بين الناس، ويدل على هذا: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) ، فالمقصود من الهبة: حصول المحبة والألفة وتقوية أواصر الأخوة بين المسلمين؛ فإذا حصل الرجوع وقعت الضغينة والشحناء، وتقطعت أواصر المحبة، وهذا عكس ما تريده الشريعة من الهبة، فيصبح الرجوع على العكس تماما، ولذلك ما سمح بالرجوع عن الهبة إلا في حالة خاصة، وهي رجوع الوالد في هبته لولده؛ لأن المقصود من الهبة الصلة والبر، فحينما يأتي الوالد ويعطي بعض ولده ويحرم البعض، فحينئذ يحصل عكس المقصود؛ فأذن الشرع هنا بالرجوع.
أما الرجوع لغير الوالد مع ولده، مثل أن يهب صديقه ويرجع، فإن ذلك يؤدي إلى أن يحقد عليه صديقه أو يتألم، وعلى الأقل -وليس بالقليل- أن صديقه يقول: لابد أن فلانا قد تغير قلبه نحوي، ثم تحدث القطيعة.
لكن الوالد مع ولده لو أعطى ولدا وحرم الآخر؛ فإن الواجب عليه: أن يعدل، فصارت الهبة هنا لا تحقق البر والصلة، وإنما تحقق الشحناء بين الأبناء بعضهم على بعض، وجاء الأمر بعكس ما هو موجود في الهبة نفسها، فجاءت الهبة مصادمة للشريعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى هذا المعنى في حديث النعمان: (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا يا رسول الله! قال: أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور) ، وفي رواية: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، فجعل الهبة لبعض الولد دون البعض ظلما وجورا لا يحقق العدل، فأمره بالرجوع، والأمر قد جاء ضمنا بأن هذا جور، والجور لا يجوز، فمعنى كلام النبي صلى الله عليه وسلم: (جور) أي: ارجع عن هبتك.
وقد جاء في الحديث الآخر في السنن: (لا يحل لأحد أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده) ، فأذن للوالد أن يرجع في هبته؛ لأن هذا الرجوع يحقق العدل بين الأبناء، ويوجب المحبة، ويزيل الشحناء وحقد بعضهم على بعض، ولذلك قال: (أشهد على هذا غيري؛ فإني لا أشهد على جور) ، فأجاز الرجوع في حال ومنع الرجوع في حال، وكل ذلك مبني على تحقيق مقاصد الشريعة من حصول العدل.
وهذا مما يقوي مسلك أئمة الإسلام رحمهم الله وجمهور الفقهاء من أن الشريعة تراعي المعاني، وليس الألفاظ فقط، فما جاءت الشريعة بالألفاظ فقط، وإنما جاءت بمعان مضمونة مضمنة، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) .
فالمقصود: أن الشريعة أجازت الرجوع في الوصية، تحقيقا للمصالح، ودرءا للمفاسد، وطلبا لما يراد من شرعية الوصية، وهو تدارك ما فات، والوصول إلى الخير والبر والإحسان فيما يقصد منه البر والإحسان وصلة الرحم، إذا قصد صلة الرحم ونحو ذلك.
وأيضا: ربما أوصيت لشخص وهو فقير، ثم عند الموت صار غنيا، وربما أوصيت لشخص مديون، ثم قضي دينه فأصبح غير محتاج للوصية، فالإذن بالرجوع عنها هو تحقيق للمصالح ودرء للمفاسد.
وأما الرجوع عن الهبة فإنه يوجب الشحناء، ويزيل المحبة، ويفسد الإخاء؛ ولذلك جاز الرجوع في الوصية، وحرم الرجوع هنا، ولله الأمر فيهما، وصدق الله جل جلاله إذ يقول في كتابه {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] ، والله تعالى أعلم.
متى يحكم على المسألة بأنها من قول الجمهور
السؤال في الحكم على مسألة بأنها من قول جمهور العلماء: ما هو أقل عدد يطلق عليه هذا اللفظ؟
الجواب المسائل الخلافية تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن يكون الخلاف بين الأئمة أنفسهم، أي: الأئمة الأربعة، ويضاف إليهم مذهب الظاهرية.
القسم الثاني: أن يكون الخلاف بين أتباع الأئمة، بمعنى: أن المسألة جدت وطرأت، فليس لأئمة المذاهب فيها قول.
القسم الثالث: أن يكون الخلاف بين بعض الأئمة، وليس هنا نص عن الأئمة، وإنما خالف أصحاب الإمام فيها.
وتوضيح ذلك: إذا كان الخلاف بين الأربعة فالثلاثة جمهور والواحد خارج عنهم، فلا يعتبر من الجمهور، فإذا قيل: وهذه المسألة تصح على قول الجمهور خلافا للإمام أبي حنيفة، فتعلم أن الثلاثة يقولون بهذه المسألة، وإذا قيل: تصح هذه المسألة في قول الجمهور إلا الشافعي، فتفهم أن الذي خالف إنما هو الإمام الشافعي رحمه الله.
إذا: الجمهور يطلق على الثلاثة، ولا يطلق على اثنين في مقابل اثنين، فلو كانت المسألة -مثلا- بين الشافعي وأحمد من جهة، والإمام مالك وأبي حنيفة من جهة أخرى، فلا يقال فيها جمهور.
هذا بالنسبة للخلاف بين الأئمة، وبعض العلماء يعتبر المسألة فيها جمهور إذا تكافأ اثنان في مقابل اثنين، وانسحب أحد أصحاب الاثنين مع الطرف الثاني، فإذا كان أصحاب الإمام أبي حنيفة لا يوافقون إمامهم ويرجحون المذهب الشافعي والحنبلي؛ فيقال لمذهب الشافعية: جمهور؛ لكنه لا يخلو من نظر، وقد يعبر به في بعض الأحيان عند بعض طلاب العلم الذين عندهم دقة وعناية، أو يستشهد بهؤلاء تعزيزا للقول فيقال في الترجيح: حتى إن أصحاب الإمام أبي حنيفة يميلون إلى كذا.
هذا بالنسبة لمسألة الخلاف بين الأئمة الأربعة أنفسهم، فإذا وقع الخلاف بين أصحاب الأئمة الأربعة فنفس المسألة كما تقدم، فإذا قيل: وبه يقول الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فهذا خلاف الأئمة أنفسهم، وإذا قيل: وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، فلا يستلزم أن يكون هناك نص للإمام، فينتبه طالب العلم، إذا قيل: وهو قول الإمام أبي حنيفة ومالك، فالمسألة عن الإمام نفسه، وهي مسألة في القرون المفضلة، وإذا قيل: وهو قول الحنفية؛ فهذا لا يستلزم أن تكون في القرون المفضلة، بل ربما طرأت أو وجدت بعد القرون المفضلة.
وعلى كل حال: فإذا كان الثلاثة من المذاهب في مقابل واحد فهم جمهور، وإما إذا كان بعض الخلاف منوعا، كما لو لم يكن هناك نص عن الإمام مالك في المسألة، ولا عن الإمام الشافعي، وهناك نص عن الإمام أبي حنيفة وأحمد، فيقع الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وأحمد مع أصحاب الشافعي ومالك، فإذا انسحب أصحاب أحدهما إلى أحد القولين فهي جمهورية، فتقول: وهو قول الإمام أحمد وأبي حنيفة وأصحاب الشافعي؛ فحينئذ تصير جمهورية، ويكون قول المالكية قولا منفردا إذا اختاروا خلاف هؤلاء الثلاثة.
وعلى كل حال: ينبغي التورع في نسبة هذه المذاهب، ولا يتناول أحد نسبة الأقوال إلى المذاهب إلا إذا درس الفقه على أئمة وعلماء لهم يد وباع في مثل هذا، ولا يقتصر على قراءة الكتب، والنسبة أمر يحتاج إلى التنبيه إليه؛ فإن الأوهام تقع في نسبة الأقوال للأئمة ونسبة الأقوال لأصحاب المذاهب، ولذلك من أصعب ما يمر على المفتي إذا كان يخاف الله عز وجل تحرير قول على مذهب.
فمن أصعب ما يقال أن يقال لك: ما قول الشافعية أو الحنابلة؟ فإنك تسأل أمام الله عز وجل عن مذهبهم كاملا، وهذا شيء تشيب فيه رءوس أئمة المذاهب أنفسهم، فضلا عن إنسان لم يحصل، فلا بد أن يكون على علم بالمصطلحات التي هي داخل المذاهب، وأن يكون على علم بالطرق والمناهج التي توصل بها إلى المذهب، من ناحية قواعده وأصول المذهب.
فهذا أمر يحتاج إلى دراسة معمقة، وهو الذي يسمى: الاجتهاد المذهبي؛ لأن الاجتهاد إما أن يكون مذهبيا داخل المذهب؛ فمثلا: شيخ الإسلام رحمه الله تجده يقول: (وهذه المسألة أصول الإمام أحمد تقتضي فيها الجواز) ، فلم يقل: إن الإمام أحمد يقول: إنها تجوز، بل قال: (أصول الإمام أحمد) .
وفي بعض الأحيان يقول: وهذه المسألة تجري على قول أصحاب الإمام أحمد، ففرق بين الإمام وبين الأصحاب؛ لأنه عايش الفقه، وبدأ فيه بالمذهب دون تعصب، وبالدليل، تقرؤه وتضبطه، ثم بعد ذلك تنظر في دليله، ثم بعد ذلك تنظر فيمن خالفه، وتتحرى الحق والصواب حتى تصل إلى ما هو أقرب وأوفق لشرع الله عز وجل وصراطه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى الحق فيما اختلفوا فيه، وأن يرزقنا محبته والعلم به والعمل به، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم الزواج بزوجة أبي الزوجة بعد وفاته
السؤال زوجتي مات أبوها، فأريد أن أجمع شمل عائلتها، فهل لي أن أتزوج زوجة أبي الزوجة؟
الجواب في الأصل: أنه يجوز أن يتزوج الإنسان زوجة أبي زوجته إذا لم تكن أما لهذه الزوجة كما هو معلوم؛ لأنها أجنبية، فلو كان عند زيد -مثلا- زوجتان إحداهما لها بنات، والتي لها بنات تزوج شخص إحدى بناتها؛ فإن الزوجة الثانية ليست بمحرم له، فلا يجوز له أن يصافحها، ولا يجوز له أن يختلي بها، ويجوز له أن يتزوجها بعد وفاة زوجها، ولكن الله المستعان! لقد كانت ضرة لأمها ثم تأتي بها ضرة عليها هي! وقد يختلف هذا الأمر باختلاف البيئات والأعراف، ولكن الله المستعان! تجمع لها بين مصيبتين، إلا إذا كان تأخذ بثأر أمها فإن هذا ممكن؛ لأنها قد تكون هي أقل سنا، لكن على كل حال: إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر بواد حول واديها أما من حيث الجواز فيجوز ولا بأس، لكن يتقى ما تنشأ عنه المشاكل، فإذا كان ذلك يتسبب في أضرار؛ لأن أم الزوجة ستتأثر، ولا شك أن أم الزوجة إذا أخذت ضرتها مع بنتها، فهذا من أشد ما يكون عليها، إلا إذا كان قد ماتت وصفا الجو، فهذا أمر آخر، أما أم الزوجة فلا يطاق خلافها وشرها، فهذا يفتح باب مشاكل للإنسان.
وهذه الأمور كان الناس كبار السن يوجهون أبناءهم، لكن الله المستعان! اليوم قد يأتي الواحد ويغلب عاطفة في جانب ويغفل جوانب أخرى مهمة.
وعلى كل حال: فحكم الشريعة: الجواز، لكن تحذر من حصول المشاكل؛ لأن هذا يفتح بابا للمشاكل، وأول ما قد تأتي المشاكل مع أمها.
أما إذا كانت أم الزوجة حية، فهذا في الحقيقة في النفس منه شيء؛ لأن الغالب أنه سيجرح الرحم، وسيجرح أم الزوجة.
إلا أن الأصل في ذلك هو الجواز، والأعراف والبيئات تختلف، فإذا كان الإنسان غلب على ظنه أن في هذا مصلحة، وأن هذا يعين على الخير والبر، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى يأمر بذلك ويحبه، والله تعالى أعلم.

الفتور بعد العبادة
السؤال عند الانتهاء من العبادة ومضي زمانها وأيامها يأتيني إرهاق وفتور في العبادة، فكيف أتخلص من هذا الفتور، خصوصا أني أخشى أن هذا من علامات عدم القبول؟
الجواب الله المستعان! نسأل الله ألا يحرمنا من فضله، وألا يحول بيننا وبين بره بسبب ما يكون من معاصينا، وهناك أمر مهم جدا، ولعل هذا السؤال متصل بأحب الشهور إلى الله، وهو شهر الصيام والقيام، والإنسان بعد رمضان لاشك أنه سيجد نوعا من الضعف على الطاعة أكثر مما كان في رمضان، والسبب في هذا واضح.
فينبغي أن يعلم كل مسلم أن الشهور التي فضلها الله عز وجل وكرمها واصطفاها واجتباها مثل شهر رمضان أن فيها من البركة والخير ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله، ولذلك ينادى: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، وهذا يدل على أن الموسم موسم رحمة، ولذلك شتان ما بين يوم العيد وآخر أيام رمضان، ولا يظهر الفرق إلا إذا بدأ الإنسان بالابتعاد أكثر فأكثر، وذلك كالشخص الذي يكون قريبا من الجنة وقريبا من رحمة، وقريبا من مكان مؤنس تنشرح فيه الصدور وتطمئن فيه القلوب، فلا يحس بلوعة هذا الفراق إلا إذا تباعد عنه أكثر فأكثر.
وأرجو أن لا يجعلها الله دليلا على عدم القبول، فليس هناك أرحم من ربك بك، والله أكرم وأحلم سبحانه وتعالى من أن يخيب عبده، وخاصة إذا وفقه للصيام، ووفقه لقدر ما يستطيع من القيام.
لكن بالنسبة للفتور: فإن هذا الزمان زمان صعب، والفتن فيه كثيرة، والمحن فيه كثيرة، ولا يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان إلا الله وحده لا شريك له، فوالله أنه لا يستطيع أحد أن يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان -الذي بعد فيه عن عصر نبيه صلى الله عليه وسلم وعن سنته وهديه صلوات الله وسلامه عليه- إلا الله.
لقد كان الإنسان إذا خرج من بيته إلى بيت من بيوت الله جل جلاله وجد حلق الذكر، ووجد الذاكرين، ووجد المساجد ممتلئة بالمصلين والخاشعين قبل الأذان بساعات.
والآن ربما جاء ودخل المسجد وهو في آخر ركعة أو في التشهد، ويرى الناس أفواجا يقدمون إلى الصلاة، هذا إذا وجد من يصلي، وهذا في الصلاة التي هي عماد الدين، والتي شأنها في الإسلام لا يخفى، ناهيك عن الطاعات والقربات الأخرى.
ولو أراد الإنسان أن يتصدق بماله لوجد من يخذله، ووجد من يسفهه، ووجد من يثرب عليه، وكأنه فعل ما لا يمكن فعله من الأمور المحرمة العظيمة، فتجد الشخص تطمع نفسه أن يوقف بيتا بعد موته، أو يوصي بشيء من خصال البر والرحمة، وإذا بالنفوس الضعيفة والمفتونة تتكالب عليه من كل حدب وصوب، تلومه وتوبخه، وتثرب عليه، وقد تجده منطلقا إلى مجلس من مجالس الذكر وإلى طاعة من الطاعات، وإلى خير يريده لآخرته، أو علم ينتفع به ويتزود به إلى لقاء ربه، فإذا بأم تثبطه، أو والد يخذله، أو صديق يسفهه، وإذا به يجد من يصفه بالنقص وبالجهل بالأمور، وأن عليه أن ينطلق في الدنيا، وأن يؤمن مستقبله.
إلى غير ذلك من الفتن التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله.
فلا يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان إلا الله، وكلما ارتقت درجته وصار إماما يصلي بالناس، فإذا بهذا يأتيه ويقول له: طول صلاتك فقد تلذذنا بالقرآن، ثم يأتيه إنسان ويقول له: يا هذا أرهقتنا وأتعبتا وأزعجتنا، ثم يأتيه الثالث ويقول له: في كل يوم وأنت تدرس، وفي كل يوم تلقي كلمة! ويأتيه الرابع ويقول له: أنت تقول كذا وتفعل كذا، فإذا بها أمور تشيب منها الرءوس، وإذا به يقبل على الإمامة بنفس منشرحة وصدر منشرح للخير والذكر والبر؛ فيجد من العوائق والعلائق ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله.
هذا في مسجده؛ فضلا عن بيته وأهله، فقد يخرج من بيته من أجل أن ينفع أبناء المسلمين خطيبا أو مدرسا أو معلما في بيت من بيوت الله أو محاضرا، فإذا بزوجته تشتكي وتقول: أضعت أوقاتنا، وضيعت أبناءك، وفعلت وفعلت، وإذا بإخوانه يقولون له: تعرض نفسك للأسفار.
وهكذا.
فتجد غربة لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله، ولكن طوبى ثم طوبى لمن نصب وجهه لله، وأنس بالله إذا استوحش ممن يوحشه في سبيل طاعة وبر يرجو بها رحمة الله جل جلاله، فطوبى لمن سمت نفسه وتعلق قلبه بربه، فلم يبال بمن يخذله، فإذا سمع قول المخذلين والمثبطين ارتقت روحه إلى رحمة أرحم الراحمين، فوجد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح ما يجعله يحتقر نفسه وهو في ذرى العلياء من الكمال والفضل والطاعة لله جل جلاله.
هذه كلها فتن تثبط الإنسان عن الطاعة والخير، فإذا كان في موسم الخير كان الأمر أهون، وكان الشر أقصر، ولكن إذا ابتعد عن زمان الطاعة والخير والبر تكالبت عليه هذه الفتن والمحن من كل حدب وصوب، فهذا الزمان زمان غربة، ولا يمكن للإنسان أن يعلم ذلك إلا إذا قرأ الكتاب والسنة وتفحص، وأعرف الناس بغربة هذا الزمان هم العلماء وأهل العلم الذين كشفوا دلائل الكتاب والسنة، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحاح الآثار والأخبار، فانكشفت لهم حقائق الأمور.
وعلى كل واحد يلتزم بدين الله عز وجل أن يكون قويا في التزامه، فلا يثبطه ولا يخذله شيء أبدا؛ لأنه ليس بينك وبين الجنة إلا الجد والاجتهاد في العمل الصالح بعد توفيق الله، وهذان أمران إذا حزتهما فقد أصبت الجنة وفزت برحمة الله عز وجل، فعليك بالجد والاجتهاد في طاعة الله عز وجل حتى لا تبالي بأحد لا مادحا ولا ذاما.
وأكمل ما يكون للعبد الموفق السعيد الذي يريد الله به خيرا في خاتمته أنه يكره من مدحه أكثر ممن يذمه، وهذه الهمة الصادقة التي يتجه بها العبد إلى الله جل جلاله قلبا وقالبا، وليس لنا إلا الله جل جلاله، فلا تلتفت إلى موسم، ولا إلى وقت ولا إلى زمان.
فلا يكن الإنسان ممن يعرف ربه فقط في رمضان، وإذا ابتعد عن مواسم الخير أصابه التثبيط أبدا، بل كن قوي الشكيمة والعزيمة.
وأنبه على أمر أيضا: وهو أنه لو وقع الإنسان في حضيض المعاصي، ثم يكون من أشد الناس التزاما وطاعة، فقد تأتيه فتنة من الفتن.
فهذا زمان غريب، وينبغي علينا أن نعلم ونعلم الناس أنه إذا كان الإنسان في زمان الغربة فليعلم أنه سيلاقي في الفتن أكثر ممن يسير على الشوك، ولكن الموفق لا يبالي، فنحن لسنا في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين، ولا في القرون المفضلة؛ بل نحن في عصر القابض على دينه كالقابض على جمر، وإن لم يكن هذا الزمان فلست أدري أي زمان يكون هو! فحينئذ مهما وقع الإنسان في فتن من ضعف الطاعة، مثلما ذكر أن الإنسان قد تضعف طاعته، أو حتى لو وقع في معصية؛ فعليه أن يوجه وجهه إلى الله ويشمر عن ساعد الجد بالتوبة النصوح ولا يبالي؛ لأن الشيطان يخذل الإنسان دائما.
فإذا كنت في رمضان في خشوع وخضوع وإنابة واستكانة لله جل وعلا، ابتلاك الله عز وجل، فتسلط عليك الشيطان فجاءك وقال لك: أنت كذا أنت كذا، حتى تضعف همة الخير؛ لأن الإنسان في بعض الأحيان تكون قوته في روحه ونفسه.
فإذا جاء الشيطان وقال: لو تقبل الله طاعتك في الصيام لكنت الآن من قوامي الليل وصوامي النهار، فأنت الآن لا تقوم الليل، ولا تصوم النهار، فعندها قل: اخسأ عدو الله، فإن الله الذي أرجو رحمته في رمضان أرجوه في شعبان وفي شوال وفي كل زمان، والله الذي أرجو رحمته لو سجدت له حتى تقبض روحي ما وفيت شيئا من حقه، وكل ذلك من فضله، ولو كان من الإنسان ما كان من الطاعة فالفضل كله لله، وقل: اللهم إن قصر عملي فإني أرجو رحمتك، وكم من عبد رجا رحمة الله جل جلاله ففاز بدرجات لم يفز بها من جد واجتهد بذلك؛ لأن هذا الشعور هو التعلق بالله سبحانه وتعالى.
فتستمسك بالذي أوحي إليك، ولو حصل منك ما حصل من الفتن والشهوات وغيرها، فربما تجد العبد من أصلح خلق الله، أو طالب علم، ربما تحدث منه فتنة فيتسلط عليه الشيطان بقوله: لو كنت طالب علم بحق لما وقعت في هذه الفتن، ولو كنت طالب علم لعصمك الله من هذه الفتن.
حتى يسيء ظنه بالله؛ لأن أهم شيء يتوصل إليه عدو الله هو إساءة ظنك بالله.
ولذلك تجد في بعض الطائعين من الانتكاسة ما لا تجده عند المجرمين -والعياذ بالله- في بعض الأحيان بسب هذا الشعور؛ لأن الشيطان يعلم أن قوام المسلم في حسن ظنه بالله وكمال اعتقاده في الله، فإذا أصاب هذه الروح الزاكية المتعلقة بربها بالشكوك وإساءة الظن بالله عز وجل؛ فإنه -والعياذ بالله- سيهوي به إلى أسفل سافلين، ولكن لا تبال ولا تهتم ولا تغتم لشيء إلا لرحمة ربك: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) .
فتستمسك بالذي أوحي إليك، وتعظ على الخير والطاعة والبر، فإن وجدت خيرا حمدت الله، وإن وجدت طاعة وبرا ذكرت الله وشكرته، وإن تكالبت عليك الفتن عن يمينك وشمالك، ومن أمامك ومن وراء ظهرك، ومن فوقك ومن تحتك، فاستعن بالحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ووجه وجهك للذي فطر السموات والأرض، وقل: اللهم ليس لي من أحد سواك، اللهم كما أرجوك طائعا فإنه عظم رجائي فيك مذنبا، وإنه لا يخيب من رجاك، ولا يحرم من سألك، وترجو رحمة الله، وتتملق لله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فإذا بالسيئات تبدل حسنات، ومن صدق مع الله صدق الله معه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يدفع عنا ويصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من فتن المفتونين، ومن ضلال المضلين، اللهم اهدنا ولا تضلنا، وارحمنا ولا تعذبنا، وسامحنا ولا تؤاخذنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، نسألك أن تجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير.






