رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (13) سُورَةُ النمل من صــ 221 الى صــ 230 الحلقة (541) أم في هذا الذي تشركونه في العبادة! وحكى سيبويه : السعادة أحب إليك أم الشقاء ؛ وهو يعلم أن السعادة أحب إليه. وقيل : هو على بابه من التفضيل ، والمعنى : آلله خير أم ما تشركون ؛ أي أثوابه خير أم عقاب ما تشركون. وقيل : قال لهم ذلك ؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خير فخاطبهم الله عز وجل على اعتقادهم. وقيل : اللفظ لفظ الاستفهام ومعناه الخبر. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب : {ريشركون} بياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية يقول : "بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم" . قوله تعالى : {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} قال أبو حاتم : تقديره ؛ آلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض ؛ وقد تقدم. ومعناه : قدر على خلقهن. وقيل : المعنى ؛ أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السماوات والأرض ؟ فهو مردود على ما قبله من المعنى ؛ وفيه معنى التوبيخ لهم ، والتنبيه على قدرة الله عز وجل وعجز آلهتهم. {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} الحديقة البستان الذي عليه حائط. والبهجة المنظر الحسن. قال الفراء : الحديقة البستان المحظر عليه حائط ، وإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة. وقال قتادة وعكرمة : الحدائق النخل ذات بهجة ، والبهجة الزينة والحسن ؛ يبهج به من رآه. {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} {مَا} للنفي. ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا ؛ أي ما كان للبشر ، ولا يتهيأ لهم ، ولا يقع تحت قدرتهم ، أن ينبتوا شجرها ؛ إذ هم عجزة عن مثلها ، لأن ذلك إخراج الشيء من العدم إلى الوجود. قلت : وقد يستدل من هذا على منع تصوير شيء سواء كان له روح أم لم يكن ؛ وهو قول مجاهد. ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم : "قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة" رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ؛ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "قال الله عز وجل" فذكره ؛ فعم بالذم والتهديد والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه فيما انفرد به سبحانه من الخلق والاختراع هذا واضح. وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز هو والاكتساب به. وقد قال ابن عباس للذي سأل أن يصنع الصور : إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له خرجه مسلم أيضا. والمنع أولى والله أعلم لما ذكرنا. وسيأتي لهذا مزيد بيان في {سَبَأ} إن شاء الله تعالى ثم قال على جهة التوبيخ : {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي هل معبود مع الله يعينه على ذلك. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} بالله غيره. وقيل : {يَعْدِلُونَ} عن الحق والقصد ؛ أي يكفرون. وقيل : {إِلَهٌ} مرفوع بـ {مَعَ} تقديره : أمع الله ويلكم إله. والوقف على {مَعَ اللَّهِ} حسن. قوله تعالى : {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً} أي مستقرا. {وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً} أي وسطها مثل : {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} [الكهف : 33] . {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} يعني جبالا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة. {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} مانعا من قدرته لئلا يختلط الأجاج بالعذب. وقال ابن عباس : سلطانا من قدرته فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يغير هذا. والحجز المنع. {إِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غيره فلم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} يعني كأنهم يجهلون الله فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية. الآية : [62] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} الآية : [63] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} الآية : [64] {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} قال ابن عباس : هو ذو الضرورة المجهود. وقال السدي : الذي لا حول له ولا قوة. وقال ذو النون : هو الذي قطع العلائق عما دون الله. وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري : هو المفلس. وقال سهل بن عبدالله : هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها. وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال : أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر ؛ قال : إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. قال الشاعر : وإني لأدعو الله والأمر ضيق ... علي فما ينفك أن يتفرجا ورب أخ سدت عليه وجوهه ... أصاب لها لما دعا الله مخرجا الثانية- وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر : "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت" . الثالثة- ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه ، وأخبر بذلك عن نفسه ؛ والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص ، وقطع القلب عما سواه ؛ وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة ، وجد من مؤمن أو كافر ، طائع أو فاجر ؛ كما قال تعالى : {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس : 22] وقوله : {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت : 65] فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم ، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم. وقال تعالى : {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه. وفي الحديث : "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده" ذكره صاحب الشهاب ؛ وهو حديث صحيح. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن : "واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب" وفي كتاب الشهاب : "اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين" وهو صحيح أيضا. وخرج الآجري من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر" فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه ، وإجابة لإخلاصه وإن كان كافرا ، وكذلك إن كان فاجرا في دينه ؛ ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده ، فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته. وفسر إجابة دعوة المظلوم بالنصرة على ظالمه بما شاء سبحانه من قهر له ، أو اقتصاص منه ، أو تسليط ظالم آخر عليه يقهره كما قال عز وجل : {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام : 129] وأكد سرعة إجابتها بقول : "تحمل على الغمام" ومعناه والله أعلم أن الله عز وجل يوكل ملائكته بتلقي دعوة المظلوم وبحملها على الغمام ، فيعرجوا بها إلى السماء ، والسماء قبلة الدعاء ليراها الملائكة كلهم ، فيظهر منه معاونة المظلوم ، وشفاعة منهم له في إجابة دعوته ، رحمة له. وفي هذا تحذير من الظلم جملة ، لما فيه من سخط الله ومعصيته ومخالفة أمره ؛ حيث قال على لسان نبيه في صحيح مسلم وغيره : "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا..." الحديث. فالمظلوم مضطر ، ويقرب منه المسافر ؛ لأنه منقطع عن الأهل والوطن منفرد عن الصديق والحميم ، لا يسكن قلبه إلى مسعد ولا معين لغربته. فتصدق ضرورته إلى المولى ، فيخلص إليه في اللجاء ، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه ، وكذلك دعوة الوالد على ولده ، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنته عليه وشفقته ، إلا عند تكامل عجزه عنه ، وصدق ضرورته ؛ وإياسه عن بر ولده ، مع وجود أذيته ، فيسرع الحق إلى إجابته. قوله تعالى : {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} أي الضر. وقال الكلبي : الجور. {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} أي سكانها يهلك قوما وينشئ آخرين. وفي كتاب النقاش : أي ويجعل أولادكم خلفا منكم. وقال الكلبي : خلفا من الكفار ينزلون أرضهم ، وطاعة الله بعد كفرهم. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} على جهة التوبيخ ؛ كأنه قال أمع الله ويلكم إله ؛ فـ {إله} مرفوع بـ { مَعَ} . "صفحة رقم 225" ويجوز أن يكون مرفوعا بإضمار أإله مع الله يفعل ذلك فتعبدوه والوقف على مع الله حسن ) قليلا ما تذكرون ( قرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب : يذكرون بالياء على الخبر كقوله : بل أكثرهم لا يعلمون وتعالى الله عما يشركون فأخبر فيما قبلها وبعدها وإختاره أبو حاتم الباقون بالتاء خطابا لقوله : ويجعلكم خلفاء الأرض قوله تعالى : ) أمن يهديكم ( أي يرشدكم الطريق ) في ظلمات البر والبحر ( إذا سافرتم إلى البلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار وقيل : وجعل مفاوز البر التي لا أعلام لها ولجج البحار كأنها ظلمات لأنه ليس لها علم يهتدى به ) ومن يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته ( أي قدام المطر بإتفاق أهل التأويل ) أإله مع الله ( يفعل ذلك ويعينه عليه ) تعالى الله عما يشركون ( من دونه قوله تعالى : ) أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ( كانوا يقرون أنه الخالق الرازق فألزمهم الإعادة أي إذا قدر على الإبتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة وهو أهون عليه ) أإله مع الله ( يخلق ويرزق ويبدئ ويعيد : ) قل هاتوا برهانكم ( أي حجتكم أن لي شريكا أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله ) إن كنتم صادقين ( النمل : ) 65 ( قل لا يعلم . . . . . ) النمل 65 : 66 ( قوله تعالى : ) قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلاالله ( وعن بعضهم : أخفى غيبه على الخلق ولم يطلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره وقيل : نزلت في المشركين حين سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قيام الساعة ومن في موضع رفع والمعنى : قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله فإنه بدل من من قاله الزجاج الفراء : وإنما رفع ما بعد إلا لأن ما قبلها جحد كقوله ما ذهب أحد إلا أبوك "صفحة رقم 226" والمعنى واحد قال الزجاج : ومن نصب نصب على الاستثناء يعني في الكلام قال النحاس : وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجما وقال : أخاف أن يكفر بهذه الآية قلت : وقد مضى هذا في الأنعام مستوفى وقالت عائشة : من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله خرجه مسلم وروي أنه دخل على الحجاج منجم فإعتقله الحجاج ثم أخذ حصيات فعدهن ثم قال : كم في يدي من حصاة فحسب المنجم ثم قال : كذا فأصاب ثم إعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال : كم في يدي فحسب فأخطأ ثم حسب فأخطأ ثم قال : أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها قال : لا قال : فإني لا أصيب قال : فما الفرق قال : إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب وهذا لم تحصه فهو غيب ولا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وقد مضى هذا في آل عمران والحمد لله قوله تعالى : ) بل إدارك علمهم في الآخرة ( هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وقرأ أبو جعفر وبن كثير وأبو عمرو وحميد : بل ادرك من الإدراك وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش : بل ادرك غير مهموز مشددا وقرأ بن محيصن : بل أآدرك على الإستفهام وقرأ بن عباس : بلى بإثبات الياء أدارك بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها قال النحاس : وإسناده إسناد صحيح هو من حديث شعبة يرفعه إلى بن عباس وزعم هارون القارئ أن قراءة أبي بل تدارك علمهم وحكى الثعلبي أنها في حرف أبي أم تدارك والعرب تضع بل موضع أم وأم موضع بل إذا كان في أول الكلام إستفهام كقول الشاعر : فوالله لا أدري أسلمى تقولت أم القول أم كل إلى حبيب أي بل كل قال النحاس : القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد لأن أصل ادارك تدارك أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل وفي معناه قولان : أحدهما "صفحة رقم 227" أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به والقول الآخر أن المعنى : بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة فقالوا تكون وقالوا لا تكون القراءة الثانية فيها أيضا قولان : أحدهما أن معناه كمل في الآخرة وهو مثل الأول قال مجاهد : معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين والقول الآخر أنه على معنى الإنكار وهو مذهب أبي إسحاق وإستدل على صحة هذا القول بأن بعده بل هم منها عمون أي لم يدرك علمهم علم الآخرة وقيل : بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم والقراءة الثالثة : بل ادرك فهي بمعنى بل ادارك وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا القراءة الرابعة : ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار كما تقول : أأنا قاتلتك فيكون المعنى لم يدرك وعليه ترجع قراءة بن عباس قال بن عباس : بلى أدارك علمهم في الآخرة أي لم يدرك قال الفراء : وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الإستهزاء بالمكذبين بالبعث كقولك لرجل تكذبه : بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروى ما لا أروي وأنت تكذبه وقراءة سابعة : بل ادرك بفتح اللام عدل إلى الفتحة لخفتها وقد حكى نحو ذلك عن قطرب في قم الليل فإنه عدل إلى الفتح وكذلك وبع الثوب ونحوه وذكر الزمخشري في الكتاب : وقرئ بل أأدرك بهمزتين بل آأدرك بألف بينهما بلى أأدرك أم تدارك أم أدرك فهذه ثنتا عشرة قراءة ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال : فإن قلت فما وجه قراءة بل أأدرك على الإستفهام قلت : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم وكذلك من قرأ : أم أدرك وأم تدارك لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة وأما من قرأ : بلى أأدرك على الإستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون ثم أنكر علمهم بكونها وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن في الآخرة في شأن الآخرة ومعناها ) بل هم في شك منها ( أي في الدنيا ) بل هم منها عمون ( أي بقلوبهم واحدهم عمو وقيل : عم وأصله عميون حذفت الياء لإلتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها "صفحة رقم 228" النمل : ) 67 ( وقال الذين كفروا . . . . . ) النمل 67 : 68 ( قوله تعالى : ) وقال الذين كفروا ( يعني مشركي مكة ) إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون ( هكذا يقرأ نافع هنا وفي سورة : العنكبوت وقرأ أبو عمرو بإستفهامين إلا أنه خفف الهمزة وقرأ عاصم وحمزة أيضا باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين وكل ما ذكرناه في السورتين جميعا واحد وقرأ الكسائي وبن عامر ورويس ويعقوب : أئذا بهمزتين إننا بنونين على الخبر في هذه السورة وفي سورة : العنكبوت بإستفهامين قال أبو جعفر النحاس : القراءة إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون موافقة للخط حسنة وقد عارض فيها أبو حاتم فقال وهذا معنى كلامه : إذا ليس بإستفهام وآينا إستفهام وفيه إن فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الإستفهام فيما قبله وكيف يجوز أن يعمل ما بعد إن فيما قبلها وكيف يجوز غدا إن زيدا خارج فإذا كان فيه إستفهام كان أبعد وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره وقال أبو جعفر : وسمعت محمد بن الوليد يقول : سألنا أبا العباس عن آية من القرآن صعبة مشكلة وهي قول الله تعالى : وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد فقال : إن عمل في إذا ينبئكم كان محالا لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت وإن عمل فيه ما بعد إن كان المعنى صحيحا وكان خطأ في العربية أن يعمل ما قبل إن فيما بعدها وهذا سؤال بين رأيت أن يذكر في السورة التي هو فيها فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين إستفهامين وإستدل بقوله تعالى : أفإن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم وبقوله تعالى : أفإن مت فهم الخالدون وهذا الرد على أبي عمرو وعاصم وحمزة "صفحة رقم 229" وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئا والفرق بينهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد ومعنى : أفإن مت فهم الخالدون أفإن مت خلدوا ونظير هذا : أزيد منطلق ولا يقال : أزيد أمنطلق لأنها بمنزلة شيء واحد وليس كذلك الآية لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فيصلح فيها الإستفهام والأول كلام يصلح فيه الاستفهام فأما من حذف الإستفهام من الثاني وأثبته في الأول فقرأ : أئذا كنا ترابا وآباؤنا إننا فحذفه من الثاني لأن في الكلام دليلا عليه بمعنى الإنكار قوله تعالى : ) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ( تقدم في سورة المؤمنون وكانت الأنبياء يقربون أمر البعث مبالغة في التحذير وكل ما هو آت فقريب النمل : ) 69 ( قل سيروا في . . . . . ) النمل 69 : 71 ( قوله تعالى : ) قل سيروا في الأرض ( أي قل لهؤلاء الكفار سيروا في بلاد الشام والحجاز واليمن ) فانظروا ( أي بقلوبكم وبصائركم ) كيف كان عاقبة المجرمين ( المكذبين لرسلهم ) ولا تحزن عليهم ( أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا ) ولا تكن في ضيق ( في حرج ) مما يمكرون ( نزلت في المستهزئين الذين إقتسموا عقاب مكة وقد تقدم ذكرهم وقريء : في ضيق بالكسر وقد مضى في آخرالنحل ) ويقولون متى هذا الوعد ( أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا ) إن كنتم صادقين "صفحة رقم 230" النمل : ) 72 ( قل عسى أن . . . . . ) النمل 72 : 75 ( قوله تعالى : ) قل عسى أن يكون ردف لكم ( أي اقترب لكم ودنا منكم ) بعض الذي تستعجلون ( أي من العذاب قاله بن عباس وهو من ردفه إذا تبعه وجاء في أثره وتكون اللام أدخلت لأن المعنى اقترب لكم ودنا لكم أو تكون متعلقة بالمصدر وقيل : معناه معكم وقال بن شجرة : تبعكم ومنه ردف المرأة لأنه تبع لها من خلفها ومنه قول أبي ذؤيب : عاد السواد بياضا في مفارقه لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا قال الجوهري : وأردفه أمر لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى قال خزيمة بن مالك بن نهد : إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا يعني فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين وقال الفراء : ردف لكم دنا لكم ولهذا قال : لكم وقيل : ردفه وردف له بمعنى فتزاد اللام للتوكيد عن الفراء أيضا كما تقول : نقدته ونقدت له وكلته ووزنته وكلت له ووزنت له ونحو ذلك بعض الذي تستعجلون من العذاب فكان ذلك يوم بدر وقيل : عذاب القبر ) وإن ربك لذو فضل على الناس ( في تأخير العقوبة وإدرار الرزق ) ولكن أكثرهم لا يشكرون ( فضله ونعمه قوله تعالى : ) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم ( أي تخفي صدورهم ) وما يعلنون ( يظهرون من الأمور وقرأ بن محيصن وحميد : ما تكن من كننت الشيء إذا سترته هنا وفيالقصص تقديره : ما تكن صدورهم عليه وكأن الضمير الذي في الصدور كالجسم السائر ومن قرأ : تكن فهو المعروف يقال : أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (13) سُورَةُ النمل من صــ 231 الى صــ 240 الحلقة (542) "صفحة رقم 231" قوله تعالى : ) وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ( قال الحسن : الغائبة هنا القيامة وقيل : ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض حكاه النقاش وقال بن شجرة : الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم وهذا عام وإنما دخلت الهاء في غائبة إشارة إلى الجمع أي ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه وقيل : أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته النمل : ) 76 ( إن هذا القرآن . . . . . ) النمل 76 : 81 ( قوله تعالى : ) إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ( وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم بعضا فنزلت والمعنى : إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل وما سقط من كتبهم من الأحكام ) وإنه ( يعني القرآن ) لهدى ورحمة للمؤمنين ( خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به ) إن ربك يقضي بينهم بحكمه ( أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة فيجازي المحق والمبطل وقيل : يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه ) وهو العزيز ( المنيع الغالب الذي لا يرد أمره ) العليم ( الذي لا يخفى عليه شيء "صفحة رقم 232" قوله تعالى : ) فتوكل على الله ( أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه فإنه ناصرك ) إنك على الحق المبين ( أي الظاهر وقيل : المظهر لمن تدبر وجه الصواب ) إنك لا تسمع الموتى ( يعني الكفار لتركهم التدبر فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل وقيل : هذا فيمن علم أنه لا يؤمن ) ولا تسمع الصم الدعاء ( يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون نظيره : صم بكم عمي كما تقدم وقرأ بن محيصن وحميد وبن كثير وبن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو : ولا يسمع بفتح الياء والميم الصم رفعا على الفاعل الباقون تسمع مضارع أسمعت الصم نصبامسألة وقد احتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسمع موتى بدر بهذه الآية فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية وقد صح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ) ما أنتم بأسمع منهم ) قال بن عطية : فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين قلت : روى البخاري رضي الله عنه حدثني عبد الله بن محمد سمع روح بن عبادة قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشي وتبعه أصحابه قالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفير الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قال فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) قال قتادة : أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما خرجه مسلم "صفحة رقم 233" أيضا قال البخاري : حدثنا عثمان قال حدرثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن بن عمر قال : وقف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على قليب بدر فقال : ) هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) ثم قال : ) إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ) ثم قرأت ) إنك لا تسمع الموتى ( حتى قرأت الآية وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر بالسلام على القبور وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه إلى غير ذلك فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه وهذا واضح وقد بيناه في كتاب التذكرة قوله تعالى : ) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ( أي كفرهم أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم وقرأ حمزة : وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم كقوله : أفأنت تهدي العمي الباقون : بهادي العمى وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي الروم مثله وكلهم وقف على بهادي بالياء في هذه السورة وبغير ياء في الروم اتباعا للمصحف إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعا بالياء وأجاز الفراء وأبو حاتم : وما أنت بهاد العمي وهي الأصل وفي حرف عبد الله وما أن تهدي العمي ) إن تسمع ( أي مل تسمع ) إلا من يؤمن بآياتنا ( قال بن عباس : أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد النمل : ) 82 ( وإذا وقع القول . . . . . ) النمل 82 : 86 ( "صفحة رقم 234" قوله تعالى : ) وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ( اختلف في معنى وقع القول وفي الدابة فقيل : معنى وقع القول عليهم وجب الغضب عليهم قاله قتادة وقال مجاهد : أي حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون وقال بن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما : إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم وقال عبد الله بن مسعود : وقع القول يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن قال عبد الله : أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع قالوا هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال قال : يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا وينسون لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم وذلك حين يقع القول عليهم قلت : أسنده أبو بكر البزار قال حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي قال حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن بن لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن أبيه أنه قال : أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع قالوا : يا أبا عبد الرحمن هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال قال : فيصبحون فيقولون كنا نتكلم بكلام ونقول قولا فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية وذلك حين يقع القول عليهم وقيل : القول هو قوله تعالى : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم فوقوع القول وجوب العقاب على هؤلاء فإذا صاروا إلى حد لا تقبل توبتهم ولا يولد لهم ولد مؤمن فحينئذ تقوم القيامة ذكره القشيري وقول سادس : قالت حفصة بنت سيرين سألت أبا العالية عن قول الله تعالى : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم فقال : أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وكأنما كان على وجهي غطاء فكشف قال النحاس : وهذا من حسن الجواب لأن الناس ممتحنون ومؤخرون لأن فيهم مؤمنين وصالحين ومن قد علم الله عز وجل أنه سيؤمن ويتوب فلهذا أمهلوا وأمرنا بأخذ الجزية فإذا زال هذا وجب القول عليهم فصاروا كقوم نوح حين قال الله تعالى : إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن "صفحة رقم 235" قلت : وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد والدليل عليه آخر الآية إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون وقرئ : أن : بفتح الهمزة وسيأتي وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ) وقد مضى واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا قد ذكرناه في كتاب التذكرة ونذكره هنا إن شاء الله تعالى مستوفى فأول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح وهو أصحها والله أعلم لما ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال : ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الدابة فقال : ) لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية ) يعني مكة قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فارفض الناس منها شتى ومعا وتثبت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطلحون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن يقول يا كافر اقض حقي ) وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قوله : ) وهي ترغو ) والرغاء إنما هو للإبل وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه ثم انطبق عليه فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل وروي أنها دابة مزغبة شعراء ذات قوائم طولها ستون ذراعا ويقال إنها الجساسة وهو قول عبد الله بن عمر وروي عن بن عمر أنها على خلقة الآدميين وهي في السحاب وقوائمها في الأرض وروي أنها جمعت من خلق "صفحة رقم 236" كل حيوان وذكر الماوردي والثعلبي رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن أيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعا الزمخشري : بذراع آدم عليه السلام ويخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء فيبيض وجهه وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان عليه السلام فيسود وجهه قاله بن الزبير رضي الله عنهما وفي كتاب النقاش عن بن عباس رضي الله عنهما : إن الدابة الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة وحكى الماوردي عن محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الدابة فقال : أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية قال الماوردي : وفي هذا القول منه إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح به قلت : ولهذا والله أعلم قال بعض المتأخرين من المفسرين : إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا فيهلك من هلك عن بينة : ويحيا من حي عن بينة قال شيخنا الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كتاب المفهم له : وإنما كان عند هذا القائل الأقرب لقوله تعالى : تكلمهم وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة ولا يكون من العشر الآيات المذكورة في الحديث لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير فلا آية خاصة بها فلا ينبغي أن تذكر مع العشر وترتفع خصوصية وجودها إذا وقع القول ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان أو بالعالم أو بالإمام إلى أن يسمى بدابة وهذا خروج عن عادة الفصحاء وعن تعظيم العلماء وليس ذلك دأب العقلاء فالأولى ما قاله أهل التفسير والله أعلم بحقائق الأمور قلت قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه واختلف من أي موضع تخرج فقال عبد الله بن عمر : تخرج من جبل الصفا بمكة يتصدع فتخرج منه قال عبد الله بن عمرو نحوه وقال : لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها "صفحة رقم 237" لفعلت وروي في خبر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى وأنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب دري وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء كافر ) وذكر في الخبر أنها ذات وبر وريش ذكره المهدوي وعن بن عباس أنها تخرج من شعب فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض لم تخرجا وتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام وعن حذيفة : تخرج ثلاث خرجات خرجة في بعض البوادي ثم تكمن وخرجة في القرى يتقاتل فيها الأمراء حتى تكثر الدماء وخرجة من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وأفضلها الزمخشري : تخرج من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام وقيل : من أرض الطائف قال أبو قبيل : ضرب عبد الله بن عمرو أرض الطائف برجله وقال : من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس وقيل : من بعض أودية تهامة قاله بن عباس وقيل : من صخرة من شعب أجياد قاله عبد الله بن عمرو وقيل : من بحر سدوم قاله وهب بن منبه ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الماوردي في كتابه وذكر البغوي أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال : حدثنا علي بن الجعد عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الأغر وسئل عنه يحيى بن معين فقال ثقة عن عطية العوفي عن بن عمر قال تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها قلت : فهذه أقوال الصحابة والتابعين في خروج الدابة وصفتها وهي ترد قول من قال من المفسرين : إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر وقد روى أبو أمامة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم ) ذكره الماوردي تكلمهم بضم التاء وشد اللام المكسورة من الكلام قراءة العامة يدل عليه قراءة أبي تنبئهم وقال السدي : تكلمهم ببطلان الأديان سوى "صفحة رقم 238" دين الإسلام وقيل : تكلمهم بما يسوءهم وقيل : تكلمهم بلسان ذلق فتقول بصوت يسمعه من قرب وبعد ) إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ( أي بخروجي لأن خروجها من الآيات وتقول : ألا لعنة الله على الظالمين وقرأ أبو زرعة وبن عباس والحسن وأبو رجاء : تكلمهم بفتح التاء من الكلم وهو الجرح قال عكرمة : أي تسمهم وقال أبو الجوزاء : سألت بن عباس عن هذه الآية تكلمهم أو تكلمهم فقال : هي والله تكلمهم وتكلمهم تكلم المؤمن وتكلم الكافر والفاجر أي تجرحه وقال أبو حاتم تكلمهم كما تقول تجرحهم يذهب إلى أنه تكثير من تكلمهم ) إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ( وقرأ الكوفيون وبن أبي إسحاق ويحيى : أن بالفتح وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة : إن بكسر الهمزة قال النحاس : في المفتوحة قولان وكذا المكسورة قال الأخفش : المعنى بأن وكذا قرأ بن مسعود بأن وقال أبو عبيدة : موضعها نصب بوقوع الفعل عليها أي تخبرهم أن الناس وقرأ الكسائي والفراء : ) إن الناس ( بالكسر على الاستئناف وقال الأخفش : هي بمعنى تقول إن الناس يعني الكفار بآياتنا لا يوقنون يعني بالقرآن وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانا ولم يبق إلا مؤمنون وكافرون في علم الله قبل خروجها والله أعلم قوله تعالى : ) ويوم نحشر من كل أمة فوجا ( أي زمرة وجماعة ) ممن يكذب بآياتنا ( يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق ) فهم يوزعون ( أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب قال الشماخ : وكم وزعنا من خميس جحفل وكم حبونا من رئيس مسحل وقال قتادة : يوزعون أي يرد أولهم على آخرهم ) حتى إذا جاؤوا قال ( أي قال الله ) أكذبتم بآياتي ( التي أنزلتها على رسلي وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي ) ولم تحيطوا بها علما ( أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها بل كذبتم جاهلين غير مستدلين ) أماذا كنتم تعملون ( تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا "صفحة رقم 239" ما فيها ) ووقع القول عليهم بما ظلموا ( أي وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم ) فهم لا ينطقون ( أي ليس لهم عذر ولا حجة وقيل : يختم على أفواههم فلا ينطقون قاله أكثر المفسرين قوله تعالى : ) ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ( أي يستقرون فينامون ) والنهار مبصرا ( أي يبصر فيه لسعي الرزق ) إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( بالله ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته أي ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا النمل : ) 87 ( ويوم ينفخ في . . . . . ) النمل 87 : 90 ( قوله تعالى : ) يوم ينفخ في الصور ( أي واذكر يوم أو ذكرهم يوم ينفخ في الصور ومذهب الفراء أن المعنى : وذلكم يوم ينفخ في الصور وأجاز فيه الحذف والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل قال مجاهد : كهيئة البوق وقيل : هو البوق بلغة أهل اليمن وقد مضى في الأنعام بيانه وما للعلماء في ذلك ) ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ( قال أبو هريرة قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إن الله لما فرغ من خلق السماوات خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخة ) قلت : يا رسول الله ما الصور قال "صفحة رقم 240" ) قرن والله عظيم والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفحة الصعق والثالثة نفخة البعث والقيام لرب العالمين ) وذكر الحديث ذكره علي بن معبد والطبري والثعلبي وغيرهم وصححه بن العربي وقد ذكرته في كتاب التذكرة وتكلمنا عليه هنالك وأن الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لازمان لهما أي فزعوا فزعا ماتوا منه أو إلى نفخة البعث وهو اختيار القشيري وغيره فإنه قال في كلامه على هذه الآية : والمراد النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون : من بعثنا من مرقدنا ويعاينون من الأمر ما يهولهم ويفزعهم وهذا النفخ كصوت البوق لتجتمع الخلق في أرض الجزاء قاله قتادة وقال الماوردي : ويوم ينفخ في الصور هو يوم النشور من القبور قال وفي هذا الفزع قولان : أحدهما أنه الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم : فزعت إليك في كذا إذا أسرعت إلى ندائك في معونتك والقول الثاني : إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحزن لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا وهذا أشبه القولين قلت : والسنة الثابتة من حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث خرجهما مسلم وقد ذكرناهما في كتاب التذكرة وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان قال الله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما 2 واحدة وقد روى بن المبارك عن الحسن قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) 2 ) بين النفختين أربعون سنة الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيى الله بها كل ميت ) فإن قيل : فإن قوله تعالى : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة إلى أن قال : 2 فإنما هي زجرة واحدة وهذا يقتضى بظاهره أنها ثلاث قيل له : ليس كذلك وإنما المراد بالزجرة النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم كذلك قال بن عباس ومجاهد https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (13) سُورَةُ النمل من صــ 241 الى صــ 250 الحلقة (543) "صفحة رقم 241" وعطاء وبن زيد وغيرهم قال مجاهد : هما صيحتان أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله وأما الأخرى فتحيي كل شيء بإذن الله وقال عطاء الراجفة القيامة والرادفة البعث وقال بن زيد : الراجفة الموت والرادفة الساعة والله أعلم إلا من شاء الله ثم اختلف في هذا المستثنى من هم ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون إنما يصل الفزع إلى الأحياء وهو قول سعيد بن جبير أنهم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وقال القشيري : الأنبياء داخلون في جملتهم لأن لهم الشهادة مع النبوة وقيل : الملائكة قال الحسن : استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين قال مقاتل : يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل : الحور العين وقيل : هم المؤمنون لأن الله تعالى قال عقيت هذا : من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون وقال بعض علمائنا : والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل قلت : خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي فليعول عليه لأنه نص في التعيين وغيره اجتهاد والله أعلم وقيل : غير هذا على ما يأتي في الزمر وقوله : ففزع من في السماوات ماض وينفخ مستقبل فيقال : كيف عطف ماض على مستقبل فزعم الفراء أن هذا محمول على المعنى لأن المعنى : إذا نفخ في الصور ففزع إلا من شاء الله نصب على الاستثناء ) وكل أتوه داخرين ( قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي ونافع وبن عامر وبن كثير : آتوه جعلوه فعلا مستقبلا وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة وحفص عن عاصم : وكل أتوه مقصورا على الفعل الماضي وكذلك قرأه بن مسعود وعن قتادة وكل أتاه داخرين قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق في القراءات من قرأ : وكل أتوه وحده على لفظ كل ومن قرأ : آتوه جمع على معناها وهذا القول غلط قبيح لأنه إذا قال : وكل أتوه فلم يوحد وإنما جمع "صفحة رقم 242" ولو وحد لقال : أتاه ولكن من قال : أتوه جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنه رده إلى ففزع ومن قرأ : وكل آتوه حمله على المعنى أيضا وقال : آتوه لأنها جملة منقطعة من الأول قال بن نصر : قد حكى عن أبي إسحاق رحمه الله ما لم يقله ونص أبي إسحاق : وكل أتوه داخرين ويقرأ : آتوه فمن وحد فللفظ كل ومن جمع فلمعناها يريد ما أتى في القرآن أو غيره من توحيد خبر كل فعلى اللفظ أو جمع فعلى المعنى فلم يأخذ أبو جعفر هذا المعنى قال المهدوي : ومن قرأ وكل أتوه داخرين فهو فعل من الإتيان وحمل على معنى كل دون لفظها ومن قرأ : وكل آتوه داخرين فهو اسم الفاعل من أتى يدلك على ذلك قوله تعالى : ) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ومن قرأ : وكل أتاه حمله على لفظ كل دون معناها وحمل داخرين على المعنى ومعناه صاغرين عن بن عباس وقتادة وقد مضى في النحل قوله تعالى : ) وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ( قال بن عباس : أي قائمة وهي تسير سيرا حثيثا قال القتبي : وذلك أن الجبال تجمع وتسير فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير وكذلك كل شيء عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر لكثرته وبعد ما بين أطرافه وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير قال النابغة في وصف جيش : بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج قال القشيري وهذا يوم القيامة أي هي لكثرتها كأنها جامدة أي واقفة في مرأى العين وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب والسحاب المتراكم يظن أنها واقفة وهي تسير أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء فقال الله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا ويقال : إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه فأول الصفات الإندكاك وذلك قبل الزلزلة ثم تصير كالعهن المنفوش وذلك إذا صارت السماء كالمهل وقد جمع الله بينهما فقال : يوم تكون السماء كالمهل "صفحة رقم 243" وتكون الجبال كالعهن والحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن والحالة الرابعة أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها لتبرز فإذا نسفت فبإرسال الرياح عليها والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها على وجه الأرض فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجسادا جامدة وهي بالحقيقة مارة إلا أن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة والحالة السادسة أن تكون سرابا فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا منها كالسراب قال مقاتل : تقع على الأرض فتسوى بها ثم قيل هذا مثل قال الماوردي : وفيهما ضرب له ثلاثة أقوال : أحدها أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب قاله سهل بن عبد الله الثاني : أنه مثل ضربه الله للإيمان تحسبه ثابتا في القلب وعمله صاعد إلى السماء الثالث : أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى العرش ) صنع الله الذي أتقن كل شيء ( أي هذا من فعل الله وما هو فعل منه فهو متقن وترى من رؤية العين ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين والأصل ترأى فألقيت حركة الهمزة على الراء فتحركت الراء وحذفت الهمزة وهذا سبيل تخفيف الهمزة إذا كان قبلها ساكن إلا أن التخفيف لازم لترى وأهل الكوفة يقرؤون : تحسبها بفتح السين وهو القياس لأنه من حسب يحسب إلا أنه قد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل فتكون على فعل يفعل مثل نعم ينعم وبئس يبئس وحكى يئس ييئس من السالم لا يعرف في كلام العرب غير هذه الأحرف وهي تمر مر السحاب تقديره مرا مثل مر السحاب فأقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف مقام المضاف إليه فالجبال تزال من أماكنها من على وجه الأرض وتجمع وتسير كما تسير السحاب ثم تكسر فتعود إلى الأرض كما قال : وبست الجبال بسا صنع الله عند الخليل وسيبويه منصوب على أنه مصدر لأنه لما قال عز وجل : وهي تمر مر السحاب دل على أنه قد صنع ذلك صنعا ويجوز النصب على الإغراء أي انظروا صنع الله فيوقف "صفحة رقم 244" على هذا على السحاب ولا يوقف عليه على التقدير الأول ويجوز رفعه على تقدير ذلك صنع الله الذي أتقن كل شيء أي أحكمه ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) رحم الله من عمل عملا فأتقنه ) وقال قتادة : معناه أحسن كل شيء والإتقان الإحكام يقال : رجل تقن أي حاذق بالأشياء وقال الزهري : أصله من بن تقن وهو رجل من عاد لم يكن يسقط له سهم فضرب به المثل يقال : أرمى من بن تقن ثم يقال لكل حاذق بالأشياء تقن ) إنه خبير بما تغعلون ( الباقون تفعلون بالتاء على الخطاب قراءة الجمهور وقرأ بن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء قوله تعالى : ) من جاء بالحسنة فله خير منها ( قال بن مسعود وبن عباس رضي الله عنهما : الحسنة لا إله إلا الله وقال أبو معشر : كان إبراهيم يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ولا يستثني أن الحسنة لا إله إلا الله محمد رسول الله وقال علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم : غزا رجل فكان إذا خلا بمكان قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له فبينما هو في أرض الروم في أرض جلفاء وبردى رفع صوته فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له فخرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض فقال له : والذي نفسي بيده إنها الكلمة التي قال الله تعالى : من جاء بالحسنة فله خير منها وروى أبو ذر قال : قلت يا رسول الله أوصني قال : ) اتق الله وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها ) قال قلت : يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله قال : ) من أفضل الحسنات ) وفي رواية قال : ) نعم هي أحسن الحسنات ) ذكره البيهقي وقال قتادة : من جاء بالحسنة بالإخلاص والتوحيد وقيل : أداء الفرائض كلها قلت : إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها وما يجب لها على ما تقدم بيانه في سورة إبراهيم فقد أتى بالتوحيد والإخلاص والفرائض فله خير منها قال بن عباس : أي وصل إليه الخير منها وقاله مجاهد وقيل : فله الجزاء الجميل وهو الجنة وليس خير للتفضيل قال عكرمة وبن جريج : أما أن يكون له خير منها يعني من الإيمان فلا فإنه ليس شيء خيرا ممن قال لا إله إلا الله ولكن له منها خير وقيل : فله خير منها للتفضيل أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد "صفحة رقم 245" قاله بن عباس وقيل : يرجع هذا إلى الإضعاف فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشرا وبالإيمان في مدة يسيرة الثواب الأبدي قاله محمد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد ) وهم من فزع يومئذ آمنون ( قرأ عاصم وحمزة والكسائي فزع يومئذ بالإضافة قال أبو عبيد : وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم وإذا قال : من فزع يومئذ صار كأنه فزع دون فزع دون فزع قال القشيري : وقرئ : من فزع بالتنوين ثم قيل يعني به فزعا واحدا كما قال : لا يحزنهم الفزع الأكبر وقيل : عني الكثرة لأنه مصدر والمصدر صالح للكثرة قلت : فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى قال المهدوي : ومن قرأ : من فزع يومئذ بالتنوين انتصب يومئذ بالمصدر الذي هو فزع ويجوز أن يكون صفة لفزع ويكون متعلقا بمحذوف لأن المصادر يخبر عنها بأسماء الزمان وتوصف بها ويجوز أن يتعلق باسم الفاعل الذي هو آمنون والإضافة على الاتساع في الظروف ومن حذف التنوين وفتح الميم بناه لأنه ظرف زمان وليس الإعراب في ظرف الزمان متمكنا فلما أضيف إلى غير متمكن ولا معرب بني وأنشد سيبويه : على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلا زريق المال ندل الثعالب قوله تعالى : ) ومن جاء بالسيئة ( أي بالشرك قاله بن عباس والنخعي وأبو هريرة ومجاهد وقيس بن سعد والحسن وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة لا إله إلا الله وأن السيئة الشرك في هذه الآية ) فكبت وجوههم في النار ( قال بن عباس : ألقيت وقال الضحاك : طرحت يقال كببت الإناء أي قلبته على وجهه واللازم من أكب وقلما يأتي هذا في كلام العرب ) هل تجزون ( أي يقال لهم هل تجزون ثم يجوز أن يكون من قول الله ويجوز أن يكون من قول الكلائكة ) إلا ما كنتم تعملون ( أي إلا جزاء أعمالكم "صفحة رقم 246" النمل : ) 91 ( إنما أمرت أن . . . . . ) النمل 91 : 93 ( قوله تعالى : ) إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها ( يعني مكة التي عظم الله حرمتها أي جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد فيها صيد ولا يعضد فيها شجر على ما تقدم بيانه في غير موضع وقرأ بن عباس : التي حرمها نعتا للبلدة وقراءة الجماعة الذي وهو في موضع نصب نعت ل رب ولو كان بالألف واللام لقلت المحرمها فإن كانت نعتا للبلدة قلت المحرمها هو لا بد من إظهار المضمر مع الألف واللام لأن الفعل جرى على غير من هو له فإن قلت الذي حرمها لم تحتج أن تقول هو ) وله كل شيء ( خلقا وملكا ) وأمرت أن أكون من المسلمين ( أي من المنقادين لأمره الموحدين له ) وأن أتلو القرآن ( أي وأمرت أن أتلو القرآن أي أقرأه ) فمن اهتدى ( فله ثواب هدايته ) ومن ضل ( فليس علي إلا البلاغ نسختها آية القتال قال النحاس وأن أتلو نصب بأن قال الفراء : وفي إحدى القراءتين وأن اتل وزعم أنه في موضع جزم بالأمر فلذلك حذف منه الواو قال النحاس : ولا نعرف أحدا قرأ هذه القراءة وهي مخالفة لجميع المصاحف قوله تعالى : ) وقل الحمد لله ( أي على نعمه وعلى ما هدانا ) سيريكم آياته ( لإي في أنفسكم وفي غيركم كما قال : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) فتعرفونها ( أي دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسكم وفي السماوات وفي الأرض نظيره قوله تعالى : وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) وما ربك بغافل عما تعملون ( "صفحة رقم 247" قرأ أهل المدينة وأهل الشام وحفص عن عاصم بالتاء على الخطاب لقوله : سيريكم آياته فتعرفونها فيكون الكلام على نسق واحد الباقون بالياء على أن يرد إلى ما قبله فمن اهتدى فأخبر عن تلك الآية