رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم الاستثناء في الطلاق من العدد الكلي في الزوجات قال رحمه الله: [وإن قال: أربعكن إلا فلانة طوالق، صح الاستثناء] . هذا لا إشكال فيه، أربعكن طوالق إلا فلانة، قالوا: إنها تستثنى فلانة. وقال بعض العلماء: لا، إذا قال: أربعكن طوالق؛ مضى عليها الطلاق، وهذا ضعيف؛ لأن الاستثناء مع ذكر العدد الكلي يؤثر فيه إذا كان للبعض، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة أنه يؤثر، فما الفرق بين قوله: أربعكن طوالق، ثلاثكن طوالق إلا فلانة، وبين قوله: فلانة طالق بالثلاث إلا واحدة؟ فعلى هذا يصح استثناؤه ولا إشكال فيه. حكم الاستثناء غير المتصل في الطلاق قال رحمه الله: [ولا يصح استثناء لم يتصل عادة، فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل] . قوله رحمه الله: (ولا يصح استثناء لم يتصل عادة) ، وهذا هو الشرط الثاني من شروط صحة الاستثناء، فقد ذكرنا الشرط الأول: ألا يكون مستغرقا، وأشار إليه بقوله: (والنصف فأقل) . والثاني: أن يكون الاستثناء متصلا، وقد بينا الاتصال والانفصال، وأن الانفصال يكون بالكلام، يقول: أنت طالق ثلاثا، قومي واخرجي إلى أهلك إلا واحدة، فجملة: قومي واخرجي إلى أهلك، جملة خارجة عن الاستثناء، ثم قال: إلا واحدة، فقالوا: إنه إذا كان الانفصال بكلام أجنبي عن الاستثناء فإنه يعتبر مسقطا للاستثناء؛ لأنه لما أقحم هذه الجملة الغريبة عن الاستثناء والتي ليست متصلة بالاستثناء، فإنه قد خرج عن الاستثناء بالكلية، فإن قال لها: أنت طالق ثلاثا قومي فاخرجي أنت طالق ثلاثا، أو اذهبي إلى أهلك أنت طالق ثلاثا فليستمتع بك غيري، ونحو ذلك من الألفاظ التي تخرج عن جملة الاستثناء ثم تلفظ بعد ذلك بالاستثناء قالوا: إنه لا يعتد باستثنائه؛ ولذلك اشترط رحمه الله أن يكون الاستثناء متصلا. حكم استحضار النية عند الاستثناء في الطلاق قال رحمه الله: [وشرطه النية قبل كمال ما استثنى منه] . وشرط الاستثناء نيته، أي: أن يكون ناويا الاستثناء، والنية في اللغة: القصد، قالوا: نوى الشيء ينويه نية ونية بالتخفيف والتشديد، والمراد بذلك: أن يكون عنده عزم قلبي وإرادة قلبية على إخراج عدد من الطلقات أو إخراج عدد من المطلقات؛ على التفصيل الذي ذكرناه، وهي على صور ثلاث: إما أن تكون نية سابقة للفظ الطلاق، أو تكون نية موافقة مصاحبة للفظه، أو تكون نية متراخية متأخرة عن لفظ الطلاق؛ فإن كانت النية سابقة فإنها مؤثرة وجها واحدا، وإن كانت النية مصاحبة للفظ فعلى الأصح أنها تؤثر، وإن كانت النية متراخية متأخرة، فإن طال الفصل فبالإجماع أنها لا تؤثر، وإن لم يطل الفصل وتقاربت النية مع اللفظ فوجهان، أقواهما: ما ذكرناه من أنها لا تؤثر. الأسئلة حكم تساهل بعض طلاب العلم بالألفاظ التي يذكرها الفقهاء في باب الطلاق السؤال يتساهل بعض طلاب العلم ببعض الألفاظ التي يذكرها الفقهاء رحمهم الله تعالى في أبواب الطلاق فما توجيهكم في هذا؟الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فأخذ العبارات الغريبة من المتون الفقهية ومحاولة تطبيقها مثل ما ذكرنا في مسألة: شعرك طالق، فيأتي بزوجته وهو يعتقد أن الشعر في حكم المنفصل فيقول لها: شعرك طالق، ظفرك طالق ونحو ذلك، لا ينبغي لطالب العلم أن يفعله، وعلى المسلم أن يحمد الله على نعمة العلم، وأن يجعل العلم معينا له على الورع والتزام الأصلح والأسلم، وعدم اتخاذ آيات الله هزوا، فهو ما دام أنه لا يريد طلاق زوجته فلا يتلفظ بالطلاق، ولا يشعر امرأته أنه يريد أن يطلقها أو يجري الطلاق على لسانه، فهذا مما يزيد المحبة والمودة، وأما لو قال هذه