ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=216484)

ابوالوليد المسلم 14-05-2025 10:54 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (413)

صـــــ(1) إلى صــ(8)






شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [2]
جاء في الشريعة الحث على طلب صفات معينة في الزوجة، مثل أن تكون صالحة دينة، وأن تكون بكرا ولودا، وقد أبيح النظر إلى المخطوبة إذا علم من حال الخاطب أنه يريد النكاح فعلا، فيباح له النظر إلى الوجه والكفين، ولا يختلي بها في حال النظر.
الصفات التي يستحب توافرها في المرأة
قال المصنف رحمه الله: [ويسن نكاح واحدة دينة أجنبية بكر ولود بلا أم] يقول: من السنة أن ينكح واحدة، وهذه الواحدة لما قال: (يسن) كأنه يشير إلى الهدي والسنة أن يتزوج واحدة، ومن نظر إلى السنة علم أن السنة التعدد، وأن الواحدة خلاف الأفضل، وأن الأفضل إن قدر على أن يعدد عدد، وإذا لم يقدر أو خاف عدم العدل -كما تقدم- فلا إشكال، لكن إذا كان قادرا على أن يعدد فالأفضل والسنة أن يعدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عدد في نكاحه، فيكون قوله: (يسن واحدة) السنة من حيث الأفضلية، والأحسن والأكمل أن يعدد؛ لأن التعدد له مصالح ذكرناها وأشرنا إليها، خاصة إذا كان الرجل هدفه من التعدد الإحسان إلى المرأة أو الإحسان إلى أيتامها، أو تخفيف الشر على المسلمين بالزواج ونحو ذلك من المقاصد الحسنة.

أن تكون المرأة دينة
قال رحمه الله: [دينة] أي: ذات دين، والدين تختلف مراتبه، فهناك المرأة الدينة التي بلغت أعالي الدرجات في دينها واستقامتها ومحافظتها، وهذا النوع أثنى الله عليه من فوق سبع سماوات وأشاد بفضله ومكانته، فقال سبحانه وتعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} [النساء:34] والمرأة الصالحة الدينة أفضل من غيرها، وقدمها المصنف؛ لأن خير الناس وأفضل الناس من كان عنده دين، وبقدر الدين يتفاضل العباد، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13] ، (قيل: يا رسول الله! من خير الناس؟ -من هو خير الناس، ومن هو أفضلهم، ما قال صلى الله عليه وسلم: أغناهم، ولا أرفعهم حسبا أو نسبا- قال: أتقاهم) أي: خير الناس أتقاهم لله سبحانه وتعالى، فخير النساء أتقاهن لله عز وجل، ويعبر العلماء بمعنى التقوى في قولهم: دينة.
وعلى هذا فهناك مراتب للمرأة: المرتبة الأولى: أن تكون ذات دين، بمعنى: تحافظ على الصلوات، وتحافظ على الواجبات، وتمتنع من المحرمات، لكنها ليست بحريصة على الفضائل.
المرتبة الثانية: أن تكون محافظة على الواجبات، تاركة للمحرمات، تفعل الفضائل أحيانا وتتركها أحيانا.
المرتبة الثالثة: أن تكون كما سبق، ولكنها لا تترك فضلا ولا طاعة، كلما علمت باب خير حرصت عليه، فحينئذ المرأة في هذه المرتبة لا تخلو من ضربين: النوع الأول: أن تكون حريصة على الفضائل والنوافل لنفسها، كقيام الليل وصيام النهار ونحو ذلك من الطاعات التي يكون نفعها خاصا بها، وقد يلتحق بهذا النفع المتعدي نسبيا، كأن يكون عندها مال ودائما تنفق فيكون نفعها متعديا، لكن في الغالب ليس عندها علم، وهذا مرادنا، أن طاعتها ودينها وكثرة الخير فيها من جهة النوافل والطاعات.
النوع الثاني: أن يكون نفعها كهذه ومتعد إلى الغير، كطالبة علم، وداعية إلى الله ونحو ذلك، فأفضلهن الأخيرة، فإن كانت ذات علم ومحافظة على دينها واستقامتها، وتنشر علمها وتدعو، فهذه أفضل وأكمل ولكنها تحتاج إلى رجل صابر، يعني: ينبغي أن يعلم أن اشتغالها بالدعوة وعلمها سيكون على حساب أمور في بيتها.
فمثل هذه عليها في الأصل أن تحفظ بيتها، ولا تخرج للدعوة وتترك ما فرض الله عز وجل عليها من تربية أولادها وبناتها؛ لأن الله فرض عليها أن تدعو الأقربين أولا؛ فتبدأ ببيتها، ولا شك أنه من الخطر أن تترك حقوق البيت وحقوق الزوج لتخرج إلى الدعوة، وتحضر المجالس والمحاضرات وتضيع هذه الحقوق الآكد والأوجب، ولكنها تقوم بترتيب نفسها وإحسان التصرف مع بعلها وحقوق أولادها بحكمة وفطنة، والزوج الصالح يساعدها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، يعني: يساعدها ويعينها لكن في حدود شرعية بشرط أن لا يعرض نفسه للحرام، وأن لا يعرض أولاده للضياع.
فالمرأة التي بلغت أعالي الدرجات مثل هذا النوع من الداعيات الصالحات لا شك أنه أفضل، لكن ينبغي كما ذكرنا على الزوج إذا أقدم على هذا النوع من النساء أن يضع في حسبانه اشتغالهن بالدعوة وحرصهن على الخير، وأن هذا يترتب عليه تبعات ومسئوليات، فقد يحدث ما يوجب النفرة بين الزوجين بسبب عدم إحسان التصرف في مثل هذا النوع من النساء.
أما النوع الذي هو دون ذلك، فإن الفضل في زواجه يتفاضل على حسب المراتب، لكن هناك نوع في بعض الأحيان تفضل فيه المرأة من جهة القرابة إذا كانت قريبة ووجدت أمور تفضل النكاح منها، فالدينة القريبة لا شك أنها أولى وأحرى، وسنبين هذا عند قوله: [أجنبية] .
فقد يفضل نكاح الدينة بوجود صفات أخر، وخاصة إذا اقترن نكاح المرأة ببر الوالدين، فإن الرجل الذي يحرص على الزواج من امرأة يرضى عنها والده وترضى عنها والدته حري به أن يبارك الله له في زواجه، وأن يبارك الله له فيما أقدم عليه من نكاحها، أما إذا أقدم على النكاح بشيء فيه عقوق للوالدين فقد تنزع البركة من هذا النوع من النكاح، فيحرص على أن يطلب امرأة يجمع فيها بين رضى الله سبحانه وتعالى ورضى والديه.
فإن كانت المرأة غير دينة، فهذا طبعا يتفاوت بحسب ما ذكرنا من النساء في الدين، فكما أن الدين يتفاوت كذلك ضعف الدين يتفاوت، فإذا كانت غير دينة، يعني: تختلف لكنها في الأصل مسلمة؛ لأن غير المسلمة لا نتكلم عليها، والكتابية لها أحكام خاصة سنتكلم عليها، أما المشركة والوثنية والملحدة التي لا دين لها -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا النوع من النساء لا يجوز نكاحه إلى الأبد حتى تسلم، فإذا أسلمت جاز نكاحها، أما وهي على وثنيتها فلا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) .
فالشرك والوثنية أمرهما عظيم، ولكن الله خص الكتابية؛ لأن هناك نوعا من الرضا بالدين؛ لأنها ذات دين، وهناك قاسم مشترك وإن كان هناك اختلاف بين الديانات؛ فمادام أنها ارتضت الدين ارتضت الطاعة فإنك تستطيع أن تدخلها في الإسلام، ولذلك جاز نكاح الكتابية ولم يجز أن ينكح الكتابي مسلمة، وهذا يدل على أن القصد التأثير.
قلنا: إذا لم تكن دينة فهذا يتفاوت، لكن هناك المرأة التي هي ضعيفة الدين ويكون ضعفها بترك الواجبات أو فعل المحرمات، فيختلف هذا؛ لأن هناك واجبات إذا تركتها حكم بكفرها فلا إشكال، وهناك محرمات إذا وقعت فيها تعدى ضررها إلى الغير، مثل الزانية التي هي ناقصة الدين، فالزانية لا يجوز أن يتزوجها، ولذلك قال الله عز وجل: {وحرم ذلك على المؤمنين} [النور:3] ، ومذهب طائفة من العلماء رحمهم الله: أنه لا يجوز نكاح الزانية إلا بشرطين، الشرط الأول: استبراؤها من الزنا؛ أن تنهي عدتها، والشرط الثاني: أن تتوب إلى الله من الزنا، ولذلك لما جاء مرثد بن أبي مرثد وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح عناق منعه من ذلك ونزلت الآية.
وأما ما ورد من قول: (إن امرأتي لا ترد يد لامس) فهذا حديث ضعيف، وتكلم الإمام ابن القيم رحمه الله عليه كلاما نفيسا وبين ضعفه، ولكن على القول بتحسينه كما حسنه الحاكم، وبعض المتأخرين يميل إلى تحسينه، على هذا القول لو فرض أنه حسن أجاب ابن القيم بجواب حسن وقال: (إن المراد بقوله: (لا ترد يد لامس) ما كان عليه أهل الجاهلية، فقد كانوا يتركون للعشيق أن يستمتع بالمرأة باللمس ونحو ذلك ولا يصل إلى الزنا، لكن هذا الحديث في الحقيقة حتى لو صح فيه دليل يدل على أنه لا يجوز استبقاء مثل هذا؛ لأنه قال له: (يا رسول الله! إن امرأتي لا ترد يد لامس، قال: طلقها، قال: يا رسول الله! إني أخشى أن تتبعها نفسي، فقال عليه الصلاة والسلام: فأمسكها) فكأنها حالة ضرورة.
(أن تتبعها نفسي) يعني: أني تعلقت بها وأحببتها، فإن طلقتها سأعود وأزني بها، فقال: (أمسكها) وهي مسألة تعارض المفسدتين، وللعلماء فيه كلام، لكن الذي تطمئن إليه النفس أن الحديث غير ثابت، وعلى القول بثبوته يصرف إلى مسألة اللمس الذي لا يصل إلى الزنا، فيكون قوله: (فأمسكها) يمسكها لمفسدة اللمس من الأجنبي التي هي أخف من مفسدة وقوعه في الزنا، فيكون تخريجه على الوجه الذي اختاره الإمام ابن القيم على فرض ثبوت الحديث.
نرجع إلى مسألتنا: إن كانت المرأة غير دينة يسأل عنها الذي يريد زواجها: هل هي تضيع الواجبات؟ ويسأل عن نوع الواجبات، ويسأل عن نوع المحرمات، فإن كانت المحرمات الضرر فيها متعد فلا يطلبها؛ لأنه لا يؤمن أن يسري الفساد إلى أولاده وذريته، وهناك تفصيلات في مسألة الزواج من غير الدينة، فإذا غلب على ظن الناكح أنه سيهديها وأنه سيؤثر عليها خاصة إذا كانت قريبة، فإنه يعزم ويتوكل على الله إذا أمره والداه وغلب على ظنه أنه سيدعوها ويؤثر عليها، وهذا مخرج من نكاح الكتابية، فإن نكاح الكتابية يجوز من أجل دعوتها إلى الإسلام، فإذا كانت قريبة وأمر بها الوالد وكان دينها خفيفا لكنك إذا تزوجت بها قوي دينها وقويت استقامتها، فإنه مما يرغب أن تنكحها، ولا بأس في هذه الحالة من الإقدام على زواجها والنكاح منها.

أن تكون المرأة أجنبية
قال رحمه الله: [أجنبية] الأجنبية مأخوذة من المجانبة بمعنى: المباعدة، ومنه سميت الجنابة؛ لأن صاحبها يبتعد عن فعل الصلاة، والأجنبية ضد القريبة، ومعنى ذلك: أن المصنف يميل إلى تفضيل نكاح الرجل من غير قرابته، وهذا مبني على أنه أنجب للولد، ويذكر بعض الأطباء من المتقدمين والمتأخرين أن النكاح من غير القريبة أفضل لنجابة الأولاد، ومنه الأثر المشهور عن ابن عمر: (اغتربوا لا تضووا) قالوا: إن الاغتراب أن ينكح من غير قريبة، وهي التي يعبر عنها بالأجنبية.
والحقيقة: نكاح القريبة له فضائل وله محاسن، ونكاح الأجنبية له فضائل وله محاسن، والأفضل أن تترك المسألة لتقدير الشخص، فالشخص نفسه يستطيع في بعض الأحيان أن يرى أن زواجه من قريبته أفضل، فحينئذ يقدم ويتزوج من القريبة، وأما التزهيد في نكاح القريبة فهذا في الحقيقة لا يخلو من نظر، فإن القريبة إذا تزوج منها كان أوصل للرحم، وكون الإنسان يستر قريبته وتكون في كنفه ويضمها إلى رعايته لا شك أن هذا من الإحسان إلى القرابة ومن صلة الرحم.
وثانيا: أن القريبة أصبر على الزوج من غير القريبة، فإنه لو طرأ في مستقبله أمور أو حوادث أو أصيب بعاهة أو ضرر أو نحو ذلك لوجد أصبر الناس عليه قرابته، ولو تغير مركزه أو جاهه وأصبح في ضيق صبر عليه أرحامه، وثبتته قرابته، وأحست أن ما دخل عليه من الضرر دخل عليها، وأن ما جاءه من السوء جاء إليها، كذلك أيضا تكون القريبة أكثر قدرة على احتواء الوالد والوالدة والأخوات والقرابات، لعلمها بطبيعة المعاشرة وكيفية كسب رضا أقربائها، وهذا نقصد به القريبة العاقلة التي تحسن تقدير الأمور، ولذلك تركنا الأمر لكل رجل أن ينظر في نوعية القريبة.
فأنا أقول: إذا كانت القريبة بهذه المثابة، أو كانت القريبة من أسرة فيها صلاح، وفيها دين، وفيها استقامة، فإنك تنتفع منها في نصح القرابات، واتخاذ طريقة لاغتنام زواجك منها في الخير، فهناك أمور تقوي جانب القريبة في مثل هذه الأحوال، وأما الغريبة وهي غير القريبة فتارة يكون النكاح منها أحظ للإنسان من حيث سلامة الولد، والبعد عن بعض الأمراض التي قد تكون موجودة وراثة في البيت والأسرة، وكأنه يريد أن ينصح لولده من هذا الوجه؛ من باب تعاطي الأسباب، وإلا فلا ينجي حذر من قدر، ولربما فر من أقربائه لعاهة فابتلاه الله بأسوأ منها، ولربما فر من عاهة الدنيا فاحتقر قرابته -خاصة إذا كان لمقصد سيئ- فابتلاه الله عز وجل بعاهة الأخلاق، فخرج أولاده على سوء وبلاء، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك النكاح من الغريبة قد تخفى على الإنسان فيه أمور.
وأيا ما كان فأفضل ما ينبغي للزوج أن يبحث عنه: أولا: أن يبحث عن طبيعة البيت الذي يريد أن يتزوج منه، وهو الذي يسمى بالحسب، والحسب من الحساب، والحسب أن تقول: أبي فلان العالم، وجدي الأول الشيخ فلان، ووالد جدي كذا، فتحتسب ما لآبائها، وهذا من باب معرفة فضل البيت، ومن باب إنزال الناس منازلهم، وهذا النوع من الحسب إذا وجد فالغالب أن الأسر التي هي ذات علم أو ذات شهامة كبيوت المشيخة والإمرة، وهؤلاء غالبا يترفعون عن عوام الناس في تصرفاتهم، فيكون فيهم الكرم، وتكون فيهم الشجاعة، ويكون فيهم الحرص على السمعة الطيبة، فتكون فيهم خصال حميدة، ومواقف طيبة تعين على التأسي بهم في الذرية، ولذلك إذا سمع الولد أن جده فلان وأن جد والدته فلان دعاه ذلك أن يسأل: من هو فلان؟ وماذا كان يفعل؟ وكل منا يدرك ذلك، فإنه حينما يعلم أنه من بيت دين أحس أن عليه مسئولية وأن عليه أمانة، وأن عليه أن يحفظ لهذا البيت حقه، وأن يحفظ لهذا البيت قدره، فيحرص على أن يتوخى الحذر في أقواله وأفعاله وتصرفاته، فهذه أمور حميدة في الذرية والأسرة، فيحرص الإنسان عند نكاحه على هذا النوع وهي المعادن الطيبة والكريمة، فإن الله تعالى يضع الخير حيث شاء: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة:54] .
فالبيوت التي عرفت بالذرية الصالحة، وعرفت بالاستقامة والمحافظة يكون الزواج منها خيرا وبركة، وينبغي كذلك أن يتوخى الحذر في الأخلاق، فيبتعد عن الأسر المعروفة بالحمق والعصبية والنزعات الجاهلية، حتى لا يؤثر ذلك عليه وعلى زوجه وعلى أولاده وذريته.
فإذا أراد أن يختار الزوجة فيبحث عن الدين الذي هو أساس كل خير ومنبع كل فضيلة، حتى إن المرأة ربما كانت من أسرة غير دينة وهي دينة، لكنها بدينها بعد فضل الله عز وجل تستطيع أن تتقي كثيرا من السلبيات وأن تتلافاها وتبتعد عنها.
الحرص على المعادن الطيبة مع الدين، فإن اجتمع الدين والدنيا فهذه نعمة عظيمة وخير على خير ونور على نور، قال صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المعنى: (تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) ومعنى الحديث: أن العائلات والأسر فيها معادن، (تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) قد تجد معدنا من أخلص الذهب وأصفاه وأعلاه وأجوده، وهذا المعدن الكريم في الناس، ومعدن تجده من أضعف المعادن وأكثرها شوبا وعيبا.
وكذلك بالنسبة للأخلاق، فتجد بعض الأسر فيها حمق وفيها جاهلية وعصبية، وإذا جاءها الدين ترفضه، وتقدم العادات والتقاليد على الدين، فأصحاب هذه النعرات الجاهلية والمآخذ السيئة في الدين إذا تزوج الإنسان منهم لا يأمن أن تسري هذه الصفات إلى الأولاد والذرية، وكم من رجل صالح بحث عن امرأة جميلة فوجدها في منبت السوء فدمرته وأشقته -نسأل الله السلامة والعافية-، وكم من امرأة أخرجت زوجها من بر والديه حتى عقهما فدعا عليه والداه آناء الليل وأطراف النهار، وكان من قبل يجلس عند قدم أبيه! وكم من امرأة -والعياذ بالله- دمرت الإنسان فصرفته عن طلب العلم وعن حلق الصالحين! وهذا معروف وموجود ومشاهد، فمن نظر إلى شيء غير الدين نزع الله البركة منه، ومن تزوج امرأة وهو ينظر إلى يدها وغناها لم يزده الله إلا فقرا وضياعا؛ لأن الله يعامله بنقيض قصده، فإذا قصد متاع الدنيا معناه أنه يستغني بغير الله ويفتقر إلى غير الله، وذلك شقاء العبد، فسعادة العبد في الاستغناء بالله جل جلاله، والافتقار إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول بعض العقلاء يوصي ولده: يا بني! تزوج امرأة تنظر في يدك ولا تنظر في يدها، يعني: امرأة تنظر إليك وتحس أن عندك الكثير من الدين والاستقامة؛ لكن إذا جاءت المرأة أغنى منك فأصبحت تنظر إلى غناها، وتنظر لما في يدها من راتبها، أو تنظر إلى ما في يدها من غنى والدها وأنها سترث وأنها كذا، فإن الله لا يزيدك إلا فقرا.
العاقل الحكيم ينظر هذه النظرة البعيدة؛ أن الزواج ينبغي أن يبنى على الدين، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى فقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) وذكر المرغبات في النكاح من المال والجمال والحسب، والذي يدخل معه النسب والدين ثم قال: (فاظفر) وكأنه كنز وشيء عظيم وغنيمة (فاظفر بذات الدين تربت يداك) وهذا يدل على أن الدين يغني عن هذه الأشياء كلها، فكم من امرأة فقيرة ولكن الله سبحانه وتعالى أغناها بالدين! وكم من امرأة ضعيفة ولكن الله قواها وجعل عزها بدينها! وكم من امرأة يراها الإنسان فيزدريها ولكن الله جعل فيها قلبا يخافه ويخشاه فيحبها سبحانه! فمثل هذه المرأة الصالحة قد يكرم الله بها الإنسان فتخرج له أولادا صالحين تقر عينه بهم، وخاصة عند المشيب والكبر.
فالمقصود: أن من كان قصده ما عند الله سبحانه، والحرص على الدين، فلا شك أن الله عز وجل سيوفقه وسيجعل له من ذلك خيرا كثيرا.

أن تكون المرأة بكرا

يقول المصنف رحمه الله: [بكر ولود بلا أم] ذكر المصنف رحمه الله هذه الجملة التي بين فيها الصفات التي ينبغي للمسلم أن يراعيها في اختياره للزوجة، وهذا البيان فيه تأس بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفات التي ينبغي أن يطلب المسلم من خلالها زوجته، وكذلك أثنى الله عز وجل على الصالحات من فوق سبع سماوات حتى يلفت الأنظار إلى أمانتهن وحفظهن وقيامهن بحقوق الزوجية.
قوله رحمه الله: [بكر] أي: يسن نكاح البكر، وهذه الصفة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حينما قال لـ جابر رضي الله عنه: (هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك) ، وفي البكر مميزات تعين على غض البصر وحفظ الفرج.
ومقصود الشرع من النكاح: أن يغض المسلم بصره، وأن يحفظ فرجه، فالبكر معينة على ذلك.
وأما بالنسبة للثيب فإن فيها صفات تفضل بها على البكر باعتبار آخر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر نسائه كن ثيبات، وهذا مبني على أمور: إذا نكح الرجل المرأة الثيب من خلالها عظم أجره وكان محصلا لثواب، فيجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فمن ذلك: أن تكون الثيب أرملة، أو يكون للثيب أيتام يحب أن يتزوجها فيحفظ أيتامها ويجبر خاطرها، أو يكون لهذه الزوجة وجه صلة؛ كأن تكون زوجة لأخيه فيموت عنها ويخلف أيتاما له، فيحب أن يقوم على زوجة أخيه ويرعى أيتامه.
فمثل هذه الأمور ومثل هذه المقاصد يعظم بها الأجر، وتفضل بها الثيب على البكر؛ لأنها مقاصد شرعية، وثواب الإنسان فيها قد يكون أعظم من حظه لنفسه، وهذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نكح جملة من النساء كن أزواجا لأصحابه رضي الله عنهم، فطيب الخواطر، وكذلك جمع الشمل.
فمثل هذه المقاصد العظيمة والمعاني الكريمة تفضل بها الثيب؛ لكن من وجه.
ومما يدل على هذا الاستنباط الذي اختاره بعض العلماء: أن جابرا رضي الله عنه لما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوج، فقال له لما أخبره أنها ثيب: (هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك) فذكر جابر العلة؛ وهي أن والده عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه توفي وترك له أخوات، فأحب أن ينكح الثيب حتى تقوم عليهن وترعاهن، وهذا مقصد عظيم يعظم به الأجر ويكثر به الثواب، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ودل هذا على أن الثيب قد تفضل باعتبارات مثل هذه.
أن تكون المرأة ولودا
قال رحمه الله: [ولود] أي: يسن نكاح الولود؛ وهي الصفة الخامسة، والولود هي التي تنجب، فإذا كان الرجل مخيرا بين امرأة ولود وامرأة لا تنجب، فإنه يقدم الولود على العقيم، والسبب في هذا: أن الولود يكثر بها سواد الأمة، وكذلك يحفظ بها الرجل بإذن الله تعالى نسله، ولا شك أن بقاء النسل إذا كان صالحا من الخير الذي يبقى للعبد بعد موته، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وذكر منها- أو ولد صالح يدعو له) فأجمع العلماء على استحباب نكاح الولود، وفيه الحديث المشهور: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم -وفي رواية: مفاخر بكم- الأمم يوم القيامة -وفي رواية: مباه بكم الأمم يوم القيامة-) قالوا: فالولود فيها تكثير لسواد الأمة.
ثم إن الشرع قصد هذا المعنى بإباحة نكاح الأربع وذلك حتى يكثر سواد الأمة بكثرة الإنجاب، فيعز دين الله وتنصر كلمته، وذلك مقصود من مقاصد النكاح الشرعية.

عدم وجود الأم
قوله: [بلا أم] الصفة السادسة: بلا أم، وعند النظر لم يثبت حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بين استحباب أن تكون المرأة بلا أم، ولذلك تصدير المصنف للجملة بقوله: (يسن) ، ثم ذكر هذه الصفة السادسة: بلا أم، محل نظر، ومسألة وجود الأم وعدمها ليس فيها نص شرعي معين، الأم تارة يكون وجودها حسنة، وفيه خير كثير على المرأة، إذ تثبت ابنتها وتؤدبها وتدلها على ما فيه صلاح دينها ودنياها، وتارة تكون الأم على خلاف ذلك، والناس فيهم الصالح وفيهم من هو بخلاف ذلك، نسأل الله السلامة والعافية، والخير والشر أمر نسبي، ويختلف الناس فيه بحسب وجود الأسباب التي تبعث عليه، فالعلماء حينما قالوا: يفضل نكاح المرأة التي لا أم لها فإنما هو من جهة دفع ضرر التخذيل، فإن الأم ربما غارت لانقطاع ابنتها عنها، وربما أفسدت البنت على زوجها.
وأيا ما كان فهذا أمر يختلف باختلاف الأحوال وباختلاف البيئات، والرجل ينظر الأحظ لنفسه، وقد تكون الأم موجودة والمرأة صالحة، فلا ينبغي ترك الصالحات لمثل هذه الأسباب المحتملة، وقد قرر الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: (قواعد الأحكام) مسألة تعارض المفاسد بعضها مع بعض، وتعارض المصالح مع المفاسد، وقرر في أكثر من موضع أن هذا أمر يختلف باختلاف الأحوال والبيئات والأشخاص والأزمنة، ومن هنا يترك النظر إلى الإنسان، فإذا علم أن الأم تفسد الزوجة من خلال أخواتها اللاتي سبق نكاحهن وغلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يمنعها من ذلك، فإنه حينئذ يحتاط لأمره والعكس بالعكس، لكن ليس في ذلك نص معين كما يفهم من قوله رحمه الله: (يسن) .
جواز النظر إلى المخطوبة
قال رحمه الله: [وله نظر ما يظهر غالبا مرارا بلا خلوة] هذه هي الجملة الثالثة التي اشتمل عليها هذا الفصل، وهو النظر إلى المخطوبة، ومن دقة العلماء والفقهاء رحمهم الله، أنهم يرتبون المسائل والأحكام على حسب الوقوع، فمن عادة الناس أنهم يختارون أولا، ثم بعد الاختيار يطلب النظر إلى المخطوبة، فشرع رحمه الله في بيان شرعية النظر إلى المخطوبة، وبيان محل النظر والقدر الذي يجوز للمسلم أن يراه من مخطوبته.
وفي هذه الجملة مسائل: المسألة الأولى: أجمع العلماء رحمهم الله كما حكى غير واحد؛ منهم: الإمام ابن قدامة، وكذلك الإمام النووي، والحافظ ابن عبد البر رحمة الله على الجميع على مشروعية نظر الخاطب للمخطوبة من حيث الجملة، لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (أنظرت إليها؟ قال: لا.
قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) ، وقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح: (انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا) ونحو ذلك من الأدلة الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإجماع منعقد على مشروعية النظر إلى المخطوبة.
المسألة الثانية: هذا النظر تترتب عليه مقاصد شرعية، ففيه جلب مصلحة ودرء مفسدة: أما المصلحة، فقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) فهو يحقق الألفة والمحبة، وطمأنينة كل من الزوجين إلى الآخر.
وأما المفسدة، فإن الرجل إذا لم يكن على علم بصفات المرأة ربما كرهها إذا نظر إليها بعد الدخول بها، وحينئذ تقع المفاسد التي لا تحمد عواقبها، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لعباده النظر على هذا الوجه حتى تتحقق المقاصد الشرعية وتندرئ المفاسد المترتبة على دخول الرجل على زوجته من غير سبق نظر، ثم في هذا النظر حكمة من جهة أن الله تعالى أعطى الزوج حق المعرفة لصفات زوجته، وكذلك الزوجة تنظر إلى زوجها حتى تكون على بينة من أمرها.
وكذلك أيضا هناك مسألة رابعة وهي: ما هي أحوال النظر؟ النظر له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون دون علم المرأة.
والحالة الثانية: أن يكون بعلم منها.
وفي كلتا الحالتين لا يجوز للمسلم أن يقدم على النظر إلا إذا غلب على ظنه -خاصة في الحالة الأولى- أنه يقبل، ومن هنا قال بعض العلماء: إنه إذا غلب على ظنه أنه لا يقبل وأن المرأة لا ترضاه ووليها لا يقبله زوجا لها، فإنه لا ينظر إليها؛ لأنه ليس ثم موجب شرعي لاستثنائها من الأصل الذي يحرم عليه النظر إلى الأجنبية.
فأما النظر دون علم المرأة فهو أن يختبئ الرجل للمرأة ويراها في حال خروجها وحال مخالطتها في الخارج للناس حتى ينظر إلى حشمتها وحيائها وطريقة محافظتها على دينها، والمرأة العفيفة الصالحة لها سمات ولها أمارات وعلامات، والخير الذي غيبته القلوب يظهره الله في القوالب، فإن المرأة إذا كانت صالحة ظهر صلاحها في حشمتها وعفتها وبعدها عن مخالطة الرجال حتى في طريقة مشيها، فإن هناك صفات تدل على الموصوف والشخص الذي أتى بها، فالبعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فإذا رآها خراجة ولاجة، ورآها إذا مرت على الرجال لم تستحي ولم تحتشم ودخلت بينهم، أو رآها ترفع بصرها فتكثر التلفت يمينا وشمالا، فمثل هذه الصفات ومثل هذه الأفعال توجب للمسلم أن يتوقف ويتريث عن التعجل في أمره.
وكذلك أيضا هناك مصالح من النظر: فربما نظر في بعض صفاتها ما يحببه فيها ويرغبه فيها بعد وجود الصفات الشرعية التي سبقت الإشارة إليها، وهي التي تدل على عفة المرأة وصلاحها واستقامتها.
فأما النظر على هذا الوجه؛ وهو أن يختبئ لها، فقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في عموم قوله: (انظر إليها) وكان جابر رضي الله عنه -كما ثبتت الرواية عنه- يختبئ لها حتى رأى منها ما يدعوه إلى نكاحها، وكذلك قال الإمام عبد الرحمن الأوزاعي فقيه الشام المعروف رحمه الله برحمته الواسعة، قال: انظر إليها دون أن تعلم حتى لا تتزين، أمر بالنظر إلى المخطوبة دون علم منها حتى لا تتكلف الزينة ولا تتكلف في الطبائع والخلق، وأما النظر الخاص فهو أن يطلب من أوليائها على الوجه المعروف الذي فيه حشمة وفيه محافظة أن يمكن من النظر إلى الموضع الذي أحل الله النظر إليه من المرأة المخطوبة، فإذا رضي أولياء المرأة بالرجل، ورغب الرجل في النكاح، وعلم منه صدق الرغبة، دخلت المرأة بحضور وليها مع الزوج أو بحضور أمه، المهم أنها لا تختلي معه، فتدخل وتكون كاشفة عن وجهها وكفيها، وهذا هو القدر الذي يباح النظر إليه في أصح أقوال العلماء رحمهم الله، خلافا لمن قال: يجوز له النظر إلى جميع المخطوبة عدا السوءتين كما هو قول الظاهرية، أو ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها كما يقول الحنفية رحمهم الله.
ووجه ذلك: أن اختيار الوجه والكفين مبني على أن الأصل عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة كلها، فلا يجوز النظر إلى أي شيء من المرأة، وهذا هو الأصل، ولذلك أمر الله الرجل أن يغض بصره عن أمة الله، وأن لا ينظر إليها: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} [النور:30] فأمر الله بغض البصر وحفظه، وعدم النظر إلى المرأة الأجنبية، وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النظرة المسمومة إلى المرأة التي لا تحل، ولوى عنق الفضل وقال: (رأيت شابا ينظر إلى شابة) فلم يأمن عليهما الفتنة صلى الله عليه وسلم.
فالوجه والكفان اختارهما الإمام أحمد رحمه الله ومن وافقه من العلماء؛ لأن هذا القدر يحصل به المقصود وتتحقق به الحاجة، والقاعدة في الشريعة: أن ما جاز لعذر أو جاز لضرورة أو جاز لحاجة يقدر بقدرها، فأما الوجه فإنه يدل على محاسن المرأة وما وراءه من الأمور التي تكون تبعا للوجه غالبا من طبيعة الجمال وحدوده؛ لأن أكمل ما يكون الجمال في الوجه، وأما بالنسبة لليدين والكفين فإن النظر إليهما لمعرفة طبيعة البشرة، وهذا يتحقق به المقصود من المرأة، يبقى قوامها وطبيعتها، وهذا يكون عند دخولها، فإنه يتمكن من رؤيته مع الحشمة ومع التحفظ كما سبقت الإشارة إليه.
وليس معنى الإذن بالنظر أن يختلي بالمرأة أو يخرج معها كما يفعل بعض من يتساهل بحدود الله عز وجل ومحارمه، فالمرأة إذا خطبت تركت تذهب مع مخطوبها قبل العقد عليها بحجة أن يرى أخلاقها وترى أخلاقه، أو يرى طبيعتها وترى طبيعته أو نحو ذلك من الحجج التي لم ينزل الله بها من سلطان، والتي تغري بالفتنة وتدعو إلى الفاحشة، ومقصود الشرع سد الذرائع المفضية إلى ما حرم الله، فلا يجوز للرجل أن يختلي بمخطوبته، وعليه نص العلماء على أن هذا النظر يكون بالحدود الشرعية؛ فأولا: لا يختلي بها وإنما يكون بحضور محرمها أو بحضور عدد من النساء من اللاتي يجوز له رؤيتهن كأخواته وأمه، فهذا هو الذي ينبغي مراعاته من جهة الخلوة، وأما نظره فإنه يكون إلى الموضع الذي يحصل به المقصود كما تقدمت الإشارة إليه.
ثم يبقى النظر، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله ودعا إليه؛ فأما فعله فإن الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قامت وسألته أن ينكحها صعد بصره فيها وصوبه، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد الرغبة حتى طال الأمر فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فالشاهد: أنه نظر إليها وصعد النظر صلى الله عليه وسلم وصوبه، وهذا يدل على مشروعيته بالسنة الفعلية إضافة إلى السنة القولية، نظر الخاطب لمخطوبته مستحب في أصح أقوال العلماء رحمهم الله، لكن لو أن رجلا خطب امرأة ووافق أولياؤها وعقد له عليها، ثم دخل بها ولم ينظر إليها، فإن هذا لا يوجب بطلان النكاح، والنكاح صحيح ولكن فاتته السنة، والخير كل الخير في اتباع هديه صلوات الله وسلامه عليه، والحرص على سنته صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جعل الهداية والرحمة في متابعته صلى الله عليه وسلم.