كملت السورة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم سورة القصص مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وقال بن عباس وقتادة إلا آية نزلت بين مكة والمدينة وقال بن سلام : بالجحفة في وقت هجرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة وهي قوله عز وجل : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد وقال مقاتل : فيها من المدني الذين آتيناهم الكتاب إلى قوله : لا نبتغي الجاهلين وهي ثمان وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة القصص القصص : ) 1 ( طسم ) القصص 1 : 6 ( قوله تعالى : ) طسم ( تقدم الكلام فيه ) تلك آيات الكتاب المبين ( تلك في موضع رفع بمعنى هذه تلك وآيات بدل منها ويجوز أن يكون في موضع نصب ب نتلو وآيات بدل منها أيضا وتنصبها كما تقول : زيدا ضربت والمبين أي المبين بركته وخيره ، والمبين الحق من الباطل ، والحلال من الحرام ، وقصص الأنبياء ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ يقال : بان الشيء وأبان اتضح. {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ذكر قصة موسى عليه السلام وفرعون وقارون ، واحتج على مشركي قريش ، وبين أن قرابة قارون من موسى لم تنفعه مع كفره ، وكذلك قرابة قريش لمحمد ، وبين أن فرعون علا في الأرض وتجبر ، فكان ذلك من كفره ، فليجتنب العلو في الأرض ، وكذلك التعزز بكثرة المال ، وهما من سيرة فرعون وقارون {نَتْلُو عَلَيْكَ} أي يقرأ عليك جبريل بأمرنا {مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} أي من خبرهما و {مِنْ} للتبعيض و {مِنْ نَبَأِ} مفعول {نَتْلُو} أي نتلو عليك بعض خبرهما ؛ كقوله تعالى : {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون : 20] ومعنى : {بِالْحَقِّ} أي بالصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي يصدقون بالقرآن ويعلمون أنه من عند الله ؛ فأما من لم يؤمن فلا يعتقد أنه حق قوله تعالى : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} أي استكبر وتجبر ؛ قاله ابن عباس والسدي وقال قتادة : علا في نقسه عن عبادة ربه بكفره وادعى الربوبية وقيل : بملكه وسلطانه فصار عاليا على من تحت يده {فِي الأَرْضِ} أي أرض مصر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أي فرقا وأصنافا في الخدمة قال الأعشى : وبلدة يرهب الجواب دجلتها ... حتى تراه عليها يبتغى الشيعا {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} أي من بني إسرائيل {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} تقدم القول في هذا في {البقرة} عند قوله : {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة : 49] الآية ؛ وذلك لأن الكهنة قالوا له : إن مولودا يولد في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه ، أو قال المنجمون له ذلك ، أو رأى رؤيا فعبرت كذلك قال الزجاج : العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع ، وإن كذب فلا معنى للقتل وقيل : جعلهم شيعا فاستسخر كل قوم من بني إسرائيل في شغل مفرد {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي في الأرض بالعمل والمعاصي والتجبر. قوله تعالى : {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} أي نتفضل عليهم وننعموهذه حكاية مضت {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} قال ابن عباس : قادة في الخير مجاهد : دعاة إلى الخير. قتادة : ولاة وملوكا ؛ دليله قوله تعالى : {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} [المائدة : 20] قلت : وهذا أعم فإن الملك إمام يؤتم به ومقتدى به . {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} لملك فرعون ؛ يرثون ملكه ، ويسكنون مساكن القبط وهذا معنى قوله تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف : 137] قوله تعالى : {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي نجعلهم مقتدرين على الأرض وأهلها حتى يُستولى عليها ؛ يعني أرض الشام ومصر {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} أي ونريد أن نري فرعون وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف : {وَيَرِيَ} بالياء على أنه فعل ثلاثي من رأى {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} رفعا لأنه الفاعل الباقون {نُرِيَ} بضم النون وكسر الراء على أنه فعل وباعي من أري يري ، وهي علي نسق الكلام ؛ لأن قبله {ونريد} وبعده {وَنُمَكِّنَ} {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} نصبا بوقوع الفعل وأجاز الفراء {وَيُرِيَ فرعَوْنُ} بضم الياء وكسر الراء وفتح الياء ويري الله فرعون {مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجل {مِنْهُمْ} فأراهم الله {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} قال قتاد : كان حازيا لفرعون ـ والحازي المنجم ـ قال إنه سيولد في هذه السنة مولود يذهب بملكك ؛ فأمر فرعون بقتل الولدان في تلك السنة وقد تقدم الآية : [7] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية : [8] {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} الآية : [9] {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} قد تقدم معنى الوحي ومحامله واختلف في هذا الوحي إلى أم موسى ؛ فقالت فرقة : كان قولا في منامها وقال قتادة : كان إلهاما وقالت فرقة : كان بملك يمثل لها ، قال مقاتل ـ أتاها جبريل بذلك فعلي هذا هو وحي إعلام لا إلهام وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية ، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى في الحديث المشهور ؛ خرجه البخاري ومسلم ، وقد ذكرناه في سورة {براءة} وغير ذلك مما روي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة ، وقد سلمت على عمران بن حصين فلم يكن بذلك نبيا واسمها أيارخا وقيل أيارخت فيما ذكر السهيلي وقال الثعلبي : واسم أم موسي لوحا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب {أَنْ أَرْضِعِيهِ} وقرأ عمر بن عبدالعزير : {أَنِ أَرْضِعِيهِ} بكسر النون وألف وصل ؛ حذف همزة أرضع تخفيفا ثم كسر النون لالتقاء الساكنين قال مجاهد : وكان الوحي بالرضاع قبل الولادة. وقال غيره بعدها. قال السدي : لما ولدت أم موسى أمرت أن ترضعه عقيب الولادة وتصنع به بما في الآية ؛ لأن الخوف كان عقيب الولادة وقال ابن جريج : أمرت بإرضاعه أربعة أشهر في بستان ، فإذا خافت أن يصيح ـ لأن لبنها لا يكفيه ـ صنعت به هذا والأول أظهر إلا أن الآخر يعضده قوله : {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} و {إِذا} لما يستقبل من الزمان ؛ فيروي أنها |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (13) سُورَةُ النمل من صــ 251 الى صــ 260 الحلقة (544) أتخذت له تابوتا من بردي وقيرته بالقار من داخله ، ووضعت فيه موسى وألقته في نيل مصر وقد مضى خبره في {طه} قال ابن عباس : إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ، فسلط الله عليهم القبط ، وساموهم سوء العذاب ، إلى أن نجاهم الله على يد موسى قال وهب : بلغني أن فرعون ذبح في طلب موسى سبعين ألف وليد ويقال : تسعون ألفا ويروي أنها حين اقتربت وضربها الطلق ، وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها ، فقالت : لينفعني حبك اليوم ، فعالجتها فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ، وأرتعش كل مفصل منها ، ودخل حبه قلبها ، ثم قالت : ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون ، ولكني وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله قط ، فاحفظيه ؛ فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور نارا لم تعلم ما تصنع لما طاش عقلها ، فطلبوا فلم يلفوا شيئا ، فخرجوا وهي لا تدري مكانه ، فسمعت بكاءه من التنور ، وقد جعل الله عليه النار بردا وسلاما. قوله تعالى : {وَلا تَخَافِي} فيه وجهان : أحدهما : لا تخافي عليه الغرق ؛ قاله ابن زيد الثاني : لا تخافي عليه الضيعة ؛ قاله يحيى بن سلام {وَلا تَحْزَنِي} فيه أيضا وجهان : أحدهما : لا تحزني لفراقه ؛ قاله ابن زيد الثاني : لا تحزني أن يقتل ؛ قاله يحيى بن سلام فقيل : إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار ، وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في اليم بعد أن أرضعته أربعة أشهر وقال آخرون : ثلاثة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر ؛ في حكاية الكلبيوحكي أنه لما فرغ النجار من صنعة التابوت نم إلى فرعون بخبره ، فبعث معه من يأخذه ، فطمس الله عينيه وقلبه فلم يعرف الطريق ، فأيقن أنه المولود الذي يخاف منه فرعون ، فآمن من ذلك الوقت ؛ وهو مؤمن آل فرعون ؛ ذكره الماوردي. وقال ابن عباس : فلما توارى عنها ندمها الشيطان وقالت في نفسها : لو ذبح عندي فكفنته وواريته لكان أحب إلي من إلقائه في البحر فقال الله تعالى : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي إلى أهل مصر. حكى الأصمعي قال : سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول : أستغفر الله لذنبي كله ... قبلت إنسانا بغير حله مثل الغزال ناعما في دله ... فأنتصف الليل ولم أصله فقلت : قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت : أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. قوله تعالى : {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} لما كان التقاطهم إياه يؤدي إلى كونه لهم عدوا وحزنا ؛ فاللام في {لِيَكُونَ} لام العاقبة ولام الصيرورة ؛ لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين ، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا ، فذكر الحال بالمآل ؛ كما قال الشاعر : وللمنايا تربي كل مرضعة ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها وقال آخر : فللموت تغذو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن أي فعاقبة البناء الخراب وإن كان في الحال مفروحا به والالتقاط وجود الشيء من غير طلب ولا إرادة ، والعرب تقول لما وجدته من غير طلب ولا إرادة : التقطه التقاطا ولقيت فلانا التقاطا قال الراجز : ومنهل وردته التقاطا ومن اللقطة وقد مضى بيان ذلك من الأحكام في سورة {يُوسُفُ} بما فيه كفاية وقرأ الأعمش ويحيى والمفضل وحمزة والكسائي وخلف : {وَحَزَناً} بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بفتحهما واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قال التفخيم فيه وهما لغتان مثل العدم والعدم ، والسقم والسقم ، والرشد والرشد {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} وكان وزيره من القبط {وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي عاصين مشركين آثمين. قوله تعالى : {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر ، فأمرت بسوقه إليها وفتحه فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته ؛ فقالت لفرعون : {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} أي هو قرة عين لي ولك فـ {قُرَّةُ} خبر ابتداء مضمر ؛ قاله الكسائي وقال النحاس : وفيه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسحاق ؛ قال : يكون رفعا بالابتداء والخبر {لا تَقْتُلُوهُ} وإنما بعد لأنه يصير المعنى أنه معروف بأنه قرة عين وجوازه أن يكون المعنى : إذا كان قرة عين لي ولك فلا تقتلوه. وقيل : تم الكلام عند قوله : {وَلَكَ} النحاس : والدليل على هذا أن في قراءة عبدالله بن مسعود : {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} ويجوز النصب بمعنى لا تقتلوا قرة عين لي ولك وقالت : {لا تَقْتُلُوهُ} ولم تقل لا تقتله فهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبارون ؛ وكما يخبرون عن أنفسهم وقيل : قالت : {لا تَقْتُلُوهُ} فإن الله أتى به من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} فنصيب منه خيرا {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها ، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه ـ على ما تقدم - قالوا له إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك ؛ فأخذ بني إسرائيل بذبح الأطفال ، فرأى أنه يقطع نسلهم فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما ، فولد هارون في عام الاستحياء ، وولد موسى في عام الذبح. قوله تعالى : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} هذا ابتداء كلام من الله تعالى ؛ أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وقيل : هو من كلام المرأة ؛ أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه ، ولا يشعرون إلا أنه ولدنا واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فقالت فرقة : كان ذلك عند التقاطه التابوت لما أشعرت فرعون به ولما أعلمته سبق إلى فهمه أنه من بني إسرائيل ، وأن ذلك قصد به ليتخلص من الذبح فقال : علي بالذباحين ؛ فقالت امرأته ما ذكر فقال فرعون : أما لي فلا. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له" وقال السدي : بل ربته حتى درج فرأى فرعون فيه شهامة وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده ، فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ يذبحه ، وحينئذ خاطبته بهذا ، وجربته له في الياقوتة والجمرة ، فاحترق لسانه وعلق العقدة على ما تقدم في {طه} قال الفراء : سمعت محمد بن مروان الذي يقال له السدي يذكر عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس أنه قال : إنما قالت {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا} ثم قالت : {تَقْتُلُوهُ} قال الفراء : وهو لحن ؛ قال ابن الأنباري : وإنما حكم عليه باللحن لأنه لو كان كذلك لكان تقتلونه بالنون ؛ لأن الفعل المستقبل مرفوع حتى يدخل عليه الناصب أو الجازم ، فالنون فيه علامة الرفع قال الفراء : ويقويك على رده قراءة عبدالله بن مسعود {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ لا تَقْتُلُوهُ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} بتقديم {لا تَقْتُلُوهُ} الآية : [10] {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية : [11] {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} الآية : [12] {وَحَرَّمنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} الآية : [13] {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} الآية : [14] {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} قوله تعالى : {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عمران الجوني وأبو عبيدة : {فَارِغاً} أي خاليا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى وقال الحسن أيضا وابن إسحاق وابن زيد : {فَارِغاً} من الوحي إذ أوحى إليها حين أمرت أن تلقيه في البحر {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} والعهد الذي عهده إليها أن يرده ويجعله من المرسلين ؛ فقال لها الشيطان : يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فغرقتيه أنت ! ثم بلغها أن ولدها وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها وقال أبو عبيدة : {فَارِغاً} من الغم والحزن لعلمها أنه لم يغرق ؛ وقاله الأخفش أيضا وقال العلاء بن زياد : {فَارِغاً} نافرا الكسائي : ناسيا ذاهلا وقيل : والها ؛ رواه سعيد بن جبير ابن القاسم عن مالك : هو ذهاب العقل ؛ والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش ، ونحوه قوله تعالى : {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} أي جوف لا عقول لها كما تقدم في سورة {إبراهيم} وذلك أن القلوب مراكز العقول ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ويدل عليه قراءة من قرأ : {فزعا} النحاس : أصح هذه الأقوال الأول ، والذين قالوه أعلم بكتاب الله عز وجل ؛ فإذا كان فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي وقول أبي عبيدة فارغا من الغم غلط قبيح ؛ لأن بعده {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كادت تقول وا إبناه ! وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه ومحمد بن السميقع وأبو العالية وابن محيصن : {فزعا} بالفاء والعين المهملة من الفزع ، أي خائفة عليه أن يقتل ابن عباس : {قرعا} بالقاف والراء والعين المهملتين ، وهى راجعة إلى قراءة الجماعة {فارغا} ولذلك قيل للرأس الذي لا شعر عليه : أقرع ؛ لفراغه من الشعر وحكي قطرب أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : {فرغا} : الفاء والراء والغين المعجمة من غير ألف ، وهو كقولك : هدرا وباطلا ؛ يقال : دماؤهم بينهم فرغ أي هدر ؛ والمعنى بطل قلبها وذهب وبقيت لا قلب لها من شدة ما ورد عليها وفي قوله تعالى : {وَأَصْبَحَ} وجهان : أحدهما : أنها ألقته ليلا فأصبح فؤادها في النهار فارغا الثاني : ألقته نهارا ومعنى : {وأصبح} أي صار ؛ كما قال الشاعر : مضى الخلفاء بالأمر الرشيد ... وأصبحت المدينة للوليد قوله تعالى : {إِنْ كَادَتْ} أي إنها كادت ؛ فلما حذفت الكناية سكنت النون فهي {إِنْ} المخففة ولذلك دخلت اللام في {لَتُبْدِي بِهِ} أي لتظهر أمره ؛ من بدا يبدو إذا ظهر قال ابن عباس : أي تصيح عند إلقائه : وا إبناه السدي : كادت تقول لما حملت لإرضاعه وحضانته هو ابني وقيل : إنه لما شب سمعت الناس يقولون موسى بن فرعون ؛ فشق عليها وضاق صدرها ، وكادت تقول هو ابني وقيل : الهاء في {بِهِ} عائدة إلى الوحي تقديره : إن كانت لتبدي بالوحي الذي أوحيناه إليها أن نرده عليها والأول أظهر قال ابن مسعود : كادت تقول أنا أمه وقال الفراء : إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها. {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} قال قتادة : بالإيمان السدي : بالعصمة وقيل : بالصبر والربط على القلب : إلهام الصبر. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي من المصدقين بوعد الله حين قال لها : {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} وقال : {لَتُبْدِي بِهِ} ولم يقل : لتبديه ؛ لأن حروف الصفات قد تزاد في الكلام ؛ تقول : أخذت الحبل وبالحبل وقيل : أي لتبدي القول به. قوله تعالى : {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي قالت أم موسى لأخت موسى : اتبعي أثره حتى تعلمي خبره واسمها مريم بنت عمران ؛ وافق اسمها اسم مريم أم عيسى عليه السلام ؛ ذكره السهيلي والثعلبي وذكر الماوردي عن الضحاك : أن اسمها كلثمة وقال السهيلي : كلثوم ؛ جاء ذلك في حديث رواه الزبير بن بكار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : "أشعرت أن الله زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون" فقالت : الله أخبرك بهذا ؟ فقال : "نعم" فقالت : بالرفاء والبنين. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي بعد ؛ قال مجاهد ومنه الأجنبي قال الشاعر : فلا تحرمني نائلا عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب وأصله عن مكان جنب وقال ابن عباس : {عَنْ جُنُبٍ} أي عن جانب وقرأ النعمان بن سالم : {عَنْ جانِبٍ} أي عن ناحية وقيل : عن شوق ؛ وحكى أبو عمرو بن العلاء أنها لغة لجذام ؛ يقولون : جنبت إليك أي أشتقت وقيل : {عَنْ جُنُبٍ} أي عن مجانبة لها منه فلم يعرفوا أنها أمه بسبيل وقال قتادة : جعلت تنظر إليه بناحية كأنها لا تريده ، وكان يقرأ : {عن جنب} بفتح الجيم وإسكان النون. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه. قوله تعالى : {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي منعناه من الارتضاع من قبل ؛ أي من قبل مجيء أمه وأخته و {الْمَرَاضِعَ} جمع مرضع ومن قال مراضيع فهو جمع مرضاع ، ومفعال يكون للتكثير ، ولا تدخل الهاء فيه فرقا بين المؤنث والمذكر لأنه ليس بجار على الفعل ، ولكن من قال مرضاعة جاء بالهاء للمبالغة ؛ كما يقال مطرابة قال ابن عباس : لا يؤتى بمرضع فيقبلها وهذا تحريم منع لا تحريم شرع ؛ قال امرؤ القيس : جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام أي ممتنع فلما رأت أخته ذلك قالت {أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} الآية. فقالوا لها عند قولها : {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} وما يدريك ؟ لعلك تعرفين أهله ؟ فقالت : لا ، ولكنهم يحرصون على مسرة الملك ، ويرغبون في ظئره وقال السدي وابن جريج : قيل لها لما قالت : {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} قد عرفت أهل هذا الصبي فدلينا عليهم ، فقالت : أردت وهم للملك ناصحون فدلتهم على أم موسى ، فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها ، والصبي علي يد فرعون يعلله شفقة عليه ، وهو يبكي يطلب الرضاع ، فدفعه إليها ؛ فلما وجد الصبي ريح أمة قبل ثديها وقال ابن زيد استرابوها حين قالت ذلك فقالت : وهم للملك ناصحون وقيل : إنها لما قالت : {أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} وكانوا يبالغون في طلب مرضعة يقبل ثديها فقالوا : من هي ؟ فقالت : أمي ، فقيل : لها لبن ؟ قالت : نعم ! لبن هارون ـ وكان ولد في سنة لا يقتل فيها الصبيان ـ فقالوا صدقت والله. {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أي فيهم شفقة ونصح ، فروي أنه قيل لأم موسى حين ارتضع منها : كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك ؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن ، لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني قال أبو عمران الجوني : وكان فرعون يعطي أم موسي كل يوم دينارا قال الزمخشري : فإن قلت كيف حل لها أن تأخذ الأجر علي إرضاع ولدها ؟ قلت : ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع ، ولكنه مال حربي تأخذه علي وجه الاستباحة. قوله تعالى : {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} أي رددناه وقد عطف الله قلب العدو عليه ، ووفينا لها بالوعد {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أي بولدها {وَلا تَحْزَنَ} أي بفراق ولدها {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي لتعلم وقوعه فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} يعني أكثر آل فرعون لا يعلمون ؛ أي كانوا في غفلة عن التقرير وسر القضاء وقيل : أي أكثر الناس لا يعلمون أن وعد الله في كل ما وعد حق. قوله تعالى : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} قد مضى الكلام في الأشد في {الأنعام} وقول ربيعة ومالك أنه الحُلُم أولى ما قيل فيه ، لقوله تعالي : {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فإن ذلك أول الأشد ، وأقصاه أربع وثلاثون سنة ، وهو قول سفيان الثوري ، {وَاسْتَوَى} قال ابن عباس : بلغ أربعين سنة والحكم : الحكمة قبل النبوة وقيل : الفقة في الدين وقد مضى بيانها في {البقرة} وغيرها والعلم الفهم في قول السدي وقيل : النبوة وقال مجاهد : الفقه محمد بن إسحاق : أي العلم بما في دينه ودين آبائه ، وكان له تسعة من بني إسرائيل يسمعون منه ، ويقتدون به ، ويجتمعون إليه ، وكان هذا قبل النبوة. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي كما جزينا أم موسى لما استسلمت لأمر الله ، وألقت ولدها في البحر ، وصدقت بوعد الله ، فرددنا ولدها إليها بالتحف والطرف وهي آمنة ، ثم وهبنا له العقل والحكمة والنبوة ، وكذلك نجزي كل محسن. الآية : [15] {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} الآية : [16] {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الآية : [17] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} الآية : [18] {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} الآية : [19] {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} قوله تعالى : {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} قيل : لما عرف موسى عليه السلام ما هو عليه من الحق في دينه ، عاب ما عليه قوم فرعون ؛ وفشا ذلك ، منه فأخافوه فخافهم ، فكان لا يدخل مدينة فرعون إلا خائفا مستخفيا وقال السدي : كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلق بفرعون ، وكان يركب مراكبه ، حتى كان يدعى موسى بن فرعون ؛ فركب فرعون يوما وسار إلى مدينة من مدائن مصر يقال لها منف ـ قال مقاتل على رأس فرسخين من مصر ـ ثم علم موسى بركوب فرعون ، فركب بعده ولحق بتلك القرية في وقت القائلة ، وهو وقت الغفلة ؛ قال ابن عباس وقال أيضا : هو بين العشاء والعتمة وقال ابن إسحاق : بل المدينة مصر نفسها ، وكان موسى في هذا الوقت قد أظهر خلاف فرعون ، وعاب عليهم عبادة فرعون والأصنام ، فدخل مدينة فرعون يوما على حين غفلة من أهلها قال سعيد بن جبير وقتادة : وقت الظهيرة والناس نيام وقال ابن زيد : كان فرعون قد نابذ موسى وأخرجه من المدينة ، وغاب عنها سنين وجاء والناس على غفلة بنسيانهم لأمره ، وبعد عهدهم به ، وكان ذلك يوم عيد وقال الضحاك : طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها ، فدخلها حين علم ذلك منهم ، فكان منه من قتل الرجل من قبل أن يؤمر بقتله ، فاستغفر ربه فغفر له ويقال في الكلام : دخلت المدينة حين غفل أهلها ، ولا يقال : على حين غفل أهلها ؛ فدخلت {عَلَى} في هذه الآية لأن الغفلة هي المقصودة ؛ فصار هذا كما تقول : جئت على غفلة ، وإن شئت قلت : جئت على حين غفلة ، وكذا الآية. {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} والمعنى : إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من شيعته ؛ أي من بني إسرائيل. {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} أي من قوم فرعون. {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} أي طلب نصره وغوثه ، وكذا قال في الآية بعدها : {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} أي يستغيث به على قبطي آخر وإنما أغاثه لأن نصر المظلوم دين في الملل كلها على الأمم ، وفرض في جميع الشرائع قال قتادة : أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا لمطبخ فرعون فأبى عليه ، فاستغاث بموسي قال سعيد بن جبير : وكان خبازا لفرعون. {فَوَكَزَهُ مُوسَى} قال قتادة : بعصاه وقال مجاهد : بكفه ؛ أي دفعه والوكز واللكز واللهز واللهد بمعنى واحد ، وهو الضرب بجمع الكف مجموعا كعقد ثلاثة وسبعين وقرأ ابن مسعود : {فَلَكَزَهُ} وقيل : اللكز في اللحى والوكز على القلب وحكى الثعلبي أن في مصحف عبدالله بن مسعود {فَنكَزَهُ} بالنون والمعنى واحد وقال الجوهري عن أبي عبيدة : اللكز الضرب بالجمع على الصدر وقال أبو زيد : في جميع الجسد ، واللهز : الضرب بجمع اليد في الصدر مثل اللكز ؛ عن أبي عبيدة أيضا وقال أبو زيد : هو بالجمع في اللهازم والرقبة ؛ والرجل ملهز بكسر الميم https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (13) سُورَةُ النمل من صــ 261 الى صــ 270 الحلقة (545) وقال الأصمعي : نكزه ؛ أي ضربه ودفعه الكسائي : نهزه مثل نكزه ووكزه ، أي ضربه ودفعه ولهده لهدا أي دفعه لذله فهو ملهود ؛ وكذلك لهده ؛ قال طرفة يذم رجلا : بطيء عن الداعي سريع إلى الخنا ... ذلول بإجماع الرجال ملهد أي مدفع وإنما شدد للكثرة وقالت عائشة رضي الله عنها : فلهدني ـ تعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ لهدة أوجعني ؛ خرجه مسلم ففعل موسى عليه السلام ذلك وهو لا يريد قتله ، إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه ، وهو معنى : {فَقَضَى عَلَيْهِ} وكل شيء أتيت عليه وفرغت منه فقد قضيت عليه قال : قد عضه فقضي عليه الأشجع قوله تعالى : {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي من إغوائه قال الحسن : لم يكن يحل قتل الكافر يومئذ في تلك الحال ؛ لأنها كانت حال كف عن القتال. {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} خبر بعد خبر. {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} ندم موسى عليه السلام على ذلك الوكز الذي كان فيه ذهاب النفس ، فحمله ندمه على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه قال قتادة : عرف والله المخرج فاستغفر ؛ ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم يعدد ذلك على نفسه ، مع علمه بأنه قد غفر له ، حتى أنه في القيامة يقول : إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها وإنما عدده على نفسه ذنبا وقال : {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر ، وأيضا فإن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم قال النقاش : لم يقتله عن عمد مريدا للقتل ، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه قال وقد قيل : إن هذا كان قبل النبوة وقال كعب : كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ، وكان قتله مع ذلك خطأ ؛ فإن الوكزة واللكزة في الغالب لا تقتل وروى مسلم عن سالم بن عبدالله أنه قال : يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة سمعت أبي عبدالله بن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الفتنة تجيء من ها هنا وأومأ بيده نحو المشرق - من حيث يطلع قرنا الشيطان وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل : {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} " قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} فيه مسألتان : الأولى- قوله تعالى : أي من المعرفة والحكم والتوحيد {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} أي عونا للكافرين قال القشيري : ولم يقل بما أنعمت علي من المغفرة ؛ لأن هذا قبل الوحي ، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل وقال الماوردي : {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} فيه وجهان : أحدهما : من المغفرة ؛ وكذلك ذكر المهدوي والثعلبي. قال المهدوي : {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} من المغفرة فلم تعاقبني. الوجه الثاني : من الهداية قلت : قوله : {فَغَفَرَ لَهُ} يدل على المغفرة ؛ والله أعلم قال الزمخشري قوله تعالى : {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف تقديره ؛ أقسم بإنعامك علي بالمغفرة لأتوبن {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وأن يكون استعطافا كانه قال : رب أعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته ، وتكثير سواده ، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد ، وكان يسمى ابن فرعون ؛ وإما بمظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلي القتل الذي لم يحل له قتله وقيل : أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين ، فعلى هذا كان الإسرائيلي مؤمنا ونصرة المؤمن واجبه في جميع الشرائع وقيل في بعض الروايات : إن ذلك الإسرائيلي كان كافرا وإنما قيل له إنه من شيعته لأنه كان إسرائيليا ولم يرد الموافقة في الدين ، فعلى هذا ندم لأنه أعان كافر علي كافر ، فقال : لا أكون بعدها ظهيرا للكافرين وقيل : ليس هذا خبرا بل هو دعاء ؛ أي فلا أكون بعد هذا ظهيرا أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين وقال الفراء : "صفحة رقم 263" المعنى اللهم فلن أكون ظهيرا للمجرمين وزعم أن قوله هذا هو قول بن عباس قال النحاس : وأن يكون بمعنى الخبر أولى وأشبه بنسق الكلام كما يقال : لا أعصيك لأنك أنعمت علي وهذا قول بن عباس على الحقيقة لا ما حكاه الفراء لأن بن عباس قال : لم يستثن فابتلى من ثاني يوم والاستثناء لا يكون في الدعاء لا يقال : اللهم اغفر لي إن شئت وأعجب الأشياء أن الفراء روى عن بن عباس هذا ثم حكى عنه قوله قلت : قد مضى هذا المعنى ملخصا مبينا في سورة النمل وأنه خبر لا دعاء وعن بن عباس : لم يستثن فابتلي به مرة أخرى يعني لم يقل فلن أكون إن شاء الله وهذا نحو قوله : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا الثانية قال سلمة بن نبيط : بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى وقال : أعطهم فقال : أعفني فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه فقيل له ما عليك أن تعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئا وقال : لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم وقال عبيد الله بن الوليد الوصافي قلت لعطاء بن أبي رباح : إن لي أخا يأخذ بقلمه وإنما يحسب ما يدخل ويخرج وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وأدان فقال : من الرأس قلت : خالد بن عبد الله القسري قال : أما تقرأ ما قال العبد الصالح : رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين قال بن عباس : فلم يستثن فابتلي به ثانية فأعانه الله فلا يعينهم أخوك فإن الله يعينه قال عطاء : فلا يحل لأحد أن يعين ظالما ولا يكتب له ولا يصحبه وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين وفي الحديث : ) ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم ) ويروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ) من مشي مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزل فيه الأقدام ومن مشي مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام ) وفي الحديث : ) من مشي مع ظالم فقد أجرم ) فالمشي مع الظالم لا يكون جرما إلا إذا مشي معه ليعينه ، ولأنه ارتكب نهي الله تعالى في قول سبحانه وتعالى : {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} قوله تعالى : {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً} قد تقدم في {طه} وغيرها أن الأنبياء صلوات الله عليهم يخافون ؛ ردا على من قال غير ذلك ، وأن الخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه فقيل : أصبح خائفا من قتل النفس أن يؤخذ بها وقيل خائفا من قومه أن يسلموه وقيل : خائفا من الله تعالى. {يَتَرَقَّبُ} قال سعيد بن جبير : يتلفت من الخوف وقيل : ينتظر الطلب ، وينتظر ما يتحدث به الناس وقال قتادة : {يَتَرَقَّبُ} أي يترقب الطلب وقيل : خرج يستخبر الخبر ولم يكن أحد علم بقتل القبطي غير الإسرائيلي. و {أَصْبَحَ} يحتمل أم يكون بمعنى صار أي لما قتل صار خائفا ومحتمل أن يكون دخل في الصباح ، أي في صباح اليوم الذي يلي يومه {خَائِفاً} منصوب على أنه خبر {أَصْبَحَ} ، وإن شئت على الحال ، ويكون الظرف في موضع الخبر {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي خلصه بالأمس يقاتل قبطيا آخر أرد أن يسخره والاستصراخ الاستغاثة وهو من الصراخ ، وذلك لأن المستغيث يصرخ ويصوت في طلب الغوث قال : كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب قيل : كان هذا الإسرائيلي المستنصر السامري استسخره طباخ فرعون في حمل الحطب إلي المطبخ ؛ ذكره القشيري و {الَّذِي} رفع بالابتداء {يَسْتَصْرِخُهُ} في موضع الخبر ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال وأمس لليوم الذي قبل يومك ، وهو مبني علي على الكسر لالتقاء الساكنين فإذا دخله الألف واللام أو الإضافة تمكن فأعرب بالرفع والفتح عند أكثر النحويين ومنهم من يبنيه وفيه الألف واللام وحكى سيبويه وغيره أن من العرب من يجري أمس مجري ما لا ينصرف في موضع الرفع خاصة ، وربما اضطر الشاعر ففعل هذا في الخفض والنصب وقال الشاعر : لقد رأيت عجبا مذ أمسا فخفض بمذ ما مضى واللغة الجيدة الرفع ، فأجري أمس في الخفض مجراه في الرفع على اللغة. {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} والغوي الخائب ، وأي لأنك تشاد من لا تطيقه وقيل : مضل بين الضلالة ؛ قتلت بسببك أمس رجلا ، وتدعوني اليوم لآخر والغوي فعيل من أغوي يغوي ، وهو بمعنى مغو ؛ وهو كالوجيع والأليم بمعنى الموجع والمؤلم وقيل : الغوي بمعنى الغاوي أي إنك لغوي في قتال من لا تطيق دفع شره عنك ، وقال الحسن : إنما قال للقبطي : {يَسْتَصْرِخُهُ} في استسخار هذا الإسرائيلي وهم أن يبطش به ، ويقال : بطش يبطش ويبطش والضم أقيس لأنه فعل لا يتعدى. {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي} قال ابن جبير : أراد موسى أن يبطش بالقبطي فتوهم الإسرائيلي أنه يريده ، لأنه أغلظ له في القول فقال : {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} فسمع القبطي الكلام فأفشاه وقيل : أراد أن يبطش الإسرائيلي بالقبطي فنهاه موسى فخاف منه ؛ فقال : {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} {إِنْ تُرِيدُ} أي ما تريد . {إ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ} أي قتالا وقال عكرمة والشعبي : لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أي من الذين يصلحون بين الناس. الآية : [20] { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} الآية : [21] {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الآية : [20] {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} قوله تعالى : {وَجَاءَ رَجُلٌ} قال أكثر أهل التفسير : هذا الرجل هو حزقيل بن صبورا مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون ؛ ذكره الثعلبي وقيل : طالوت ؛ ذكره السهيلي وقال المهدوي عن قتادة : شمعون مؤمن آل فرعون وقيل : شمعان ؛ قال الدارقطني : لا يعرف شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون وروي أن فرعون أمر بقتل موسى فسبق ذلك الرجل بالخبر ؛ فـ {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي يتشاورون في قتلك بالقبطي الذي قتلته بالأمس وقيل : يأمر بعضهم بعضا قال الأزهري : ائتمر القوم وتآمروا أي أم بعضهم بعضا ؛ نظيره قوله : {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} وقال النمر بن تولب : أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} أي ينتظر الطلب. {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قيل : الجبار الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل بظلم ، لا ينظر في العواقب ، ولا يدفع بالتي هي أحسن وقيل : المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله تعالى قوله تعالى : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} لما خرج موسى عليه السلام فارا بنفسه منفردا خائفا ، لا شيء معه من زاد ولا راحلة ولا حذاء نحو مدين ، للنسب الذي بينه وبينهم ؛ لأن مدين من ولد إبراهيم ، وموسى من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ؛ ورأى حاله وعدم معرفته بالطريق ، وخلوه من زاد وغيره ، أسند أمره إلى الله تعالى بقوله : {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} وهذه حالة المضطر. قلت : روي أنه كان يتقوت ورق الشجر ، وما وصل حتى سقط خف قدميه قال أبو مالك : وكان فرعون وجه في طلبه وقال لهم : اطلبوه في ثنيات الطريق ، فإن موسى لا يعرف الطريق فجاءه ملك راكبا فرسا ومعه عنزة ، فقال لموسى اتبعني فاتبعه فهداه إلى الطريق ، فيقال : إنه أعطاه العنزة فكانت عصاه ويروى أن عصاه إنما أخذها لرعيي الغنم من مدين وهو أكثر وأصح قال مقاتل والسدي : إن الله بعث إليه جبريل ؛ فالله أعلم. وبين مدين ومصر ثمانية أيام ؛ قال ابن جبير والناس وكان ملك مدين لغير فرعون. الآية : [23] {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} الآية : [24] {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} الآية : [25] {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الآية : [26] {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} الآية : [27] {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} الآية : [28] {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} فيه أربع مسألة : الأولى- قوله تعالى : {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} مشى موسى عليه السلام حتى ورد ماء مدين أي بلغها ووروده الماء معناه بلغه لا أنه دخل فيه ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود ، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه إن لم يدخل فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه ؛ ومنه قول زهير : فلما وردن الماء زرقا جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم وقد تقدمت هذه المعاني في قوله : {وإن منكم إلا واردها} ومدين لا تنصرف إذ هي بلدة معروفةقال الشاعر : رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ... والعصم من شعف الجبال الفادر وقيل : قبيلة من ولد مدين بن إبراهيم ؛ وقد مضى القول فيه في {الأعراف} والأمة : الجمع الكثير و {يَسْقُونَ} معناه ماشيتهم. و {مِنْ دُونِهِمُ } معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها ، فوصل إلى المرأتين قبل وصول إلى الأمة ، ووجدهما تذودان ومعناه تمنعان وتحبسان ، ومنه قول عليه السلام : "فليذادَنَّ رجال عن حوضي" وفي بعض المصاحف : {امْرَأَتَيْنِ حابستين تَذُودَانِ} يقال : ذاد يذود إذا حبس وذدت الشيء حبسته ؛ قال الشاعر : أبيت على باب القوافي كأنما ... أذود بها سربا من الوحش نزعا أي أحبس وأمنع وقيل : {تَذُودَانِ} تطردان ؛ قال : لقد سلبت عصاك بنو تميم ... فما تدري بأي عصا تذود أي تطرد وتكف وتمنع ابن سلام : تمنعان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس ؛ فحذف المفعول : إما إيهاما على المخاطب ، وإما استغناء بعلمه قال ابن عباس : تذودان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء قتادة : تذودان الناس عن غنمهما ؛ قال النحاس : والأول أولى ؛ لأن بعده {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ} ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس لم تخبرا عن سبب تأخير سقيهما حتى يصدر الرعاء فلما رأى موسى عليه السلام ذلك منهما {مَا خَطْبُكُمَا} أي شأنكما ؛ قال رؤبة : يا عجبا ما خطبه وخطبي ابن عطية : وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب ، أو مضطهد ، أومن يشفق عليه ، أو يأتي بمنكر من الأمر ، فكأنه بالجملة في شر ؛ فأخبرتاه بخبرهما ، وأن أباهما شيخ كبير ؛ فالمعنى : لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه ، وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا تقدران على مزاحمة الأقوياء ، وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى ؛ وحينئذ تردان وقرأ ابن عامر وأبو عمرو : {يَصْدِرَ } من صدر ، وهو ضد ورد أي يرجع الرعاء والباقون {يُصْدِرَ } بضم الياء من أصدر ؛ أي حتى يصدروا مواشيهم من وردهم والرعاء جمع راع ؛ مثل تاجر وتجار ، وصاحب وصحاب قالت فرقة : كانت الآبار مكشوفة ، وكان زحم الناس يمنعهما ، فلما أراد موسى أن يسقى لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى ، فعن هذا الغلب الذي كان منه وصفته إحداهما بالقوة وقالت فرقة : إنهما كانتا تتبعان فضالتهم في الصهاريج ، فإن وجدتا في الحوض بقية كان ذلك سقيهما ، وإن لم يكن فيه بقيه عطشت غنمهما ، فرق لهما موسى ، فعمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها ، وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة ، قال ابن زيد ابن جريج : عشرة ابن عباس : ثلاثون الزجاج : أربعون ؛ فرفعه وسقى للمرأتين ؛ فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة وقيل : إن بئرهم كانت واحدة ، وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة ، إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات. روى عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه قال : لما استقى الرعاة غطوا على البئر صخرة لا يقلعها إلا عشرة رجال ، فجاء موسى فاقتلعها واستقى ذنوبا واحدا لم تحتج إلى غيره فسقى لهما الثانية- إن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب صلى الله عليه وسلم أن يرضى لا بنتيه بسقي الماشية ؟ قيل له : ليس ذلك بمحظور والدين لا يأباه ؛ وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك ، والعادة متباينة فيه ، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو غير مذهب الحضر ، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة الثالثة- قوله تعالى : {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} تولى إلى ظل سمرة ؛ قاله ابن مسعود وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله : {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وكان لم يذق طعاما سبعة أيام ، وقد لصق بطنه بظهره ؛ فعرض بالدعاء ولم يصرح بسؤال ؛ هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله ؛ فالخير يكون بمعنى الطعام كما في هذه الآية ، ويكون بمعنى المال كما قال : {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وقول : {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ويكون بمعنى القوة كما قال : {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} ويكون بمعنى العبادة كقول : {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} قال ابن عباس : وكان قد بلغ به الجوع ، وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه ، لإنه لأكرم الخلق على الله ويروي أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدميه وفي هذا معتبر وإشعار بهوان الدنيا على الله وقال أبو بكر بن طاهر في قوله : {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي إني لما أنزلت من فضلك وغناك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك. قلت : ما ذكره أهل التفسير أولى ؛ فإن الله تعالى إنما أغناه بواسطة شعيب الرابعة- قوله تعالى : {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } في هذا الكلام اختصار يدل عليه هذا الظاهر ؛ قدره ابن إسحاق : فذهبتا إلى أبيهما سريعتين ، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي ، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما ، فأمر الكبرى من بنتيه - وقيل الصغرى ـ أن تدعوه له ، {فَجَاءَتْ} على ما في هذه الآية قال عمر وابن ميمون : ولم تكن سلفعا من النساء ، خراجة ولاّجة وقيل : جاءته ساترة وجهها بكم درعها ؛ قال عمر بن الخطاب وروي أن اسم إحداهما ليا والأخرى صفوريا ابنتا يثرون ، ويثرون وهو شعيب عليه السلام وقيل : ابن أبي شعيب ، وأن شعيبا كان قد مات وأكثر الناس على أنهما ابنتا شعيب عليه السلام وهو ظاهر القرآن ، قال الله تعالي : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} كذا في سورة {الأعراف} وفي سورة الشعراء : {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} قال قتادة : بعث الله تعالى شعيبا إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين وقد مضى في {الأعراف} الخلاف في اسم أبيه فروي أن موسى عليه السلام لما جاءته بالرسالة قام يتبعها ، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال ، فهبت ريح فضمت قميصها فوصفت عجيزتها ، فتحرج موسى من النظر https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (13) سُورَةُ النمل من صــ 271 الى صــ 280 الحلقة (546) إليها فقال : أرجعي خلفي وأرشديني إلى الطريق بصوتك وقيل : أن موسى قال ابتداء : كوني ورائي فإني رجل عبراني لا أنظر في أدبار النساء ، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا ؛ فذلك سبب وصفها له بالأمانة ؛ قال ابن عباس فوصل موسى إلى داعيه فقص عليه أمره من أوله إلى آخره فآنسه بقوله : {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون وقرب إليه طعاما فقال موسى : لا أكل ؛ إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا ؛ فقال شعيب : ليس هذا عوض السقي ، ولكن عادتي وعادة أبائي قرى الضيف ، وإطعام الطعام ؛ فحينئذ أكل موسى. الخامسة- قوله تعالى : {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة معلومة ، وكذلك كانت في كل ملة وهي من ضرورة الخليقة ، ومصلحة الخلطة بين الناس ؛ خلاف الأصم حيث كان عن سماعها أصم. السادسة- قوله تعالى : {أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} الآية. فيه عرض الولي بنته على الرجل ؛ وهذه سنة قائمة ؛ عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل ، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فمن الحسن عرض الرجل وليته ، والمرأة نفسها على الرجل الصالح ، اقتداء بالسلف الصالح قال ابن عمر : لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان : إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر ؛ الحديث انفرد بإخراجه البخاري. السابعة- وفي هذه الآية دليل على أن النكاح إلى الولي لا حظ للمرأة فيه ، لأن صالح مدين تولاه ، وبه قال فقهاء الأمصار وخالف في ذلك أبو حنيفة وقد مضى. االثامنة- هذه الآية تدل على أن للأب أن يزوج ابنته البكر البالغ من غير استئمار ، وبه قال مالك واحتج بهذه الآية ، وهو ظاهر قوي في الباب ، واحتجاجه بها يدل على أنه كان يعول على الإسرائيليات ؛ كما تقدم وبقول مالك في هذه المسألة قال الشافعي وكثير من العلماء وقال أبو حنيفة : إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها ؛ لأنها بلغت حد التكليف ، فأما إذا كانت صغيرة فإنه يزوجها بغير رضاها لأنه لا إذن لها ولا رضا ، بغير خلاف استدل أصحاب الشافعي بقوله : {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} علي أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف عنه وقال علماؤنا في المشهور : ينعقد النكاح بكل لفظ وقال أبو حنيفة : ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد ؛ أما الشافعية فلاحجة لهم في الآية لأنه شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم وأما أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي فقالوا : ينعقد النكاح بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه ؛ لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية ، قالوا : فكذلك النكاح قالوا : والذي خص به النبي صلى الله عليه وسلم تعرى