ابوالوليد المسلم 14-05-2025 10:20 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الوصايا)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (410)

صـــــ(1) إلى صــ(18)


شرح زاد المستقنع - باب الوصية بالأنصباء والأجزاء
إذا أوصى المورث لشخص بمثل نصيب أحد الورثة وعينه فعند ذلك يعطى الموصى له مثل نصيب ذلك الوارث المعين، وإن لم يعينه أعطي الموصى له مثل أقل الورثة نصيبا، وإن وصى بسهم من المال للموصى له؛ أعطي الموصى له السدس، وإن وصى بجزء من المال أو شيء أو حظ؛ أعطي الموصى له ما يصدق عليه أنه مال.
معنى الأنصباء والأجزاء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوصية بالأنصباء والأجزاء] .
الأنصباء: جمع نصيب، ونصيب الإنسان حظه المقدر، والمراد هنا: ما قدره الله تبارك وتعالى للوارثين، فقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بإعطاء الوارثين حقوقهم، فأعطى الله جل جلاله كل ذي حق حقه من التركة، وجعل هذا الإعطاء مقدرا بمقادير معينة، أو يكون تعصيبا ينال الإنسان به ما فضل عن أصحاب المواريث، كما سيأتي -إن شاء الله- في كتاب الفرائض.
فالمراد هنا بقوله: (بالأنصباء) : نصيب الوارث، وقوله: (الأجزاء) : جمع جزء، وجزء الشيء بعضه، سواء كان أكثر البعض، أو نصفه، أو أقل من ذلك.
وقوله رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء) ، هذا الباب يذكر فيه الموصي أنه قد أعطى من أوصي له قدرا معينا أو مبهما يمثله بنصيب لوارث؛ كأن يقول: أعطوا خال أولادي مثل أخته، فأخته زوجة، ولها نصيب في كتاب الله عز وجل حيث ترث الثمن إذا كان هناك أولاد، فلما قال: أعطوه مثل نصيبها، فمعناه أنه يريد أن يعطيه الثمن.
وفي بعض الأحيان يقول: أعطوا فلانا أقل نصيب لوارث، فحينئذ لا يحدد، وإنما يبين أن له الأقل، فننظر فربما كان الأقل أثناء كتابته للوصية شيئا، ثم يختلف بعد موته فيكون شيئا آخر.
وفي بعض الأحيان يقول: أعطوا فلانا من تركتي جزءا أو سهما أو حظا أو شيئا، فيبهم، ففي هذه الأحوال -أي: كلها- درس العلماء رحمهم الله هذا النوع من الوصايا، وعند التأمل والنظر نجد أن هذا النوع من الوصايا يرجع إلى كتاب الفرائض.
والمسائل فيه مسائل حسابية، ولكن المصنف رحمه الله والعلماء يفردونه بباب مستقل عناية به، وقد تقدم بيان السبب في هذا، وهو أن أهل العلم رحمهم الله ربما يقتطعون من الباب العام أو الكتاب العام مسائل تذكر في مواضع خاصة مفرقة على حسب مناسبات كتبها وأبوابها.
فقد تقدم معنا أن كتاب القضاء ينتضمن أحكام الشهادات والبينات، فربما ذكر العلماء رحمهم الله مسائل من القضاء في كتاب البيوع، ويذكرون مسائل البيوع المتصلة بالقضاء؛ لأنهم يرونها في هذا الباب ألطف.
وعلى كل حال: هذا باب مهم، ولذلك يقول عنه الإمام النووي رحمه الله في الروضة: (هذا فن طويل، ولذلك جعله العلماء علما برأسه، وأفردوه بالتدريس والتصنيف) .
قوله: (هذا فن طويل جعله العلماء علما برأسه) يعني: من عناية أهل العلم به أنهم جعلوه رأسا، وإلا فالمفروض أن يكون مندرجا تحت الفرائض؛ لكنهم جعلوه رأسا مستقلا، وأفردوه بالتصنيف والتدريس، فصنفوا فيه، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء) ، فأفرده ببيانه وتدريسه.
وهذا الباب مسائله كثيرة جدا، وهو من أمتع الأبواب في دراسة مسائله الحسابية، لكن بعد إتقان الفرائض، ولا يستطيع الإنسان أن يضبطه ضبطا تاما إلا بعد إتقانه للفرائض، مع الإلمام بأصول الأحكام المتعلقة به.

أحكام ومسائل الوصية بالأنصباء والأجزاء
يقول رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوصايا التي يذكر فيها النصيب، أو يذكر فيها الجزء، ويتبع هذا ذكر الوصايا بالسهم وبالشيء المجهول.
وإذا وصى الإنسان فإما أن يذكر قدرا معينا من التركة بالنسبة، كقوله: أعطوا فلانا نصف مالي، أو أعطوا فلانا بعد موتي ثلث مالي، فإذا حدد بالنسبة ففي هذه الحالة تنقسم المسألة إلى ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يعطيه الثلث.
الصورة الثانية: أن يعطيه أكثر من الثلث.
الصورة الثالثة: أن يعطيه أقل من الثلث.
فإذا أعطاه الثلث فأقل فبالإجماع أنه تنفذ وصيته على التفصيل الذي قدمناه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ، فأعطى المريض مرض الموت أن يتصرف في ثلث ماله فيعطيه من شاء.
إذا: النص يدل على أن من حقك أن توصي بثلث مالك وصية شرعية معتبرة، وكذلك دل النص على أن ما دون الثلث يجوز للإنسان أن يوصي به.
الصورة الثالثة: أن تكون وصيته أكثر من الثلث، فقد ذكرنا أنها لا تجوز، وأنه ليس من حق الميت أن يوصي بأكثر من الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع سعدا من ذلك.
وبينا إجماع العلماء رحمهم الله على هذا، وقد اختلف العلماء إذا أوصى بأكثر من الثلث فأجاز الورثة ورضوا: هل هي عطية مبتدئة أو عطية تنفيذية؟ ثم ذكرنا خلاف العلماء والثمرة المتعلقة بهذا الخلاف.
إذا: مسألة أن يحدد نسبة معينة من المال كله لا إشكال فيها.
الحالة الثانية: أن يذكر نصيبا أو جزءا أو حظا، فإذا أعطى مثل نصيب الوارث فقال: أعطوا خال أولادي مثل محمد، أو أعطوا خال أولادي مثل أخته، فإذا حدد نصيب الموصى إليه بنصيب وارث لم يخل الورثة من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون نصيب الورثة مستويا، فيأخذ كل منهم مثلما يأخذ الآخر، مثاله: لو توفي رجل عن ابنين ليس له غيرهما، فحينئذ المال يقسم بينهما بالسوية، فإذا قال: أعطوا فلانا -عم أولادي، أو خال أولادي- مثل نصيب أحدهم؛ فحينئذ لا إشكال أن المال يقسم بين الجميع على حد سواء، وكأنه ابن ذكر دخل بينهم.
الحالة الثانية: أن يكون النصيب مختلفا، فيقول: أعطوا خال أبنائي مثلما تأخذه أخته، فحينئذ الذي تأخذه الزوجة هو الثمن، ولو توفي وترك زوجة وثلاثة أولاد أبناء ذكور، ففي هذه الحالة تجعل المسألة من ثمانية، فتعطى الزوجة الثمن، ويعطى كل واحد من الأبناء ثمنين، فتصبح المسألة من سبعة، ثم يدخل هذا الخال معهم فتصبح المسألة من ثمانية.
فإذا اختلفت الأنصبة بين الورثة فإننا في هذه الحالة ننظر إلى الشخص الذي عينه، ونضيف سهم الشخص الذي أدخله من غير الوارثين في الوارثين بذلك السهم، مضافا إلى أصل المسألة، كما سيأتي -إن شاء الله- بيانه وشرحه.
إذا: اتفقت أنصبة الورثة، فيكون كواحد منهم، وإذا اختلفت فتعطيه سهم من سمى من الورثة -كالزوجة ونحوها- وتدخله في المسألة حتى ولو عالت المسألة، وسيأتي -إن شاء الله- توضيح هذه الأمثلة.
وإذا أبهم وقال: أعطوا خال أولادي أو عمهم مثل نصيب وارث، ولم يحدد الأقل ولا الأكثر، والورثة مختلفون، فهل نعطيه نصيب الأكثر أو نعطيه نصيب الأقل؟ جمهرة أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة على أنه يعطى مثل نصيب أقلهم؛ لأنه هو اليقين الذي يجب صرفه إليه، ولا يعطى مثل نصيب الأكثر.
أما لو قال: أعطوه جزءا من مالي، أو شيئا من مالي، فحينئذ نقول للورثة: أعطوه أي شيء ترضاه أنفسكم، فأقل ما يصدق عليه أنه مال إذا أعطوه إياه فقد نفذت الوصية وتمت؛ لأنه قال: أعطوه شيئا، والشيء يصدق على القليل والكثير، فكل ما طابت به أنفس الورثة فإنه هو المجزئ تنفيذا لهذه الوصية.
وبقيت مسألة أخيرة وهي: إذا قال: أعطوا فلانا سهما من مالي، فبعض العلماء يقول: نعطيه أقل نصيب من الورثة، وهذا قول اختاره الإمام الشافعي رحمه الله وطائفة من أهل العلم.
وبعض العلماء يقول: نعطيه سدس المال؛ لأن السهم في كتاب الله عز وجل -كما هو معلوم، وكما تقدم معنا في كتاب الجهاد وغيره- هو السدس، وهذا هو الذي يكون نصيبا له إذا عبر الميت بالسهم.
وهذا القول أفتى به علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وقضى به إياس بن معاوية القاضي المشهور، واختاره جمع من الأئمة رحمهم الله.
هذا حاصل ما يذكر في الأنصبة والأجزاء، وسيفصل المؤلف رحمه الله في هذه المسائل في هذا الباب.
الوصية بمثل نصيب وارث معين
قال رحمه الله: [إذا أوصى بمثل نصيب وارث معين فله مثل نصيبه مضموما إلى المسألة] لو أوصى أن يعطى مثل ابنه محمد، وله ثلاثة أبناء، فحينئذ في الأصل -قبل أن يدخل هذا الشخص- أن يقسم المال على ثلاثة، فكل واحد من أبناء الذكور يأخذ ثلث المال، فإذا أدخل هذا الأجنبي ووصى له فإنه في هذه الحالة يقسم المال على أربعة، فيكون لكل واحد من هؤلاء الأبناء الربع، وله هو أيضا الربع، فنصيبه مثل نصيب الوارث.
هذا هو معنى قوله: (فله مثل نصيب الوارث مضافا إلى أصل المسألة) .
ونبدأ المسألة بالتدريج، فإذا وصى لشخص بمثل نصيب وارثه، وليس له وارث إلا ابن ذكر واحد، ففي هذه الحالة يكون لهذا الوارث مثل نصيب الابن الذكر؛ فيقسم المال بينهما مناصفة، فإذا قسمناه بينهما مناصفة فحينئذ سيكون حظه فوق الثلث، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصية فيما زاد عن الثلث، فتصح في الثلث، ونقول لهذا الوارث: هل تأذن له بما زاد أو لا تأذن؟ فإن أذن مضت الوصية، وكان له نصف المال، وإن لم يأذن لم يكن له إلا الثلث.
وأما إذا كان له ابنان، ففي هذه الحالة يكون المال مقسوما بين الابنين، وكل منهما يأخذ النصف، فإذا دخل هذا الأجنبي الذي وصى له فسيكون المال منقسما على ثلاثة، ولكل واحد منهم الثلث؛ لأن الابنين شركا هذا الأجنبي بقوله: (مثل نصيب الوارث) ، ففي هذه الحالة يكون له الثلث، وإذا كان له ثلث المال فهذا حظه ونصيبه الذي تجوز الوصية به.
وإذا كان له ثلاثة أبناء ذكور، ففي هذه الحالة يكون لكل ابن ثلث المال قبل دخول الأجنبي، فلما دخل هذا الأجنبي أصبح المال منقسما على أربعة، فيكون للأجنبي ربع المال، وكل واحد من الأبناء يأخذ ربعا، فتتم القسمة على أربعة، وعلى هذا تسير المسألة.
قال المصنف رحمه الله: [فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث] .
قوله: (فله الثلث) بدأ بهذا، ولم يذكر إذا كان له ابن واحد؛ لأن المسألة فيها زيادة على الثلث؛ لأنه سيكون له النصف، فابتدأ رحمه الله بالثلث الذي هو أصل الاستحقاق، فإذا كان له ابنان ووصى له بمثل نصيب أحدهم، فإنه في هذه الحالة يكون له ثلث المال وللابنين الثلثان.
قال رحمه الله: [وإن كانوا ثلاثة فله الربع] .
لأن المال منقسم على ثلاثة، وكل واحد سيأخذ الثلث، ثم لما دخل الأجنبي انقسم على أربعة؛ لأنه جعله كواحد منهم، فينقسم على أربعة، فيكون له ربع التركة.
قال رحمه الله: [وإن كان معهم بنت فله التسعان] أي: إن كان الثلاثة الأبناء الذكور معهم بنت وأجنبي، فالثلاثة الأبناء الذكور لما دخلت معهم البنت سيكون لكل واحد منهم اثنان وللبنت واحد، فتكون المسألة من سبعة، وفي هذه الحالة سيدخل هذا الأجنبي معهم كواحد من الذكور، فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له تسعان، ولكل واحد من الذكور تسعان.
ففي هذه الحالة تجعل الأجنبي داخلا بمثل نصيب الوارث مضافا إلى أصل المسألة، فهم ثلاثة ذكور مع أختهم، والثلاثة: {للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، فتضربهم في اثنين فتصبح من ستة، والأنثى لها واحد، فتصبح المسألة من سبعة، فأصل المسألة من سبعة، فلكل ذكر سبعان، والأنثى لها سبع واحد، فلما دخل الأجنبي أصبحت المسألة من تسعة، فبدلا من أن يكون للذكر سبعان سيكون له تسعان، ويكون للأجنبي التسعان، هذا إذا قال: له مثل الذكر، أما لو قال: مثل بنتي؛ فيكون له ثمن المال.
الوصية بمثل نصيب أحد الورثة دون تحديد الوارث
قال المصنف رحمه الله: [وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين، كان له مثل ما لأقلهم نصيبا] .
إذا وصى له بمثل ما لوارثه ولم يبين، فلم يقل: أعطوه مثل ابني أو ابنتي، أو مثل فلان؛ فمن العلماء رحمهم الله من قال: يعطى مثل أقلهم؛ لأن هذا هو اليقين، وهذا هو الذي عليه كثير من العلماء رحمهم الله، وعليه الفتوى والعمل.
فإذا قال: أعطوه مثل ما للأنثى، وعنده وارث من الذكور يرث سهمين، ووارث من الإناث يرث سهما واحدا، ففي هذه الحالة نعطيه مثل ما للأنثى، وتكون المسألة التي قدمناها -في الثلاثة الذكور والأنثى- من ثمانية؛ فيكون للأنثى الثمن، وللثلاثة الذكور لكل واحد منهم ثمنان.
فإذا كانوا ثلاثة فلهم ستة والأنثى معهم السابعة، فتكون المسألة من سبعة، من حيث الأصل، فعندما قال: أعطوا فلانا مثل ما لوارثي، ولم يبين، فحينئذ نعدل به إلى الأنثى، وإذا عدلنا به إلى الأنثى فمعناه: أنه سيأخذ مثل الأنثى، وإذا أخذ مثل الأنثى فمعناه: أن له سهما واحدا، فبدلا من أن تكون المسألة من سبعة ستكون من ثمانية، فيكون لكل ذكر سهمان من ثمانية، وهما الثمنان، فتكون ستة أثمان للذكور، ويبقى الباقي -وهو الثمنان- منقسما بين البنت وبين هذا الأجنبي، هذا إذا لم يسم.
ولماذا قال العلماء بالأقل؟ هناك عند العلماء قاعدة تقول: (اليقين لا يزال بالشك) ، وهذه القاعدة تفرعت عليها من المسائل ما لا يحصى كثرة، ولذلك اعتبرها الأئمة رحمهم الله من أمهات القواعد الفقهية الخمس المشهورة، فيقولون: إذا قال: أعطوه مثل ما لوارثي، فعندنا وارث ينال الأقل، ووارث ينال الأكثر، فإذا أعطيناه الأقل فلا نشك أنه ينال هذا الحظ الذي هو السهم، ولكن نشك في السهم الزائد، والأصل أنه ليس له حق في التركة؛ لأنه أجنبي، فنبقى على اليقين، ولا نعطيه ما زاد عن هذا النصيب الأقل حتى ينص صاحب المال على أنه يزاد له في حظه.
هذا هو السبب في أننا نعطيه الأقل؛ لأنه اليقين، وقد ثبت بيقين أنه يأخذ هذا السهم، وما زاد عنه باق على الأصل، وهو أنه لا حظ له حتى يدل الدليل؛ لأنه لو أراد أن يعطيه أكثر لقال: أعطوه مثل فلان، فلما قال: أعطوه مثل ما لوارثي؛ ألست إذا أعطيته مثل نصيب البنت تكون قد أعطيته نصيب وارث؟ بلى، فالبنت وارثة، فإذا كانت البنت ترث، ووصف الإرث متعلق بها؛ فإنك إذا أعطيته مثل نصيب الأقل فقد أعطيته نصيب الوارث، وهذا مذهب طائفة من العلماء كما ذكرنا، وهو الذي عليه العمل والفتوى؛ لصحة دلالة قواعد الشريعة عليه.
لكن في الحقيقة يبقى الإشكال: وهو أن أحد مشايخنا رحمة الله عليه أورد مسألة لطيفة وهي: إذا قال: أعطوه مثل نصيب وارثي، وكان أبناؤه كلهم ذكورا، وزوجته حامل، فلما توفي وضعت أنثى، فالوارث في الأصل هم الذكور، فكان المفروض أنه يدخل معهم بنصيب أفضل، لكن وضعت الأم بنتا وماتت الأم، فإن نصيب البنت سيكون الأقل، والواقع أننا نعطيه مثلما نعطي الإناث؛ لأنه بعد الموت -والوصية مضافة لما بعد الموت- يصدق وصف الإرث على الأنثى كما يصدق على الذكر، ولذلك تسري نفس القاعدة الأولى، وهذه من بعض الإشكالات التي يوردها بعض العلماء.
وهناك من يقول: يعطى مثل الذكر؛ لأنه وإن لم يسم الذكر فقد علم من دلالة الحال أنه يريد الوارث الذكر، ولكن هذا لا يخلو من نظر؛ لمسائل نظيرة لهذه المسائل يفتي فيها حتى العلماء الذين يقولون بأنه يكون له مثل نصيب الوارث مع كونه أقل، وعلى هذا فإنه يأخذ نصيب الأقل بكل حال.
وقوله: [وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين؛ كان له مثل ما لأقلهم نصيبا، فمع ابن وبنت ربع] .
فالابن له سهمان، والبنت لها سهم واحد، ففي هذه الحالة تصبح المسألة من ثلاثة، فإذا أعطيت الابن السهمين وأعطيت البنت سهما، فقد أعطيت الذكر مثل حظ الأنثيين، فتصبح المسألة من ثلاثة.
وفي هذه الحالة إذا قال صاحب الورث: أعطوا محمدا مثل ما لوارثي، فإذا كان عنده ابن وبنت، فالابن له اثنان، والبنت لها واحد، فتصبح المسألة من أربعة، فالبنت لها سهم واحد، والأجنبي له سهم واحد؛ لأنه هو السهم الأقل، والابن الذكر له سهمان، فتصبح المسألة من أربعة، ويقسم المال بينهما، لكل من الأجنبي والبنت الربع، وللابن الذكر نصف المال الذي هو الربعان.
وقوله: [ومع زوجة وابن تسع] .
لأن المسألة في الأصل من ثمانية، فالزوجة لها الثمن واحد، والابن له سبعة أثمان؛ لأن الابن عصبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، فالابن عصبة، ودائما إذا اجتمع صاحب فرض وصاحب تعصيب وليس هناك غيرهما، فصاحب الفرض يأخذ فرضه، وتصح المسألة من نفس المقام الذي للفرض، ثم تعطي الباقي للعصبة، فالزوجة تأخذ الثمن لوجود الابن، فيبقى سبعة أثمان تصرفها إلى الابن الذكر.
فلما قال: أعطوا مثلما لوارثي، فالزوجة وارثة، فنعطيه مثل الحظ الأقل وهو الثمن، فيكون له سهم واحد، فتعول المسألة، فبدلا من أن كانت من ثمانية فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له التسع وللزوجة التسع، وسبعة أتساع للابن الذكر.
الوصية بسهم من المال
قال رحمه الله: [وبسهم من ماله فله سدس] .
قوله: (وبسهم من ماله) كما لو قال: أعطوا فلانا سهما من مالي، فمن أهل العلم من قال: يعطى أقل ما يصدق عليه أنه مال؛ لأنه سهم، ومنهم من قال: يعطى السدس، كما ذكرنا، وهو الذي أفتى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وفيه حديث مرفوع -لكنه حديث ضعيف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن وصى بالسهم بالسدس) ، ولكن هذا الحديث ضعيف السند، والعمل على أنه يأخذ السدس؛ لأنه هو السهم في كتاب الله عز وجل، فيعطى سدس المال.
الوصية بشيء أو جزء أو حظ من المال
قال رحمه الله: [وبشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء] .
إذا قال: وصيت لفلان بجزء أو بشيء من مالي، فننظر إلى أقل ما يصدق عليه أنه مال -وهو الواجب- فيجب على الوارث أن يعطيه أقل ما يصدق عليه أنه مال، فإذا أحب الورثة أن يزيدوا فهذا أمر يعود إليهم.
أما الذي يستحقه فهو أقل ما يصدق عليه أنه مال؛ لأنك إذا أعطيته ولو ريالا واحدا؛ فإنه شيء من المال، وإذا أعطيته ريالا من التركة فإنه جزء من المال، وإذا أعطيته ريالا من التركة فهو بعض من المال، ويصدق عليه أنه بعض وأنه جزء، وعلى هذا فيعطيه الوارث ما شاء.
الأسئلة




بيان معنى تأدية الله للدين عن بعض عباده
السؤال كيف يجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ حقوق الناس يريد أداءها أدى الله عنه) ؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) المراد به: أن الميت إذا مات وعليه دين فإن نفسه ترهن، والعرب تقول: الشيء مرهون إذا كان محبوسا، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] .
أي: محبوسة، فعيلة بمعنى: مفعولة.
فالمراد: أن النفس تحبس، وقد اختلف العلماء في هذا الأمر، والحقيقة: أن الأمر فيه شيء من الغيب، فإنه لم يرد تفصيل عن كيفية حبس نفس الإنسان إذا مات وهو مديون، لكن ورد حديث صحيح، وهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وهو يدل على أمر عظيم، حاصله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بميت فقال: (هل عليه من دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال صلى الله عليه وسلم: هل ترك وفاء؟ قالوا: لا.
قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة رضي الله عنه: هما علي يا رسول الله! فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته) ، فحتى ولو تحمل عن الميت بعض الورثة فيقول: أنا أتحمل عن أبي، فلا يكفي ذلك حتى تسدد بالفعل، فهناك تبرأ الذمة بالفعل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت جلدته) ، هذا شيء لا يستطيع الإنسان أن يدركه؛ لأنه علم غيب، فأمور القبر والبرزخ أمور غيبية متعلقة بالسمعيات والنصوص التوقيفية، ولا يستطيع أحد أن يجتهد فيها، ولا يستطيع الإنسان أن يكشف غيبها؛ لأن علم الغيب استأثر الله به، حتى الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب إلا إذا أطلعهم الله عز وجل على شيء من ذلك.
وبناء على هذا: فلا يخاض في حقيقة الرهن والحبس، لكن الإشكال كيف نقول هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه) ؟ اختلف العلماء في قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) ، وقد كانت أم المؤمنين رضي الله عنها حفصة كثيرة الدين، وكانوا يلومونها كثرة الدين، فقالت: (لا أترك الدين) ، لكنها ما كانت تستدين من أجل أن تبني لنفسها أو تمتع نفسها، فقد كانت من أكرم الناس كأبيها رضي الله عنها وأرضاها، فكانت كريمة سخية لا تمسك شيئا في يدها، وهكذا كن أمهات المؤمنين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن تربين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفن حقيقة هذه الدنيا وهوانها، فكانت لا تمسك شيئا فكثر عليها الدين، فأصبحوا يلومونها، فقالت رضي الله عنها: لا أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه) ، فقال بعض العلماء: معنى قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) أي: أنه عندما يأتي ليستدين اطلع الله على قلبه ونيته أنه يريد أن يسدد، فصيها وييسر الله له السداد ولو بعد حين، حتى ولو توفي فإن الله يعين ورثته حتى يسددوا.
وهذا في الذي يأخذ أموال الناس يريد أداءها، أما الذي يأخذها -والعياذ بالله- لا يريد أداءها؛ فإن الله يحول بينه وبين ذلك ولو تمنى، فكلما جاء يسدد يحدث الله له مشكلة، ويفتح الله عليه باب فقر، حتى لربما توفي وهو لم يسدد الناس، ثم عجز ورثته من بعده، ولربما نسي، فعذب بذلك الدين، نسأل الله السلامة والعافية.
إذا: هذا الأداء المراد به المعونة.
وقال بعض العلماء -وهو القول الثاني-: المراد أدى الله عنه يوم القيامة؛ لأن الله يقول: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} [المائدة:119] ، فكل من صدق في نيته وكانت نيته صالحة، فإن الله يتولى أمره بحسن نيته، حتى ولو كان فيما بينه وبين الله، وقد ورد في الخبر أن العبد يوقف بين يدي الله فتكشف له ذنوبه ويشفق على نفسه، فيقول الله: (عبدي! أما وإنك قد فعلت ذلك فقد كنت تخافني وترجوني) ؛ وذلك لما كان في ضميره وقلبه، فالشخص إذا كان في ضميره وقلبه أن يسدد الناس وعجز عن السداد في حياته، ولقي الله يوم القيامة وقد جاء خصومه يطالبونه بالديون، أدى الله عنه؛ لأنه علم منه حسن النية وصدق القصد في أن يؤدي؛ فكانت هذه رحمة من الله عز وجل.
وفي الحقيقة: أمر الدين عظيم، وعلى الإنسان -من حيث الأصل- أن يتقيه ما أمكنه، وبعض العلماء يخفف في هذا إذا كانت نية الإنسان صادقة في السداد، ويعلم الله أنه ما استدان إلا لظروف وضرورة، فيرى أولاده وزوجته، ويرى من يعول محتاجا، فيذهب يستدين من أجلهم، ويتحمل من أجلهم، كما استدان عليه الصلاة والسلام من أجل عورات المسلمين، وسد حاجاتهم، والقيام عليهم، فأدى الله سبحانه وتعالى عنه دينه، وقد توفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة في صاعين من شعير ليهودي.
فالمقصود: أن الدين يخفف فيه بعض العلماء، وخاصة إذا جاءت ظروف تضطر الإنسان إلى أن يستدين.
وعلى كل حال: فالإنسان عليه أن يتقي الدين ما أمكن، فهو ذل النهار وهم الليل، نسأل الله بعزته وجلاله وقدرته على كل شيء أن يؤدي عنا حقوق عباده، وأن يخرجنا من هذه الدنيا وقد سلمنا وسلم منا وهو على كل شيء قدير، وعلى هذا: فليس هناك تعارض ولا إشكال، فمن أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى الله عنه، ويصبح مستثنى من الأصل، فإذا أردت أن تجمع بينهما بالعموم والخصوص، أو تقول: أدى الله عنه، لكن لا يمنع أنه مرهون ومحبوس حتى يؤدي الله عنه، بخلاف الذي كانت نيته غير صالحة فيجمع الله له بين العذابين: بين حبس نفسه، ثم لا يؤدي الله عنه، فيؤخذ من حسناته على قدر مظالم الناس، فيصبح قوله: (أدى الله عنه) إذا حمل على أداء الآخرة، فتكون نفس المؤمن مرهونة أو محبوسة بدينه من البرزخ إلى لقاء الله عز وجل، ثم يؤدي الله عنه بحسن نيته، هذا إذا قلنا: إن الأداء هو في الآخرة، وأما إذا كان الأداء في الدنيا، فلا إشكال فيه على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.




ابوالوليد المسلم 14-05-2025 10:28 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 


من أوصى لغير وارث بمثل نصيب وارث
السؤال أشكلت علي مسألة وهي قوله: (وقع زوجة وابن تسع) كيف يكون الموصى له التسع، أليس له الثمن كحق الزوجة لأنه أقل إرثا؟
الجواب في هذه الحالة ستعطيه ثمنا مثل الزوجة، وأصل المسألة من ثمانية، فمعنى ذلك: أنك ستقسم ويكون للزوجة الثمن؛ لأنه أعطاه مثل نصيبها، فلا تستطيع أن تعطيه ثمنا آخر، لأن المسألة أصلا لا تصح على هذا الوجه، وفي هذه الحالة يكون له النصيب مثل نصيب الوارث.
وبعض العلماء -وهو مذهب آخر- يرى التشريك حتى في الزوجات، فلو قال: له مثل الزوجة، وكانت له زوجتان؛ فتصح تصح المسألة من ثمانية، ويقسم الثمن بينهما، ثم تعول لكل واحدة منهما واحد على ستة عشر، ويكون له واحد على ستة عشر، أي: جزء النصيب في الميراث، وفرق بين جزء النصيب في الميراث وبين النصيب في الإرث الذي هو الثمن، والذي يظهر هو ما اختاره المصنف أنه يكون له مثل الثمن؛ لأن الذي ذكرته أنت يكون له فيها جزء الميراث، وهذا يرده غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، والصحيح: أنه يكون له الثمن رأسا، وتكون المسألة من تسعة؛ للزوجة تسع وله تسع، والباقي للرجل الذكر على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

معنى قول العلماء: (لا مشاحة في الاصطلاح)

السؤال ما معنى قول العلماء رحمهم الله: لا مشاحة في الاصطلاح؟

الجواب الاصطلاح لا مشاحة فيه، بمعنى: أن لكل قوم أن يصطلحوا على تسمية الشيء باسمه كاصطلاح بينهم، فلا يأتي واحد ويخطئهم، أو يبين عوارهم في اختيار هذا، فهذا مصطلح لهم، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وإذا اختلف اثنان، فإما أن يختلفا حقيقة أو صورة، فالخلاف ينقسم إلى: خلاف حقيقي وخلاف لفظي، فالخلاف اللفظي هو خلاف المصطلحات.
فمثلا: لو جاء شخص وسمى شيئا معينا باسم معين لا يعطيه حكم ذلك الاسم الشرعي، واصطلح مع غيره على هذه التسمية، فمثلا: لو جاء بعض العلماء وأخرجوا بيع الصرف من البيع -فإن: بعضهم يراه بيعا، والإجماع منعقد على أن الصرف يسمى بيعا- ووضع تعريفا، ورأى أن باب الصرف باب يستحق أن يفرد بكتاب، وأن يفرد بمسائل حتى يضبط أكثر ويتقن أكثر.
وذلك مثل المالكية رحمهم الله في مذهبهم حيث أفردوا الصرف بباب مستقل، وبتعريف مستقل، وميزوه عن تعريف البيع العام، وأفردوا السلم عن باب البيع، مع أنه نوع من أنواع البيع؛ لأنه رخصة وبيع للمعدوم، فأفردوا السلم والصرف باسمهما وبباب مستقل، ووضعوا لكل منهما تعريفا مستقلا.
فلما جاءوا في كتاب البيع يعرفون البيع أخرجوا هذين النوعين من البيع؛ لكنهم أخرجوهما اصطلاحا لا حقيقة؛ لأنهم في الحقيقة يسلمون أنهما نوعان من أنواع البيع؛ لكن في الظاهر جاءوا في التعريف فقالوا في البيع: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة ذو مكايسة.
وهنا ينتهي تعريف البيع العام، ثم قالوا: أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة، معين غير العين فيه.
فلما قالوا: أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة؛ أخرجوا بيع الصرف، ولما قالوا: معين غير العين فيه، أخرجوا بيع السلم، ولكن لم يخرجوهما من البيع حقيقة؛ لأنهم يرون أن كلا منهما بيع، لكنهم اصطلحوا في مذهبهم على إفراد هذين النوعين من البيع، وهذا مصطلح خاص بالمذهب، لكنهم في الحقيقة يرون الصرف بيعا والسلم كذلك بيعا، فهم في الحكم متفقون، وفي الاصطلاح مختلفون؛ فنقول: لا مشاحة في الاصطلاح.
فلا يأتي شخص ويقول: هذا التعريف خطأ؛ لأنه أخرج الصرف والسلم وهما من البيع، بل نقول: هذا إخراج اصطلاحي لا حقيقي فلا يؤثر؛ لأنه لا مشاحة في الاصطلاح.
مثال آخر: الواجب والفرض، فبعض العلماء يرى أن الخلاف بين الحنفية رحمهم الله وبين الجمهور في الواجب والفرض خلاف لفظي؛ لأن الحنفية يرون أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، وإذا كان ثابتا بدلالته بدليل قطعي، ودلالته قطعية وثبوته قطعي، فيكفر جاحده، ويعطونه أحكام الفرض من حيث أنه يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
والجمهور عندهم أن ما ثبت من الواجبات بدليل قطعي، وصار معلوما عند الإنسان ثبوته ثبوتا ودلالة أنه قطعي، وعلم وقامت عليه الحجة، بإجماع الجمهور أنه يكفر إذا جحده، فمثلا: الصلاة عند الحنفية فرض، وعند الجمهور تسمى فرضا وتسمى واجبا، والحنفية لا يطلقون الواجب إلا على الذي ثبت بدليل ظني، فإذا أنكر شخص الصلاة، وقال: الصلاة ليست واجبة، فعند الجمهور وعند الحنفية أنه يكفر، فالنتيجة واحدة، فالخلاف اللفظي والاصطلاحي نتيجته واحدة، ولكن من حيث الاصطلاح يختلف، فلكل مذهب اصطلاحه.
ولو أن أناسا داخل البيت اصطلحوا على تسمية شيء باسم، مثل البئر، فالبئر معروف، ومصطلح الناس العام في البئر معروف، ولكن لو كان عندك داخل البيت حوض صغير، وتقول دائما لأولادك: ضعوها في البئر، اطرحوها في البئر، فيأتي شخص ويقول لك: لماذا سميت هذا الحوض بئرا؟ فتقول له: هذا مصطلح بيني وبين أولادي، ولكن لو جاء شخص من الخارج وقال: ارم هذا في البئر، فذهب ووضعه في حوض؛ فنقول: هذا خالف الاصطلاح العام، فلا يمكن أن يحمل لفظه على مصطلح خاص، لكن أنت فيما بينك وبين أولادك لكم مصطلح خاص، ولا مشاحة في الاصطلاح.
ولو وصى شخص بحفر بئر فلا نحفر حوضا؛ لأن هذا خارج عن الاصطلاح العام، ففي الأحكام هذا شيء آخر، ولكن من ناحية التعارف اللفظي واتفاق الناس لكل قوم ما اصطلحوا عليه، فهم يصطلحون على ما شاءوا عليه، ولكن في الحقائق والأحكام لا يعرف إلا ما ثبت؛ إما بدليل الشرع، أو الطبع الذي هو الحقيقة الوضعية أو اللغة، والله تعالى أعلم.

حكم ترك الصلاة أو بعضها لمن كبر سنه
السؤال والدي كبير في السن، ومريض، ويترك بعض الصلوات، فهل يقضيها؟ ومتى تسقط عنه الصلاة؟
الجواب هذا السؤال فيه تفصيل، فإذا كان الوالد حين تركه للصلاة مدركا عاقلا؛ فحرام عليه أن يترك فريضة الله التي فرض عليه، ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إلا لمن رخص الله له بالتأخير.
أما إن كان مريضا فيصلي على حاله، ولا يجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقتها حتى ولو كان مريضا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمران بن الحصين رضي الله عنهما: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، والله تعالى يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] .
فلا يجوز أن يترك الإنسان الصلاة، وأما إذا كان الوالد -لا قدر الله- عنده خلل يغيب تارة ويرجع إليه عقله تارة، فإذا رجع إليه عقله خوطب بالصلاة، وإذا غيب فإنه لا يخاطب بها، وليس بملزم بالصلاة؛ لأنه في حكم المجنون الذي رفع عنه القلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: المجنون حتى يفيق) ، فدل هذا على أنه لا يخاطب إذا غيب وذهب عنه عقله، والله تعالى أعلم.
الجد من جهة الأم محرم للزوجة
السؤال هل الجد من جهة الأم محرم للزوجة؟
الجواب جد الزوج هم آباؤه من جهة أبيه، وآباؤه من جهة أمه، وهم محارم للزوجة؛ لأن الله تعالى قال: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23] ، فذكر من المحرمات حليلة الابن، وحليلة الابن هي زوجة الابن، سواء كان مباشرا أو كان بواسطة، ولا شك أن الجد من جهة الأم زوجة ابن بنته تعتبر حليلة ابنه؛ لأن البنت ابن، قال صلى الله عليه وسلم عن الحسن: (إن ابني هذا سيد) ، وقد قال الله تعالى: {وحلائل أبنائكم} [النساء:23] ، فدل دليل السنة على أن ابن البنت ابن للجد، وإذا كان ابنا للجد؛ فدليل القرآن يقول في المحرمات {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23] ، فجد الزوج من أمه، وجده من أبيه، وجد جده وإن علا منهما، يعتبر محرما لزوجة ابن بنته وإن نزل، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، بدليل ظاهر كتاب الله عز وجل، وظاهر السنة، والله تعالى أعلم.




من اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى بلده وأحرم بالحج فليس متمتعا
السؤال من اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده وحج من عامه، فهل يعتبر متمتعا؟
الجواب هذه المسألة بإجماع العلماء على أنه ليس يتمتع، فمن كان من أهل المدينة وجاء بعمرة في شوال أو في ذي القعدة أو في أول ذي الحجة، ثم رجع، ثم أحرم بالحج من ذي الحليفة، فالإجماع على أنه ليس بمتمتع؛ لأن الله يقول: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة:196] .
ولذلك قال الأئمة كما أشار الإمام ابن المنذر وغيره: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة:196] أي: لم يسافر بعد عمرته، بمعنى: لم يرجع إلى بلده، وهذا لم يتمتع بعمرته الأولى؛ لأنه لما أدى العمرة رجع إلى بلده، وإنما يكون متمتعا لو أنه بقي بمكة وأنشأ الحج منها، فقد تمتع بسفر العمرة الأول فلزمه الدم، ولذلك لم يلزم أهل مكة؛ لأنهم أحرموا بالنسكين من موضع الإحرام وهو مكة.
أما بالنسبة لمن قال: يعتبر متمتعا، فهذا مذهب شاذ، وهو قول طاوس بن كيسان تلميذ ابن عباس، ولذلك قال الإمام ابن رشد في بداية المجتهد: وشذ طاوس فقال: هو متمتع وإن رجع إلى بلده! والقول الشاذ لا يفتى ولا يعمل به، فهو قول مهجور عند الأئمة سلفا وخلفا، فمن أدى العمرة في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده، ثم أحرم بالحج من بلده فليس بمتمتع بإجماع العلماء، ومن عده متمتعا فقول شاذ يحفظ ولا يعول عليه، والله تعالى أعلم.
حكم الطواف من داخل الحجر
السؤال رجل اعتمر، وفي الشوط السابع من الطواف أراد أن يختصره فدخل من الحجر وأتم عمرته، فهل عليه شيء؟
الجواب هذه عمرة مختصرة، والله يقول: {وأتموا الحج والعمرة} [البقرة:196] ، فلا يصح هذا، والطواف لابد أن يتم بالبيت، ولذلك جمهور العلماء على أنه إذا دخل بين الحجر وبين البيت لم يصح ذلك الشوط الذي دخل فيه، والدليل على هذا: قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29] ، و (العتيق) : القديم، والمراد به ما كان على قواعد إبراهيم، وقواعد إبراهيم فيها شيء من الحجر كما هو معلوم، فالخمسة الأذرع إلى الستة الأذرع -كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام- تابع للبيت؛ فإذا دخل بين الحجر وبين البيت، فقد اقتطع جزءا من البيت ولم يستتم الطواف بالبيت.
فالوصف بالتعتيق جاء لحكمة في كتاب الله عز وجل، ولذلك لم يقل: (وليطوفوا بالبيت) فقط؛ لأنه لو قال: (وليطوفوا بالبيت) فقط؛ لكان بالإمكان أن يحسب ذلك الشوط، والحنفية يتهربون من هذا الإشكال، ويقولون: العتيق؛ لأن الله عتقه من الجبابرة، وليس المراد بالعتيق القديم.
والصحيح: أن البيت العتيق المراد به: ما كان على قواعد إبراهيم عليه السلام، فلا يصح الطواف بين الحجر وبين البيت على أصح قولي العلماء وهم الجمهور، وعلى هذا: فيلزمه أن يعيد طوافه، وإن قيل بعدم صحة السعي إلا بعد الطواف فيلزمه إعادة الطواف والسعي، ثم يتحلل بعد ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم الخصم الجزائي على الموظف
السؤال في بعض الأحيان يكون غياب العامل ساعة أو أقل أو أكثر يضر بمصلحة العمل، فنخصم عليه نصف يوم تأديبا وردعا لغيره، فهل يجوز ذلك؟
الجواب يقول صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر) ، أي: يجيء شخص فيقول له: أمني، فأعطاه الأمان بالله على أنه لا يفعل به شيئا، فإذا مكنه من نفسه غدر به وأضر به، أو أعطى عهده على أنه على بيعته للإمام أو ولي أمره ثم غدر، فهذا خصمه الله عز وجل، ومن كان خصمه الله فقد خصمه.
وأما الثاني: (ورجل باع حرا فأكل ثمنه) .
وأما الثالث: (ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره) .
وهذا رجل عمل عندك إحدى عشرة ساعة، فعليك أن تعطيه أجرة إحدى عشرة ساعة كاملة غير ناقصة، وإن غاب ساعة فتخصم عليه ساعة، لا تزيد ولا تنقص، وهذا هو القسط الذي أمرك الله به، والله تعالى يقول: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [الأعراف:85] ، وهذا ظلم، فإذا كان قد عمل يوما ثم اخترم من اليوم جزءا فتأتي وتأكل من ماله، وهو من عرقه وتعبه ونصبه، بدون حق على سبيل التأديب، فهذا ليس بوارد وليس بصحيح.
وبعض المتأخرين من العلماء اجتهد في هذه المسألة وقال: إنه يجوز من باب التعزير.
ولكن هذا ليس بصحيح، فإن هذه نصوص واضحة، والنصوص الواضحة لا اجتهاد فيها، فالأجير له أجره كاملا، فلا يجوز أن ينقص من أجره شيئا، وإذا أردت أن تؤدبه فقل له: ما دمت بهذه المثابة فلا تعمل عندي، والواجب علينا أن ننظر بالعدل والإنصاف، فالعامل إذا غاب ساعة فانظر إن كانت عنده ظروف، وأنت تعرفه بالجد والاجتهاد والمحافظة، فاعلم أنه إن غاب وقصر فذلك بدون اختياره، وإذا قصر مرة فليسعه حلمك، والوفي الكريم هو الذي لا ينسى الفضل، والشخص الذي يحاسب الناس بهذه الدقة سيشدد الله عليه كما شدد على الناس، فينبغي على الإنسان أن يكون بعيد النظر، وخاصة مع هؤلاء الضعفاء المستأجرين المستخدمين، ولذلك فإن الله تولى أمرهم؛ لأن الغالب في الأجير أنه يكون ضعيفا، ولذلك قال: (أنا خصمه) ، فالله سبحانه هو خصيم هؤلاء، فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل.
فإذا استأجرت أجيرا أو عاملا وقام لك بعمل ولم يتمه، فأعطه حقه فيما قام به غير منقوص، وتلقى الله سبحانه وتعالى وأنت بريء من حقوق الناس.
فليس هناك أعظم من حق إخوانك عليك، فقد يتحمل الشخص ذنوبا وسيئات فيما بينه وبين الله فيغفرها الله له في طرفة عين؛ لأنها من حقوق الله، والله يتجاوز عنها؛ لكن حقوق الناس لا يتجاوز الله عنها، ولا بد أن يسامح صاحب الحق، والغالب أن الضعفاء إذا أكل كدهم ونصبهم وتعبهم أنهم لا يسامحون، فينبغي على الإنسان ألا يخرج أحدا من هؤلاء الضعفاء إلا وقد وفى له أجره.
ومسألة العقوبة بالتعزيرات هذه مسألة مقدرة بأشياء مخصوصة، منها ما ورد في الزكاة: (إنا آخذوها وشطر ماله) ، فالذين قالوا بالجواز قاسوها على الزكاة، وهذا غير صحيح؛ لأن الحديث: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا) ، فهذا نص جاء يستثني الزكاة؛ لأن الله يملك الناس وأموالهم، لكن الأجير لا تملكه وماله، بل تملك عمله ومنفعته، فإذا أعطاك العمل والمنفعة ناقصة بعض الشيء فأعطه بعض الشيء.
والوقفة الأخيرة: يا أخي الكريم! ليسأل كل واحد منا نفسه، فقد يتأخر بعض الأحيان العامل وقتا يسيرا عن العمل، فيقيم صاحب العمل الدنيا ويقعدها على هذا التأخر، وقد يتأخر ابنه في شيء يرسله فيه فيحصل عند الابن بعض التساهل ويتأخر فيقيم الدنيا ويقعدها، وقد تتأخر زوجته فيقيم الدنيا ويقعدها، وهو لا ينظر إلى نفسه وهو يتأخر عن ركن من أركان دينه، وهي الصلاة، فإن الله قد فرض عليك أن تصلي مع الجماعة، فسل نفسك متى جئت وكبرت تكبيرة الإحرام مع الإمام؟ لماذا يشدد الإنسان دائما في معاملة الغير وينسى نفسه؟! أذكر ذات مرة أنه حصل ظرف مع أحد الأشخاص فتأخر بعض من يقوم عليهم، فعاقبهم عقوبة شديدة، فقلت له: يا أخي! هذا لا يجوز، وليس هذا من حقك، فقد كانت عقوبة خارجة حتى عن الأصل الذي من حقه أن يعاقب فيه، فقلت: ليس ذلك من حقك، فقال: حتى يتأدب.
فسألته: أنشدك الله ألا تتأخر عن الصلاة التي فرضها الله عليك؟ قال: بلى، فقلت: يا أخي! إذا كنت أنت تعذر نفسك في الصلاة وأنت تتأخر عنها، وأنت شبعان ريان تسمع نداء الله عز وجل، وأنت في أتم عافية، وعندك سيارة، ومع ذلك لا تدرك تكبيرة الإحرام ولا تؤدي حق الله كاملا، فتحاسب -بكل تشدد وبكل أذية- هؤلاء الضعفاء!! والله لا آمن أن يشدد الله عليك مثلما شددت عليهم.
فالإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، وليعلم أنه مثلما يعامل الناس سيعامله الله؛ لأنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا كان يدين الناس، وكان يقول لأوليائه وعماله: إذا وجدتم معسرا فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز الله عنه) ، فمثل ما تفعل فيمن تحتك يفعل الله بك.
ومما ذكره الحكماء: أنك لن تجد رجلا يرفق بالضعفاء الذين من تحته إلا وضع الله له القبول فيمن فوقه، وثق ثقة تامة أن الله عدل، وتجد الذي يعسر على من تحته منكدة أموره ممن فوقه؛ لأن الله عدل، وهذا الكون لا يظن أحد أنه سدى، بل إن أزمته ومقاليد أمره بيد جبار السموات والأرض، والقسط بيده سبحانه يخفضه ويرفعه سبحانه وتعالى.
فعلى الإنسان أن يدرك أن حقوق الضعفاء لا يتسلط عليها؛ بل تدفع إليهم كاملة، فإذا عمل عندي تسعة وعشرين يوما وترك يوما من الشهر أخصم عنه يوما واحدا، ولا أزيد، وإن نقصت في الخصم فجزاك الله خيرا، وإن تجاوزت عنه تجاوز الله عنك، إذا نويت وجه الله عز وجل وابتغيته.
فمثل هذه الأمور أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فيها، وبالأخص في الأبناء والبنات والزوجات والأهلين، وكذلك العمال والخدامين والخدامات والمستأجرين من الضعفاء، فليتق الإنسان فيهم ربه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وليضع نصب عينيه أنه تحت قدرة الله عليه.
فقد جاء في الحديث الصحيح: أن أبا مسعود قال: (كنت أجلد غلاما لي؛ فلم أشعر إلا وبرجل من وراء ظهري يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فالتفت فإذا هو رسول الله، قال: فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله) .
لقد كان الصحابة بمجرد وعظهم يوعظون ويتركون الذنب، فقال له عليه الصلاة والسلام: (الله أقدر عليك) ، فقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين قدرته عليه وقدرة الله، وهذا يدل على أن الله سيعامل الإنسان مثل معاملته مع الغير، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتيح للخير، وأن ييسر بنا ولا يعسر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة وترين في ليلة
السؤال ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) ؟
الجواب قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الثابت: (لا وتران في ليلة) يدل على مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز للمسلم أن يصلي وترين في ليلة ويقتصر عليهما؛ لأن الوتر ينبغي أن يكون آخر الصلاة حتى يكون العدد وتريا لا شفع فيه، فإذا صلى وترين في ليلة واحدة فقد شفع الوتر الأول بالوتر الثاني، وبناء على ذلك: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (لا وتران في ليلة) .
المسألة الثانية: دل هذا الحديث على أن الوتر ينقض الوتر؛ لأنه لما نهى عن أن يوتر وترين، دل على أن الوتر الثاني مؤثر في الوتر الأول، ومن هنا أخذ جمهور العلماء رحمهم الله جواز نقض الوتر بالوتر، ثم بعد ذلك يصلي شفعا شفعا ثم يوتر، كما أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فيما لو أوتر أول الليل ثم نام، ثم قام آخر الليل فإنه يصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا) ، فلما قام آخر الليل وأراد تحصيل هذه السنة التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بجعل آخر الصلاة وترا، فإنه ينقض الوتر الأول بركعة، ثم يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر.
المسألة الثالثة: قوله: (لا وتران في ليلة) ، هذا محمول على الوتر النافلة، فيخرج من هذا وتر الفريضة مع النافلة؛ لأن المغرب وتر، والوتر للنوافل وتر، فصارا وتران في ليلة، فالمراد من هذا الوتر في النوافل، وإلا هناك وتران: وتر المغرب، ووتر النافلة، فقال العلماء: إن المراد بالحديث وتر النافلة، والمغرب وتر الفرائض، فجعلوا المغرب وترا للفرائض، وجعلوا الوتر الشرعي وترا للنوافل.
وفي الحقيقة: جعل المغرب وترا للفرائض محل نظر، لأنه لو كان هناك وتر للفرائض لكانت العشاء ثلاثا، لأن الوتر يكون آخرها، ومما يضعف هذا القول: أن الوتر يبتدئ بدخول وقت صلاة العشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمدكم -وفي رواية: زادكم- بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر) ، فدل هذا على أن وقت الوتر يبتدئ بصلاة العشاء.
وفائدة هذه المسألة: أنك لو كنت في سفر وجمعت بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، وأردت أن تصلي الوتر فنقول: تأخر حتى يدخل وقت العشاء ثم صل الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر) .
وقال بعض العلماء: قوله: (جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء) : وقوعا، وليس المراد وقتا، بحيث لو صلى العشاء متبوعة مع المغرب ثم أوتر، فقد وقع وتره ما بين عشائه وفجره، فيرخصون من هذا الوجه، والأحوط أنه ينتظر إلى دخول وقت العشاء.
المسألة الرابعة والأخيرة: في هذا الحديث فضيلة للوتر؛ لأن الله وتر ويحب الوتر، وإذا صلى الوتر مع الوتر لم يتحقق له وتره؛ فأمر بأن يقتصر على وتر واحد تحقيقا لهذا الأصل، واعتبارا لهذا الفضل، والله تعالى أعلم.

دعوة من الشيخ لدعم المسلمين في الشيشان
السؤال وردنا خطاب من مؤسسة الحرمين الخيرية حول جمع التبرعات لصالح إخواننا في الشيشان، ويأملون من فضيلتكم توجيه الحضور بالاحتساب في ذلك؟
الجواب أولا: نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك جهود الإخوة في معونة المحتاجين والمنكوبين، وأن يعينهم على ذلك، وأن يرزقنا وإياهم فيه الإخلاص لوجهه، فإن الأعمال مدارها على الإخلاص لوجه الله الكريم، وإن من أحب الأعمال وأعظمها ثوابا عند ذي العزة والجلال: تفريج الكربات، وإدخال السرور على المؤمنين والمؤمنات، والاحتساب في ذلك مع وجود المشقة والعناء أجره عظيم عند الله.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله أعظم من العبد صدقته، وأعظم منه إحسانه وبره حتى لربما كف النار عن وجهه بنصف تمرة، فربما ينفق نصف تمرة لوجه الله، يحتسبها عند الله، فيجعلها الله له حجابا من النار، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) .
وفي الحديث الصحيح: (أن امرأة دخلت على عائشة وهي تحمل بنتين، فاستطعمتها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل بنت تمرة ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى بنتيها، فأطعمتها التمرة، فعجبت عائشة من صنيعها وإيثارها! فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بخبرها فقال صلى الله عليه وسلم -نزل الوحي علي من ساعته-: إن الله قد أوجب لها بها الجنة) .
فيكف إذا كان إخوانكم وهم في شدة البرد والزمهرير يعانون وطأة الحروب، وفراق الأهل والأولاد والذريات، في نكبة وفاجعة لا يعلم قدرها إلا الله؟! فاحتسبوا بارك الله فيكم في تفريج كرباتهم، ومواساتهم في مصابهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
إلى الله العظيم فارج الهم كاشف الغم رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما نتوجه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ونسأله بعزته وقدرته على خلقه، هو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، اللهم اجعل لإخواننا في الشيشان وفي كل مكان من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية.
اللهم ثبت أقدامهم، اللهم سدد سهامهم، اللهم صوب آراءهم، اللهم اجمع شملهم يا حي يا قيوم! اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين حيثما كانوا يا ذا العزة والجلال! اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت نبرأ إليك بعزتك وقدرتك، ووحدانيتك يا ذا الجلال والإكرام! نشكو إليك بغي الكفار على أوليائك وأهل دينك وطاعتك، اللهم اسلبهم عافيتك، اللهم اشدد عليهم وطأتك، اللهم أنزل بهم رجزك وعذابك يا إله الحق، لا إله إلا أنت.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.






ابوالوليد المسلم 14-05-2025 10:37 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الوصايا)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (411)

صـــــ(1) إلى صــ(21)


شرح زاد المستقنع - باب الموصى إليه
لابد من توافر صفات في الموصى إليه تؤهله لأن يقوم بحقوق الأيتام على الوجه الأكمل الأتم، منها: الإسلام، والعدالة، والتكليف، والرشد، وغيرها من الصفات المعروفة لكامل الأهلية، وتصح الوصية إلى اثنين على تفصيل معروف عند العلماء.
ولابد لصحة الوصية أن يكون الموصي مالكا لما أوصى فيه، فإن أوصى بما لا يملك بطلت الوصية.
ويجب على الوصي تنفيذ الوصية كما أوصاه الميت، فإن ظهر شيء من الحقوق بعد تنفيذها لم يضمن شيئا من ذلك.
أحكام ومسائل تتعلق بصفات الموصى إليه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الموصى إليه] .
لقد ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تتعلق بالشخص الذي يعهد إليه بتنفيذ الوصية، ولا شك في أن الوصية -عند بيان أحكامها ومسائلها- تفتقر إلى بيان الأمور التي ينبغي توفرها في الأشخاص الذين يعهد إليهم بتنفيذ الوصايا، فتحقيق المصالح ودرء المفاسد التي من أجلها شرع الله الوصية لا يمكن أن يكون على أتم الوجوه وأكملها إلا إذا كان الأشخاص الذين تناط بهم الوصايا ويناط بهم تنفيذها والقيام بها من الأشخاص الذين توفرت فيهم الصفات المعتبرة، ومن هنا اعتنى العلماء والأئمة رحمهم الله ببيان الصفات التي ينبغي توفرها في الموصى إليه، حتى لا يتساهل الناس ولا تضيع الحقوق، فإن الوصية إذا عهد بها إلى الشخص الذي ليس هو بأهل؛ ضيع حقوق الله عز وجل فيها، وربما أوصى الشخص بحق عنه، فضيع هذا الحق، وكذلك ضيع حقوق الناس، فلربما ضيع حقوق اليتامى وحقوق الأرامل إذا كان غير أهل.
ومن هنا وجب بيان هذه المسائل، والاعتناء ببيان الشروط التي ينبغي توفرها في الموصى إليه.
يقول رحمه الله: (باب الموصى إليه) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفات الشخص الموصى إليه، وما ينبغي عليه، وما يجب من الأمور التي تلزم ويلزم مراعاتها ممن يعهد إليه بتنفيذ الوصايا.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن الوصايا قد تشتمل على حقوق لله عز وجل، كمن وصى أن يحج عنه ويعتمر، أو وصى بأن يصام عنه صيام نذر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليه) ، أو يوصي بحقوق من الكفارات والفدية في حجه أو عمرته، تكون لازمة عليه، أو يوصي بحقوق من كفارات أيمان، أو كفارات قتل أو ظهار أو جماع في نهار رمضان، أو غير ذلك، فهذه وصية مشتملة على حقوق الله عز وجل، وقد تشتمل الوصية على رعاية الأيتام، والإحسان في النظر في مصالحهم وما هم محتاجون إليه، وقد تشتمل الوصية على أمور أوصى بها من المستحبات؛ كالصدقات، والإحسان إلى المحتاجين والمساكين، فيوصي بثلثه للفقراء، ويعهد إلى شخص، ويوصي إليه أن يقوم بتنفيذ هذه الوصية.
إذا: الوصية تتعدد وتختلف، وكل جانب من هذه الجوانب قد يصلح فيه شخص ولا يصلح فيه آخر، وقد يكون من تعهد إليه برعاية شئون الأيتام من بعد الموت والوفاة يحتاج إلى أن يكون خبيرا بالأسواق، خبيرا بالأموال، وقد تحتاج إلى شخص قوي يدفع الضرر عنهم، فأمور اليتامى تختلف، وأمور الوصية أيضا تختلف، فنظرا لاختلافها قد يوصي لشخص بشخص واحد، وقد يوصي لأكثر من شخص، فيجعل أحدهم لتنفيذ الثلث، ويجعل الثاني لرعاية مصالح اليتامى، ويجعل الثالث للقيام بحقوق واجبة عليه يقوم بأدائها، ويجعل شخصا رابعا لرد الأمانات ورد حقوق الناس؛ لأن فيه أمانة أكثر من غيره.
المهم أن الشخص الموصى إليه لا بد أن تكون فيه صفات تتناسب مع هذه المهام، ومع هذه المصالح التي يريد تحقيقها، والمفاسد التي يطلب درءها، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص كما ذكرنا.
قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم مكلف عدل رشيد ولو عبدا] .

من صفات الموصى إليه: أن يكون مسلما رجلا كان أو امرأة
قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم] .
قوله: (تصيح وصية المسلم) أي: أنها معتبرة شرعا، والشيء الصحيح هو الذي تترتب عليه الآثار الشرعية المعتبرة، فتصح وصية المسلم إلى كل مسلم، والوصية إما أن تكون من مسلم، وإما أن تكون من كافر.
والكلام هنا إذا كانت الوصية من مسلم، فتصح الوصية من المسلم إلى كل مسلم، فدل على أنه لا يجوز للمسلم أن ينصب الكافر على أمواله، ولا أن ينصب الكافر لتنفيذ وصاياه أيا كانت هذه الوصايا.
أما كون الكافر لا يصلح للولاية: فهذا مبني على أصل شرعي دل عليه دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يسلط الكافر على المشرك، فدل على أن الكافر لا تكون له ولاية على المسلم، وهذا خبر بمعنى الإنشاء.
وكذلك أخبر الله عز وجل عن صفات في الكفار لا يمكن أن تتحقق بمثلها -وبسبب وجودها- المصالح التي تطلب من الوصايا، ولا يمكن أن تتحقق المفاسد التي يراد درؤها بالوصية بأمثال هؤلاء، فقال تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون} [التوبة:10] ، فأخبر سبحانه وتعالى الذي وصف نفسه بأنه أصدق القائلين، وأصدق حديثا ولا أصدق منه قيلا، وهو القائل: {والله أعلم بأعدائكم} [النساء:45] -أخبر عن هذا العدو بأنه لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، و (الإل) هو القرابة، تقول: آل فلان، أي: قريبه من جهة النسب، و (والذمة) : العهد، فهم ليسوا بحافظين لحق القرابة، وليسوا بحافظين للعهد والذمة التي بينهم وبين المسلمين في غالب أحوالهم، والله عز وجل أصدق حديثا وأصدق قيلا.
فأخبر سبحانه أنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فالكافر ولو كان قريبا، فإنه لا يرعى حق القرابة في المسلم.
ومن هنا وجب إقصاؤهم وإبعادهم عن هذا، ولذلك حينما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حينما كان بالشام، ولى كاتبا نصرانيا عنده يكتب، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) وكتب إليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} [آل عمران:118] .
فقوله تعالى: (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) أي: أنهم يسعون في أذية المسلم إلى درجة قد يفقد الإنسان عقله من كثرة ما يرى من أذيتهم وإضرارهم به، فقد يصل إلى درجة الخبل، (لا يألونكم خبالا) أي: أنهم يبذلون جهدهم لأذيتكم والإضرار بكم، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم.
(ودوا ما عنتم) الود: هو خالص الحب، أي أنهم يحبون من صميم قلوبهم عنتكم، و (ما) : مصدرية بمعنى عنتكم وتعبكم وشقاءكم، هذا هو الذي يودونه ويطلبونه، فدلت هذه الآية الكريمة على أنه لا مصلحة في ولاية الكافر على المسلم.
وكذلك أيضا دلت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عهد بأمر من أمور المسلمين إلى كافر ألبتة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام على السنن الذي أقامه الله عز وجل عليه، من حفظ المسلمين، وإبعادهم عن أذية أو تسلط الكافرين عليهم.
فلا يجوز تولية الكافر على المسلم في الوصية، والإجماع منعقد على هذا، ولذلك حكى في الشرح الكبير بقوله: (بغير خلاف) ، أي: لا تجوز ولاية أو توصية الوصي الكافر على الأيتام المسلمين، أو على حقوق المسلم من بعده، أو على وصيته من بعده بغير خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.
وقوله: (إلى كل مسلم) فيه عموم، فـ (كل) عند العلماء من ألفاظ العموم، فلما قال المصنف رحمه الله: (إلى كل مسلم) معناه: أنه يشمل المسلمين ذكورا وإناثا، فيجوز أن يعهد بوصيته إلى رجل توفرت فيه الشروط ليقوم بتنفيذ وصاياه، ويجوز أن ينصب المرأة، وتنصيب المرأة في تنفيذ الوصايا ورعاية الأيتام ونحو ذلك من الأمور التي تصح فيها ولاية النساء، فهو أمر مشروع، ولذلك قال جمهرة السلف رحمهم الله -من الصحابة والتابعين- بهذا القول؛ أنه يجوز أن يعهد الرجل بوصيته إلى المرأة لكي تنفذها، ويدل على ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه عهد إلى أم المؤمنين حفصة بنته، فقامت على وقفه الذي كان بخيبر، فكانت وصية له من بعده رضي الله عن الجميع.
وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة متوافرون، فهي سنة من سنن الخلفاء الراشدين، ولم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان هذا بمثابة الإجماع السكوتي، ولذلك اتفق الأئمة الأربعة على جواز تنصيب المرأة من أجل القيام على مصالح الوصايا بتنفيذها، فيعهد إليها زوجها، أو أبوها، أو أخوها، فإن من النساء من فيهن من رجاحة العقل وحسن النظر وحسن التدبير ما يكون في ولايتها الخير الكثير، فقد تكون أم أيتامه أولى برعاية أيتامه، والشفقة عليهم، وحسن النظر في مصالحهم، فإذا وجدها بهذه الصفة عهد إليها.
فإذا أحس أن هناك خوفا يخشاه من جهة تحقيق المصالح، من ناحية أنها لا تستطيع أن تخالط الرجال في الأمور التي يحتاج إليها من مصالح الأيتام، عهد إلى أخيها معها، وهو خال أولاده مثلا، أو إلى من يراهم من قرابته ليكون مساعدا أو معينا لها.
فالشاهد: أن ولاية المرأة على تنفيذ الوصايا أمر يقول به السواد الأعظم من علماء هذه الأمة رحمهم الله، من السلف والخلف، وقد خالف في هذه المسألة عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رحمه الله، وقال: (لا يجوز أن تلي المرأة تنفيذ الوصايا) ، وهذا قول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أنه يجوز أن يعهد الرجل بتنفيذ وصاياه إلى المرأة، ولا بأس في ذلك.
من الموصى إليه: أن يكون مكلفا
قال رحمه الله: [إلى كل مسلم مكلف] .
قوله: (مكلف) أي: بالغ عاقل مختار، فلا يكون صبيا ولا مجنونا ولا مكرها.
فأما المجنون والصبي؛ فإن كلا منهما لا يستطيع أن يلي أمر نفسه، فمن باب أولى وأحرى ألا يلي أمور غيره، ولذلك فإن الصبي يحجر عليه، فلا يصح بيعه ولا شراؤه، إلا إذا كان مأذونا له على التفصيل الذي تقدم معنا في باب الحجر.
إذا: لا يصح أن يعهد بالوصية إلى صبيانه، أو إلى الصغار الذين هم دون البلوغ، لكن يجوز أن يقول: وصيت أو عهدت إلى أخي فلان أن يقوم بالنظر على أيتامي، فإذا بلغ ابني محمد، فإنه هو الوصي من بعده.
فقد جعل الوصية إلى أخيه، لكن قبل أن يبلغ ابنه، فإذا بلغ ابنه فإنه وصيه، فعلى هذا الوجه يصح أن يكون عهده إلى صبي، ويكون العهد في الأساس إلى كبير بالغ، مستوف للشروط، مما يجعل الصبي من بعده تعليقا، وهذا لا بأس به، وقد اختاره غير واحد من العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من منعوا من ذلك، والصحيح جوازه؛ لأن هذا النوع من الوصية إلى الصبي إنما هو عند بلوغه، فتكون الوصية والقيام بمصالح أبنائه وبناته من بعده لهذا الصغير إذا بلغ.
وكذلك أيضا يشترط: الاختيار، فلا يصح أن يكون الموصى إليه مكرها، فلو هدد الموصي شخصا، وفرض عليه أن يكون وصيا له من بعده، ووافق؛ فإنه لا تصح الوصية؛ لأنه يشترط فيه أن يكون بالغا عاقلا مختارا.
وهذا هو المعتبر لأهلية التكليف.
وبالنسبة للمجنون يستوي فيه أن يكون جنونه متقطعا أو مستديما؛ لأنه في بعض الأحيان يختلف الأمر في الذي جنونه متقطع، لكن بالنسبة للوصية لا يصح أن يعهد إلى مجنون، سواء كان جنونه مطبقا أو متقطعا، فلو كان يجن أحيانا ويفيق أحيانا، وعهد إليه في حال إفاقته؛ فإنه لا يصح هذا العهد، فالعهد إلى المجنون باطل أصلا، وبغير خلاف بين العلماء رحمهم الله.
لكن لو أنه عهد إلى شخص أن يقوم بالنظر في وصيته من بعده بتنفيذها ورعاية شئون ذريته من بعده، ثم جن قبل أن يموت الموصي، بطلت الوصية، وحينئذ يعهد إلى شخص آخر ويقيمه مقامه.

من الموصى إليه: أن يكون عدلا

قال رحمه الله: [عدل] .
العدل: هو الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم: العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا وكبائر الذنوب: كبائر: جمع كبيرة، والكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كبيرة، وكذلك كل ذنب وردت عليه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، أو توعد عليه بنفي إيمان أو غضب أو لعنة أو نحو ذلك.
مثل: شهادة الزور، وعقوق الوالدين، والشرك بالله -والعياذ بالله- فهذه أكبر الكبائر، ومذهب جمهور السلف والخلف رحمهم الله أن الذنوب تنقسم إلى: كبائر وصغائر، خلافا لمن قال: إن الذنوب كلها ليس فيها صغير ولا كبير، وأنها مستوية، والصحيح أن منها ما هو كبير وما هو صغير؛ لأن الله يقول: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} [النساء:31] ، فأخبر أن الذنوب منها كبيرة، ومنها دون هذه الكبيرة، وقال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} [النجم:32] ، فأخبر أن الذنب منه صغير ومنه كبير، ومنه اللمم: وهو صغار الذنوب، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ... ) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فجعل المكفر الصغائر بشرط اتقاء الكبائر، فدلت هذه النصوص كلها على أن الذنوب فيها صغير وكبير.
ومن هنا قال العلماء: الكبيرة موجبة للفسق، والدليل على ذلك قوله تعالى: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات:7] ، فبين سبحانه وتعالى انقسام المعاصي إلى ثلاثة أقسام: الكفر: وهو أعظمها وأكبرها، والفسوق: وهو الذي بين الصغائر وبين الكفر والخروج من الملة، وذلك بارتكاب الكبائر، والعصيان: الذي يكون بارتكاب صغائر الذنوب، والفسوق: هو الذي تنتقض به العدالة، يقال: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها، فالفاسق خارج من طاعة الله عز وجل، مجانب لها، وذلك بارتكابه لكبير الذنب، أو إصراره على الصغير، فإذا أصر على صغيرة، وأصبح إصراره ومداومته يعادل في الذنب الكبيرة لو فعلها مرة، فإن حكم هذه الصغيرة يكون في حكم الكبيرة، فتسقط عدالته، ويكون جرحه مؤثرا فيه.
وقوله (عدل) أي: يشترط أن يكون الوصي عدلا، ولا تصح الوصية إلى فاسق.
وفي الحقيقة تفصيل عند العلماء: فالفاسق له أحوال: فتارة يكون فاسقا بارتكابه بعض الذنوب، ولكنه في نظره بالوصية وقيامه على الوصية يحكم القيام بها على أتم الوجوه وأكملها، فحينئذ فسقه لا يؤثر في الوصية، فالحنابلة رحمهم الله عندهم يرون أن الفاسق لا يولى؛ وذلك لأن الفاسق إذا نقض حقا من حقوق الله بارتكاب الكبيرة، فلا نأمن منه أن يضيع حقوق عباد الله، ومن هنا لا تقبل شهادته، ولم يجز تنفيذ العهد إليه بتنفيذ الوصية؛ لأنه كما ضيع حق الله لا يؤمن منه أن يضيع حقوق عباده، وذلك من باب أولى وأحوط.
ومن أهل العلم من قال: إننا نشاهد من الفساق من يرتكب بعض الأمور، ولكنه لا يخل بديانته ودينه في الأمور الأخرى، فتجده يشرب الخمر، ولكنه لا يمكن أن يكذب، ولا يمكن أن يخون أمانته، ولا يمكن أن يضيع حقا من الحقوق، لكن الله ابتلاه بشرب الخمر، وقد يكون -والعياذ بالله- مبتلى بزنا أو فسوق آخر، ولكنه محافظ على الحقوق والواجبات؛ فإذا حدث صدق، وإذا وعد وفى، وإذا اؤتمن لم يخن.
فقالوا: إنه قد يكون عند الشخص تقصير يؤثر في عدالته، ولكن نشاهد منه الصدق في قوله، والأمانة في فعله، ونجد عنده التحفظ، وهذا ابتلاء ابتلي به في جانب من دينه، لا يستلزم أن يسري الحكم إلى ما عداه.
والحق هو مذهب الجمهور، والتفصيل فيه قوة؛ أي: إذا كان الفاسق ممن يؤثر فسقه في الوصية؛ فلا شك أنه يجتنب ولا يعهد إليه، وأما إذا كان فسقه لا يؤثر في الوصية، والغالب أنه يقوم بالوصية؛ كأن يكون قريبا كعم الأولاد وخال الأولاد، وعنده من الشفقة والرحمة ما يغلب على الظن أنه ينفذ الوصايا على أتم الوجوه وأكملها؛ فإنه لا بأس بالوصية إليه.
فالتفصيل في هذا أقوى، ومذهب الجمهور أرجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
من صفات الموصى إليه: أن يكون رشيدا
قال رحمة الله: [رشيد] .
ينقسم الرشد إلى: رشد الدين، ورشد الدنيا.
فرشد الدين: هو الإيمان، والذي يكون منه صلاح الإنسان واستقامته، كما قال الله تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256] ، وسمي الرشد رشدا؛ لأن الإنسان يصيبه فيه القوام والسداد في أموره المتعلقة بدينه.
وأما رشد الدنيا: فهذا يكون في مصالح الدنيا، ويضبطه العلماء رحمهم الله بوصفين فيقولون: الرشيد في الدنيا، هو الذي يحسن الأخذ لنفسه، والإعطاء لغيره، فإذا أراد أن يبيع شيئا باعه بقيمته، فلا يغش ولا يضحك على أحد، فلو أراد أن يبيع بيتا أحسن الإعطاء لغيره، فالبيت قيمته مثلا مليون، فيبيعه بالمليون وزيادة، فهذا رشيد، لكن إذا كانت قيمته مليون، فيبيعه بثمانمائة ألف، فهذا غير رشيد؛ بل سفيه، ولا يحسن أن يولى السفيه النظر في المصالح المتعلقة بالأموال؛ لأنه محجور عليه في تصرفه في ماله، فمن باب أولى أن لا يلي مال غيره، كما قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5] .
وقد أشار الله عز وجل إلى رشد الدنيا في الأموال بقوله سبحانه: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا} [النساء:6] أي: وجدتم فيهم الرشد؛ لكونهم يحسنون الأخذ لأنفسهم والإعطاء لغيرهم.
فلا يجوز للمسلم أن يولي على أمواله من بعده من لا يحسن النظر فيها، فلو ولى سفيها أو طائشا أو أحمق لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا الإعطاء لغيره، فقد ضيع الأمانة، وضيع حقوق ورثته من بعده، والغالب من مثل هذا أن لا تتحقق به مصالح الوصية، ولا تندرئ به مفاسدها، بل تزداد المفاسد أكثر مما هي عليه.
فبين رحمه الله أنه يشترط في الشخص الذي يولى في الوصية أن يكون رشيدا، وهذا من التصرفات المالية.
حكم الوصية إلى العبد
قال رحمه الله: [ولو عبدا] .
(ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، والعبد: هو الرقيق، وبين بهذا أنه يجوز أن يعهد بالوصية إلى الرقيق، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم إلى أن العبد لا يكون وصيا؛ لأنه لا يلي أمر نفسه، فمن باب أولى ألا يلي أمر غيره.
لكن المصنف هنا يقول: إنه يولى العبد ويستأذن سيده، فإذا أذن سيده له كان وصيا.
وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه إذا أذن له سيده لا نضمن أن يموت سيده، فينتقل العبد من الإذن له بالانشغال في مصالح ورثة الموصي وقيامه على الوصية ينتقل إلى ورثة سيده، والوصية تحتاج إلى وقت، وهذا فيه تغرير بحقوق الأيتام، وحقوق الأرامل، وما المقام عليه بالوصايا، فالوصية إلى العبد فيها مخاطرة؛ لأن هذا العبد في الأصل جعله الله ملكا ليمين سيده، ومشغول بخدمة سيده، فلو أن سيده أذن له الآن فربما باعه في الغد، وإذا باعه فقد باعه إلى من لا يأذن له، فهذا تغرير بالوصية، ومخاطرة بها والصحيح هو قول من قال: إن العبد لا يلي أمر الوصية، والمسألة فيها ثلاثة أقوال: فمنهم من منع مطلقا، ومنهم من أجاز، ومنهم من فصل، فالذين منعوا مطلقا هم الشافعية، والذين أجازوا هم الحنابلة، ومعهم المالكية، والذين فصلوا هم الحنفية، قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: يجوز أن يعهد إلى عبد نفسه، كما كانوا في القديم، إذا كان عنده أولاد صغار وعنده عبيد، وفيهم عبد صالح ودين ومستقيم وأمين، فيقول له: قم على شئون ورثتي من بعدي، فيعهد إليه بوصاياه من بعده، وفعلا يكون على أحسن وأتم وأكمل الوجوه، ولكن الأمر لا يخلو أيضا من نظر؛ لأنه إذا عهد إلى هذا الرقيق، فإن أحد الأبناء سيكبر ويبلغ؛ وحينئذ سيكون هذا العبد ملكا له، فهو وليه من وجه، ومولى عليه من وجه آخر، فتلزمه طاعته، ويكون تحت أمر الصبي؛ لأن الصبي يملكه، ومن حقه أن يأمره وينهاه.
إذا: القول بالتفصيل من ناحية شرعية فيه نظر، والصحيح: أن الرقيق لا يكون وليا في الوصايا؛ لأنه لا يلي على نفسه، فمن باب أولى أن لا يلي على غيره.
قال رحمه الله: [ويقبل بإذن سيده] .
أي: يقبل الوصية بإذن سيده، فليس له قبول مطلق، وإنما يقيد قبوله بإذن السيد، فإذا أذن السيد له أن يقوم بتنفيذ وصايا هذا الموصي؛ صح، وإلا فلا.
حكم الوصية إلى اثنين
قال رحمه الله: [وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيدا اشتركا] .
هذه المسألة صورتها: أن يقول لزيد: أنت وصيي من بعدي، فيعهد إليه، ثم بعد ذلك بقليل أو كثير من الزمان يقول لشخص آخر: أنت وصيي من بعدي، فهل الوصية الثانية ناقضة للوصية الأولى، أم أن الوصية الثانية مشتركة مع الوصية الأولى؟ الثاني هو الأقوى: أن الوصية الثانية ليست ناقضة للوصية الأولى؛ لأنه لو أراد نقض الوصية الأولى؛ فإنه ينبغي أن يكون نقضها صريحا بينا، كما أن إثباتها وقع صريحا بينا، ولا يمتنع أنه قصد الاثنين؛ لأنك ربما عهدت إلى شخص واحد وأموالك قليلة، ثم طرأت أموال أخرى كثيرة يغلب على ظنك أن فلانا وحده لا يقدر على القيام عليها، بل يحتاج إلى من يعينه، وربما عهدت إلى شخص في حال، ثم وجدت فيه ضعفا بعد فترة، فاحتجت أن تقرن إليه شخصا آخر يعينه ويساعده في حال آخر، فالذي يظهر أنه يعتبر وصيا ثانيا؛ وفي هذه الحالة يشترك الاثنان.
وهذا إذا وصى لوصي ثان بعد وصي أول.
فصورة مسألتنا: أنه إذا اتفقا في المكان الذي وصي به، مثل أن يقول: أنت وصيي من بعدي في رد ودائعي، والقيام على أيتامي، وصرف الثلث.
إلخ، فيعطيه وصية مطلقة لجميع أموره وشئونه، ثم يقول للثاني نفس الذي قاله للأول، فحينئذ لا إشكال؛ فالوصية الأولى عامة، والوصية الثانية عامة، فيشتركان في العموم.
الصورة الثانية: أن تكون الوصية الأولى عامة، والثانية خاصة، كأن يقول له: أنت وصيي من بعدي في جميع أموري، ثم بعد ذلك يقول لشخص ثان: أنت وصيي من بعدي في رعاية أموال أيتامي، فحدد له فقط رعاية أموال اليتامى، فيكون الثاني مشاركا للأول في هذا الخاص الذي ذكره الآن، ولا يشاركه في غيره، فصورة المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله تقع إذا كانت الوصيتان فيها عموم، هذه حالة.
والحالة الثانية: أن يكون في الوصيتين خصوص، لكل واحد منهما خصوص موافق، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، ثم يقول للثاني: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، لكن لو قال للأول: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، وقال للثاني: أنت وصيي من بعدي في الحج عني، أو في تقسيم الثلث، فاختلفت الوصيتان، فحينئذ هذا وصي في رعاية الأيتام، وهذا وصي في تنفيذ الثلث، فلا يشتركان.
إذا صورة المسألة: أن يكون لفظه في الوصية الأولى موافقا للفظه في الوصية الثانية، فإن اختلفا، فلا يخلو من حالين: إما أن يكون بينهما عموم وخصوص، فحينئذ يشتركان في الخاص، وينفرد الأول بالعام، وإما أن يفترقا فيكون لكل منهما أمر لا يكون للآخر؛ فحينئذ لا يشتركان، وكل منهما ينفذ وصيته فيما اختص به من الأمور التي أناطها به الموصي.

حكم انفراد أحد الوصيين بتصرف لم يجعل له

قال رحمه الله: [ولا ينفرد أحدهما بتصرف لم يجعله له] .
أي: لم يجعله له الموصي، بمعنى: أن الاثنين يشتركان في الوصية إذا كانت عامة، فلو أراد أحدهما أن يبيع بيتا من بيوته بعد وفاته؛ فنقول له: ليس من حقك أن تبيع البيت حتى يأذن الوصي الثاني، فلا بد من اتفاق كلمة الاثنين على أن المصلحة في البيع حتى يباع، أو يتفقان على أن المصلحة في عدم البيع فيبقى البيت، أو يتفقان على أن المصلحة في تأجير بيوت اليتامى فتؤجر.
إذا: لا بد أن يكون تصرفهما معا، فلو أن أحدهما أجر دون الآخر، وبدون رضاه أو إقراره؛ فإنه لا يصح ذلك، حتى يوافق الآخر؛ لأنه عهد إليهما معا، فلا يصح تصرف أحدهما بدون رضا من الطرف الثاني.

من شروط صحة الوصية أن تكون في تصرف معلوم يملكه الموصي
قال رحمه الله: [ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي؛ كقضاء دينه، وتفرقة ثلثه، والنظر في صغاره] .
قوله: (ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم) هذا هو الشرط الأول، والشرط الثاني: (يملكه الموصي) ؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله، والوصية بالمجهول فيها غرر، ولا يمكن أن تتحقق بها المصلحة، ولا أن تدرأ بها المفسدة، وإذا عهد إليه، فلابد أن يحدد ما عهد إليه، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رد المظالم -الحقوق إلى أصحابها- فتقضي عني الديون، وترد الودائع، والأشياء التي استعرتها، مثال ذلك: شخص له مكانة في قومه، فاستعار من أناس أشياء، أو عنده أمانات وضعها عنده أناس، فقال: هذه أمانة فلان، وهذه أمانة فلان، وهذه أمانة فلان.
كذلك أيضا بينه وبين أشخاص خصومات ومظالم وقعت، فقال: يا فلان: أنت وصيي في رد المظالم والحقوق إلى أهلها، وقضاء ديوني، ورد العواري والودائع إلى أصحابها، فحينئذ تكون الوصية واضحة ومعلومة وبينة.
كذلك أيضا من حقه أن يوصي بهذا الشيء، فيوصي بالحج والعمرة عنه، ويوصي كذلك بولاية مصالح أيتامه؛ لأنه في الأصل هو الذي يطالب بالحج، وفي الأصل هو الذي يطالب بالعمرة، وفي الأصل هو الذي يطالب بالكفارات وبالفدية، فيجوز أن يقوم غيره مقامه؛ لأنه كالوسيط.
لكن لو لم يكن من حقه أن يتصرف في هذا الشيء، فليس من حقه أن يوصي به، فلو أوصى بأن يتصرف في أموال أخيه، فقال له: أنت وصيي من بعدي أن تبيع مزرعة أخي، وليس من حقه هو أن يبيعها، فمن باب أولى أن لا يكون للوصي ذلك.
إذا: يشترط في الشيء الذي يعهد به إلى الوصي أو يوصى به: أن يكون مما للموصي فيه حق التصرف، وعلى هذا فالمرأة ليست بمسئولة عن أيتام، وإنما ولاية النظر لمن أقامه أبوهم أو أقامه الحاكم والقاضي للنظر في مصالحهم، فهي لا تلي أمورهم بالأصل، فمن باب أولى أن لا تقيم غيرها مقامها.
قال رحمه الله: [كقضاء دينه] .
وذلك كأن يقول له: فلان له علي مائة ألف، وفلان له علي خمسون، وفلان له علي كذا، وفلان أخذت منه سيارة، ورد الودائع والعواري والأمانات؛ فكل هذه أمور خاصة ومعلومة.
قال رحمه الله: [وتفرقة ثلثه] .
وكذلك تفرقة الثلث، كأن يقول له: ثلث مالي اجعله صدقة على الفقراء، أو نصف الثلث يكون صدقة للفقراء، والنصف الثاني يكون في سبيل الله، ويقوم فلان بصرف هذا الثلث، والقيام عليه، فحينئذ يكون هذا الوسيط مطالبا بتنفيذ ما ذكره الميت والموصي في وصيته من تخصيص نصف الثلث للفقراء والمحتاجين، والنصف الثاني يصرفه في سبيل الله، على الشرط الذي اشترطه الميت والموصي.
قال رحمه الله: [والنظر لصغاره] .
أي: يقوم على أموالهم فينظر فيها، والنظر في الأيتام: إطعامهم بالمعروف، وكسوتهم بالمعروف، وإذا احتاجوا إلى دواء أو علاج قام بعلاجهم، وإذا احتاجوا إلى سيارة تنقلهم؛ استأجر من ينقلهم، أو اشترى لهم سيارة، واستخدم أو استأجر من يقوم بنقلهم، وإذا احتاجوا لشراء أرض أو بيت يؤويهم ويسكنون فيه يقوم هو بشراء البيت، ويبحث لهم عن سكن، وينظر في الأصلح، هل يشتري سكنا غاليا أو وسطا أو أدنى.
هذا كله أسند إليه النظر فيه، فهو مسئول أمام الله عز وجل عنهم، فينزل نفسه منزلة والدهم، شفقة، وإحسانا، وبرا، فيعطف عليهم، ويقوم برعاية مصالحهم؛ لأنه من أعظم الأشياء أن شخصا ينزله كمنزلته في النظر لأولاده، وهذا أمر ليس بالهين، وثقته ليست باليسيرة.
فالعبد المؤمن يخاف من الله عز وجل، ويتقي الله سبحانه وتعالى في هذه الأمانة، وينصح ويحس أن هؤلاء الأيتام كأنهم أولاد له، فيحسن النظر فيهم، ولذلك ضرب السلف الصالح والفضلاء والصلحاء المثل السامي في حسن النظر للأيتام، ورعايتهم الأيتام الذين عهدوا إليهم برعايتهم، حتى جاء في بعض القصص أنه كان بعض الصالحين يقوم على رعاية أيتام أخيه أكثر من رعايته لأولاده، مع أنه لا يضيع حقوق أولاده، لكنه يشفق عليهم الشفقة ويرحمهم الرحمة التي بلغت الأوج والكمال في حسن النظر والتفقد، حتى أثر عن بعضهم أنه كان إذا زار أختا له وعندها أيتام، يتحرج حتى من أكل ضيافتها، خشية أن يكون آكلا لمال اليتيم، وهذا كله من الورع والخوف من الله عز وجل؛ لأن حقوق الناس أمرها عظيم، فالذنب الذي بين العبد وبين ربه، لو استغفر ربه غفر له، لكن حقوق الناس لابد فيها من القصاص، فلا يمكن أن تزول قدماه حتى يقتص منه؛ فيؤدي الذي عليه ويأخذ الذي له.
{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء:47] ، وقال تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256] ، فيأتي بها الله جل جلاله الذي هو أحكم الحاكمين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، فإذا كانت لليتيم فأمرها عظيم، وإذا كانت على وجه الأمانة فأمرها أعظم؛ لأن الإنسان إذا أقيم على أيتام وعلى وصية، وقال له الميت: إني قد عهدت إليك بكذا وكذا، ووافق وقبل، فإن عليه أن يفي بهذا العهد الذي بينه وبين أخيه المسلم أو قريبه.
فإذا كانت من القريب فعهدها أعظم، فالواجب حينئذ أن يحسن النظر في مصالح هؤلاء الأيتام، والنظر في مصالحهم يشمل: إطعامهم، وكسوتهم، وإيواءهم، ونقلهم، ونحو ذلك من المصالح، فلو ترك لهم والدهم سيولة من المال، ورأى الموصى إليه أن هذا المال لو بقي لأكلته الزكاة، فرأى من المصلحة أن يشتري لهم أراضي، أو يشتري لهم عمائر، أو يستثمر المال ويتاجر فيه، فقد أحسن النظر في مصالحهم.


ابوالوليد المسلم 14-05-2025 10:45 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكله الصدقة) ، فدل هذا على أنه ينبغي للولي والوصي أن يحسن النظر في شئون الأيتام، فيحقق المصالح المطلوبة، ويدرأ المفاسد التي يخشى منها، فلو وجد مثلا أنه ترك لهم أرضين، والسوق يخشى أن يكسد، فخاف من كساده، فليبادر ببيعها، وإذا كان هناك أشياء تركها لليتامى يخشى منها الضرر، كأن يكونوا في مكان بعيد عن المدينة، وفيه ضرر عليهم، ويخشى عليهم، قربهم إذا خشي على أعراضهم، وأبعدهم عن الأماكن التي فيها فساد وتأثير على أخلاقهم.
المهم أنه ينصح لأخيه المسلم في ذريته من بعده، ومن كفل اليتيم وأحسن الرعاية له، كان له عند الله حسن الجزاء، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) ، وكان بعض العلماء يقول: (ما رأيت أحدا وفى بمسلم في أيتامه إلا أحسن الله له العاقبة في ولده) ، فما رأى إلا خيرا، وجعل الله له قرة العين، وبهجة النفس وسرورها في ولده {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن:60] ، وما ينتظره عند الله أعظم وأكبر، فلا شك أن القيام على الوصايا وحسن الرعاية لها وحسن النظر فيها، من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل.
حكم وصية الموصي فيما لا يملكه
قال رحمه الله: [ولا تصح بما لا يملكه الموصي، كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر، ونحو ذلك] .
لأن هذا ليس إليها، وإنما لمن ولاه والدهم؛ لأنه حق متعلق بالعصبة، وهم الذين ينظرون في مصلحة هؤلاء الأيتام.
لا يجوز للموصى إليه التصرف إلا فيما أوصي إليه
قال رحمه الله: [ومن وصي في شيء لم يصر وصيا في غيره] .
لأن الوصية اختصت بذلك الشيء، فلا تنصرف إلى غيره، فلو قال له: أوصيت إليك برعاية أيتامي، فلا يقم بتفريق الثلث، ولو قال له: بتفريق الثلث، فلا يقم برعاية الأيتام، وليس له دخل في موضوع اليتامى.
إذا: تتقيد الوصية إن قيدها الموصي، وتكون مطلقة إن أطلقها.

عدم ضمان الوصي ما ظهر من الحقوق بعد تفرقة الوصية
قال رحمه الله: [وإن ظهر على الميت دين يستغرقه بعد تفرقة الوصي لم يضمن] .
قوله: (بعد تفرقة الوصي) أي: للمال، وصورة المسألة: لو كان الدين مائة ألف، وترك تسعين ألفا أو ترك مائة ألف، ولكن هذا الدين لم يكونوا عالمين به، وقام الموصى إليه بتفريق الثلث كما أمره الموصي، وأخذ الثلثين وقضى بهما، حينئذ يرد سؤال هو: لو ظهر هذا الدين فهل يطالب باسترداد الثلث؟ لأنه هو الذي فرقه، وهو الذي صرفه.
نقول: لا يضمن؛ لأنه عهد إليه بتفريقه، فقام بالتفريق، فالضمان يكون على الميت وليس على الموصى إليه؛ لأن الموصى إليه نفذ ما أمره به الموصي؛ ولم يتعد، واليد التي قامت بتفريق هذا الثلث يد مأذون لها شرعا بهذا التفريق، فيتحمل المسئولية الميت وهو الموصي، وتكون هذه الديون باقية لسدادها، ويتحمل الورثة سداد الدين على الأصل الذي تقدمت الإشارة إليه في سداد الدين.
تصرف الوصي في الثلث إذا خول في التصرف فيه
قال رحمه الله: [وإن قال: ضع ثلثي حيث شئت، لم يحل له ولا لولده] .
هذه المسألة فيها خلاف عند العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا قال له: ضعه حيث شئت، فهو يضعه حيث شاء.
فلو وضعه في جيبه، فقد شاء أن يضعه في جيبه، حيث جعل له الخيار المطلق، وهذا لفظ الرجل وكلامه، فينفذ هذا القول، ومن حقه لو أخذها لنفسه إن كان محتاجا، أو رأى أنه أقرب الناس منه فأخذ هذا المال، فإنه يكون له ذلك.
وقال بعض العلماء: إذا قال له: ضعه حيث شئت، فمن حقه أن يصرفه لولده، لكن لا ينتفع هو لنفسه، وقد أورد هذين القولين الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني احتمالا، أي: ما يحتمله هو، وقال: إنه يعطي أولاده ولا يأخذ هو؛ لأنه جعله مفرقا للمال ولم يجعله آخذا؛ لأنه قال له: ضعه؛ فحينئذ فهمنا من هذا أنه موكل بتفريق المال، وليس موكلا بأخذه.
ومن أهل العلم من قال: لا يأخذ هو ولا أولاده، حتى ولو ذكر صفة تنطبق عليه، بحيث لو قال: ضع ثلثي للفقراء -صدقة للفقراء- وخذ هذا الثلث ووزعه للفقراء والمحتاجين، وهو فقير ومحتاج، قالوا: لا يأخذ لا هو ولا ولده، مع أن الصفة موجودة فيه، والحقيقة أن الإمام ابن قدامة أشار في هذه المسألة إلى احتمالات جيدة، منها: أنه ينظر إلى دلائل الحال والقرائن التي يفهم منها أنه قصد أن يقوم بالتفريق، فلا يأخذ هو، ولكن من حقه أن يعطي قرابته بدون محاباة.
ثانيا: أن تكون هناك قرائن تدل على أنه فوضه، إلى درجة أنه لو أراد أن يأخذ فإنه يأخذ، والأورع أن لا يأخذ، وأن يجتنب هذا، ومن ذلك: مسألة التوكيل في الزكاة، كأن يقول له: خذ هذه المائة ألف واصرفها للمساكين والفقراء، ففي هذه المسألة لا شك أنه ليس من حقه أن يأخذ؛ لأنه قال له: خذ هذه المائة واصرفها على للفقراء والمساكين، فلا يشك في أنه وكيل، والزكاة عبادة صرفت؛ لأن صاحبها نوى أن تصرف للفقراء والمساكين من غيره؛ لأنه قال له: اصرفها للفقراء والمساكين، واللام للتخصص، ولو قصده لقال له: خذ منها؛ لأنه يعلم أنه فقير، أو قال له: خذ منها أنت والفقراء والمساكين، لكن عندما لم يصرح بذلك فهمنا من ذلك أنه وكيل بالصرف، وليس له استحقاق، ففي هذه الحالة لا يجوز للذين يقومون بتوزيع أموال الزكاة أن يأخذوا منها.
ومن العجيب أن بعضهم يقول: إنهم من العاملين عليها، وهذا خطأ واضح؛ لأن العامل على الزكاة في جلبها لا في تفريقها، العامل على الزكاة إنما يكون في جلبها، وهم السعاة الذين كان يبعثهم الإمام لأخذ زكاة الإبل والبقر ونحوها من بهيمة الأنعام، وزكاة الحبوب والثمار والخارج من الأرض، فهؤلاء يأخذون على التفصيل الذي تقدم معنا في كتاب الزكاة، أما الذي يفرق الزكاة ليس له من حق، وقد نص الجمهور رحمهم الله على هذا، فأمثال هؤلاء موكلون بالتفريق، وليس لهم يد على المال أن يأخذوا منه، فعليهم أن يتقوا الله عز وجل.
ومن هنا تأتي المسألة في استثمار أموال الصدقات، واستثمار أموال الزكوات، ففي بعض الأحيان تكون الأموال لجهة خيرية، فالذين أعطوا المال للجهة الخيرية، لم يعطوه وكالة أن يتاجروا في هذا المال، وإنما أعطوهم المال وكالة في إعطائه للمحتاجين، وحينئذ ليس من حقه أن يبيع أو يشتري بهذا المال، ولو لمصلحة المحتاج؛ لأنه لم يوكله رب المال ولم يوكله المحتاج.
فحينئذ لا يصح في الأموال التي توضع في الصدقات إلا إذا استؤذن أصحابها، فيقال لهم: هذه صدقة مستثمرة، فالذي يقترح على الجمعيات الخيرية وعلى جمعيات البر ونحوها، أنها إذا أرادت أن تستثمر الأموال في الأسواق الخيرية أن تضع بندا خاصا، وتقول: صدقة مستثمرة، إذا وضعت هذا فكل من يضع يعلم أن الصدقة ستستثمر، ثم إن الشخص الذي يضع المال وقصده أن يصل إلى الفقير وإلى المحتاج، فمراده أن يصل على أسرع ما يمكن؛ لأن هذه هي النصيحة؛ لأن الصدقة إذا وصلت إلى المحتاج، نماها الله عز وجل لصاحبها منذ أن تصل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يتلقى الصدقة بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها لعبده ويربيها له كما يربي أحدكم فلوه) ، والفلو: هو صغير الخيل، كما ثبت في صحيح مسلم.
فهذا الحديث يدل على أن الوكيل الذي يوكل بصرف الأموال لا ينبغي له أن يتأخر فيها، ولا ينبغي له أيضا أن يصرفها كمعاشات أو نحوها لشخص يقوم بصرفها؛ لأنه في الأصل وكل بصرفها، ولم يوكل بإعطائها إلى شخص غير المحتاج وغير المسكين.
وهذا أمر واضح وبين، ولذلك ينبغي على كل من يلي أمثال هذه الصدقات أن يتقي الله عز وجل، وأن يرجع إلى العلماء، وأن يستبين من أمره، وأن لا يجتهد من عند نفسه، فيتقحم النار على بصيرة -نسأل الله السلامة والعافية- بل عليه أن يتقي الله في هذه الأمانة، وأن يحسن القيام فيها؛ فمن وكله بالصرف يصرفه، ومن وكله باستثمار أمواله يستثمرها بالمعروف، على الوجه المعتبر فيها شرعا.

من يتولى تركة الميت إذا لم يوجد حاكم ولا وصي
قال رحمه الله: [ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي، جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته، وعمل الأصلح حينئذ فيها من بيع وغيره] .
هذه المسألة تشتهر الآن في أماكن الأقليات، حيث يكون في بلد فيه مجموعة من المسلمين، وليس هناك قاض ولا حاكم مسلم، ولم يعهد هذا الميت بأيتامه إلى أحد ولم يوص، فحينئذ من يتولى؟ ننظر، فإذا كان هناك إمام يصلي بهم، أو طالب علم، وعنده علم ومعرفة بمثل هذا، فهو الذي تناط به مصالح أمثال هؤلاء؛ إذا كان طالب علم، وعنده معرفة بالأحكام الشرعية، وكان أهلا لولاية أمره، فيلي أمورهم في مثل هذا: ففي النكاح يزوجهم، وكذلك في أمور المصالح التي تقع أو الخصومات التي تقع بينهم، إذا كان عنده من العلم ما يؤهله لذلك؛ وإلا رجعوا إلى العلماء فاستفتوهم.
أما بالنسبة للنظر في ماله، فإنه يليه أي واحد من المسلمين ممن يعلم حاله، ويمكنه أن يقوم بمصالحه من بعده، فأي واحد من إخوانه المسلمين يلي ذلك، وهذا من فروض الكفايات، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، أما إذا وجد قاض، فإنه يعهد إليه، قال صلى الله عليه وسلم: (فالسلطان ولي من لا ولي له) .
وبعد هذا الباب يأتي كتاب الفرائض، ويغلب عليه -بطبيعته- المسائل الحسابية، وقد جرت العادة في قراءة المتون الفقهية -بالنسبة إلي- أن أفرد كتاب الفرائض بدراسة مستقلة.
وعليه: فنرجئ شرح هذا الكتاب -كتاب الفرائض- حتى ننتهي من المتن إن شاء الله.
نسأل الله عز وجل أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم.
والله تعالى أعلم.
الأسئلة




هل يعتبر الوصي وليا للمرأة في تزويجها

السؤال إذا أوصى الميت إلى شخص بأن يلي اختيار الأزواج لبناته، فهل يعتبر هذا الوصي وليا للمرأة دون إخوتها؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل وصي الأب ينزل منزلة الأب، ويقدم على بقية العصبة، الذين لهم حق في الولاية؟ فمن أهل العلم من جعل الفرع تابعا لأصله، وقال: هذا وصي الأب؛ فينزل منزلة الأب، ومن أهل العلم من قال: إن الولاية في النكاح على مراتب.
فإذا توفي الأب، انتقلت من بعده إلى ابنه، فحينئذ يلي أمر الولاية على هؤلاء النسوة ابنه، الذي هو أخوهن، وقال بعض العلماء: إنه يلي الجد من بعد الوالد، ثم من بعد ذلك تكون الولاية لابن المرأة التي يراد تزويجها إذا كانت مزوجة من قبل، أو يليها أخوها؛ لأن بعد درجة البنوة: الأخوة، وهم الإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب فقط، وهم الإخوة الذين هم عصبة المرأة التي يراد زواجها.
ومن أهل العلم من فرق بين كون المرأة دون البلوغ -صغيرة- فينزل الوصي منزلة الأب، وبين أن تكون كبيرة؛ فحينئذ يكون الولي هو الجد من بعد الأب، ولا يقدم عليه وصي الأب.
لكن مثل هذه المسائل الأفضل ردها إلى القضاء، والقاضي يعمل بما يترجح عنده فيها، ونظرا لكونها تترتب عليها أمور مهمة، خاصة في هذا الزمان، فترد إلى القضاء، فإن شاء القاضي نزل وصي الأب منزلة الأب، وإن شاء قدم غيره من العصبة ممن هم أحق.
والله تعالى أعلم.

صيغ الإجماع
السؤال أشرتم إلى قول صاحب الشرط السديد أنه قال: (لا تصح الوصية للكافر بلا خلاف) ، فهل قوله: (بلا خلاف) تدل على الإجماع، وما الفرق بين قوله: (اتفق) و (أجمع) ؟
الجواب هذه مسألة أصولية، تعرف عند العلماء رحمهم الله بمسألة: (صيغ الإجماع) ، وصيغ الإجماع تنقسم إلى قسمين: القسم الأول يسميه العلماء: الصيغ الصريحة، وهي أقوى صيغ الإجماع، وهي صيغة: (أجمعوا) ، و (أجمع أهل العلم) ، و (أجمعوا واتفقوا) ، و (اتفق أهل العلم) ، و (اتفق العلماء) ، فهاتان الصيغتان: (أجمعوا) و (اتفقوا) تعتبر من صيغ الإجماع القوية النصية، التي لا احتمال فيها، وبعض العلماء يقول: إن (أجمعوا) غير (اتفقوا) ، فاتفقوا: للأئمة الأربعة، وأجمعوا: للجميع، وهذا باطل، والمعروف عند العلماء أن صيغة (اتفقوا) من صيغ الإجماع كصيغة (أجمعوا) ، لكن قد يكون هناك مصطلح خاص لبعض العلماء، فيذكر في كتابه (اتفقوا) للأئمة الأربعة، ويذكر (أجمعوا) لإجماع العلماء والأئمة، إذا كان هذا فهذا مصطلح خاص، لكن المعروف عند العلماء أن (اتفقوا) من صيغ الإجماع الصريحة والقوية كـ (أجمعوا) .
أما بالنسبة للصيغ الضعيفة والصيغ المشتملة فمثل: (لا خلاف) ، (بغير خلاف) ، (لا نعلم خلافا) ، (لا نعلم مخالفا) ، فهذه صيغ مشتملة، فقوله: (بغير خلاف نعلمه) أضعف من قوله: (بغير خلاف) ؛ لأنه إذا قال: (بغير خلاف) فهي أقوى من قوله: (بغير خلاف أعلمه) أو (بغير خلاف نعلمه) ؛ لأنه ربما كان بحثه في المسألة فيه قصور، وحينئذ قد يوجد مخالف، لكنه لم يطلع على ذلك المخالف، أما إذا جزم وقال: (بغير خلاف) فهذه أقوى من تقييده بالعلم، هذا هو المعروف عند العلماء رحمهم الله.
والنوع الأول من الصيغ: هو الذي يحكى به الإجماع، وإذا قيل: (بغير خلاف) فإنه معتبر، خاصة إذا كانت كلمة (بغير خلاف) من علماء وأئمة عرفوا بتتبع أقوال العلماء رحمهم الله، فمثلا: إذا قال شيخ الإسلام: (بغير خلاف) ، فالغالب أن مثل هذا يقارب الإجماع، إن لم يكن إجماعا؛ لأن شيخ الإسلام رحمه الله كان عنده سعة واطلاع كبير في العلم، حتى إنه نقد (مراتب الإجماع) للإمام ابن حزم، ولذلك لما ناظره العلماء في مسألة من مسائل أهل البدع، قال له: والله ما من بدعة في الإسلام إلا وأنا أعلم أول من قالها، ومتى قالها، وما هي شبهته في قولها.
وهذا من سعة علمه رحمه الله واطلاعه على أقوال الأئمة والسلف، رحمه الله برحمته الواسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

حكم من جاوز الميقات دون أن يحرم منه
السؤال قدمت وعائلتي من الرياض بالطائرة بنية العمرة ولم أحرم، فهل يجوز لي أن أحرم من هذا المسجد، أم أرجع إلى ميقاتي؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فلا يجوز للمسلم أن يمر بالميقات ولم يرحم منه، ولا يحرم، وفي نيته النسك؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة) .
فأوجب عليه الصلاة والسلام على من مر بهذه المواقيت، وعنده نية للحج، أو عنده نية للعمرة، أو هما معا كالقارن، أن يحرم منها، فعلى المسلم أن يطيع الله ويطيع رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يأتمر بأمر الله؛ لأنه قال: (هن لهن) ، وهذه صيغة إلزام، أي أنها لازمة لمن مر بها بنية النسك، فلا يجوز له أن يترك الإحرام، فعليك أخي أن ترجع إلى ميقاتك فتحرم منه، وهو ميقات السيل إن كنت قادما من جهة الرياض، مع التوبة والاستغفار، والله تعالى أعلم.

حكم الإفطار في قضاء رمضان
السؤال من كان عليه قضاء من رمضان، وعين يوما يصوم فيه هذا القضاء، فهل يحرم عليه أن يفطر في ذلك اليوم، أم له أن يفطر ويصوم يوما غيره؟
الجواب هذا السؤال فيه تفصيل: فإذا عين اليوم وقال: غدا أصومه قضاء عن رمضان، ولم يدخل فيه بالعبادة -أعني عبادة الصوم بالإمساك- فإنه لا يلزم، وله أن ينتقل إلى يوم ثان، فتعيين يوم للقضاء أو يومين أو ثلاثة، أو كان قال: الأسبوع القادم أصومه قضاء، أو تقول المرأة: أصومه قضاء لعادتي، فلا يلزم صيامه إذا لم يدخل فيه بالصوم، أما إذا دخل فيه بالصوم فإن الله يقول: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، فجعل الأيام الأخر منزلة منزلة رمضان، ولا شك أنها إذا نزلت منزلة رمضان لم يجز الإفطار فيها، كما لا يجوز الإفطار في رمضان، وعلى هذا يفرق بالتعيين بين أن يريد الإفطار في ذلك اليوم قبل أن يشرع في صيامه، وبين أن يريد الإفطار وقد شرع في صيامه، والقاعدة: أن القضاء يأخذ حكم الأداء، فلما كان لا يجوز له في الأداء -أي: في صيام رمضان- أن يفطر بدون عذر، فكذلك في قضائه لا يجوز له أن يفطر بدون عذر، والله تعالى أعلم.
نصيحة للأزواج في التوفيق بين مشاغلهم الدينية وبين القيام بحقوق زوجاتهم
السؤال أحيانا تتضجر الزوجة حين ترى انشغال زوجها بطلب العلم، وكثرة الانصراف إلى العبادة، ويتهم بالتقصير في حق الأهل، فما الضابط في تقسيم الوقت لهذه الحقوق؟
الجواب الله المستعان! الفتوى ليست بالهينة، ووضع ضابط في المسائل هذا أمر ليس بالهين، وينبغي أن يشفق السائل في الفتوى على من يستفتيه من أنا حتى أضع للناس برنامجا أو ضابطا يوفق فيه بين طلبه للعلم وحقوق زوجته؟ فهذا أمر ليس بالسهل، فأقول: لا يمكن الإجابة على هذا السؤال، وأبرأ إلى الله، فما أستطيع أن أتحمل مسئولية وضع الضابط وأقول: إنه ضابط شرعي، وينسب إلى الشرع بقولنا، ولذلك كثرت الاجتهادات في هذا الزمان في وضع الضوابط والقيود، والأولى أن يقال: مثلا: بماذا تنصح الزوج؟ وبماذا تنصح الزوجة؟ فنقول: إن الله عز وجل شرع لعباده القيام بحقوق الزوجية، وإذا اتقى العبد ربه، جعل الله له من أمره يسرا، وجعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا.
فنوصي الزوجة أولا أن تتقي الله في نفسها، وأن تتقي الله في زوجها، وأن تحمد الله جل جلاله على العافية، خاصة في هذا الزمان، فكم من امرأة تقرح قلبها ودمعت عينها على هلاك بيتها في الفتن والمحن التي لا يعلمها إلا الله عز وجل.
وكم من امرأة تمسي وتصبح مع زوج تنال معه الشقاء والعناء في جحيم الخمور والمسكرات، والمصائب والتبعات التي تأتي من الشرور التي لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله.
فلتحمد الله على العافية، يوم جعل بيتها تلهج فيه الألسن بذكر الله، وتشكر الله عز وجل يوم شرفها وفضلها بخدمة من يخدم المسلمين، ورعاية من يحسن إلى عباد الله، فأمثال هؤلاء يعظم الأجر فيهم، ويعظم الثواب من الله عز وجل لمن احتسب في معونتهم على ما هم فيه والله ما من إمام ولا داعية ينصح لله ولكتابه، ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولأئمته، فيعينه أحد في دعوته إلا آجره الله جل جلاله، وأعظم ثوابه.
ووالله ما وجدنا في صحبة العلماء ورفقة طلاب العلم إلا خير الدين والدنيا والآخرة، هذا ما نشهد به، وهذا ما رأيناه من البذل الكريم الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.
فعلى المرأة المؤمنة أن تحمد الله جل جلاله، وأعظم ما يكون من العبد في حق ربه كفره بنعمة الله، وكم من امرأة تتمنى أن ترى زوجها مصليا، فضلا عن أن يكون داعية إلى الله، كم من امرأة تتمنى أن تسمع من زوجها ذكرا لله في بيتها، وكم من نساء تتشوق قلوبهن لرؤية الخير والبر في أزواجهن، فلتحمد الله على العافية، ولتعلم أن الشهوة واللذة متاع قليل، ظل زائل ومتاع حائل، لذة ساعة وبعدها تعب الدهر، فعليها أن تقدم آخرتها على دنياها، وأن تحتسب عند الله عز وجل.
والزوج إذا كان مقصرا بسبب الحقوق والواجبات، ووجدته زوجته قائما برعاية المسلمين وعنايتهم، ووجدت عليه مسئوليات وأمانات في الفتوى وفي التدريس وفي التعليم، فوقفت بجواره، واستعانت بربها، وصبرت واصطبرت، ورابطت في الله جل جلاله، فسيريها الله حسن العاقبة فيما كان منها من صالح العمل، ولا تبالي حتى ولو وجدت زوجها فظا غليظا، أو غافلا عن بعض حقوقهم.
ووالله إنك لتصحب العالم وتكون بجواره وتحسن إليه وتخدمه، فيفعل حتى عن أن يقول لك كلمة طيبة، بسبب الهم الذي هو فيه، وبسبب الضغط النفسي، وتصور أخي لو أنك تريد أن تلقي كلمة أمام ثلاثة أو أربعة من رفقتك، فسوف يتشتت ذهنك، ويصعب عليك الأمر، وتحمل الهم في قلبك، فكيف بمن يواجه الأمة، يواجههم وهو يبين الحلال والحرام، مسئول أمام الله عز وجل، ومسئول أمام خلقه، فربما زل بكلمة واحدة تشيب لها الرءوس، قيل لـ هشام بن عبد الملك: عاد لك الشيب؟ قال: ما لي لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس كل أسبوع مرة! لأنه يقف في المنبر ويخطب، وقيل لآخر من خلفاء بني أمية: عاد لك الشيب؟ قال: شيبتني المنابر.
يعني مواجهة الناس، ومواجهة الناس ليست بالهينة؛ فأنت تواجه الحليم، وتواجه العاقل والعالم، وتواجه من هو أعلم منك، ومن هو مثلك ومن هو دونك، وتواجه من يحبك ويجلك ويكرمك، وتواجه من يكرهك ويحسدك.
إذا: فهذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، فقد جعل بعض الناس لبعضهم فتنة حيث تواجه أمورا لا يعلمها إلا الله، فهذا الداعية يحتاج إلى من يعينه، وإلى من يوفقه، ووالله إن كان بعض طلاب العلم ليشفق على أن يشوش عليه حتى في درسه، وفي بعض الأحيان لا يستطيع أن يتحرك الحركة، حتى لا يشعره أنه تذمر منه، وفي بعض الأحيان تجد طالب العلم يجلس مع عالمه الساعات الطويلة، ولا يستطيع أن يري الملل لشيخه وأستاذه، يخاف أنه لو رأى شيخه منه الملل؛ لسأم من تعليم طلاب العلم من بعده.
فالمعاملة مع العلماء والدعاة والخطباء ومن يتحمل مسئولية الدعوة صعبة جدا؛ لكن من كان عنه قلب حي وضمير حي أولا: يخلص لوجه الله عز وجل، ويحتسب الثواب عند الله سبحانه وتعالى، فإذا كان عنده هذا القلب الحي والإخلاص؛ فسيفتح الله عليه، وينزل نفسه منزلة هذا العالم ومنزلة هذا الداعية، فالمرأة تنزل نفسها منزلة زوجها، فلو أنها تقارع هذا الأمر وهي في بيتها مع أولادها وأطفالها، ولا تستطيع أن تتحمل وهم أطفالها، ولربما سبت وشتمت في ساعة الضيق، فكيف بمن يتحمل هموم الأمة؟! وكيف بمن يتحمل هموم طلابه وخاصته؟! فتجده يحمل الهم في تعليمه: كيف يكون هذا التعليم؟ ثم يحمل هما في الكلمات التي يقولها، والعبارات التي يبينها، وربما دخلت الدواخل من العبارات، وفسرت على غير ظاهرها، ثم يحمل الهم في المناقشات والأسئلة والتبعات، وعندها تدرك إدراكا يقينيا -لا شك فيه ولا مرية- أن هذا العلم تكل أمره كله إلى الله والله لا بقولنا ولا بقوتنا ولا بذكائنا، ولكن الله جل جلاله هو الذي تولى الأمور كلها.
ولقد نسمع من العلماء والأئمة والخطباء والمعلمين ما يثير الدهشة والعجب والاستغراب يقول الإمام: إني أدخل ولا أعي ما أقول من شدة ما أجد من المرض والعناء في قيام رمضان.
وحدثني غير واحد من الأئمة الفضلاء رحمهم الله من المشايخ يقول: والله إني أدخل وأنا أحتاج إلى من يحملني إلى المحراب، فما أن أقف وأكبر إلا وفتح الله من معونته ما لم يخطر لي على بال، فإذا بالصدر ينشرح، وإذا بالنفس تبتهج، وإذا باللسان ينطلق، يقول: قبل الصلاة كأن لساني معقود، وما أستطيع أن أتكلم بكلمة، ولكن {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} [الفرقان:58] ، كيف وهم على ثغور الإسلام!! كيف وهم ينفعون الأمة!! كيف وهم ينصحون لدين الله عز وجل!! وإذا لم يعن الله هؤلاء فمن يعين؟! فأمثال هؤلاء لهم عند الله معين، ولهم من الله ظهير، فإن قصرت المرأة وابتعدت عن هذا فخذلته، فإن الله ينصره ويعينه، وسيجعل الله عز وجل ويهيئ من هو أصلح من هذه المعونة بالمعية، ولذلك أوصي المرأة أن تعينه والله سوف يعينها.
لكن مع هذا أوصي الزوج أن يتقي الله في حقوق زوجته، وأن يكون الأئمة والخطباء وطلاب العلم قدوة لغيرهم، وإذا عجزت عن القيام ببعض الحقوق، فلا تفوتك الكلمة الطيبة إن الذي يجرح النساء المؤمنات ويؤثر عليهن أنهن لا يسمعن كلمة طيبة، لكن قد يكون بعض المشايخ لا يمدح الطلاب، ولا يثني على من يخدمه، والله يعلم أنه يريد له الأجر أكثر، ويريد له الثواب أعظم، وثق ثقة تامة أنك لن تكون سعيدا في هذه الحياة إلا إذا وطنت نفسك دائما على أن لا تنتظر شكرا من أحد إلا من الله، الذي يشكر الأعمال الصالحة، سبحانه وتعالى.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب الفضل بين الله والناس فلا يذهب المعروف عند الله، فالمعروف لا ينسى، والخير لا يبلى، والحسنة لا تنسى، فالله لا يضيع من عبده من الحسنات مثقال خردلة وأقل من ذلك، فوطن نفسك دائما إذا كنت في معاملتك مع الناس الخاصة والعامة، حتى ولو كنت برا بوالدك، فلا تنتظر من والدك كلمة شكر، وقد كان بعض البارين يتمنى أن لا يشكره والده، حتى يكون أجره عند الله أعظم، وثوابه عند الله أجل.
وجماع الخير كله أن نتواصى بأداء الحقوق والواجبات، فإن المرأة في هذا الزمان تتعرض لفتن كثيرة،؛ خاصة إذا خرجت، فيحرص الزوج على إعفاف أهله والإحسان إليهم.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأسأله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.






ابوالوليد المسلم 14-05-2025 10:50 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (412)

صـــــ(1) إلى صــ(7)




شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [1]
النكاح عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، فقد جاء الحث عليه في الكتاب والسنة، ليعصم الإنسان نفسه من الوقوع في الزنا الذي جاء في الشرع التحذير منه بشدة، والعمل بالأسباب التي تعين على الوقاية منه.
والزواج يكون به تكثير سواد المسلمين، ويوجب ارتباط بعضهم ببعض، وهذا من مقاصد الشريعة في الزواج.