ابوالوليد المسلم 14-05-2025 10:58 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (414)

صـــــ(1) إلى صــ(11)



شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [3]
التصريح والتعريض في الخطبة يختلف بحسب اختلاف حال المرأة، فإن كانت ليست بذات زوج وليست معتدة فيجوز التصريح ويجوز التعريض، ولا يجوز التصريح في حالة ما إذا كانت المرأة في عدة طلاق أو عدة وفاة أو فسخ، بخلاف التعريض، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في ألفاظ الخطبة على قولين، منهم من يقول بالوجوب ومنهم من يقول بعدم الوجوب.

التصريح والتعريض في الخطبة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة والمبانة دون التعريض] بعد أن بين رحمه الله أحكام النظر، بقيت الخطبة وبقيت الأحكام المتعلقة بها، وخطبة النكاح كلمات تذكر ليعرب بها عن الرغبة في المرأة ومحبة الزواج منها، وهذه الكلمات تكون على وجهين: الوجه الأول: ما يكون خطبة سابقة للعقد على وجه التعريض.
والوجه الثاني: ما يكون خطبة سابقة للعقد على وجه التصريح، وقد يكون في العقد.
فأما بالنسبة للتعريض والتصريح فهذه هي جملة من الكلمات التي يقولها الرجل أو يقولها وكيله أو يقولها وليه، فيقول الرجل لولي المرأة: إني أرغب في الزواج من فلانة، فهذه خطبة وتعتبر خطبة صريحة، والصريح: هو اللفظ الذي لا يحتمل معنى غيره، وكذلك يسمى النص في الدلالات عند الأصوليين في قول الجمهور، والحنفية يسمونه صريحا، فاللفظ الصريح: هو الذي لا يحتمل معنى غيره، فالرجل إذا قال لولي المرأة: إني أرغب في الزواج من فلانة، فقوله: في الزواج منها، صريح في محبته لنكاحها ورغبته فيها، فإذا أجاب الولي: قبلنا زواجك منها، أو نرضى زواجك منها، أو نرغب في زواجك منها، فهذا أيضا إجابة للخطبة بالإيجاب وعكسه السلب إذا قالوا: لا نرغب أو هي مخطوبة أو نحو ذلك مما يقصد منه الصد، فاللفظ الذي يستخدم في الدلالة والرغبة في المرأة يأتي على وجهين: إما صريحا كقوله: أرغب في نكاحك -يخاطب المرأة- وفي الزواج منك، وإما أن يكون تعريضا؛ والتعريض ذكر العلماء أنه يأتي على صور أشار إلى جملة منها شيخ الإسلام رحمه الله قال: من الخطبة بالتعريض أن يذكر صفات نفسه، ومثل لذلك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما خطب أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، فذكر أنه رسول الله، وأنه خيرته من خلقه، وأن مكانه من قومه لا يخفى عليهم، فاعتبره تعريضا وكأنه ينبهها على رغبته صلى الله عليه وسلم فيها.
والوجه الثاني من التعريض: أن يذكر محاسن المرأة وفضل المرأة، مما يدل على أن مثلها لا يفرط فيه، وأنها كريمة لا تضيع على مثله ونحو ذلك مما لا يصرح فيه باللفظ، فيقال: مثلك لا يعدل عنه، مثلك يرغب فيه، فهذا اللفظ وأمثاله يعتبر من التعريض، فهنا لفظ بالتصريح ولفظ بالتعريض.
شرع رحمه الله في بيان أحكام لفظ الخطبة، وخطبة النكاح اختلف العلماء رحمهم الله فيها على قولين مشهورين: القول الأول لجمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله: أن الخطبة ليست بواجبة، وذهب طائفة من أصحاب داود الظاهري رحمة الله على الجميع إلى القول بوجوبها، ومذهب الجمهور هو أصح القولين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في نكاح الواهبة نفسها أنه لم يذكر الخطبة في تزويجه للواهبة من الرجل، وإنما قال: (أنكحتكها بما معك من القرآن) قالوا: فدل على أن الأفضل والأكمل اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك على الندب والاستحباب وليس على الحتم والفرضية والإيجاب.
وعلى هذا فإن الخطبة مسنونة مستحبة لما فيها من ذكر الله عز وجل، ولما فيها من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، ولفظها يستحب في قول جمهور العلماء أن يكون بخطبة الحاجة الثابتة في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
ثم يذكر الآيات: آية آل عمران: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران:102] .
وآية النساء: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء:1] .
ثم يختم بالآية الثالثة وهي آية الأحزاب: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب:70 - 71] .
فهذه الكلمات هي المسنونة المستحبة أن تقال.
وأما ما يعتاده البعض من التكلف في الكلمات والزيادة في هذه الخطبة، وإيهام العامة أن لخطبة النكاح شيئا زائدا عن هذا الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الالتزام، ولربما لا تخلو بعض هذه العبارات من كلمات فيها تنطع وخروج عن السنن، فذلك مما لم يثبت به شيء في الشرع، والدين يسر وسماحة، فهذه الخطبة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كافية في تحقيق المقصود، ثم يشرع في بيان ما يريده من خطبة المرأة ونكاحها.
قال رحمه الله: [ويباحان لمن أبانها دون الثلاث كرجعية] : يقول رحمه الله: (ويباحان) : الإباحة: الجواز، يقال: هذا شيء مباح إذا أحله الله، واستوى طرفاه، فلم يحرم ولم يؤمر به، وحينئذ يكون في مرتبة الإباحة.
وقوله: (يباحان) : أي: يباح التصريح والتعريض.
بالنسبة لمسألة التصريح والتعريض تختلف بحسب اختلاف حال المرأة، فإن كانت المرأة خلوا ليست بذات زوج وليست بمعتدة، فإن له أن يصرح، وله أن يعرض إذا رأى أن المصلحة أن يبتدئ بالتعريض قبل التصريح، فيباح التصريح ويباح التعريض إذا كانت المرأة خلوا من الرجال، وليست بمعتدة لا من عدة طلاق ولا من عدة وفاة، وأما إذا كانت المرأة معتدة، فحينئذ لا تخلو عدتها من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون معتدة من طلاق.
والحالة الثانية: أن تكون معتدة من غير طلاق، كمن توفي عنها زوجها.
فأما التي تعتد من الطلاق فلا تخلو عدتها من ضربين: إما أن تكون عدتها عدة رجعية، فإذا كانت معتدة عدة رجعية حرم التصريح والتعريض؛ لأن المرأة في حال عدتها الرجعية تكون في حكم الزوجة، قال الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} [البقرة:228] وللزوج في هذه الحالة أن ينبهها أو يبين رغبته في عودتها إليه تصريحا وتعريضا؛ لأنها لم تخرج عن عصمته بالكلية، وله حق الرد.
وأما الضرب الثاني: وهو أن تكون مطلقة طلاقا بائنا بينونة صغرى أو بينونة كبرى، فإنه يحل أن يعرض بخطبتها فيقول: إني في مثلك راغب، مثلك يرغب فيه، هذا بالنسبة للتعريض، أما التصريح: فلا يجوز أن يصرح لامرأة معتدة حتى ولو كانت من عدة وفاة، فالتصريح لا يجوز أن يكون لا في عدة الطلاق ولا في عدة الوفاة ولا في عدة الفسخ، وإنما يختص التعريض بالطلاق البائن، قال تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم} [البقرة:235] فأباح الله عز وجل التعريض بخطبة النساء، وهذا في حال إذا كانت العدة للمرأة من طلاق بائن.
وأما بالنسبة للتصريح فإن منطوق الآية الكريمة يبيح التعريض، ومفهوم الآية الكريمة يحرم التصريح؛ لأن الله يقول: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} [البقرة:235] ، فقوله تعالى: (ولا جناح) هذا من صيغة الإباحة، وعند علماء الأصول: أن لا جناح ولا حرج -نفي الحرج والجناح- من صيغ الإباحة، كأن الله يبيح ويحل لعباده في حال رغبة الرجل في المرأة وهي معتدة من زوجها إذا كانت في عدتها أن يعرض ويقول: إني في مثلك راغب، فقال: {فيما عرضتم به من خطبة النساء} [البقرة:235] فقوله: (فيما عرضتم) مفهوم ذلك: أن الجناح والحرج في التصريح، وحكى بعض أهل العلم الإجماع على حرمة التصريح بخطبة المرأة وهي معتدة، سواء كانت من طلاق أو من وفاة أو من فسخ وخلع.
قال رحمه الله: [ويحرمان منها على غير زوجها] : مفهوم ذلك: أن الزوج إذا كانت زوجته معتدة منه، أنه يحل له أن يصرح ويحل له أن يعرض، وذكر بعض العلماء أن المنع من التصريح لما فيه من إفساد المرأة على زوجها، وإحداث الضغائن؛ لأن المرأة تنصرف إلى زوجها خاصة في حال كونها مطلقة طلاقا رجعيا، فالمعتدة من طلاق رجعي مقصود الشرع بعدتها أن يعيد كل منهما النظر حتى يفيء إذا رأى الخير في الفيء، كما قال الله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق:1] ، فهذا مقصود عظيم، أو يتفرقا فيغني الله كلا من سعته.
من تأمل حكمة الشرع والمعاني التي تنبني على تشريع هذه العدة للمطلقة الرجعية، والأحكام التي قررها الإسلام لمثلها علم أنه لا أحسن من الله حكما لقوم يوقنون، فهذه حكم عظيمة، فكون هذا الغريب يدخل بين الزوج وزوجته ويصرح لها، فلا يبعد أن تفسد النساء، وتحدث الضغائن، وتتشتت الأسر، وقد تكون الزوجة ذات عيال والرجل يرغب أن يعود إلى عياله، وإنما يريد أن تتريث المرأة في عجلتها، وأن تعيد النظر في تصرفاتها لعلها أن تتأدب بهذه الطلقة، فإذا بالغريب يهجم بالتصريح فيغريها أن تنزع عنه وتنصرف عنه، فهذا كله يفسد ما قصد الشرع إصلاحه، ويبدد ما قصد الشرع جمعه، فحينئذ أجمع العلماء -كما حكى بعض أهل العلم- على أنه لا يجوز التصريح للمطلقة طلاقا رجعيا لهذا المعنى.
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم التعريض كما سبقت الإشارة إليه في حديث أم سلمة رضي الله عنها، وقول جماهير العلماء على مشروعيته في الأحوال التي أذن الشرع بها في العدة من الطلاق أو من الوفاة على التفصيل الذي تقدمت الإشارة إليه.

تحريم خطبة المسلم على خطبة أخيه
قال رحمه الله: [فإن أجاب ولي مجبرة أو أجابت غير المجبرة لمسلم حرم على غيره خطبتها] قوله: (فإن أجاب ولي مجبرة) بعد أن بين رحمه الله مشروعية الخطبة ببيان هذه الأحكام، وبين أحوالها وأحكامها؛ متى تجوز؟ ومتى تحظر؟ وما الذي يحظر من أنواعها؟ شرع في بيان مسألة مهمة، مما تعم به البلوى في مسائل الخطبة؛ وهي مسألة خطبة المسلم على خطبة أخيه، وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أنه نهى عن خطبة الرجل على خطبة أخيه) فالأصل الشرعي دال على حرمة أن يخطب مع علمه بأن أخاه المسلم قد سبقه في الخطبة، وهذا -أعني: تحريم خطبة المسلم على أخيه- محل إجماع.
وذكر بعض أهل العلم حكما عظيمة في هذا التحريم، منها: أن مقصود الشرع أن يجتمع شمل المسلمين، وأن يتآلفوا وأن يتراحموا ويتعاطفوا، وهذا هو الذي يقصد من كثير من شرائع الإسلام، ولذلك من تأمل أحب الأعمال إلى الله وأزكاها عند الله عز وجل بعد الشهادتين وهي: الصلاة، وجدها صلاة مع الجماعة، تنتظم التآلف والتعاطف والتكاتف وكأنهم كالجسد الواحد.
وهذا المقصود الشرعي من الاجتماع، وقد دعا إليه بالترغيب فيه والتأليف فيه، ونهى عن ضده، حتى حرم بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأن بيعه على بيعه يقطع أواصر الأخوة، ويحدث الشحناء والبغضاء، وحرم بيع الغرر ونحو ذلك من البيوع التي وردت السنة بتحريمها، مما يقصد منه دفع الشحناء والبغضاء بين المسلمين.
كذلك في كتاب النكاح، جاءت هذه الصورة من الحكم الشرعي لكي تبين أن مقصود الشرع أن يجتمع شمل المسلمين، وألا تكون هذه المقاصد الدنيوية وسيلة، وإن كانت فيها معان شرعية من وجوه؛ لكن ينبغي ألا تكون وسيلة لقطع أواصر الإسلام ووشائج المحبة بين المسلمين، ثم إن هذا الحكم من العدل الذي قامت به السموات والأرض، فالسابق له حقه في السبق، فإذا جاء الثاني من بعده أفسد عليه، وكذلك ضيع حقه في السبق، فإذا علم المسلم أن أخاه قد تقدم فلا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يجاب الخاطب الأول، فإن أجيب بالرغبة فلا يجوز بإجماع العلماء أن يتقدم الثاني، وإن أجيب بالنفي فبالإجماع يجوز للثاني أن يخطب، وأصبحت الخطبة الأولى وجودها وعدمها على حد سواء، وإن توقف في الرجل لكي يسأل عنه، فهذا ظاهر النص أنه لا يجوز حتى يستقر الأمر، وقال بعض العلماء: يجوز لحديث فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، حيث جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أن أبا الجهم ومعاوية بن أبي سفيان قد خطباها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه، انكحي أسامة) فخطب لها عليه الصلاة والسلام مع وجود خطبة معاوية وأبي الجهم قالوا: إنه لم يحصل فيها ركون، فوقعت خطبتان ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فهذان وجهان مشهوران لأهل العلم، وأستأذن سماحة الشيخ أن يرجح في هذه المسألة.
-
ما رأيكم يا شيخ! في هذه المسألة؟ - ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار عليها بـ أسامة ولم يخطبها له.

-
نعم.

-
ولكنه رأى لها أن تقدم أسامة، وأسامة لم يخطب على خطبة أبي جهم ولا معاوية، فكان هذا على نيته وهذا على نيته، ولا يوجد دليل على أن واحدا خطبها وهو يعلم بخطبة الآخر، كل واحد خطبها على ما أراد، ولم يعلم بخطبته أحد.

-
جزاكم الله خيرا، حفظكم الله، ترون أنه يبقى الأصل الشرعي من عدم جواز الخطبة على الخطبة؟ الشيخ ابن باز: ما فيه شك، وهذا هو الأصل.

-
جزاكم الله خيرا.

الشيخ ابن باز: ومن ظن أن النبي خطبها لـ أسامة فقد غلط، أسامة خطب مع الخاطبين؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رجح لها أسامة يعني: أشار عليها بـ أسامة.
-
جزاكم الله خيرا، الله يحفظكم.

الحالات التي يجوز فيها الخطبة على خطبة الغير
قال رحمه الله: [وإن رد] : أي: الأول، والرد من المرأة ومن وليها ينبغي أن يفصل فيه، فإذا ردت المرأة فينبغي عليها ألا تستعجل في ردها وأن تسأل عن الرجل من تثق به من مواليها وقرابتها، فإذا كان دينا صالحا كفؤا كريما فعليها أن تبادر بالقبول؛ لأنها نعمة من الله سبحانه وتعالى، والنعمة تشكر ولا تكفر، ومن شكر نعمة الله عز وجل أن تقبل هذا الزوج الصالح الدين، وأن ترضاه لكي يكون معينا لها على طاعة الله ومرضاته.
وهكذا الولي، فإن الله جعله وليا على المرأة لكي يتقي الله عز وجل في نظره، فيطلب الأصلح لها في دينها ودنياها حتى يؤدي أمانته على الوجه الذي يرضي الله، فإذا خالفت المرأة هذا الأصل وخالف الرجل فرد الكفء الصالح؛ فإنها لا تأمن من عقوبة الله عز وجل، فمن سنن الله عز وجل أن من رد نعمته وقابلها بالكفر ألا تؤمن له العاقبة، وقل أن تعرض المرأة عن الرجل الصالح والكفء إلا ابتليت، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم) فالرد ينبغي أن يكون بتأمل، وأن تنظر المرأة الأحظ لها في أمر دينها.
فإذا رد الخاطب الأول جاز للخاطب الثاني أن يتقدم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم خطبة الثاني على خطبة الأول لمكان الإفساد، ولما يترتب عليه من حصول الضغائن والشحناء، وقد جاء الإسلام بما يوجب المحبة والألفة والمودة، وقفل الأبواب والوسائل المفضية إلى ضد ذلك.
قال رحمه الله: (جاز) وهنا جواب قوله: (وإن رد) أي: جاز للخاطب الثاني أن يتقدم سواء علم بالرد من ولي المرأة، أو سمع من الناس ممن يوثق به أن فلانا تقدم ولم تقبل خطبته، فحينئذ يجوز له التقدم.
قال رحمه الله: [أو أذن أو جهلت الحال جاز] : (أو) للتنويع، فهذه حالة ثانية يجوز فيها للرجل أن يتقدم بخطبته للمرأة إذا أذن له الخاطب الأول، وذلك لأن الخطبة الأولى من حق المتقدم الأول، فإذا تنازل عن حقه وأذن للثاني جاز للثاني أن يتقدم.
وقوله رحمه الله: (أو جهل الحال) : كرجل تقدم ولم يعلم بخطبة الأول فخطب خطبة ثانية، فإنه لا بأس ولا حرج عليه؛ لأنه لا علم له بخطبة الأول، فانتفى فيه قصد الإضرار؛ لأن التكليف مبني على العلم، وهذا لا علم عنده، فارتكابه للمحظور لم يأت عن قصد، ولذلك يعتبر في هذه الحالة معذورا، وحمل عليه خطبة معاوية وأبي الجهم وأسامة على أنهم تقدموا دون علم بعضهم لبعض، على أحد الأوجه في الحديث.










ابوالوليد المسلم 14-05-2025 11:02 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




الوقت المستحب للخطبة
قال رحمه الله: [ويسن العقد يوم الجمعة مساء بخطبة ابن مسعود] .
بعد أن بين رحمه الله مشروعية الخطبة، والأحوال التي تجوز فيها الخطبة، والأحوال التي تحظر فيها الخطبة شرع رحمه الله في بيان الميقات المستحب للخطبة، وهذا على ما اختاره.
قال رحمه الله: (ويسن) ، والسنة: الطريقة، والمراد بها هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عليه، سواء ثبت بقوله أو فعله أو تقريره صلوات الله وسلامه عليه، فيقال: هذا من السنة، إذا ثبت به الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل أن هذه العبارة لا ينطق بها إلا بحجة، فلا يقال: من السنة كذا، ولا يقال: يسن، إلا بدليل يدل على ثبوت ذلك الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حسب علمي في حديث صحيح أنه استحب النكاح يوم الجمعة أو دعا إليه أو رغب فيه، ويوم الجمعة يوم له فضله ولكن النص على السنية والحكم بكونه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لا يخلو من نظر، ولذلك يبقى الأمر مطلقا كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو قيل بسنية يوم الجمعة لتحرى الناس بخطبتهم يوم الجمعة، وهذا يؤدي إلى اعتقاد في اليوم، ولم يرد النص بهذا التقييد على هذا الوجه، فالذي يظهر أنه يتوقف أو يمنع من الحكم لكونه سنة حتى يثبت الدليل، ولا أعلم دليلا حسب علمي.
قوله: (بخطبة ابن مسعود) .
خطبة ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قيل لها خطبة ابن مسعود لأنها جاءت من روايته رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد في الصلاة، والتشهد عند الحاجة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم تذكر الآيات، منها آية آل عمران: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران:102] وآية النساء: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء:1] ثم يختم بآية الأحزاب: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب:70 - 71] .
ثم يشرع بعد ذلك في خطبته، فيذكر مضمون خطبته من طلب نكاح المرأة، وإذا كان وليا للزوج كمن يريد أن يزوج ابنه الصغير ذكر ذلك وبين أنه يرغب بتزويج ابنه، أو كان وكيلا عن الزوج ذكر بعد هذه الخطبة ما يريده من طلب المرأة لموكله ونحو ذلك، فيبتدئ الخاطب ويذكر هذه الخطبة، ثم يذكر المضمون الذي يريده من طلب زواج المرأة ونكاحها، هذا بالنسبة للخاطب، وهل تكرر بالنسبة للمخطوب؟ قال جمع من العلماء: إنما تشرع للخاطب الأول ويقتصر على ذلك ولا حاجة أن يقول ولي المرأة هذه الخطبة، وإن قالها؟ قالوا: لا بأس بذلك لكن الأصل الوارد والأولى بالإتباع كما اختاره الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه اقتصر في ذلك على الخاطب الأول.




أركان النكاح




الزوجان الخاليان من الموانع
قال رحمه الله: [فصل: وأركانه الزوجان الخاليان من الموانع، والإيجاب والقبول] .
قوله: (وأركانه) أي: أركان عقد النكاح؛ (الزوجان الخاليان من الموانع) .
من عادة العلماء رحمهم الله والفقهاء خاصة أن يعتنوا ببيان أركان العبادات وأركان المعاملات؛ لأن هذا مما يعين على التصور وفهم المسائل وضم بعضها إلى بعض، فإذا عرفت أركان العقد ضمت مسائل كل ركن إلى ما جانسها وشاكلها، ولذلك هذا التقسيم الذي درج عليه الفقهاء رحمهم الله يعين على التصور والفهم كثيرا، إضافة إلى أنه قد تترتب الأحكام الشرعية على معرفة الأركان في العبادة، وهي التي يحكم ببطلانها عند فقد واحد منها.
وقوله رحمه الله: (الزوجان الخاليان من الموانع) .
(الزوجان): مثنى زوج، والمراد بالزوجين هنا: الذكر والأنثى، ويختصان بجنس بني آدم فلا يشملان غيرهما، ومن هنا نص العلماء على أنه لا زواج بين الإنس والجن، ومسألة الزواج من الجنية نص بعض علماء السلف رحمهم الله على أنه لا يعتد به ولا يعتبر مثل هذا الزواج؛ لأن الله تعالى يقول: {وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} [النساء:1] فبين الله تعالى أن الزوجة من الإنسان تكون له كما قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها} [الروم:21] فجعل الحكم خاصا على هذا الوجه، فدل على أنه لا زواج عند اختلاف الجنسين، ومن هنا قال الإمام مالك رحمه الله: (لو فتح هذا الباب لادعت كل زانية أنها منكوحة من جني، وفتح باب الفساد على هذا الوجه) .
وقوله: (الزوجان) قلنا: يشمل الذكر والأنثى، وعلى هذا ينظر في الخنثى؛ فإن تبين أنه رجل أعطي حكم الرجال، وإن تبين أنه أنثى أعطي حكم النساء، وإن أصبح مشكلا توقف فيه.
وقوله رحمه الله: (الخاليان من الموانع) .
الموانع: جمع مانع، والمانع هو: الحائل بين الشيئين؛ كالجدار ونحوه.
وأما في الاصطلاح: فالمانع هو الذي يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود.
والموانع التي تمنع من النكاح تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الموانع المؤبدة، وهي تشمل: مانع النسب، ومانع الرضاع، ومانع المصاهرة.
فأما مانع النسب فهو لسبع من النسوة: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت؛ فهؤلاء سبع محرمات من جهة النسب على ظاهر آية النساء: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} [النساء:23] وأما المانع الثاني: فهو مانع المصاهرة ويشمل أربعا: الأول: زوجات الآباء؛ وهي كل أنثى عقد عليها الأب أو أبوه وإن علا، سواء دخل بها أو لم يدخل لظاهر قوله سبحانه: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء:22] .
وزوجات الأبناء لقوله سبحانه: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23] وهي: كل أنثى عقد عليها الابن أو ابنه وإن نزل، سواء دخل أو لم يدخل؛ لأن المرأة تكون حليلة له بالعقد.
والثالثة: بنت الزوجة، وهي الربيبة سواء كانت في الحجر أو لم تكن في الحجر؛ أما إذا كانت في الحجر فلقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} [النساء:23] ، وأما بالنسبة للتي ليست في الحجر فعلى ظاهر حديث أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها في الصحيح: (فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) وخرجت الآية مخرج الغالب، والقاعدة: (أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه) .
وأما النوع الرابع: فهي أم الزوجة، وهي تحرم على زوج ابنتها لقوله تعالى: {وأمهات نسائكم} [النساء:23] وتحرم بمجرد العقد.
وأما بالنسبة للربيبة فإنها تحرم بشرط الدخول.
فهؤلاء أربع من المصاهرة وهو المانع الثاني من النكاح.
وأما المانع الثالث الذي يمنع النكاح: فهو الرضاع، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، وعلى هذا فإن المرأة تحرم بواحد من هذه الثلاث الموانع إلى الأبد، فالأم حرام إلى الأبد، وهكذا البنت وبقية من ذكرنا، وقد تحرم المرأة إلى الأبد لعارض كما في زوجة الملاعن كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عويمر العجلاني، وقصة هلال بن أمية لما قذف امرأته بـ شريك بن سحماء ففرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الزهري: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين، فهذا مانع إلى الأبد لعارض.
القسم الثاني من الموانع التي تمنع النكاح: الموانع المؤقتة، فهذه موانع لها أسباب تزول بزوالها، فمنها: مانع الجمع؛ كالجمع بين الأختين، والجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، أما تحريم الجمع بين الأختين فلظاهر آية النساء: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء:23] وأما بالنسبة للجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها فلما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها) فهذا المانع -وهو مانع الجمع- يزول إذا طلق الأخت الأولى وخرجت من عدتها، وهكذا بالنسبة للعمة والخالة.
أما بالنسبة للنوع الثاني من الموانع المؤقتة: فهو مانع الشرك؛ لأن الله حرم نكاح المشركة والوثنية: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة:221] فهذا مانع إلى أمد لقوله: {حتى يؤمن} [البقرة:221] والقاعدة: (أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم) فحرم نكاح الوثنية حال شركها وكفرها، فإن أسلمت زال المانع، ولا يحل نكاح مجوسية، قال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) .
كذلك أيضا من الموانع التي تكون إلى أمد: مانع المطلقة ثلاثا، فإنه يمتنع نكاحها حتى تنكح زوجا غيره وتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها على ظاهر السنة، لحديث امرأة رفاعة رضي الله عنها وعنه.
كذلك أيضا من الموانع المؤقتة: الزوجية؛ وهو أن تكون زوجة للغير، لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء} [النساء:24] فلا يحل نكاح المرأة إذا تزوجت، لكن هذا يختص بالنساء دون الرجال، فالرجل يجوز له أن ينكح إلى أربع.
كذلك أيضا هناك مانع مؤقت وهو: مانع العدد، فمن نكح أربعا من النسوة لم يحل له النكاح حتى يفارق واحدة منهن وتخرج من عدتها حتى لا تبقى في العصمة، فإذا مات لا يجمع في عصمته بين خمس.
فالمقصود: أن هذه الموانع تزول بزوال موجباتها وأسبابها، فإذا زالت حل النكاح، فلا نحكم بكون النكاح نكاحا شرعيا إذا خالف فنكح من منعه الله من نكاحه، فلو نكح محرما له لا نعتبره نكاحا وإنما يعتبر زنا والعياذ بالله، وهكذا نكاح بنته من الرضاع، أو أخته من الرضاع مع العلم بوجود الرضاع المؤثر، فالمقصود: أنه لا يحكم بكون النكاح نكاحا شرعيا إلا إذا كان الزوجان خاليين من الموانع؛ يشمل ذلك الموانع المؤبدة والموانع المؤقتة على التفصيل الذي ذكرناه.
الإيجاب والقبول
قوله رحمه الله: [والإيجاب والقبول] .
الركن الثاني: الإيجاب، والثالث: القبول.
على ما اختار الشارح، فقد جعل قوله: (الزوجان الخاليان من الموانع) الركن الأول، ثم جعل (الإيجاب) الثاني، (والقبول) الثالث.
بعض الفقهاء يقول: النكاح يقوم على ركن واحد وهو الصيغة، نظرا إلى أن الصيغة تفتقر إلى موجب وقابل، فالإيجاب والقبول يرد على محل، فلا خلاف بين القولين؛ لأن النتيجة واحدة والثمرة واحدة، وأين ما كان.
قوله رحمه الله: (الإيجاب) ؛ مثل قوله: زوجتك، أو نكحتك أو أنكحتك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنكحتك هذه بما معك من القرآن) ، فالإيجاب قول الولي: زوجتك وأنكحتك، والقبول قول الزوج: قبلت ورضيت، ونحو ذلك من العبارات الدالة عن القبول والرضا.
والإيجاب والقبول هما ركنا الصيغة، والنكاح يفتقر إلى صيغة، ولا يمكن أن تتحقق إلا بالإيجاب والقبول، فإذا وجدت الصيغة: زوجتك بنتي فلانة، وقال: قبلت، فقد تمت، وحينئذ يترتب اللزوم، فلزوم العقد مترتب بوجود الصيغة الكاملة المستوفية للشروط المعتبرة، فإذا حصلت الصيغة على هذا الوجه صار النكاح لازما.
ألفاظ النكاح
قال رحمه الله: [ولا يصح ممن يحسن العربية بغير لفظ: زوجت، أو أنكحت، وقبلت هذا النكاح، أو تزوجتها، أو تزوجت، أو قبلت] .
الإيجاب والقبول لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون باللفظ العربي.
والحالة الثانية: أن يكون بغير العربية.
فأما إذا كان باللفظ العربي فإما أن يكون باللفظ الصريح وإما أن يكون باللفظ غير الصريح، وإن كان بلفظ العربية وقال: زوجتك، وهو اللفظ الصريح، فبالإجماع أن الصيغة معتبرة، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على صحة النكاح باللفظ الصريح، وجعلوا للصريح لفظين: الأول: أنكحتك، والثاني: زوجتك، قال تعالى: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي} [القصص:27] فقال: (أن أنكحك) فالإنكاح يعتبرونه من صريح ألفاظ النكاح، كذلك أيضا الزواج، قال تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} [الأحزاب:37] .
فيعتبر العلماء رحمهم الله لفظي الإنكاح والتزويج من الصريح، والإجماع منعقد على أن ولي المرأة إذا قال: زوجتك ابنتي فلانة، أو قال له: أنكحتك ابنتي فلانة، وقال الآخر: قبلت، فإن النكاح صحيح والصيغة معتبرة.
أما اللفظ غير الصريح مما يدل على إرادة النكاح إما بحسب العرف، أو تكون دلالة بألفاظ مخصوصة، وذكر العلماء رحمهم الله منها لفظ (ملكتك) وكذلك أيضا (وهبتك) و (أعطيتك) ونحو ذلك، فإن قال له: ملكتكها أو أعطيتكها أو وهبتها لك، فاختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين مشهورين: القول الأول: أنه لا يصح النكاح إلا باللفظ الصريح دون غيره، وهذا هو مذهب الشافعية رحمهم الله، واختاره جمع من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني: أنه يصح بهذه الألفاظ وبكل ما دل على النكاح عرفا أو بسبب وجود القرينة كذكر مهر ونحو ذلك، وهذا هو مذهب الجمهور، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك الإمام ابن القيم، وبين أن النصوص وهدي السلف الصالح رحمهم الله على عدم تقييد النكاح بلفظ معين؛ لأن العبرة في معرفة الرضا والوصول إليه، وقد تكلم على هذه المسألة بكلام نفيس في كتابه النفيس: (القواعد النورانية) عند بيانه لمسألة البيع بالمعاطاة، وذكر أن السلف الصالح رحمهم الله ما كانوا في العقود يقتصرون على ألفاظ معينة بل كانوا ينزلون دلالة الظواهر والأعراف منزلة الألفاظ الصريحة، ومن أمثلة ذلك مما اشتهر: كمن بنى مسجدا وفتح أبوابه، وكمن أخرج صنابير الماء للسقيا والشرب، فإن هذا كله يدل على الإذن، قال: فتنزل هذه الدلائل العرفية منزلة الألفاظ القولية، ولن يحصر النكاح بلفظ معين، وأكد هذا بما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله في حديث الواهبة: (أملكتكها بما معك من القرآن) .
وفي لفظ: (ملكتكها بما معك من القرآن) .
وعلى هذا القول الراجح الذي دلت عليه السنة ودل عليه هدي السلف الصالح: أنه يصح النكاح بكل لفظ يدل على الرضا، حتى ولو جرى العرف بألفاظ ليست من صريح النكاح، فإنه يحكم بالاعتداد بها واعتبارها.
الحالة الثانية: أن يكون الزوج والولي لا يحسنان العربية، فهل يجب عليهما أن يتعلما العربية حتى ينطقا باللفظ المخصوص، أم أنه يصح النكاح بما يدل عليه في لغتهم؟ فمقتضى ما سبقت الإشارة إليه من كلام شيخ الإسلام رحمه الله وهذا يختاره جمع من المحققين: أن من لا يحسن العربية يزوج باللفظ المعروف في عرفه، وأنه يكفي ذلك، ولا يجب عليه أن يتعلم الألفاظ العربية في النكاح بل يزوج بالألفاظ التي عرفت في لسان قومه ولغتهم.
حكم من جهل ألفاظ النكاح
قوله: [ومن جهلهما لم يلزمه تعلمهما وكفاه معناهما الخاص بكل لسان] .
هذا هو الذي تقدمت الإشارة إليه من أنه لا يشترط أن يتقيد باللفظ العربي، بل إن الألفاظ الغير العربية تنزل منزلة الألفاظ العربية؛ لأن العبرة بوجود الرضا، وإذا خطب الرجل بلسان قومه وأجيب فإن هذا يدل على الرضا كما لو خطب بالعربية، فالعبرة بوجود الرضا الذي تنبني عليه العقود ويحكم باعتبارها بسبب وجوده.
وعلى هذا فيصح بغير العربية كما يصح بالعربية بجامع وجود الرضا.
حكم تقدم القبول على الإيجاب والعكس
قال رحمه الله: [فإن تقدم القبول لم يصح] : بعد أن بين رحمه الله لزوم الإيجاب والقبول، وبين نوع الإيجاب والقبول من حيث اللغة واللسان، شرع في مسألة تقدم الإيجاب على القبول والعكس، فالأصل أن الإيجاب يسبق القبول، يقول ولي المرأة: أنكحتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف مثلا، فيقول الزوج: قبلت، أو يقول وكيله: قبلت أو رضيت، فحينئذ تقدم الإيجاب وترتب القبول عليه، وعلى هذا فبإجماع العلماء: أنه إذا وقعت الصيغة على هذا الوجه أن النكاح صحيح والعقد معتبر؛ لأن الأصل في الإيجاب أن يتقدم على القبول، سواء جاء بصيغة الإنكاح أو التزويج أو غيرها، المهم أنه إذا سبق الإيجاب القبول اعتد به.
وأما إذا حصل العكس، وهو أن يتقدم القبول على الإيجاب كقول الزوج: زوجني ابنتك فلانة.
قال: قبلت.
أنكحني ابنتك فلانة، قال: قبلت.
فللعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران: القول الأول: أنه لابد من ترتب القبول على الإيجاب، وبهذا القول قال فقهاء الحنابلة رحمهم الله.
والقول الثاني: أنه يجوز تقدم القبول على الإيجاب، ولا بأس في ذلك، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.
بناء على هذا: يجوز أن يتقدم القبول على الإيجاب، وهذا بلا إشكال؛ لأن المقصود حصل بذلك، فإنه إذا تقدم القبول على الإيجاب استفيد منه ما استفيد من ترتب القبول على الإيجاب، وعلى هذا يستوي أن يتقدم الإيجاب على القبول أو يتأخر عنه.
قوله: [وإن تأخر عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعهما] .
من مسائل الإيجاب والقبول أن الأصل أن يقع القبول بعد الإيجاب، فإذا قال له: زوجتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف مثلا، قال: قبلت، فإنه ينبغي أن يكون القول: قبلت في الأصل مرتبا على الإيجاب بحيث لا يقع الفاصل المؤثر بينهما، فإذا وقع الفاصل؛ فتارة يكون بالأقوال وتارة يكون بالأفعال.
فأما الفاصل بالأقوال: أن يقول له: زوجتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف مثلا، فلا يجيبه الزوج أو الخاطب بالقبول، ثم يتكلمان في أمر غريب خارج عن هذا الأمر من بيع أو إجارة أو سؤال عن حال أحد، ثم بعد ذلك يقول: قبلت، فإذا وقع الفاصل الأجنبي من هذا الكلام الأجنبي فيعتبر فاصلا مؤثرا عند من يرى تأثير الفصل، وأما إذا كان الفاصل من الأقوال من جنس الخطبة ومن جنس الإيجاب والقبول، بمعنى أن يكون في شأن النكاح مثل أن يقول له: زوجتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف، قال: كم عمرها؟ وأين عملها؟ وأخذ يسأل عن أمور تتعلق بها وطالت الأسئلة، ثم لما أجابه عنها قال: قبلت، فنص طائفة من العلماء على أن هذا الفاصل لا يؤثر؛ لأنه داخل في الإيجاب والقبول وليس بأجنبي.
وأما بالنسبة للفصل بالأفعال: فمثل أن يخرج من مجلس العقد، كما لو قال: زوجتك ابنتي فلانة، فيخرج الخاطب ويفترق عن المجلس ثم يرجع ويقول: قبلت، فقالوا: إنه إذا خرج عن المجلس فقد انقطع القبول عن الإيجاب؛ لأن الأصل في العقود أن تكون في المجلس، ولذلك جعل الشرع الخيار للمجلس، أما إذا افترقا عن المجلس صار خروجه عن المجلس قبل قبوله بمثابة الإعراض، فلابد من إنشاء إيجاب جديد وقبول جديد.
قال رحمه الله: [وإن تفرقا قبله بطل] .
أي: قبل القبول، وقوله: (بطل) يعني: الإيجاب، وعلى هذا فإنه لا يصح أن يأتي بعد المجلس ويقول: قبلت؛ لأن التفرق يرفع حكم المجلس الأول وما كان فيه من إيجاب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.





ابوالوليد المسلم 14-05-2025 11:05 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (415)

صـــــ(1) إلى صــ(5)



شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [4]
النكاح الشرعي له شروط لابد من وجودها حتى يحكم بصحته، منها تعيين الزوجين، ومنها أيضا رضاهما، ومن الناس من لا يشترط رضاه لإتمام عقد النكاح؛ كالبالغ المعتوه، والمجنون، والصغير، والبكر.

تعيين الزوجين شرط من شروط عقد النكاح
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل اجتماعنا اجتماعا مرحوما، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيا ولا محروما.
وفي بداية هذه الدروس أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن الله إذا أحب عبدا من عباده رزقه التقوى وجعله من أهلها ووفقه لخصالها وخلالها، وطالب العلم عليه مسئولية عظيمة فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وفيما بينه وبين العلم، وأعظم مسئولية بينه وبين الله سبحانه: إرادة وجه الله الكريم، والقصد لما عند الله.
ولو أن طالب العلم في كل مجلس يستفتح مجلسه ويختمه بالوصية بالإخلاص لما كان ذلك كثيرا، فحق الله أعظم الحقوق؛ إخلاص الدين لوجهه وإفراده بالعبادة، وترك الرياء والسمعة وحب الظهور، ويتجه طالب العلم بكليته إلى الله سبحانه حتى يحبه وإذا أحبه وفقه.
وخير ما نتواصى به: أن يجدد طالب العلم في قلبه الإخلاص لوجه الله سبحانه وتعالى، وأن يتفقد ما في سريرته، فإن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح لله سريرته أصلح الله له علانيته، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم إخلاص القول والعمل.
ستكون دروسنا إن شاء الله تتمة لما مضى من مسائل النكاح، وقد قدمنا بيان جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بمقدمات كتاب النكاح، واليوم إن شاء الله نتم الحديث عن الشروط التي ينبغي توفرها وينبغي وجودها للحكم بصحة عقد النكاح، فالنكاح الشرعي يفتقر إلى صفات وأسباب لابد من وجودها لكي يحكم من خلالها بصحة العقد.
يقول المصنف رحمه الله: [فصل: وله] : أي: لعقد النكاح [شروط] : أي: أمارات وعلامات لابد من توفرها، وهي شروط لصحة عقد النكاح.
[أحدها: تعيين الزوجين] : فلا يصح النكاح حتى يعين الولي الزوجة، ويعين الزوج الذي يريد نكاحها، والمعين ضد المجهول، فلا يصح نكاح المرأة المجهولة، فلو قال له: أزوجك امرأة، فإن (امرأة) نكرة، وحينئذ تصدق على أي امرأة، وكذلك لو قال له: أزوجك بنتا من بناتي.
وعنده أكثر من بنت مختلفة الصفات، فإنه في هذه الحالة لا تجيز الشريعة هذا العقد؛ لأنه ربما انصرف ذهن الزوج إلى الجميلة فصرفه الولي إلى من هي أردأ.
في عقود المعاوضات تشدد الشريعة على الجهالة، فلا تجيز العقد بالمجهول، ففي الزواج لابد أن تكون الزوجة معلومة ويكون الزوج معلوما، فلو قال الولي لجماعة من الناس: زوجت واحدا منكم بنتي فلانة، فقوله: (واحدا منكم) هذا كلام مجهول، فلا يصح العقد على مجهول، ولا ندري من هو، أو قال: زوجت بنتي لواحد من أبنائك، وعنده خمسة أبناء، ولم يحدد أحدهم، فإن العقد لا يصح، فلابد من معرفة الزوجة والزوج.
وهذا هو مراده رحمه الله من قوله: (أحدها: تعيين الزوجين) ، والتعيين بمعنى أن يعينه؛ ويكون التعيين بالاسم، ويكون بالصفة، ويكون بما يتميز به، فلو كان عند الولي خمس بنات في المجلس، فأشار إلى واحدة منهن وقال: زوجتك بنتي هذه، فهذا يصح؛ لأنه يقع بالإشارة، ويقع بالاسم، ويقع بما يتميز به الشيء.
قال رحمه الله: [تعيين الزوجين، فإن أشار الولي إلى الزوجة أو سماها أو وصفها بما تتميز به] : قوله: (فإن أشار الولي إلى الزوجة) .
كأن يقول: هذه -كما ذكرنا- فالإشارة تعيين، كما لو قلت له: أبيعك كتابي هذا أبيعك سيارتي هذه أبيعك بيتي هذا، فالشريعة الإسلامية توجب صرف الجهالة، يعني: في العقود لابد أن يكون المعقود عليه معلوما لا مجهولا، فقال رحمه الله: (فإن أشار) الفاء للتفريق، يعني: إذا ثبت هذا فإنه ينبني عليه أنه إذا حصل التعيين إما بالوصف أو بالاسم أو بالإشارة، كأن يقول: زوجتك بنتي المتعلمة، وعنده بنت متعلمة وبنت غير متعلمة، أو يقول: زوجتك بنتي البالغة، وعنده بنت بالغة وبنت صغيرة، فلما قال: البالغة، عين وحدد فينصرف العقد إليها.
فإذا: التعيين يكون بالوصف، وبالاسم، وبالإشارة، ويكون بما يتميز به.
في بعض الأحيان يبهم الولي، ولكن هذا الإبهام ينصرف إلى معلوم، كقوله: زوجتك بنتي.
وليس عنده بنت غيرها، فإنه حينئذ نعلم أن مراده فلانة التي ليس له غيرها، فيصح العقد كما لو قال له: زوجتك عائشة، وليس له بنت غيرها.
[أو قال: زوجتك بنتي وله واحدة لا أكثر صح] هذا كما يقولون: المجهول الذي يئول إلى العلم، فعندنا مجهول يئول إلى العلم، وهذا يصح به العقد، ومجهول لا يئول إلى العلم وإنما يبقى على جهالته، فهذا لا يصح، فلو قال رجل عنده بنتان فأكثر: زوجتك بنتي بعشرة آلاف قال: قبلت، لم يصح العقد؛ لأننا لا ندري هل يعني الكبيرة أو الصغيرة، هل يعني الجاهلة أو المتعلمة، هل يعني الصالحة أو غير الصالحة، فيتردد، والشريعة لا تجيز التردد؛ لأن التردد يحدث الخصومات والنزاعات، فلربما أحببت أن تأخذ الأفضل فيقول: إنما زوجتك بنتا من بناتي فيلزمك أن تأخذ الأردى، وقد تقدم معنا شرح هذا في كتاب البيوع حينما ذكرنا جهالة المبيع، وأن الجهالة سبب من أسباب النزاع، والشريعة الإسلامية أغلقت جميع الأبواب والأسباب المفضية إلى النزاع والخصومة.
رضا الزوجين شرط من شروط النكاح
قال رحمه الله تعالى: [فصل: الثاني: رضاهما] قوله: (الثاني) أي: الشرط الثاني من شروط النكاح رضا الزوجين، فلا يعقد عقد النكاح بدون الرضا، والرضا يفسد به الاختيار وينعدم، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده ولطفه وتيسيره، وشريعتنا شريعة رحمة: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] .
عقود المعاوضات مثل البيع، فإنك في البيع تدفع عشرة ريالات في مقابل كتاب، وفي الزواج تدفع عوضا عن المرأة ثلاثين ألف ريال مهرا لها، فالمهر في مقابل المرأة.
إذا: عقد النكاح عقد معاوضة، وإذا كان عقد معاوضة ففيه معاوضة من وجوه عديدة، ولذلك قال الله عز وجل في بيت الزوجية للنساء وللرجال: {ولهن مثل الذي عليهن} [البقرة:228] فلا يمكن أن تلزم المرأة بنكاح ولا يمكن أن تلزم الرجل بنكاح وليس هناك الرضا، خاصة وأن العشرة الزوجية وصفها الله بأنها مودة ورحمة، فقال سبحانه: {وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم:21] فلا يمكن أن تتحقق المودة ولا يمكن أن تكون الرحمة إذا لم يكن هناك إلف وود بين الزوجين، ولهذا لن يكون بالإكراه ولن يكون بالغصب، فالمرأة إذا زوجت ينبغي أن تكون راضية عن الزواج، والزوج إذا زوج ينبغي أن يكون راضيا عن الزواج؛ لأنه إذا تزوج بشيء يحبه ويألفه ويرضاه حصل مقصود الشرع من الألفة والمحبة، وكانت المرأة سكنا لزوجها، وكان الزوج أيضا سكنا لها، وعصمة من الله سبحانه وتعالى يعصمها بها من السوء والردى.
إذا ثبت هذا فلو أن رجلا هدده رجل وانطبقت عليه شروط الإكراه، وهذا سنبحثه إن شاء الله في الطلاق، فسنذكر في كتاب الطلاق ما هي شروط الإكراه؟ ومتى نحكم بكون الإنسان مكرها؟ فلو أكره رجل وهدد وقيل له: لابد أن تتزوج بنت فلان وجاء تحت التهديد والإكراه فقيل له: زوجناك فلانة قال: قبلت، قيل: على عشرة آلاف قال: قبلت، لكنه مكره، ففي هذه الحالة لا يصح العقد ولا النكاح، ولو أن ولي المرأة هدد وأكره على النكاح وهو غير راض بالنكاح ولا يريده ولا يرغبه ثم جيء به فقيل له: أترضى فلانا يكون زوجها؟ فقال وهو غير راض: زوجته أو زوجت بنتي فلانة على فلان، أو قبلت زواج فلان من موليتي فلانة، فكل ذلك لا ينبني عليه الحكم بصحة عقد النكاح لفوات الشرط المعتبر وهو الرضا.
الأشخاص الذين لا يشترط رضاهم في النكاح
قال رحمه الله: [إلا البالغ المعتوه] وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم الرضا في حق النساء، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (البكر تستأذن وإذنها صماتها، والثيب أحق بنفسها من وليها -وفي رواية: والثيب تستأمر، يعني: لها أمر نفسها-) فجعل للمرأة حظا في النظر، وهذا إن شاء الله سنبينه في الولاية على عقد النكاح.
قوله رحمه الله: (إلا البالغ المعتوه) هناك نوعان من الناس: نوع توفرت فيه الأهلية للقيام بالعقود، فهذا النوع يلي نفسه كالرجل البالغ العاقل، فله أن يزوج نفسه ويتزوج من شاء، ولكن لو فسدت أو انعدمت الشروط المعتبرة للأهلية في ولاية عقد النكاح أو في النكاح، كرجل بالغ، يعني: بلغ ولكنه معتوه، والعته: نوع من الجنون وهو يفسد شرط التكليف، ليس بمكلف وليس عنده الأهلية لكي ينظر مصلحة نفسه، فالمعتوه الأخرق حتى ولو كان عنده نوع من الخرق ليس بجنون كامل لكنه نوع من نقص في العقل بحيث لا يحسن النظر لمصلحة نفسه، فهذا النوع من الناس الشريعة تجعل له قريبا يليه، وهذا ما يسمى بالولاية، وهذا النوع من الولاية يسمى: الولاية الخاصة، والولاية الخاصة: هي أن يتولى المسلم النظر في أمر خاص لأخيه المسلم؛ لأن الولاية نوعان: ولاية عامة وولاية خاصة، وهذا نوع من الولايات الخاصة، فالبالغ المعتوه هو بالغ -والبالغ ينظر في مصلحة نفسه- وقد بلغ سن التكليف لكن كونه معتوها، يعني: عنده نقص في العقل والإدراك، وعنده نقص في التمييز، فمثل هذا يولى عليه، فوليه يكون من قرابته -كما سنبينه في أولياء المرأة- فوالده يمكن أن يعقد عنه، وأيضا قريبه، كأخيه الشقيق، وابن أخيه الشقيق، وأخيه لأب، وابن أخيه لأب، وعمه الشقيق، وابن عمه الشقيق، وعمه لأب، وابن عمه لأب ونحو ذلك فهؤلاء يتولون النظر له، وإنما قلنا من قرابته؛ لأن القريب يعطف على قريبه، والإنسان مع قرابته يحس أن عيب القريب عيب له، وأن الضرر على القريب كالضرر عليه، فلذلك جعل الله أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، وجعل القرابة يلي بعضهم النظر في مصالح البعض رحمة من الله عز وجل ولطفا بعباده.
[إلا البالغ المعتوه] إلا: حرف استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فهو يقول: [رضاهما -رضا الزوجين- إلا البالغ المعتوه] أي: البالغ المعتوه ليس لنفسه أن ينظر وإنما ينظر له وليه ومن يلي مصالحه، وجرت العادة أن أحد أقرباء قاصري العقل والنظر هم الذين يتولون مصالحه.
قال: [والمجنون] تقدم معنا ضابطه، وبعض العلماء يقول: المجنون لا يلي عقد النكاح، وفي الواقع من العلماء من يفصل بين الجنون المستمر والجنون المتقطع، فيرى أنه إذا كان جنونه متقطعا يمكن أن يلي عقد النكاح -يعني: ممكن أن يزوج نفسه في حال الإفاقة- وفائدة الخلاف: أنه إذا رفع إلى القاضي رجل يجن أحيانا وقد زوج نفسه حال الإفاقة، فعلى القول الذي لا يعتبر الجنون مطلقا سواء متقطعا أو مستمرا فإنه يلغي النكاح ويرد الأمر إلى أوليائه والعكس بالعكس، وعلى القول الثاني: يصح العقد في حال الإفاقة ولا يصح في حال وجود العذر وهذا أقوى.
يقول المصنف: [والصغير والبكر ولو مكلفة، لا الثيب، فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم] قوله: [والصغير] الصغر هو الصبا، والصبا دون البلوغ، والصبي هو: الذي لم يبلغ الحلم، والحلم طور وحالة وهيئة، ينتقل فيها الإنسان من طور الصبا إلى طور العقل والإدراك، قال تعالى: {والذين لم يبلغوا الحلم} [النور:58] أي: لم يبلغوا سن العقل.
فبالنسبة للصغير يمكن أن يزوجه والده سواء رضي أو لم يرضى، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نكح عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، فإن عائشة رضي الله عنها فوجئت بأمها ومعها النسوة قد أخذنها إلى الماشطة ولم تشعر إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل عليها.
فإذا: لم يكن لديها علم بالمسألة، وما استشيرت ولا أخذ رأيها، قد يقول قائل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن فقه المسألة: أن الوالد عنده من العطف والشفقة والرحمة ما يبعد معه أن يدخل الضرر على ولده، ويدل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث فاطمة: (إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) فجعلها كالقطعة منه، والقطعة من الشيء كالشيء.
فكما أن الوالد يلي حظ نفسه، كذلك يلي حظ أولاده الصغار ذكورا كانوا أو إناثا.
صورة المسألة: لو قال رجل عنده بنت صغيرة ورجل آخر عنده ابن صغير مثل ما يقع بين أولاد العم، يقول: بنتي لابنك فلان، فيقول: قبلت، إذا حدث زواج، وإذا تم بشروطه ودفع المهر ثم العقد وصارا زوجين من حيث الأصل، ولم نسأل هل هما راضيان أو غير راضيين؟ لكن في الأصل تم العقد، يعني: يمكن للأب أن يزوج بنته ولو كانت بنت تسع سنين.
فبما دون التسع سنوات من ست سنوات سبع سنوات ثمان سنوات فالأب له ولاية قوية عليهم، والأب غالبا لا يسعى في الضرر على ولده، ولذلك قالوا: لو قتل الوالد ولده لم يقتل به في قول طائفة من العلماء، قالوا: لأنه يبعد أن يتخطى الوالد حاجز الرحمة والحنان والشفقة التي ملأ الله بها قلبه فيقتل ابنه، ولذلك قالوا: لا يقاد به؛ لأن الغالب أنه لا يضربه إلا وهو يريد الأدب له؛ ولأنه فيه شبهة الأدب، والحدود تدرأ بالشبهات.
فالشاهد: كمال شفقة الوالد على ولده، وإذا ثبت هذا فإن الوالد يزوج ولده الصغير ويزوج بنته الصغيرة إذا كانت دون البلوغ.
قال: [والبكر ولو مكلفة] البكر ضد الثيب، وقوله: (ولو مكلفة) ولو إشارة إلى خلاف أي: ولو كانت مكلفة، فإذا بلغت سن التكليف فإنه في هذه الحالة يجوز أن يزوجها والدها بدون رضاها كما ذكرنا لقوة ولاية الوالد؛ لأن البكر في الغالب تجهل الرجال، وكانت المرأة يسمونها: ذات الخدر، كما في الصحيحين من حديث أم عطية: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض) فكانت المرأة (ذات خدر) يعني: في داخل خدرها لا تعلم ما هي الحياة، فكان والدها هو الذي يلي أمورها، فإذا كانت بكرا فالغالب أنها تجهل أمور الناس، وتجهل الرجال، فلو أن والدها زوجها بدون علمها وبدون رضاها فالأمر في الوالد أخف من غيره من بقية الأولياء كما سيأتي إن شاء الله.
وقوله: (لا الثيب) الثيب نص النبي صلى الله عليه وسلم عليها فقال: (والثيب أحق بنفسها من وليها) والفرق بينهما واضح، فإن المرأة الثيب عاشرت الرجال وابتليت بالأخذ والعطاء مع زوجها السابق وانفصلت عنه، فهذا الانفصال ما وقع إلا بعد حياة زوجية، ولذلك قالوا: إنه لابد من رضا الثيب وهي أحق بنفسها من وليها ولو كان أبا.
قال: [فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم] وصي الأب في النكاح هو الشخص الذي يقول له الوالد: زوج بنتي فلانة، ويحدد له، كأن يقول: زوج بنتي فلانة من فلان، فهذا وكيل وفيه نوع من الوصاية، أو يطلق له ويقول: انظر لابنتي الأصلح فزوجها منه، فحينئذ يكون وصيا على بناته لكن في خصوص أمر النكاح، والأصل في هذا عند من يقول بهذا القول مبني على قاعدة شرعية مأخوذة من النصوص الشرعية: أن الفرع تابع لأصله وراجع إلى أصله.
فوصي الوالد منزل منزلة الأب؛ لأنه وصاه، فله الحق كوالده، وبعض العلماء يمنع من هذا ويقول: إذا عين له وحدد فيجوز ويكون الأمر كأنه للوالد، أما لو أطلق له فلا.
قال: [كالسيد مع إمائه وعبده الصغير] السيد يزوج إماءه لمن شاء وبدون إذنهن؛ لأنه يملك الرقبة بنص الشرع، وهكذا بالنسبة لمواليه الذكور الصغار دون البالغين.

حكم تزويج الأولياء غير الأب للصغيرة والصغير والكبيرة العاقلة
قال رحمه الله: [ولا يزوج باقي الأولياء صغيرة دون تسع ولا صغيرا ولا كبيرة عاقلة ولا بنت تسع إلا بإذنهما] قوله: (ولا يزوج باقي الأولياء) كالأخ الشقيق، فلو أن أخا شقيقا أراد أن يزوج أختا له دون تسع لم يصح؛ لأن هذا خاص بالوالد، أو يزوج أخته دون البلوغ بدون رضاها، أو بكرا مكلفة دون رضاها لم يكن له، وإنما هذا خاص بالوالد، والعلة في هذا: أن في الوالد من الشفقة والرحمة ما ليس في غيره كما بيناه وقررناه، فالأمر في الوالد يختلف عن بقية الورثة وبقية الأولياء، والذي سيأتي من هؤلاء الذين ذكرهم المصنف هو في الحقيقة عكس ما تقدم، يعني: إذا أثبت أن الأمر للوالد فعكس هذه الجملة أن غير الوالد لا يزوج، والأمر في هذا واضح.
قال: [صغيرة دون تسع ولا صغيرا ولا كبيرة عاقلة] يعني: لا يزوج الصغيرة ولا يزوج الكبيرة العاقلة إلا بالإذن والرضا، فإن رضيت وأذنت فلا إشكال، وإن لم ترض ولم تأذن لا يصح، وليس له حق ولاية النظر عليها في هذا.
قال: [ولا بنت تسع إلا بإذنهما] يعني: إذا كانت البنت لها تسع سنين فلا يحق له أن يزوجها إلا إذا أذنت ورضيت، والغالب أن المرأة في التسع -خاصة في المناطق الحارة- تبلغ، وقد قدمنا هذا في باب الحيض، وذكرنا قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إذا بلغت الصبية تسع سنين فهي امرأة، يعني: تتأهل لأن تكون امرأة ويأتيها الحيض.
قال: [إلا بإذنهما وهو صمات البكر ونطق الثيب] هناك جانبان لابد من التنبه لهما في الولاية على النكاح: الجانب الأول: يتعلق بالذكر، والجانب الثاني: يتعلق بالإناث، وإذا قلنا: الإناث، فنخص بالزوجة التي يراد إنكاحها وتزويجها، وإذا قلنا: الذكور، فمرادنا الأولياء وليس الزوج.
نحن نتكلم على مسألة تزويج المرأة، فعندنا مزوجة، وعندنا شخص يريد تزويجها، ومن حكمة الله عز وجل ومن حكمة الشريعة وكمال علمه سبحانه وتعالى أن جعل الرضا منقسما بين الطرفين، والشريعة جاءت بالوسطية التي لا إفراط فيها ولا تفريط، فأعطى الرجال حقوقهم وأعطى النساء حقوقهن، ونريد أن نعرف كيف أخذت المرأة حقها؟ وكيف أخذ الرجل حقه؟ إذا علم طالب العلم حق الرجل وحق المرأة اتضحت له مسائل الباب في الولاية وفي الرضا؛ لأنه في بعض الأحيان تتداخل النصوص ويحصل شيء من الخلط فيها بحيث يصعب الفهم.
فعندنا إفراط وتفريط، فتارة تجد وجهة نظر تقول: النظر كله للرجل، يعني: الذي يلي عقد النكاح ويبرم عقد النكاح ويبت في عقد النكاح هو الرجل فقط، بحيث لا يكون للمرأة أي نظرة، هذه وجهة نظر، وتارة تجد في مقابلها وجهة نظر أخرى تقول: المرأة لها كل شيء، بحيث يمكن أن تأتي برجل ليس بأهل فتتزوج منه على رغم أوليائها حتى لو كان فيه ضرر عليهم.
والعدل أن نقول: للنساء ما لهن من الحقوق، وللرجال ما لهم من الحقوق، ونرجع إلى طبيعة حقوق النساء وطبيعة حقوق الرجال، فانظر رحمك الله إلى كمال هذه الشريعة، فالمرأة لها حقها من حيث الرغبة في الرجل؛ فإن للنساء نظرة، وهذه النظرة جبلية فطرية من ارتياحها للرجل وحبها لمعاشرته، فالشريعة أعطتها هذا الحب وهذا الميل القلبي الذي لا تملكه، فتنظر في الرجل فإن أعجبها وقبلته فالحمد لله، وإن لم يعجبها هل يفرض عليها فرضا؟ وهل تكره على معاشرة شخص لا تريده؟ لا يمكن.
مسألة محبتها وكراهيتها ترجع إلى تقديرها، فإن كانت المرأة كرهت الرجل لدمامة في خلقته فهذا شيء لا يستطيع الإنسان أن يفرض عليها فيه، فقد جاءت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يار سول الله! إني امرأة أكره الكفر بعد الإسلام -أنا امرأة أخشى أن أقع في معصية الله بعد طاعة الله- زوجي لا أحبه، قال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، وأزيده، فقال للرجل: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فالمرأة نفرت من زوجها لأسباب ذكرتها في الحديث، فكما أن الرجل يذهب ويختار المرأة التي يريدها، كذلك المرأة تختار الرجل الذي تريده، فإذا كان في الرجل أشياء معينة بينتها المرأة أو أن قلبها نفر منه، والمرأة صادقة ليست بمتلاعبة ولا متهتكة فرأيها يحترم ويقدر؛ لأنه شيء جعله الله فطرة في المرأة، فلا يمكن أن نأتي بالرجل وندخله عليها فجأة ونقول لها: هذا زوجك شئت أو أبيت، حاشا.
هذا لا يرضي الله عز وجل وليس من دين الله عز وجل.
إذا: لابد أن نعطي المرأة حظ النظر، لكن إغراق النساء في هذا الحظ وتوسعهن ومبالغتهن يوجب تدخل الولي بقدر، فمثلا: الأب عنده شفقة وعنده رحمة ويخاف على بنته أن تقع في الحرام، خاصة إذا كان هناك بواعث للفتنة، فجاء واختار لها زوجا كفئا كريما جميع الصفات الحسنة متوفرة فيه، لكن جماله نسبي ليس بكامل، فقالت المرأة بنوع من الاستخفاف: لا أريده.
ولم تذكر السبب، حينئذ تكون ولاية الرجل؛ لأن الرجل أكمل عقلا في هذا، ومن حقه إذا خاف على ابنته أنها إذا لم تتزوج من هذا أنها في الغد تقع في الحرام، أو تبقى عانسة.
إذا: هناك ولاية للرجال وولاية للنساء، فالمرأة لها حقها، ولا تستغل هذا الحق لكي تدخل في أمور تسيء إلى قرابتها.
هذا حق النساء فما هو حق الرجال؟ من المعلوم أن المجتمعات يترابط بعضها ببعض ويتصل بعضها ببعض، والرجال أعرف بالرجال، فهناك أشياء إذا قبلت أضرت بسمعة القرابة، فالرجل الشرير أو الفاسد أو الذي يكون منه الضرر، إذا تزوج هذه المرأة فإنه سيجر الضرر والعار على قرابتها، فليس من المعقول أن نرضخ لعاطفة المرأة على حساب أمة، وليس من المعقول أن نضر بجماعة على حساب فرد، وقواعد الشريعة تقول: الضرر يزال، فهذا النوع من الرجال يضر، مثل ما يقع مثلا في بعض الأحيان بأن يكون الرجل معروفا بفساده وسوء أخلاقه، فمثل هذا -أعاذنا الله وإياكم- لو أنه تزوج امرأة أناس محافظين ولهم مكانتهم أضر بهم وأضر بسمعتهم وأضر بمكانتهم، فلو جاءت المرأة تقول: أريد أن أتزوج بفلان، وقال الولي: لا.
فانظر إلى قول المرأة، وانظر إلى قول الرجل، وانظر إلى الضرر الذي يلحق المرأة، والضرر الذي يلحق الرجل؛ فتجد ما يلي: تجد أن الرجل لو لم نوافق عليه فهناك البديل، والمرأة إذا منع عنها الرجل فإنها قد تقع في الحرام، وهذا في حالة عدم وجود البديل، فهذا الضرر يمكن تلافيه، لكن لو أن هذا الرجل تزوج من هذه الجماعة لأضر بهم ولألحق بهم في بعض الأحيان عارا لا ينمحي عنهم، فهذا الضرر لا يمكن إزالته، وخاصة أضرار العار التي تلحق بها من السب والنقيصة والضرر، أو يكون رجلا شريرا كثير الاعتداء على الناس، فكل يوم يقال: هذا زوج ابنتكم، أبو أولادكم، ويتضرر أولادها، والشريعة لم تأت بالزواج فقط، بل جاءت بالنظر إلى مصالح ومفاسد قريبة وبعيدة، وأضرار خاصة وعامة، ومصالح خاصة وعامة.

فلابد من النظر بين الجانبين.

فالخلط يقع في المسائل الفقهية والاجتهادات والأقوال وشروح الأحاديث، فهناك أحاديث ليس المراد بها إذن المرأة بإطلاق، وليس المراد ولاية الرجال بإطلاق، وإنما المراد أن يعدل كل واحد ويتقي الله في حقه وما له وما عليه، فالمرأة تتقي الله في أهلها وقرابتها، فلا تقول: زوجوني من فلان، وإذا لم تزوجوني من فلان فلن أتزوج، وإذا لم تزوجوني من فلان فلن أدخل بيت الزوجية أبدا، هذه كلها أمور مبنية على الإساءة والإضرار، والشريعة لا تجيز هذا، ولو قالت هذا الكلام فليس من حقها، ومن حق الأولياء إذا خافوا عليها الحرام والوقوع فيه أو خافوا عليها أن يلحقوها بزوج كفء كريم ويزوجونها منه.
إذا لابد من الجانبين: جانب الرجل وجانب المرأة، ولما كانت هذه القاعدة معروفة اعتنى العلماء بمسألة الرضا وسيتبعونها فيما بعد بمسألة الولاية على النساء في النكاح.
فبين رحمه الله مسألة رضا المرأة، وأن النكاح لا يصح بدون رضاها.
والمرأة -خاصة إذا كانت بكرا- إذا زوجت من رجل لا ترغبه أو من رجل فيه نقص يؤذيها أو يضر بها أو ينفرها، فإن هذا من أعظم الإضرار، ومن أعظم الظلم أن لا يتقي الولي في موليته، فيحابي ويجامل ويرضخ لأمور معينة يتنازل بها عن حق الولاية الذي فرضه الله عز وجل عليه من حسن النظر لموليته.
قال رحمه الله: [إلا بإذنهما وهو صمات البكر ونطق الثيب] (إلا بإذنهما) فلابد من إذن الزوج البالغ وإذن الزوجة البالغة، ورضا الزوج البالغ ورضا الزوجة البالغة، والإذن بالنسبة للمرأة يختلف باختلاف البكر والثيب، فالبكر تستأذن، فيقال لها: يا فلانة! إن فلانا يرغب بك، يا فلانة! إن فلانا تقدم للزواج منك، فإذا كانت لا تريده قالت: لا أريده، وإذا سكتت كان صماتها وسكوتها قرينة دالة على الإذن؛ وهذا نوع من التيسير من الله عز وجل؛ لأن البكر تستحي، لكن إذا كان الصمات عن خوف وإكراه فوجوده وعدمه على حد سواء، فالمقصود بالصمات هو صمات الحياء، وهو الصمات الذي تستحي فيه من بيان الموافقة.
أما إذا كان صمات خوف بأن تخشى أن تزعج والدها فذهبت إلى أمها وقالت: لا أريده، فعلى والدها أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الله سائله عن هذه الأمانة، فإنها قد تبقى عمرها عند هذا الرجل، فخير له ألا يصاب بدعوات السوء، فكم من امرأة والعياذ بالله ظلمها والدها فدعت عليه، فمثل هذا يتقى، فعلى الإنسان أن يتقي ربه ما أمكنه في حقوق الأبناء، وبخاصة البنت، فإن ظلم الوالد لها من أعظم الظلم، فإنها إذا ظلمت من والدها واضطهدت قد تسكت وقد تصبر، فتصبح بين نارين؛ نار العذاب الذي تجده من هذا الزوج الذي ليس بأهل، ونار والدها أن تخالفه، ولذلك ينبغي للوالد أن يقدر هذه المشاعر وأن يرحمها، والله سبحانه وتعالى لاشك أنه سيعوضها خيرا، لكن المراد بيان الحكم الشرعي من حيث الأصل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.





ابوالوليد المسلم 14-05-2025 11:10 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (416)

صـــــ(1) إلى صــ(10)





شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [5]
وجود الولي هو أحد شروط عقد النكاح التي لا يتم عقد النكاح إلا بها، فلا نكاح إلا بولي، والولي له شروط لابد أن تتوافر فيه، منها: التكليف، والذكورية، والحرية وغيرها من الشروط، والولاية لابد أن تكون حسب الترتيب، فلا يجوز أن يقدم الأخ الشقيق على الأب إلا لعذر.

وجود الولي شرط من شروط عقد النكاح
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: الثالث: الولي] الشرط الثالث من شروط صحة عقد النكاح: الولي، والولاية على الشيء القيام بأمره، وقد تقدم معنا شرط الولاية، والولاية تكون خاصة وعامة، فيشترط لصحة عقد النكاح الولي، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما رضي الله عنهم: (لا نكاح إلا بولي) فهذا نص، وأصل التقدير: لا نكاح صحيح إلا بولي، أو لا نكاح معتبر إلا بولي، وفي قوله عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة رضي الله عنها وغيرها: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل! باطل! باطل -وفي رواية: فنكاحها باطل! فنكاحها باطل! فنكاحها باطل-) وفي حديث أبي هريرة: (البغي -وفي رواية-: الزانية هي التي تزوج نفسها) .
فالمرأة لابد من أن يلي عقدها الرجل، وهذا هو الولي الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إلا بولي) فلا يصح النكاح إلا بالولي، ويتفرع على هذا أن المرأة لا تزوج نفسها ولا توكل رجلا بتزويجها؛ لأن الأصل لا تملكه فمن باب أولى فرعه، فلو قالت: يا فلان! زوجني من فلان، لم يصح؛ لأن الأصل الذي وكل ليس له حق الولاية على نفسه فضلا عن أن يوكل غيره، كذلك أيضا كما لا يصح أنها هي بنفسها تلي عقد النكاح لنفسها لا يصح أن تكون وليا لغيرها، فلو أن امرأة زوجت بناتها لم يصح، فلو قالت: يا فلان! زوجتك بنتي فلانة، لم يصح؛ لأنها لا تملك الولاية على نفسها فمن باب أولى أنها لا تملكها على غيرها.
السبب في هذا: نحن قدمنا أن هناك جانبا للنساء وجانبا للرجال، فجانب الرجال اعتبرته الشريعة، ومن الأدلة على اعتبار جانب الرجال حديث الولي في النكاح، والسبب في هذا: أن الرجال أعرف بالرجال، والمرأة لا تعرف الرجل خاصة إذا كانت بكرا، فالرجل هو الذي يعرف الرجل، ولربما خدعت المرأة بالرجل ولربما كذب عليها، وهذا يقع في المجتمعات التي هي غير مسلمة، وتجد فيها المرأة يمكن أن تزوج نفسها، فتجد الرجال يتلاعبون بالنساء كما يشاءون، وممكن أن يأتيها في أحسن حالة في هيئته الظاهرة، فيظهر لها أنه غني وأنه ثري ويخدعها بسيارة غيره، وعمارة غيره، ويمكن أن تنخدع وتنجر معه، وفي النهاية يتبين أنه فقير لا مال عنده، وأن هذه الأشياء كلها مستأجرة، لكن من يستطيع أن يعرف حقيقة هذا الرجل في وضعه وفي غناه وفقره، وفي قوة وضعف شخصيته، وفي كذبه وصدقه، وفي أمانته وخيانته، وفي ظاهره وباطنه وفي جميع شئونه؟ لا يستطيع أن يعلم ذلك إلا رجل مثله، يدخل مدخله ويخرج مخرجه، ويمكنه أن يسأل من تحت يده ومن فوقه، ومن يتعامل معه، وقرابته حتى يستجلي حقيقة أمره.
إذا: أعطي الأولياء حظ النظر للجوانب التي لا يمكن للنساء أن يطلعن عليها.
فولاية الرجل تقوم على جوانب، أول شيء منها وأهمها: اختيار الكفء الكريم، سواء تقدم الكفء طالبا أو بحث عنه الولي بنفسه، فإن الولي الصادق الذي يريد الخير لبناته وأخواته إذا تأخر زواجهن وتأخر من يتقدم لهن تأخذه الحمية والغيرة وحب الخير حتى ربما عرض بنته من أجل أن يحفظ دينها وأمانتها وعرضها، وهذا فعله من هو خير منا، كـ عمر رضي الله عنه وأرضاه وغيره من الصحابة والأفاضل خوفا على مولياتهم، كل ذلك من تمام الولاية.
إذا ثبت هذا فالرجل ينظر في كفاءة الرجل ويستلزم هذا جوانب مهمة؛ يستلزم النظر في صفات الرجل الخلقية والخلقية والدينية والدنيوية، فيأخذ صورة كاملة عن شخصية الرجل وطبيعته، ولذلك لما جاءت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (إن أبا الجهم رجل لا يضع العصا عن عاتقه، ومعاوية صعلوك لا مال له) فنظر إلى وضعه الدنيوي، (صعلوك لا مال له) ، ونظر إلى شخصيته الذاتية من حيث سرعة الغضب والعصبية (لا يضع العصا عن عاتقه) معنى ذلك أنه شديد على أهل بيته، فقال لها بعد ذلك: (انكحي أسامة) .
فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر لها حظ الرجال، ووجهها أيضا إلى طرف ثالث، فكل هذا من باب نظر الأولياء أو نظر من يستشار فينزل منزلة الأولياء في النظر في مصلحة المرأة.



الشروط الواجب توافرها في الولي



التكليف
قال رحمه الله: [وشروطه: التكليف] : لماذا يدرس طالب العلم شروط الولي؟ أولا: لكي تعرف أن الولي شرط في صحة عقد النكاح، فلو سألك سائل: زوج فلان فلانا بنته هل يصح النكاح؟ تعرف أن من شروطه الولاية، فهل فلان هذا الذي زوج هذه المرأة ولي لها أو لا؟ وإذا كان وليا لها فهل الشروط المعتبرة في الولي متوفرة فيه أو لا؟ فنبحث الشروط التي سيذكرها المصنف رحمه الله، فلا يمكن لنا أن نقول لكل شخص: تعال وليا للزواج، ولا يمكن أن نقبل كل شخص للولاية في النكاح، فهناك نواقض من ناحية الدين ومن ناحية الأمانة من ناحية الصفات في الرجل ذاته، فلابد من توافر شروط لكي نحكم بصحة الولاية.
إذا: عندنا جانبان: أولا: نثبت شرط الولاية، وقد بينا دليله من السنة.
ثانيا: ما هي صفات الولي أو الشروط المعتبرة في الولي؟ جمهور العلماء على اشتراط الولي، وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان فقال: يجوز للمرأة أن تزوج نفسها، واستدل بقوله تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} [البقرة:232] فقال: أسند النكاح إلى النساء وقال: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة:232] وهذا ضعيف، ولذلك يقول الإمام الشافعي: إن هذه الآية حجة لإثبات الولي أكثر من أنها حجة لإلغاء الولي؛ لأن الله خاطب الأولياء فقال: {فلا تعضلوهن} [البقرة:232] فدل على أن المرأة إذا كان من حقها ورأت أنه صالح لها لو كانت تلي نفسها لكان أباح الله لها أن تتزوج؛ لكن لما وقف الأمر على مخاطبة الأولياء: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة:232] دل على أن النظر للأولياء، وأن الذي يلي عقد النكاح إنما هم الأولياء وليس النساء.
ومما يدل عليه كذلك: قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة:221] فوجه الخطاب للأولياء، وهذا يدل على اشتراط الولاية، ناهيك عن صريح السنة فيما ذكرناه من حديث ابن عباس رضي الله عنه وعائشة وأبي هريرة رضي الله عن الجميع كما تقدم.
قوله: [التكليف] : والتكليف بينا أنه يكون بالعقل والبلوغ وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل وبينا هذا، فإذا قيل: التكليف، فلابد من شرطين: البلوغ: فلا يصح أن يكون الولي صغير السن صبيا، فلو أن امرأة لديها أخ عمره اثنتا عشرة سنة ولم يبلغ، وليس عندها أب ولا أولياء أقرب من الأخ الشقيق، فجاء أخوها الشقيق وزوجها من رجل، فإن هذا النكاح لا يصح؛ لأن الولاية شرط في صحة عقد النكاح وهذا الصغير ليس بولي؛ لأن من شرط صحة عقد النكاح التكليف، والصبي غير مكلف.
وهكذا المجنون، فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فلو كان مجنونا لا يصح أن يلي عقد النكاح، ولو كان سكرانا؛ فمن شرب الخمر أو تعاطى المخدرات، وأثناء تعاطيه للمخدرات زوج أخته أو زوج بنته وقال: يا فلان! زوجتك بنتي فلانة، لم يصح؛ لأننا قلنا: شرطه العقل، فمثل هذا لا يصح إنكاحه وتزويجه.
الذكورية
قال: [والذكورية] : لأن المرأة لا تزوج نفسها ولا تزوج غيرها، ولذلك اشترطت الولاية؛ لأنها متصلة بالرجال، فقوله: (لا نكاح إلا بولي) يدل على أن المرأة لا تزوج نفسها ولا تزوج غيرها.
الحرية
قال: [والحرية] : لأن الرقيق بحكم الشرع لا يملك نفسه فكيف يملك غيره؟ ولذلك جماهير السلف والخلف رحمهم الله على أن الرقيق لا يملك؛ لأن الرقيق تحت ضغط سيده وربما تنازل عن حقوق المرأة وأضر بمصالحها وليس كالحر.

الرشد في العقد
قال: [والرشد في العقد] الرشد يستخدم لمعان، فعندنا رشد الدين وعندنا رشد الدنيا، أما رشد الدين فمنه قوله تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256] فالرشد هنا: الإسلام والهداية، وضده الغي الذي هو الكفر، ويطلق الرشد بمعنى صلاح النظر في الدنيا، تقول: فلان رشيد، إذا كان يحسن التجارة ويحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، مثل الشخص الذي يحسن البيع فإنه يعلم كيف يبيع ويشتري، فإذا أحسن النظر في أمواله قالوا: فلان رشيد.
ومنه قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6] ، قوله: (فإن آنستم منهم رشدا) يعني: إحسانا للتصرف في المال، وهذا هو النوع الثاني من الرشد.
هناك نوع ثالث من الرشد، وهو رشد الولاية في النكاح، ورشد الولاية في النكاح أن يحسن الولي النظر لموليته، فيكون إنسانا عاقلا يعرف الرجال ولا يخدع، ولا يكون ساذجا يضحك عليه أو فيه غفلة أو تسرع في الأمور، كل من جاءه يقول له: زوجني بنتك يقول: زوجتك، فبعض الناس عنده نوع من الغفلة والتسرع، يعني لو كنا في مجلس وجاء رجل لأول مرة وقال لشخص: يا فلان! إني أحبك، قال: وأنا أحبك، قال: زوجني بنتك قال: زوجتك بنتي، هذا ليس من الرشد وليس من العقل.
ومن هنا ندرك أن الشريعة ما جعلت الولاية للرجال يتصرفون فيها كيف شاءوا، فالولاية على النساء من الرجال مبنية على خوف من الله عز وجل وتقوى وورع، وإنصاف وعدل، وبحث عن مصالح وبحث عن كيفية الخروج من الموقف بين يدي الله عز وجل، يقول له: لمن زوجت بنتك؟ ولمن زوجت أختك؟ فيقول: لفلان الذي يرضى في دينه وخلقه وعقيدته وسلوكه وجميع ما يكون من شئونه وأحواله، هذا هو الرشد، فكأنه إذا أحسن النظر للمرأة التي يلي عليها فقد رشد بنفسه ورشد بغيره، وأصاب الرشد، يعني: أصاب الحق والصواب والسنن فيما ولاه الله عز وجل وفيما أنيط به من أمانة.

اتفاق الدين
قال: [واتفاق الدين سوى ما يذكر] قوله: (واتفاق الدين) يعني: المسلم لا يلي الكافرة، والكافر لا يلي المسلمة، فلو كان والدها كافرا تسقط ولايته، وتنتقل الولاية إلى من هو أقرب كأخيها الشقيق، فلو أن امرأة مسلمة كان أبوها وأخوها وعمها وأبناء عمومتها كفارا إلا ابن ابن عم مسلم يلغى هؤلاء الأولياء كلهم وتنتقل الولاية إلى ابن ابن عمها المسلم؛ لأن أهل الإسلام بعضهم أولى ببعض، وأما الكافر فلا ولاية له على المسلمة، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] فلو قلنا: إن والدها الكافر هو الذي يزوجها فقد جعلنا لكافر على مؤمن سبيلا.
وقوله: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] يقول العلماء: خبر بمعنى الإنشاء، وهذا من أساليب القرآن، يعني: أن الله سبحانه وتعالى في حكمه وشرعه لا يجعل الكافر على المسلم، فلا يمكن بالولاية عليه، ولأنه لو كان وليها كافرا لربما زوجها من كافر، ولأن وليها إذا كان كافرا قد يضرها، ولذلك تجد في بعض الأحيان إذا كان الوالد فاسدا والبنت صالحة قد يضرها ويزوجها -والعياذ بالله- نقمة منها على صلاحها -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا من أسوأ ما يكون، يراها دينة صالحة فيوقعها في رجل شرير انتقاما من صلاحها، فكيف إذا كان كافرا؟ من باب أولى وأحرى، ولذلك يقرر العلماء هذا الشرط، يقولون: لأن الكفر يحمل على الأذية وفيه عداوة دينية وهي أشد من عداوة الدنيا، ولذلك لا يلي الكافر عقد المسلمة، وتنتقل ولايتها إلى من هو أقرب فأقرب.
قال: [سوى ما يذكر] هناك خلاف: هل يزوج اليهودي إذا كانت بنته نصرانية والعكس؟ يعني: اليهود والنصارى أهل كتاب وهم في ترتيب الشريعة أقرب من غيرهم من الكفار، ولذلك قال الله عز وجل في سورة الروم: {الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [الروم:1 - 3] ، ثم قال: {ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله} [الروم:4 - 5] فجعل نصر أهل الكتاب نصرا من الله عز وجل؛ لأنهم أهل دين سماوي بخلاف المجوس والمشركين وعبدة الأوثان ونحوهم، فهؤلاء أبعد في كفرهم؛ لأن الله عدل، ومن عدله سبحانه وحكمة هذه الشريعة أنها جعلت لكل شيء حظه وقدره، فالكفار ولو كانوا كفارا فإن الله تعالى يقول: {ولكل درجات مما عملوا} [الأنعام:132] فالكفر له مرتبته، فاختلفوا في اليهود والنصارى فهم أهل كتاب.
هناك خلاف مطرد في أبواب الفقه وسيتكرر معنا، وقد يأتينا في بعض الأبواب الآتية، فبعض العلماء يرى أن اليهود والنصارى في حكم الملة الواحدة، فتسري عليهم أحكام الملة الواحدة، وعلى هذا القول يزوج اليهودي النصرانية ويزوج النصراني اليهودية.
فائدة الخلاف: إذا كانوا تحت المسلمين وارتفع إلى القاضي المسلم أن يهوديا زوج بنته النصرانية، فهل يحكم بصحة النكاح أو لا؟ فعلى القول بأن الولاية تقع مع اختلاف الدين -كما سيأتي- يصح، وعلى القول بأن اختلاف الدين مؤثر يسقط ولايته.

العدالة
قال: [والعدالة] العدالة: الاستقامة، والعدل: الوسط، والوسط هو العدل أيضا، ومنه قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة:143] أي: عدولا خيارا، وقالوا: إن الشيء عدل؛ لأن ضد العدل المعوج، وإذا اعوج إما أن يذهب إلى اليمين أو يذهب إلى الشمال، فإذا اعتدل قالوا: عدل، ولما كان طرفا النقيض هما الضرر -الإفراط والتفريط- جاء العدل بينهما، ولذلك قالوا: العدل -الشخص العدل- هنا ليس المراد به الوسطية المطلقة يعني: مثلا عندنا فاجر بلغ نهاية الفجور، وفاجر في بداية الفجور، فهل نقول: هذا وسط بين الاثنين، لا.
الوسط هنا أن الحق نفسه وسط؛ لأن الحق يأتي دائما بين الإفراط وبين التفريط: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة:7] ، يأتي دائما وسطا.
فالعدل يوصف به الشخص، والعدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر إذا له وصفان: الوصف الأول: أن لا يقع في كبائر الذنوب وهي المحرمات الكبيرة كالقتل وعقوق الوالدين ونحوها من المحرمات، هذه الكبائر إذا فعلها سقطت عدالته.
الوصف الثاني: أن يجتنب في أغلب أحواله الصغائر، وهي صغائر الذنوب، يعني: تنظر في أغلب أحواله أنه على الطاعة والخير والاستقامة ولا يفعل المحرمات، لكن لا يوجد أحد يسلم من صغائر الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما) فاللمم وصغار الذنوب لا يسلم منها أحد، ولذلك قال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} [النجم:32] فاللمم لا يسلم منه أحد، لكن ينظر إلى غالب حاله، فإن كان غالب حاله أنه يتقي الصغائر فهو عدل.
فلابد وأن يكون وليها عدلا؛ لأن ضد العدل الفاسق، والفاسق: من فسق الرطب إذا خرجت عن قشرها، ويقولون: الفاسق هو الذي خرج عن طاعة الله عز وجل، ويخرج بارتكاب الكبائر كما ذكرنا أو الإصرار على الصغائر، فلا يلي الفاسق الولاية في قول طائفة من العلماء، قالوا: لأن الفاسق فيه جرأة على حدود الله عز وجل، وإذا كان جريئا على حدود الله وضيع حق الله فمن باب أولى أن يضيع حقوق عباده، ولكن في المسألة تفصيل، فبعض العلماء يقول: الفاسق يلي عقد النكاح، ويمكن أن يزوج بنته بشرط أن يكون فسقه بعيدا عن الولاية، قالوا: فإننا وجدنا الرجل تقع منه محرمات مثل القذف، فلو أنه قذف يحكم بفسقه، ومن قذف رجلا أو قذف امرأة فإنه فاسق، لكن تجده من أعدل الناس في أموره الأخرى، ولا يمكن أن يتنازل، ولا يمكن أن يخون أمانة، وتجده من أوفى الناس في أمانته، لكن هل كونه فقط قذف لا يقبل منه شيء نهائيا؟ قالوا: لا.
ما دام أنه فسق خارج عن الولاية وليس له تأثير في الولاية نقبله، لكن إذا كان فاسقا وفسقه يسري إلى الولاية، وهذا يرجع إلى النظر، فإننا نجد بعض الآباء وبعض الأولياء عندهم تقصير، ولكنه إذا جاء يلي أمور أبنائه وبناته يليها في بعض الأحيان أفضل من غيره ممن هو دين ومطيع، وهذا مجرب وموجود، فتجده ينصح، ويذهب ويسأل عن الرجل ويتحرى عنه، وعنده حمية وعنده فطرة ومحبة للخير لأبنائه، فمثل هذا لا يضره فسقه على نفسه، وشره على نفسه لا يتعدى إلى الولاية، فمثل هذا يقبل وليا ولا يضر ولا يؤثر.
لكن إذا كان شخصا معروفا بالتهتك وبالجرأة وبالإضرار بمصالح أولاده، ولربما يغيب عن بيته الزمن الطويل، يعني: مثلا إذا ثبت عند القاضي أن هذا الرجل يغيب بالثلاثة أشهر والأربعة أشهر عن بيته ويتركهم بلا طعام وشراب، هل مثل هذا يؤمن على تزويج بنته؟ إذا كان ترك البيت بكامله وضيع حقوقه بكامله أفلا يضيع حق امرأة؟ يمكن أن يجامل شخصا شريرا مثله فيزوجه بنته، فمثل هذا لا يقبل وليا؛ لأن فسقه سار إلى الولاية، فإذا: لابد من التفصيل، وهذا أمر يرجع إلى القضاة، ومنهم النظر -كما ذكر العلماء رحمهم الله- فيمن تقبل ولايته ومن لا تقبل.
فائدة الخلاف: لماذا يشترطون العدالة وعدمها؟ يعني لو فرض مثلا: أن ولي امرأة كانت فيه هذه الملاحظات وأراد أن يزوج بنته من رجل لا يصلح، وعلم أخوها الشقيق أو علم عمها الشقيق الذي هو وليها من بعده، فذهب إلى القاضي وقال: فلان يزوج بنته من فلان، وفلان معروف بالفسق وكذا وأيضا يضيع حق هذه البنت، فإن الرجل الذي اختاره ليس بكفء، فإذا ثبت عند القاضي هذا نزع ولايته، ونقلها إلى من هو أولى منه بالولاية ممن توفرت فيه الشروط.
قال رحمه الله: [فلا تزوج امرأة نفسها ولا غيرها] الفاء للتفريق، ونحن دائما نقول: الفقهاء يذكرون الشروط ثم يذكرون مفاهيم الشرط، فلا تزوج المرأة نفسها لما أثبت الولاية، فإذا ثبت أن الولي يلي عقد المرأة فمعنى ذلك أنها لا تزوج نفسها وأيضا لا تزوج غيرها، فلا تلي عقد نفسها ولا تلي عقد غيرها.

مراتب الأولياء
قال رحمه الله: [ويقدم أبو المرأة في نكاحها] بدأ رحمه الله بمسألة، وانظروا إلى كيفية ترتيب العلماء رحمهم الله للمسائل، أولا: الولاية، ثانيا: من هو الولي وما هي صفاته؟ ثالثا: ما هي مراتب الأولياء؟ ثم إذا أثبت مراتب الأولياء التي سنذكرها، ما الحكم إذا تخطى أحد مرتبته فزوج البعيد مع حضور القريب، وزوج الأبعد مع حضور من هو أقرب منه؟ هذه كلها مسائل سنبحثها الآن.
الولاية لها جهات: الجهة الأولى: الأبوة، ويتبعها الجدودة من الأبوة المباشرة والأبوة بواسطة.
فأولا الأبوة، ثم البنوة على خلاف؛ فابن المرأة الذكر وابن ابنها ممن تمحض بالذكور في ولايته خلاف من جهة البنوة، فبعض العلماء لا يرى أن الابن يلي عقد نكاحها؛ لأن الابن قطعة من أمه ولا يمكن أن يصير وليا عليها، وفي هذا حديث ضعيف عن عمر بن سلمة أنه زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة لكن الحديث فيه ضعف، والذي يعنينا الآن الأبوة، ثم الحواشي وفروعها، ويسمونها: حواشي النسب وحواشي النسب تنقسم إلى قسمين: إما حاشية تجتمع معك في أصليك الذين هما الوالد والوالدة، أو حاشية تجتمع معك في أصل أصليك.
فنبدأ بالحواشي التي تجتمع معك في أصلك؛ الذين هم: الأخ الشقيق، والأخ لأب، ثم الأخ الشقيق وابنه، ثم الأخ لأب وابنه، هؤلاء يجتمعون معك في الوالد والذين هم أصولك، وهناك حواش تجتمع معك في أصل أصلك، وأصل الأصل الذي هو الجد؛ لأن أصلي والدي وأبو الوالد الجد، فإما أن تجتمع معك الحاشية في الأقرب الذي هو الوالد وهم إخوانه وبنوهم، وإما أن يجتمعوا معك في أصل أصلك الذي هو الجد، فهؤلاء الأعمام وبنو الأعمام.
فنبدأ أول شيء بالآباء، أولا: الأب وأبوه وإن علا، فأول من يلي عقد النكاح الأب ولا يقدم على الأب أحد ألبتة إلا إذا اختلت فيه الشروط، لكن الأصل أن الأب هو الذي يلي وهو أحق، ثم بعد الأب أبوه وإن علا، فلا يزوج الجد مع وجود ابنه؛ لأنه الواسطة بينه وبين المزوجة، ولا يمكن أن نجعل الفرع حاكما مع وجود الأصل، فهو يدلي بواسطة الأب، فلا يمكن أن يسقط الأب مع وجوده كالميراث، ففي الميراث الأب يحجب والده الذي هو الجد، فلو مات وترك أبا وجدا حجب الأب أباه، وعلى هذا قالوا: عندنا الأب وأبوه وإن علا، ثم الابن وابنه وإن نزل، لكن بالذكور؛ كابن ابن وابن ابن ابن وإن نزل، فلو أن امرأة عندها ابن وعمر الابن عشرون عاما، وجاء رجل يتقدم وقال له: يا فلان! زوجني أمك، ذهب إلى والدته واستشارها وسأل عن الرجل فوجده كفئا، والأم هذه ليس لها أب قالوا: يلي عقدها ابنها، ويقول: زوجتك أمي فلانة، ويتم العقد معه.
أو ابن ابنه لكن لابد أن يتمحض بالذكور؛ لأن الولايات الضابط فيها دائما العصبة، يعني لا يدخل فيها نساء، فأبو الأم لا يدخل؛ لأنه يدلي بأنثى، وابن البنت لا يدخل؛ لأنه يدلي بأنثى، فلابد أن يتمحض بالذكور، الابن وابنه وإن نزل، هذا بالنسبة للآباء والأبناء؛ وهم الأصول والفروع، ثم تنتقل إلى الحواشي كما ذكرنا، وحواشي الأصل كالأخ الشقيق، فيقدم الأخ الشقيق أولا من الإخوان كلهم، فإذا كان هناك أخ شقيق وأخ لأب فيزوج الأخ الشقيق قبل الأخ لأب، وإذا كان هناك ابن أخ شقيق وأخ لأب الذي هو عمه لأب فإنه في هذه الحالة يقدم ابن الأخ الشقيق على الأخ لأب، فالأخ الشقيق هو الذي شاركك في أصليك، والأخ لأب هو الذي شاركك في أبيك فقط الذي هو أحد الأصلين، ولا يدخل الأخ لأم؛ لأنه يدلي بأنثى، ففي الولايات لا تدخل.
ثم بعد الأخ الشقيق تنتقل إلى أبنائه، وبعد الأخ لأب تنتقل إلى أبنائه، وتنتقل بعد ذلك إلى العم الشقيق وأبنائه وابن العم لأب وأبنائه، فلو أن امرأة لها أولاد عم وليس لها آباء ولا أبناء، وليس لها إخوة أشقاء ولا أبناء إخوة أشقاء ولا إخوة لأب ولا أبناء إخوة لأب نسأل: هل لها أعمام؟ قالوا: أعمامها توفوا جميعا، سواء الأعمام الأشقاء أو الأعمام لأب، ثم نسأل: هل لها أبناء عم؟ قالوا: نعم، عندها ابن عم شقيق وابن عم لأب، فنقدم الشقيق على الأب، ولو كان لها ابن ابن ابن ابن ابن عم شقيق يعني مرتبته الخامسة أو السادسة، وابن عم لأب مباشرة، قدمنا ابن ابن ابن ابن ابن عم الشقيق وإن نزل فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهم التقديم بالقوة اجعل (فبالجهة التقديم) : تقدم الآباء على الإخوة، هذه الجهات.
(ثم بقربه): فابن ابن شقيق يقدم على ابن ابن ابن شقيق، وهذا من ناحية القرب.
(وبعدهم التقديم بالقوة اجعل): فابن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ لأب؛ لأن القوة في الأشقاء أقوى من القوة في الأب، فابن الأخ الشقيق لو نزل إلى رابع مرتبة أو خامس مرتبة فإنه مقدم على ابن أخ لأب ولو كان في أعلى مرتبة، بل حتى لو كان الأخ لأب حي قدم عليه؛ لأن القوة في ابن الشقيق أقوى من الأخ لأب؛ لأن الفرع تابع لأصله، والشريعة هكذا، فلو ترك ميراثا وترك ابن ابن ابن عم شقيق، وعم لأب مباشرة قدم ابن ابن ابن العم الشقيق على العم لأب؛ بسبب قوة الأشقاء؛ لأن صلته بالرحم من جهتين أقوى من صلته بالرحم من جهة واحدة، وقد أعطى الله لكل حقه وحظه.
قالوا: والسبب في هذا التقديم: الشفقة، فإن شفقة القريب من ناحية الأشقاء أقوى من شفقة القريب من ناحية الأب وحده، ولذلك جعلت الشريعة لكل حظه وحقه.
قال رحمه الله تعالى: [ويقدم أبو المرأة في نكاحها ثم وصيه فيه] ثم وصيه في النكاح، كما ذكرنا أن الفرع تابع لأصله إذا أوصى أن يزوج بناته.
قال: [ثم جدها لأب وإن علا] وجدها لأم هل يلي أو لا يلي؟ لا يلي؛ لأنه أدلى بأنثى.
قال: [ثم ابنها ثم بنوه وإن نزلوا] ابن المرأة، وقد قلنا: إن الشافعية ومن وافقهم لا يصححون ولاية الابن؛ لأن الابن فرع عن الأم، ولا يمكن أن يكون ابنا لها ويكون وليا عليها.
قال: [ثم أخوها لأبوين] الذي هو الشقيق.
قال: [ثم لأب، ثم بنوهما كذلك، ثم عمها لأبوين] بعض العلماء يرى أن الأخ الشقيق وبنوه يقدمون على الأخ لأب، ثم الأخ لأب وبنوه، وبعضهم يرى أن الأخ الشقيق ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ لأب، فيجعل الجهات تبحث بعد الأصول، والأول فيه قوة كما ذكرنا، يعني: أن الجهة أقوى.
قال: [ثم عمها لأبوين] الذي هو عمها الشقيق، والعم الشقيق: هو الذي شارك أباها في أصليه، الوالد والوالدة.
قال: [ثم لأب، ثم بنوهما كذلك، ثم أقرب عصبة نسبا كالإرث] قوله: (ثم أقرب عصبة نسبا كالإرث) هذا يكون في فروع القبائل، الله سبحانه وتعالى خلق بني آدم وجعلهم على قبائل وطوائف، فترتيب القرابة والقبيلة والجماعة راجع إلى الأجداد، فهناك جماعة تجتمع معهم في الجد الثالث، وجماعة تجتمع معهم في الجد الخامس، وجماعة تجتمع معهم في الجد العاشر، كقريش، فإنها تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد العاشر، فهناك مراتب، فإذا انتهى هذا البيت وهذه المجموعة التي أنت منها تنظر إلى أقرب فخذ إليك، فإن هذا في قرابته وعصبته منك أقرب من غيره الذي يلتقي معك في جد أعلى، فيقدم القريب في الجد الأقرب على القريب الذي في الجد الأبعد، على نفس الترتيب الذي ذكرناه.
فمثلا: لو أن امرأة أسلمت، وجميع قراباتها من العصبة كفار -والعياذ بالله- أو أموات، وعندها رجل من نفس البيت لكن يجتمع معها في الجد العاشر وهذا عصبة، نسأل: هل هناك ممن أسلموا من قرابتها أقرب من هذا؟ قالوا: لا.
فيكون هذا هو الذي يلي عقد النكاح؛ لأن النسب والعصبة موجودة فيلي نكاحها.
قال: [ثم المولى المنعم] لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولاء لحمة كلحمة النسب) كما في الصحيحين، فنزل الولاء منزلة النسب، والولاء هو الذي ينتج عن العتق، فالعبد إذا أعتقه سيده فإنه يصير له ولاؤه، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) كما في حديث عائشة في الصحيحين، فقال: (إنما الولاء لمن أعتق) فأثبت الولاء بالعتق، وقال في الحديث الصحيح الآخر: (الولاء لحمة كلحمة النسب) يعني: تسري عليه أحكام النسب، فلو أن امرأة ليس لها من عصبتها أحد فينتقل إلى مولى أبيها الذي أعتقه؛ لأن موالي أبيها كمواليها، فإنهم يلون عقدها.
فالذي أعتقها يقدم على غيره من سائر قرابته وهو المعتق، ثم أبوه وإن علا، ثم ابن المعتق وإن نزل على القول بأن الأبناء يتبعون، ثم الأخ الشقيق، ثم بنوه، ثم الأخ لأب ثم بنوه، ثم العم الشقيق، ثم عم المعتق نفسه، وتسري المسألة إلى المعتق، هذا ترتيبه، وهذا في القديم، فقد كان في القديم يحتاج إلى كثير من هذا، خاصة في الفتوحات.
قال: [ثم أقرب عصبته نسبا، ثم ولاء، ثم السلطان] قوله: (ثم ولاء) .
ولاء المولى؛ لأنه في بعض الأحيان يكون الولاء مركبا على الولاء، ويكون الذي أعتقه هو أيضا قد أعتق من غيره، فيكون حرا معتقا من غيره، وليست القضية قضية الولاء والعتق، وإنما مراد الفقهاء: حفظ الضابط ومراعاة الترتيب فقط، يعني: عندما يقرأ طالب العلم هذه المتون يظن أن هذا هو المقصود، والمراد فقه المسألة، فهم عندما يذكرون الأمثلة فإنما هو لترويض الذهن، بحيث إذا سئلت تعرف كيف تقدم الأقرب فالأقرب، وكيف تقدم الأحق على من هو دونه في الحق، وكيف تنظر إلى مراتب الأشياء وتقديراتها، وكيف تنظر إلى أن الذي يشارك في الأبوين ليس كالذي يشارك في أب واحد، وكيف أن ابن الأخ الشقيق الذي شارك في الأبوين ينزل منزلة أبيه ويقدم على غير الشقيق، هذا كله ترويض للذهن مع أن فيها أحكاما شرعية لابد أن تعلم كما ذكرناها.
قال: [فإن عضل الأقرب أولم يكن أهلا أو غاب غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة زوج الأبعد] قوله: (فإن عضل الأقرب) عرفنا ترتيب الأولياء، لكن ترد مسألة: لو أن شخصا اعتدى وزوج مع وجود من هو أحق منه؟ فلو أن أخا شقيقا زوج مع وجود الأب -هذا يقع- أو أن العم الشقيق زوج مع وجود أولاد أخيه، فما الحكم؟ هذه مسائل يحتاج إلى النظر فيها، فهذه مسألة: اختلال الترتيب، فمتى يسمح بمخالفة هذا الترتيب ومتى لا يسمح؟ وهذه من عادة الفقهاء، والسبب في هذا: أنهم إ






ابوالوليد المسلم 14-05-2025 11:13 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (417)

صـــــ(1) إلى صــ(4)




شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [6]
من الشروط الواجب توافرها في عقود النكاح وجود الشاهدين، لما في وجودهما من حفظ للحقوق في الحياة وبعد الممات، ولما في ذلك من دفع للضرر عن الزوجين، وعن ذريتهما مستقبلا.
ولا يكون الشاهد في النكاح معتبرا إلا إذا كان ذكرا عدلا مكلفا غير أصم ولا أبكم.

الشهادة شرط من شروط عقد النكاح
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [فصل: الرابع: الشهادة] : الرابع من شروط عقد النكاح: الشهادة، وتطلق بمعان؛ يقال: شهد الشيء إذا حضره، قال تعالى: {وما كنت من الشاهدين} [القصص:44] يعني: من الحاضرين، وقيل: سمي الشهيد شهيدا؛ لأنه تحضره الملائكة كما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما استشهد عبد الله بن حرام والد جابر رضي الله عنه وعن أبيه جعل جابر يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وقيل للنبي: إن أخته تبكيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ابكيه أو لا تبكيه فما زالت الملائكة تظله حتى رفعتموه) فقالوا: الشهادة الحضور، ويقال: شهد بالشيء إذا علمه، ومنه قولك: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أعلم علما يقينيا، وتقول: أشهد أن محمدا صادق، وأشهد أن محمدا بر، ونحو ذلك، أي: أعلم هذا منه.
فالشهادة تطلق بمعنى العلم وتطلق بمعنى الحضور.
وقوله: (الشهادة) : الشهادة شرط لصحة عقد النكاح، وذلك للتفريق بين النكاح والسفاح، ومن مميزات الشهادة على عقود النكاح أنها تدفع الضرر، فإن حقوق المرأة تضيع إذا لم يكن هناك شهود يثبتون أنها زوجة لفلان، ولربما جحد الرجل أنه زوج لفلانة، فوجود الشهود يحفظ الحقوق سواء في الحياة أو بعد الموت، ثم الشهادة تحفظ حقوق الذرية، فلربما مات الزوجان أو ذهبا في حادث أو نحوه، فيبقى النسل، ويشهد الشهود بأنه نكاح صحيح، وأن هذا الولد منهما من زواج صحيح، فالشهادة للاستيثاق والحقوق، وفرق بين النكاح والسفاح، والدليل على اشتراط الشهادة قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) فلابد من وجود عقد النكاح في قول جمهور العلماء رحمهم الله.

الشروط التي يجب توافرها في الشهود
قال رحمه الله: [فلا يصح إلا بشاهدين عدلين] : لا يصح النكاح إلا بحضور شاهدين عدلين، والعدل تقدم ضابطه.
والدليل على ذلك: أن الله تعالى قال في الرجعة: (وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله [الطلاق:2] فقال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2] هذا في الرجعة، والرجعة مبنية على النكاح، فإذا أمر الله بالشهادة في الرجعة فلأن تثبت الشهادة في الأصل من باب أولى وأحرى، ولذلك قال: {وأشهدوا ذوي عدل} [الطلاق:2] وخص الشهادة بالعدول، ومما يدل على اشتراط العدالة في الشهادة على النكاح وغيره قوله تعالى في الشهود: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] وإنما يرضى من كان مستقيما في دينه وشهادته.
قال: [ذكرين] فالنساء لا تقبل شهادتهن في غير الأموال.
والدليل على ذلك أن الله تعالى خص بدلية النساء عن الرجال في شهادة الأموال في قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282] وهذا على الوصية في المال في السفر فقال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة:282] ، ولما جاء في حد الزنا لم يقبل إلا شهادة الأربعة من الشهود الذكور، ولم يذكر البدل، ولذلك قال جماهير العلماء: لا يقبل النساء في غير شهادة الأموال.
والسبب في هذا: أن في النساء من الخصائص ما ليس في الرجال، وهذه الخصائص التي جعلها الله في النساء كمالا لهن في أمورهن الخاصة لا تقوى معها المرأة على تحمل الشهادة؛ ومن ذلك أنها من قوة العاطفة فيها ضعف حفظها، وهذا ثابت حتى طبيا الآن، ولذلك قال تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة:282] .
فلا تقبل شهادة المرأة في الجنايات والجرائم، وهذا مشاهد مجرب؛ لأن المرأة كما ذكرنا في طبيعتها الضعف، وهذا الضعف هو الذي جعله الله رحمة بالرجل، فكملت نقص الرجل بالرحمة والضعف الذي فيها، لكن هذا الضعف لا يستطيع أن يقف في الحوادث، ولذلك تشاهد المرأة إذا جاءت أمام جريمة أو أمام حادث تضع يديها مباشرة على عينيها ولا تحب أن ترى، ولا تستطيع؛ لأنها لا تتحمل، ولو قلنا أنها تشهد، فقد حملناها ما لا تطيق، فعندما نقول: إن شهادة المرأة ترد، فإن هذا ليس طعنا في الإسلام كما يفهم السذج، بل هو كمال في الإسلام، لما فيه الرحمة والتيسير على المرأة وإعطائها حقها وقدرها؛ لأن الله عز وجل عدل فأعطى كل ذي حق حقه، فلا يستطيع أحد أن يدخل في شرع الله عز وجل، ولذلك المرأة عندما تخرجها عن طبيعتها وفطرتها وتحملها ما لا تطيق تعذبها، وتجعلها في عنت لا يعلمه إلا الله عز وجل.
فالشاهد: أن الشهادة في غير الأموال لا تستطيعها المرأة، ومن هنا لا تتحمل حتى في الأموال، قال تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة:282] وفي قراءة: {فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة:282] أي: تقويها حتى تصير بمرتبة الذكر من القوة التي في الذكر، فالشاهد: أن النساء في الحدود والجرائم وفي غير الأموال لا تقبل شهادتهن لحكمة من الله سبحانه وتعالى، {والله يحكم لا معقب لحكمه} [الرعد:41] قبل الله شهادتهن في الأموال فقبلنا، ولم يذكر شهادتهن في غير الأموال.
والأصل فيهن أن يقرن في بيوتهن، فليس هناك مجال لاستشهادهن وهن في أمور أتقن لها وأحفظ لها وأرعى لها من الرجال، وهذا من حكمة الله، فقد جعل لكل ذي حق حقه؛ خلق الله الأسد وجعل فيه من القوة والشكيمة ما الله به عليم، وإذا رأيت الأسد في البطش عجبت منه وقلت: لا إله إلا الله، يعني: عن حكمة الله وقدرته في خلقه والقوة التي جعلها فيه، ثم إذا جئت لأي أمر يحتاج إلى رحمة ولين وعطف فوضعت الأسد أمامه فإذا به يفسده غاية الإفساد، فتجد تلك القوة لا تصلح في هذا المقام، فتجد الشديد في مقام العطف لا ينفع، وتجد الضعيف في مقام القوة لا ينفع.
فمن يكلف الأشياء ضد طباعها ليس عنده حكمة ولا عنده عقل، فعندما تأتي إلى جنس ضعيف لطيف، الله سبحانه وتعالى خلقه وقدره، حينما تجده يقوم على بيته وعلى ولده، ويعطف على أسرته بحنانه وعطفه وإحسانه تسبح الله وتذكره لعظيم تدبيره، وحينها تعرف كيف تقوم البيوت، وكيف تتربى الأسر والأجيال بهذا العطف والحنان، هذا العطف والحنان الذي جبلت عليه المرأة لا تستطيع أن تكلفه القوة وتحمله ما لا يطيق، وإنما تجعله على قدره وحقه وما يطيق.
تقبل شهادة الذكور دون الإناث كما ذكرنا، وسيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة في كتاب الشهادة، ونذكر أقوال العلماء وتفصيلاتهم في هذه المسائل، وما الذي يستثنى من هذا العموم.
قال: [مكلفين] فلا تقبل شهادة المجنون ولا الصبي، فالصبي لا تقبل شهادته، والسبب في هذا: أن الصبي يقبل التلقين، ولا تقبل شهادة الصبيان إلا في مسائل مفردة استثناها بعض السلف؛ منها: قضاء عبد الله بن الزبير، فقد كان يقبل شهادة الأحداث والصغار في الجرائم بشرط أن يؤخذوا من مسرح الجريمة -يعني: مكان الجريمة- مباشرة قبل أن يلقنهم الكبار وقبل أن يختلطوا، فكان يقبل شهادة الصبيان فقط في حال إذا وقع بينهم شيء وأخذوا مباشرة دون أن يوجد هناك أحد يلقنهم أو يتصلوا بأحد يلقنهم، هذا الذي استثناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه في هذا، وسنذكر هذه المسألة ونبينها، أما غير ذلك فلا تقبل شهادة الصبيان؛ لأن الصبي ضعيف الإدراك فيستعجل في الأمور، ضعيف التمييز فلا يحسن الإخبار عن الأمور، ولذلك يفرق بينه وبين غيره فليس كالكبير البالغ.
قال: [سميعين] لأن الشهادة تحتاج إلى سمع، فلا تقبل شهادة الأصم؛ لأنه سيشهد أن فلانا زوج فلانة، فإذا لابد أن يسمع الولي مزوجا الزوج، فإذا كان أصم لا يسمع لا يمكن أن يشهد، فالأصم لا تقبل شهادته.
قال: [ناطقين] لأنه سيحتاج إلى شهادته للاستيثاق، فلابد أن يكون قادرا على الكلام قادرا على الإفصاح عن مكنون نفسه، فإذا كان لا يتكلم لا تقبل شهادته.
بيان معنى الكفاءة وأنها ليست شرطا في صحة النكاح
قال رحمه الله: [وليست الكفاءة: وهي دين، ومنصب: وهو النسب والحرية شرطا في صحته] قوله: (وليست الكفاءة وهي دين) الدين من حيث الإسلام والكفر، فلا يمكن أن يزوج كافر بمسلمة، ونص القرآن في هذا واضح، لكن بالنسبة للدين من حيث الاستقامة والطاعة، فلو أن رجلا مستقيما صالحا وامرأة ليس عندها تلك الاستقامة وذلك الصلاح؛ إنما هي تصلي، وتؤدي فقط الأمور الأساسية لكنها قد تقع في بعض المحرمات، وعندها بعض التقصير، ولا تصل إلى درجة الصلاح، فهل يجوز زواج غير الصالحة بالصالح؟
الجواب نعم، فلربما أصلحها، وأيضا: يجوز زواج غير الصالح بالصالحة فلربما أصلحته، وإن كان الأولى والأحرى أن يحتاط في هذه الأمور، لكن من حيث الأصل يجوز؛ لأن هناك شيئا اسمه صحة النكاح، فالنكاح هنا يصح، فلو أن امرأة صالحة جاءها ابن عمها أو قريب لها وهو على غير صلاح، فقال لها والدها: فلان يريدك، فقالت: ما دام والدي اختاره لي، وهذا ابن عمي فأتقي الله عز وجل وأصل الرحم، وأقوم بحقوقه، ولعل الله أن يهديه على يدي، ونوت ذلك فيما بينها وبين الله، فهذه تؤجر وتثاب، ولها من الله معين وظهير، وزواجها تؤجر عليه؛ لأنها نوت الخير، فما دام أن في نيتها أن تصلحه فهذه هي الداعية بحق؛ لأنها نظرت أن أحق من يدعى أقرب الناس منها، ووقع من هذا شيء كثير، حتى إن من الرجال من أصلحهم الله بصلاح بنات العم وبنات الخال.
وفي بر الوالدين بركة وخير، فالمرأة إذا برت والديها جعل الله لها فيه خيرا كثيرا، كأن تكون المرأة بنت خمس عشرة سنة وهي في عز جمالها وشبابها ونظارتها، ويأتيها والدها بصديق له ماتت زوجته، وقد يكون ابن أربعين سنة، أو خمس وأربعين سنة، أو ابن خمسين سنة، ويقول لها: يا فلانة! فلان يريدك، وأريد أن أزوجك من فلان، فتقول له: ما دمت تريده أنا موافقة، وتتزوج ابن أربعين وهي بنت خمسة عشر عاما، وتتزوج ابن خمسين وهي بنت خمسة عشر عاما، بشرط أن يكون قادرا على حقها ويعطيها حقها في فراشها، فسيعطيها الله عز وجل من السعادة والرحمة والراحة ما الله به عليم؛ لأنه مع كبر سنه يحس أنها كالهدية، فيغدق عليها من الإحسان والخير ما الله به عليم.
لكن لما أصبحت المرأة لا تبالي بأبيها، وأصبحت تتأثر التأثر بآراء الذين ليس عندهم بر بآبائهم، فأصبحت المرأة يأتيها أبوها بزوج في سنها كابن عمها أو قريبها ويقول لها: يا فلانة! عمك جاءني يريدك لابنه، فتقول: لا.
هذا مستقبلي، لا تدمر حياتي، لا تنغص عيشتي، فلقنت، وكانت المرأة لا ترفع رأسها في وجه أبيها، ولا يمكن أن تحل شيئا عقده والدها، من الإكرام والإجلال، وتجد من الخير ما الله به عليم، والله كم عرفنا من القرابة وغير القرابة ومن الأسر من بيوت بنيت بالبر وصلحت بالبر.
أصبحت بعض النساء -وهذا ملموس من الأسئلة والفتاوى- تحس دائما أن والدها إذا تدخل في الزوج أنه يريد أن يهدم مستقبلها؛ لأن كل ما قرأته من القصص المعاصرة والواقع المعاصر ينصب في هذا؛ أن الوالد لا يتدخل في شيء، وهذا من أكبر الخطأ، ومما ينبغي على النساء أن يحفظنه ويحافظن على إحيائه في أخواتهن وفي النساء تقوى الله في بر الوالدين، فالمرأة إذا اتقت الله وبرت والديها جعل الله لها من السعادة والخير وعوضها خيرا كثيرا، وكم والله رأيت من قصص عجيبة، فتجد الرجل يحب امرأة معينة وتأتيه والدته وتصرفه إلى امرأة أخرى، فيتقي الله عز وجل ولا يقول: أنت تتدخلين في أمري، أنت كذا، أنت كذا، أبدا، بل يسلم لوالدته ويطيع فيجعل الله له من الخير ما لم يكن له في حسبان.
فإن أحدهم أصرت عليه أمه أن يتزوج ابنة خالته، وكانت ليست بدينة -هذا على مسألة إذا زوجت الصالحة من غير الصالح والصالح من غير الصالحة- فقالت له: يا بني! هذه بنت خالتك، وأحب أن يكون بيني وبين أختي شيء من الصلة، فيا ليتك تدخل السرور علي بزواجك من بنت خالتك.
فاتصل بي وقال: كيف تتدخل والدتي في أمري، وكيف وكيف مما هو سائد وموجود، فقلت له: يا أخي! هذا بر للوالدين إذا لم يكن فيها عيب ينفرك منها، قال: هي تصلي، وتقوم بحق الله لكن دينها ليس بذاك، ولكني أريد فلانة الصالحة، جارته أو من بنات جيرانه، فأصر على ما هو عليه، فمكث أكثر من شهر وهو يراجعني، حتى شاء الله عز وجل في آخر لحظة أن يلين قلبه، قال: أوافق على ما قالت الوالدة؛ لأني قلت له في الأخير: ما دمت مصرا على رأيك لا تستشرني، قد قلت لك رأيي، وقد قلت لك وجهة نظري؛ أنك إذا بررت والدتك وكانت نيتك صالحة فلن يخيبك الله.
فوالله فوجئت قبل سنة أو سنتين وأنا داخل إلى مدينة من المدن وإذا به يشير إلي فوقفت، فقال لي: تعرفني؟ قلت: لا أذكر، قال: أنا الذي اتصلت بك وكنت كذا وكذا وإذا به يذكرني بحادثته، قال لي: الآن الذي معي بنت خالتي التي أصرت والدتي على الزواج بها، أصبحت من أصلح خلق الله، وداعية إلى الخير، ولي منها الآن أطفال، وأنا الآن في سعادة لا يعلمها إلا الله، وبنت الجيران التي كنت أريد زواجها انتكست -والعياذ بالله- بعد زواجها، وسبحان الله قد يصرفك الله إلى خير لك ببر الوالدين، تشعر أو لا تشعر، إذا كان البر يضر فالعقوق أضر.
إذا كانت المرأة تقول: والدي يتدخل في مستقبلي.
لا والله، لا يوسد والدك في قبره إلا وقد خرج من هذه الدنيا وهو راض عنك لأنك أشعرته بالأبوة.
إذا أصبح الوالد ليس له أمر في زواجك ولا يختار لك، فما هي حياتك معه؟ فينبغي أن تنزع المرأة من نفسها هذه المشاعر التي هي دخيلة على المسلمين، وينبغي على المرأة أن تنظر إلى الرجل، ولو أنها تزوجت غير الصالح، فإذا حدث مرة أنها تزوجت غير صالح وحصلت مشاكل وحصل الطلاق والفراق، وحدث أن بعضهن تقول: قد بررت والدي وحدث ما حدث، ورغم ذلك لم أنعم في حياتي الزوجية، فأقول لها: ثقي ثقة تامة أن هذا الزواج الأول الذي وقعت بسببه في الألم والاضطهاد والأذية من هذا الرجل غير الصالح سيكون درسا نافعا لك، بحيث إذا تزوجت ثانية تكونين كأحسن ما يكون، فإن الذي يذوق المرارة ويذوق من بعدها الحلاوة يحس بلذة الحلاوة، وذق شيئا مرا ثم ذق بعده حلوا، فإنك تجد للحلو لذة، وإن كنت تراه قبل المرارة حلوا فإنه بعد المرارة أحلى.
وكان من كلام العقلاء الحكماء ومما ذكره بعض أهل الحكم: أن عظيما من العظماء أراد أن يتزوج، فقال لجلاسه: اختاروا لي امرأة، فقال أحدهم: عليك بالجميلة، وقال الآخر: عليك بالطويلة، وعليك! وعليك، فأخذوا بضروب النساء وأصنافهن، فقال كلمتين: ابغوا لي امرأة يطلب مثلها -يعني: فيها صفات المرأة من حيث هي ولو كان جمالا نسبيا- لكن ماذا قال؟ أدبها الفقر فعرفت قيمة الغنى، أي: أدبها الفقر وأدبها الضعف والشدة حتى إذا جاءت إلى بيت الزوجية بعد هذا عرفت قدر الغنى.
فالمقصود: أنه إذا زوج الصالح من غير الصالحة والصالحة من غير الصالح وكان هذا الزواج مبنيا على بر الوالدين فسيجعل الله فيه خيرا، ويجعل فيه منفعة في مستقبل المرأة وفي حياتها، وإن كان الأولى والمنبغي دائما أن يزوج الطيب من الطيبة كما قال تعالى: {الطيبات للطيبين} [النور:26] .
قال: [ومنصب: وهو النسب والحرية] يكون هذا بالنسبة للكفاءة، يعني: لو زوجت الغنية من الفقير، وزوجت الرفيعة من الوضيع، هذا الارتفاع والضعة هذا شيء نص الله عز وجل عليه بقوله: {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} [الزخرف:32] .
فالمرأة التي مثلا لها بيت يكون بيتها بيتا له.
هناك شيء يسمى: الحسب والنسب، النسب هو: الإضافة؛ فلان ابن فلان من قبيلة فلان من بني فلان من جماعة فلان، وهذا موجود في سائر الأجناس، والحسب موجود في سائر الأجناس، لكن كل جنس بحسبه، والحسب يخالف النسب؛ لأن الحسب يحتسب الإنسان به أجداده، يعني: مثلا يقولون: هذه فلانة، والدها فلان الكريم، يعني: رجل مشهور بالكرم والإحسان إلى الناس والصدقات حتى أصبحت الناس تذكره بالخير وتثني عليه حيا أو ميتا، فهذا يسمى: حسب أو يقال: جدها فلان الشجاع، له شجاعة وله مكانة، وأبلى بلاء حسنا، فهذا من الحسب، أو يقال: جدها العالم فلان، هذا أيضا من الحسب؛ لأن العلم أعظم الشرف، فتجمع بين شرف الدين والدنيا في هذا.
فإذا: الحسب: أن يحسب الإنسان آباءه أو يعدهم، ولذلك قد: يتكاثر الناس، وتجد إذا حصل بينهم ذلك يعدون هذه المآثر والمفاخر، وإذا كان على سبيل الحق فلا بأس، كأن يقال: فلان له حق علينا، فإن والده فلان، أو هو من ذرية فلان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح: (أنزلوا الناس منازلهم) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حينما مر على سفانة وهي أسيرة، وقالت لـ علي أن يشفع لها، فقال لها: إذا مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدونك تكلمي، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (يا محمد! إن أبي كان يقري الضيف ويحمل الكل، ويعين على نوائب الحق، فقال لها: من أبوك؟) ، قالت: حاتم الطائي، قال: (خلوا عنها -يعني: أطلقوها من أسرها- فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه) فعدت هذه المفاخر والمآثر وهي في الجاهلية، فكيف إذا اقترنت بالإسلام وعرفت المرأة أنها بنت فلان، والسبب في هذا: أن البيوت المعروفة سواء كانت بيوت فضل وكرم وشجاعة ينتقل السر إلى الأولاد، فالبيوت المعروفة بالبخل والشح -نسأل الله السلامة والعافية- وعدم الإنفاق والخوف على الدنيا ينتقل بلاؤها إلى الأولاد، وكذلك أيضا بيوت الكرم والشجاعة يبقى فيهم السر، كما قال الشاعر: إن الأصول الطيبات لها فروع زاكية والإنسان دائما إذا كان من بيت طيب يستحي وينكف وينزجر عما لا يليق به، فلو أن المرأة كانت من بيت حسيب فزوجت ممن هو دون، فليس هذا من الحق والعدل إذا وجد الكفء لها، يعني مثلا: الآن نجد بعض النساء تقول: إنها تريد أن تتزوج، فيصر والدها على تزويجها من ابن عمها، نقول: نعم تتزوج ابن عمها إذا كان كفئا كريما فهو أولى وأحق،






ابوالوليد المسلم 14-05-2025 11:18 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (418)

صـــــ(1) إلى صــ(7)





شرح زاد المستقنع - باب المحرمات في النكاح [1]
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان وهذب أخلاقه، ورفعه عن الحياة البهيمية، حيث نظم حياته، ونظم علاقته مع المرأة: زوجة، وأما، وأختا، وبنتا، وبين ما يحل له وما يحرم من هؤلاء النساء.
ولقد حرم الله على الإنسان أنواعا من النساء تحريما مؤبدا من جهات ثلاث.
من جهة النسب، ومن جهة الرضاع، ومن جهة المصاهرة، وألحق بالتحريم المؤبد الملاعنة، وكذلك بين حكم كل نوع من هؤلاء.
وهذا من فضل الله عز وجل على عباده ومن حكمته سبحانه.

مقدمة في المحرمات في النكاح
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فالمصنف رحمه الله تعالى يقول: [باب المحرمات في النكاح] قوله: (باب المحرمات في النكاح) هذه مقدمة عن المحرمات في النكاح.
والمحرمات في النكاح هن: النساء اللاتي حرم الله الزواج منهن، وينقسمن إلى نوعين: النوع الأول: المحرمات إلى الأبد.
والنوع الثاني: المحرمات إلى أمد.
المحرمات إلى أبد: هي كل امرأة لا تحل إلى أبد الآبدين.
والمحرمات إلى أمد: يعني: مؤقتا، ويزول تحريمها بزوال السبب، وموانع النكاح.
والمحرمات من النكاح لها أسباب، وهذه الأسباب تنقسم إلى الأقسام التالية: - النسب.
-
ثم الرضاع.

-
ثم المصاهرة.

-
ثم الكفر.

-
ثم الرق.

-
ثم العدد.

-
ثم الجمع.

-
ثم مانع التطليق ثلاثا.

-
ثم الزنا.

-
ثم مانع اللعان.

-
والأخير مانع الزوجية.

هذه أحد عشر مانعا تمنع من النكاح؛ لكن بعضها يمنع إلى الأبد، وبعضها يمنع إلى أمد.
مثلا: قلنا: النسب: وهن سبع جاء ذكرهن في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما} [النساء:23] الآية، سبع من النسوة يحرمن من جهة النسب، والنسب أصله الإضافة؛ لأنك تقول: فلان بن فلان، فنسبته إليه يعني: أضفته إليه.
وهذا هو النسب.
ثم المصاهرة: المصاهرة مثل، زوجات الآباء وزوجات الأبناء، يعني: زوجات الأصول وزوجات الفروع، وبنت الزوجة وأم الزوجة، وهؤلاء أربع من جهة المصاهرة.
الرضاع: مثل النسب يعني: الذي يحرم من جهة النسب يحرم من جهة الرضاع.
هذه ثلاثة موانع: النسب، والمصاهرة، والرضاع.
ثم مانع الكفر: فالمشركة لا يجوز نكاحها، ولا إنكاح المشرك، فأصبح الشرك والوثنية مانعين من الزواج: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة:10] ، وسنبين هذا.
ومانع الرق: بالنسبة للحر في زواجه من الأمة، وله شروط، وزواج العبد من الحرة، وسنبين هذا.
هذا مانع الرق.
ثم مانع العدد: رجل عنده أربع نسوة، لا يجوز له أن يتزوج حتى يطلق واحدة وتخرج من عدتها، فينكح بدلها واحدة، هذا مانع من جهة العدد، أنه استوفى العدد الذي له، وسنشرح هذا إن شاء الله ونبينه.
ثم مانع الجمع: وهو أن تجمع بين المرأة وأختها، والمرأة وعمتها أو خالتها، كما سيأتي تفصيله: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء:23] هذا مانع الجمع.
ثم مانع التطليق ثلاثا: فلا تحل حتى تنكح زوجا غيره، هذه امرأة طلقها رجل ثلاث تطليقات نقول: هذه محرمة عليك؛ لكن محرمة إلى أمد، وهو أن تنكح زوجا غيرك ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، فيحل لك إذا طلقها أن ترجع إليك.
ثم مانع الزنا: الزانية: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور:3] ، وسيأتي إن شاء الله تفصيله.
كذلك أيضا عندنا مانع الزوجية: امرأة منكوحة للغير: {والمحصنات من النساء} [النساء:24] ، فالمرأة المحصنة التي هي في عصمة الغير لا يجوز للغير أن يتزوجها إلا ما استثنى الله، وهي أن تكون ذات زوج وأسرت واسترقت: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24] فتستبرأ بعد سبيها كما جاء في حديث سبي أوطاس، وسيأتي إن شاء الله.
هذه كلها موانع النكاح، بعد ذلك كل مانع له تفصيلات.
فبالإجمال هؤلاء المحرمات: منهن محرمات إلى الأبد، ومنهن محرمات إلى أمد.
ثم المحرمات إلى الأبد منهن من تثبت لهن المحرمية، فبسبب حرمة نكاحها يجوز لك أن تصافحها، وأن تسافر معها، وأن تختلي معها، التي هي مثلا: المحرمات من النسب، مثل: الأم والبنت والأخت والخالة والعمة، فهذه محرمة محرمية، وكذلك هناك محرمة ليست بذات محرم وهي المحرمة إلى أمد، والمحارم يشمل النسب والرضاع والمصاهرة والزوجة: - فهن سبع من جهة النسب: وهن السبع اللاتي ذكر الله.
-
وأربع من جهة المصاهرة: أم الزوجة، وبنت الزوجة، وزوجة الأب، وزوجة الابن.

-
وكان من جهة الرضاع: يعني: ما كان من الرضاع منهما: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .

-
والزوجة.

هؤلاء الأربع أي واحدة منهن تحريمها يوجب المحرمية؛ لكن البقية لا.
فمثل ما يقع بعض الناس في الخطأ يقول: أخت زوجتي حرام علي، فهي محرم لي، نقول: لا.
هي حرام وليست بمحرم.

بيان المحرمات من النساء وجهات التحريم المؤبد
تقدم معنا أن الله عز وجل حرم على المسلم أن ينكح جملة من النساء، وأن هؤلاء المحرمات لا يجوز للمسلم أن ينكحهن إما على التأبيد وإما على التأقيت، فقسم من النساء حرم الله نكاحهن والزواج منهن إلى الأبد، وقسم من النساء حرم الله نكاحهن والزواج منهن إلى أمد، يزول الحكم بزوال السبب.
فأما المحرمات إلى الأبد فذكرنا: أن هذا يشمل المحرمات من جهة النسب، والمحرمات من جهة المصاهرة، والمحرمات من جهة الرضاع، ويتبع ذلك تحريم الملاعنة، فهؤلاء النسوة لا يحل نكاحهن إلى الأبد، فعندنا: النسب، والمصاهرة، والرضاع، والملاعنة.
أما بالنسبة للمحرمات من النسب فسبع من النساء حرم الله عز وجل نكاحهن.
أولهن: الأم ثم البنت ثم الأخت ثم بنت الأخ ثم بنت الأخت ثم العمة ثم الخالة، فهؤلاء سبع من النسوة، الأصل والفرع ومن شاركك في أصلك في فروعه من النساء، ومن شارك أصل أصلك في أصله، فنقول: الأم وأم الأم وأمها وإن علت كما سيأتي التفصيل.
والبنت فرع هي وفروعها أو كانت من فرع ذكر كبنت الابن، فعندنا الأصل الأمهات وعندنا الفرع البنات، وعندنا شيء شاركنا في الأصل الأخوات، ولما كان الأخ الذكر لا يدخل في النكاح أسقط فصارت بنته، فقيل: بنت الأخ، فأصبحت من المحرمات، ثم يتبع ذلك العمة والخالة، فالعمة شاركت الأب الذكر، والخالة شاركت الأم الأنثى.
وهؤلاء المحرمات السبع شملتهن آية النساء.
بيان المحرمات من النسب وحكم كل نوع منها
يقول المؤلف رحمه الله: [تحرم أبدا الأم] والأم: هي كل أنثى لها عليك ولادة، والدليل على تحريمها قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23] ، والأم تشمل الأم المباشرة والأم بواسطة، فأمك وأم أمك وأم أبيك كلهن محارم، يحرم نكاحهن إلى الأبد، وهي محرم يجوز الجلوس معها والخلوة بها والسفر معها، فالأم الدليل على تحريمها -كما قلنا- قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23] ، والآية لما قالت: (أمهاتكم) ، عممت فشملت كل أم، ولذلك لو سئلت عن أم الجد أو أم جد الجد أو أم الأب أو أم أب الأب فكلهن محارم ومحرمات، لو قال لك: ما الدليل؟ تقول: عموم قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23] ، فالله عز وجل لم يفرق بين أم وأخرى.
ومن هنا قال العلماء: أمهات الأصول أمهات للفروع، وأجمع أهل العلم رحمهم الله على أن هذا النوع من النساء لا يحل نكاحه إلى الأبد، سواء كانت أما مباشرة أو أما بواسطة.
قال: [وكل جدة وإن علت] .
الأم وأمها وإن علت، فقوله: (كل) من صيغ العموم، (كل جدة) ، فلم يفرق بين الجدة من الوالد والجدة من الوالدة.
قال: [والبنت] قوله: (والبنت) هذا النوع الثاني من المحرمات، وضابط البنت عند أهل العلم: هي كل أنثى لك عليها ولادة، يعني: جاءت منك أو جاءت من نسلك، فسواء كانت بنتا مباشرة أو بنتا بواسطة، والبنت بواسطة سواء جاءت بواسطة الذكور: كبنت الابن أو بنت ابن الابن، أو بواسطة الإناث كبنت بنتك، فجميع هذا النوع من النسوة محرم إلى الأبد، ويجوز لك أن تصافح أي واحدة من هؤلاء، وأن تختلي بها، وأن تسافر معها، فهي محرم لك، ولو سئلت عن الدليل؟ تقول: عموم قوله تعالى: {وبناتكم} [النساء:23] ، ووجه الدلالة من الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى لم يفرق بين بنت وأخرى، فقال سبحانه: (وبناتكم) ، وبنت البنت بنت لجدها والد أمها وبنت الابن بنت لجدها والد أبيها، وعلى هذا فيحرم هذا النوع من المحرمات وهن البنات.
قال: [وبنت الابن] قوله: (وبنت الابن) ، كما قلنا: البنت وبنتها وإن نزلن، سواء تمحضت بالذكور، أو تمحضت بالإناث، فمن تمحضت بالذكور: كبنت ابنك، ومن تمحضت بالإناث: كبنت بنتك، كل ذلك محرم بإجماع العلماء رحمهم الله.
قال: [وبنتاهما من حلال وحرام وإن سفلن] وبنتاهما من حلال بالإجماع، أما من حرام فهذه مسألة خلافية، نحن علمنا أن البنت من النكاح الصحيح ومن الحلال محرم ومحرمة، لكن لو أنه -والعياذ بالله- زنى بامرأة فولدت بنتا، هل يحل له نكاحها؟ أو ولدت بنتا ثم البنت تزوجت فولدت بنتا، هل يحل له أن ينكح بنت بنته من الزنا، أو بنت ابنه من الزنا؟ جمهور العلماء: على أن الشريعة تحرم الزواج من بنته من الزنا كما تحرم الزواج من بنته من الحلال، ووجه ذلك: أنها بضعه منه ومخلوقة من مائه، وهي بنته من حيث الحقيقة، وإن كان الشرع قد أسقط هذه البنتية من حيث الحكم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ، قالوا: إن الحرام يحرم، وهذا مذهب الجمهور، وفي هذه المسألة يقولون: العبرة بالمعاني لا بالألفاظ وحدها، فلما نظروا إلى المعنى في قوله تعالى: {وبناتكم} [النساء:23] قالوا: إنها فرع عنه، فإن بنت الزنا فرع من مائه، ومخلوقة من مائه فتنزل منزلة البنت من الحلال.
وذهب طائفة من العلماء كما هو قول الشافعية: أن البنت من الزنا يجوز نكاحها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البنت منسوبة إلى الفراش، وأسقط ما بينها وبين الزاني، وقطع الصلة بالزاني كلية، فجاز له أن يطأها كالأجنبية.
وهذه المسألة تعتبر من مفردات المذهب الشافعي، ولذلك قال بعض من ينتقد المذاهب، في بعض اعتذاره عن اتباع مذهب الشافعية: وإن قلت: شافعيا، قالوا: بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم وفي بعض ألفاظ البيت: أبيح نكاح الأخت والأخت تحرم فهم يبيحون نكاح الأخت من الزنا والبنت من الزنا، فنكاح الأخت من الزنا كرجل زنى بامرأة فاستولدها بنتا، فجاء ابنه وتزوجها، فإنه يتزوج أخته من الزنا والعياذ بالله! لكن الصحيح والذي يظهر والعلم عند الله: أن هذا النوع من النساء مشتبه، لا يفتى بحله ولا يفتى بحرمته؛ لأن فيه شبها من الحلال وشبها من الحرام، فشبهه من الحلال: قوله عليه الصلاة والسلام: الولد للفراش)، فأسقط ما بينه وبين الوالد من الصلة، وأهدر ماء الزنا.
وشبهه من الحرام: أن الماء ماؤه، وأن التخلق من الماء موجودة فيه، وقد نص على ذلك عليه الصلاة والسلام في حديث سبي أوطاس، فإنه لما نهى عن وطء المسبية حتى تستبرأ، فرأى رجلا كأنه يريد أن يدخل على أمة مسبية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) ، فجعل وطأها أثناء حملها محرما، فقال: (أيغذوه في سمعه وبصره) ، مع أن الولد للأول، ويكون دخول الثاني لا تأثير له.
لكن الذي يظهر كما ذكرنا: أن هذا النوع من النساء ممتنع للشبه من الوجهين، فنقول: لا نحلله ولا نجزم بحله، ولا نحرمه ولا نجزم بتحريمه، وبطبيعية الحال لا يستطيع الواحد أن يتزوج هذا النوع الذي لا يجزم بحله ولا بحرمته.
هذه المسألة تسري في جميع المسائل، يعني مثلا: أم بنته من الزنا، وهكذا بالنسبة للتحريم من جهة المصاهرة كالتحريم من جهة النسب في المسألة التي ذكرناها.
قال: [وكل أخت] أي: ومما حرم الله كل أخت، الأخت ضابطها عند أهل العلم: هي كل أنثى شاركتك في أحد أصليك أو فيهما معا، فشمل ثلاثة أنواع من الأخوات: الأخت الشقيقة: وهي التي شاركتك في الأصلين الأب والأم.
والأخت لأب: وهي التي شاركتك في أحد الأصلين من جهة الأب.
والأخت لأم: كذلك هي التي شاركتك في أحد الأصلين من جهة الإناث.
هذا النوع من النساء يحرم إلى الأبد، ودليل ذلك قوله تعالى: {وأخواتكم} [النساء:23] ، ولم يفرق بين أخت وأخت، وعمم سبحانه وتعالى فشمل الأخت الشقيقة ولأب ولأم، وأجمع العلماء على تحريم الأخوات سواء كن شقيقات أو أخوات لأب أو لأم.
قال: [وبنتها] قوله: (وبنتها) بنت الأخت الشقيقة، وبنت الأخت لأب، وبنت الأخت لأم، بإجماع العلماء محرمة؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وبنات الأخت} [النساء:23] ، فقد نص سبحانه وتعالى على تحريم بنت الأخت ولم يفرق بين أخت وأخرى.
وبنت الأخت: هي كل أنثى لأختك عليها ولادة.
قال: [وبنت بنتها] .
قوله: (وبنت بنتها) ، أي: بنت بنت الأخت: وهي كل أنثى لأختك عليها ولادة بواسطة، فيشمل أن تكون بنت ابن الأخت وبنت بنت الأخت، يعني: مثل ما ذكرنا في الأصول أنه يستوي في فروعه ما تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، كذلك في بنت الأخت وبنت الأخ؛ لأن بنت بنت الأخت وبنت ابن الأخت هي بنت للأخت، والله تعالى يقول: {وبنات الأخت} [النساء:23] ، ولم يفرق بين بنت أخت وأخرى، فشمل الصلب وشمل الواسطة.
قال: [وبنت كل أخ وبنتها] قوله: (وبنت كل أخ وبنتها) بنت كل أخ لم يذكر الأخ؛ لأن الذكر -كما ذكرنا- لا يدخل في التحريم؛ لأنه ليس من جنس ما ينكح، فقال: بنت الأخ، وبنت الأخ ضابطها عند العلماء: هي كل أنثى لأخيك عليها ولادة، سواء كانت مباشرة كبنته بصلب، أو بواسطة كبنت بنت الأخ، وبنت ابن الأخ، يعني: سواء كانت البنت بواسطة ذكر أو أنثى، والدليل على تحريم هذا النوع من النساء قوله تعالى: {وبنات الأخ} [النساء:23] ، ويشمل الأخ الشقيق والأخ لأب والأخ لأم، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
قال: [وبنت ابنه] قوله: (وبنت ابنه) بنت ابن الأخ، فلو أن لأخيك ابنا وأنجب فإنك تصبح عما لأبيها، وعم الأب عم للفرع كما ذكرنا، فبنت ابن الأخ وبنت بنت الأخ الحكم فيهما سواء.
قال: [وبنتها وإن سفلت] نعم هذا واضح.
قال: [وكل عمة وخالة وإن علتا] قوله: (وكل عمة) العمة: هي كل أنثى شاركت أباك في أحد أصليه أو فيهما معا، كل أنثى شاركت أباك في أحد أصليه مثل العمة لأب والعمة لأم، أو فيهما معا وهي العمة الشقيقة، فثلاثة أنوع من العمات: العمة لأب: هي التي والدها ووالد أبيك واحد ولكن الأم مختلفة.
والعمة لأم: هي التي والدتها ووالدة أبيك واحدة وهي جدتك، والعمة الشقيقة: هي التي شاركت والدك في الأصلين معا في الوالد والوالدة.
هذا النوع من النساء أجمع العلماء على تحريمه مطلقا؛ العمة الشقيقة، والعمة لأب، والعمة لأم، والدليل على ذلك نص الله عز وجل في التنزيل: {وعماتكم} [النساء:23] ، فنص على تحريم العمات ولم يفرق بين عمة وأخرى.
قال: [وخالة] قوله: (وخالة) الخالة: هي كل أنثى شاركت أمك في أحد أصليها أو فيهما معا، كل أنثى شاركت أمك في أحد أصليها مثل الخالة لأب، والخالة لأم، أو فيهما معا وهي الخالة الشقيقة، فلو أن الوالدة لها أخت من أب وأم تقول: هذه خالتي شقيقة، وإن كانت لها أخت من أب تقول: هذه خالتي لأب، لأنها شاركت والدتي في أبيها، وإن كانت لها أخت من أم تقول: هذه خالتي لأم، هذا بالنسبة للعمات والخالات.
إذا: العمة والخالة محرمتان، وكذلك عمات الأصول يكن عمات للفروع، وخالات الأصول يكن خالات للفروع، فكما حرمنا عليك خالتك وعمتك نحرم عليك خالة الأم وخالة الأب، وعمة الأم وعمة الأب، فلو سألك سائل عن خالة وعمة جده: هل هي محرم؟ تقول: نعم، هما محرم لك يجوز لك أن تختلي بهما، وأن تجلس معهما، وأن تسافر بهما، وأنت محرم لهما؛ لأن خال أصلك خال لك، وخالة والدك وخالة والدتك كخالتك، وعلى هذا فإنه يسري التحريم في الخالات والعمات إذا كن للأصول، كما يكون تحريما للشخص نفسه، والدليل على ذلك عموم قوله تعالى: {وعماتكم وخالاتكم} [النساء:23] ، وقد أجمع العلماء على أن عمات الأصول






ابوالوليد المسلم 14-05-2025 11:20 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




التحريم بسبب اللعان وحكمه
قال رحمه الله: [والملاعنة على الملاعن] .
هذا النوع نوع آخر من المحرمات الملاعنة، والملاعنة: مفاعلة من اللعن، والمفاعلة تستلزم وجود شخصين فأكثر، كالمقاتلة والمشاكلة، وتقع الملاعنة بين الزوج والزوجة، وسمي اللعان لعانا لوجود اللعن فيه والعياذ بالله! ولذلك يبتدئ الرجل: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، شهد الرجل على نفسه باللعن، مع أن المرأة تشهد على نفسها بالغضب، والغضب أشد من اللعن؛ لأن الغضب -والعياذ بالله- أسوأ وأشد من لعنة الله عز وجل؛ وذلك لقوله تعالى: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} [طه:81] .
ولأن ملاعنة المرأة للرجل لا تكون إلا بعد تمام الأيمان من الرجل، وتمام الأيمان من الرجل لا يكون إلا بعد اليمين الخامسة: {أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} [النور:7] نسأل الله السلامة والعافية! الملاعنة هي أن يتهم الرجل امرأته بالزنا بعد أن يراها، أو يسمع بأذنه، ويعلم الشيء يقينا، أو يأتي بشهادة عدول يثق فيهم على خلاف بين العلماء، أو ينفي ولدا أنه ولده، كأن يكون هذا الولد وقع في حالة غيبة يستحيل معها أن يكون منه، أو يكون وجود الشبهة، فالمهم سيأتي إن شاء الله ما يتعلق بأحكام اللعان.
لكن الذي يهمنا هنا مسألة وهي: أن الرجل إذا لاعن امرأته والعياذ بالله! ووقع اللعان بينهما، وتمت الأيمان، فرق بين الزوج والزوجة فراقا إلى الأبد، فلا تحل له أبدا، حتى لو رجع عن لعانه وكذب نفسه فهي حرام عليه إلى الأبد؛ ولذلك قال الراوي للحديث، أي: حديث عويمر العجلاني الذي في الصحيح: (مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما فلا يجتمعان أبدا) .
وعلى هذا فإن اللعان يوجب الفرقة الأبدية، لكن هناك فرق بين التحريم في النسب الذي ذكرناه، وهن السبع النسوة اللاتي ذكرن، وبين التحريم في اللعان، والفرق أن التحريم في اللعان فرقة، يعني: تكون المرأة محرمة وليست بذات محرم، وفي النسب محرمة ومحرم، يعني: يجوز للرجل أن يجلس مع أمه وأخته وعمته، لكن إذا لاعن المرأة يفرق بينهما ولا يجلس معها، ولا يعتبر بينهما أي صلة إلى الأبد.
وعلى هذا تجد العلماء يقولون -في المرأة التي يحل لك أن تسافر معها والتي تأخذ حكم المحرمية- يقولون: هي كل أنثى محرمة إلى الأبد إلا الملاعنة.
أي: أن الملاعنة لا تدخل مع أنها محرمة إلى الأبد.
والملاعن والملاعنة يفرق بينهما ولا يجوز للملاعن بعد ذلك أن يأتي ويقول: أريد أن أتزوجها من جديد، أو أريد أن أنكحها؛ قال: (يا رسول الله! مالي -بعد أن لاعنها وتم اللعان بينهما قال: مالي، يعني: المهر الذي أعطيتها- فقال: إن كنت صادقا فهو بما استحللت من فرجها -فمهرك الذي دفعته لقاء استمتاعك قبل زناها-، وإن كنت كاذبا فهو أبعد لك منها) ، فقوله في الصحيح: (هو أبعد لك منها) دل على أنها هي بعيدة عنه، كما بعد المهر، وأن بينهما مباعدة وبينهما حرمة فلا يجتمعان أبدا.

بيان المحرمات من الرضاع وحكم كل نوع منها
[ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب] (ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، الرضاع: مص الثدي، وسيأتي إن شاء الله بيان مسائله وحقيقته؛ لأن العلماء أفردوا للرضاع بابا مستقلا، إذ يحتاج الفقيه وطالب العلم أن يعلم حقيقة الرضاع، وكيفية الرضاع، ومتى يحكم بالرضاع، والآثار المترتبة على الحكم به، وهذا له باب مستقل، لكن الذي يهمنا هنا أن الرضاع يؤثر كالنسب، والحجة في ذلك صريح السنة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، فأم من رضاع وبنت وأخت وعمة وخالة وبنت أخ وبنت أخت، كل هؤلاء محرمات من الرضاع كما يحرمن من النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك، وألحق بذلك المحرمات من المصاهرة، كأم الزوجة من الرضاع، وكذلك بنتها من الرضاع كلهن محرمات، وزوجة أبيه من الرضاع، وكذلك بنت زوجته من الرضاع كلهن محرمات، ويلتحقن في قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله، وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك.
قال: [إلا أم أخته] .
قوله: (إلا أم أخته) ، أي: أم أخته من الرضاع، لو أن خديجة ومحمدا ارتضعا من فاطمة، فإن محمدا تحرم عليه فاطمة، لكن لا تحرم عليه أم أخته خديجة؛ لأنها أجنبية، خديجة ومحمد ارتضعا من فاطمة، ففاطمة أمهما من الرضاع هذا ما فيه إشكال في كونها محرمة، لكن أم الأخت من الرضاع التي لم يرتضع منها، القيد هنا: (التي لم يرتضع منها) لكن أم أخته من الرضاع التي رضع منها بالإجماع محرمة؛ لأنها أمه، لكن أم أخته من الرضاع إذا اشتركا في امرأة وكان للأخت التي شاركته في الرضاع أم غير التي رضع منها فإنها أجنبية، ففي الأصل أنها أجنبية وليست بمحرم، في النسب تحرم أم الأخت، ولكن في الرضاع لا تحرم أم الأخت إذا كانت على هذا الوجه.
قال: [وأخت ابنه] قوله: (وأخت ابنه) أي: من الرضاع، مثلا: زيد من الناس عنده زوجة، وأثناء ما هي عنده وولدت له وثاب اللبن من وطئه أرضعت محمدا، فمحمد ولد لك حيث رضع من لبن زوجتك، فهو ناشئ عن مائك الذي ثاب منه اللبن، فمحمد هذا لو كانت له أخت حل لك نكاحها؛ لأن الأخت بالنسبة لك أجنبية، والذي دخل للمحرمية هو محمد الذي ارتضع من زوجتك، فتبقى أخواته وإخوانه -على الأصل- أجانب يحل نكاحهم، سواء من الإناث أو الذكور، فيبقى التحريم للشخص الذي رضع، وهذا سنفصله إن شاء الله أكثر في كتاب الرضاع، وذكره المصنف هنا للاستثناء، وأن الأصل يقتضي أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، لكن استثنيت هاتان المسألتان لشهرتهما، وهذا على سبيل التنبيه، وإلا سيأتي إن شاء الله تفصيل مسائل الرضاع، وبيان مسألة لبن الفحل والآثار المترتبة على الرضاع.

بيان المحرمات بالمصاهرة وحكم كل نوع منها
قال رحمه الله: [ويحرم بالعقد زوجة أبيه وكل جد] قوله: (ويحرم بالعقد) هذا النوع الرابع من المحرمات، أولا: المحرمات بالنسب، وهن السبع اللاتي تقدمن، ثم بعد ذلك المحرمات بالملاعنة التي ذكرنا، ثم بعد ذلك النوع الثالث الرضاع وانتهينا منه.
ثم بعد ذلك سيشرع الآن في النوع الرابع وهو المصاهرة.
والمصاهرة: مفاعلة من الصهر، ويأتي هذا في الأصول والفروع من حيث الزوجية، فتأخذ أصلك وتأخذ فرعك، وتنظر إلى زوجة الأصل وزوجة الفرع حتى تضبط المحرمات من المصاهرة وهي أربع، ولابد أن تحفظهم؛ لأن هؤلاء النسوة محارم لك، والمحرمات من المصاهرة يحرمن إلى الأبد، وهن محارم.
وقلنا: المحارم ثلاثة: النسب، والرضاع، والمصاهرة، والواجب على كل مسلم بالغ أن يعلم هؤلاء المحارم حتى يعرف من هي المرأة التي يجوز له أن يختلي بها، والتي يجوز أن يصافحها، والتي يجوز أن يسافر معها، فبينا حكم النسب، وبينا أن الرضاع يأخذ حكم النسب، بقي المصاهرة وهو النوع الثالث من المحارم، وهو الرابع مما ذكره المصنف.
المصاهرة إذا أردت أن تضبطها أربع من النساء، والأربع تأخذ اثنتين منهن لأصلك ولفرعك، واحدة لأصلك وواحدة لفرعك، زوجة أصلك وزوجة فرعك، ثم اثنتين منهن أصل لزوجتك، وفرع زوجتك، وهما أم الزوجة، وبنت الزوجة، حتى تحفظ المصاهرة تأخذ هذا الضابط، فعندك أصولك وفروعك فانظر إلى نسائهم، زوجات الآباء وزوجات الأبناء، هذان نوعان من النسوة من جهة الأصول والفروع، وعندنا نوعان من النسوة من جهة الزوجة: أصلها وفرعها، فتقول: أم الزوجة وبنت الزوجة، فأصبحن أربعا.
نبدأ أولا بزوجات الأصول: هي كل أنثى عقد عليها والدك وإن علا، سواء دخل بها أو لم يدخل، سواء طلقها أو بقيت في عصمته أو مات عنها، فإنها محرم لك إلى الأبد.
زوجات الأصول: وهي كل أنثى عقد عليها أبوك أو أبوه وإن علا، وسواء كان من جهة الأب أو من جهة الأم كوالد الأم وأبيه، والدليل على هذا النوع الأول من أنواع المصاهرة قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء:22] معنى قوله: (إلا ما قد سلف) قيل: إن إلا بمعنى: ولا ما قد سلف، ومنه قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] أي: ولا خطأ كأن يتساهل ويتعاطى الأسباب.
ومنه قول الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان أي: والفرقدان.
وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (ثمن الكلب سحت إلا الكلب الضاري) أي: والكلب الضاري لا يحل شراؤه وبيعه.
الشاهد: أن قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء:22] أي: ولا ما قد سلف، فلا تستديموا نكاحهن وفارقوهن.
ما موضع الشاهد من هذه الآية؟ موضع الشاهد أن الله يقول: {ولا تنكحوا} [النساء:22] فحرم علينا أن ننكح ونتزوج ما نكح آباؤنا، وانظر إلى قوله: (ما نكح) والمرأة منكوحة للرجل بالعقد، فإنك تصف المرأة أنها منكوحة للإنسان بمجرد العقد عليها، ومن هنا قالوا: لا يشترط في تحريم زوجة الأب أن يدخل الأب بها، فلو أنه عقد عليها الساعة وطلقها مباشرة فهي محرم لك إلى الأبد، ومحرمة عليك إلى الأبد.
قوله: (ولا تنكحوا ما نكح) أي: ما عقد عليه آباؤكم سواء بقين أو طلقن أو مات الآباء عنهن وهن في عصمة إلى آخره.
فلو سألك سائل: عن امرأة عقد عليها جده لأبيه ثم توفي عنها، أو طلقها، أو لم يدخل بها وطلقها قبل الدخول؟ تقول: هذه محرم لك إلى الأبد، وعلى هذا قالوا: يشمل هذا الأب من جهة الذكور ومن جهة الإناث، أي: الذي يدلي بذكور ويدلي بإناث، فإن زوجته محرمة إلى الأبد.
قال رحمه الله: [وزوجة ابنه وإن نزل] قوله: (وزوجة ابنه) النوع الثاني من المحرمات من المصاهرة: زوجات الأبناء، زوجات الأبناء يأخذن نفس الحكم، بمجرد أن يعقد ولدك على امرأة يحل لك أن تقابلها، وأن تصافحها، وأن تختلي بها، وأن تسافر معها، سواء دخل بها أو لم يدخل، ما الدليل على ذلك؟ قوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23] ، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله حرم علينا حليلة الابن: {وحلائل أبنائكم} [النساء:23] ؛ لأن الآية الكريم صدرت بقوله جل ذكره وتقدست أسماؤه: {حرمت عليكم} [النساء:23] ، فالعقد يقول: وحرمت عليكم حلائل أبنائكم، فلما كان هذا أصل التقدير معناه: أنه إذا كانت المرأة حليلة لولدك فإنها بمجرد أن تصير حليلة فهي محرم لك.
حسنا! لو أن الابن طلقها بعد العقد مباشرة أو مات عنها بعد العقد مباشرة فهي محرمة عليك إلى الأبد، فالله تعالى يقول: {وحلائل أبنائكم} [النساء:23] ، قال العلماء: وصف الله هذا النوع من المحرمات بكونه حليلة، وبالإجماع: أن الولد لو عقد على امرأة صارت حليلة له ومحرما لوالده، أي: أن المرأة حليلة للرجل بمجرد أن يعقد عليها، وهذا بحكم الشرع، والشرع وصف حليلة الابن بكونها محرمة، إذا فالقاعدة: أن كل امرأة عقد عليها الابن فهي محرمة على والده إلى الأبد.
يشمل هذا ابنك المباشر وابن ابنك وابن بنتك وإن نزل، فلو سئلت عن ابن بنت ونحو ذلك تزوج امرأة وعقد عليها جاز لك بعد العقد مباشرة أن تدخل وتسلم عليها؛ لأنها أصبحت محرما لك بمجرد العقد عليها.
قوله: (وإن نزل) ابن ابن وابن بنت وإن نزل، تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث كما ذكرنا، والدليل عموم قوله تعالى: {وحلائل أبنائكم} [النساء:23] ، ولم يفرق بين ابن وآخر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف الحسن بأنه ابن له، مع أنه بواسطة أنثى، فدل على أن من تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث أنه ابنك ما دام أنه فرع لك.
قال: [دون بناتهن وأمهاتهن] قوله: (دون بناتهن وأمهاتهن) ، فمثلا: زوجة الأب لها بنت الذي هي ربيبة الأب، الوالد تزوج خديجة فخديجة بنتها محرم لوالدك؛ لأنها ربيبته، يجوز لك أن تتزوج ربيبة والدك، فهي حرام على والدك وحلال لك أنت، فتحريم المصاهرة يختص بمن ذكرنا.
قوله: (وأمهاتهن) ، مثل: أن يتزوج الابن خديجة بمجرد عقد الولد على خديجة تحرم عليه أمها؛ لقوله تعالى: {وأمهات نسائكم} [النساء:23] ، لكن هذه الأم تحل لأبيه، فيجوز لأبيه أن يتزوجها، مثلما ذكرنا في الربيبة التي هي بنت زوجة الإنسان فهي محرم له ويحرم عليه نكاحها، ويجوز لابنه أن يتزوجها، وكذلك زوجة الابن أمها محرم للابن وحرام عليه أن يتزوجها، لكن يجوز لوالده أن ينكحها.
فالتحريم قيده الله عز وجل بضابطه، فأنت إذا قلت: بنت زوجتي حرام علي وهي الربيبة، لكن ليست على الولد بحرام، فالابن يجوز له أن يتزوج الربيبة التي هي بنت زوجتك وهي حرام عليك، وكذلك أم زوجتك حرام عليك لكنها ليست بحرام على ابنك فيجوز له أن يتزوجها، والدليل على هذا قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء:24] ، فإن التحريم قصر على الابن إذا تزوج امرأة أن ينكح أمها، لكن لم يحرم على أبيه ذلك، وقصر على الأب إذا كان قد تزوج امرأة لها بنت أن ينكح بنتها، لكن لم يحرم على ابنه ذلك، فيجوز له أن ينكحها؛ لأنها ليست بربيبة له وإنما هي ربيبة لأبيه، وكذلك أم زوجة أبيه ليست بأم زوجته وإنما هي أم لزوجة أبيه، فالحكم واضح في هذا، تقصر التحريم على موضعه الذي ورد به وتبقي ما عدا ذلك على الأصل من الجواز، وإذا راجعت المسألة فهي واضحة إن شاء الله.
قال: [وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد] قوله: (وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد) ، هذا النوع الثالث أم الزوجة.
عندنا نوعان باقيان: أم الزوجة، وبنت الزوجة، وانظر إلى حكمة الله سبحانه وتعالى، وكمال لطفه، ودقة هذه الشريعة الإسلامية العظيمة، حينما جاءت تحرم أم زوجة الإنسان، الغالب أنه إذا عقد الرجل على امرأة فالبنت أجمل من أمها، وقل أن تجد رجلا يطلق بنتا ويتزوج أمها، فجعل الله تحريم أم الزوجة بمجرد العقد على ابنتها، ولأن البنت يصيبها من الغيرة الشديدة والأمر العظيم من الحقد على أمها لو أباح الشرع أنه لا يحرم التزوج بأمها إلا بعد الدخول بها، لكن جعل تحريم الأم بمجرد العقد على البنت، أما العكس إذا تزوج أما فإن البنت وهي الربيبة لا تحرم إلا بعد الدخول بأمها، وذلك لقوله تعالى: (( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن )) [النساء:23] ؛ فانظر كيف التوسعة! وفي الغالب أن الرجل لا يطلق امرأة ويتزوج أمها؛ لأن الغالب أن البنت أجمل من أمها وأكمل وأحظى عند الزوج، وهذا شيء جبلي فطري، والشريعة لا تعارض الغرائز والأشياء الطبيعية، إنما تريد أن تهذب وتقوم وتضع كل شيء في نصابه: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف:52] ، فحكم الله الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه! سبحانه ما أحكمه! وينبغي على طالب العلم إذا تعلم هذه الأحكام أن يزداد من العقيدة والإيمان، ما فائدة أن يعرف الإنسان الحكم ويقول: هذا حلال أو حرام فقط، هذا لا يكفي، بل ينبغي أن يصحبه اليقين، وأنه ليس هناك أكمل ولا أبدع ولا أجمل ولا أتقن من حكم الله سبحانه وتعالى قال سبحانه: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته} [الأنعام:115] وقال سبحانه: {والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} [الرعد:41] ، من هذا الذي يستطيع أن يستدرك على رب العزة والجلال، جل جلاله وتقدست أسماؤه؟!! لقد جعل الله تحريم الأم بمجرد العقد على البنت، لكن البنت التي هي أحظى وأجمل إنما جعل تحريمها بالدخول على أمها، فجعل الأمر على السعة.