البضع من العوض لا النكاح بلفظ الهبة ، وتابعهم ابن القاسم فقال : إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظ عن مالك فيه شيئا ، وهو عندي جائز كالبيع قال أبو عمر : الصحيح أنه لا ينعقد نكاح بلفظ الهبة ، كما لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شيء من الأموال وأيضا فإن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشهادة عليه ، وهو ضد الطلاق فكيف يقاس عليه ، وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقد بقول : أبحت لك وأحللت لك فكذلك الهبة وقال صلي الله عليه وسلم : "استحللتم فروجهن بكلمة الله" يعني القرآن ، وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة ، وإنما فيه التزويج والنكاح ، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم. العاشرة- قوله تعالى : {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} دل على أنه عرض لا عقد ، لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له ؛ لأن العلماء إن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال : بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا ؛ فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح ؛ لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح الحادية عشرة- قال مكي : في هذه الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الأمد ، وجعل المهر إجارة ، ودخل ولم ينقد شيئا قلت : فهذه أربع مسائل تضمنتها هذه المسألة الأولى : التعيين ، قال علماؤنا : أما التعيين فيشبه أنه كان في ثاني حال المراوضة ، وإنما عرض الأمر مجملا ، وعين بعد ذلك وقد قيل : إنه زوجه صفوريا وهي الصغرى يروى عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن سئلت أي الأجلين قضي موسى فقل خيرهما وأوفاهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى وهي التي جاءت خلفه وهي التي قالت : {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ القوي الأمين} . قيل : إن الحكمة في تزويجه الصغرى منه قبل الكبرى وإن كانت الكبرى أحوج إلى الرجال أنه توقع أن يميل إليها ؛ لأنه رأها في رسالته ، وماشاها في إقباله إلى أبيها معها ، فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره وقيل غير هذا ؛ والله أعلم وفي بعض الأخبار أنه تزوج بالكبرى ؛ حكاه القشيري." الثانية : وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه ؛ فإما رسماه ، وإلا فهو من أول وقت العقد. الثالثة : وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية ، وهو أمر قد قرره شرعنا ، وجري في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن ؛ رواه الأئمة ؛ وفي بعض طرقه : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تحفظ من القرآن" فقال : سورة البقرة والتي تليها ؛ قال : "فعلمها عشرين آية وهي امرأتك" واختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : فكرهه مالك ، ومنعه ابن القاسم ، وأجازه ابن حبيب ؛ وهو قول الشافعي وأصحابه ؛ قالوا : يجوز أن تكون منفعة الحر صداقا كالخياطة والبناء وتعليم القرآن وقال أبو حنيفة : لا يصح ، وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة ، أو يسكنها داره سنة ؛ لأن العبد والدار مال ، وليس خدمتها بنفسه مالا وقال أبو الحسن الكرخي : إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز ؛ لقوله تعالى : {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقال أبو بكر الرازي : لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فهما متنافيان وقال ابن القاسم : ينفسخ قبل البناء ويثبت بعده. وقال أصبغ : إن نقد معه شيئا ففيه اختلاف ، وإن لم ينقد فهو أشد ، فإن ترك مضى على كل حال بدليل قصة شعيب ؛ قال مالك وابن المواز وأشهب وعول على هذه الآية جماعة من المتأخرين والمتقدمين في هذه النازلة ؛ قال ابن خويز منداد تضمنت هذه الآية النكاح على الإجارة والعقد صحيح ، ويكره أن تجعل الإجارة مهرا ، وينبغي أن يكون المهر مالا كما قال عز وجل : {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} هذا قول أصحابنا جميعا. الرابعة : وأما قوله : ودخل ولم ينقد فقد اختلف الناس في هذا ؛ هل دخل حين عقد أم حين سافر ، فإن كان حين عقد فماذا نقد ؟ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار ؛ قال ابن القاسم فإن دخل قبل أن ينقد مضى ، لأن المتأخرين من أصحابنا قالوا : تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب على أنه إن كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة ؛ وإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز إن كان مدى العمر بغير شرط وأما إن كان بشرط فلا يجوز إلا أن يكون الغرض صحيحا مثل التأهب للبناء أو انتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة ؛ نص عليه علماؤنا في هذه الآية اجتماع إجارة ونكاح ، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال : الأول : قال في ثمانية أبي زيد : يكره ابتداء فإن وقع مضى. الثاني : قال مالك وابن القاسم في المشهور : لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده ؛ لاختلاف مقاصدهما كسائر العقود المتباينة. الثالث : أجازه أشهب وأصبغ قال ابن العربي : وهذا هو الصحيح وعليه تدل الآية ؛ وقد قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع ، فأي فرق بين إجارة وبيع أو بين بيع ونكاح فرع : وإن أصدقها تعليم شعر مباح صح ؛ قال المزني : وذلك مثل قول الشاعر : يقول العبد فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش كان كما لو أصدقها خمرا أو خنزيرا الثالثة عشرة- قوله تعالى : {أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} جرى ذكر الخدمة مطلقا وقال مالك : إنه جائز ويحمل على العرف ، فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة وهو ظاهر قصة موسى ، فإنه ذكر إجارة مطلقة وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يجوز حتى يسمى لأنه مجهول وقد ترجم البخاري : "باب من استأجر أجيرا فبين له الأجل ولم يبين له العمل" لقوله تعالى : {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . قال المهلب : ليس كما ترجم ؛ لأن العمل عندهم كان معلوما من سقي وحرث ورعي وما شاكل أعمال البادية في مهنة أهلها ، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها ؛ مثل أن يقول له : إنك تحرث كذا من السنة ، وترعى كذا من السنة ، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية ، وإنما الذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة ، والعمل مجهول غير معهود لا يجوز حتى يعلم قال ابن العربي : وقد ذكر أهل التفسير أنه عين له رعية الغنم ، ولم يرو من طريق صحيحة ، ولكن قالوا : إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم ، فكان ما علم من حاله قائما مقام التعيين للخدمة فيه. الرابعة عشرة- أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهورا معلومة ، بأجرة معلومة ، لرعاية غنم معدودة ؛ فإن كانت معدودة معينة ، ففيها تفصيل لعلمائنا ؛ قال ابن القاسم : لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت ، وهي رواية ضعيفة جدا ؛ وقد استأجر صالح مدين موسى على غنمه ، وقد رآها ولم يشترط خلفا ؛ وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تجوز لجهالتها ؛ وعول علماؤنا على العرف حسبما ذكرناه آنفا ؛ وأنه يعطى بقدر ما تحتمل قوته وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدر قوته ، وهو صحيح فإن صالح مدين علم قدر قوة موسى برفع الحجر. الخامسة عشرة- قال مالك : وليس على الراعي ضمان وهو مصدق فيما هلك أو سرق ، لأنه أمين كالوكيل وقد ترجم البخاري : "باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئا يفسد فأصلح ما يخاف الفساد" وساق حديث كعب بن مالك عن أبيه أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع ، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها به ، فقال لهم : لا تأكلوا حتى أسأل النبي ـ أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله ـ وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه ـ فأمره بأكلها ؛ قال عبدالله : فيعجبني أنها أمة وأنها ذبحت قال المهلب : فيه من الفقه تصديق الراعي والوكيل فيما اؤتمنا عليه حتى يظهر عليهما دليل الخيانة والكذب ؛ وهذا قول مالك وجماعة وقال ابن القاسم : إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة وقال غيره : يضمن حتى يبين ما قال. السادسة عشرة- واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى الراعي على إناث الماشية بغير إذن أربابها فهلكت ؛ فقال ابن القاسم : لا ضمان عليه ؛ لأن الإنزاء من إصلاح المال ونمائه وقال أشهب : عليه الضمان ؛ وقول ابن القاسم أشبه بدليل حديث كعب ، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده ، إن كان من أهل الصلاح ، وممن يعلم إشفاقه على المال ؛ وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل ؛ لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتا لما عرف من فسقه. السابعة عشرة- لم ينقل ما كانت أجرة موسى عليه السلام ؛ ولكن روى يحيى بن سلام أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها ، فأوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلهن وقال غير يحيى : بل جعل له كل بلقاء تولد له ، فولدن له كلهن بلقا وذكر القشيري أن شعيبا لما استأجر موسى قال له : أدخل بيت كذا وخذ عصا من العصي التي في البيت ، فأخرج موسى عصا ، وكان أخرجها آدم من الجنة ، وتوارثها الأنبياء حتى صارت إلى شعيب ، فأمره شعيب أن يلقيها في البيت ويأخذ عصا أخرى ، فدخل وأخرج تلك العصا ؛ وكذلك سبع مرات كل ذلك لا تقع بيده غير تلك ، فعلم شعيب أن له شأنا ؛ فلما أصبح قال له : سق الأغنام إلي مفرق الطريق ، فخذ عن يمينك وليس بها عشب كثير ، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشبا كثيرا وتنينا كبيرا لا يقبل المواشي ، فساق المواشي إلى مفرق الطريق ، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها ، فنام موسى وخرج التنين ، فقامت العصا وصارت شعبتاها حديدا وحاربت التنين حتى قتلته ، وعادت إلى موسى عليه السلام ، فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم ، والتنين مقتولا ؛ فعاد إلى شعيب عشاء ، وكان شعيب ضريرا فمس الأغنام ، فإذا أثر الخصب باد عليها ، فسأله عن القصة فأخبره بها ، ففرح شعيب وقال : كل ما تلد هذه المواشي هذه السنة قالب لون ـ أي ذات لونين ـ فهو لك ؛ فجاءت جميع السخال تلك السنة ذات لونين ، فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة. وروى عيينة بن حصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفة فرجه" فقال له شعيب لك منها ـ يعني من نتاج غنمها ما جاءت به قالب لون ليس فيها عزوز ولا فشوش ولا كموش ولا ضبوب ولا ثعول قال الهروي : العزوز البكيئة ؛ مأخوذ من العزاز وهي الأرض الصلبة ، وقد تعززت الشاة والفشوش التي ينفش لبنها من غير حلب وذلك لسعة الإحليل ، ومثله الفتوح والثرور ومن أمثالهم : لأُفشّنّك فَشّ الوطب أي لأخرجن غضبك وكبرك من رأسك ويقال : فش السقاء إذا أخرج منه الريح ومنه الحديث : "إن الشيطان يفش بين أليتي أحدكم حتى يخيل إليه أنه أحدث" أي ينفخ نفخا ضعيفا والكموش : الصغيرة الضرع ، وهي الكميشة أيضا ؛ سميت بذلك لانكماش ضرعها وهو تقلصه ؛ ومنه يقال : رجل كميش الإزار والكشود مثل الكموش والضبوب الضيقة ثقب الإحليل والضب الحلب بشدة العصر والثعول الشاة التي لها زيادة حلمة وهي الثعل والثعل زيادة السن ، وتلك الزيادة هي الراؤول ورجل أثعل والثعل ضيق مخرج اللبن قال الهروي : وتفسير قالب لون في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها الثامنة عشرة- الإجارة بالعوض المجهول لا تجوز ؛ فإن ولادة الغنم غير معلومة ، وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولاد الغنم فيها قطعا وعدتها وسلامة سخالها كديار مصر وغيرها ، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر ، ونهى عن المضامين والملاقيح والمضامين ما في بطون الإناث ، والملاقيح ما في أصلاب الفحول وعلى خلاف ذلك قال الشاعر : ملقوحة في بطن ناب حامل وقد مضى في سورة {الحجر} بيانه على أن راشد بن معمر أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع وقال ابن سيرين وعطاء : ينسج الثوب بنصيب منه ؛ وبه قال أحمد التاسعة عشرة- الكفاءة في النكاح معتبرة ؛ واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب ، أو في بعض ذلك والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والفرشيات ؛ لقوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا خائفا وحيدا جائعا عريانا فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه ورأى من حاله ، وأعرض عما سوى ذلك وقد تقدمت هذه المسألة مستوعبة والحمد لله الموفية عشرين- قال بعضهم : هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكرا لصداق المرأة ، وأنما كان اشتراطا لنفسه على ما يفعله الأعراب ؛ فإنها تشترط صداق بناتها ، وتقول لي كذا في خاصة نفسي ، وترك المهر مفوضا ؛ ونكاح التفويض جائز قال ابن العربي : هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر ، وهو حرام لا يليق بالأنبياء ؛ فأما إذا اشترط الولي شيئا لنفسه ، فقد اختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين : أحدهما : أنه جائز والآخر : لا يجوز والذي يصح عندي التقسيم ؛ فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا ؛ فإن كانت ثيبا جاز ؛ لأن نكاحها بيدها ، وإنما يكون للولي مباشرة العقد ، ولا يمتنع أخذ العوض عليه كما يأخذه الوكيل على عقد البيع ، وإن كانت بكرا كان العقد بيده ، وكأنه عوض في النكاح لغير الزوج وذلك باطل ؛ فإن وقع فُسِخ قبل البناء ، وثبت بعده على مشهور الرواية والحمد الله. الحادية والعشرون- لما ذكر الشرط وأعقبه بالطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه ، ولم يلحق الآخر بالأول ، ولا أشترك الفرض والطوع ؛ ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها ، ثم يقال وتطوع بكذا ، فيجري الشرط على سبيله ، والطوع على حكمه ، وانفصل الواجب من التطوع وقيل : ومن لفظ شعيب حسن في لفظ العقود في النكاح أنكحه إياها أولى من أنكحها إياه على ما يأتي بيانه في {الأحزاب} وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطا ، ووكل العاشرة إلي المروءة الثانية والعشرون- قوله تعالى : {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج و {أَيَّمَا} استفهام منصوب بـ {قَضَيْتُ} و {الأَجَلَيْنِ} مخفوض بإضافة {أَيُّ} إليهما و {مَا} صلة للتأكيد وفيه معنى الشرط وجوابه {فَلا عُدْوَانَ} وأن {عُدْوَانَ} منصوب بـ {لا} وقال ابن كيسان : {مَا} في موضع خفض بإضافة {أَيُّ} إليها وهي نكرة و {الأَجَلَيْنِ} بدل منها وكذلك في قوله : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي رحمة بدل من ما ؛ قال مكي : وكان يتلطف في ألا يجعل شيئا زائدا في القرآن ويخرج له وجها يخرجه من الزيادة وقرأ الحسن : {أَيْمَا} بسكون الياء وقرأ ابن مسعود : {أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} وقرأ الجمهور : {عُدْوَانَ} بضم العين وأبو حيوة بكسرها ؛ والمعنى : لا تبعة علي ولا طلب في الزيادة عليه والعدوان التجاوز في غير الواجب ، والحجج السنون قال الشعر : لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر الواحدة حجة بكسر الحاء {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} قيل : هو من قول موسى وقيل : هو من قول والد المرأة فاكتفى الصالحان صلوات الله عليهما في الإشهاد عليهما بالله ولم يشهدا أحدا من الخلق ، وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح ؛ وهي : الثالثة والعشرون- على قولين : أحدهما أنه لا ينعقد إلا بشاهدين وبه قال أبو حنيفة والشافعي "وقال مالك" : إنه ينعقد دون شهود ؛ لأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الإشهاد ، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح ، وفرق ما بقن النكاح والسفاح الدف وقد مضت هذه المسألة في {البقرة} مستوفاة وفي "البخاري" عن أبي هريرة : أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ايتني بالشهداء أشهدهم ، فقال كفى بالله شهيدا ؛ فقال أيتني بكفيل ؛ فقال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه ؛ وذكر الحديث. الآية : [29] {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} فيه ثلاث مسائل : الأولي : قوله تعالى : {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى} قال سعيد بن جبير : سألني رجل من النصارى أي الأجلين قضى موسى فقلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله - يعني ابن عباس - فقدمت عليه فسألته ؛ فقال : قضى أكملهما وأوفاهما فأعلمت النصراني فقال : صدق والله هذا العالم وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في ذلك جبريل فأخبره أنه قضى عشر سنين وحكى الطبري عن مجاهد أنه قضى عشرا وعشرا بعدها ؛ وواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال ابن عطية : وهذا ضعيف. https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (13) سُورَةُ النمل من صــ 281 الى صــ 290 الحلقة (547) الثانية- {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قيل : فيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء ، لما له عليها من فضل القوامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمرا فالمؤمنون عند شروطهم ، وأحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج الثالثة- قوله تعالى- {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} الآية. تقدم القول في ذلك في {طه} والجذوة بكسر الجيم قراءة العامة ، وضمها حمزة ويحيى ، وفتحها عاصم والسلمي وزور بن حبيش قال الجوهري : الجذوة والجذوة والجذوة الجمرة الملتهبة والجمع جذا وجذا وجذا قال مجاهد في قوله تعالى : {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} أي قطعة من الجمر ؛ قال : وهي بلغة جميع العرب وقال أبو عبيدة : والجذوة مثل الجذمة وهي القطعة الغليظة من الخشب كان في طرفها نار أو لم يكن قال ابن مقبل : باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا دعر وقال : وألقى على قيس من النار جذوة ... شديدا عليها حميها ولهيبها الآية : [30] {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} قوله تعالى : {فَلَمَّا أَتَاهَا} يعني الشجرة قدم ضميرها عليها {أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ} {من} الأولى والثانية لابتداء الغاية ، أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة و {مِنَ الشَّجَرَةِ} بدل من قوله : {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ} بدل الاشتمال ، لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ ، وشاطئ الوادي وشطه جانبه ، والجمع شطان وشواطئ ، وذكره القشيري ، وقال الجوهري : ويقال شاطئ الأودية ولا يجمع وشاطأت الرجل إذا مشيت علي شاطئ ومشى هو على شاطئ آخر {الأَيْمَنِ} أي عن يمين موسى وقيل : عن يمين الجبل {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} وقرأ الأشهب العقيلي : {فِي الْبُقْعَةِ} بفتح الباء وقولهم بقاع يدل علي بقعة ، كما يقال جفنة وجفان ومن قال بقعة قال بقع مثل غرفة وغرف {مِنَ الشَّجَرَةِ} أي من ناحية الشجرة قيل : كانت شجرة العليق وقيل : سمرة وقيل : عوسج ومنها كانت عصاه ، ذكره الزمخشري وقيل : عناب ، والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد وفي الحديث : "إنه من شجر اليهود فإذا نزل عيسى وقتل اليهود الذين مع الدجال فلا يختفي أحد منهم خلف شجرة إلا نطقت وقالت يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فأقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود فلا ينطق" خرجه مسلم قال المهدوي : وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء ولا يجوز أن يوصف الحق تعالى بالانتقال والزوال وشبه ذلك من صفات المخلوقين قال أبو المعالي : وأهل المعاني وأهل الحق يقولون من كلمه الله تعالى وخصه بالرتبة العليا والغاية القصوى ، فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف والأصوات والعبارات والنغمات وضروب اللغات ، كما أن من خصه الله بمنازل الكرامات وأكمل عليه نعمته ، ورزقه رؤيته يرى الله سبحانه منزها عن مماثلة الأجسام وأحكام الحوادث ، ولا مثل له سبحانه في ذاته وصفاته ، وأجمعت الأمة على أن الرب تعالى خصص موسى عليه السلام وغيره من المصطفين من الملائكة بكلامه قال الأستاذ أبو إسحاق : اتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى عليه السلام معنى من المعاني أدرك به كلامه كان اختصاصه في سماعه ، وأنه قادر على مثله في جميع خلقه واختلفوا في نبينا عليه السلام هل سمع ليلة الإسراء كلام الله ، وهل سمع جبريل كلامه على قولين ؛ وطريق أحدهما النقل المقطوع به وذلك مفقود ، واتفقوا على أن سماع الخلق له عند قراءة القرآن على معنى أنهم سمعوا العبارة التي عرفوا بها معناه دون سماعه له في عينه وقال عبدالله بن سعد بن كلاب : إن موسى عليه السلام فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام قال أبو المعالي : وهذا مردود ؛ بل يجب اختصاص موسى عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقا للعادة ، ولو لم يقل ذلك لم يكن لموسى عليه السلام اختصاص بتكليم الله إياه والرب تعالى أسمعه كلامه العزيز ، وخلق له علما ضروريا ، حتى علم أن ما سمعه كلام الله ، وأن الذي كلمه وناداه هو الله رب العالمين ، وقد ورد في الأقاصيص أن موسى عليه السلام قال : سمعت كلام ربي بجميع جوارحي ، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" مستوفى. {أَنْ يَا مُوسَى} {أَنْ} في موضع نصب بحذف حرف الجر أي بـ {أَنْ يَا مُوسَى} {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} نفي لربوبية غيره سبحانه وصار بهذا الكلام من أصفياء الله عز وجل لا من رسله ؛ لأنه لا يصير رسولا إلا بعد أمره بالرسالة ، والأمر بها إنما كان بعد هذا الكلام. الآية : [31] {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} قوله تعالى : {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} عطف على {أَنْ يَا مُوسَى} تقدمت.الكلام في {النمل} و {طه} و {مُدْبِراً} نصب على الحال وكذلك موضع قوله : {وَلَمْ يُعَقِّبْ} نصب على الحال.أيضا {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ} أي من الحية وضررها. قال وهب : قيل له أرجع إلى حيث كنت فرجع فلف دراعته على يده ، فقال له الملك : أرأيت إن أراد الله أن يصيبك بما تحاذر أينفعك لفك يدك ؟ قال : لا ولكني ضعيف خلقت من ضعف وكشف يده فأدخلها في فم الحية فعادت عصا {خَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} أي مما تحاذر الآية : [32] {اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ سقين} الآية : [33] {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} الآية : [34] {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} الآية : [34] {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} قوله تعالى : {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} الآية. تقدمت. {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} {وَمَنِ} متعلقة بـ {وَلَّى} أي ولى مدبرا من الرهب وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق : {مِنَ الرَّهْبِ} بفتح الراء وإسكان الهاء وقرأ ابن عامر والكوفيون إلا حفص بضم الراء وجزم الهاء الباقون بفتح الراء والهاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لقوله تعالي : {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} وكلها لغات وهو بمعنى الخوف والمعنى إذا هالك أمر يدك وشعاعها فأدخلها في جيبك وارددها إليه تعد كما كانت وقيل : أمره الله أن يضم يده إلي صدره فيذهب عنه خوف الحية عن مجاهد وغيره ورواه الضحاك عن ابن عباس ؛ قال فقال ابن عباس : ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه السلام ، ثم يدخل يده فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب ويحكي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : أن كاتبا كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر ، فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر : خذ قلمك وأضمم إليك جناحك ، وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي ، وقيل : المعنى أضمم يدك إلي صدرك ليذهب الله ما في صدرك من الخوف وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون وإما من الثعبان وضم الجناح هو السكون ؛ كقوله تعالى : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} يريد الرفق وكذلك قوله : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي أرفق بهم وقال الفراء : أراد بالجناح عصاه وقال بعض أهل المعاني : الرهب الكم بلغة حمير وبني حنيفة قال مقاتل : سألتني أعرابية شيئا وأنا آكل فملأت الكف وأومأت إليها فقالت : ها هنا في رهبي تريد في كمي وقال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول لأخر أعطني رهبك فسألته عن الرهب فقال : الكم ؛ فعلى هذا يكون معناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم ؛ لأنه تناول العصا ويده في كمه وقوله : {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} يدل على أنها اليد اليمني ، لأن الجيب على اليسار. ذكره القشيري. قلت : وما فسروه من ضم اليد إلى الصدر يدل على أن الجيب موضعه الصدر وقد مضى في سورة {النور} بيانه الزمخشري : ومن بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني مما في رهبك ، وليت شعري كيف صحته في اللغة ! وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم ، ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية ، وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل ، على أن موسى صلوات عليه ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها قال القشيري : وقوله : {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} يريد اليدين إن قلنا أراد الأمن من فزع الثعبان وقيل : {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أي شمر واستعد لتحمل أعباء الرسالة. قلت : فعلى هذا قيل : {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} أي من المرسلين ؛ لقوله تعالى {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} قال ابن بحر : فصار على هذا التأويل رسولا بهذا القول وقيل : إنما صار رسولا بقوله : {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ} والبرهانان اليد والعصا وقرأ ابن كثير : بتشديد النون وخففها الباقون وروى أبو عمارة عن أبي الفضل عن أبي بكر عن ابن كثير ، {فَذَانِيكَ} بالتشديد والياء وعن أبي عمرو أيضا قال لغة هذيل : {فَذَانِيكَ} بالتخفيف والياء ولغة قريش {فذانك} كما قرأ أبو عمرو وابن كثير وفي تعليله خمسة أقوال : قيل شدد النون عوضا من الألف الساقطة في ذانك الذي هو تثنية ذا المرفوع ، وهو رفع بالابتداء ، وألف ذا محذوفة لدخول ألف التثنية عليها ، ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين ؛ لأن أصله فذانك فحذف الألف الأولى عوضا من النون الشديدة وقيل : التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك مكي : وقيل إن من شدد إنما بناه على لغة من قال في الواحد ذلك ؛ فلما بنى أثبت اللام بعد نون التثنية ، ثم أدغم اللام في النون على حكم إدغام الثاني في الأول ، والأصل أن يدغم الأول أبدا في الثاني ، إلا أن يمنع من ذلك علة فيدغم الثاني في الأول ، والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الأول في الثاني أنه لو فعل ذلك لصار في موضع النون التي تدل على التثنية لام مشددة فيتغير لفظ التثنية فأدغم الثاني في الأول لذلك ؛ فصار نونا مشددة وقد قيل : إنه لما تنافي ذلك أثبت اللام قبل النون ثم أدغم الأول في الثاني على أصول الإدغام فصار نونا مشددة وقيل : شددت فرقا بينها وبين الظاهر التي تسقط الإضافة نونه ، لأن ذان لا يضاف وقيل : للفرق بين الاسم المتمكن وبينها وكذلك العلة في تشديد النون في {اللذان} و {هذان} قال أبو عمرو : إنما اختص أبو عمرو هذا الحرف بالتشديد دون كل تثنية من جنسه لقلة حروفه فقرأ بالتثقيل ومن قرأ : {فَذَانِيكَ} بياء مع تخفيف النون فالأصل عنده {فَذَانِّك} بالتشديد فأبدل من النون الثانية ياء كراهية التضعيف ، كما قالوا : لا أملاه في لا أمله فأبدلوا اللام الثانية ألفا. ومن قرأ بياء بعد النون الشديدة فوجهه أنه أشبع كسرة النون فتولدت عنها الياء. قوله تعالى : {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً} يعني معينا مشتق من أردأته أي أعنته والردء العون قال الشاعر : ألم تر أن أصرم كان ردئي ... وخير الناس في قل ومال النحاس : وقد أردأه ورداه أي أعانه ؛ وترك همزه تخفيفا وبه قرأ نافع : وهو بمعنى المهموز قال المهدوي : ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم أردى على المائة أي زاد عليها ، وكأن المعنى أرسله معي زيادة في تصديقي قاله مسلم بن جندب وأنشد قول الشاعر : وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أردى ذراعا على العشر كذا أنشد الماوردي هذا البيت : قد أردى وأنشده الغزنوي والجوهري في الصحاح قد أرمى ؛ قال : والقسب الصلب ، والقسب تمر يابس يتفتت في الفم صلب النواة قال يصف رمحا : وأسمر البيت قال الجوهري : ردؤ الشيء يردؤ وداءة فهو رديء أي فاسد ، وأردأته أفسدته ، وأردأته أيضا يعني أعنته ؛ تقول : أردأته بنفسي أي كنت له ردءا وهو العون قال الله تعالى : {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} . قال النحاس : وقد حكى ردأته : ردءا وجمع ردء أرداة وقرأ عاصم وحمزة : {يُصَدِّقُنِي} بالرفع وجزم الباقون ؛ وهو اختيار أبي حاتم على جواب الدعاء واختار الرفع أبو عبيد على الحال من الهاء في {أَرْسِلْهُ} أي أرسله ردءا مصدقا حالة التصديق ؛ كقوله : {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ} [المائدة : 114] أي كائنة ؛ حال صرف إلى الاستقبال ويجوز أن يكون صفة لقوله : {رِدْءاً} {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} إذا لم يكن لي وزير ولا معين ؛ لأنهم لا يكادون يفقهون عني ، فـ {قَالَ} الله جل وعز له {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي نقويك به ؛ وهذا تمثيل ؛ لأن قوة اليد بالعضد قال طرفة : بني لبيني لستم بيد ... إلا يدا ليست لها عضد ويقال في دعاء الخير : شد الله عضدك وفي ضده : فت الله في عضدك {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} أي حجه وبرهانا {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} بالأذى {بِآياتِنَا } أي تمتنعان منهم {بِآياتِنَا} فيجوز أن يوقف على {إِلَيْكُمَا} ويكون في الكلام تقديم وتأخير وقيل : التقدير {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} بآياتنا قال الأخفش والطبري قال المهدوي : وفي هذا تقديم الصلة على الموصول ، إلا أن يقدر أنتما غالبان بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون وعنى بالآيات سائر معجزاته. الآية : [36] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} الآية : [37] {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الآية : [38] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} الآية : [39] {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} الآية : [40] {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} الآية : [41] {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} الآية : [42] {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ} أي ظاهرات واضحات {قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً} مكذوب مختلق {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} وقيل : إن هذه الآيات وما احتج به موسى في إثبات التوحيد من الحجج العقلية وقيل : هي معجزاته. قوله تعالى : {وَقَالَ مُوسَى} قراءة العامة بالواو وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن : {قال} بلا واو ؛ وكذلك هو في مصحف أهل مكة {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} أي بالرشاد. {مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ} قرأ الكوفيون إلا عاصما : {يكون} بالياء والباقون بالتاء وقد تقدم هذا {عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي دار الجزاء {إنه} الهاء ضمير الأمر والشأن {لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} قوله تعالى : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} قال ابن عباس : كان بينها وبين قوله : {نَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} أربعون سنة ، وكذب عدو الله بل علم أن له ثم ربا هو خالقه وخالق قومه {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} أي أطبخ لي الآجر ؛ عن ابن عباس رضي الله عنه وقال قتادة : هو أول من صنع الآجر وبنى به ولما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال - قيل خمسين ألف بناء سوى الأتباع والأجراء - وأمر بطبخ الآجر والجص ، ونشر الخشب وضرب المسامير ، فبنوا ورفعوا البناء وشيدوه بحيث لم يبلغه بنيان منذ خلق الله السموات والأرض ، فكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه ، حتى أراد الله أن يفتنهم فيه فحكى السدي : أن فرعون صعد السطح ورمى بنشابة نحو السماء ، فرجعت متلطخة بدماء ، فقال قد قتلت إله موسى فروي أن جبريل عليه السلام بعثه الله تعالى عند مقالته ، فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع ؛ قطعة على عسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف ، وقطعة في البحر ، وقطعة في الغرب ، وهلك كل من عمل فيه شيئا والله أعلم بصحة ذلك. {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} الظن هنا شك ، فكفر على الشك ؛ لأنه قد رأى من البراهين ما لا يخيل على ذي فطرة. قوله تعالى : {وَاسْتَكْبَرَ} أي تعظم {هُوَ وَجُنُودُهُ} أي تعظموا عن الإيمان بموسى {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بالعدوان ، أي لم تكن له حجة تدفع ما جاء به موسى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} أي توهموا أنه لا معاد ولا بعث. وقرأ نافع وابن محيصن وشيبة وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي : {لا يُرْجَعُونَ} بفتح الياء وكسر الجيم على أنه مسمى الفاعل الباقون : {لا يَرْجِعُونَ} على الفعل المجهول وهو اختيار أبي عبيد ، والأول اختيار أبي حاتم. {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} وكانوا ألفي ألف وستمائة ألف {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي طرحناهم في البحر المالح. قال قتادة : بحر من وراء مصر يقال له إساف أغرقهم الله فيه وقال وهب والسدي : المكان الذي أغرقهم الله فيه بناحية القلزم يقال له بطن مريرة ، وهو إلى اليوم غضبان وقال مقاتل ، يعني نهر النيل وهذا ضعف والمشهور الأول. {فَانْظُرْ } يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي آخر أمرهم . {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} أي جعلناهم زعماء يتبعون على الكفر ، فيكون عليهم وزرهم ووزر من اتبعهم حتى يكون عقابهم أكثر وقيل : جعل الله الملأ من قومه رؤساء السفلة منهم ، فهم يدعون إلى جهنم وقيل : أئمة يأتم بهم ذوو العبر ويتعظ بهم أهل البصائر {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي إلى عمل أهل النار {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} . {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي أمرنا العباد بلعنهم فمن ذكرهم لعنهم وقيل : أي ألزمناهم اللعن أي البعد عن الخير {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي من المهلكين الممقوتين قاله ابن كيسان وأبو عبيدة وقال ابن عباس : المشوهين الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل : من المبعدين يقال : قبحه الله أي نحاه من كل خير ، وقبَحَه وقبّحه إذا جعله قبيحا وقال أبو عمرو : قبحت وجهه بالتخفيف معناه قبحت قال الشاعر : ألا قبح الله البراجم كلها ... وقبح يربوعا وقبح دارما وانتصب يوما على الحمل على موضع {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ل} واستغنى عن حرف العطف في قوله : {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} كما استغنى عنه في قوله : {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} ويجوز أن يكون العامل في {يوم} مضمرا يدل عليه قوله : {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} فيكون كقوله : {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} ويجوز أن يكون العامل في {يوم} قوله {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} وإن كان الظرف متقدما ويجوز أن يكون مفعولا على السعة ، كأنه قال : وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة الآية : [43] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني التوراة ؛ قاله قتادة قال يحيى بن سلام : هو أول كتاب - يعني التوراة - نزلت فيه الفرائض والحدود والأحكام وقيل : الكتاب هنا ست من المثاني السبع التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قال ابن عباس ، ورواه مرفوعا. {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} قال أبو سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة على موسى غير القرية التي مسخت قردة ألم تر إلى قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} " https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (13) سُورَةُ النمل من صــ 291 الى صــ 300 الحلقة (548) أي من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقيل : أي من بعد ما أغرقنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون. {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي آتيناه الكتاب بصائر أي ليتبصروا {وَهُدىً} أي من الضلالة لمن عمل بها {وَرَحْمَةً} لمن آمن بها. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي ليذكروا هذه النعمة فيقموا على إيمانهم في الدنيا ، ويثقوا بثوابهم في الآخرة. الآية : [44] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الآية : [45] {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} قوله تعالى : {وَمَا كُنْتَ} أي ما كنت يا محمد {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي بجانب الجبل الغربي قال الشاعر : أعطاك من أعطى الهدى النبيا ... نورا يزين المنبر الغربيا {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} إذ كلفناه أمرنا ونهينا ، وألزمناه عهدنا وقيل : أي إذ قضينا إلى موسى أمرك وذكرناك بخير ذكر وقال ابن عباس : {إِذْ قَضَيْنَا} أي أخبرنا أن أمة محمد خير الأمم {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي من الحاضرين. قوله تعالى : {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً} أي من بعد موسى {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} حتى نسوا ذكر الله أي عهده وأمره نظيره : {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وظاهر هذا يوجب أن يكون جرى لنبينا عليه السلام ذكر في ذلك الوقت ، وأن الله سيبعثه ، ولكن طالت المدة ، وغلبت القسوة ، فنسي القوم ذلك وقيل : آتينا موسى الكتاب وأخذنا على قومه العهود ، ثم تطاول العهد فكفروا ، فأرسلنا محمدا مجددا للدين وداعيا الخلق إليه. وقوله تعالى : {وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أي مقيما كمقام موسى وشعيب بينهم قال العجاج : فبات حيث يدخل الثوي أي الضيف المقيم. وقوله : {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي تذكرهم بالوعد والوعيد. {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي أرسلناك في أهل مكة ، وأتيناك كتابا فيه هذه الأخبار : ولولا ذلك لما علمتها. الآية : [46] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} قوله تعالى : {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} أي كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون ، فكذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين وروى عمرو بن دينار يرفعه قال : "نودي يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني" فذلك قوله : {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} وقال أبو هريرة - وفي رواية عن ابن عباس - إن الله قال : "يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ورحمتكم قبل أن تسترحموني" قال وهب : وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد وأمته قال : يا رب أرنيهم فقال الله : "إنك لن تدركهم لإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم" قال : بلى يا رب فقال الله تعالى : "يا أمة محمد" فأجابوا من أصلاب أبائهم فقال : "قد أجبتكم قبل أن تدعوني" ومعنى الآية على هذا ما كنت بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك وأخبرناه بما كتبناه لك ولأمتك من الرحمة إلى آخر الدنيا. {وَلَكِنْ} فعلنا ذلك {رَحْمَةً} منا بكم قال الأخفش : {رَحْمَةً} نصب على المصدر أي ولكن رحمناك رحمة وقال الزجاج : هو مفعول من أجله أي فعل ذلك بك لأجل الرحمة النحاس : أي لم تشهد قصص الأنبياء ، ولا تليت عليك ، ولكنا بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة وقال الكسائي : على خبر كان ؛ التقدير : ولكن كان رحمة. قال : ويجوز الرفع بمعنى هي رحمة الزجاج : الرفع بمعنى ولكن فعل ذلك رحمة {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} يعني العرب أي لم تشاهد تلك الأخبار ، ولكن أوحيناها إليك رحمة بمن أرسلت إليهم لتنذرهم بها {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} الآية : [47] {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية : [48] {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} قوله تعالى : {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ} يريد قريشا. وقيل : اليهود {مُصِيبَةٌ} أي عقوبة ونقمة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعاصي وخص الأيدي بالذكر ؛ لأن الغالب من الكسب إنما يقع بها وجواب {لَوْلا} محذوف أي لولا أن يصيبهم عذاب بسبب معاصيهم المتقدمة {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا} أي هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} لما بعثنا الرسل وقيل : لعاجلناهم بالعقوبة وبعث الرسل إزاحة لعذر الكفار كما تقدم في {سبحان} وآخر {طه} . {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} نصب على جواب التخصيص {وَنَكُونَ} عطف عليه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من المصدقين وقد احتج بهذه الآية من قال : إن العقل يوجب الإيمان والشكر ؛ لأنه قال : {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} وذلك موجب للعقاب إذا تقرر الوجوب قبل بعثه الرسل ، وإنما يكون ذلك بالعقل قال القشيري : والصحيح أن المحذوف لو لا كذا لما احتيج إلى تجديد الرسل أي هؤلاء الكفار غير معذورين إذ بلغتهم الشرائع السابقة والدعاء إلى التوحيد ، ولكن تطاول العهد ، فلو عذبناهم فقد يقول قائل منهم طال العهد بالرسل ، ويظن أن ذلك عذر ولا عذر لهم بعد أن بلغهم خبر الرسل ، ولكن أكملنا إزاحة العذر ، وأكملنا البيان فبعثناك يا محمد إليهم وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} يعني محمدا صلي الله عليه وسلم {وَقَالُوا} يعني كفار مكة {لَوْلا} أي هلا {أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} من العصا واليد البيضاء ، وأنزل عليه القرآن جملة واحد كالتوراة ، وكان بلغهم ذلك من أمر موسى قبل محمد ؛ {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي موسى ومحمد تعاونا على السحر وقال الكلبي : بعثت قريش إلى اليهود وسألوهم عن بعث محمد وشأنه فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الجواب إليهم {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} وقال قوم : إن اليهود علموا المشركين ، وقالوا قولوا لمحمد لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى ، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة فهذا الاحتجاج وارد على اليهود ، أي أو لم يكفر هؤلاء اليهود بما أوتي موسى حين قالوا في موسى وهارون هما ساحران. وقرأ الكوفيون : {سِحْرَانِ} بغير ألف ، أي الإنجيل والقرآن وقيل : التوراة والفرقان ؛ قاله الفراء وقيل : التوراة والإنجيل ، قاله أبو رزين الباقون {سَاحِرَانِ} بألف وفيه ثلاثة أقاويل : أحدها : موسى ومحمد عليهما السلام ، وهذا قول مشركي العرب وبه قال ابن عباس والحسن. الثاني : موسى وهارون وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة. وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد فيكون الكلام احتجاجا عليهم وهذا يدل على أن المحذوف في قوله : {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} لما جددنا بعثة الرسل ، لأن اليهود اعترفوا بالنبوات ولكنهم حرفوا وغيروا واستحقوا العقاب ، فقال : قد أكملنا إزاحة عذرهم ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم الثالث : عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وهذا قول اليهود اليوم وبه قال قتادة. وقيل : أو لم يكفر جميع اليهود بما أوتي موسى في التوراة من ذكر المسيح ، وذكر الإنجيل والقرآن ، فرأوا موسى ومحمدا ساحرين والكتابين سحرين. الآية : [49] {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية : [50] {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الآية : [51] {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} قوله تعالى : {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} أي قل يا محمد إذا كفرتم معاشر المشركين بهذين الكتابين {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} ليكون ذلك عذرا لكم في الكفر {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أنهما سحران أو فأتوا بكتاب هو أهدى من كتابي موسى ومحمد عليهما السلام وهذا يغوي قراءة الكوفيين {سِحْرَانِ} . {أَتَّبِعْهُ} قال الفراء : بالرفع ؛ لأنه صفة للكتاب وكتاب نكرة قال : وبذا جزمت - هو الوجه - فعلى الشرط. قوله تعالى : {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} يا محمد بأن يأتوا بكتاب من عند الله {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} أي آراء قلوبهم وما يستحسنونه ويحببه لهم الشيطان ، وإنه لا حجة لهم {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} أي لا أحد أضل منه {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . قوله تعالى : {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} أي أتبعنا بعضه بعضا ، وبعثنا رسولا بعد رسول وقرأ الحسن {وَصَّلْنَا} مخففا وقال أبو عبيدة والأخفش : معنى {وصَّلْنَا} أتممنا كصلتك الشيء وقال ابن عيينه والسدي : بيّنا وقاله ابن عباس وقال مجاهد : فصلنا وكذلك كان يقرؤها. وقال ابن زيد : وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم في الآخرة في الدنيا وقال أهل المعاني : وَاَلينا وتابعنا وأنزلنا القرآن تبع بعضه بعضا : وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ونصائح ومواعظ إرادة أن يتذكروا فيفلحوا وأصلها من وصل الحبال بعضها ببعض قال الشاعر : فقل لبني مروان ما بال ذمة ... وحبل ضعيف ما يزال يوصل وقال امرؤ القيس : درير كخذروف الوليد أمره ... تقلب كفيه بخيط موصل والضمير في {لهم} لقريش ؛ عن مجاهد وقيل : هو لليهود وقيل : هو لهم جميعا. والآية رد على من قال هلا أوتي محمد القرآن جملة واحدة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} قال ابن عباس : يتذكرون محمدا فيؤمنوا به. وقيل : يتذكرون فيخافوا أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم ؛ قاله علي بن عيسى وقيل : لعلهم يتعظون بالقرآن عن عبادة الأصنام. حكاه النقاش. الآية : [52] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} الآية : [53] {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} قوله تعالى : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} أخبر أن قوما ممن أوتوا الكتاب من بني إسرائيل من قبل القرآن يؤمنون بالقرآن ، كعبدالله بن سلام وسلمان ويدخل فيه من أسلم من علماء النصارى ، وهم أربعون رجلا ، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة ، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة ، وثمانية نفرا أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصاري : منهم بحيرا الراهب وأبرهه والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع كذا سماهم الماوردي ، وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية والتي بعدها {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} قاله قتادة وعنه أيضا نزلت في عبدالله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي ، أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية وعن رفاعة القرظي : نزلت في