مشروعية النكاح وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب النكاح] .
النكاح في اللغة: يطلق بمعنى الجمع والضم، ومنه قول العرب: تناكحت الأشجار إذا اجتمعت ودخل بعضها في بعض، والمناسبة من هذا المعنى اللغوي ظاهرة؛ لأن النكاح يقوم على الاستمتاع الموجب لاجتماع الزوجين وارتباط كل منهما بالآخر.
وأما في اصطلاح الشرع، فإن معنى النكاح اختلفت عبارات العلماء رحمهم الله فيه، ومن أنسب ما عرف به النكاح: أنه عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، وبناء على هذا فقول العلماء: (عقد) المراد به الإيجاب والقبول، والإيجاب أن يقول ولي المرأة مخاطبا الزوج: زوجتك بنتي فلانة، والقبول أن يقول الزوج: قبلت، أو قبلت نكاح فلانة.
وقولهم رحمهم الله: (عقد يفيد) الفائدة: ما يعود من الشيء، ومعنى ذلك: أن عقد النكاح ينشأ عنه ويترتب عليه حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر.
وقولهم رحمهم الله: (حل استمتاع) لأن الأصل أنه لا يجوز للرجل أن يستمتع إلا بما أحل الله أن يستمتع به من المرأة المنكوحة أو ملك اليمين.
قولهم: (حل استمتاع كل من الزوجين) الاستمتاع من المتعة، والمتعة تشمل الشيء الذي فيه اللذة سواء كانت متعلقة بالبصر أو متعلقة بالجوارح الأخر، وقولهم: (استمتاع) يشمل جميع أنواع الاستمتاع التي هي المقدمات من التقبيل ونحوه، وغاية المتعة من الجماع، فالكل أحله الله عز وجل للزوج، ولذلك قال الله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة:187] ، فهذا العقد الشرعي والرباط الذي أذن الله به للزوجين يفيد حل استمتاع كل منهما بالآخر، فالمرأة تستمتع بالرجل والرجل يستمتع بالمرأة.
وهذا النوع من العقود دل على مشروعيته دليل الكتاب والسنة والإجماع.
أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3] فندب الله عباده إليه، ودلت الآية الكريمة على أن النكاح مأذون به شرعا، وقال سبحانه: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} [النور:32] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ، فقوله: (فليتزوج) أصل يدل على مشروعية النكاح والإذن به، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وغيره: (تزوجوا الودود الولود فإني مفاخر بكم الأمم) ، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل النكاح فتزوج عليه الصلاة والسلام، وأقر الصحابة على الزواج فاجتمعت دلالة السنة قولا وفعلا وتقريرا.
وأما بالنسبة للإجماع: فقد أجمعت الأمة على مشروعية النكاح وحله وجوازه، ولا خلاف بينهم بحمد الله في ذلك، وأما الحكمة أو الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا العقد الشرعي، فإن الله تعالى شرع النكاح وجعل في شرعيته تكثير سواد الأمة وإبقاء النسل البشري، فعن طريق النكاح يتكاثر الناس ويتناسلون بالذريات والأولاد والأحفاد، فيبقى النسل ولا ينقطع، وبقاء النسل عمارة للكون بطاعة الله عز وجل كما لا يخفى.
كذلك في النكاح إعفاف للرجل وإعفاف للمرأة عن ما حرم الله، وصيانة لهما عن الزنا ونحوه من المحرمات، فشرع النكاح لهذه الحكم العظيمة، وتتبعها آثار هي حكم جليلة؛ منها: أن الناس يتواصلون وتحدث بينهم الألفة والمحبة والصفاء والنقاء، وهذا يقوي أواصر الإسلام، ويوجب ارتباط المسلمين بعضهم ببعض، فإن الرجل يتزوج فيغرب في نكاحه، فيتزوج امرأة من قبيلة غير قبيلته أو امرأة من مصر غير مصره، وحينئذ يتعلق المسلم بأرحام له في ذلك البلد، ويتعلق أهل ذلك البلد بأرحام لهم في بلد آخر، فترتبط جماعة المسلمين وتحصل بالنكاح أواصر المحبة والألفة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط -يعني مصر- فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم رحما) .
فالمقصود: أن هذا الرحم يوجب الألفة والمحبة والتواصي بالخير، ومقصود الإسلام: أن يتواصل المسلمون وأن يتراحموا، وأن يتعاضدوا، وأن يكونوا كالبيت الواحد وكالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن هنا إذا حصل التعدد وتزوج الرجل من أكثر من قبيلة ومن أكثر من جماعة أصبح البيت الواحد يقوم على بيوت، ولو وقعت بلية أو مصيبة في بيت من هذه البيوت تألم الجميع وكأنه بيت واحد وكأنه أسرة واحدة.
وكذلك أيضا من حكم النكاح: أنه كفاية للمئونة، فإن الرجل إذا تزوج المرأة كفى أباها أن يعيلها وأن تكون عبئا عليه، خاصة وأن الأب في آخر عمره يثقل عليه أن يقوم على بناته وأن يرعاهن، أو يرعى أولاده، ففي ضم هذه البنت وضم تلك البنت لاشك أنه تخفيف للأعباء والمئونة إلى غير ذلك من الحكم العظيمة والأسرار الكريمة، فإن الزوج تسليه زوجته وتواسيه، وتخفف عنه الأشجان والأحزان، وإذا كانت صالحة ثبتته على الصراط وقوت قلبه على الطاعات، فاستفاد خيرا كثيرا لدينه ودنياه وآخرته.
هذا العقد -وهو عقد النكاح- اختلفت أنظار العلماء إليه، وتكلموا على حكمه، فقالوا: هل النكاح واجب أو مندوب؟ على قولين مشهورين: جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث رحمة الله على الجميع على أن النكاح ليس بواجب وأنه مندوب ومستحب، وهذا في حالة الاعتدال كما سيأتي.
وذهب فقهاء الظاهرية رحمهم الله إلى القول بوجوب النكاح، وأنه يجب على الرجل أن ينكح على الأقل واحدة، ثم من بعد ذلك يبقى نكاح الاثنتين والثلاث والأربع على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب، واستدل الظاهرية على قولهم بوجوب النكاح بدليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء:3] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة قالوا: إن الله أمر، والقاعدة في الأصول: أن الأمر محمول على الوجوب حتى يدل الدليل على صرفه عن هذا الظاهر، فأمرنا الله أن ننكح فأصبح النكاح واجبا لازما علينا، واستدلوا بقوله تعالى أيضا: {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور:32] قالوا: هذا أمر والأمر يدل على الوجوب ولا صارف له عن ظاهره.
واستدلوا بالسنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (فليتزوج) وهذا أمر والأمر للوجوب، كذلك أكدوا هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود) ، وفي رواية لحديث آخر: (تناكحوا تناسلوا) لكنه متكلم في سنده، والحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه، وكذلك الإمام أبو حنيفة في مسنده، وله روايات في مصنف ابن أبي شيبة وغيره بلفظ: (تناكحوا تناسلوا) وفي رواية (تناكحوا تكثروا) ، وفي رواية: (تناكحوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم) ، وفي رواية: (فإني مباه بكم الأمم) هذا الحديث كما ذكرنا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وابن ماجة في سننه، وكذلك أخرجه الديلمي في مسنده؛ مسند الفردوس، وأكثر طرقه ضعيفة لكن رواية: (تزوجوا الودود الولود) قالوا: هذا أمر لقوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا) ففيه حث بالغ يقوي جانب الأمر.
أما الجمهور فإنهم قالوا: إن النكاح ليس بواجب، وهذه الأوامر الواردة في الكتاب والسنة ليست على ظاهرها، فإن قوله سبحانه: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء:3] قالوا: إنه ليس للوجوب بدليل قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3] ، فلو كان أمرا للوجوب لوجب أن ينكح اثنتين وثلاثا وأربعا، ولكن الله قال: {فانكحوا} [النساء:3] وجعل الأمر مرتبطا بالمثنى والثلاث والرباع، فدل على عدم إرادة الوجوب والفرضية، كذلك أيضا كأنهم يقولون: إن في الآية قرينة تدل على عدم الوجوب؛ لأنه أمر بالتثنية والتثليث، وكونه تكون عنده أربع وهو الحد الأقصى للنكاح فهذا كله على سبيل الندب والاستحباب عند الجميع، فدل على أن الأمر في قوله: {فانكحوا} [النساء:3] للندب والاستحباب وليس للحتم والإيجاب.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر) قالوا: إن في الحديث قرينة تدل على عدم الوجوب وهي قوله: (فإنه أغض) فإن (أغض) على وزن أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل لا يدل على الوجوب؛ لأن المطلوب أن يغض بصره، فإذا صار النكاح أغض كأنه يحصل الواجب وهو غض البصر بما دون النكاح، وعلى هذا قالوا: إنه أمر للندب والاستحباب لا للحتم والإيجاب.
وهذا هو الصحيح: أن النكاح مستحب ومندوب إليه في حالة الاعتدال، وهي الحالة التي يسميها العلماء: انتفاء الدوافع وانتفاء الموانع، وقد قرر العلماء وهم الجمهور أن النكاح تعتريه الأحكام الخمسة؛ فيكون واجبا في حالات، ويكون مندوبا في أخر، ويكون محرما في أخر، ويكون مكروها في أخر، ويكون مباحا في أخر.
فيكون النكاح واجبا إذا كان الشخص يخاف على نفسه الزنا، وغلب على ظنه أنه إذا لم يتزوج وقع في الحرام، وعنده قدرة على النكاح؛ فهذان شرطان: أن لا يأمن الحرام، وأن تكون عنده القدرة أن يتزوج، ووجه الوجوب هنا أنه فرض عليه أن يمنع نفسه عن الحرام، وواجب عليه أن لا يتسب
ترتيب العلماء لكتاب النكاح
يقول المصنف رحمه الله: [كتاب النكاح] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالنكاح.
والعلماء رحمهم الله إذا ذكروا كتاب النكاح فإنهم يعتنون بتنظيمه وبيانه مرتبا في الأحكام الفقهية، ففي الأبواب يقررون أولا: ابتداء النكاح، وكيف يمكن للإنسان أن يصيب السنة والهدي في زواجه؟ وهذا المبحث يسمى عند العلماء بمبحث: مقدمات النكاح، ومقدمات النكاح تستلزم أن تبحث عن المرأة التي يندب طلبها والزواج منها، فيبينون ما هو الأفضل نكاحه من النساء كقولهم: أن تكون ودودا ولودا بكرا، دينة صالحة إلى آخره، كذلك يبحثون في المقدمات المسائل المتعلقة بخطبة النكاح بالنظر إلى المخطوبة، وخطبة النكاح، وصفة الخطبة، والأمور التي ينبغي أن يتقيها المسلم في خطبته من الخطبة على أخيه المسلم وخطبة المعتدة ونحو ذلك من الأمور التي ينبغي أن تتقى في خطبة المسلم وطلبه للنكاح.
وبعد أن يبينوا مقدمات النكاح يدخلون في الشروط المعتبرة لصحة عقد النكاح، وهذا ما يسمى عند العلماء بالتسلسل الفكري، إذ يراعون تسلسل الأمور فيقدمون الحوادث والمسائل والأحكام على حسب الوقوع.
كذلك يبحثون بعد المقدمات في شروط صحة عقد النكاح، وهذا يستلزم النظر فيمن هو ولي الزوجة الذي من حقه أن يتولى عقد نكاحها من عصبتها؟ وتبين بعد بيان أصناف الولاية: الأبوة، البنوة، الأخوة، العمومة، وأبناء كل، وبعد أن تبين أصناف الأولياء تبين مراتب الأولياء، وتقديمهم على حسب الجهة، ثم القرب، ثم القوة في القرابة، ثم بعد ترتيب الأولياء في النكاح يتكلمون على الآثار إذا زوج الولي الأبعد مع حضور الأقرب وهكذا، هذا بالنسبة للولي، ثم بعد ذلك يتكلمون على أنه يشترط للنكاح وجود الشاهدين، وصفات الشاهدين، وقد يؤخر بعضهم الكلام على صفة الشهود في باب القضاء عند الكلام على الأصل العام في الشهادة.
كذلك أيضا ينبهون على شرط الصداق؛ فيتكلمون في حكم الصداق، وجنس الصداق، وقدر الصداق، وصفة الصداق، والصداق المعجل والمؤجل، والخصومة في الصداق إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة على شرط الصداق.
وبعد الانتهاء من هذه الأمور الثلاثة المعتبرة لعقد النكاح، ينبه العلماء رحمهم الله على المسائل المترتبة على العقد الصحيح والمسائل المترتبة على عقد النكاح الفاسد، فيعتنون بمباحث تتصل بالنكاح المشروع وبالنكاح الممنوع، فهناك نوع من النكاح أذن الشرع به وهو الذي استجمع شروطا يحكم من خلالها بصحة العقد واعتباره شرعا، وهناك نوع من النكاح لم يأذن الشرع به لمصادمته للشرع أو اشتماله على أمور نص الشرع على عدم صحة النكاح بسبب وجودها.
فيبينون أولا: الموانع، ويبينون موانع النكاح المؤبدة والموانع المؤقتة، فالموانع المؤبدة: أن تكون المرأة قريبة بالنسب قرابة تمنع من النكاح؛ كالأمهات، والبنات، والأخوات، وبنات الأخوات، وبنات الإخوان، والعمات، والخالات، ثم بعد ذلك المحرمات بالمصاهرة، ثم المحرمات بالرضاع، بعد هذا يتكلمون على المحرمات تحريما مؤقتا؛ كالمحرمات بسبب الجمع، كأخت الزوجة، وعمة الزوجة، وخالة الزوجة، ثم يتكلمون على مانع الدين، وهو مانع مؤقت إن تابت وأسلمت، وكذلك أيضا مانع الزواج؛ مثل كونها منكوحة للغير إلى غير ذلك من بقية الموانع المعتبرة في النكاح.
ثم يتكلمون أيضا في النكاح الممنوع على النكاح الذي نص الشرع على عدم الإذن به؛ كنكاح الشغار، ونكاح المتعة، وهل خطبة الرجل على خطبة أخيه توجب فساد النكاح؟ فعلى القول بأن النكاح يفسد يكون النكاح غير مشروع، كذلك أيضا نكاح المحلل إذا نكح امرأة من أجل أن يحللها للغير، سواء في حالة التواطؤ أو عدم التواطؤ.
بعد بيانهم لهذا الممنوع يشرعون في بيان المشروع، وأثر النكاح المشروع، وهذا يستلزم أن يبينوا ما يترتب على عقد النكاح؛ من العشرة بالمعروف، والحقوق الواجبة من النفقة والسكنى ونحو ذلك، ثم بعد الانتهاء من بيان مقدمات النكاح وبيان الشروط المعتبرة للصحة، وأمارات فساد عقد النكاح، والآثار المترتبة على العقد المشروع والممنوع يشرع العلماء في بيان الأمور التي تزول بها العصمة؛ إما كلية أو مؤقتا، وهذا يستلزم الكلام على كتاب الطلاق، فيشرعون في كتاب الطلاق، وكتاب اللعان، وكتاب الظهار، ثم بعد ذلك يبينون الأثر والخلع والإيلاء، ثم يبينون الأثر المترتب على الطلاق وزوال العصمة، أو ما يكون في حكم ذلك، فيبينون أحكام الرجعة وأحكام المرأة المعتدة، وأحكام العدة، والحقوق الواجبة المترتبة على ذلك، ثم يختمون بالحداد وما يتعلق بمسائل الحداد، ثم بعد ذلك ينتهي كتاب النكاح.
هذا كله صورة مجملة؛ لأنه مما يستحب في الفقه قبل الدخول في الكتب أن يكون عند طالب العلم تصور إجمالي حتى يستطيع أن يعرف ترتيب الأفكار، وهذا الترتيب الذي تعب العلماء لتقريره وضبطه وحسن صياغته بعد توفيق الله عز وجل لهم، قصد منه: ترتيب الأفكار للفهم، وترتيبها للإفهام، وترتيبها للفتوى وللقضاء؛ لأن الفقه يحتاجه الإنسان لنفسه عملا، ويحتاجه لغيره تعليما، ويحتاجه لغيره فتوى، ويحتاجه لغيره قضاء، فلذلك ينبغي أن تكون هذه المادة مرتبة، فإذا رتبت وجاءك السؤال عن مسألة ما فمباشرة تنصرف إلى الباب الذي درسته، وتتذكر مسائله، هل هذه المسألة فيه أو ليست فيه؟ وهذه فائدة قراءة الفقه؛ أنه يعين طالب العلم على أن يفهم وعلى أن يفهم؛ لأن الفقه حصيلة لإفهام علماء من قرون عديدة وليس بالسهل، هذا الفقه ثمرة جهود لا يعلمها إلا الله جل جلاله، وعلى هذا أحببنا أن ننبه على هذا الترتيب حتى يحصل إن شاء الله بيان المسائل وترتيب الأبواب خاصة عند مباحث المناسبات.

سنية النكاح
قال رحمه الله: [وهو سنة] الضمير عائد إلى النكاح، أي: من هديه عليه الصلاة والسلام النكاح، وهذه الجملة قصد منها بيان الحكم؛ لأن القاعدة عند العلماء رحمهم الله: أنهم إذا أتوا إلى أي باب أو كتاب يعتنون بجزئيتين مهمتين: الأولى: أن يبينوا حقيقة الباب الذي هو جزئية التعريفات، ثم بعد التعريف يأتي الحكم -حكم الباب- مثلا: في كتاب الطلاق، يقول: كتاب الطلاق، ثم يبين حكم الطلاق فيقول: وهو مباح، وإذا قال مثلا: الظهار، فإنه يبين حكمه فيقول: وهو محرم.
فالمقصود: أنهم يبتدئون أولا بالحكم، ويقدمون التعريف على الحكم؛ لأن القاعدة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يمكن أن تحكم على النكاح حتى تعرف ما هو النكاح، وحتى تعلم بعد ذلك أن الذي أباحه الله هو ذلك الشيء، وأن الذي حرمه الله هو ذلك الشيء، وقد تقدمت الأدلة من الكتاب والسنة على شرعيته، وعلى هذا اختار المصنف ما اختاره جمهور العلماء من أن النكاح ليس بواجب، فعبر بهذه الجملة حتى ينبه على أن مذهب الجمهور في مقام الندب والاستحباب وليس في مقام اللزوم والإيجاب.
اختلاف العلماء في تفضيل النكاح مع الشهوة على نوافل العبادات
قال رحمه الله: [وفعله مع الشهوة أفضل من نوافل العبادات] هذه الجملة أولا: ما معناها؟ ثانيا: ما موقف العلماء منها؟ المراد بهذه الجملة: أن إعفاف الرجل لنفسه وإعفافه لزوجه بالوطء أفضل من نوافل العبادات، وبناء على هذا يترتب أن النكاح فيه عبادة؛ لأنه لا يفضل على نوافل العبادات إلا ما كان مشتركا بينها وبينها في حصول الثواب، فقوافل العبادات من قيام ليل ونحو ذلك، قال بعض العلماء: النكاح أفضل منها، فأصبح النكاح عبادة من هذا الوجه، فيحتاج المصنف إلى دليل شرعي يدل على أن النكاح يعتبر عبادة، وهذا الدليل جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟!) فدلت هذه الجملة على أن النكاح فيه جانب العبادة، وأنه بإعفافه لزوجه يكون قد حصل ثوابا قد يفضل نوافل العبادات.
المسألة الثانية: ما موقف العلماء من هذه المسألة؟ الجمهور يفضلون النكاح على نوافل العبادات، والشافعية يخالفون في هذه المسألة ويرون أن النكاح شهوة، وأنه لذة وهو إلى الدنيا أقرب منه إلى الدين، ولذلك قرنه الله بشهوة الذهب والفضة في قوله: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} [آل عمران:14] فالله سبحانه جعله من متاع الدنيا ولم يجعله عبادة ولم ينص على كونه عبادة، وقرنه بالمال وبالقناطير والمقنطرة وبالمغريات في الدنيا وفتنها، فقالوا: إنه ليس بأفضل من نوافل العبادات لهذا النص.
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور، وأن النكاح فيه جانبان: جانب دنيوي، وجانب ديني؛ وأن الجانب الديني مثاب صاحبه، ومأجور غير مأزور، ويعظم ثوابه أكثر في مسائل: إذا قصد بها وجه الله عز وجل، كرجل يتزوج ثانية عرف منها الدين والاستقامة، وأصبحت أرملة بعد زوج، فأراد أن يضمها إليه لعلمه أنها تفتن أو أنها تحتاج إلى من يعولها، فأشفق عليها وأحسن إليها، أو زوجة مات عنها أخوه، فأراد أن يضمها لأيتام أخيه، أو أراد أن يضمها لأيتام عندها من أبناء عمه أو أبناء عمومته أو قرابته، يقصد بذلك الإحسان والبر، فمثل هذه المواقف في النكاح لا شك أنها تفضله وتزيد من أجره وتزيد من ثواب صاحبه.
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور لصحة الدليل على ذلك.

وجوب النكاح على من يخاف الزنا
قال رحمه الله: [ويجب على كل من يخاف الزنا بتركه] الواجب: يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فإن خاف على نفسه الزنا بترك النكاح ويقدر عليه -عنده مئونة وقدرة أن يتزوج- فحينئذ يجب عليه أن ينكح، وقد بينا وجه ذلك؛ لأنه إذا لم يتزوج وقد استيقن أو غلب على ظنه الوقوع في الحرام فمعنى ذلك أنه سيقع في الحرام لا محالة، والله عز وجل حرم الحرام والوسيلة إلى الحرام، ولذلك حرم الزنا وحرم وسائل الزنا، فحرم النظر للأجنبية، ولمس الأجنبية، والسفر مع الأجنبية بدون محرم، والخلوة مع الأجنبية بدون محرم، حتى حرم على المرأة أن ترفع رجلها فتضربها على الأرض ليعلم ما تخفيه من زينتها، من باب منع الوسائل المفضية إلى الزنا، وهو المقصد والغاية من هذه الوسائل التي نص الشرع على تحريمها.
فكأن الشرع حينما نص على تحريم هذه الوسائل قصد أمرين: - تحريم الأصل الذي يسمى بعبارة العلماء وبمصطلحهم: مقصدا وغاية.
-
وتحريم الوسيلة المفضية إليه.

قالوا: فسكوته عن زواج نفسه وسيلة مفضية إلى الوقوع في الحرام، كما لو خلا بأجنبية فكأنه يتعاطى أسباب الوقوع في الحرام.
ومفهوم هذا: أنه إذا أمن الحرام أو أخر لزمان يراه أصلح له في اجتهاده ونظره أنه لا يصل إلى الوجوب متى ما علم أنه واثق من نفسه وغلب على ظنه، فإذا استيقن أو غلب على ظنه فلا إشكال.

التنبيه على قضية إزعاج الأطفال في المساجد
أحب أن أنبه على أمر وهو قضية الأطفال، فقد كثر صياحهم وإزعاجهم، فأفضل لا آمر ولا أنهى، لأني لا أستطيع أن أمنع أمة الله إذا احتاجت إلى إحضار أولادها، وكذلك لا أستطيع أن أمنع الأولاد؛ لكني أفضل للمرأة وللرجل إذا أمكن ألا يأتوا بالأطفال حتى لا يزعجوا طلاب العلم، ولا يتسببوا في الضرر على غيرهم، وإن كان بعض العلماء يرى أنه إذا وصل الأمر إلى حالة من الإزعاج والصراخ أنه قد لا تخلو المرأة من إثم، وكذلك الرجل.
فأنا أفضل أن يتقى هذا، وإذا كانت المرأة لا تستطيع أن تترك أولادها فيمكن أن تستعين بعد الله بالشريط، وأحبذ ألا يحضر الأطفال ما أمكن، وقد اشتكي إلي أكثر من مرة، فحبذا لو أن طالبات العلم والأخوات وأيضا الأزواج يراعون ذلك.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر ذنوبنا، وأن يتجاوز عنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.




الساعة الآن : 10:10 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 311.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 310.93 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.16%)]