ابوالوليد المسلم 14-05-2025 11:26 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (419)

صـــــ(1) إلى صــ(23)




شرح زاد المستقنع - باب المحرمات في النكاح [2]

إن المحرمات إلى أمد يحرم نكاحهن حتى يزول المانع، فإذا زال المانع فإنه يجوز نكاحهن.
والمحرمات إلى أمد أنواع: منها أخت معتدته، وأخت زوجته، وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما وغيرهن ممن يحرمن على التأقيت.
والحكمة من التحريم هو الإبقاء على المحبة بين هؤلاء، وعدم التقاطع والتباغض، وهذه حكمة عظيمة.

بيان المحرمات من النساء على التأقيت
قال رحمه الله: [فصل: وتحرم إلى أمد] .
قوله: (وتحرم إلى أمد) هذا النوع الثاني من المحرمات وهو التحريم إلى أمد.
فبعد أن بين رحمه الله المحرمات إلى الأبد شرع في بيان المحرمات إلى أمد، وهذا نوع من النسوة يحرمن مؤقتا، مثلا: عندنا المرأة المحرمة لا يجوز لك أن تتزوجها حتى تحل من إحرامها، وكذلك المرأة الزانية لا يجوز نكاحها حتى تتوب وتستبرئ من زناها، كذلك المرأة الكافرة لا يجوز نكاحها إلا ما استثناه الشرع من الكتابيات على التفصيل الذي سنذكره، لكن إذا أسلمت يجوز، إذا معنى ذلك أن هؤلاء النسوة تحريمهن من جهة العوارض والأسباب، ويزول التحريم بزوال سببه.

من المحرمات إلى أمد أخت الزوجة
قال رحمه الله: [أخت معتدته] .
قوله: (أخت معتدته) ، أي: أخت الزوجة، وهي محرمة عليك سواء كانت الزوجة في عصمتك أو كانت في حال العدة، فهو قال: (أخت معتدته) حتى يعلم أنها إذا كانت باقية في عصمته فهي محرمة من باب أولى وأحرى، وهذا النوع من النساء يدخل تحت مانع الجمع.
فالموانع عدة وهي: مانع النسب، ومانع المصاهرة، ومانع الرضاع، ومانع اللعان، هذه أربعة موانع تقدمت، ثم نشرع الآن في مانع الجمع، وهو الجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، هذا بالنسبة لمانع الجمع.
فابتدأ بالأخت وعادة العلماء يقولون: تحرم أخت الزوجة ما دامت الزوجة في العصمة أو كانت في عدتها، فإذا طلقت وخرجت من عدتها حلت أختها.
دليل هذا النوع من التحريم قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء:23] ، (إلا ما قد سلف) أي: ولا ما قد سلف -كما ذكرنا-، فينبغي فراقهن، فيكون على العطف تشبيك الحكم، ومن حكمة الله عز وجل أنه حرم على الرجل أن يتزوج أخت زوجته في حال بقاء أختها في عصمته؛ لما في ذلك من قطع الأرحام، وظهور الحقد بين الأخوات، وقد جاء في الحديث الآخر في الرواية: (إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) ، فهذا يدل على أن العلة خوف قطيعة الرحم، ومن هنا يقول العلماء: إن التحريم هنا درء لمفسدة قطيعة الرحم، وأجمع العلماء على عدم جواز الجمع بين المرأة وأختها.
لكن هذا النوع من الموانع الذي هو مانع الجمع لا يوجب المحرمية كما ذكرنا، ويخطئ بعض الناس عندما يجلس مع أخت زوجته، فإذا قيل له: لماذا؟ يقول: هذه محرمة فهي كالأم والبنت، وهذا خطأ، فإنها محرمة إلى أمد، والمحرمة إلى أمد لا تأخذ حكم المحرمة إلى الأبد.
والأخت تشمل أخت الزوجة الشقيقة، وأخت الزوجة لأب، وأخت الزوجة لأم، فالحكم هنا عام، وألحقت بها الأخت من الرضاعة، فإنه لا يجمع بين المرأة وبين أختها من الرضاعة.
وعليه فلا يجمع بين المرأة وبين أختها من النسب، ولا أختها من الرضاعة.
قال: [وأخت زوجته] قوله: (وأخت زوجته) أخت معتدته، هي أخت زوجته، يعني: كأنه يقول: إن أخت الزوجة محرمة إلى أن تطلق وتخرج من عدة الطلاق، لكن ما دامت في عدة الطلاق لا، ومن هنا يلغزون ويقولون: رجل يعتد، وهو الذي يريد الزواج من أخت الزوجة، ومن كان عنده أربع نسوة وأراد أن يتزوج بامرأة خامسة لا يحل، فنقول له: فارق واحدة وتزوج الخامسة، فإذا طلق الواحدة لا يحل له أن يعقد على الخامسة حتى تخرج هذه من عدتها؛ لأنه لو أبحنا له أن ينكح الخامسة قبل أن تخرج الرابعة من عدته ومات، يكون قد مات وفي عصمته خمس من النسوة بحكم الشريعة؛ لأن المرأة في العدة آخذة حكم المرأة، ولذلك قالوا: إنه لابد من خروجه من العدة في قول جماهير السلف رحمة الله عليهم، وقضى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وعليه قالوا: لو ألغز يقال: رجل يعتد، بينما الأصل أن العدة تكون للمرأة، يقولون: هو الرجل الذي يريد الخامسة، فإنه إذا طلق الرابعة يعتد، يعني: لا يتزوج حتى تخرج الرابعة من عدتها، وهكذا لو طلق الزوجة وأراد أن ينكح أختها فإنه ينتظر إلى خروجها من العدة، لكن لو أن أختها ماتت، جاز له مباشرة أن ينكح أختها، في هذه الحالة ليست هناك عدة، فبمجرد موتها يحل له نكاح أختها.
حكم الجمع بين المرأة وبنت أختها أو عمتها أو خالتها
قال رحمه الله: [وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما] .
قوله: (وبنتاهما) فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنت أختها؛ لأنه جمع بين المرأة وخالتها، ومعلوم أنه لا يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
قوله: (وعمتاهما وخالتاهما) لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها) ، ومن هنا يعتبر العلماء: أن السنة تزيد على القرآن في الحكم، وهذا خلاف لبعض أصحاب الرأي الذين يقولون: إن السنة لا تزيد على القرآن، فهنا زاد التحريم الجمع بين المرأة وعمتها، فإن ظاهر القرآن يبيح؛ لأن الله يقول: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء:23] ، والله تعالى حرم المحرمات ثم قال بعد ذلك: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24] ، فالأصل يقتضي أن التحريم يختص بالجمع بين الأختين، مفهوم ذلك: أن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها جائز بحكم القرآن؛ لكن جاء النص من السنة بالزيادة، وهذا مما يذكره العلماء: أن السنة تزيد على القرآن، بخلاف من يقول: إن السنة مفسرة مقيدة لمطلق القرآن، مخصصة للعموم إلى آخره، وهذا ليس على كل حال، بل السنة تزيد على القرآن، وتأتي بأحكام زائدة على القرآن، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا ألفين أحدكم جالسا على أريكته شبعان ريان يبلغه الحديث عني فيقول: ما وجدت هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه) ، ولقد صدق بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكم من جالس على أريكته أشر بطر كفر نعمة الله عز وجل، ورد سنة النبي صلى الله عليه وسلم مدعيا أنه لا يجد ذلك في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم غنية عنه وعن أمثاله.
جواز التزوج ببنت أخت المرأة وعمتها وخالتها بعد انتهاء عدتها
قال رحمه الله: [فإن طلقت وفرغت العدة أبحن] .
قوله: (فإن طلقت وانتهت العدة) هذان شرطان.
إذا: لابد من الأمرين: الطلاق، وانتهاء العدة، لكن لو ماتت فإنها تحل.
قال: [وإن تزوجهما في عقد أو عقدين معا بطلا] يا إخوان! الحقيقة أن متون الفقه ومتون العلم ألفها علماء أجلاء، ومن الخطأ أن يظن الظان أن أهل العلم المعروفين بالورع والصلاح يأتون بشيء من عندهم، فالبعض يقول: هذه آراء واجتهادات، العلماء عندما يأتون بهذه المسائل الغريبة فهي منبنية على الأصول، ولو تأملت الآن المتون الفقهية وأمعنت النظر فيها، وركزت في الأدلة المستنبطة منها هذه الأحكام، لوجدت أنها لا تخرج عن أصل صحيح شرعي، لكن تختلف الأنظار هل هذا الأصل أولى أو ذاك؟ فهم الآن حينما يتكلمون على مانع الجمع، فإن القرآن فيه نهي عن الجمع، لكن قد يرد
السؤال لو أن رجلا جمع بين أختين -والعياذ بالله- معا، وهذا الرجل جاهل بحكم الشريعة، كأن يكون أسلم حديثا، ثم جاء وتزوج أختين مع بعض، وقيل له: هذا لا يحل، فما الحكم: هل نلغي النكاحين؟ أم نبقي النكاحين؟ أم نلغي أحدهما ونبقي الآخر؟ هذا فيه تفصيل: إن كانت إحداهما سابقة للأخرى بطل نكاح الأخيرة، وبقي نكاح الأولى على ما هو عليه؛ لأن الإخلال جاء من إدخال عقد الثانية على الأولى، فالأصل في عقد الأولى أنه صحيح وأصله مستصحب، ونلغي الثاني فكان وجود العقد وعدمه سواء، فنقول له: فارق الأخت الثانية، ويلزمك مفارقتها ويبقى عقد الأولى على ما هو عليه.
لكن لو تزوجهما معا، دخل بهما معا وعقد بهما معا، فما الحكم؟ نقول: بطل نكاحهما معا؛ لأنه مبني على أصل فاسد، لا يصح النكاح على هذا الوجه، إذا لم تسبق إحداهما الأخرى وعقد عليهما معا، يقع صورة هذه المسألة: ككفار أسلموا وهم حديثو عهد بالإسلام فقال أحدهما للآخر: يا فلان! زوجتك أختين لي، قال: قبلت، فقد وقع العقد على الاثنتين، نعم تزوج أختين مع بعض، فحينئذ جمع بين الأختين في عقد واحد، فيلغى عقد الأولى والثانية.
قال: [فإن تأخر أحدهما أو وقع في عدة الأخرى وهي بائن أو رجعية بطل] قوله: (فإن تأخر أحدهما) ما رأيكم تأخرت إحداهما، أو تأخر أحدهما؟ تأخر أحدهما بالتذكير التفاتا للعقد، أي: فإن تأخر عقد إحداهما عن عقد الأخرى بطل نكاح الثانية دون نكاح الأولى كما ذكرنا، وهكذا لو وقع في عدتها فإنه يبطل نكاح الثانية، يستوي أن يقع في عدتها أو يقع في حال العصمة كما ذكرنا.

من المحرمات إلى أمد المحصنة والمعتدة
قال رحمه الله: [وتحرم المعتدة والمحصنة] .
قوله: (وتحرم المعتدة) قال تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة:235] ، فالمرأة المعتدة من طلاق تنتظر حتى تتم عدتها، وبعد ذلك تحل للأزواج، فلا يجوز أن ينكحها في حال عدتها، وقد حرم الله عز وجل المرأة المحصنة والمعتدة، وهذا مانع جديد غير المانع السابق.
قوله: (والمحصنة) هذا مانع الزوجية.
وضابط الزوجية: أن تكون المرأة في عصمة الغير، والدليل على ذلك في قوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24] عطف المحصنات من النساء على قوله: (حرمت) ، أي: حرمت عليكم المحصنات من النساء، والمحصنة: هي المرأة المزوجة؛ لأن الإحصان يطلق على الزواج، فيقال: أحصن الرجل إذا تزوج: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء:25] ، فهنا الإحصان الأول بمعنى الزواج، ويطلق الإحصان بمعنى العفة: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل ومنه قوله تعالى: {محصنات غير مسافحات} [النساء:25] يعني: عفيفات غير زانيات، قوله: (مسافحات) يعني: زانيات، والسفاح هو الزنا، {ولا متخذات أخدان} [النساء:25] يعني: متخذات أصدقاء مثلما يقع عند أهل البغي والفجور.
فالمقصود: أن المرأة المحصنة في قوله تعالى: {والمحصنات} [النساء:24] من المحرمات إلى أمد، وهي: كل امرأة في عصمة الغير، فلا يجوز للرجل أن يتزوج منكوحة غيره، وإذا تزوج منكوحة غيره فهو زان، هذا إذا كان يعلم أنها منكوحة لغيره، ويعلم بالتحريم، فحكم هذا أن يرجم إن كان محصنا.
والمرأة التي هي الزوجة إن رضيت به، أو كذبت وقالت: ما لي زوج ولها زوج، وتزوجت بزوج ثان عالمة بالحكم فهي زانية وترجم بزناها، هذا إذا ثبت عند القاضي أنها فعلت ذلك توصلا إلى وطئه، ويكون حينئذ طلبا للزنا؛ لأن العقد باطل، فكأنها تبيح له ما حرم الله عز وجل دون إذن شرعي فهو زنا.
فالمقصود: أن المرأة المحصنة لا يحل نكاحها، ودليل ذلك قوله تعالى: {والمحصنات} [النساء:24] ، ويتبع ذلك المعتدة، فالشريعة حكمت بأن المعتدات في حكم الزوجات، وفائدة العدة أن يقوم الزوج بردها؛ وذلك لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} [البقرة:228] فجعل المرأة المعتدة تابعة لبعلها، فقال: (وبعولتهن) وهذا يدل على أنها لا تنكح، ولا يجوز للغير أن يدخل على زوجة الأول إلا بعد خروجها من العدة.

عدم جواز وطء المسبية إلا بعد استبرائها
قال رحمه الله: [والمستبرأة من غيره] .
قوله: (والمستبرأة من غيره) المستبرأة من البراءة، وهي: التي تطلب براءة الرحم، مستبرأة من غيره مثلما يقع في الإماء، يقول الله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24] لا يحل للمسلم أن يطأ أو يتزوج امرأة مزوجة بغيره، إلا في حالة واحدة وهي: أن تكون كافرة، وتؤخذ أسيرة، وكانت زوجة لكافر قبل أن تسبى وتسترق، فإذا أخذت بالسبي يلغى نكاح الكفار، ويصير لها بحكم السبي حكم جديد، ولذلك قال الله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24] ، فالسبي والنساء المسترقات في السبي يجوز وطؤهن، ولو كن زوجات للكفار قبل القتال وقبل الجهاد، فبالجهاد نشأ حكم جديد، فألغي زواجهن الأول وأصبحن ملكا؛ لأنه لو لم يكن هذا لما وقع شيء اسمه ملك يمين، فقال الله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24] فاستثنى الله عز وجل الوطء بملك اليمين للمحصنة، لكنها تستبرأ فلا يجوز وطؤها قبل الاستبراء؛ لأنه إذا وطأها ولم يستبرئها فإنه يدخل ماءه على ماء الكافر قبله، وهكذا لو كانت المرأة منكوحة لغيره ووقع الوطء شبهة، لا بد أن يستبرئها إذا كانت موطوءة من غيره، وسنتكلم إن شاء الله على العدد وأحكام الاستبراء في بابها إن شاء الله، والدليل على أن المستبرأة لا توطأ حديث سبي أوطاس، وذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يريد أن يلم بالمسبية، يعني: يطأها، هذه المرأة المسبية كانت فراشا للذي قبل، وفيها حمل بين، والمفروض أنه ينتظر حتى تضع حملها، وحينئذ يستبرئ الرحم، ويصبح خلوا له، فيطأ بملك اليمين، لكن ما يجوز أن يأتي بمسبية حامل ويطأها؛ لأن هذا يدخل ماءه على ماء غيره، فقال صلى الله عليه وسلم -لما رآه على باب الخيمة وهو يلم بها-: (أيلم بها، أيغذوه في سمعه وبصره -يعني: لو وطأها وهي حامل لانتشى ولد غيره بمائه- لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) ، وفي هذا يقول بعض العلماء: إن هذا يدل على عظم أمر الزنا؛ لأنه إذا زنى وأدخل على أهله ولدا ليس منهم، وأغذاه في سمعه وبصره -والعياذ بالله- وأدخل من يطعم من طعام قوم لا يحل له أن يطعم، ويشرب من شراب قوم لا يحل له أن يشرب، وأن ينظر إلى نسائهم وهم ليسوا بمحارم، فكل هذا من الآثار المترتبة على اختلاط الماء، ولذلك قال: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) ، فهذا يدل على أنه لا يجوز الوطء للمرأة التي علق ماؤها من الغير، وكذلك لا يجوز وطء معتدة غيره وامرأة غيره بعد فراقهما إلا بعد استبرائهما.

من المحرمات إلى أمد الزانية
قال رحمه الله: [والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها] .
ولا يجوز نكاح الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، هذان شرطان: الشرط الأول: يتعلق بصلاحها واستقامتها وتوبتها من الزنا.
والشرط الثاني: يتعلق بطهارة فرجها ورحمها، فأما بالنسبة للدليل على تحريم نكاح الزانية فقوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور:3] قيل: إن هذه الآية نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه وقد أراد أن ينكح عناقا، ونكاح الرجل للمرأة الزانية يدخل الضرر على أولاده وذريته ونسله، وتختلط الأنساب، ولا يأمن منها أن تدنس فراشه، وتلوث نسبه والعياذ بالله! فتدخل عليه من الشر والبلاء، وتدخل على جماعته وجيرانه من السوء ما الله به عليم، فإن المرأة الزانية مشئومة وفيها من الشؤم والبلاء ما قد يكون سببا في الضرر على غيرها، فكم أفسدت وأهلكت من بيوت وأسر، ودمرت من أناس بسبب ما يكون منها من الزنا نسأل الله السلامة والعافية! فالزانية شر عظيم، ولذلك حرم الله نكاح الزانيات، فقال تعالى: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} [النور:3] ، وعلى الصحيح من قولي العلماء: أن الزنا يمنع النكاح، فيحرم على المسلم أن ينكح الزانية، وهذا مانع آخر، فقد ذكرنا قبلا مانع الجمع، ومانع الزوجية، ومانع العدة، والعدة في حكم الزوجية، وذكرنا بعد ذلك الاستبراء، ثم هانحن نذكر مانع الزنا، هذا المانع الرابع من موانع المحرمات إلى أمد، وتستطيع أن تجعل المستبرأة في حكم ذات الزوج؛ لأنها تابعة لماء الأول، وتجعل هذا مانعا ثالثا مؤقتا، وهو مانع الزنا، والصحيح من أقوال العلماء: أن الزنا يمنع من النكاح ويحرم.
وعليه فلا يجوز أن ينكح المسلم الزانية إلا بشرطين: الشرط الأول: أن تتوب، وتوبتها تكون بما يظهر من صلاح حالها واستقامتها وبعدها عن الحرام.
وقال بعض العلماء: لا توبة لها إلا إذا اختبرت وظهرت براءتها، وقالوا: اختبارها أن تراود على الزنا فلا تعود، وهذا شرط صعب، فإن المرأة قد تتوب توبة نصوحا، ولكنها إذا ذكرت بماضيها ربما ضعفت، ولذلك أمر التوبة في هذا من الصعوبة بمكان؛ لكن ظواهر الحال والقرائن الظاهرة إن شاء الله كافية.
بعض العلماء يعتبرون بصلاح الحال أغلب الحول، أي: أنه إذا مضى عليها أغلب الحول وهي مستقيمة طائعة نادمة على ما فات، وظهر من أحوالها التوبة صح منها ذلك، مثال ذلك: أنها كانت تخرج فصارت تقر في بيتها، وكانت تتصل بالناس فقطعت صلتها بالناس، فظهرت أمارات ودلائل وآثار تدل على صدق توبتها، حينها نحكم بتوبتها، فإذا حكمنا بتوبتها وظهر ما يدل على صلاحها واستقامتها، فإنه يستبرئ ما يكون منها، فلا يجوز له أن يطأها قبل أن تستبرئ من وطء الزنا؛ لأن هذا يوجب خلط الأنساب.
لكن لو كان الذي زنى -والعياذ بالله- يريد كما يقولون: أن يستر الزانية، فيتزوجها بعد أن خدع المرأة وأصابها فوجدها بكرا فيطمع فيها.
فمذهب طائفة من السلف: أنه يجوز له أن يتزوجها ويسترها.
وقال بعض الصحابة: أوله حرام وآخره حلال، وأوله سفاح وآخره نكاح، فخففوا في ذلك، وقال به بعض الأئمة.
وذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله، وهو الأقوى والصحيح: أنه لا يجوز له أن يعقد عليها حتى تتوب توبة نصوحا، وتستبرئ من الحرام، حيث لا يجوز إدخال الحلال على الحرام، والسنة قاضية على أنه يجب التفريق بين الحلال والحرام، وذلك في حديث وطء المسبية فإنه يدل على أنه لا يجوز، وكما هو معلوم فإن عندنا نصا يدل على أن ماء الزنا حرام، وليس للرجل فيه حق: (الولد للفراش) ، فكيف نقول: يتزوجها من أجل أن يسترها، فحينئذ إن سترها ضيع حق الولد فإنه يدخل ولدا على ذريته ليس منهم؛ ولذلك نص عليه الصلاة والسلام بقوله: (الولد للفراش) ، فهذا يدل دلالة واضحة على أن هذا الولد ليس من حقه، فهو يتذرع بأن هذا الولد ولده، ويريد أن يبقيها في عصمته من أجل هذا الولد، والواقع أنه ليس بولده، وهذا الولد لابد وأن يأخذ حكمه الشرعي في كونه ولد سفاح، فإذا جاء يقول: أنا أسترها، إنما سترها بمحرم، وأدخل السفاح على النكاح، فأدخل ولدا ينسب إليه، ويقارن بأبنائه وبناته، يشاركهم ويزاحمهم في الإرث هو وذريته وذرية ذريته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن بقي نسله، وكل ذلك مما ليس له أصل شرعي.
صحيح أن ستر المرأة مشروع، وأن الزاني يستر غيره ويستر نفسه فهذا لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه ماعز قال له: (ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) لكن أن يدخل الحلال على الحرام فلا؛ لأنه سيضر بحقوق الورثة، وهذا الولد ليس له حق؛ لأن هذا الماء الذي وطئ وأنجب منه، واغتذى به الفرج، وحصل منه الإنجاب، ماء لا حرمة له، فهو بهذا الستر يدخل الحرمة، وبالإجماع على أنه يشرع الستر ما لم يتضمن إضرارا بالغير، وفواتا لحقه، لو أن الرجل توفي وليس له ولد إلا هذا الولد الذي من الزنا، وفرضنا أنه طلق أم هذا الولد وتزوج زوجة ثانية وليس له إلا هذا الولد الذي من الزنا والعياذ بالله! ففي هذه الحالة تنتقل المرأة من إرثها من الربع إلى إرثها من الثمن، بسبب ولد الزنا؛ لأن هذا الولد يحجبها، ثم إن العصبة الذين هم قرابته أحق بميراثه، فيأتي ابن الزنا -والعياذ بالله- ويأخذ الميراث منهم تعصيبا.
فالمسألة ليست مسألة عاطفة، المسألة مسألة أحكام، ولذلك فإن قول من قال: لا يدخل الحرام على الحلال ولا يدخل الحلال على الحرام أقوى، والأصول شاهدة له، والسنة دالة عليه.
والذي تطمئن إليه النفس أنه لا يصح هذا، وهو اختيار جمع من العلماء وطائفة من مشايخنا رحمة الله عليهم، وهو أولى بالصواب إن شاء الله تعالى؛ لدلالة النصوص والأصول الشرعية عليه.

من المحرمات إلى أمد المطلقة ثلاثا
قال رحمه الله: [ومطلقته ثلاثا حتى يطأها زوج غيره] قوله: (ومطلقته ثلاثا) إذا احتسبنا المستبرأة داخلة تحت المعتدة، فالنوع الرابع مطلقته ثلاثا لقوله تعالى: {فإن طلقها -أي: الطلقة الثالثة- فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة:230] فهذا نص على أن المرأة المطلقة ثلاثا لا تحل حتى تنكح زوجا غيره، وجاءت السنة بزيادة شرط فإن ظاهر القرآن: {حتى تنكح} [البقرة:230] ظاهره العقد، وأنه إذا عقد عليها زوج حلت للأول الذي طلقها ثلاثا إن طلقها الثاني أو بانت منه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث امرأة رفاعة بن رافع القرظي رضي الله عن الجميع حينما بانت من رفاعة وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت، وقالت حينما نكحت عبد الرحمن بن الزبير: (إنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ فقال: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ، فهي لما طلقها رفاعة الطلقة الثالثة بانت منه، وبت طلاقها وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير فأرادت أن ترجع إلى رفاعة، وقيل: أن ما اتهمت به عبد الرحمن بن الزبير ليس بصحيح؛ لأنها لما جاءت تشتكي ابن الزبير كان معه ولد، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أهذا ولدك؟ قال: نعم) فعلم كذبها، وأنها تريد أن ترجع إلى الأول، ففطن صلى الله عليه وسلم لذلك، وعلى هذا ينبغي على القاضي والمفتي أن يكون ذا فطنة وذا علم وبصيرة، وأن ينتبه إلى ما يدعيه المدعي، وأن تكون عنده من الفراسة ما يمكنه من معرفة الكلام الذي يقال، والدعوة التي تذكر من الخصمين.
الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها إلى رفاعة إلا بعد أن يذوق الثاني العسيلة، وهذا مكنى به عن الجماع، ولذلك أجمع العلماء على أنها لا تحل للأول إلا بعد وطء الثاني لها، ويكون ذلك بإيلاج الحشفة أو قدرها إن كانت مقطوعة، وحصول الإيلاج في الفرج أمر شرعي معتبر، ثم إن أراد أن يطلقها بعد ذلك فإنه جائز؛ لكن بشرط ألا يكون نكاح محلل، فإذا وقع ذلك وطلقت ورجعت إلى الأول حلت له، وسيأتي إن شاء الله بيانه في مسائل الطلاق، هل تحل له بثلاث طلقات جديدة، أو تحل له بطلقة واحدة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، هذا مانع التطليق ثلاثا، وهو من الموانع المؤقتة، لأنها إذا نكحت زوجا غيره مطلقها حلت للذي قبل.
من المحرمات إلى أمد المحرمة
قال رحمه الله: [والمحرمة حتى تحل] .
مانع الإحرام مانع مؤقت، وقد بينا مانع الإحرام في كتاب المناسك، وبينا أن الصحيح من مذهب الجمهور: أن المحرم لا ينكح ولا ينكح ولا يخطب، وبينا صريح السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل على رجحان هذا القول، وأجبنا عن أجوبة المخالفين، وأنه لا يحل نكاح المرأة المحرمة حتى تتحلل من إحرامها، ولا يجوز للرجل المحرم أن ينكح، ولو كانت المنكوحة حلالا فلا يجوز نكاح المحرمين، ولا نكاح محرمة من حلال، ولا نكاح حلال من امرأة محرمة، ولا محرم من امرأة حلال، لا يجوز هذا سواء كان الاثنان محرمين، أو كان أحدهما محرما، والآخر حلالا، فلا يجوز النكاح على هذا الوجه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ينكح المحرم -إذا كان زوجا رجلا- ولا ينكح -إذا كان امرأة-) ، فجمع بين الاثنين، ودل على تحريم النكاح بالإحرام.

حكم تزويج الكافر بمسلمة
قال رحمه الله: [ولا ينكح كافر مسلمة] .
هذا مانع الكفر (لا ينكح كافر مسلمة) ؛ لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} [البقرة:221] ، فحرم الله عز وجل على الكافر أن ينكح المسلمة، وأباح للمسلم أن ينكح الكتابية مع أنها كافرة؛ وذلك لأن سلطان الرجل أقوى من سلطان المرأة، ولو أن الكافر تزوج المسلمة لأغواها، فإن المرأة أضعف من الرجل، وتسلط الرجل عليها أقوى، فجعل حق القوامة والعلو للإسلام لا للكفر، ولذلك لا يحل أن يكون الزوج كافرا، وقال تعالى: {فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة:10] إذا آمن الكافرات وهاجرن وثبت إيمانهن فلا يجوز أن نقوم بإرجاعهن إلى الكفار؛ لقوله: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} [الممتحنة:10] فنص الله عز وجل على أنها حرام على الكافر في استدامة العقد، فمن باب أولى في إنشاء العقود، يعني: يستوي في ذلك أن تسلم فنمنعها من زوجها الكافر، أو يكون كافرا يريد أن يتزوج مسلمة، فلا يجوز للكافر أن يطأ المسلمة بالنكاح لا ابتداء بعقد نكاح ولا استدامة، فبمجرد إسلامها يفرق بينه وبينها.
حرمة تزوج المسلم بالكافرة باستثناء الكتابية
قال رحمه الله: [ولا مسلم ولو عبدا كافرة إلا حرة كتابية] .
لا يجوز للمسلم أن يتزوج الكافرة؛ وهذا من الولاء والبراء الذي يقوم عليه دين الإسلام، فلا يجوز للمسلم أن يوالي أعداء الله عز وجل، والنكاح بطبيعة الحال مداخلة، وفيه من الود والمحبة ما قد يؤثر على الدين، وفتنة الدنيا قد تعمي البصيرة والعياذ بالله، ولذلك قطع الله عز وجل الروابط بين المسلمين والكافرين، وقدم حق الإسلام وحق طهارة العقيدة وسلامتها من المؤثرات والدواخل على شهوات النفوس؛ لأن البديل موجود، وفي الإسلام غناء عن الكفر، فلا يجوز للمسلم أن يتزوج الكافرة، فالكافرة شر وبلاء، وإن كان رجلا قويا قادرا على كفها ومنعها من التسلط عليه إذا أرادت أن تغويه، فإنه لا يستطيع أن يمنع سلطانها على أولاده، فإن الأم لها قوة ونفوذ على الأولاد، ولذلك أصبح لهذا الأمر خطران: خطر على الزوج، وخطر على الأولاد.
أضف إلى ذلك: أنه ما من رجل مسلم ينكح امرأة كافرة إلا وسيدخلها على قومه وجماعته وبيئته، فربما أغوت وأضلت كما ضلت، فكانت غاوية مغوية لغيرها فتفسد بيئة المسلمين، ولو أن كل مسلم ذهب وأتي بكافرة فتن بجمالها، ثم أتى بها إلى بلاد المسلمين فإن هذا يدمر الإسلام، ويحدث فجوة عظيمة داخل البيوت وداخل الأسر، وأعظم ما تقوم عليه الأمم والمجتمعات الأسرة، وهو الكيان الذي منه ينطلق صلاح المجتمع، فلابد أن تكون قائمة على تقوى الله عز وجل، وتؤسس على تقوى من الله ورضوان، وتؤسس على صلاح الدين والإيمان بالله عز وجل.
فلا يجوز نكاح الكافرة: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة:10] فحرم الله عز وجل الإمساك بعصم الكوافر، وحرم نكاح المشركات: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة:221] فحرم نكاح الكافرات، لكن استثني الكتابية؛ لأن الكتابية لها دين سماوي، وألفت التعبد بذلك الدين السماوي، فهناك مدخل أن يؤثر عليها للإسلام، فيتزوجها وفي نيته أن يصلحها، ويقدم حق الله عز وجل على حق نفسه، ففي هذه الحالة الزواج من الكتابية على مطمع إسلامها مباح في أصل الشرع، وجماهير السلف رحمهم الله والخلف والأئمة والفتوى على جواز نكاح الكتابية؛ لأن الله يقول: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة:5] ، فنصه سبحا











ابوالوليد المسلم 14-05-2025 11:31 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




فنصه سبحانه وتعالى على حل المحصنات من أهل الكتاب، ويستوي في ذلك اليهود والنصارى.
وعند العلماء تفصيل: بعض العلماء يقول: يشترط أن تكون كتابية الأبوين، يعني: والدها كتابي وكذلك أمها كتابية، فإن كانت من أحدهما لم يصح، وظاهر القرآن أن العبرة بها؛ وذلك لقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} [المائدة:5] ، فإن كانت هي تدين بدين أهل الكتاب حل نكاحها على نص القرآن وظاهره، وهذه التفصيلات فيها محل اجتهاد ولا تخلو من نظر.
لكن مسألة الزواج من الكتابيات أمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والعصور والدهور، فلا يفتح باب النكاح من الكتابيات، ففي زماننا من المجرب والمعروف أنه شر عظيم وبلاء عظيم، وقوة نفوذ أهل الكتاب خاصة في العصور المتأخرة، فإن المرأة الكتابية قد تتزوج المسلم ثم بعد ذلك تأخذ أولادها منه بالقوة وتنتزعهم منه شاء أو أبى، وتستطيع أن تستغل نفوذا أوسع من نفوذها، ولذلك لابد من فقه الفتوى في الزمان، والنظر إلى ما يجر على المسلمين ومجتمعات المسلمين من فتح هذا الباب من الشر العظيم والبلاء الوخيم، إضافة إلى ما يعرف منهن من أن بعضهن لا يعرفن إلا التهتك، يعني: ليس عندهن إلا الاسم فقط من كونهن كتابيات، والتهتك والعهر والفساد -والعياذ بالله- منتشر بينهن، أضف إلى ما عرف منهن من الكيد للإسلام والخديعة للمسلمين، والتظاهر بمحبة الإسلام من أجل أذية المسلمين، ولذلك لابد من وضع هذه الأمور كلها في الحسبان، فلا نأتي ونقول مثلا: الله أحل لنا نساء أهل الكتاب، بل أحل لك أن تنكح المرأة المسلمة؛ لكن إذا أردت أن تتزوج امرأة مسلمة ولكنها شريرة، وتؤذي جيرانها، وتؤذي أهلك، ولربما كانت نمامة تنقل الحديث، هل يحل لك أن تدخلها على بيئتك ومجتمعك، أم تقف أمام حدود الله ونصوص الشرع من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتتقي الله في جيرانك وأهلك وأمتك ومجتمعك؟ كذلك أيضا أهل الكتاب في زماننا، فإننا وإن وجدنا النص يحل نكاح النساء منهم، ونظرنا إلى الواقع والحقيقة وما يجر ذلك من تبعات وأضرار، فإننا نعطي كل زمان حقه وقدره، فنقول: من أراد أن يأخذ بهذا الحلال، ينبغي أن يضع في حسبانه جميع الآثار والسلبيات والنتائج المترتبة على مثل هذا، والله عز وجل بمنه ورحمته قد أغنى المسلمين عن أمثال هؤلاء، وإنما يقع هذا خاصة في القديم حينما كان أهل الكتاب أهل ذمة وتحت المسلمين، وكانوا يتأثرون بالمسلمين، فالمرأة كانت تحب الإسلام، وهذا كان يقع في المجتمعات التي كان فيها أهل ذمة، ولكن بحكم بيئتها لا تستطيع أن تسلم، فإذا انتزعها المسلم من تلك البيئة وجاء بها أسلمت، ووقع هذا في عصور حينما كانت العزة للإسلام وأهله، ولا زالت والحمد لله العزة للإسلام وأهله، ولكن هناك أمور لابد من وضعها في الحسبان، ولا ينبغي أن نفتح الباب هكذا.
هناك بعض الباحثين كتب في هذه المسألة ورغب وبين أنه حق، وبعض المحاضرين أتى بمحاضرة في نكاح الكتابيات وأنه أمر جائز، دون التفات إلى السلبيات والآثار التي ينبغي وضعها في الحسبان، فالشيء يكون حلالا، لكنه في زمان يحتاج إلى نظر وتأمل، لا نقول: إننا نحرمه، ولكن نقول: من أراد أن يقدم على هذا الشيء، فعليه أن ينظر إلى الآثار السيئة الموجودة المترتبة على هذا الشيء، ثم يقارن: هل يستطيع أن يلقى الله سبحانه وتعالى وقد دفع عن الأمة وعن نفسه وعن ذريته وأهله وولده هذه كلها، أم أنه مستعد لأن يلقى الله سبحانه وتعالى بتبعة ذلك وسيئاته وآثامه؟
حكم تزوج الحر المسلم بأمة مسلمة
قال رحمه الله: [ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة إلا أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة أو الخدمة ويعجز عن طول حرة أو ثمن أمة] قوله: (ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة) هذا المانع يسمى: بمانع الرق، تعرفون أن الرق في الإسلام لا يختص بجنس ولا بلون ولا بطائفة ولا بطبقة، إنما هو لمن كفر، فإذا كفر وحاد الله ورسوله وشاق الله ورسوله، ووقع الجهاد الشرعي بالصفة الشرعية، وأذن الإمام في الرق، حينئذ كانت منقصة من جهة الكفر، فالحر المسلم إذا تزوج مثل هذا النوع الذي في أصله على الكفر فإن هذا يضر بولده ويضر بذريته؛ لأن الولد يتبع أمه رقا وحرية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) ، وهذا من حق الولد على والده.
فالحر المسلم لا ينكح الأمة إلا بشرطين، وهذان الشرطان لا بد من تحققهما للحكم بالجواز وقد جمعتهما آية النساء: الشرط الأول: أن لا يستطيع طول الحرة، يعني: ليس عنده مال ولا قدرة على الزواج من حرة، فلو كان أقل زواج الحرة يكلف مثلا خمسة آلاف، وليس عنده خمسة آلاف، والنص على اشتراط العجز في قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات} [النساء:25] .
الشرط الثاني: أن يخشى على نفسه الزنا، والنص على الشرط الثاني قوله تعالى: {ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم} [النساء:25] ، ومع ذلك فضل الصبر، رعاية لحق الولد.
فهنا شرطان: أولا: أن يخاف على نفسه الزنا.
وثانيا: ألا يملك طولا.
فإن كان قادرا على الصبر صبر؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله) .
وأما بالنسبة لما يلتحق بمسألة خوف العنت، ألحق بعض العلماء الخدمة، كأن يكون مثلا رجلا كبير السن ولم يجد حرة يتزوجها، قالوا: يجوز أن يتزوج أمة، وفي هذه الحالة يتزوجها لوجود الحاجة والضرورة كما ذكرنا.
فمانع الرق هو أن لا يجوز أن ينكح حر مسلم أمة، فجاز للعبد أن ينكح الأمة للمساواة، وهذا تفريق من الشرع لا أحد يتدخل فيه، ولا يحق لأحد أن يقول: الإسلام يفرق أو ما يفرق، والله لو فرق الإسلام بين أرواحنا وأجسادنا لنعمت عيوننا، ويخسأ أعداء الإسلام، ولا نجلس ونحاول تحليل بعض الشبهات ونهدر جانب العبودية.
فالمرأ إذا وجد حكما من أحكام الله عز وجل، والمرأة إذا وجدت حكما من أحكام الله عز وجل في أمر فرق الله عز جل فيه بين مجتمعين، أو ساوى فيه بين مختلفين أو متضادين في الحكم، ما يملك الواحد منا إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، ولا نتكلف الرد ونجلس نحلل وكأننا مهزومون أمام أعدائنا، نقول للعدو: رغم أنفك، وعلى رغم أنفك نقبل ذلك، نعم نحن نفرق، وهناك فرق بين الرجل والمرأة نعم، وتقول المرأة بملء فيها: رضيت بما يحكم الله عز وجل به، نعم ترضى بذلك وتؤمن به وتسلم به؛ حتى يخسأ عدو الله، أما أن نجلس نلفق ونقول: إن الإسلام لا يقبل هذا إلا في حالات اضطرارية وفي حالات استثنائية، ولا يبيح الرق إلا في حالة كذا وكذا، هذه أحكام شرعية لا يتدخل فيها المكلف، ولا يقيد شيئا أطلقه كتاب الله وأطلقته سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحاول أن يتكلف في الجواب عن شبهة هي من أصلها ساقطة؛ لأن أهل الشبهة يريدون من المسلم أن يقف موقف المهزوم، لكن لو أننا اعتدنا كلما جاءنا أعداء الإسلام بشبهة نقول: نعم، نرضى بذلك وإن رغم أنفك البعيد، نعم رضينا بذلك، وأبو بكر رضي الله عنه حينما جاءه كفار قريش وقالوا: قد زعم صاحبك أنه ذهب إلى بيت المقدس، قال: هو يقول ذلك؟ -وما زاد على هذا- قالوا: نعم، قال: صدق.
هو قادر أن يقول: إن الله على كل شيء قدير، وإن الله من قدرته قادر على أن يبين لهم، لكن أراد أن يخسئهم، قال: هو يقول ذلك؟ قالوا: نعم، قال: صدق.
ولو أن كل امرأة مسلمة من نساء المؤمنين كلما دخل عليها داخل بالشبهات تقول: نعم رضيت، الإسلام يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، نعم رضيت بملء قلبي وملء لساني، وما الذي يضرني؟ لا يضرني شيء؛ لأني أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله بحكمه حكيم عليم، فمثل هذه الأمور ينبغي وضعها في الحسبان.
فحينما يجعل الإسلام للرجل الحر أن يتزوج الأمة بشروط فهذا حكم الإسلام، ومن عايش الوضع، يعني حينما يكون الإسلام في زمان بينه وبين ملة تخالفه وتضاده وتعاديه، وهذا مشاهد فإن عدو الإسلام إذا تركته جاءك، فلابد للإسلام أن تكون له الكلمة، فلما امتنع هذا من قبول كلمة الإسلام، ووقف وأشهر السلاح في وجه الإسلام، والله عز وجل بحكمه من فوق سبع سماوات أمرنا بقتال هؤلاء، وأباح لنا استرقاقهم، ويصبح العبد مسلوب الحرية، ثم نأتي ونقول: لا ما يسلب الحرية، ما يضرب عليه الرق، ونجد من يقول: ما يضرب الرق إلا في حالات، والإسلام فتح أبواب الخروج من الرق، مع أن الكافر يسترق الحر أكثر من استرقاق الإسلام له، والإسلام لما استرق أعطى حقوقا تعجز الأمم كلها عن الإنصاف فيها مثلما أنصف الإسلام.
فالمقصود أننا ننبه على أنه لا ينبغي العجز أمام أعداء الإسلام في مثل هذه الشبهات، في مسألة النكاح؛ لأن هذه من الشبهات التي أثيرت، يقولون: انظروا كيف يفرق الإسلام! مع أنهم هم يفرقون بين طبقات مجتمعاتهم وبيئاتهم تفريقا أسوأ من التفريق الذي يفرقه الإسلام.
فالمقصود: أن حكم الإسلام أنه يجوز للحر أن ينكح الحرة، لكن لا يجوز له أن ينكح الأمة إلا بشروط، وهذا شيء قرره الله عز وجل وأثبته في كتابه، لا يملك المسلم إلا أن يقول: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة:285] ، فمانع الرق ثابت ومعتبر على التفصيل الذي بيناه ووضحناه.

عدم جواز نكاح العبد لسيدته والسيد لأمته إلا بعد العتق
قال رحمه الله: [ولا ينكح عبد سيدته ولا سيد أمته] قوله: (ولا ينكح عبد سيدته) أنتم تعلمون أن السيد يملك عبده بنص الشرع، وهذه الملكية يخالفها حق الزواج، فلا يمكن أن يكون عبدا ويكون زوجا، آمرا ومأمورا، مملوكا ومالكا؛ لأنه إذا تزوج ملك منافع الوطء، وإذا بيع رقيقا ملكه من اشتراه، فهذا نوع من التضاد، وهذا مسلك فقهي صحيح، وهو تضارب العقود، ولذلك أجمع العلماء على عدم صحة هذا النوع من العقود، ما يمكن أن نقول: إنه عبد وزوج، ما يمكن للعبد أن يتزوج سيدته، تريد أن يتزوجها تعتقه ثم يتزوجها، وهكذا بالنسبة للعكس، فالسيد لا يتزوج أمته؛ لأنه يحل له وطؤها بملك اليمين، فإذا أراد أن يطأها يطؤها بملك اليمين، أما إذا أراد أن يتزوجها نكاحا بعقد، نقول في هذه الحالة: أعتقها ثم اعقد عليها عقدا شرعيا.

جواز نكاح أمة الأب دون نكاح أمة الابن
قال رحمه الله: [وللحر نكاح أمة أبيه دون أمة ابنه] قوله: (وللحر نكاح أمة أبيه) يعني: لو أن رجلا لا يستطيع أن ينكح الحرة، ويخاف على نفسه الزنا، فأمة أبيه ليست ملكا له وإنما هي ملك لأبيه، فصارت كالأجنبية، فجاز له أن ينكح أمة أبيه، أظن هذا واضحا، نقول: يجوز لابن السيد أن يتزوج أمة والده إذا تحقق فيه شرط زواج الحر من الأمة؛ لأن الشرط موجود ولا يمتنع، لماذا حل له؟ لأن في هذه الصورة الولد لا يملك مال أبيه، ولا يوجد ملكية ونكاح، هنا فقط نكاح.
أما الوالد فإنه لا يجوز أن يعقد على أمة ابنه؛ لأن الولد وما ملك لأبيه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، فجعل الفرع تابعا لأصله، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) ، فرد الفرع إلى أصله، فقالوا: لو كانت الأمة للرجل وأراد أن يعقد عليها فإنه بالإجماع لا يصح، ولو سئلت لماذا؟ تقول: لأنه يجمع بين النكاح وبين ملكية الأمة، وهذا لا يصح، إما أن يجعلها مملوكة ويطأها بملك اليمين يتسراها، وإما أن يجعلها منكوحة فيعتقها وينكحها، هذا في حكم من كان مالكا، أما لو كانت أمة ابنه فأمة ابنه كأمته، فكما يحرم على ابنه أن يعقد عليها كذلك يحرم عليه؛ لأن الولد تابع لأبيه.

عدم جواز أن تنكح الحرة عبد ولدها
قال رحمه الله: [وليس للحرة نكاح عبد ولدها] قوله: (وليس للحرة نكاح عبد ولدها) ، فالأم لا تتزوج عبد ولدها؛ لأن ولدها يملك هذا العبد ومال ولدها في حكم: (أنت ومالك لأبيك) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فهذا للذكر والأنثى فالأم والأب سواء.
يا إخوان! حتى تتضح الصورة، ما هو ضابط هذه المسائل؟ إذا كان الذي يريد أن يعقد على أمة وهو مالك لها فإنه لا يصح أن يجمع بين نكاح وبين ملك، تقرر على هذا أنه يستوي أن يكون هو المالك أو في حكم المالك، كوالد مع ولده فتجعل الرقيق أنثى، أو أم مع ولدها وتجعل الرقيق ذكرا، فتقول: أم مع عبد ملك لولدها، وأب مع أمة ملك لولده لا يجوز نكاحهما، كما لا يصح لسيدة أن تنكح عبدها، ولا يصح لسيد أن ينكح أمته، هذا ضابط المسألة، وبهذا لا يشكل عليك الأمر.
يعني: بعض الإخوان يجد صعوبة في مسألة الأمة مع سيدها، ويجد نوعا من التضارب، أهم شيء هي القواعد، وميزة المتون الفقهية وأهم ما فيها أنك تستطيع أن تتصور وتعرف الضابط، هذا قبل الدخول في المثال، والضابط يدور حول عدم الجمع بين الملكية والنكاح، فلا يصح أن يكون مالكا وزوجا في آن واحد، فهذا تضارب، ولا يصح أن تكون سيدة وزوجة في آن واحد، فإما هذا وإما هذا، إذا قررت هذا الأصل فيمكنك أن تأتي بالفروع؛ لأن الفقه أصول وفروع.
إذا كان هذا الأصل وهذا الذي أجمع عليه العلماء في حكمه، وفي ما يلتحق به أن تكون امرأة تطلب عبدا لولدها، أو رجل يطلب أمة لولده، لكن إذا كان العكس يصح، مثلا: ولد يطلب أمة لوالده، فإن الولد لا يملك أمة والده فيصح أن ينكح بشرط؛ لأنه لا يجمع بين الملكية وبين النكاح، ولو أن بنتا تطلب رقيقا لوالدها وكانت مملوكة، كما يقع في الكفر، وكانت بنته كافرة يصح، ولا بأس في هذا.

من الأحوال التي ينفسخ فيها عقد النكاح
قال رحمه الله: [وليس للحرة نكاح عبد ولدها] قوله: (وليس للحرة نكاح عبد ولدها) ، فالأم لا تتزوج عبد ولدها؛ لأن ولدها يملك هذا العبد ومال ولدها في حكم: (أنت ومالك لأبيك) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فهذا للذكر والأنثى فالأم والأب سواء.
يا إخوان! حتى تتضح الصورة، ما هو ضابط هذه المسائل؟ إذا كان الذي يريد أن يعقد على أمة وهو مالك لها فإنه لا يصح أن يجمع بين نكاح وبين ملك، تقرر على هذا أنه يستوي أن يكون هو المالك أو في حكم المالك، كوالد مع ولده فتجعل الرقيق أنثى، أو أم مع ولدها وتجعل الرقيق ذكرا، فتقول: أم مع عبد ملك لولدها، وأب مع أمة ملك لولده لا يجوز نكاحهما، كما لا يصح لسيدة أن تنكح عبدها، ولا يصح لسيد أن ينكح أمته، هذا ضابط المسألة، وبهذا لا يشكل عليك الأمر.
يعني: بعض الإخوان يجد صعوبة في مسألة الأمة مع سيدها، ويجد نوعا من التضارب، أهم شيء هي القواعد، وميزة المتون الفقهية وأهم ما فيها أنك تستطيع أن تتصور وتعرف الضابط، هذا قبل الدخول في المثال، والضابط يدور حول عدم الجمع بين الملكية والنكاح، فلا يصح أن يكون مالكا وزوجا في آن واحد، فهذا تضارب، ولا يصح أن تكون سيدة وزوجة في آن واحد، فإما هذا وإما هذا، إذا قررت هذا الأصل فيمكنك أن تأتي بالفروع؛ لأن الفقه أصول وفروع.
إذا كان هذا الأصل وهذا الذي أجمع عليه العلماء في حكمه، وفي ما يلتحق به أن تكون امرأة تطلب عبدا لولدها، أو رجل يطلب أمة لولده، لكن إذا كان العكس يصح، مثلا: ولد يطلب أمة لوالده، فإن الولد لا يملك أمة والده فيصح أن ينكح بشرط؛ لأنه لا يجمع بين الملكية وبين النكاح، ولو أن بنتا تطلب رقيقا لوالدها وكانت مملوكة، كما يقع في الكفر، وكانت بنته كافرة يصح، ولا بأس في هذا.

انفساخ النكاح إن ملك أحد الزوجين الآخر حقيقة أو حكما

قال رحمه الله: [وإن اشترى أحد الزوجين أو ولده الحر] .
انظروا إلى دقة العلماء! بحيث لو قرأت المتن أولا تحس بشيء غريب، لكن لما تمسك الضوابط تحس بمتعة هذه المتون الفقهية ودقة العلماء رحمهم الله، والفقه رياضة الذهن.
المصنف أعطانا الضابط الأصلي، وهو أنه لا يجمع بين الملكية والنكاح في الأصل، ويلزم أن تبني على ذلك ما كانت الملكية تبعا كوالد مع ولده أنثى أو ذكر، أم أو أب.
بعد هذا تأتي أشياء مفرعة على المسألة، أنت تقرر أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أمة إذا كان مالكا لها.
إذا افرض أنها زوجة له وطرأت الملكية، انتبه! هناك ابتداء وهناك استدامة، فهل الحكم الذي ثبت في الابتداء يؤثر أيضا في الاستدامة؟ وهذا تقدم معنا في أكثر من مسألة، أنه لما يأتي بموانع النكاح ينبه عليها في الابتداء ثم ينبه عليها في الاستئناف، فهذه من مسائل الاستئناف، ومن هنا سيدخل في الاستئناف.
حسنا! لو طرأت الملكية كامرأة اشترت زوجها، كان زوجا لها ثم اشترته، يقع في المملوكية إذا اشترته وأذن لها سيدها، في هذه الحالة صار ملكا لها، ومثل هذا مثل ما يقع بين السيدة وعبدها ومملوكها، قلنا: لا يصح، فحينئذ كما يؤثر في الابتداء يؤثر في الاستدامة هذا ضابطه، والآن انظر إلى المسألة.
قوله: (وإن) لما يؤتى بهذا غالبا يفرع على ما قبله، فهو لما يقول: وإن حصل كذا وكذا، كأنه يبني هذه المسألة على ما قبلها.
قوله: (وإن اشترى أحد الزوجين) يعني: هو زوج لها فاشترته، أو هي زوجة له فاشتراها، مثلا: مثلما ذكرنا الحر لا يستطيع طولا، فينكح ماذا؟ ينكح الأمة، ثم أصبح هذا الحر غنيا ثريا، فضايقه سيد زوجته، فاشتراها منه، فما الحكم؟ يصبح حينئذ سيدا من وجه وزوجا من وجه آخر، فدخول الملكية يفسد النكاح، فأصبح مانعا من الابتداء ومانعا من الاستدامة؛ لأن هناك شيئا يمنع من الابتداء والاستدامة، وهناك شيئا يمنع من الابتداء ولا يمنع من الاستدامة، هناك موانع لا تمنع من الاستدامة.
الآن مثلا: عندنا الإحرام مانع من الابتداء؛ لكن لو أن زوجين أحرما مع بعضهما هل نقول: يفرق بينهما؟ لا، ما يقال ذلك، فإذن مانع الإحرام يمنع الابتداء ولا يمنع الاستدامة، وعندنا مانع يمنع الابتداء والاستدامة، وهذا كله مبني على أصول شرعية، يعني: هذه المسائل مبنية على أصول شرعية، لكن يراد بها رياضة الذهن، وإذا قام طالب العلم بالتجربة وقرأ في المطولات واستمر في مسائل الفقه، فإنه يصبح عنده الفقه ملكة.
هذه المسائل التي ترى ما كانت موجودة في المتون المتقدمة قبلها، لكن المتون المتقدمة قبلها نصت على مسائل فتحت الأذهان لهذه المسائل التي طرأت، وهذه القراءة الآن تفتح بها مسائل قد تطرأ عليك في عصرك الآن، لأنك إذا أخذت الضابط بالاستدامة والابتداء فإنك تستطيع أن تقرر مسائل أخر تأتي جديدة سواء في المعاملات المالية أو الشخصية أو الجنايات، كل هذا يراد به رياضة الذهن وتقويته، لكن ينبغي أن يكون مقيدا بالنصوص من الكتاب والسنة، ما يخرج إلى تكلف الآراء التي لا نص فيها ولا أصل لها، أو تعلل بعلل ضعيفة واهية.
قوله: (أو ولده الحر) يعني: عنده ولد حر، فرضنا أن زيدا تزوج خديجة وأنجب منها محمدا، وخديجة حرة وزيد حر، ثم بعد ذلك ماتت خديجة فأراد والد زيد أن يتزوج وليس عنده مال ليتزوج حرة، ما الحكم؟ يجوز له نكاح الأمة، فلما تزوج الأمة بالشرط المعتبر شرعا، أصبحت زوجته أمة وعنده ولد حر من غيرها، وبعد زمان اشترى الولد الحر زوجة أبيه الأمة، وقد قلنا في الضابط: إن الولد في حكم الوالد، فحينئذ كما أثر في الابتداء في مسألة الولد والوالد فإنه مؤثر في الاستدامة.
أظن هذا واضحا، فبعد فهم الضابط ليس هناك إشكال في المسألة؛ لأن الأمر واضح سواء اشترى هو أو اشترى فرعه، ثم يأتون بمثال الأم مع ولدها.

انفساخ نكاح المكاتب أو المكاتبة إن ملك أحدهما الآخر
قال رحمه الله: [أو مكاتبة الزوج الآخر] بعض الأحيان يأتون بشيء أغرب من هذا: وهو الذي يكون في حكم ملكية الشخص كالمكاتبة، فلو قال: أو مكاتبهم، نفس الحكم؛ لأن المكاتب إذا كان يكاتبك ليس بحر، ما دام في حال الكتابة، إنما يصير حرا بعد أداء نجوم الكتابة، ففي حال كونه مكاتبا اشترى الأمة التي تزوجها، كولدك الذي اشترى الأمة التي تزوجها، فالمسألة كلها تدور حول الضابط.

انفساخ النكاح عندما يملك أحد الزوجين جزء الآخر
قال رحمه الله: [أو بعضه انفسخ نكاحهما] .
أي: لو اشترى الكل أو اشترى البعض فالحكم واحد، نحن استفدنا فائدة: أنه سواء كانت الملكية للكل أو الملكية للبعض، فلو أن هذه الأمة التي تزوجها والده ملك لشخصين زيد وعمرو، فاشترى الولد نصف ملك زيد، فأصبح يملك نصف أمة هي زوجة أبيه، إذا يصبح أبوه يملك نصف المرأة التي اشتراها ولده وزوج لكلها، حينئذ ينفسخ النكاح؛ لأنه كما أثر في الكل فإنه يؤثر في الجزء، فالحكم في ذلك سواء.
انظروا كيف يدخلون العبارات في بعض؛ لأنهم يريدون الاختصار، فيجيبون: أو مكاتبه أو كذا؛ لأنه لو أراد أن يشرح لك القواعد لاحتاج إلى صفحات؛ لكن هو يشرحها بهذه الأمثلة، أرأيت هذه الأمثلة التي قد يتهكم بها البعض، هذه هي التي تفتح ذهن الطالب إلى الأصل، فالعلماء ما مرادهم بهذا التمثيل كمثال، وهذه الأمثلة لما تراها ترى شيئا غريبا وتقول: هذا من أين جاء؟ أو من أين أتى؟ أتى من نص الكتاب والسنة كقاعدة، فلو جاء الفقيه يريد أن يشرح هذه القواعد لاحتاج إلى مطولات واحتاج إلى وقت، فهم إنما جعلوا المتون الفقهية أمثلة، وجعلوا شرح هذه القواعد وأدلتها للفقهاء والعلماء الذين يشرحون، وكلا على حسب قوته وطاقته، ثم أصبح الفقه مجموعا في هذه المتون تحت أمثلة هي في الواقع أصول لغيرها.
وليس المراد الإحاطة بهذه الأمثلة ذاتها والعجز عن الإتيان بغيرها، بل لابد أن يلم بأصلها فيستطيع أن يلحق بها غيرها، فيصبح عند طالب العلم الفقه القديم والفقه الجديد، وهذه ملكة تعين على مسألة التخريج الفقهي، يعني: أنه إذا ضبط هذه الأمثلة وأعانه الله عز وجل على فهم ضوابطها، فإنه يستطيع بإذن الله أن يتكلم على المسائل والنوازل التي تجد وتطرأ على زمانه، ويمكنه أن يعرف حكم الله عز وجل فيها.

حكم وطء المحارم بملك اليمين
قال رحمه الله: [ومن حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين إلا أمة كتابية] هذه مسألة فيمن ملك ذات محرم منه، لا يجوز أن يطأ أخته بملك اليمين، ولا يجوز أن يطأ عمته بملك اليمين، لو أنه أسلم ثم أسرت عمته واسترقت وبيعت فاشتراها، فالأصل يقتضي أن من ملك ذا محرم منه فقد عتق عليه على تفصيل سيأتي في باب العتق، لكن على القول أنها لا تعتق وأراد أن يطأها بملك اليمين فإنه لا يجوز، هذه مسائل ملحقة، ووجه إدخالها في باب النكاح هو إلحاقها بمسألة الجمع بين الأختين، فإن الجمع بين الأختين اختلف فيه: هل يجوز أن يجمع بين الأختين بملك اليمين؟ لو أن رجلا اشترى أمتين أختين هل يجوز أن يطأهما معا بملك اليمين؟ هذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله، فكان عثمان رضي الله عنه إذا سئل عن هذه المسألة يقول: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أحلتهما آية وهي قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24] ، وقوله في الاستثناء: {إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24] في المحرمات، وحرمتهما آية وهي قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء:23] فأطلق، ومن جهة المعنى يقوى المنع كما ذكرنا في الزنا، ولذلك الشبهة موجودة فيه كالشبهة في الجمع بين الحلال والحرام، كما قدمناه في مانع الزنا.

حكم من جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد
قال رحمه الله: [ومن جمع بين محللة ومحرمة في عقد صح فيمن تحل] أي: من جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد صح فيمن تحل وحرم فيمن تحرم.
المصنف رحمه الله ذكر الموانع، وبين حكم العقد على المحرمة، وأنه يفسخ النكاح؛ لأن الحرام يمنع من الابتداء والاستدامة، فإذا عرفنا الحرام المحض وعرفنا الحلال المحض، فما الحكم لو جمع بين حرام وحلال؟ كأن يقول له رجل في عقد واحد: زوجتك فلانة وفلانة، وكان هذا الرجل وليا لامرأتين: إحداهما يحل لك نكاحها، والثانية يحرم عليك نكاحها، فزوجكهما معا، صح العقد فيمن حلت وحرم فيمن حرمت؛ وذلك للقاعدة التي تقول: تصحيح العقود ما أمكن.
فلما كان الأصل صحة العقد إلا ما دل الدليل الشرعي على تحريمه وبطلانه، حكمنا بالتحريم فيما حرم وحكمنا بالحل فيما حل.
وقال بعض العلماء: ينهدم العقد من أصله فيبطل في الاثنين.

حكم نكاح الخنثى المشكل
قال رحمه الله: [ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره] قوله: (ولا يصح نكاح خنثى) الخنثى من عنده آلة الذكر وآلة الأنثى، وينقسم إلى قسمين: خنثى تبين أمره وانكشف، بأن تبين أنه رجل فحكمه حكم الرجل، أو تبين أنه أنثى فحكمه حكم الإناث، لكن هناك نوع من الخنثى الذي هو المشكل الذي لا يتبين حاله، وهذا له أحكام شرعية، وتقدم معنا في العبادات.
وبعض العلماء يقول: الخنثى يعطى حكم الأنثى إلا في مسائل، ويعطى حكم الأضعف حتى يتبين أنه ذكر؛ وذلك لأننا على يقين بالأقل حتى نستيقن ما هو أعلى منه، وهذا أصل صحيح، وذكره العلماء في قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، وفرعوا مسائل الخنثى عليها، لكن الخنثى المشكل لا يجوز نكاحه؛ لأنه ربما زوج على أنه امرأة فبان ذكرا، أو زوج على أنه ذكر فبان أنثى، فلذلك يتوقف في أمره حتى يستبين.







الساعة الآن : 03:55 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 280.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 279.92 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.18%)]