عشرة أنا أحدهم وقال عروة بن الزبير : نزلت في النجاشي وأصحابه ووجه باثني عشر رجلا فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم ، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه ، فقال لهم : خيبكم الله من ركب ، وقبحكم من وفد ، ولم تلبثوا أن صدقتموه ، وما رأينا ركبا أحمق منكم ولا أجهل ، فقالوا : {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} لم نأل أنفسنا رشدا {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وقد تقدم هذا في {المائدة} عند قوله {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} مستوفى وقال أبو العالية : هؤلاء قوم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وقد أدركه بعضهم. {مِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل القرآن وقيل : من قبل محمد عليه السلام {هُمْ بِهِ} أي بالقرآن أو بمحمد عليه السلام {يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} أي إذا قرئ عليهم القرآن قالوا بما فيه {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} أي من قبل نزوله ، أو من قبل بعثه محمد عليه السلام {مُسْلِمِينَ} أي موحدين ، أو مؤمنين بأنه سيبعث محمد وينزل عليه القرآن. الآية : [54] {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الآية : [55] {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} فيه أربع مسائل : الأولي- قوله تعالى : {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران وعبد مملوك أدي حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" قال الشعبي للخراساني : خذا هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة وخرجه البخاري أيضا قال علماؤنا : لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين ؛ فالكتابي كان مخاطبا من جهة نبيه ، ثم إنه خوطب من جهة نبينا فأجابه واتبعه فله أجر الملتين ، وكذلك العبد هو مأمور من جهة الله تعالى ومن جهة سيده ، ورب الأمة لما قام بما خوطب به من تربيته أمته وأدبها فقد أحياها إحياء التربية ، ثم إنه لما أعتقها وتزوجها أحياها إحياء الحرية التي ألحقها فيه بمنصبه ، فقد قام بما أمر فيها ، فأجر كل واحد منهم أجرين ثم إن كل واحد من الأجرين مضاعف في نفسه ، الحسنة بعشر أمثالها فتتضاعف الأجور ولذلك قيل : إن العبد الذي يقوم بحق سيده وحق الله تعالى أفضل من الحر ، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر وغيره وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "للعبد المملوك المصلح أجران" والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك قال سعيد بن المسيب : وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها. وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعما للمملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعما له" . الثانية- قوله تعالي : {بِمَا صَبَرُوا} عام في صبرهم على ملتهم ، ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك. الثالثة- قوله تعالي : {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي يدفعون درأت إذا دفعت ، والدرء الدفع وفي الحديث : "ادرؤوا الحدود بالشبهات" قيل : يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى وقيل : يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب ؛ وعلى الأول فهو وصف لمكارم الأخلاق ؛ أي من قال لهم سوءا لاينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه فهذه آية مهادنة ، وهي من صدر الإسلام ، وهي مما نسختها آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاه أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ومنه قوله عليه السلام لمعاذ : "وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" ومن الخلق الحسن دفع المكروه والأذى ، والصبر على الجفا بالإعراض عنه ولين الحديث الرابعة- قوله تعالى : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أثني عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم في الطاعات وفي رسم الشرع ، وفي ذلك حض على الصدقات وقد يكون الإنفاق من الأبدان بالصوم والصلاة ؛ ثم مدحهم أيضا على إعراضهم عن اللغو كما قال تعالى : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} أي إذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم أعرضوا عنه ؛ أي لم يشتغلوا به {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي متاركة ؛ مثل قوله : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} أي لنا ديننا ولكم دينكم {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي أمنا لكم منا فإنا لا نحاربكم ، ولا نسابكم ، وليس من التحية في شيء مال الزجاج : وهذا قبل الأمر بالقتال {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة الآية : [56] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قوله تعالى : {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} قال الزجاج : أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب. قلت : والصواب أن يقال أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو نص حديث البخاري ومسلم ، وقد تقدم الكلام في ذلك في {براءة} . قال أبو روق قوله : {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إشارة إلى العباس. وقاله قتادة. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قال مجاهد : لمن قدر له أن يهتدي. وقيل : معنى {مَنْ أَحْبَبْتَ} أي من أحببت أن يهتدي وقال جبير بن مطعم : لم يسمع أحد الوحى يلقى على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر الصديق فإنه سمع جبريل وهو يقول : يا محمد اقرأ : {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآية : [57] {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} الآية : [58] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} قوله تعالى : {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} هذا قول مشركي مكة قال ابن عباس : قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لنعلم أن قولك حق ، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ، ونؤمن بك ، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا - يعني مكة - لاجتماعهم على خلافنا ، ولا طاقة لنا بهم وكان هذا من تعللاتهم فأجاب الله تعالى عما اعتل به فقال : {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} أي ذا أمن وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضا ، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم ، فأخبر أنه قد أمنهم بحرمة البيت ، ومنع عنهم عدوهم ، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم. والتخطف الانتزاع بسرعة ؛ وقد تقدم. قال يحيى بن سلام يقول : كنتم آمنين في حرمي ، تأكلون رزقي ، وتعبدون غيري ، أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي. {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي يجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد ؛ عن ابن عباس وغيره يقال : جبى الماء في الحوض أي جمعه. والجابية الحوض العظيم وقرأ نافع : {تُجْبَى} بالتاء ؛ لأجل الثمرات والياقوت بالياء ، لقوله : {كُلِّ شَيْءٍ} واختاره أبو عبيد قال : لأنه حال بين الاسم المؤنث وبين فعله حائل وأيضا فإن الثمرات جمع ، وليس بتأنيث حقيقي. {رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} أي من عندنا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعقلون ؛ أي هم غافلون عن الاستدلال وأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا ، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم. و {رِزْقاً} نصب على المفعول من أجله. ويجوز نصبه على المصدر بالمعنى ؛ لأن معنى {تُجْبَى} ترزق. وقرئ {يُجْنىَ} بالنون من الجنا ، وتعديته بإلى كقولك يجنى إلى فيه ويجنى إلى الخافة. قوله تعالى : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} بين لمن توهم أنه لو آمن لقاتلته العرب أن الخوف في ترك الإيمان أكثر ، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار ، والبطر https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (13) سُورَةُ النمل من صــ 301 الى صــ 310 الحلقة (549) والطغيان بالنعمة ؛ قاله الزجاج {مَعِيشَتَهَا} أي في معيشتها فلما حذف {في} تعدى الفعل ؛ قاله المازني الزجاج كقوله : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} الفراء : هو منصوب على التفسير. قال كما تقول : أبطرت مالك وبطرته ونظيره عنده : {إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} وكذا عنده. {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} ونصب المعارف على التفسير محال عند البصريين ؛ لأنمعنى التفسير والتمييز أن يكون واحدا نكرة يدل على الجنس وقيل : أنتصب بـ {بَطِرَتْ} ومعنى : {بَطِرَتْ} جهلت ؛ فالمعنى : جهلت شكر معيشتها. {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لم تسكن بعد إهلاك أهلها إلا قليلا من المساكن وأكثرها خراب والاستثناء يرجع إلى المساكن أي بعضها يسكن ؛ قاله الزجاج واعترض عليه ؛ فقيل : لو كان الاستثناء يرجع إلى المساكن لقال إلا قليل ؛ لأنك تقول : القوم لم تضرب إلا قليل ، ترفع إذا كان المضروب قليلا ، وإذا نصبت كان القليل صفة للضرب ؛ أي لم تضرب إلا ضربا قليلا ، فالمعنى إذا : فتلك مساكنهم لم يسكنها إلا المسافرون ومن مر بالطريق يوما أو بعض يوم أي لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا. وكذا قال ابن عباس : لم يسكنها إلا المسافر أو مار الطريق يوما أو ساعة {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أي لما خلفوا بعد هلاكهم. [59] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} الآية : [60] {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} الآية : [61] {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قوله تعالى : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} أي القرى الكافر أهلها. {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} قرئ بضم الهمزة وكسرها لإتباع الجر يعني مكة. و {رَسُولاً} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وقيل : {فِي أُمِّهَا} يعني في أعظمها {رَسُولاً} ينذرهم. وقال الحسن : في أوائلها. قلت : ومكة أعظم القرى لحرمتها وأولها ، لقوله تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وخصت بالأعظم لبعثة الرسول فيها ؛ لأن الرسل تبعث إلى الأشراف وهم يسكنون المدائن وهي أم ما حولها. وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة {يوسف} . {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} {يَتْلُو} في موضع الصفة أي تاليا أي يخبرهم أن العذاب ينزل بهم إن لم يؤمنوا {آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى} سقطت النون للإضافة مثل {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} {إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} أي لم أهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم وفي هذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم ، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل ، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين ، كما قال عز من قائل : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} فنص في قوله {بِظُلْمٍ} على أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما لهم منه ، وإن حاله في غناه وحكمته منافية للظلم ، دل على ذلك بحرف النفي مع لامه كما قال تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قوله تعالى : {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يا أهل مكة {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} أي تتمتعون بها مدة حياتكم ، أو مدةً في حياتكم ، فإما أن تزولوا عنها أو تزول عنكم. {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي أفضل وأدوم ، يريد الدار الآخرة وهي الجنة. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن الباقي أفضل من الفاني قرأ أبو عمرو : {يعقلون} بالياء الباقون بالتاء على الخطاب وهو الاختيار لقوله تعالى : {وَمَا أُوتِيتُمْ} . قوله تعالى : {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ} يعني الجنة وما فيها من الثواب. {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فأعطي منها بعض ما أراد. {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي في النار ونظيره قوله : وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ قال ابن عباس : نزلت في حمزة بن عبدالمطلب ، وفي أبي جهل بن هشام وقال مجاهد : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وقال محمد بن كعب. نزلت في حمزة وعلي ، وفي أبي جهل وعمارة بن الوليد وقيل : في عمار والوليد بن المغيرة ؛ قاله السدي قال القشيري : والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم الثعلبي : وبالجملة فإنها نزلت في كل كافر متع في الدنيا بالعافية والغنى وله في الآخرة النار ، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله في الآخرة الجنة. الآية : [62] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} الآية : [63] {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} الآية : [64] {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} الآية : [65] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} الآية : [66] {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} الآية : [67] {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} قوله تعالى : {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} أي ينادي الله يوم القيامة هؤلاء المشركين {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} بزعمكم أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي حقت عليهم كلمة العذاب وهم الرؤساء ؛ قاله الكلبى وقال قتادة : هم الشياطين. {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} أي دعوناهم إلى الغي فقيل لهم : أغويتموهم ؟ قالوا : {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} يعنون أضللناهم كما كنا ضالين. {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} أي تبرأ بعضنا من بعض ، والشياطين يتبرؤون ممن أطاعهم ، والرؤساء يتبرؤون ممن قبل منهم ؛ كما قال تعالى : {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} قوله تعالى : {وَقِيلَ} أي للكفار {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} أي استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم {فَدَعَوْهُمْ} أي استغاثوا بهم {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} أي فلم يجيبوهم ولم ينتفعوا بهم {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} قال الزجاج : جواب {لَوْ} محذوف ؛ والمعنى : لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم الهدى ، ولما صاروا إلى العذاب وقيل : أي لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم وقيل المعنى : ودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا إذا رأوا العذاب يوم القيامة. {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} أي يقول الله لهم ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي. {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} أي خفيت عليهم الحجج ؛ قاله مجاهد ؛ لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر ولا حجة يوم القيامة و {الأَنْبَاءُ} الأخبار ؛ سمى حججهم أنباء لأنها أخبار يخبرونها {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج ؛ لأن الله تعالى أدحض حججهم ؛ قاله الضحاك وقال ابن عباس : {لا يَتَسَاءَلُونَ} أي لا ينطقون بحجة وقيل : {لا يَتَسَاءَلُونَ} في تلك الساعة ، ولا يدرون ما يجيبون به من هول تلك الساعة ، ثم يجيبون بعد ذلك كما أخبر عن قولهم : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقال مجاهد : لا يتساءلون بالأنساب وقيل : لا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل من ذنوبه شيئا ؛ حكاه ابن عيسى قوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ تَابَ} أي من الشرك {وَآمَنَ} أي صدق {وَعَمِلَ صَالِحاً} أدى الفرائض وأكثر من النوافل {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أي من الفائزين بالسعادة. وعسى من الله واجبة الآيةى : [68] {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الآيةى : [69] {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} الآيةى : [70] {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قوله تعالى : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} هذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم واختاروهم للشفاعة ؛ أي الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء لا إلى المشركين وقيل : هو جواب الوليد بن المغيرة حين قال : {وْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يعني نفسه زعم ، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف وقيل : هو جواب اليهود إذ قالوا لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به. قال ابن عباس : والمعنى ؛ وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار منهم من يشاء لطاعته وقال يحيى بن سلام : والمعنى ؛ وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار من يشاء لنبوته وحكى النقاش : إن المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، ويختار الأنصار لدينه. قلت : وفي كتاب البزار مرفوعا صحيحا عن جابر : "إن الله تعالى اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي وفي أصحابي كلهم خير واختار أمتي - على سائر الأمم واختار لي من أمتي أربعة قرون" وذكر سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أبيه في قوله عز وجل : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} قال : من النعم الضأن ، ومن الطير الحمام والوقف التام {وَيَخْتَارُ} وقال علي بن سليمان : هذا وقف التمام ولا يجوز أن تكون {مَا} في موضع نصب بـ {يَخْتَارُ} لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء قال وفي هذا رد على القدرية قال النحاس : التمام {وَيَخْتَارُ} أي ويختار الرسل. قوله تعالى : {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي ليس يرسل من اختاروه هم قال أبو إسحاق : {وَيَخْتَارُ} هذا الوقف التام المختار ويجوز أن تكون {مَا} في موضع نصب بـ {يَخْتَارُ} ويكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة قال القشيري : الصحيح الأول لإطباقهم على الوقف على قوله {وَيَخْتَار} قال المهدوي : وهو أشبه بمذهب أهل السنة و {مَا} من قوله : {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نفي عام لجميع الأشياء أن يكون للعبد فيها شيء سوى اكتسابه بقدرة الله عز وجل. الزمخشري : {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} بيان لقوله : {وَيَخْتَارُ} لأن معناه يختار ما يشاء ، ولهذا لم يدخل العاطف ، والمعني ، وإن الخيرة الله تعالى في أفعاله وهو أعلم بوجوده الحكمة فيها أي ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه وأجاز الزجاج وغيره أن تكون {ما} منضى منصوبة بـ {يَخْتَار} وأنكر الطبري أن تكون {ما} نافيه ، لئلا يكون المعنى إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل ، ولأنه لم يتقدم كلام بنفي قال المهدي : ولا يلزم ذلك ؛ لأن {ما} تنفي الحال والاستقبال كليس ولذلك عملت عملها ، ولأن الآي كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم على ما يسأل عنه ، وعلى ما هم مصرون عليه من الأعمال وإن لم يكن ذلك في النص وتقدير الآية عند الطبري : ويختار من خلقه ، لأن المشركين كانوا يختارون خيار أموالهم فيجعلونها لآلهتهم ، فقال الله تبارك وتعالى : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} للهداية ومن خلقه من سبقت له السعادة في علمه ، كما اختار المشركون خيار أموالهم لآلهتهم فـ {ما} على هذا لمن يعقل وهي بمعنى الذي {الْخِيَرَةُ} رفع بالابتداء {وَلَهُمْ} الخبر والجملة خبر {كَانَ} وشبهه بقولك : كان زيد أبوه منطلق وفيه ضعف ، إذا ليس في الكلام عائد يعود على اسم كان إلا أن يقدر فيه حذف فيجوز على بعد وقد روي معنى ما قاله الطبري عن ابن عباس قال الثعلبي : {ما} نفي أي ليس لهم الاختيار على الله وهذا أصوب كقوله تعالي : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} قال محمود الوراق : توكل على الرحمن في كل حاجةٍ ... أردت فإن الله يقضي ويقدِر إذا ما يرد ذو العرش أمرا بعبده ... يصبه وما للعبد ما يتخير وقد يهلك الإنسان ومن وجه حذره ... وينجو بحمد الله من حيث يحذر وقال آخر : العبد ذو ضجر والرب ذو قدر ... والدهر ذو دول والرزق مقسوم والخير أجمع فيما اختار خالقنا ... وفي اختيار سواه اللوم والشوم قال بعض العلماء : لا ينبغي لأحد أن يقدر على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة يقرأ في الركعة ألأولي بعد الفاتحة : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ في الركعة الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} واختار بعض المشايخ أن يقرأ في الركعة الأولى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} الآية ، وفي الركعة الثانية : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وكل حسن ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السلام ، وهو ما رواه البخاري من صحيحه عن جابر بن عبدالله قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ، كما يعلمنا السورة في القرآن ؛ يقول : "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه اللهم وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به" . قال : ويسمي حاجته. وروت عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمرا قال : "اللهم خر لي واختر لي" وروى أنس أن النبي صلى الله عليه قال : "يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى ما يسبق قلبك فإن الخير فيه" قال العلماء : وينبغي له أن يفرغ قلبه من جميع الخواطر حتى لا يكون مائلا إلى أمر من الأمور ، فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه ، فإن الخير فيه إن شاء الله وإن عزم على سفر فيتوخى بسفره يوم الخميس أو يوم الاثنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نزه نفسه سبحانه فقال : {سُبْحَانَ اللَّهِ} أي تنزيها. {وَتَعَالَى} أي تقدس وتمجد {عَمَّا يُشْرِكُونَ} . {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} يظهرون وقرأ ابن محيصن وحميد : {تَكُنُّ} بفتح التاء وضم الكاف وقد تقدم هذا في {النمل} تمدح سبحانه بأنه عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء. {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تقدم معناه ، وأنه المنفرد بالوحدانية ، لإن جميع المحامد إنما تجب له وأن لا حكم إلا له وإليه المصير. الآية : [71] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} الآية : [72] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُون} الآية : [73] {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قوله تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً} أي دائما ؛ ومنه قول طرفة : لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري ولا ليلي علي بسرمد بين سبحانه أنه مهد أسباب المعيشة ليقوموا بشكر نعمه. {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} أي بنور تطلبون فيه المعيشة وقيل : بنهار تبصرون فيه معايشكم وتصلح فيه الثمار والنبات. {أَفَلا تَسْمَعُونَ} سماع فهم وقبول. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي تستقرون فيه من النصب. {أَفَلا تُبْصِرُون} ما أنتم فيه من الخطأ في عبادة غيره ؛ فإذا أقررتم بأنه لا يقدر على إيتاء الليل والنهار غيره فلم تشركون به. {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي فيهما وقيل : الضمير للزمان وهو الليل والنهار {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتطلبوا من رزقه فيه أي في النهار فحذف . {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله علي ذلك الآية : [74] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} الآية : [75] {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ } قوله تعالى : {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أعاد هذا الضمير لاختلاف الحالين ، ينادون مرة فيقال لهم : {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} فيدعون الأصنام فلا يستجيبون ، فتظهر حيرتهم ، ثم ينادون مرة أخرى فيسكتون وهو توبيخ وزيادة خزي والمناداة هنا ليست من الله ؟ لأن الله تعالى لا يكلم الكفار لقوله تعالى {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكتهم ، ويقيم الحجه عليهم في مقام الحساب وقيل : يحتمل أن يكون من الله ، وقوله : {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} حين يقال لهم : {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} وقال : {شُرَكَائِيَ} لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم ، قوله تعالى : {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أي نبيا ؛ عن مجاهد وقيل : هم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا والأول أظهر ؛ لقوله تعالي : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} وشهيد كل أمة رسولها الذي يشهد عليها والشهيد الحاضر أي أحضرنا رسولهم المبعوث إليهم. {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا} أي حجتكم. {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أي علموا صدق ما جاءت به الأنبياء. "وضل عنهم" أي ذهب عنهم وبطل. {ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي يختلقونه من الكذب على الله تعالى من أن معه آلهة تعبد. الآية : [76] {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } الآية : [77] {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} قوله تعالى : {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} لما قال تعالى : {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} بين أن قارون أوتيها واغتر بها ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون ، ولستم أيها المشركون بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون ، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه قال النخعي وقتادة وغيرهما : كان ابن عم موسى لحا ؛ وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب ؛ وموسى بن عمران بن قاهث وقال ابن إسحاق : كان عم موسى لأب وأم وقيل : كان ابن خالته ولم ينصرف للعجمة والتعريف وما كان على وزن فاعول أعجميا لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة ، فإن حسنت فيه الألف واللام انصرف إن كان اسما لمذكر نحو طاوس وراقود قال الزجاج : ولو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف. قوله تعالى : {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} بغيه أنه زاد في طول ثوبه شبرا ؛ قاله شهر بن حوشب وفي الحديث : "لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا" وقيل : بغيه كفره بالله عز وجل ؛ قاله الضحاك وقيل : بغيه استخفافه بهم بكثرة مال وولده ؛ قاله قتادة وقيل : بغيه نسبته ما آتاه الله من الكنوز إلى نفسه بعلمه وحيلته ؛ قاله ابن بحر وقيل : بغيه قوله إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان في هارون فمالي ! فروى أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة لموسى والحبورة لهارون ؛ يقرب القربان ويكون رأسا فيهم ، وكان القربان لموسى فجعله موسى إلى أخيه ، وجد قاوون في نفسه وحسدهما فقال لموسى : الأمر لكما وليس لي شيء إلى متى أصبر قال موسى ؛ هذا صنع الله قال : والله لا أصدقنك حتى تأتي بآية ؛ فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد منهم بعصاه ، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها ، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر - وكانت من شجر اللوز - فقال قارون : ما هو بأعجب مما تصنع من السحر {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} من البغي وهو الظلم وقال يحيى بن سلام وابن المسيب : كان قارون غنيا عاملا لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم وكان منهم وقول سابع : روي عن ابن عباس قال : لما أمر الله https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (13) سُورَةُ النمل من صــ 311 الى صــ 320 الحلقة (550) تعالى برجم الزاني عمد قارون إلى امرأة بغي وأعطاها مالا ، وحملها على أن ادعت على موسى أنه زنى بها وأنه أحبلها ؛ فعظم على موسى ذلك وأحلفها بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل ، وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت فتداركها الله فقالت : أشهد أنك بريء ، وأن قارون أعطاني مالا ، وحملني على أن قلت ما قلت ، وأنت الصادق وقارون الكاذب فجعل الله أمر قارون إلى موسى وأمر الأرض أن تطيعه فجاءه وهو يقول للأرض : يا أرض خذيه ؛ يا أرض خذيه وهي تأخذه شيئا فشيئا وهو يستغيث يا موسى إلى أن ساخ في الأرض هو وداره وجلساؤه الذين كانوا على مذهبه وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى : استغاث بك عبادي فلم ترحمهم ، أما أنهم لو دعوني لو جدوني قريبا مجيبا ابن جريج : بلغنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة ، فلا يبلغون إلى أسفل الأرض إلى يوم القيامة ، وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج : حدثني إبراهيم بن راشد قال حدثني داود بن مهران عن الوليد بن مسلم عن مروان بن جناح عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال : لقي قارون يونس في ظلمات البحر ، فنادى قارون يونس ، فقال : يا يونس تب إلى الله فإنك تجده عند أول قدم ترجع بها إليه فقال يونس : ما منعك من التوبة فقال : إن توبتي جعلت إلى ابن عمي فأبى أن يقبل مني وفي الخبر : إذا وصل قارون إلى قرار الأرض السابعة نفخ إسرافيل في الصور والله أعلم قال السدي : وكان اسم البغي سبرتا ، وبذل لها قارون ألفي درهم قتادة : وكان قطع البحر مع موسى وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري. قوله تعالى : {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} قال عطاء : أصاب كثيرا من كنوز يوسف عليه السلاموقال الوليد بن مروان : إنه كان يعمل الكيمياء {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } {إن} واسمها وخبرها في صلة {ما} و {ما} مفعولة {آتَيْنَاهُ} قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلات ؛ إنه لا يجوز أن تكون صلة الذي وأخواته {إن} وما عملت فيه ، وفي القرآن {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به ومن قال مفتاح قال مفاتيح ومن قال هي الخزائن فواحدها مفتح بالفتح {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أحسن ما قيل فيه أن المعنى لتنيء العصبة أي تميلهم بثقلها ، فلما انفتحت التاء دخلت الباء كما قالوا هو يذهب بالبؤس ومذهب البؤس فصار {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} فجعل العصبة تنوء أي تنهض متثاقلة ؛ كقولك قم بنا أي أجعلنا نقوم يقال : ناء ينوء نوءا إذا نهض بثقل قال الشاعر : تنوء بأخراها فلايا قيامها ... وتمشي الهوينى عن قريب فتبهر وقال آخر : أخذت فلم أملك ونوت فلم أقم ... كأني من طول الزمان مقيد وأناءني إذا أثقلني ؛ عن أبي زيد وقال أبو عبيدة : قوله : {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} مقلوب ، والمعنى لتنوء بها العصبة أي تنهض بها أبو زيد : نؤت بالحمل إذا نهضت قال الشاعر : إنا وجدنا خلفا بئس الخلف ... عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف والأول معنى قول ابن عباس وأبي صالح والسدي وهو قول الفراء واختاره النحاس كما يقال : ذهبت به وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به وأنأته ؛ فأما قولهم : له عندي ما ساءه وناءه فهو إتباع كان يجب أن يقال وأناءه ومثله هنأني الطعام ومرأني ، وأخذه ما قدم وما حدث وقيل : هو مأخوذ من النأي وهو البعد ومنه قول الشاعر : ينأون عنا وما تنأى مودتهم ... فالقلب فيهم رهين حيثما كانوا وقرأ بديل بن ميسرة : "لينوء" بالياء ؛ أي لينوء الواحد منها أو المذكور فحمل على المعنى وقال أبو عبيدة : قلت لرؤبة بن العجاج في قوله : فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق إن كنت أردت الخطوط فقل كأنها ، وإن كنت أردت السواد والبلق فقل كأنهما فقال : أردت كل ذلك واختلف في العصبة وهي الجماعة التي يتعصب بعضهم لبعض على أحد عشر قولا : الأول : ثلاثة رجال ؛ قاله ابن عباس وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة وقال مجاهد : العصبة هنا ما بين العشرين إلى خمسة عشر وعنه أيضا : ما بين العشرة إلى الخمسة عشر وعنه أيضا : من عشرة إلى خمسة ذكر الأول الثعلبي ، والثاني القشيري والماوردي ، والثالث المهدوي وقال أبو صالح والحكم بن عتيبة وقتادة والضحاك : أربعون رجلا. السدي ما بين العشرة إلى الأربعين وقاله قتادة أيضا وقال عكرمة : منهم من يقول أربعون ، ومنهم من يقول سبعون وهو قول أبي صالح إن العصبة سبعون رجلا ؛ ذكره الماوردي والأول ذكره عنه الثعلبي وقيل : ستون رجلا وقال سعيد بن جبير : ست أو سبع وقال عبدالرحمن بن زيد : ما بين الثلاثة والتسعة وهو النفر وقال الكلبي : عشرة لقول إخوة يوسف {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} وقاله مقاتل وقال خيثمة : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة ، وأنها لتنوء بها ثقلها ، وما يزيد مفتح منها على إصبع ، لكل مفتح منها كنز مال ، لو قسم ذلك الكنز على أهل البصرة لكفاهم قال مجاهد : كانت المفاتيح من جلود الإبل وقيل : من جلود البقر لتخف عليه ، وكانت تحمل معه إذا ركب على سبعين بغلا فيما ذكره القشيري وقيل : على أربعين بغلا وهو قول الضحاك وعنه أيضا : إن مفاتحه أوعيته وكذا قال أبو صالح : إن المراد بالمفاتح الخزائن ؛ فالله أعلم {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} أي المؤمنون من بني إسرائيل ، قاله السدي وقال يحيى بن سلام : القوم هنا موسى وقال الفراء وهو جمع أريد به واحد كقوله : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} وإنما هو نعيم ابن مسعود على ما تقدم. {لا تَفْرَحْ} أي لا تأشر ولا تبطر {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي البطرين ؛ قاله مجاهد والسدي قال الشاعر : ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا ضارع في صرفه المتقلب وقال الزجاج : المعنى لا تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه وقال مبشر بن عبدالله : لا تفرح لا تفسد قال الشاعر : إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع أي أفسدتك وقال أبو عمرو : أفرحه الدين أثقله وأنشده : إذا أنت البيت وأفرحه سره فهو مشترك قال الزجاج : والفرحين والفارحين سواء وفرق بينهما الفراء فقال : معنى الفرحين الذين هم في حال فرح ، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل وزعم أن مثله طمع وطامع وميت ومائت ويدل على خلاف ما قال قول الله عز وجل : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ولم يقل مائت وقال مجاهد أيضا : معنى { لا تَفْرَحْ} لا تبغ. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي الباغين وقال ابن بحر : لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين قوله تعالى : {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} أي أطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة ؛ فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي قوله تعالي : {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} اختلف فيه ؛ فقال ابن عباس والجمهور : لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك ؛ إذ الآخرة إنما يعمل لها ، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة وقال الحسن وقتادة : معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ، ونظرك لعاقبة دنياك فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة ؛ قاله ابن عطية قلت : وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله : احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وعن الحسن : قدم الفضل ، وأمسك ما يبلغ وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف وقيل : أراد بنصيبه الكفن فهذا وعظ متصل ؛ كأنهم قالوا : لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن ونحو هذا قول الشاعر : نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداءان تلوى فيهما وحنوط وقال آخر : وهي القناعة لا تبغي بها بدلا ... فيها النعيم وفيها راحة البدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن قال ابن العربي : وأبدع ما فيه عندي قول قتادة : ولا تنس نصيبك الحلال ، فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا. "وأحسن كما أحسن الله إليك" أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك ومنه الحديث : ما الإحسان ؟ قال : "أن تعبد الله كأنك تراه" وقيل : هو أمر بصلة المساكين قال ابن العربي : فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله وقال مالك : الأكل والشرب من غير سرف قال ابن العربي : أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء ، ويشرب العسل ، ويستعمل الشواء ، ويشرب الماء البارد وقد مضى هذا المعنى في غير موضع. {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} أي لا تعمل بالمعاصي {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} . الآية : [78 ] {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} قوله تعالى : {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} يعني علم التوراة وكان فيما روي من أقرأ الناس لها ، ومن أعلمهم بها وكان أحد العلماء السبعين الذي اختارهم موسى للميقات وقال ابن زيد : أي إنما أوتيته لعلمه بفضلي ورضاه عني فقوله : {عِنْدِي} معناه إن عندي أن الله تعالى آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل في وقيل : أوتيته على علم من عندي بوجوه التجارة والمكاسب ؛ قاله علي بن عيسى ولم يعلم أن الله لو لم يسهل له اكتسابها لما اجتمعت عنده وقال ابن عباس : على علم عندي بصنعة الذهب وأشار إلى علم الكيمياء وحكى النقاش : أن موسى عليه السلام علمه الثلث من صنعة الكيمياء ، ويوشع الثلث ، وهارون الثلث ، فخدعهما قارون - وكان على إيمانه - حتى علم ما عندهما وعمل الكيمياء ، فكثرت أمواله وقيل : إن موسى علم الكيمياء ثلاثة ؛ يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا ، وقارون ، واختار الزجاج القول الأول ، وأنكر قول من قال إنه يعمل الكيمياء قال : لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له وقيل : إن موسى علم أخته علم الكيمياء ، وكانت زوجة قارون وعلمت أخت موسى قارون ؛ والله أعلم. قوله تعالى : {أولم أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ} أي بالعذاب {مِنَ الْقُرُونِ} أي الأمم الخالية الكافرة {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} أي للمال ، ولو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم وقيل : القوة الآلات ، والجمع الأعوان والأنصار ، والكلام خرج مخرج التقريع من الله تعال لقارون ؛ أي {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} قارون {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} . {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} أي لا يسألون سؤال استعتاب كما قال : ولا هم يستعتبون {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ لقوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قاله الحسن وقال مجاهد : لا تسأل الملائكة غدا عن المجرمين ، فإنهم يعرفون بسيماهم ، فإنهم يحشرون سود الوجوه زرق العيون وقال قتادة : لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها ، بل يدخلون النار بلا حساب وقيل : لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية الذين عذبوا في الدنيا وقيل : أهلك من أهلك من القرون عن علم منه بذنوبهم فلم يحتج إلى مسألتهم عن ذنوبهم. الآية : [79] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} الآية : [80] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} قوله تعالى : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} أي على بني إسرائيل فيما رآه زينة من متاع الحياة الدنيا ؛ من الثياب والدواب والتجمل في يوم عيد قال الغزنوي : في يوم السبت {فِي زِينَتِهِ} أي مع زينته قال الشاعر : إذا ما قلوب القوم طارت مخافة ... من الموت أرسوا بالنفوس المواجد أي مع النفوس كان خرج في سبعين ألفا من تبعه ، عليهم المعصفرات ، وكان أول من صبغ له الثياب المعصفرة قال السدي : مع ألف جوار بيض على بغال بيض بسروج من ذهب على قطف الأرجوان قال ابن عباس : خرج على البغال الشهب مجاهد : على براذين بيض عليها سروج الأرجوان ، وعليهم المعصفرات ، وكان ذلك أول يوم رئي فيه المعصفر قال قتادة : خرج على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر ، منها ألف بغل أبيض عليها قطف حمر قال ابن جريج : خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان ، ومعه ثلاثمائة جارية على البغال الشهب عليهن الثياب الحمر وقال ابن زيد : خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات الكلبي : خرج في ثوب أخضر كان الله أنزله على موسى من الجنة فسرقه منه قارون وقال جابر بن عبدالله رضي الله عنه : كانت زينته القرمز قلت : القرمز صبغ أحمر مثل الأرجوان ، والأرجوان في اللغة صبغ أحمر ؛ ذكره القشيري. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي نصيب وافر من الدنيا ثم قيل : هذا من قول مؤمني ذلك الوقت ، تمنوا مثل ماله رغبة في الدنيا وقيل : هو من قول أقوام لم يؤمنوا بالآخرة ولا رغبوا فيها ، وهم الكفار. قوله تعالي : {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهم أحبار بني إسرائيل قالوا للذين تمنوا مكانه {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} يعني الجنة. {لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ} أي لا يؤتى الأعمال الصالحة أو لا يؤتى الجنة في الآخرة إلا الصابرون على طاعة الله وجاز ضميرها لأنها المعنية بقوله : {ثَوَابُ اللَّهِ} . الآية : [81] {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} الآية : [82] {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} قوله تعالى : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} قال مقاتل : لما أمر موسى الأرض فابتلعته قالت بنو إسرائيل : إنما أهلكه ليرث ماله ؛ لأنه كان ابن عمه ؛ أخي أبيه ، فخسف الله تعالى به وبداره الأرض وبجميع أموال بعد ثلاثة أيام ، فأوحى الله إلى موسى إني لا أعيد طاعة الأرض إلى أحد بعدك أبدا يقال : خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض وخسف الله به الأرض خسفا أي غاب به فيها ومنه قوله تعالى : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} وخسف هو في الأرض وخسف به وخسوف القمر كسوفه قال ثعلب : كسفت الشمس وخسف القمر ؛ هذا أجود الكلام والخسف النقصان ؛ يقال : رضي فلان بالخسف أي بالنقيصة. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي جماعة وعصابة {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} لنفسه أي الممتنعين فيما نزل به من الخسففيروى أن قارون يسفل كل يوم بقدر قامة ، حتى إذا بلغ قعر الأرض السفلى نفخ إسرافيل في الصور ؛ وقد تقدم ؛ والله أعلم قوله تعالى : {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} أي صاروا يتندمون على ذلك التمني و {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} وي حرف تندم قال النحاس : أحسن ما قيل في هذا قول الخليل وسيبويه ويونس والكسائي إن القوم تنبهوا أو نبهوا ؛ فقالوا وي ، والمتندم من العرب يقول في خلال تندمه وي قال الجوهري : وي كلمة تعجب ، ويقال : ويك ووي لعبدالله وقد تدخل وي على كأن المخففة والمشددة تقول : ويكأن الله قال الخليل : هي مفصولة ؛ تقول : {وي} ثم تبتدئ فتقول : {كَأَنَّ} قال الثعلبي : وقال الفراء هي كلمة تقرير ؛ كقولك : أما ترى إلى صنع الله وإحسانه ؛ وذكر أن أعرابية قالت لزوجها : أين ابنك ويك ؟ فقال : وي كأنه وراء البيت ؛ أي أما ترينه وقال ابن عباس والحسن : ويك كلمة ابتداء وتحقيق تقديره : إن الله يبسط الرزق وقيل : هو تنبيه بمنزلة ألا في قولك ألا تفعل وأما في قولك أما بعد قال الشاعر : سألتاني الطلاق إذ رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر وي كأن من يكن له نشب يحبـ ... ـب ومن يفتقر يعش ضر وقال قطرب : إنما هو ويلك وأسقطت لامه وضمت الكاف التي هي للخطاب إلى وي قال عنترة : ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قول الفوارس ويك عنتر أقدم وأنكوه النحاس وغيره ، وقالوا : إن المعنى لا يصح عليه ؛ لأن القوم لم يخاطبوا أحدا فيقولوا له ويك ، ولو كان كذلك لكان إنه بالكسر وأيضا فإن حذف اللام من ويلك لا يجوز وقال بعضهم : التقدير ويلك اعلم أنه ؛ فأضمر اعلم ابن الأعرابي : {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} أي اعلم وقيل : معناه ألم تر أن الله وقال القتبي : معناه رحمة لك بلغة حمير وقال الكسائي : وي فيه معنى التعجب ويروى عنه أيضا الوقف على وي وقال كلمة تفجع ومن قال : ويك فوقف على الكاف فمعناه أعجب لأن الله يبسط الرزق وأعجب لأنه لا يفلح الكافرون وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب لا اسما ؛ لأن وي ليست مما يضاف وإنما كتبت متصلة ؛ لأنها لما كثر استعمالها جعلت مع ما بعدها كشيء واحد {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالإيمان والرحمة وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البغي والبطر {عَلَيْنَا لَخَسَفَ} وقرأ الأعمش : {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} وقرأ حفص : {لَخَسَفَ بِنَا} مسمى الفاعل الباقون : على ما لم يسم فاعله وهو اختيار أبي عبيد وفي حرف عبدالله {لاخَسَفَ بِنَا} كما تقول انطلق بنا وكذلك قرأ الأعمش وطلحة بن مصرف واختار قراءه الجماعة أبو حاتم لوجهين : أحدهما قوله : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} والثاني قوله : {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} فهو بأن يضاف إلى الله تعالى لقرب اسمه منه أولى {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} عند الله. الآية : [83] {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} الآية : [84] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قوله تعالى : {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} يعني الجنة وقال ذلك على جهة التعظيم لها والتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها ، وبلغك وصفها {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ} أي رفعة وتكبرا على الإيمان والمؤمنين {وَلا فَسَاداً} عملا بالمعاصي قاله ابن جريج ومقاتل وقال عكرمة ومسلم البطين : الفساد أخذ المال بغير حق وقال الكلبي الدعاء إلي غير عبادة الله وقال يحيى بن سلام : هو قتل الأنبياء والمؤمنين. {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} قال الضحاك : الجنة. وقال أبو معاوية : الذي لا يريد علوا هو من لم يجزع من ذلها ، ولم ينافس في عزها ، وأرفعهم عند الله أشدهم تواضعا ، وأعزهم غدا ألزمهم لذل اليوم وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال : مر علي بن الحسين وهو راكب على مساكين يأكلون كسرا لهم ، فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم ، فتلا هذه الآية : {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} ثم نزل وأكل معهم ثم قال : قد أجبتكم فأجيبوني فحملهم إلي منزلة فأطعمهم وكساهم وصرفهم خرجه أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد قال : حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي ، قال حدثنا سفيان بن عيينة فذكره وقيل : لفظ الدار الآخرة يشمل الثواب والعقاب والمراد إنما ينتفع بتلك الدار من اتقى ، ومن لم يتق فتلك الدار عليه لا له ، لأنها تضره ولا تنفعه. قوله تعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } تقدم في {النمل} وقال عكرمة : ليس شيء خيرا من لا إله إلا الله وإنما المعنى من جاء بلا إله إلا الله فله منها خير. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} أي بالشرك {فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي يعاقب بما يليق بعلمه. الآية : [85] {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} الآية : [86] {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
الساعة الآن : 11:41 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour