ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 25-02-2025 10:14 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الزخرف
المجلد الرابع عشر
صـ 5281 الى صـ 5290
الحلقة (541)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 64]
ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64)
ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون
فيه
أي من أحكام التوراة وغيرها. كاختلاف اليهود في القيامة، لعدم صراحتها في كتبهم. وقد جاء في نحوها آية ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم [آل عمران: 50] ، وقد وضع عن اليهود شيئا من إصر التوراة وأغلال الناموس، كما فعل في يوم السبت. خفف شدة حكمه.
قال بعض المحققين: وإنما لم يقل (ولأبين لكم كل ما تختلفون فيه) لأنه لم يفعل ذلك. بل ترك بيان كثير من الأشياء، كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم للفارقليط (محمد صلى الله عليه وسلم) الذي يأتي بعده، لعدم استعداد الناس في زمنه لقبول كل شيء منه. كما قال هو نفسه في (إنجيل يوحنا) في الإصحاح السادس عشر.
وخصوصا إذا تعرض للطعن في كتبهم، وهي رأس مالهم الوحيد وتراث أجدادهم.
ولو فعل ذلك لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون، فتضيع الفائدة من بعثته التي بيناها في المتن. وهي التي بعث من أجلها.
وأما قول الله تعالى عن لسانه ومصدقا لما بين يدي من التوراة [آل عمران: 50] ، فالمراد بمثل هذا التعبير، أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه، وبه صحت وصدقت. وكلمة (التوراة) تطلق على كتاب العهد القديم.
فالمعنى أن مجيء عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل. ولو لاه لما صدقت تلك النبوات، فإنها لا تنطبق إلا عليه. وليس المراد أن عيسى يقر كل ما في التوراة، كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية. وإلا لما قال بعدها مباشرة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم [آل عمران: 50] ، فكيف يقرها وهو قد جاء ناسخا لبعض ما فيها؟ فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون. ويفسرون ما لا يفهمون. انتهى كلامه. وهو وجيه جدا.
فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه قال ابن جرير: أي إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له، ربي وربكم جميعا.
فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئا. فإنه لا يصح ولا ينبغي أن يعبد شيء سواه هذا صراط مستقيم أي هذا الذي أمرتكم به، من اتقاء الله وطاعتي، وإفراد الله بالألوهية، هو الطريق القويم. وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام، فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله. ثم أشار إلى وعيد من خالف الحق بعد وضوحه، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 65]
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65)
فاختلف الأحزاب أي الفرق المتحزبة اختلافا نشأ من بينهم أي لا من قوله تعالى، ولا من قول عيسى. بل ظلما وعنادا فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم أي مؤلم من شدة الأهوال وكثرة الفضائح، وظلمهم بترك النظر في الدلائل العقلية والنقلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 66 الى 67]
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66) الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67)
هل ينظرون أي قريش إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون الأخلاء يومئذ أي المتخالون على المعاصي والفساد، والصد عن الحق يوم القيامة بعضهم لبعض عدو أي معاد، يتبرأ كل من صاحبه إلا المتقين أي المتصادقين في طاعة الله ومحبته. قال القاشاني: الخلة إما أن تكون خيرية، أو لا. والخيرية إما أن تكون في الله أو لله ومحبته. وغير الخيرية إما أن يكون سببها اللذة النفسانية أو النفع العقلي. والقسم الأول هو المحبة الروحانية الذاتية المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل، التي قال «1» فيها (فما تعارف منها ائتلف) فهم إذا برزوا في هذه النشأة، وتوجهوا إلى الحق، وتجددوا عن مواد الرجس، فلما تلاقوا تعارفوا، وإذا تعارفوا تحابوا، لتجانسهم الأصلي، وتوافقهم في الوجهة والطريقة، وتشابههم في السبيرة والغريزة، وتجردهم عن الأغراض الفاسدة والأعراض الذاتية، التي هي سبب العداوة.
وانتفع كل منهم بالآخر في سلوكه وعرفانه. والتذ بلقائه، وتصفى بصفائه، وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة. فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبدا كمحبة الأنبياء والأصفياء والأولياء والشهداء. والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف والأخلاق والسير الفاضلة. ونشأته الاعتقادات والأعمال الصالحة. كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم. ومحبة العرفاء والأولياء إياهم. ومحبة الأنبياء أممهم.
والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية والأعراض الجزئية.
(1)
. أخرجه البخاري في: الأنبياء، 2- باب الأرواح جنود مجندة، الحديث رقم 1576، عن عائشة.

وأخرجه مسلم في: 45- البر والصلة والآداب، حديث رقم 159. []
كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة. ومحبة الفجار والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات واستلاب الأموال. والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش، وتيسير المصالح الدنيوية. كمحبة التجار والصناع. ومحبة المحسن إليه للمحسن. فكل ما استند إلى غرض فان وسبب زائل، زال بزواله، وانقلب عند فقدانه عداوة. لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه، من اللذة المعهودة والنفع المألوف. وامتناعه لزوال سببه. ولما كان الغالب على أهل العالم أحد القسمين الأخيرين، أطلق الكلام وقال: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين لانقطاع أسباب الوصلة بينهم، وانتفاء الآلات البدنية عنهم، وامتناع حصول اللذة الحسية والنفع الجسماني وانقلابهما حسرات وآلاما وضررا وخسرانا.
قد زالت اللذات والشهوات، وبقيت العقوبات والتبعات. فكل يمقت صاحبه ويبغضه. لأنه يرى ما به من العذاب، منه وبسببه. ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقتلهم، كما لقال وقليل ما هم [ص: 24] ، وقليل من عبادي الشكور [سبأ: 13] ، ولعمري، إن القسم الأول أعز من الكبريت الأحمر.
وهم الكاملون في التقوى، البالغون إلى نهايتها، الفائزون بجميع مراتبها. ويليهم القسم الثاني. وكلا القسمين، لاشتراكهما في طلب مرضاة الله وطلب ثوابه واجتناب سخطه وعقابه، نسبهم سبحانه إلى نفسه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 68]
يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68)
يا عباد لا خوف عليكم اليوم أي لأمنهم من العذاب ولا أنتم تحزنون أي على فوات لذات الدنيا. لكونهم على ألذ منها وأبهج، وأحسن حالا وأجمل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 69]
الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين (69)
الذين آمنوا بآياتنا أي صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم وكانوا مسلمين أي أهل خضوع لله بقلوبهم، وقبول منهم لما جاءتهم به رسولهم عن ربهم، على دين إبراهيم عليه السلام، حنفاء، لا يهود ولا نصارى ولا أهل أوثان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 70]
ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون (70)
ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون أي تسرون سرورا يظهر حباره، أي أثره على وجوهكم، كقوله تعالى: تعرف في وجوههم نضرة النعيم [المطففين:
24] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 71 الى 72]
يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون (71) وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (72)
يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب الصحاف جمع (صحفة) وهي آنية الأكل. والأكواب جمع (كوب) وهو ما يشرب منه كالكوز. إلا أن الكوب ما لا عروة له. قال الشهاب: العروة ما يمسك منه ويمسي أذنا. ولذا قال من ألغز فيه:
وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب
إذا استولى على صب ... فقل ما شئت في الصب
ومن اللطائف هنا ما قيل: إنه لما كانت أواني المأكولات أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة، جمع الأول جمع كثرة، والثاني جمع قلة. وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين أي بمشاهدته وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون أي من الخيرات والأعمال الصالحات. وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة، من الجنة ونعيمها الباقي لهم، بما يخلفه المرء لوراثه من الأملاك والأرزاق.
ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث (على صيغة اسم الفاعل) فهو استعارة تبعية أو تمثيلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 73]
لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون (73)
لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون أي ما اشتهيتم. و (من) إما ابتدائية أو تبعيضية. ورجح بدلالته على كثرة النعم، وأنها غير مقطوعة ولا ممنوعة، وأنها مزينة بالثمار أبدا، موقرة بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 75]
إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون (74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75)
إن المجرمين أي الذين اجترموا الكفر والمعاصي في الدنيا في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم أي لا يخفف ولا ينقص وهم فيه مبلسون أي مستسلمون يائسون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 76]
وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين (76)
وما ظلمناهم أي بهذا العذاب ولكن كانوا هم الظالمين أي بكفرهم الله وجحودهم توحيده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 77 الى 78]
ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون (77) لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون (78)
ونادوا أي بعد إدخالهم جهنم يا مالك ليقض علينا ربك أي ليمتنا. أي سله أن يفعل بنا ذلك. تمنوا تعطل الحواس وعدم الإحساس، لشدة التألم بالعذاب الجسماني. قال إنكم ماكثون أي لابثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون أي لا تقبلونه وتنفرون منه، وعبر (بالأكثر) لأن من الأتباع من يكفر تقليدا.
لطيفة:
قال القاشاني: سمي خازن النار (مالكا) لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها.
لقوله تعالى: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [النازعات: 37- 39] كما سمي خازن الجنة (رضوانا) لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 79]
أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79)
أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أي أم أبرم مشركو مكة أمرا فأحكموه، يكيدون به
الحق الذي جاءهم، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم ويذلهم، من النكال. كقوله تعالى: أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون [الطور: 42] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 80]
أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80)
أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم أي ما أخفوه من تناجيهم بما يمكرون، فلا نجازيهم عليه لخفائه علينا بلى أي نسمعهما ونطلع عليهما ورسلنا يعني الحفظة لديهم يكتبون أي ما تكلموا به ولفظوا من قول. ثم أشار إلى رد إفكهم في أن الملائكة بنات الله تعالى، ختما للسورة مما بدئت به، المسمى عند البديعيين (رد العجز على الصدر) فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 81]
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين (81)
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين أي لذلك الولد. والأولية بالنسبة إلى المخاطبين، لا لمن تقدمهم. قال الشهاب: ولو أبقى على إطلاقه، على أن المراد إظهار الرغبة والمسارعة. جاز. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 82]
سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون (82)
سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون على نفي التالي. وهو عبادة الولد. أي أوحده وأنزهه تعالى عما يصفونه من كونه مماثلا لشيء. لكونه ربا خالقا للأجسام كلها. فلا يكون من جنسها. فيفيد انتفاء الولد على الطريق البرهاني.
وأما دلالته على الثاني فإذا جعل قوله: سبحان رب السماوات إلخ من كلام الله تعالى، لا من كلام الرسول، (أي نزه رب السماوات عما يصفونه) فيكون نفيا للمقدم ويكون تعليق عبادة الرسول من باب التعليق بالمحال. والمعلق بالشرط عند عدمه فحوى بدلالة المفهوم، أبلغ عند علماء البيان من دلالة المنطوق. كما قال في استبعاد الرؤية فإن استقر مكانه فسوف تراني [الأعراف: 143] . انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 83]
فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون (83)
فذرهم يخوضوا أي في باطلهم ويلعبوا أي في دنياهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون قال ابن جرير: وذلك يوم يصليهم الله بفريتهم عليه، جهنم، وهو يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 84]
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم (84)
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله أي المعبود فيهما بلا شريك وهو الحكيم العليم أي في تدبير خلقه وتسخيرهم لما يشاء بمصالحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 85 الى 86]
وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (85) ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (86)
وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة أي الشفاعة لهم عند الله، كما زعموا أن أندادهم شفعاء إلا من شهد بالحق وهم يعلمون أي من آمن بالله وأقر بتوحيده، وهم يعلمون حقيقة توحيده. أي وحدوه وأخلصوا له على علم منهم ويقين، كقوله: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [الأنبياء: 28] . قال ابن كثير: هذا استثناء منقطع، أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده، بإذنه له.
تنبيه:
قال الشهاب: استدل الفقهاء بهذه الآية على أن الشهادة لا تكون إلا عن علم، وأنها تجوز وإن لم يشهد.
وفي (الإكليل) قال إلكيا: يدل قوله تعالى: إلا من شهد بالحق وهم يعلمون على معنيين: أحدهما- أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا
يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني- أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها، أن يكون الشاهد عالما بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 87]
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87)
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله أي: خلقنا لتعذر المكابرة فيه من فرط ظهوره فأنى يؤفكون أي يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 88]
وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88)
وقيله أي قيل محمد صلوات الله عليه، شاكيا إلى ربه تبارك وتعالى، قومه الذين كذبوه وما يلقى منهم يا رب إن هؤلاء أي الذين أمرتني بإنذارهم، وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك قوم لا يؤمنون أي بالتوحيد والرسالة واليوم الآخر.
كقوله تعالى: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [الفرقان:





ابوالوليد المسلم 25-02-2025 10:19 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الدخان
المجلد الرابع عشر
صـ 5291 الى صـ 5300
الحلقة (542)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 89]
فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (89)
فاصفح أي أعرض عنهم وقل سلام أي لكم أو عليكم. أو أمري سلام.
أي متاركة فهو سلام متاركة لا تحية.
وقال الرازي: احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر. ثم قال:
إن صح هذا الاستدلال فإنه يوجب الاقتصار على مجرد قوله (سلام) وأن يقال للمؤمن (سلام عليكم) والمقصود التنبيه على التحية التي تذكر للمسلم والكافر.
وفيه نظر، لأنه جمود على الظاهر البحت هنا، والغفلة عن نظائره. من نحو قول إبراهيم عليه السلام لأبيه سلام عليك سأستغفر لك ربي [مريم: 47] ، وآية سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [القصص: 55] ، على أن الأكثر على أن الخبر هنا محذوف، أي (عليكم) والمقدر كالمذكور، والمحذوف لعلة كالثابت.
فالصواب أن السلام للمتاركة. والله أعلم فسوف يعلمون أي حقية ما أرسلت به، بسمو الحق وزهوق الباطل.
تنبيه:
قرئ وقيله بالنصب عطفا على (سرهم ونجواهم) وضعف بوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، بما لا يحسن اعتراضا. أو على محل (الساعة) لأنه في محل نصب، لأنه مصدر مضاف لمفعوله. أو بإضمار فعله. أي وقال قيله. وقرئ بالجر عطفا على (الساعة) أو الواو للقسم والجواب محذوف. أي لأفعلن بهم ما أريد، أو مذكور وهو قوله إن هؤلاء قوم لا يؤمنون وقرئ بالرفع عطفا على (علم الساعة) بتقدير مضاف. أي وعنده علم قيله. أو مرفوع بالابتداء، وجملة (يا رب) إلخ هو الخبر. أو الخبر محذوف. أي وقيله كيت وكيت، مسموع أو متقبل. وفي (الحواشي) مجازيات جدلية، فازدد بمراجعتها علما.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الدخان
قال المهايمي: سميت به لدلالة آيته على أنه جزاء غشيان أدخنة النفوس الخبيثة، بصائر قلوب أهلها وأرواحهم. ولذلك رأوا الدلائل شبهات الشياطين.
وجعلوا المميز بينهما مجنونا. وإن القرآن كاشف عنه ككشف الدخان المحسوس عنهم، وهي مكية. وآيها خمسون وتسع.
روي «1» الترمذي مرفوعا. من قرأ (حم الدخان) في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك.
ثم قال: غريب. وعمرو بن أبي خثعم راويه، يضعف. قال البخاري: منكر الحديث. أفاده ابن كثير.
(1)
أخرجه في: ثواب القرآن، 8- باب ما جاء في فضل (حم الدخان) .

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3)
حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة يعني ليلة القدر التي قدر فيها سبحانه إنزال ذكره الحكيم. وكانت في رمضان. كما قال سبحانه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [البقرة: 185] ، قال ابن كثير: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، فقد أبعد النجعة. فإن نص القرآن أنها في رمضان. وما روي من الآثار في فضلها، فمثله لا تعارض به النصوص. هذا على فرض صحتها. وإلا فهي ما بين مرسل وضعيف. والبركة اليمن. ولا ريب أنها كانت أبرك ليلة وأيمنها على العالمين، بتنزيل ما فيه الحكمة والهدى، والنجاة من الضلال والردى. قال القاشاني: ووصفها بالمباركة، لظهور الرحمة والبركة، والهداية والعدالة في العالم بسببها. وازدياد رتبته صلى الله عليه وسلم وكماله بها، كما سماها (ليلة القدر) لأن قدره وكماله إنما ظهر بها إنا كنا منذرين أي من خالف مقتضى الحكمة وقوة الدلائل، واختار المذام وتذلل للهوى ولم يكتف بهداية الله، ولم يقت روحه بقوت معارفه، وذلك لتقوم حجة الله على عباده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 4]
فيها يفرق كل أمر حكيم (4)
فيها يفرق كل أمر حكيم أي يفصل ويبين كل أمر تقتضيه الحكمة، على وجه متين محمود عند الكمل تقتات به أرواحهم، وترحم به نفوسهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 5 الى 6]
أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6)
أمرا من عندنا نصب على الاختصاص. أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من
عندنا على مقتضى حكمتنا. وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخامته الذاتية إنا كنا مرسلين رحمة من ربك أي مرسلين إلى الناس رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، رحمة منه تعالى بهم، لمسيس الحاجة إليه، كما قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107] ، وجوز كون (رحمة) علة للإنزال. أي رحمة تامة كاملة على العالمين بإنزاله، لاستقامة أمورهم الدينية والدنيوية، وصلاح معاشهم ومعادهم، وظهور الخير والكمال والبركة والرشاد فيهم بسببه. والوجه هو الأول. وهو كونه غاية للإرسال.
لإفصاح تلك الآية عنه إنه هو السميع أي لدعوة حقائق الأشياء بمقتضياتها العليم أي بمقادير قابلياتها، فلا يبعد عليه الإرسال والإنزال، قاله المهايمي.
وقال القاشاني: أي: السميع لأقوالهم المختلفة في الأمور الدينية الصادرة عن أهوائهم، (العليم) أي بعقائدهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وأمورهم المختلة ومعايشهم غير المنتظمة. فلذلك رحمهم بإرسال الرسول الهادي إلى الحق في أمر الدين، الناظم لمصالحهم في أمر الدنيا، المرشد إلى الصواب فيهما، بتوضيح الصراط المستقيم، وتحقيق التوحيد بالبرهان، وتقنين الشرائع وسنن الأحكام لضبط النظام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 7 الى 9]
رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (7) لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين (8) بل هم في شك يلعبون (9)
رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال أبو مسلم: أي إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا. كقولهم (فلان منجد متهم) أي يريد نجدا وتهامة. وقيل: معناه إن كنتم موقنين بما تقرون به، من أنه رب الجميع وخالقه لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين بل هم في شك يلعبون أي بل ليسوا بموقنين في إقرارهم بربوبيته، لأن الإيقان يستتبع قبول البرهان، وإنما هو قول ممزوج بلعب، لغشيان أدخنة أهوية نفوسهم، بصائر قلوبهم وأرواحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 12]
فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10) يغشى الناس هذا عذاب أليم (11) ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (12)
فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا
العذاب إنا مؤمنون
أي انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل. ولا يستعمل (الارتقاب) إلا في أمر مكروه. وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه: الأول- قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف، فأخذوا بالمجاعة. قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع.
من الظلمة كهيئة الدخان،
روى ابن جرير عن مسروق قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا وهو مضطجع بيننا. فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن: إن قاصا عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس! اتقوا الله. فمن علم شيئا فليقل بما يعلم. ومن لا يعلم فليقل (الله أعلم) . فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم (الله أعلم) وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم (لا أعلم) فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ص: 86] ، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا قال: اللهم سبعا كسبع يوسف. فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف. ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا، من الجوع. فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم. وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم
.
قال الله عز وجل فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، إلى قوله:

إنكم عائدون [الدخان: 15] ، قال: فكشف عنهم يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون [الدخان: 16] ، فالبطشة يوم بدر. وقد مضت آية الروم وآية الدخان. والبطشة واللزام.
قال ابن كثير: وهذا الحديث مخرج في الصحيحين «1» ورواه الإمام أحمد «2» في مسنده وهو عند الترمذي «3» والنسائي في تفسيرهما، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة وقد وافق ابن مسعود رضي الله على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وو إبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير.
(1)
أخرجه البخاري في: التفسير، 44- سورة الدخان، 2- باب يغشى الناس هذا عذاب أليم، حديث رقم 570، عن عبد الله بن مسعود وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم 39.

(2)
أخرجه في المسند 1/ 380. الحديث رقم 3613.

(3)
أخرجه في: التفسير، 44- سورة الدخان، 1- باب حدثنا محمود بن غيلان.

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة. لقول ابن مسعود (ثم عادوا) ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر.
وعلي هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك. فلذلك قال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد، وإلا فهو مشكل جدا. والله المستعان. انتهى.
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين: أحدهما- أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء.
وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة (الغبراء) ثانيهما- أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان. فيقولون (كان بيننا أمر ارتفع له دخان) . والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه، أظلمت عيناه، فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
انتهى.
وقال الشهاب: الظاهر أن هذه التسمية استعارة. لأن الدخان مما يتأذى به.
فأطلق على كل مؤذ يشبهه، أو على ما يلزمه، ولذا قيل:
تريد مهذبا لا عيب فيه ... وهل عود يفوح بلا دخان
الوجه الثاني في الآية- أنه دخان يظهر في العالم. وهو إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد، وهو آت وهو قول حذيفة. ويروى عن علي وابن عباس وجمع من التابعين. قال الرازي: واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الأول- أن قوله: يوم تأتي السماء بدخان يقتضي وجود دخان تأتي به السماء. وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع، فذاك ليس بدخان أتت به السماء. فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه، عدولا عن الظاهر، لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز.
الثاني- أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبينا. والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم. ومثل هذا لا يوصف بكونه دخانا مبينا. والثالث- أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس. وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز. وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل. الرابع- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عده الدخان من الآيات المنتظرة.
أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلا جدا. فإن قالوا:
الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون وهذا، إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة، استقام. فإنه نقل أن التقحط لما اشتد، بمكة مشى إليه أبو سفيان وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن لهم وأزال الله عنهم تلك البلية، أن يؤمنوا به. فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم. أما إذا حلمناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة، لم يصح ذلك. لأن عند ظهور علامات القيامة. لا يمكنهم أن يقولوا ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ولم يصح أيضا أن يقال لهم إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريا مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فتحدث هذه الحالة. ثم إن الناس يخافون جدا فيتضرعون. فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق. وإذا كان هذا محتملا، فقد سقط ما قالوه، والله أعلم. انتهى كلام الرازي.
وهكذا رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني، ذهابا إلى ما صح عن ابن عباس، ترجمان القرآن ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرهما، التي أوردوها، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة، على أن الدخان من الآيات المنتظرة. مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى: فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين أي بين واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله تعالى:
يغشى الناس أي يتغشاهم ويعمهم. ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه يغشى الناس وقوله تعالى: هذا عذاب أليم أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. كقوله عز وجل يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون [الطور: 13- 14] ، أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه، سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين [الأنعام: 27] ، وكذا قوله جل وعلا وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [إبراهيم: 44] . وهكذا قال جل جلاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 13 الى 14]
أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين (13) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14)
أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون أي كيف لهم بالتذكر، وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة. ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه. بل كذبوه وقالوا معلم مجنون. وهذا كقوله جلت عظمته يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [الفجر: 23] الآية. وكقوله عز وجل ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب [سبأ: 51] . إلى آخر السورة. وقوله تعالى:





ابوالوليد المسلم 25-02-2025 10:22 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الدخان
المجلد الرابع عشر
صـ 5301 الى صـ 5310
الحلقة (543)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 15]
إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون (15)
إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون يحتمل معنيين: أحدهما- أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب. كقوله تعالى: ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون [المؤمنون: 75] ، وكقوله جلت عظمته ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [الأنعام: 28] ، والثاني- أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم. كقوله تعالى:
إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [يونس: 98] . ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم. بل كان قد انعقد سببه عليهم. ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى، إخبارا عن شعيب عليه السلام، أنه قال لقومه حين قالوا: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا، قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [الأعراف: 88- 89] . وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم. وقال قتادة: إنكم عائدون إلى عذاب الله. وقوله عز وجل:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 16]
يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون (16)
يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه
بيوم بدر. وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم. وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي ابن كعب رضي الله عنه وجماعة عنه، وهو محتمل. والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا. قال ابن جرير: حدثني يعقوب. حدثنا ابن علية.
حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر. وأنا أقول هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عنه. وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه. والله أعلم.
انتهى كلام ابن كثير.
فصل:
وممن رجح الوجه الأول، وهو أن المراد بالدخان يوم المجاعة والشدة مجازا، بذكر المسبب وإرادة السبب. أو بالاستعارة، العلامة أبو السعود حيث قال: والأول هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعا. فإن قوله تعالى: أنى لهم الذكرى إلخ، رد لكلامهم واستدعائهم الكشف، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان، المنبئ عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية، أي كيف يتذكرون؟ أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم؟ وقد جاءهم رسول مبين أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر. وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم منه في إيجابها. حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، وبين لهم مناهج الحق، بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، تخر لها صم الجبال ثم تولوا عنه عن ذلك الرسول وهو هو، ريثما يشاهدون منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه ولم يقتنعوا بالتولي وقالوا في حقه معلم مجنون أي قالوا تارة: يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف. وأخرى مجنون، أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا. فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟ وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضعف، وإذا شبع طغى. وقوله تعالى: إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون جواب من جهته تعالى عن قولهم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون بطريق الالتفات، لمزيد التوبيخ والتهديد. وما بينهما اعتراض. ألى إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفا قليلا، أو زمانا قليلا. إنكم تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتو والإصرار على الكفر. وتنسون هذه الحالة. وفائدة التقييد بقوله:
قليلا الدلالة على زيادة خبثهم. لأنهم إذا عادوا قبل تمام الانكشاف، كانوا بعده
أسرع إلى العود. وصيغة الفاعل في الفعلين، للدلالة على تحققهما لا محالة. ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله تعالى، بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتو والعناد. انتهى ما قاله أبو السعود بزيادة.
فصل:
وأما الوجه الثالث في الآية، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا جعفر بن مسافر. حدثنا يحيي بن حسان. حدثنا ابن مهيعة. حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل: يوم تأتي السماء بدخان مبين قال: كان يوم فتح مكة. قال ابن كثير: وهذا القول غريب جدا. بل منكر. انتهى.
أى لأنه لم يرو مرفوعا ولا موقوفا على ابن عباس، ترجمان القرآن. أو غيره من الصحب. إلا أن عدم كونه مأثورا لا ينافي احتمال لفظ الآية له. وصدقها عليه. لا سيما، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة: فارتقب إنهم مرتقبون مما هو وعد بظهوره عليهم. وكان ذلك يوم الفتح. وحينئذ، فمعنى قوله تعالى: إنا كاشفوا العذاب أي ما ينزل بهم يومئذ، برفع القتل والأسر عنهم. ومعنى عائدون أي إلى لقاء الله ومجازاته.
فصل:
يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة، أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب، عليهم الرضوان، اهتماما في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها. حتى كان ابن مسعود مصرا على وجه، وعلي وابن عباس وحذيفة على وجه آخر. على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية. وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار. وسبب الاختلاف هو إيجار الأسلوب الكريم، وإيثاره من الألفاظ أرقها، وأوجزها. مما يصدق لبلاغته حقيقة تارة ومجازا أخرى. هذا أولا. وثانيا، لما كان كثير من الأحاديث المروية تتشابه مع الآيات، كان ذلك مما يقرب بينهما ويدعوا إلى اتحاد المراد منهما. لما تقرر من شرح السنة للكتاب، وهذا ما درج عليه المحدثون قاطبة.
فترى أحدهم إذا رأى في خبر ما يشير إلى آية، قطع بأنه تفسيرها ووقف عنده ولم يتعده. وأما من فتح للتدبر بابا ومهد للنظر مجالا، ورأى أن الأثر قد يكون من محمولات الآية وما صدقاتها، وأنها أعم وأشمل، أو إن حمل الخبر عليها اشتباه أفضى إليه التشابه. فذاك وسع للسالك المسالك، وفتح للمريد المدارك، ورقاه من
حظيرة النقل إلى فضاء العقل. ولكل وجهة.
إذا علمت ذلك، رأيت أن من فسر هذه الآية بالمجاعة التي حصلت لقريش، أمكنه تطبيق الآية عليها مجازا في بعض مفرداتها، وحقيقة في بقيتها وفي وقوع مصداقها، في رأيه. ومن فسرها بالدخان المنتظر، المروي من أشراط الساعة، وقف مع المروي ورأى أنه تفسيرها. لأن الأصل التوافق والحمل على المعهود. لأنه الأقرب خطورا والأسبق حضورا، ومن فسرها بالظهور عليهم يوم الفتح، رأى أنها من بليغ المجاز وبديع الكناية في ذلك. وأن الوعد بالارتقاب. كثر أشباهه ونظائره في غير ما آية، مرادا به الفتح. كآية ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون [السجدة: 28- 30] ، فهذا وأمثاله يبين مآخذ الأئمة ومداركهم في التأويل. وبه يعلم أن أطراف المدارك قد تتجاذب اللفظ فتستوقف الرأي عن التشيع لمدرك دون آخر. ما لم يكن ثمة ما يرشح أحدها وقد يظن الواقف على كلام الرازي المتقدم، واحتجاجه للوجه الثاني بما أطال به، أن لا منتدح، بعد، عنه. مع أن للذاهب إلى غيره أن يجيب عن احتجاجه بما أسلفنا من صحة المجاز. بل وقوته هنا، لأن المقام مقام إنذار وإيعاد، والذوق أكبر حاكم وإليه مرد البلاغة. ولا يلزم المتأول نكرانه للدخان المنتظر كما قد يتوهم. بل يعترف بأنه آية آتية يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وينقلب هذا النظام إلى نشأة ثانية. وأنه لا يلزم من الاشتراك اللفظي اتحاد المتلو والمروي. وبالجملة، فاللفظ الكريم يتناول المعاني الثلاثة. وسببه تحقق مصداق الجميع. وأما تعيين واحد منها للمراد، فصعب جدا فيما أراه، لا سيما ولم يتفق الصحب على رأي فيها. هذا ما نقوله الآن. والله العليم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 17]
ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17)
ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون أي ابتلينا، قبل هؤلاء المشركين، قوم فرعون، بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا. فاختاروا الكفر على الإيمان وجاءهم رسول كريم أي على الله والمؤمنين، أو في نفسه. فعلى الأول كريم بمعنى مكرم أي. معظم. وعلى الثاني، من الكرم بمعنى الاتصاف بالخصال الحميدة، حسبا ونسبا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 18]
أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين (18)
أن أدوا إلي عباد الله أي أرسلوا معي بني إسرائيل، لأسير بهم إلى بلادنا الأولى. وأطلقوهم من أسركم وحبسكم. فإنهم قوم أحرار، أبوا، للضيم. هذه الديار إني لكم رسول أمين أي على وحيه ورسالته، التي حملنيها إليكم. لأنذركم بأسه إن عصيتم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 19]
وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين (19)
وأن لا تعلوا على الله أي بإنكار ربوبيته، ودعوى الربوبية لأنفسكم، وتكذيب رسوله وغضب عباده إني آتيكم بسلطان مبين أي حجة واضحة على ربوبية الله، ونفي ربوبيتكم. وعلى رسالتي. وعلى أن بني إسرائيل عباده الخاصة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 20]
وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون (20)
وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون أي اعتصمت به من رجمكم. يعني القتل، فعصمني، فلا ينالني منكم مكروه، مع أنه لا يعصم من افترى عليه، وقصد بهذه الجملة. إظهار مزيد شجاعته وثباته في موقف تضطرب فيه الأفئدة، وتزل الأقدام، خوفا ورعبا. وما ذاك إلا لإيوائه إلى عصمة الله وتأييده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 21]
وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21)
وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون أي فكونوا بمعزل عني. فلست بموال منكم أحدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 22]
فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22)
فدعا ربه أي لما تابوا عن إجابته أن هؤلاء قوم مجرمون أي مشركون مفسدون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 23]
فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون (23)
فأسر بعبادي ليلا أي فأجاب دعاءه، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلا إنكم متبعون أي إن فرعون وقومه من القبط متبعوكم. إذا شخصتم عن بلدهم وأرضهم ليرجعوكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 24 الى 25]
واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24) كم تركوا من جنات وعيون (25)
واترك البحر رهوا أي فإذا قطعت البحر أنت وأصحابك، فاتركه ساكنا على حاله التي كان عليها حين دخلته، ولا تضربه بعصاك ليدخله القبط فيغرقوا إنهم جند مغرقون كم تركوا أي بعد هلاكهم بالغرق من جنات وعيون أي بساتين وعيون يسقى منها ويتنعم بالنظر فيها، هذا في التفكه والتنزه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 26]
وزروع ومقام كريم (26)
وزروع أي قائمة مزارعهم للقوت ومقام كريم أي محافل مزينة ومنازل مزخرفة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 27]
ونعمة كانوا فيها فاكهين (27)
ونعمة كانوا فيها فاكهين أي متنعمين من نساء وأموال وحشم، وما لا يحصى من المشتهيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 28]
كذلك وأورثناها قوما آخرين (28)
كذلك أي أخرجناهم مثل هذا الإخراج. فالكاف، أو الجار والمجرور صفة مصدر مفهوم من الترك. أو هو خبر محذوف. أي الأمر كذلك. والمراد به التأكيد والتقرير وأورثناها قوما آخرين يعني من خلفهم بعد مهلكهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 29]
فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين (29)
فما بكت عليهم السماء والأرض قال الزمخشري: إذا مات رجل خطير، قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس. قال جرير:
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل. مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء: تمثيل. ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى: فما بكت عليهم السماء والأرض فيه تهكم بهم وبحالهم. المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض، وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين. يعني: فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض وما كانوا منظرين أي مؤخرين بالعقوبة. بل عوجلوا بها، زيادة سخط عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 30]
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين (30)
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين يعني استعباد فرعون وقتله أبناءهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 31]
من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31)
من فرعون بدل من العذاب، على حذف مضاف. أو جعله عذابا مبالغة لإفراطه في التعذيب. أو حال من (المهين) بمعنى واقعا من جهته إنه كان عاليا أي متكبرا على الناس من المسرفين أي المتجاوزين الحد، في العتو والشر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 32]
ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32)
ولقد اخترناهم على علم على العالمين أي فضلناهم لأجل علم معهم، على عالمي زمانهم. أو عالمين بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويؤثروا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 33]
وآتيناهم من الآيات ما فيه بلؤا مبين (33)
وآتيناهم أي زيادة على اختبارهم وتفضيلهم من الآيات أي المعجزات ولكرامات ما فيه بلؤا مبين أي نعمة ظاهرة، لأنهم حجة واضحة على أعدائهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 35]
إن هؤلاء ليقولون (34) إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (35)
إن هؤلاء أي مشركي قريش ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى أي المتعقبة للحياة. كأنهم أرادوا إلا موتتنا هذه. وليس القصد إلى إثبات ثانية. قال الإسنوي في (التمهيد) : الأول في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان وقد لا يكون. كما تقول: هذا أول ما اكتسبته. فقد تكتسب بعده شيئا وقد لا تكتسب. كذا ذكره جماعة، منهم الواحدي في تفسيره، والزجاج. ومن فروع المسألة، ما لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق، تطلق إذا ولدته، وإن لم تلد غيره، بالاتفاق. قال أبو علي: اتفقوا على أن ليس من شرط كونه أولا، أن يكون بعده آخر. وإنما الشرط أن لا تقدم عليه غيره. انتهى.
وما ذكر أظهر مما للزمخشري هنا وما نحن بمنشرين أي مبعوثين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 36]
فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (36)
فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أي في بعثنا بعد بلائنا في قبورنا. قال ابن كثير: وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة. فإن المعاد إنما هو يوم القيامة، لا في دار الدنيا. بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها، يعيد الله العالمين خلقا جديدا. ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا. ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يرد، كما حل بأشباههم من المشركين، بقوله سبحانه:





ابوالوليد المسلم 25-02-2025 10:26 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الدخان
المجلد الرابع عشر
صـ 5311 الى صـ 5320
الحلقة (544)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 37]
أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (37)
أهم خير أي في القوة والمنعة أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين أي أهلكناهم بجرمهم. وهو كفرهم وفسادهم. وهم ما هم. فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ. أهلكهم الله عز وجل وفرقهم في البلاد شذر مذر. كما تقدم في سورة (سبأ) قال ابن كثير: وقد كانوا عربا من قحطان. كما أن هؤلاء عرب من عدنان. وكانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعا. كما يقال (كسرى) لمن ملك الفرس و (قيصر) لمن ملك الروم.
و (فرعون) لمن ملك مصر كافرا. و (النجاشي) لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس، لكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند. واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه. واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه، وهو الذي مصر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يقرونه بالليل. فاستحيا منه وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود، كانا قد نصحاه وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة. فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان. فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن. فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة. فنهياه عن ذلك أيضا. وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
وأنه سيكون له شأن عظيما على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر. ثم كر راجعا إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه. وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام. فتهود معه عامة أهل اليمن. وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه (السيرة) . وترجمة الحافظ ابن عساكر في (تاريخه) ترجمة حافلة، وذكر أنه ملك دمشق. وساق ما روي في النهي عن سبه ولعنه. قال ابن كثير: وكأنه، والله أعلم. كان كافرا ثم أسلم، وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام. وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء، والوصائل من الحرير والحبر.
ونحر عنده ستة آلاف بدنة. وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن. وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة، عن أبي بن كعب وعبد
الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وكعب الأحبار. وإليه المرجع في ذلك كله، وإلى عبد الله بن سلام أيضا. وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهبه بن منبه ومحمد بن إسحاق في (السيرة) كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات، ترجمة تبع هذا، بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل. فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه. ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة الثيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى، كما ذكره في سورة سبأ.
وتبع هذا هو تبع الأوسط. واسمه أسعد أبو كرب. ولم يكن في حمير أطول مدة منه. وتوفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة، أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد، قال في ذلك شعرا، واستودعه عند أهل المدينة. فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف. وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وهو:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه ... وفرجت عن صدره كل غم
ثم ساق ابن كثير آثارا في النهي عن سبه: وبالجملة فإن قصته المذكورة والمروي في شأنه، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح، إلا أن ذلك مما يتحمل التوسع فيه، لكونه نبأ محضا مجردا عن حكم شرعي. نعم، لا يشك أن قريشا كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر، ما فيه أكبر موعظة لها، ولذا طوى نبأه، إحالة على ما تعرفه من أمره، وما تسمر به من شأنه. وما القصد إلا العظة والاعتبار، لا قص ذلك خبرا من الأخبار، وسمرا من الأسمار، كما هو السر في أمثال نبئه. وبالله التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 39]
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون (39)
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق أي الاستدلال على خالقهما، لعبادته وطاعته ولكن أكثرهم لا يعلمون أي حكمة خلقها، فيعرضون عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 40 الى 42]
إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (40) يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون (41) إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم (42)
إن يوم الفصل أي فصل الله بين الخلائق وقضاءه عليهم، ليجزيهم بما أسلفوا من خير أو شر ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا أي عليه إثابة أو تحمل عقاب ولا هم ينصرون إلا من رحم الله أي بأن وفقه للإيمان والعمل الصالح إنه هو العزيز أي الغالب في انتقامه من أعدائه الرحيم أي بأوليائه وأهل طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 43]
إن شجرة الزقوم (43)
إن شجرة الزقوم أي التي هي أخبث شجرة معروفة في البادية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 44]
طعام الأثيم (44)
طعام الأثيم أي الفاجر الكثير الآثام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 45 الى 46]
كالمهل يغلي في البطون (45) كغلي الحميم (46)
كالمهل وهو دردي الزيت، أي عكره في قعره يغلي في البطون أي يضطرب فيها من شدة الحرارة فيقلق القلوب ويحرقها. وقوله كغلي الحميم أي الماء الحار الذي انتهى غليانه. وقوله: في البطون كقوله نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة [الهمزة: 6- 7] ، وهذه الآية كآية الصافات أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالؤن منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم [الصافات: 62- 67] ،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 47]
خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم (47)
خذوه فاعتلوه أي ادفعوه بعنف إلى سواء الجحيم أي وسطها ومعظمها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 48]
ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم (48)
ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم أي لتستوفي جميع أجزاء بدنه نصيبها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 49]
ذق إنك أنت العزيز الكريم (49)
ذق إنك أنت العزيز الكريم أي يقال له ذلك، على سبيل الهزء والتهكم، فيتم له، مع العذاب الأول، وهو الحسى، العذاب العقلي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 50]
إن هذا ما كنتم به تمترون (50)
إن هذا أي العذاب أو الأمر ما كنتم به تمترون أي تشكون، مع ظهور دلائله. أو تتمارون وتتلاحقون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 51]
إن المتقين في مقام أمين (51)
إن المتقين في مقام أمين أي يأمن صاحبه من الخوف والفزغ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 52 الى 53]
في جنات وعيون (52) يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين (53)
جنات وعيون
يلبسون من سندس وإستبرق أي ما رق من الحرير وكثف متقابلين أي في مجالسهم أو أماكنهم، لحسن ترتيب الغرف، وتصفيف منازلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 54]
كذلك وزوجناهم بحور عين (54)
كذلك وزوجناهم بحور عين أي قرناهم بما فيه قرة أعينهم واستئناس قلوبهم، لوصولهم بمحبوبهم، وحصولهم على كمال مرادهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 55]
يدعون فيها بكل فاكهة آمنين (55)
يدعون فيها بكل فاكهة آمنين أي يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه، آمنين من كل ضرر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 56 الى 59]
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم (57) فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (58) فارتقب إنهم مرتقبون (59)
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى قال ابن جرير: أي لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة، الموت بعد الموتة الأولى، التي ذاقوها في الدنيا.
وكان بعض أهل العربية يوجه إلا هنا بمعنى (سوى) أي سوى الموتة الأولى. انتهى.
يعني أن الاستثناء منقطع، أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم فإنما يسرناه بلسانك أي سهلناه حيث أنزلناه بلغتك، وهو فذلكة للسورة لعلهم يتذكرون أي يتعظون بعبره وعظاته وحججه، فينيبوا إلى طاعة ربهم ويذعنوا للحق فارتقب أي ما يحل بهم من زهوق باطلهم إنهم مرتقبون أي منتظرون عند أنفسهم غلبتك. أو هو قولهم نتربص به ريب المنون وهذا وعد له صلى الله عليه وسلم بالنصرة والفتح عليهم، وتسلية ووعيد لهم. وقد أنجز الله وعده، كما قال سبحانه: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [المجادلة: 21] ، وقوله تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر: 51] .
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجاثية
سميت بها لتضمن آيها بيان سبب تأخير البعث إلى يوم القيامة، لأجل اجتماع الأمم محاكمة إلى الله تعالى، وفصله بينهم يوم القيامة، وهي من المطالب الشريفة في القرآن. وتسمى (سورة الشريعة) لتضمن آيها وجه نسخ هذه الشريعة، سائر الشرائع، وفضلها عليها. وهو أيضا من المطالب العزيزة فيه. قاله المهايمي.
وهي مكية. واستثنى بعضهم منها آية قل للذين آمنوا يغفروا [الجاثية:
14] ، فإنه قيل إنها مدنية، نزلت في شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما سيأتي، وآياتها سبع وثلاثون آية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2)
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم قال المهايمي: فعزته تقتضي إفاضة الحجج التي بها الغلبة على الخصوم، وإفاضة الكمالات التي يعسر الوصول إليها.
وأنواع السعادات، وحدة النظر، والحكمة تقتضي محو الشبه وإزالة النقائص وإحراق الشقاوة وتمهيد الفكر. وقد نزله من مقام عزته بمقتضى حكمته، لتكميل القوة النظرية والعملية، ليتوسل بها إلى الكمالات الحقيقية، من الإيمان والإيقان والعقل.
وذلك بالنظر إلى أنواع الآيات المتضمنة للحجج ورفع الشبه. فمنها آيات الأجسام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 3 الى 5]
إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين (3) وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون (4) واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون (5)
إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق أي مطر. سمي رزقا لأنه سببه فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون أي عن الله، ما وعظهم به ودعاهم إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 6]
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون (6)
تلك آيات الله أي الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون أي بعد آياته ودلائله الباهرة. وتقديم اسم الله للمبالغة والتعظيم. كما في قولك (أعجبني زيد وكرمه) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 7]
ويل لكل أفاك أثيم (7)
ويل لكل أفاك أي كذاب يتكلم في حق الله وصفاته على خلاف الدليل أثيم أي بترك الاستدلال، لا سيما إذا لم يترك عن غفلة، بل مع كونه،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 8 الى 12]
يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8) وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9) من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10) هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم (11) الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12)
يسمع آيات الله أي لا بالإخبار عنها بالغيب، بل تتلى عليه ثم يصر أي على إنكارها مستكبرا أي عن قبولها، لا يتأثر بها أصلا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا استهانة بها أولئك لهم عذاب مهين من ورائهم جهنم أي من بعد انقضاء آجالهم، عذابها ولا يغني عنهم ما كسبوا أي من الأموال والأولاد شيئا أي من عذاب الله ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء يعني آلهتهم التي عبدوها، أو رؤساءهم الذين أطاعوهم في الكفر واتخذوهم نصراء في الدنيا ولهم عذاب عظيم هذا أي القرآن هدى أي بيان ودليل على الحق، يهدي إلى صراط مستقيم من اتبعه وعمل بما فيه والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره أي بتسخيره ولتبتغوا من فضله أي باستفادة علم وتجارة وأمتعة غريبة، وجهاد وهداية وغوص فيه، لاستخراج لآليه، وصيد منه لعلكم تشكرون أي نعمة هذا التسخير، فتعبدوه وحده، وتصرفوا ما أنعم به عليكم، إلى ما خلقتم له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 13]
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (13)
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون أي في آيات الله وحججه وأدلته، فيعتبرون بها ويتفكرون. قال المهايمي: منها أن ربط بعض العالم بالبعض دليل توحيده. وجعل البعض سبب البعض، دليل حكمته، وجعل الكل مسخرا للإنسان، دليل كمال جوده. فمن أنكر هذه الآيات ولم يشكر هذه النعم، استوجب أعظم وجوه الانتقام.






ابوالوليد المسلم 25-02-2025 10:31 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الدخان
المجلد الرابع عشر
صـ 5321 الى صـ 5330
الحلقة (545)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 14]
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون (14)
قل للذين آمنوا أي صدقوا بالله واتبعوك يغفروا للذين لا يرجون أيام الله أي لا يخافون بأس الله ونقمه ووقائعه بأعدائه ليجزي قوما بما كانوا يكسبون أي من علمهم. ومنه العفو والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش. وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد شتمه رجل من غفار، فهم أن يبطش به، فتكون الآية مدنية. قيل: يؤيده ما أورد على كونها مكية. من أن من أسلم بها كانوا مقهورين فلا يمكنهم الانتصار منهم. والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح. وأجيب بأن المراد أنه يفعل ذلك بينه وبين الله بقلبه، ليثاب عليه. مع أن دوام عجز كل أحد منهم غير معلوم. فالصواب أن الآية مكية كالسورة. ومعنى نزولها في عمر- إن صح- صدقها على قضيته، والاستشهاد بها لسماحه. كما حققنا المراد من النزول، غير ما مرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 15]
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (15)
من عمل صالحا فلنفسه أي لكونه افتكها من العذاب ومن أساء فعليها أي أساء عمله بمعصية ربه، فعلى نفسه جنى، لأنه أوبقها بذلك ثم إلى ربكم ترجعون أي تصيرون. فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 16]
ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16)
ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب أي التوراة والحكم أي الفهم بالكتاب
والعلم بالسنن التي لم تنزل بالكتاب والنبوة أي جعلنا منهم أنبياء ورسلا إلى الخلق ورزقناهم من الطيبات يعني المن والسلوى وفضلناهم على العالمين أي عالمي أهل زمانهم، بإيتائهم ما لم يؤت غيرهم. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 17]
وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (17)
وآتيناهم بينات من الأمر أي حججا وبراهين وأدلة قاطعات، تأبى الاختلاف، ولكن أبوا إلا الاختلاف فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم أي ظلما وتعديا منهم، لطلب الحظوظ العاجلة إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي بالمؤاخذة والمجازاة. قال ابن كثير: وهذا فيه تحذير لهذه الأمة، أن تسلك مسلكهم. وأن تقصد منهجهم. ولهذا قال جل وعلا:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 18]
ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)
ثم جعلناك على شريعة من الأمر أي على طريقة وسنة ومنهاج من أمر الدين، الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا فاتبعها أي تلك الشريعة الثابتة بدلائل والحجج ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون
يعني المشركين وما هم عليه من الأهواء التي لا حجة عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 19]
إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين (19)
إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا أي لن يدفعوا عنك من غضبه وعقابه شيئا ما، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض أي أعوان وأنصار على المؤمنين وأهل الطاعة. أو في التحزب والتقوى. ولكن ماذا تغنيهم ولايتهم لبعضهم وقد تخلت عناية الله ونصرته عنهم؟ والله ولي المتقين أي من اتقاه بعبادته وحده، وخشيته بكفايته من بغى عليه، وكاده بسوء. والأظهر تفسير الآية بآية الله ولي الذين آمنوا
يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات
[البقرة: 257] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 20 الى 21]
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20) أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21)
هذا أي القرآن بصائر للناس أي يبصرون به الحق من الباطل، ويعرفون به سبيل الرشاد. قال الزمخشري: جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع، بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل روحا وحياة، أي فهو تشبيه بليغ وهدى أي من الضلالة ورحمة أي من العذاب لمن آمن وأيقن لقوم يوقنون أي يطلبون اليقين أم حسب الذين اجترحوا السيئات
أي اكتسبوا سيئات الأعمال أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون
أي من عدم التفاوت. قال الزمخشري: والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا.
وأن يستووا مماتا. لافتراق أحوالهم أحياء حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي. ومماتا حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعد لهم. انتهى.
وزد عليه: حيث عاش هؤلاء على الهدى والعلم بالله وسنن الرشاد وطمأنينة القلب، وأولئك على الضلال والجهل والعبث بالفساد واضطراب القلب وضيق الصدر، بعدم معرفة المخرج المشار إليه بآية ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [طه: 124] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 22]
وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (22)
وخلق الله السماوات والأرض بالحق أي بالحكمة والصواب. قال ابن جرير:
أي للعدل والحق، لا لما حسب هؤلاء الجاهلون بالله، من التسوية بين الأبرار
والفجار. لأنه خلاف العدل والإنصاف ولتجزى كل نفس بما كسبت قال الزمخشري:
معطوف على (بالحق) لأن فيه معنى التعليل. أو على معلل محذوف، تقديره، خلق الله السموات والأرض ليدل بها على قدرته، ولتجزى كل نفس وهم لا يظلمون أي في جزاء أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 24]
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23) وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24)
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أي من ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى، فكأنه يعبده. فجعله إلها تشبيه بليغ أو استعارة. قال القاشاني: الإله المعبود، ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلها. إذ كل ما يعبده الإنسان بمحبته وطاعته، فهو إلهه لو كان حجرا! وأضله الله على علم. أي عالما بحاله، من زوال استعداده، وانقلاب وجهه، إلى الجهة السفلية. أو مع كون ذلك العابد للهوى عالما بعلم ما يجب عليه فعله في الدين، على تقدير أن يكون على علم حالا من الضمير المفعول في أضله الله لا من الفاعل. وحينئذ يكون الإخلال لمخالفته علمه بالعمل، وتخلف القدم عن النظر. لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى. أو على علم منه غير نافع. لكونه من باب الفضول. ليس فيه إلى الحق سلوك ووصول وختم على سمعه وقلبه أي بالطرد عن باب الهدى، والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه، لمكان الرين وغلظ الحجاب، فلا يعقل منه شيئا وجعل على بصره غشاوة أي عن رؤية حجج الله وآياته فمن يهديه من بعد الله أي فمن يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه أفلا تذكرون وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا أي ما الحياة أو الحال غير حياتنا هذه التي نحن فيها نموت أي بالموت البدني الطبيعي، ونحيا أي الحياة الجسمانية الحسية، لا موت ولا حياة غيرهما وما يهلكنا إلا الدهر أي مر الليالي والأيام وطول العمر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون أي: وما يقولون ذلك عن علم ولكن عن ظن وتخمين. وبذلك إشارة إلى نسبة الحوادث إلى الدهر، أو إلى إنكار البعث، أو إلى كليهما قال الزمخشري: كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس. وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح
بأمر الله، وكانوا يضيفون كل حادثة وحدث إلى الدهر والزمان. وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان، ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم «1»
(لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر)
أي فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر. انتهى.
وقال الخطابي، معناه أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر.
فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور، عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها.
وإنما الدهر زمان جعل ظرفا لمواقع الأمور. وكان عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر فقالوا (بؤسا للدهر) و (تبا للدهر) . انتهى.
قال ابن كثير: وقد غلط ابن حزم. ومن نحا نحوه من الظاهرية، في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى. أخذا من هذا الحديث. انتهى.
تنبيه:
في هذه الآية رد على الدهرية. وهم المعطلة بأن متمسكهم ظن وتخمين. لم يشم رائحة اليقين. وما هذا سبيله، فباب القبول في وجهه مسدود إن الظن لا يغني من الحق شيئا [يونس: 36] .
قال الشهرستاني في معطلة العرب: فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني. وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا. إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي. وقصر الحياة والموت على تركبها وتحللها.
فالجامع هو الطبع، والمهلك هو الدهر وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون. فاستدل عليهم بضرورات فكرية، وآيات فطرية، في كم آية وسورة فقال تعالى: أولم يتفكروا، ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين [الأعراف: 184] . أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض [الأعراف:
185] . وقال: أولم يروا إلى ما خلق الله [النحل: 48] ، وقال قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [فصلت: 9] . وقال يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم [البقرة: 21] . فثبتت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق. فإنه قادر على الكمال. إبداء وإعادة. انتهى.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 229. عن أبي قتادة.

ولي في الرد على الدهريين، وهم الماديون والطبيعيون، كتاب وسمته (دلائل التوحيد) فليرجع إليه المريد، فليس وراءه، بحمده تعالى، من مزيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 25]
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (25)
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات أي بأن الله باعث خلقه يوم القيامة ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أي انشروهم أحياء، حتى نصدق ببعثنا أحياء بعد مماتنا، وإطلاق الحجة على ذلك، إما حقيقة بناء على زعمهم، فإنهم ساقوه مساق الحجة، أو هو مجاز تهكما بهم. كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. بمعنى أن لا حجة لهم البتة، وفيه مبالغة لتنزيل التضاد منزلة التجانس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 26]
قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26)
قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي قل لهم في جواب قولهم وما يهلكنا إلا الدهر: قل الله يحييكم ثم يميتكم، لا الدهر. لما عرف من وجوب رجوع العالم إلى واجب الوجود، هو سبب الأسباب، ومصدر الكائنات، أو قل لهم (في جواب إنكارهم البعث) : بأن من قدر على الإبداء، قدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة، على ما مر مرارا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 27]
ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27)
ولله ملك السماوات والأرض أي فلا مالك غيره، ولا معبود سواه ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون أي الذين أتوا بالباطل في أقوالهم وأفعالهم، وهم عبدة غيره تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 28 الى 31]
وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30) وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31)
وترى كل أمة جاثية أي باركة، مستوفزة على الركب لا حراك بها. شأن الخائف المنتظر لما يكره وذلك عن الحساب أو في الموقف الأول، وقت البعث قبل الجزاء كل أمة تدعى إلى كتابها أي اللوح الذي أثبت فيه أعمالها. ويعطى بيمين من كان سعيدا. وشمال من كان شقيا اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق أي يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان، وإنما أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه تعالى، لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم إنا كنا نستنسخ أي نستكتب الملائكة ما كنتم تعملون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي ما صلح به حالهم في المعاد الجسماني فيدخلهم ربهم في رحمته أي في جنته ذلك هو الفوز المبين وأما الذين كفروا أي فيقال لهم أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين أي بكسب الآثام، والكفر بالله، وعدم التصديق بمعاد، ولا الإيمان بثواب وعقاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 32]
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32)
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة أي: أي شيء هي؟ أي: لا نستيقن بها إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين أي إنها كائنة وآتية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 33 الى 35]
وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (33) وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (34) ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون (35)
وبدا لهم سيئات ما عملوا أي قبائح أعمالهم، أو عقوبات أعمالهم السيئات وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن يعني الجزاء وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا أي نترككم في العذاب ترك ما ينسى، كما تركتم التأهب له.
ف ننساكم استعارة أو مجاز مرسل ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا أي خدعتكم حتى آثرتموها على الآخرة
وزعمتم أن لا حياة سواها فاليوم لا يخرجون منها أي من النار ولا هم يستعتبون أي ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه. من (الإعتاب) وهو إزالة العتب.
كناية عن الإرضاء. أو: لا هم يردون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة، فما بعد الموت مستعتب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]
فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37)
فلله الحمد أي الثناء الكامل. قال ابن جرير: أي فلله الحمد على نعمه وأياديه عند خلقه. فإياه فاحمدوا أيها الناس، فإن كل ما بكم من نعمة فمنه، دون ما تعبدون من دونه، من آلهة ووثن رب السماوات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السماوات والأرض أي الاستعلاء،. ونهاية الرفع والكبر على كل شيء، وغاية العلو والعظمة باستغنائه عنه وافتقاره إليه وهو العزيز أي القوي القاهر لكل شيء الحكيم قال القاشاني: أي المرتب لاستعداد كل شيء، بلطف تدبيره، المهيئ لقبوله، لما أراد منه من صفاته، بدقيق صنعته، وخفي حكمته (لا إله إلا هو رب العالمين) .
وافق الفراغ من تفسير هذه السورة قبيل ظهر الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة عام 1326 بمنزلنا بدمشق الشام. بقلم جامعه جمال الدين القاسمي.






ابوالوليد المسلم 25-02-2025 10:41 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الاحقاف
المجلد الرابع عشر
صـ 5331 الى صـ 5345
الحلقة (546)






بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحقاف
قال المهايمي: سميت بها لأن مكانها من حيث قبوله سرعة تأثير ريح العذاب فيه. كالدليل على إنذاره. ففيه إشعار على أن إنذارات القرآن كالدلائل على أنفسها.
ثم في قصتهم اتساق الإنذار إلى صيرورة المرجو مخوفا. ففيه إشعار بأن إنذارات القرآن مما يخاف منها صيرورة ما يرجوه الجهال مخوفا عليهم. وذلك من أعظم مقاصد القرآن. انتهى.
وهي مكية. واستثنى بعضهم منها والذي قال لوالديه ... [الأحقاف:
17] الآيتين. وقوله: قل أرأيتم إن كان من عند الله ... [الأحقاف: 10] الآية.
ووصينا الإنسان بوالديه [الأحقاف: 15] الأربع الآيات. فاصبر كما صبر [الأحقاف: 35] الآية، فهي مدنية- كذا قيل. وتقدم في طليعة سورة الجاثية تحقيق ذلك. وآيها خمس وثلاثون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3)
حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق أي: الحكمة وإقامة العدل في الخلق. وأجل مسمى أي: وبتقدير أجل معين لكل منها، يفنيه إذا هو بلغه، وهو يوم القيامة. والذين كفروا عما أنذروا أي: من هول ذلك اليوم معرضون أي: لا يؤمنون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 4]
قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين (4)
قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أي: من الأوثان التي تعبدونها. أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أي أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضي بالاستقلال، أو شيء سماوي بالشركة، حتى تستحق العبادة. ائتوني بكتاب من قبل هذا تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي، بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي. أي: ائتوني بكتاب إلهي من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد، وإبطال الشرك، دال على صحة دينكم. أو أثارة من علم أي: أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين، شاهدة باستحقاقهم للعبادة. إن كنتم صادقين أي: في دعواكم، فإنها لا تكاد تصح، ما لم يقم عليها برهان عقلي، أو سلطان نقلي. وحيث لم يقم عليها شيء منهما، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل، تبين بطلانها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 5]
ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (5)
ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له أي: دعاءه لعجزه عنها إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون أي: لأنهم إما جمادات، وإما مسخرون مشغولون بأحوالهم. و (الغفلة) مجاز عن عدم الفائدة فيها. أو هو تغليب لمن يتصور منه الغفلة على غيره.
لطيفة:
قال الناصر: في قوله إلى يوم القيامة نكتة حسنة. وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة. ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية، لأنهم في القيامة أيضا لا يستجيبون لهم. فالوجه- والله أعلم- أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها، وإن وافق ما قبلها، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني، حتى كان الحالتين، وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما، كالشيء وضده. وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة، لا تزيد على عدم الاستجابة. والحالة الثانية التي في القيامة، زادت على عدم الاستجابة بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم. فهو من وادي ما تقدم آنفا في سورة الزخرف في قوله بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين، ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون [الزخرف: 29- 30] انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 6]
وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين (6)
وإذا حشر الناس أي: جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب كانوا أي:
آلهتهم لهم أعداء أي: لتبرئتهم منهم. قال الشهاب: أعداء استعارة، أو مجاز مرسل للضار. وكانوا بعبادتهم كافرين قال ابن جرير: أي وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا، بعبادتهم جاحدين، لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم، يا ربنا! أي: فالتكذيب بلسان المقال، قصدا إلى بيان أن معبودهم في الحقيقة الشياطين وأهواؤهم.
وقال القاشاني: كانوا أعداء، لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم، لا تكون إلا لغرض نفساني. وكذا استعباد الموالي لخدمهم. فإذا ارتفعت الأغراض، وزالت العلل والأسباب، كانوا لهم أعداء، وأنكروا عبادتهم.، يقولون: ما خدمتمونا، ولكن خدمتم أنفسكم. كما قيل في تفسير قوله: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو [الزخرف: 67] . انتهى.
وقيل: الضمير في كانوا في الموضعين، للعابدين، لئلا يلزم التفكيك.
وفيه نظر: لأنه خلاف المتبادر من السياق، إذ هو لبيان حال الآلهة معهم، لا عكسه، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم. وتسميته كفرا، خلاف الظاهر أيضا. وقد أوضح ذلك آية واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا، كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [مريم: 81- 82] . والقرآن يفسر بعضه بعضا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 7]
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين (7)
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين أي: بادهوه بالجحود أول ما سمعوه، من غير إجالة فكر، ولا إعمال روية. واللام في للحق لام الأجل متعلقة ب قال. وقيل: بمعنى الباء، متعلقة ب كفروا، وعدي الكفر باللام، حملا على نقيضه، وهو الإيمان، فإنه يعدى بها نحو أنؤمن لك [الشعراء: 111] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 8]
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم (8)
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا أي: لا تقدرون أن تدفعوا عني سوءا، إن أصابني به. و (أم) - على ما قالوا- منقطعة مقدرة ب (بل) الإضرابية وهمزة الاستفهام، المتجوز به عن الإنكار والتعجيب. ووجه كون الافتراء أشنع من السحر، حتى أضرب عنه، أن الكذب خصوصا على الله متفق على قبحه، حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر، فإنه، وإن قبح، فليس بهذه المرتبة، حتى تكاد تعد معرفته من السمات المرغوبة.
وقال الناصر: هذا الإضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفا في بابها، فإنه انتقال إلى موافق، لكنه أزيد من الأول، فنزل لزيادته عليه، مع ما تقدمه مما ينقص عنه، منزلة المتنافيين، كالنفي والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر. وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات، أشد وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر. فأضرب عن ذلك الأول إلى ذكر ما هو أغرب منه. انتهى.
هو أعلم بما تفيضون فيه أي: تخوضون في حقه من أنه سحر أو إفك كفى به شهيدا بيني وبينكم أي: يشهد لي بالصدق بما يؤيدني به من آياته وصدق مواعيده وهو الغفور الرحيم أي: لمن راجع منكم الكفر وتاب وآمن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 9]
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين (9)
قل ما كنت بدعا من الرسل أي: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه. قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم، فلم تستنكرون بعثتي، وتستبعدون رسالتي، كقوله: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل [آل عمران: 144] ، و (البدع) كالبديع، بمعنى الجديد المبتدأ. قال ابن جرير: ومن البدع قول عدي بن زيد:
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالا عرت من بعد بؤسى وأسعد
ومن البديع قول الأحوص:
فخرت فانتمت فقلت: ذريني ... ليس جهل أتيته ببديع
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم قال أبو السعود: أي: أي شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان، من أفعاله تعالى، وماذا يقدر لنا من قضاياه. وعن الحسن رضي الله عنه: ما أدري ما يصير إليه أمري، وأمركم في الدنيا. وقيل: يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة. والأظهر أن (ما) عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية، دون ما سيقع في الآخرة، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين. انتهى.
وهذا الأظهر يقرب من قول الحسن. وهو ما عول عليه ابن جرير. قال ابن كثير: بل لا يجوز غيره. كيف؟ وهو صلى الله عليه وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة، هو ومن اتبعه
بإحسان. وأما في الدنيا، فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره، وأمر مشركي قريش، أيؤمنون، أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم. فأما الحديث الذي
رواه الإمام أحمد «1» عن أم العلاء، وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (طار لنا في السكنى، حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، عثمان بن مظعون رضي الله عنه، فاشتكى عثمان عندنا، فمرضناه. حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: رحمة الله عليك، أبا السائب! شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير.
والله! ما أدري- وأنا رسول الله- ما يفعل بي! قالت: فقلت: والله! لا أزكي أحدا بعده أبدا وأحزنني ذلك. فنمت، فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينا تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك عمله) فقد انفرد بإخراجه البخاري «2» دون مسلم، وفي لفظ له: ما أدري- وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما يفعل به
.
وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ، بدليل قولها: فأحزنني ذلك. وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة، إلا الذي نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة وابن سلام والعميصاء وبلال وسراقة وعبد الله بن عمرو بن حرام (والد جابر) والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة، وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم. انتهى كلام ابن كثير.

وقال المهايمي: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أي: فيما لو يوح إلي.
والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي. ولم يكن لي أن أضم إلى الوحي كذبا من عندي.
إن أتبع أي: في تقرير الأمور الغيبية إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين أي منذر عقاب الله على كفركم به، أبان لكم إنذاره وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم وسعادتكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 10]
قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (10)
(1)
أخرجه في المسند 6/ 436.

(2)
أخرجه في: الجنائز، 3- باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه، حديث رقم 666.

قل أرأيتم إن كان من عند الله أي: القرآن منزلا من لدنه، علي. لا سحرا ولا مفترى كما تزعمون وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل أي: من الواقفين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثله أي مثل القرآن، وهو ما في التوراة من الأحكام المصدقة للقرآن من الإيمان بالله وحده، وهو ما يتبعه، كقوله تعالى: وإنه لفي زبر الأولين [الشعراء: 196] ، وقوله: إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [الأعلى: 18- 19] ، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى. أو على مثل شهادة القرآن، فجعل شهادته على أنه من عند الله، شهادة على مثل شهادة القرآن، لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله، أو (المثل) صلة و (الفاء) في قوله تعالى فآمن للدلالة على أنه سارع إلى الإيمان بالقرآن، لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق واستكبرتم أي: عن الإيمان به بعد هذه الشهادة.
وقوله إن الله لا يهدي القوم الظالمين استئناف مشعر بأن كفرهم، لضلالهم المسبب عن ظلمهم. ودليل على الجواب المحذوف. مثل: (ألستم ظالمين) أو (فمن أضل منكم) وذلك عدم الهداية مما ينبئ عن الضلال قطعا، فيكون كقوله في الآية الأخرى قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد [فصلت: 52] .
قال أبو السعود: ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم، لظلمهم.
تنبيه:
روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام، فتكون الآية مدنية مستثناة من السورة، كما ذكره الكواشي، لأن إسلامه كان بالمدينة. وأجيب: بأن لا حاجة للاستثناء، وأن الآية من باب الإخبار قبل الوقوع، كقوله ونادى أصحاب الأعراف [الأعراف:
48] . ويرشحه أن شهد معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلا، فلا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ويكون تفسيره به بيانا للواقع، لا على أنه مراد بخصوصه منها. هذا ما حققوه. ويقرب مما نذكره كثيرا من المراد من سبب النزول في مثل هذا، وأنه استشهاد على ما يتناوله اللفظ الكريم.
ثم أشار إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل والمؤمنين به، فقال سبحانه:





ابوالوليد المسلم 25-02-2025 10:46 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الاحقاف
المجلد الرابع عشر
صـ 5346 الى صـ 5355
الحلقة (547)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 11]
وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (11)
وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان أي: الإيمان، أو ما أتى به الرسول خيرا ما سبقونا إليه أي: لو كان من عند الله لكنا أولى به، كسائر الخيرات من المال والجاه.
قال ابن كثير: يعنون بلالا وعمارا وصهيبا وخبابا رضي الله عنهم، وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء. وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة، وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، وأخطئوا خطأ بينا، كما قال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا [الأنعام: 53] أي: يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا، ولهذا قالوا: لو كان خيرا ما سبقونا إليه، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بدعة. لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.
انتهى. وإذ لم يهتدوا به أي: بالقرآن فسيقولون هذا إفك قديم أي: كذب قديم، كما قالوا: أساطير الأولين. قال ابن كثير: فيتنقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي
قال «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم: بطر الحق وغمط الناس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 12]
ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (12)
ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أي: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه، ورحمة لمن آمن به، وعمل بما فيه. وهذا أي الذي يقولون فيه ما يقولون كتاب مصدق
(1)

أخرجه الترمذي في: البر والصلة، 61- باب ما جاء في الكبر ونصه: عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. ولا يدخل النار (يعني من في قلبه مثقال ذرة من إيمان) .
قال، فقال له رجل: إنه يعجبني أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنة.
قال: إن الله يحب الجمال. ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس.
أي: لكتاب موسى من غير تعلم من أنزل عليه إياه لسانا عربيا أي: بينا واضحا. وفي تقييد الكتاب بذلك، مع أن عربيته أمر معلوم الدلالة، على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها، وهي غير عربية. ومثله لا يكون ممن يعرف ذلك اللسان بغير وحي من الله تعالى. لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 الى 14]
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (13) أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون (14)
إن الذين قالوا ربنا الله أي: لا غيره. ثم استقاموا أي: على العمل الصالح. قال القاضي: أي جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم، والاستقامة في الأمور، التي هي منتهى العمل. وثم للدلالة على تأخير رتبة العمل، وتوقف اعتباره على التوحيد فلا خوف عليهم أي: من هول يوم القيامة ولا هم يحزنون أي: لا يحزنهم الفزع الأكبر. أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 15]
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين (15)
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا وقرئ (حسنا) وهذا تمهيد لمن عقهما وعصاهما في الإيمان المذكور، في قوله تعالى: والذي قال لوالديه [الأحقاف:
17] الآية.
حملته أمه كرها ووضعته كرها أي: ذات كره، أو حملا ذا كره، وهو المشقة. وحمله وفصاله أي: حمله جنينا في بطنها، وفطامه من الرضاع ثلاثون شهرا أي: تمضي عليها بمعاناة المشاق، ومقاساة الشدائد لأجله، مما يوجب للأم مزيد العناية، وأكيد الرعاية. لا يقال: بقي ثلاثة أشهر، لأن أمد الرضاع حولان، لأنا نقول: إن الحولين أمد من أراد تمام الأجل، وإلا فأصله أقل منهما، كما ينبئ عنه
قوله تعالى: حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [البقرة: 233] ، ولئن سلم أنهما أمدها، فيكون في الآية الاكتفاء بالعقود، وحذف الكسور، جريا على عرفهم في ذلك، كما ذكروه في حديث أنس في وفاته صلى الله عليه وسلم على رأس ستين سنة، مع أن الصحيح أنه توفي عن ثلاث وستين، كما بين في شرح الشمائل. قالوا: إن الراوي للأولى اقتصر فيها على العقود وترك الكسور، وسر ذلك هو القصد إلى ذكر المهم، وما يكتفي به فيما سيق له الكلام، لا ضبط الحساب، وتدقيق الأعداد.
قال ابن كثير: وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان وفصاله في عامين [لقمان: 14] ، وقوله تبارك وتعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [البقرة: 233] ، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
حتى إذا بلغ أشده أي: استحكم قوته وعقله وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أي: ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي أي: بالهداية للتوحيد، والعمل بطاعتك، وغير ذلك. وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي أي: واجعل الصلاح ساريا في ذريتي، راسخا فيهم إني تبت إليك أي: من ذنوبي التي سلفت مني وإني من المسلمين أي: المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 16]
أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (16)
أولئك أي الموصوفون بالتوبة والاستقامة الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا أي: من الصالحات فنجازيهم عليها ونتجاوز عن سيئاتهم أي: فلا نعاقبهم عليها لتوبتهم في أصحاب الجنة أي: معدودين في زمرتهم ثوابا ومقاما.
قال الشهاب: والظاهر أنه من قبيل وكانوا فيه من الزاهدين [يوسف: 20] ليدل على المبالغة بعلو منزلتهم فيها، إذ قولك (فلان من العلماء) أبلغ من قولك (عالم) . ولم يبينوه هاهنا، ومن لم يتنبه لهذا قال (في) بمعنى (مع) . انتهى.
وعد الصدق الذي كانوا يوعدون أي: وعدهم تعالى هذا الوعد، وعد الحق
في الدنيا، وهو موفيه لهم في الآخرة، كما قال: وما ألتناهم من عملهم من شيء [الطور: 21] .
ثم بين تعالى نعت من عصى ما وصى به من الإحسان لوالديه، من كل ولد عاق كافر، وما له في مآله، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 17]
والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين (17)
والذي قال لوالديه أي حين دعواه إلى الإيمان والاستقامة أف لكما أي:
من هذه الدعوة أتعدانني أن أخرج أي: أبعث من قبري بعد فنائي وقد خلت القرون من قبلي أي: هلكت ولم يرجع أحد منهم وهما يستغيثان الله أي:
يطلبان الغياث بالله منه. والمراد إنكار قوله، واستعظامه، كأنهما لجئا إلى الله في دفعه، كما يقال (العياذ بالله) ! أو المعنى: يطلبان أن يغيثه الله بالتوفيق، حتى يرجع عما هو عليه ويلك آمن أي: صدق بوعد الله، وأقر أنك مبعوث بعد موتك.
وويلك في الأصل معناه الدعاء بالهلاك، فأقيم مقام الحث على فعل أو ترك، للإيماء إلى أن مرتكبه حقيق بأن يطلب له الهلاك، فإذا سمع ذلك ترك ما هو فيه، وأخذ ما ينجعه إن وعد الله حق أي: إن وعده تعالى لخلقه، بأنه يبعثهم من قبورهم إلى موقف الحساب، لمجازاتهم بأعمالهم، حق لا شك فيه فيقول أي:
مجيبا لوالديه، ورادا عليهما نصيحتهما، وتكذيبا بوعد الله ما هذا إلا أساطير الأولين أي: أباطيلهم التي كتبوها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 18]
أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين (18)
أولئك الذين حق عليهم القول أي: الإلهي، وهو العذاب في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس أي: الذين كذبوا رسل الله، وعتوا عن أمره إنهم كانوا خاسرين أي: ببيعهم الهدى بالضلال، والباقي بالفاني.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 19]
ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون (19)
ولكل أي من الفريقين درجات مما عملوا أي: مراتب من جزاء ما عملوا من صالح وسيء وليوفيهم أعمالهم أي جزاءها وهم لا يظلمون أي بنقص ثواب، ولا زيادة عقاب.
تنبيه:
روى ابن جرير عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر الصديق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، قال لأبويه- وهما أبو بكر وأم رومان، وكانا قد أسلما وأبى هو أن يسلم، فكانا يأمرانه بالإسلام، فكان يرد عليهما ويكذبهما ويقول: فأين فلان، وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات. فأسلم بعد، فحسن إسلامه- فنزلت توبته في هذه الآية ولكل درجات مما عملوا.
قال الحافظ ابن حجر: لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته، أصح إسنادا وأولى بالقبول. وذلك ما رواه البخاري «1» والإسماعيلي والنسائي وأبو يعلى أن مروان كان عاملا على المدينة، فأراد معاوية أن يستخلف يزيد، فكتب إلى مروان بذلك، فجمع مروان الناس فخطبهم، فذكر يزيد، ودعا إلى بيعته وقال: إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه، فقد استخلف أبو بكر وعمر. فقال عبد الرحمن: ما هي إلا هرقلية! فقال مروان: سنة أبي بكر وعمر.
فقال عبد الرحمن: هرقلية! إن أبا بكر، والله! ما جعلها في أحد من ولده، ولا في أهل بيته، وما جعلها معاوية إلا كرامة لولده! فقال مروان: خذوه. فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه. فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري. ولو شئت أن أسمي من نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله لعن أبا مروان، ومروان في صلبه.
ومما يؤيده أن الذين حق عليهم القول هم المخلدون في النار في علم الله تعالى، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. وحاول بعضهم عدم التنافي بأن يقع منه ذلك قبل إسلامه، ثم يسلم بعد ذلك. ومعلوم أن الإسلام يجب
(1)
أخرجه في: التفسير، 46- سورة الأحقاف، 1- باب والذي قال لوالديه، حديث رقم 2043، عن عائشة.

ما قبله، وأن معنى الوعيد في الآية إنما هو للمصرين عليه الذين لم يقلعوا، لكثرة ما ورد في العفو عن التائبين. وقد نزل من الوعيد الشديد في أول البعثة آيات لا تحصى، وكلها تنعي على من كان مشركا آنئذ، ولم يقل أحد بشمولها لهم بعد إيمانهم، أو أن فيها ما يحط من أقدارهم، ويجعلها مغمزا لهم، إلا أن مروان لم يجد لمقاومة ما ألقمه إلا الشغب، وشغل الناس عن باطله بنغمة يطرب لها الجهلة، وقالة يلوكها الرعاع، وهم الذين يهمه أمرهم. ويرحم الله عبد الرحمن! فقد شفى الغلة، وصدع بالحق، في حين أن لا ظهير له ولا نصير- والله أعلم-.
قال ابن قتيبة في (المعارف) : أربعة رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسق: أبو قحافة، وابنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنه محمد بن عبد الرحمن.
وقال أيضا: قيل: كان عبد الرحمن من أفضل قريش، ويكنى أبا محمد، وله عقب بالمدينة، وليسوا بالكثير، مات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبل يقرب من مكة، فأدخلته عائشة الحرم ودفنته وأعتقت عنه. انتهى.
وفي دمشق في مقبرة باب الفراديس، المسماة بالدحداح، مزار يقال إنه عبد الرحمن بن أبي بكر، نسب إليه زورا. وما أكثر المزورات في المزارات، كما يعلمه من دقق في الوفيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 20]
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون (20)
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم أي يقال لهم أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها عطف تفسير لقوله أذهبتم أي فما بقي لكم من اللذائذ شيء لاستيفائكم إياها فاليوم تجزون عذاب الهون أي الهوان بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق أي بغير ما أباح لكم وأذن وبما كنتم تفسقون أي عن طاعته، فأبعدكم عن كرامته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 21]
واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (21)
واذكر أخا عاد يعني هودا إذ أنذر قومه بالأحقاف جمع حقف، وهو الرمل المستطيل المرتفع. قال قتادة ذكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن، أهل رمل، مشرفين على البحر. وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه أي: وقد مضت الرسل بإنذار أممها قبله وبعده، متفقين على ألا تعبدوا إلا الله أي لا تشركوا مع الله شيئا في عبادتكم إياه. وقال كل واحد منهم عليه السلام إني أخاف عليكم أي من عبادة غير الله عذاب يوم عظيم أي بمقدار هتكهم، عذاب الله بالشرك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 22 الى 23]
قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (22) قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون (23)
قالوا أجئتنا لتأفكنا أي لتصرفنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا أي من العذاب على عبادتنا إياها إن كنت من الصادقين أي في وعدك أنه آت لا محالة. قال إنما العلم عند الله أي إني وإن علمت إتيانه قطعا، فلا أعلم وقت مجيئه، لأن العلم بوقته عنده تعالى، فيأتيكم به في وقته الذي قدره له وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون. قال الطبري: أي مواضع حظوظ أنفسكم، فلا تعرفون ما عليها من المضرة بعبادتكم غير الله، وفي استعجال عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 24 الى 25]
فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين (25)
فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم أي فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوه عارضا في ناحية من نواحي السماء، متجها نحو مزارعهم قالوا هذا عارض أي سحاب عارض ممطرنا أي بغيث نحيا به بل هو أي قال هود بل هو ما استعجلتم به أي من العذاب ريح أي هي ريح. أو بدل من (ما) ، فيها عذاب أليم، تدمر أي تهلك كل شيء أي من أموالهم وأنفسهم بأمر ربها أي إذنه الذي لا يعارض، فلم تدفع عنهم آلهتهم، بل دمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم أي بيوتهم.
ثم أشار إلى أن هذا لا يقتصر على عاد، بل ينتظر لمن كان على شاكلتهم من أهل مكة وغيرها، بقوله: كذلك نجزي القوم المجرمين أي الكافرين إذا تمادوا في غيهم، وطغوا على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 26]
ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (26)
ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه أي مكنا عادا، وآتيناهم من كثرة الأموال وقوة الأجسام، فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا. على أن (إن) نافية، أوثرت على (ما) لئلا توجب شبه التكرير الثقيل. وقيل (إن) شرطية محذوفة الجواب.
والتقدير: ولقد مكناهم في الذي، أو في شيء، إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر.
وقيل: هي صلة كما في قوله.
يرجى المرء ما إن لا يراه ... ويعرض دون أدناه الخطوب
قال الزمخشري: والوجه هو الأول. ولقد جاء عليه في غير آية في القرآن هم أحسن أثاثا ورءيا [مريم: 74] ، كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا [غافر: 82] وهو أبلغ في التوبيخ، وأدخل في الحث على الاعتبار.
قال الناصر: واختص بهذه الطائفة قوله تعالى: وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة [فصلت: 15] ، وقوله: مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم [الأنعام: 6] أي: والأصل توافق المعاني في الآي الواردة في نبأ واحد. على ما فيه أيضا من سلامة الحذف والزيادة.
وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة قال الطبري: أي جعلنا لهم سمعا يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصارا يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم وينفعهم، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء أي لأنهم لم يستعملوها فيما خلقت له، بل في خلافه إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن أي من العذاب.





ابوالوليد المسلم 25-02-2025 10:51 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الاحقاف
المجلد الخامس عشر
صـ 5356 الى صـ 5365
الحلقة (548)







قال الطبري: وهذا وعيد من الله عز وجل ثناؤه، لقريش. يقول لهم: فاحذروا
أن يحل بكم من العذاب على كفركم بالله، وتكذيبكم رسله، ما حل بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة.
لطيفة:
قال الشهاب: أفرد السمع في النظم، وجمع غيره، لاتحاد المدرك به، وهو الأصوات، وتعددت مدركات غيره، ولأنه في الأصل مصدر، وأيضا مسموعهم من الرسل متحد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 27]
ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون (27)
ولقد أهلكنا ما حولكم أي ما حول قريتكم يا أهل مكة من القرى أي كحجر ثمود، وأرض سدوم ومأرب ونحوها، فأنذرنا أهلها بالمثلات، وخربنا ديارها، فجعلناها خاوية على عروشها وصرفنا الآيات أي وعظناهم بأنواع العظات، وبينا لهم ضروبا من الحجج لعلهم يرجعون أي عن الكفر بالله ورسله. قال الطبري:
وفي الكلام متروك، ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه، وهو: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم، والتمادي على غيهم، فأهلكناهم، فلم ينصرهم منا ناصر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 28]
فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون (28)
فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة أي: فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم، أوثانهم التي اتخذوا عبادتها قربانا يتقربون بها، فيما زعموا، إلى ربهم إذ جاءهم بأسنا، فتنقذهم من عذابنا، إن كانت تشفع لهم عند ربهم، كما قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس: 18] .
بل ضلوا عنهم أي غابوا عن نصرهم، وامتنع أن يستمدوا بهم، امتناع الاستمداد بالضال ففي ضلوا استعارة تبعية وذلك إفكهم أي ضياع آلهتهم عنهم، وامتناع نصرهم إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة. وما كانوا يفترون أي وإثر افترائهم في أنها شفعاؤهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (32)
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن أي أملناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا أي ليتم التدبر والتفكر فلما قضي أي فرغ من قراءته، كمل تأثرهم به، فأرادوا التأثير به، لذلك ولوا أي رجعوا إلى قومهم منذرين أي عما هم فيه من الضلال. قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى أي المتفق على تعظيم كتابه. أي وقد علمنا صدقه لكونه مصدقا لما بين يديه أي من هذه الكتب كلها، وقد فضل عليها إذ يهدي إلى الحق أي معرفة الحقائق وإلى طريق مستقيم أي لا عوج فيه، وهو الإسلام.
قال ابن كثير: أي يهدي إلى الحق في الاعتقاد والأخبار، وإلى طريق مستقيم في الأعمال. فإن القرآن مشتمل على شيئين: خبر وطلب. فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال تعالى: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [الأنعام: 115] ، وقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق [التوبة: 33] ، فالهدى هو العلم النافع. ودين الحق هو العمل الصالح. وهكذا قالت الجن: يهدي إلى الحق في الاعتقادات، وإلى طريق مستقيم، أي في العمليات.
يا قومنا أجيبوا داعي الله أي رسول الله محمدا إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله، وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض أي بمعجز ربه، بهربه إذا أراد تعالى عقوبته، لأنه في قبضته وسلطانه، أنى اتجه. وليس له من دونه أولياء أي نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه.
أولئك في ضلال مبين أي أخذ على غير استقامة.
تنبيهات:
الأول-
روى الإمام مسلم «1» عن علقمة قال: سألت ابن مسعود رضي الله عنه: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل: استطير، اغتيل! قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال:
فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال:
أتاني داعي الجن، فذهبت معهم، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم
.
وروى الإمام أحمد «2» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي، فيسمعون الكلمة، فيزيدون فيها عشرا. فيكون ما سمعوا حقا، وما زادوا باطلا. وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث. فبث جنود، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. ورواه الترمذي «3»

والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما. وهكذا قال الحسن البصري: إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم.
وذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، ودعائه إياهم إلى الله عز وجل، وإبائهم عليه، فذكر القصة بطولها، ثم قال:
فلما انصرف عنهم، بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعته الجن من أهل نصيبين. قال ابن كثير: وهذا صحيح، ولكن قوله (إن الجن كان استماعهم تلك الليلة) فيه نظر. فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور. وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين، كما قرره ابن إسحاق وغيره.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، فأنزل الله عز وجل عليه وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ...
(1)
أخرجه في: الصلاة، حديث رقم 150.

(2)
أخرجه في 1/ 274، والحديث رقم 2482.

(3)
أخرجه الترمذي في: التفسير، 72- سورة الجن.

الآية. قال ابن كثير: فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته، ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا: قوما بعد قوم، وفوجا بعد فوج. فأما ما رواه البخاري ومسلم «1» جميعا عن معن بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي يقول: سألت مسروقا: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك- يعني ابن مسعود رضي الله عنه- أنه آذنته بهم شجرة، فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى، ويكون إثباتا مقدما على نفي ابن عباس رضي الله عنهما، ويحتمل أن يكون في الأولى ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة، أي أعلمته باجتماعهم، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات والله أعلم.
قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم، ولم يرهم. ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن، فقرأ، عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله عز وجل- كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه-.
ثم قال ابن كثير: وأما ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته للجن، ودعائه إياهم، وإنما كان بعيدا منه، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه، ومع هذا، لم يشهد حال المخاطبة. هذه طريقة البيهقي. وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم، لم يكن معه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ولا غيره، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام مسلم. ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى- والله أعلم- كما روى ابن أبي حاتم في تفسير قل أوحي إلي من حديث ابن جريج قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة، فجن نصيبين. وتأول البيهقي قوله (فبتنا بشر ليلة) على غير ابن مسعود، ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن، وهو محتمل، على بعد وبالجملة، فقد روي ما يدل على تكرار ذلك. وقد روي عن ابن عباس غير ما روى عنه أولا من وجه جيد عن ابن جرير في هذه الآية، قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم، فهذا يدل على أنه قد روى القصتين. وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كانوا أكثر الجن عددا،
(1)
أخرجه البخاري في: مناقب الأنصار، 32- باب ذكر الجن وقول الله تعالى: قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن، الحديث رقم 1810.

وأخرجه مسلم في: الصلاة حديث رقم 153.
وأشرفهم نسبا. وعن ابن مسعود أنهم كانوا تسعة. ويروى أنهم كانوا خمسة عشر، وروي ستين، وروي ثلاثمائة. وعن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا. قال ابن كثير:
فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري «1» في صحيحه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه لشيء قط يقول: إني لأظنه هكذا، إلا كان كما يظن. بينما عمر بن الخطاب جالس، إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم. علي الرجل. فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني! قال: كنت كاهنهم في الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوما في السوق، جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قال عمر: صدق! بينما أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه، يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. قال فوثب القوم.
فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. ثم نادى: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي- هذا سياق البخاري- وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه. ثم قال: وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح. وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه. وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه- والله أعلم-.
وهذا الرجل هو سواد بن قارب. قال البيهقي: وسواد بن قارب يشبه أن يكون هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح. ثم
روى بسنده عن البراء قال: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال، فلم يجبه أحد تلك السنة. فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال، فقلت: يا أمير المؤمنين! وما سواد بن قارب؟ قال، فقال له عمر: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا! قال:
فبينما نحن كذلك، إذ طلع سواد بن قارب. قال، فقال له عمر: يا سواد! حدثنا ببدء إسلامك كيف كان. قال سواد: فإني كنت نازلا بالهند، وكان لي رئي من الجن.
(1)
أخرجه في: مناقب الأنصار، 35- باب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حديث 1813. []

قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم إذا جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم، واعقل إن كنت تعقل! قد بعث رسول من لؤي بن غالب، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحساسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
قال: ثم أنبهني فأفزعني وقال: يا سواد بن قارب! إن الله عز وجل بعث نبيا، فانهض إليه تهتد وترشد. فلما كان من الليلة الثانية، أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... وليس قدماها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى قابها
فلما كان في الليلة الثالثة، أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتخبارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس ذوو الشر كأخيارها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... ما مؤمنو الجن ككفارها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله. قال: فانطلقت إلى رحلي، فشددته على راحلتي، فما حللت نسعة، ولا عقدت أخرى، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بالمدينة- يعني مكة- والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك. قال: قلت: يا رسول الله! قد قلت شعرا، فاسمعه مني! قال صلى الله عليه وسلم: قل يا سواد، فقلت:
أتاني رئيي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال، قوله كل ليلة: ... أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت ... بي الدعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله، يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال لي: أفلحت يا سواد! فقال له عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن
.
ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين. انتهى كلام ابن كثير.

وقد ساقه الإمام الماوردي في (أعلام النبوة) مع نظائر له، في الباب السادس عشر، في هتوف الجن، ثم قال: ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد، عمن لا يرى شخصه، ولا يحج قوله، فخروجه عن العادة نذير، وتأثيره في النفوس بشير، وقد قبلها السامعون. وقبول الأخبار يؤكد صحتها، ويؤيد حجتها. فإن قيل: إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، جاز أن تكون دليلا على صحة الكهانة، فعنه جوابان:
أحدهما: أن دلائل النبوة غيرها، وإنما هي من البشائر بها، وفرق بين الدلالة والبشارة إخبارا.
والثاني: أن الكهانة عن مغيب، والبشارة عن معين، فالعيان معلوم، والغائب موهوم. انتهى.
التنبيه الثاني:
قال الماوردي: في صرف الجن المذكور في قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن [الأحقاف: 29] ، وجهان:
أحدهما- أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء، برجوم الشهب، ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما هذا الحادث في السماء، إلا لحادث في الأرض، وتخيلوا به تجديد النبوة، فجابوا الأرض، حتى وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن مكة عامدا إلى عكاظ، وهو يصلي الفجر، فاستمعوا القرآن، ورأوه كيف يصلي ويقتدي به أصحابه، فعلموا أنه لهذا الحادث، صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهب. وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
أقول: وعليه فتكون (إلى) في (إليك) بمعنى لام التعليل. وذكر في (المغني) أنها تأتي مرادفة اللام، نحو والأمر إليك [النمل: 33] . وفيه تكلف وبعد، لنبوه عما يقتضيه سياق بقية الآية.
ثم قال الماوردي: وحكى عكرمة أن السورة التي كان يقرؤها اقرأ باسم ربك الذي خلق [العلق: 1] .
أقول: سيأتي مرفوعا عن جابر أنها سورة الرحمن.
ثم قال الماوردي:
والوجه الثاني- أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق، هداية من الله تعالى، حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة، فنزل عليه جبريل بهذه الآية، وأخبره بوفود الجن، وأمره بالخروج إليهم، فخرج ومعه ابن مسعود، حتى جاء الحجون. قال ابن مسعود: فخط علي خطا وقال: لا تجاوزه.
فعلى الوجه الأول، لم يعلم بهم حتى أتوه. وعلى الوجه الثاني، أعلمه جبريل قبل إتيانهم. واختلف أهل العلم في رؤيته لهم، وقراءته عليهم. فحكى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما سمعوا قراءته حين مروا به مصليا. وحكى ابن مسعود أنه رآهم. وقرأ عليهم القرآن.
أقول: تقدم لابن كثير ما فيه كفاية-.
ثم قال الماوردي: وفي قوله فلما حضروه قالوا أنصتوا [الأحقاف: 29] وجهان:
أحدهما- فلما حضروا قراءته القرآن قالوا: أنصتوا لسماعه.
والوجه الثاني: فلما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنصتوا لسماع قوله. انتهى.
قال ابن كثير: وهذا- أي قولهم أنصتوا- أدب منهم.
وقد روى البيهقي عن جابر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: مالي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا. ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة فبأي آلاء ربكما تكذبان [الرحمن: 42] ، إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك أو نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد، ورواه الترمذي «1»
وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد ابن مسلم عن زهير.
الثالث- دل قوله تعالى يا قومنا أجيبوا داعي الله [الأحقاف: 32] ، على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عام الرسالة إلى الإنس والجن.






ابوالوليد المسلم 25-02-2025 10:56 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ محمد
المجلد الخامس عشر
صـ 5366 الى صـ 5375
الحلقة (549)







قال ابن كثير: لأنه دعا الجن إلى الله تعالى، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم، وهي سورة الرحمن، ولهذا قال أجيبوا داعي الله وآمنوا به.
(1)
أخرجه الترمذي في: التفسير، 55- سورة الرحمن، باب حدثنا عبد الرحمن بن واقد.

قال الماوردي: لم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث إليهم رسولا من الإنس، واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم، فجوزه قوم لقول الله تعالى: امعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم
[الأنعام: 130] ، ومنع آخرون منه. وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس، وحملوا قوله لم يأتكم رسل منكم
على الذين لما سمعوا القرآن، وولوا إلى قومهم منذرين. انتهى.
أقول: ونظيره تسمية رسل عيسى عليه السلام رسلا في آية إذ أرسلنا إليهم اثنين [يس: 14] .
الرابع- استدل بقوله يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة. إذ لو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا، لأوشك أن يذكروه.
قال الماوردي: فأما كفارهم فيدخلون النار، وأما مؤمنوهم، فقد اختلفوا في دخولهم الجنة ثوابا على إيمانهم. فقال الضحاك: ومن جوز أن يكون رسلهم منهم، يدخلون الجنة. وحكى سفيان عن ليث أنهم يثابون على الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصا منها، ثم يقال: لهم: كونوا ترابا كالبهائم. انتهى.
والحق- كما قال ابن كثير- أن مؤمنهم كمؤمن الإنس، يدخلون الجنة، كما هو مذهب جماعة من السلف. وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [الرحمن: 56 و 74] ، وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله جل وعلا ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان [الرحمن: 46- 47] ، فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة. وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا:
ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد. فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم. وأيضا، فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار، وهو مقام عدل، فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة، وهو مقام فضل، بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضا على عموم ذلك قوله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا [الكهف: 107] ، وما أشبه ذلك من الآيات. وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان، من تكفير الذنوب، والإجارة من العذاب الأليم، هو يستلزم دخول الجنة، لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار. فمن أجير من النار دخل الجنة لا
محالة، ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة، وإن أجيروا من النار، ولو صح لقلنا به، والله أعلم. وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى [نوح:
4] ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة، فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة. فعن عمر بن عبد العزيز أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة، وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها. ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم، ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا. ومن الناس من قال: لا يأكلون في الجنة ولا يشربون، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس، عوضا عن الطعام والشراب، كالملائكة، لأنهم من جنسهم. وكل هذه الأقوال فيها نظر، ولا دليل عليها. انتهى.
الخامس- قيل: سر التبعيض في قوله من ذنوبكم أن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان، كذنوب المظالم، أي: حقوق العباد. وفيه نظر، لأن الحربي لو نهب الأموال المصونة، وسفك الدماء المحقونة، ثم حسن إسلامه، جب الإسلام عنه إثم ما تقدم.
بلا إشكال. ويقال: إنه ما وعد المغفرة للكافر على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة، والسر فيه أن مقام الكافر قبض لا بسط، فلذلك لم يبسط رجاؤه كما في حق المؤمن- أفاده الناصر-.
السادس- قال ابن كثير: جمعوا في دعواهم قومهم بين الترغيب والترهيب، ولهذا نجع في كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفودا وفودا، كما تقدم بيانه.
السابع- قال الماوردي: الجن من العالم الناطق المميز، يأكلون ويتناكحون ويتناسلون ويموتون، وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار، وإن تميزوا بأفعال وآثار، إلا أن الله يخص برؤيتهم من يشاء. وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية، وما تخيلوه من آثارهم الخفية.
وقال القاشاني: الجن نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر، سماها حكماء الفرس (الصور المعلقة) . ولكونها أرضية متجسدة في أبدان عنصرية، ومشاركتها الإنس في ذلك، سميا (ثقلين) . وكما أمكن الناس التهدي بالقرآن أمكنهم. وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن رد الجميع، وأوضح من أن يقبل التأويل. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 33]
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير (33)
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى أي بإعادة الروح إلى الجسد، بعد مفارقتها إياه، وإخراجهم من قبورهم كهيئتهم قبل وفاتهم.
وفي ابن جرير بحث نحوي في دخول الباء في بقادر بديع. ويذكر في مباحث زيادة الباء، في مطولات العربية.
بلى إنه على كل شيء قدير أي من إعادة المعدوم، ولو فني الجسد وغيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 34 الى 35]
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (34) فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون (35)
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا أي الإحياء إحياء بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر أي على تبليغ الرسالة وتكذيبهم وإيذائهم كما صبر أولوا العزم من الرسل أي: أولو الثبات والجد منهم، فإنك منهم. والعزم- في اللغة- كالعزيمة، ما عقدت قلبك عليه من أمر. والعزم أيضا القوة على الشيء والصبر عليه. فالمراد به هنا المجتهدون، المجدون، أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم، وقدره وقضاه عليهم. ومطلق الجد والجهد والصبر موجود في جميع الرسل، بل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكثير من الأولياء. فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل، وأن (من) بيانية لا تبعيضية، فكل رسول من أولي العزم، فإن أريد به معنى مخصوص ببعضهم، فلا بد من بيانه ليظهر وجه التخصيص. ومنشأ الاختلاف في عددهم إلى أقوال: أحدها- أنهم جميع الرسل. والثاني- أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى ومحمد. والثالث- أنهم خمسة بزيادة عيسى، كما قيل:
أولي العزم نوح والخليل الممجد ... وموسى وعيسى والنبي محمد
والرابع- أنهم ستة، بزيادة هارون أو داود. والخامس- أنهم سبعة بزيادة آدم.
والسادس- أنهم تسعة، بزيادة إسحاق ويعقوب ويوسف. وقد يزاد وينقص.
وتوجيه التخصيص أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق، وذبه عن حريم التوحيد، وحمى الشريعة، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية، وأموره الخارجية، كمبارزة كل أهل عصره، كما كان لنوح. أو لملك جبار في عصره، وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية، كنمروذ إبراهيم، وجالوت داود، وفرعون موسى. ولكل موسى فرعون، ولكل محمد أبو جهل.
وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة قدسية، ونفس ربانية، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام. ومن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص، وهذا مما كشفت بركاتهم سره- أفاده الشهاب- ولا تستعجل لهم أي ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم، فإن ذلك نازل بهم لا محالة، وإن اشتد عليك الأمر من جهتهم. كأنهم يوم يرون ما يوعدون أي من عذاب الله ونكاله وخزيه الذي ينزل بهم في الدنيا أو في الآخرة لم يلبثوا إلا ساعة من نهار أي لأنه ينسيهم شدة ما ينزل بهم من عذابه، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا، ومبلغ ما فيها مكثوا.
وقوله تعالى بلاغ قال ابن جرير: فيه وجهان:
أحدهما- أن يكون معناه: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ، بمعنى: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم، ثم حذف (ذلك لبث) ، وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها.
والآخر- أن يكون معناه: هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية، إن فكروا واعتبروا، فتذكروا. انتهى.
وأشار المهايمي إلى معنى آخر فقال: ليس من حق الرسل الاستعجال، بل حقهم بلاغ.
فهل يهلك أي بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل والحكمة إلا القوم الفاسقون أي الذين خالفوا مره، وخرجوا من طاعته. نعوذ بالله من غضبه، وأليم عقابه.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة محمد صلى الله عليه وسلم
سميت به، لما فيها من أن الإيمان بما نزل على محمد متفرقا، أعظم من الإيمان بما نزل مجموعا على سائر الأنبياء عليهم السلام. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى سورة (القتال) ، لدلالتها على ارتفاع حرمة نفوس الكفار المانعة من قتالهم، وما يترتب على القتال وكثرة فوائده- قاله المهايمي-.
وهي مدنية. وحكى النسفي قولا غريبا، أنها مكية. وآيها ثمان وثلاثون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم (1)
الذين كفروا أي: جحدوا توحيد الله، وعبدوا غيره وصدوا عن سبيل الله أي: أعرضوا وامتنعوا عن الإقرار لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة. أو صدوا غيرهم عن ذلك. أضل أعمالهم أي جعلها على غير هدى ورشاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 2]
والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم (2)
والذين آمنوا وعملوا الصالحات أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم.
وقوله: وآمنوا بما نزل على محمد أي بما أنزل الله به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما خصه بالذكر، مع دخوله فيما قبله، تعظيما لشأنه وتعليما، لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به، إذ يفيد بعطفه أنه أعظم أركانه، لإفراده بالذكر. وقد تأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله وهو الحق من ربهم أي الثابت بالواقع ونفس الأمر. كفر عنهم سيئاتهم أي ستر بإيمانهم وعملهم الصالح، ما كان منهم من الكفر والمعاصي، لرجوعهم عنها وتوبتهم وأصلح بالهم أي حالهم وشأنهم، وعملهم في الدنيا بالتأييد والتوفيق.
قال الشهاب: (البال) يكون بمعنى الحال والشأن. وقد يخص بالشأن العظيم،
كقوله صلى الله عليه وسلم «1»
«كل أمر ذي بال» .
ويكون بمعنى الخاطر القلبي، ويتجوز به عن القلب. ولو فسر به هنا كان حسنا أيضا. وقد فسره السفاقسي بالفكر، لأنه إذا صلح قلبه وفكره، صلحت عقدته وأعماله.
(1)
أخرجه ابن ماجة في: النكاح، 19- باب خطبة النكاح، حديث 1894.

وقال ابن جرير: البال كالمصدر، مثل الشأن، لا يعرف منه فعل، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر، فإذا جمعوه قالوا: (بالات) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 3]
ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم (3)
ذلك أي المذكور من فعله تعالى بالفريقين ما فعله كائن بأن الذين أي بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم أي يشبه لهم الأشباه، فيلحق بكل قوم من الأمثال أشكالا.
قال الزمخشري: فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟ قلت: في أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار. واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين. أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 4]
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم (4)
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب لما كان طليعة هذه السورة تمهيدا لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، الصادين عن منهج الرشاد، وبعثا على الصدق في قتالهم، كسحا لعقبة باطلهم، عملا بما يوجبه الإيمان ويفرضه الإيقان، وتمييزا لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان، تأثر تلك الطليعة بهذه الجملة. ولذا قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها. فإن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم، مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام. أي: فإذا كان الأمر كما ذكر، فإذا لقيتموهم في المحاربة، فضرب الرقاب. وأصله: فاضربوا الرقاب ضربا. فحذف الفعل، وقدم المصدر، وأنيب منابه مضافا إلى المفعول. وفيه اختصار وتأكيد بليغ. والتعبير به عن القتل، تصوير له بأشنع صورة، وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون
منه حتى إذا أثخنتموهم أي غلبتموهم، وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم، فصاروا في أيديكم أسرى فشدوا الوثاق بفتح الواو، وقرئ بكسرها. وهو ما يوثق به، أي يربط ويشد، كالقيد والحبل. أي فأمسكوهم به كيلا يقتلوكم فيهربوا منكم فإما منا بعد وإما فداء أي فإما تمنون بعد ذلك عليهم، فتطلقونهم بغير عوض، لزوال سبعيتهم، وإما تفدون فداء، فتطلقونهم بعوض مال، أو مسلم أسروه فيتقوى به المسلمون، أو يتخلص أسيرهم.
قال المهايمي: ولم يذكر القتل اكتفاء بما مر من قوله: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض [الأنفال: 67] ، وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السبعية بالكمال. ولم يذكر الاسترقاق، لأنه في معنى استدامة الأسر، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبعية. ولا تزالوا كذلك حتى تضع الحرب أوزارها أي: إلى انقضاء الحرب و (الأوزار) كالأحمال وزنا ومعنى. استعير لآلات الحرب التي لا تقوم إلا بها، استعارة تصريحية أو مكنية، بتشبيهها بإنسان يحمل حملا على رأسه أو ظهره، وأثبت له ذلك تخييلا. وقد جاء ذكرها في قول الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها: ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا
وقيل: أوزارها آثامها. يعني: حتى يترك أهل الحرب- وهم المشركون- شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا.
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : في الآية بيان كيفية الجهاد.
الثاني- للسلف قولان في أن الآية: منسوخة أو محكمة.
فروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي أنها منسوخة بقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة: 5] ، قالوا: فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم.
وروي عن ابن عمر وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز، أن الآية محكمة ليست منسوخة، وأنه لا يجوز قتل الأسير، وإنما له المن أو الفداء.
ووجه من ذهب إلى الأول تعارض الآيتين عنده بادئ بدء، فلم يبق إلا القول بإحداهما وهي المطلقة.
ومدرك الثاني أن الأمر بقتلهم المجمل في آيات، محمول على المفصل في
مثل هذه الآية، أي إن القتل عند اللقاء، ثم بعد انقضاء الحرب المن أو الفداء لا غير، إلا أن تبدو مصلحة في القتل، فتلك من باب آخر.
وثم قول ثالث: وهو كون الآية محكمة مع تفويض الأمر إلى الإمام، وأن ذكر المن والفداء لا ينافي جواز القتل، لعلمه من آيات أخر، لا سيما ومرجع الأمر إلى المصلحة. وهذا القول هو الذي أختاره. وإذا دار الأمر في الآي بين الإحكام والنسخ.
فالأول هو المرجح. وقد لا يتعارض قول من قال بالنسخ مع الذاهب إلى الإحكام، لما قدمناه في مقدمة التفسير، من تغاير اصطلاح السلف والأصوليين في النسخ.






ابوالوليد المسلم 25-02-2025 11:01 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ محمد
المجلد الخامس عشر
صـ 5376 الى صـ 5385
الحلقة (550)









ثم رأيت ابن جرير سبقني في ترجيح ذلك، وعبارته:
والصواب من القول عندنا في ذلك، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة. وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ، أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر. وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن والفداء والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة: 5] ، الآية. بل ذلك كذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب، فيقتل بعضا، ويفادي ببعض، ويمن على بعض، مثل يوم بدر: قتل عقبة بن أبي معيط، وقد أتي به أسيرا. وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلما، وهو على فدائهم والمن عليهم قادر، وفادى بجماعة، أسارى المشركين الذين أسروا ببدر.
ومن على ثمامة بن أثال الحنفي، وهو أسير في يده. ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب، من لدن أذن الله له بحربهم، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائما ذلك فيهم.
وإنما ذكر جل ثناؤه في هذه الآية المن والفداء في الأسارى، فخص ذكرهما فيها، لأن الأمر بقتلهم والإذن منه بذلك، قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكررا، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء، ما له فيهم مع القتل. انتهى كلام ابن جرير.
الثالث- من فوائد الآية أيضا جواز تخلية سبيل المشركين، إذا ضعفت شوكتهم، وأمنت مفسدتهم، لأن ذلك من لوازم المن وقبول الفداء، والقول بإبادة خضرائهم من غير تفصيل، ينافيه نص هذه الآية، وقبول النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر وهم مشركون، فتفهم.
وبالجملة، فالذي عول عليه الأئمة المحققون رضي الله عنهم، أن الأمير يخير، بعد الظفر تخيير مصلحة لا شهوة في الأسراء المقاتلين، بين قتال واسترقاق، ومن وفداء. ويجب عليه اختيار الأصلح للمسلمين، لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر، فلم يجز له ترك ما فيه الحظ، كولي اليتيم، لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى. فإن منهم من له قوة ونكاية في المسلمين، فقتله أصلح.
ومنهم الضعيف ذو المال الكثير، ففداؤه أصلح ومنهم حسن الرأي في المسلمين، يرجى إسلامه، فالمن عليه أولى. ومن ينتفع بخدمته، ويؤمن شره، استرقاقه أصلح- كما في (شرح الإقناع) -.
الرابع- تسن دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال لمن بلغته الدعوة، قطعا لحجته. ويحرم القتال قبلها لمن لم تبلغه الدعوة، لحديث «1» بريدة بن الحصيب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه، وبمن معه من المسلمين. وقال: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فادعهم إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم- رواه مسلم-.
وقيد الإمام ابن القيم وجوب الدعوة واستحبابها، بما إذا قصدهم المسلمون.
أما إذا كان الكفار قاصدين المسلمين بالقتال، فللمسلمين قتالهم من غير دعوة، دفعا عن نفوسهم وحريمهم وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، لأنه أعرف بحال الناس، وبحال العدو، ونكايتهم وقربهم وبعدهم- كما في (شرح الإقناع) -.
وقوله تعالى: ذلك خبر لمحذوف. أي الأمر ذلك. أو مفعول لمقدر ولو يشاء الله لانتصر منهم أي: لانتقم منهم بعقوبة عاجلة، وكفاكم ذلك كله.
ولكن ليبلوا بعضكم ببعض أي ليختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين فيثيبهم، ويبلوهم بكم، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحق. والذين قتلوا أي استشهدوا. وقرئ (قاتلوا) في سبيل الله فلن يضل أعمالهم.
(1)
أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث رقم 3.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 5 الى 6]
سيهديهم ويصلح بالهم (5) ويدخلهم الجنة عرفها لهم (6)
سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم أي بينها لهم في كثير من آياته، تعريفا يشوق كل مؤمن أن يسعى لها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 7]
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7)
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم أي الظفر والتمكين في الأرض، وإرث ديار العدو.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 8 الى 9]
والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم (8) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9)
والذين كفروا فتعسا لهم أي خزيا وشقاء. وأصله من السقوط على الوجه، كالكب. وأضل أعمالهم أي جعلها على غير هدى واستقامة. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله أي من الحق، وشايعوا ما ألفوه من الباطل. فأحبط أعمالهم كعبادتهم لأوثانهم، حيث لم تنفعهم، بل أوبقهم بها فأصلاهم سعيرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 10]
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها (10)
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم أي من الأمم المكذبة رسلها، الرادة نصائحها. دمر الله عليهم أي ما اختص بهم، وكان لهم، يقال: دمره بمعنى أهلكه. ودمره عليه: أهلك ما يختص به من المال والنفس.
فالثاني أبلغ، لما فيه من العموم، لجعل مفعوله نسيا منسيا، فيتناول نفسه وكل ما يختص به. والإتيان ب (على) لتضمنه معنى (أطبق عليه) أي أوقعه عليهم محيطا بهم، أو هجم الهلاك عليهم. وللكافرين يعني المكذبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالها أي أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 11 الى 12]
ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم (11) إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (12)
ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم أي لا ناصر لهم يدفع عنهم العذاب، إذا حاق بهم. إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام أي غير مفكرين في المعاد، ولا معتبرين بسنة الله، كغفلة الأنعام عن النحر والذبح، فلا هم لهم إلا الاعتلاف دون غيره. والنار مثوى لهم أي مأواهم بعد مماتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 13 الى 14]
وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13) أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم (14)
وكأين أي: وكم من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك يعني مكة، على حذف مضاف أهلكناهم فلا ناصر لهم، أفمن كان على بينة من ربه أي على برهان وحجة وبيان من أمر ربه، والعلم بوحدانيته، فهو يعبده على بصيرة منه.
كمن زين له سوء عمله أي فأراه إياه الشيطان حسنا، فهو مقيم عليه. واتبعوا أهواءهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 15]
مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم (15)
مثل الجنة التي وعد المتقون، فيها أنهار من ماء غير آسن أي متغير الريح وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى أي من القذى، وما يوجد في عسل الدنيا ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم أي من فرط حرارته.
لطيفة:
مثل الجنة مبتدأ خبره كمن هو خالد بتقدير حرف إنكار ومضاف. أي:
أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد. أو أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد. فلفظ الآية، وإن كان في صورة الإثبات، هو في معنى الإنكار والنفي، لانطوائه تحت حكم كلام مصدر بحرف الإنكار وانسحاب حكمه عليه، وهو قوله: أفمن كان..
إلخ، وليس في اللفظ قرينة على هذا، وإنما هو من السياق، وإن فيه جزالة المعنى.
وثم أعاريب أخر، هذا أمتنها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 16]
ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم (16)
ومنهم أي ومن هؤلاء الكفار من أي كافر منافق يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم أي من الصحابة، استهزاء بما سمعوه من المتلو، وتهاونا به ماذا قال آنفا أي الساعة. هل فيه هدى؟ فإن بينوه لم يستفيدوا منه شيئا. أولئك الذين طبع الله على قلوبهم أي فلا يدخلها الهدى لإبائهم عنه واتبعوا أهواءهم أي آراءهم، لا ما يدعو إليه البرهان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 17]
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)
والذين اهتدوا أي باتباع الحق، والمشي مع الحجة زادهم هدى أي بيانا لحقيقة ما جاءهم وآتاهم تقواهم أي أعانهم عليها. أو آتاهم جزاء تقواهم. أو بين لهم ما يتقون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 18]
فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم (18)
فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها قال ابن كثير: أي أمارات اقترابها، كقوله تبارك وتعالى: هذا نذير من النذر الأولى، أزفت الآزفة
[النجم: 56- 57] ، وكقوله جلت عظمته اقتربت الساعة وانشق القمر [القمر:
1] ، وقوله سبحانه وتعالى: أتى أمر الله فلا تستعجلوه [النحل: 1] ، وقوله جل وعلا اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [الأنبياء: 1] . فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، لأنه خاتم الرسل، الذي أكمل الله تعالى به الدين، وأقام به الحجة على العالمين. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه، بما لم يؤته نبي قبله، كما هو مبسوط في موضعه.
وقال الحسن البصري: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وهو كما قال.
ولهذا جاء في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي التوبة، ونبي الملحمة، والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه، والعاقب الذي ليس بعده نبي.
روى البخاري «1» عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا- بالوسطى والتي تليها-: بعثت أنا والساعة كهاتين.
فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم أي ذكرى ما قد ضيعوا وفرطوا فيه من طاعة الله إذا جاءتهم الساعة. يعني: أن ليس ذلك بوقت ينفعهم فيه التذكر والندم، لأنه وقت مجازاة، لا وقت استعتاب واستعمال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 19]
فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم (19)
فاعلم أنه لا إله إلا الله قال ابن جرير: أي فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهة ويجوز لك وللخلق عبادته، إلا الله الذي هو خالق الخلق، ومالك كل شيء. يدين له بالربوبية كل ما دونه. والفاء فصيحة في جواب شرط معلوم، مما مر من أول السورة إلى هنا، من حال الفريقين.
قال السيوطي: وقد استدل بالآية من قال بوجوب النظر، وإبطال التقليد في العقائد، ومن قال بأن أول الواجبات، المعرفة قبل الإقرار.
واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات قال ابن جرير: أي وسل ربك غفران سالف ذنوبك وحادثها، وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء.
(1)

أخرجه البخاري في: الرقاق، 39- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين» حديث رقم 2068
.
قال الشهاب: وإنما أعيد الجار، لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذنوبهم معاص كبائر وصغائر، وذنبه ترك الأولى.
وقال السيوطي: استدل بالآية من أجاز الصغائر على الأنبياء. انتهى.
والمسألة مبسوطة بأقوالها، وما لها وما عليها في (الفصل) لابن حزم، فارجع إليه.
وفي الصحيح «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطاياي وعمدي، وكل ذلك عندي» .
وفي الصحيح «2» أنه كان يقول في آخر الصلاة: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني. أنت إلهي لا إله إلا أنت» .
وفي الصحيح «3» أنه قال: «يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» .
والله يعلم متقلبكم ومثواكم أي متصرفكم فيما تتصرفون فيه، وإقامتكم على ما تقيمون عليه من الأقوال والأعمال، فيجازيكم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 20]
ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم (20)
ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة أي تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار.
فإذا أنزلت سورة محكمة أي مبينة لا تقبل نسخا ولا تأويلا، وذكر فيها القتال
(1)

أخرجه البخاري في: الدعوات، 60- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت» حديث رقم 2404، عن أبي موسى الأشعري.
(2)
أخرجه البخاري في: التهجد، 1- باب التهجد بالليل، حديث رقم 613، عن ابن عباس.

(3)
أخرجه البخاري في: الدعوات، 3- باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، حديث 2390، عن أبي هريرة.

أي الأمر بقتال المشركين رأيت الذين في قلوبهم مرض أي: شك في الدين وضعف في اليقين ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء. شبه نظرهم بنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره فأولى لهم قال الشهاب: اختلف فيه، بعد الاتفاق على أن المراد به التهديد والوعيد، على أقوال:
فذهب الأصمعي إلى أنه فعل ماض بمعنى قارب. وقيل: قرب بالتشديد، ففاعله ضمير يرجع لما علم منه، أي: قارب هلاكهم. والأكثر أنه اسم تفضيل من الولي، بمعنى القرب. وقال أبو علي: إنه اسم تفضيل من الويل. والأصل (أويل) فقلب، فوزنه أفلع. ورد بأن الويل غير متصرف، وأن القلب خلاف الأصل، وفيه نظر.
وقد قيل: إنه فعلى، من آل يؤول. وقال الرضي: إنه علم للوعيد، وهو مبتدأ و (لهم) خبره. وقد سمع فيه (أولاة) بتاء تأنيث. وهو كما قيل، يدل على أنه ليس بأفعل تفضيل، ولا أفعل فعلى، وأنه علم وليس بفعل، بل مثل أرمل وأرملة، إذا سمي بهما، فلذا لم ينصرف. ولا اسم فعل، لأنه سمع فيه (أولاة) معربا مرفوعا، ولو كان اسم فعل بني. وفيه أنه لا مانع من كون (أولاة) لفظا آخر بمعناه، فلا يرد شيء منه عليهم أصلا، كما جاء (أول) أفعل تفضيل، واسم ظرف ك (قبل) وسمع فيه (أولة) - كما نقله أبو حيان- فلا يرد النقض به كما لا يخفى. انتهى.
قال السمين: إذا قلنا باسميته. ففيه أوجه:
أحدها- أنه مبتدأ، و (لهم) خبره، تقديره: فالهلاك لهم.
والثاني- أنه خبر مبتدأ مضمر، تقديره: العقاب أو الهلاك أولى لهم، أي أقرب وأدنى، ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء. أي أولى وأحق بهم.
الثالث- أنه مبتدأ، و (لهم) متعلق به، واللام بمعنى الباء، و (طاعة) خبره، والتقدير: فأولى بهم طاعة دون غيرها، وقوله تعالى:






الساعة الآن : 01:54 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 376.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 376.25 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.13%)]