الألفاظ ولو كانت لا توقع الطلاق، فإنها تحرك الشياطين في القلوب، وتجعل بابا ينفذ منه الشيطان إلى قلب المرأة، ويوسوس لها بكراهية زوجها لها، وأنه قد يأتي اليوم الذي يطلقها فيه، فعلى المسلم أن يحمد الله على العافية، ومن عوفي فليحمد الله، وليكن طالب العلم دائما في سمته ودله وحاله مع أهله على أتم الوجوه وأكملها من خوف الله ومراقبته والحرص على المعاشرة بالمعروف، والبعد عن مثل هذه الأمور، وعلى طلاب العلم أن يوصي بعضهم بعضا بذلك، وأن يذكر بعضهم بعضا بالله. وقد جاءني ذات مرة طالب علم -وهذا من أغرب ما وجدت- من حملة كتاب الله عز وجل وكان يقرأ في تخصص القراءات، وكان معه زملاء، قال له أحدهم: أريد أن أسمع منك القلقلة في قولك: زوجتي طالق، فقال: زوجتي طالق، ثم وقع في أمره، هل وقع الطلاق أم لم يقع؟ فانظر إلى أي حد! إن القلقة مبحث متعلق بكتاب الله عز وجل وليس له علاقة بمثل هذه الأمور، وليس له مجال في مثل هذه المسائل، فأدخل علم كتاب الله عز وجل الذي فضله الله وشرفه على شيء لا تحمد عقباه، وأدخل الضرر على أخيه المسلم، والله لو كانت أخته هي الزوجة ما قال له هذا القول؛ ولذلك ينبغي على المسلم أن يتقي الله، وواجب على طالب العلم أن يتقي الله في أخيه المسلم، وربما يلتزم الإنسان ولكن تبقى معه بعض أدران الجاهلية، فعلى المسلم أن يتقي الله، ودائما الملتزم بحق وطالب العلم حينما يطلب العلم عليه ألا ينظر أن حمله الكتاب وحضوره إلى مجالس الطلب أن ذلك قد زكاه، وأن ذلك قد أصلحه، ما لم يأخذ نفسه بزمام التقوى والورع ومراقبة الله عز وجل في قوله وفعله وكيف يعامل الناس. فعلى هذا: ينبغي لطلاب العلم أن يبتعدوا عن مثل هذه الأمور، وينبغي أن تكون لهم من الهيبة والوقار والكف والانكفاف عن ذكر الطلاق ونحوه، وكل ما فيه أذية وضرر لإخوانه وأخواته، وعلى المسلم ألا يروع أخاه المسلم، فإن ترويع المسلم لا يجوز، وهو إذا قال هذا روع زوجته، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم. حكم من قال: (نسائي طوالق إلا واحدة) ولم يعينها السؤال لو قال رجل: نسائي طوالق إلا واحدة، ولم ينو في الاستثناء واحدة بعينها، وإنما أحب إبقاء إحداهن، فما الحكم في ذلك؟ الجواب الآن بدأ مفعول فرضيات الفقهاء، فقد ذكروا هذه المسألة، فإذا قال: نسائي طوالق إلا واحدة، ولم يعين، فإنه إذا أردنا أن نحكم في هذه المسألة نجري القرعة فيقرع، فالمرأة التي تخرج من نسائه هي التي تخرج من هذا الطلاق، فهو قال: إلا واحدة، فبينه وبين الله عز وجل أنه قد أخرج واحدة، فيتعين المبهم بالقرعة لحكم الشرع بها، وجمهرة العلماء رحمهم الله على أنه إذا قال: نسائي طوالق إلا واحدة، فبينه وبين الله أنه ستبقى له واحدة، فالتي يختارها الله عز وجل بقرعته هي التي تخرج، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه كان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه) ، فقد ثبت الحق لواحدة من نسائه، فجعل القرعة معينة للإبهام، وهذا في الاستحقاق، وعند تعذر معرفة واستبيان من هي الواحدة، فإننا نرجع إلى القرعة؛ لأن الشرع اعتبرها عند الإبهام، والله تعالى أعلم. نصيحة لطالب العلم الجواب أولا: الحمد لله على فضله وعظيم منته وجزيل كرمه، ولا يزال المسلم بخير ما حمد ربه وشكره وعرف نعمته عليه، فمن عرف نعمة الله عليه ذل لله وانكسر، ثم إن هذه المعرفة تقوده إلى محبة الله عز وجل، ومن أحب الله أحبه الله عز وجل، ويسر له سبيل المحبة، فانتقلت به الخطى من طاعة إلى طاعة ومن بر إلى بر، وازداد من توفيق الله له وإحسانه وإنعامه وإفضاله عليه، فإن الله في كتابه المبين أخبر عباده أجمعين أنه يجزي الشاكرين وأنه يزيد من شكر، وتأذن لهم بذلك كما قال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] ، وأفضل ما يشكر عليه سبحانه نعمة الدين، فمن وفقه الله عز وجل لهذه النعمة العظيمة وأسبغ عليه نعمة الإسلام فجعلها على أتم الوجوه وأكملها فقد عظمت نعمة الله عليه، ولا يمكن أن تكمل نعمة الإسلام على عبد من عباد الله إلا بالعلم، فليس هناك أحد في مقام بعد الأنبياء أشرف ولا أكرم من العلماء العاملين، فإذا وفقك الله وحضرت مجالس العلم فتذكر نعمة الله، واعرف مقدار هذه النعمة. ثانيا: من الذي أمدك بالصحة والعافية؟ من الذي أمد في عمرك حتى بلغت يوما تكسبه في طاعة الله أو ساعة تدخرها إلى لقاء الله في محبة الله ومرضاته؟ فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) . فمن الذي أمدك بالصحة والعافية؟ وكم من مريض كان يتمنى أن يصل إلى ما وصلت إليه وحيل بينه وبين مجالس العلم، وقلبه يتفطر بالحزن والألم بالسقم والمرض، فاحمد الله على العافية، وقل من قلبك وملء لسانك: اللهم لك الحمد لا أحصي ثناء عليك. ثالثا: عليك أن تعلم أن هذه النعمة التي ربما تكون في عينك قليلة أنها عظيمة عند الله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا خرج من قرية له يزور أخا له في الله، فأرسل الله إليه في مدرجته وطريقه ملكا، فقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إني ذاهب إلى قرية كذا، قال: وما لك فيها؟ قال: لي فيها أخ في الله، قال: هل لك عليه من نعمة تربها عليه؟ قال: لا. إلا أنه أخي في الله أحببت أن أزوره، فقال: إني رسول الله إليك أن الله قد غفر إليك بممشاك إليه) . فإذا كانت محبة هذا الرجل لأخيه في الله كانت سبب مغفرة ذنوبه، فكيف بمن أحب العلم والعلماء؟ وكيف بمن خرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله، فتغرب عن أهله وولده وزوجه وحبه من أجل دروس علم، أو فوائد من العلم يجنيها فيسد ثغور الإسلام لنفع الأمة؟ فبخ بخ يا لها من تجارة رابحة ويا لها من نعمة سابغة وافرة، ولكن من الذي يعرف قدرها؟ ومن الذي يشكر من أسداها وأولاها وهو الله رب العالمين الذي لا نحصي ثناء عليه سبحانه وتعالى؟ فعلى طالب العلم أن يشكر هذه النعمة، وكما يشكرها بقلبه ولسانه يشكرها بالعمل، فيزيده شهود مجالس العلم من حبها، ويزيده من التعلق بها حتى تصبح سلوته، تتبدد بها أحزانه وتزول بها أشجانه، حتى يصبح حزنه إذا فارق مجالسها أو تأخر عن أنسها ولذتها وبهجتها، فيا لله! كم من طلاب علم أتم الله عليهم نعمة العلم، فسلوا بالعلم عن هذه الدنيا الفانية، فأصبح العلم أكبر همهم وغاية رغبتهم وسؤلهم، فرفع الله درجاتهم، وقد قرن الله العلم بأشرف الأشياء وأحبها وأزكاها إليه سبحانه وهو الإيمان، وقرن جزاءه وفضله وعاقبته بالإيمان: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] ، وهذا كله يدل على شرف هذه النعمة العظيمة، فاحمد الله حق حمده بالعمل، ويكون ذلك بمراجعة ما تعلمت، وضبط ما كتبت وقرأت وسمعت، حتى تكون بخير المنازل في هذا العلم، فإن الله يحب من طالب العلم أن يكون في أحسن المراتب والمنازل في ضبط العلم وتحصيله والأخذ به على الوجه الذي يرضي الله، قال الله تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم:12] ، العلم يحتاج إلى قوة وهمة صادقة، يراجع فلا يسأم ولا يمل، ويحمد الله عز وجل أن الله شرفه حتى أصبح يراجع هذه المسائل، ويقرأ هذه الحكم والأحكام الشرعية بعد أن كان جاهلا بها؛ فإن الله يقول لنبيه من فوق سبع سماوات: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] ، قال بعض العلماء: {وكان فضل الله عليك عظيما} ، ذكرت بعد العلم، فالذي علمك الله إياه مما لم تكن تعلم فإنه الفضل العظيم، فعلى طالب العلم أن يراجع هذه المسائل. والنقطة الأخيرة: أن يظهر طالب العلم هذا العلم في سلوكه وأخلاقه وعمله، فيجمع بين العلم والعمل، فإذا جمع الله لعبده بين العلم والعمل كان من الصديقين، ومرتبة الصديقين بعد مرتبة النبيين: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء:69] . اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل مراتبنا مع الصديقين، اللهم ارفع منازلنا مع النبيين والشهداء والصالحين، اللهم اجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهك الكريم وموجبا لرضوانك العظيم، نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا مستجابا يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (438) صـــــ(1) إلى صــ(10) شرح زاد المستقنع - باب الطلاق في الماضي والمستقبل [1] الطلاق له أنواع وأقسام، ومن أنواعه ما يكون معلقا على شيء معين، إما في الماضي أو المستقبل، وهذا مذكور في كتب الفقهاء. ألفاظ الطلاق في الماضي والمستقبل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب الطلاق في الماضي والمستقبل] . ذكرنا أن الفقهاء رحمهم الله ذكروا هذه الأبواب والمسائل والفصول والمباحث لوجود الحاجة، فإن الناس تختلف ألفاظهم بالطلاق، فمنهم من يلتزم اللفظ الشرعي الوارد ويتبع المسنون في طلاقه، ومنهم من يتلفظ بالطلاق على وجه بدعي، ومنهم من يتلفظ بالطلاق بألفاظ يتأثر فيها بعرفه وبيئته، وعلى هذا لا بد من بيان هذه الأحكام والمسائل لحاجة الفقيه إليها إما للفتوى وإما للقضاء وإما للعلم والتعليم؛ ولذلك فصلوا هذه المسائل ورتبوا أبواب الفقه حتى يكون الفقيه على إلمام بأحوال الطلاق وصوره وألفاظ الناس فيه، فالأصل الشرعي يقتضي أن المسلم إذا تلفظ بالطلاق أنه يؤاخذ به، ونصوص الكتاب والسنة من حيث الأصل تلزم المطلق بطلاقه، بل وجدنا الشرع يشدد في لفظ الطلاق حتى أمضاه على الهازل، كما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق) . فأثبت عليه الصلاة والسلام أن جد الطلاق جد وأن هزله جد، وعلى هذا قال العلماء رحمهم الله: لفظ الطلاق خطير شرعا، والمسلم يؤاخذ به من حيث الأصل العام، حتى أن الشرع التفت إلى ظاهره وأسقط الباطن كما في الهزل. وعلى ذلك فالأصل يقتضي مؤاخذة الناس في ألفاظ الطلاق، إلا إذا قامت الأدلة على استثناء ألفاظ معينة وعدم مؤاخذة أهلها. وفي بعض الأحيان يكون اللفظ دالا على الطلاق دلالة بينة بالأصل اللغوي والوضع اللغوي فلا إشكال فيه عند ذلك، وتارة ينصرف عن ذلك بعرف، فيتلفظ الناس بألفاظ يعرف بالعرف أنها توجب التأثير في لفظ الطلاق. وعلى هذا يحتاج الفقيه إلى معرفة الألفاظ التي يعتد بها وتؤثر، واللغة دالة على تأثيرها، والألفاظ التي يظهر أنها لغو وأن من تكلم بالطلاق ونطق بها لا يعتد لفظه ولا يكون طلاقه على الوجه الشرعي ألبتة. وبناء على ذلك نحتاج إلى مباحث الطلاق في المستقبل والماضي، فقد يكون الطلاق معلقا على المستحيل كقوله: إن طرت في الهواء، وإن قلبت الماء سمنا، إن جعلت الحديد ذهبا ونحو ذلك من المستحيلات، كذلك تعليق الطلاق على الأفعال والصفات والأزمنة: إن جاء زيد، إن جاء رمضان، إذا ذهبت إلى أبيك، إذا دخلت دار أبيك، إذا كلمت فلانة ونحو ذلك، كلها أمور لا بد من بحثها فقد عمت بها البلوى، وكثرت منها الشكوى، ووقع فيها الناس على حسب اختلاف فئاتهم وأعرافهم. وقد استفتح المصنف هذه المسائل بمسألة الطلاق في الماضي والمستقبل، فالمطلق إذا طلق ونجز طلاقه وقال لامرأته: أنت طالق، وسكت فهذا الأصل، وهي طالق، وقد بينا أن التعبير بهذا اللفظ مؤثر وموجب لانحلال العصمة؛ لكن الإشكال إذا أسند الطلاق على وجه مستحيل، فإنه حينئذ يكون كمن لم يطلق وكأن الطلاق لم يصادف وجها صحيحا يمضي وينفذ به، فتارة نصحح الطلاق في زمان إذا أسنده إلى زمان، وتارة لا نصححه، فهو إذا طلق في الحال فلا إشكال، ولكن إذا قال لامرأته: أنت طالق بالأمس، أنت طالق أمس، فقد أسند الطلاق إلى الأمس، مع أنه في الأمس لم يطلق زوجته، كذلك: أنت طالق قبل يوم، أنت طالق قبل أسبوع، أنت طالق قبل شهر، فهذا قد أسند فيه الطلاق على وجه لم يقع فيه الطلاق، ويكون كذبا؛ لأنه لما قال: أنت طالق قبل شهر، أنت طالق قبل سنة، وهي لم تطلق لا قبل شهر ولا قبل سنة ولا قبل ساعة، كان حكاية كذب، وهو اللغو الذي لا يعتد به. لكن إن قال لها: أنت طالق بعد يومين، أنت طالق إن جاء الغد، أنت طالق إن جاءت الجمعة، أنت طالق إن مت، أنت طالق إن مرضت ونحو ذلك، فقد أسنده إلى المستقبل. فأصبح عندنا ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يسند الطلاق إلى الماضي. والحالة الثانية: أن يسند الطلاق إلى الحاضر والحال. والحالة الثالثة أن يسند الطلاق إلى المستقبل العاجل. يقول رحمه الله: (باب الطلاق في الماضي والمستقبل) وسكت عن الحاضر؛ لأن الأصل أن الحاضر يمضي به الطلاق، فلا نبحث في شيء حاضر، ولكن سنبحث في جانبين: إما طلاق مسند لماض وهو شيء قد ذهب، وإما طلاق مسند إلى مستقبل سيأتي. الطلاق في الماضي قال رحمه الله: [إذا قال: أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع] . قوله: (أنت طالق أمس) أمس من الأسماء التي يلغزون فيها، يقولون: اسم إذا عرف أصبح نكرة، وإذا نكر صار معرفة، فأمس هو الذي قبل اليوم، وإذا قلت: بالأمس، فإنه يستغرق الزمان الماضي، ويكون نكرة عامة لما مضى؛ ولذلك قال الله تعالى: {كأن لم تغن بالأمس} [يونس:24] . فقوله: أنت طالق أمس، أو أنت طالق بالأمس، أسند الطلاق إلى ما قبل اليوم؛ فإن لم يكن قد طلق امرأته قبل يومه ولم ينو به الطلاق حالا لم تطلق زوجته. وعلى هذا يقولون: إذا قال لها: أنت طالق أمس، فقد حكى كذبا، والكذب لغو، والأصل أنها زوجته، والقاعدة الشرعية تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) ، فالأصل كونها زوجة له، ولا نرفع هذه العصمة إلا بدليل، ولا دليل يدل على أنه قصد الطلاق أو أراد وقوعه. قوله: (أو قبل أن أنكحك) . فلو قال رجل لزوجته: أنت طالق قبل أن أنكحك، وكانت قد تزوجت رجلا قبله، ثم طلقها ذلك الرجل، فإن كان يخبر أنها قد طلقت منه، فهذا صحيح ولا يقع عليه طلاق؛ لأنه حكى شيئا قد وقع، فتكون جملة خبرية لا إنشائية. قوله: (ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع) . أي: لم يقع الطلاق، فإن نوى وقوعه وقع. قال رحمه الله: [وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قبل] . مثل ما ذكرنا: أنت طالق بالأمس، وقصد أنها طلقت من بعلها الأول صح ذلك؛ لأنه ممكن. حكم طلاق من مات أو جن ولم يعرف مراده بلفظ الطلاق قال المصنف رحمه الله: [فإن مات أو جن أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق] . ذكرنا أن العلماء رحمهم الله -وهذا من دقة الفقهاء الأولين وهي سمة من السمات العظيمة التي امتاز بها الفقه الإسلامي- كانوا لا يعطون الفتوى والحكم مجردا عن الأثر، أي: حينما يقولون لك: إذا نوى فالحكم كذا، وإذا لم ينو فالحكم كذا، يعني: إذا أعطاك شيئا يختلف بحسب النية؛ فإنك تعرف أن الحكم إذا نوى وقع، وإذا لم ينو لم يقع، فيرد السؤال إذا توفي أو جن أو خرف أو أصابته عاهة ولم نستطع أن نعرف نيته، فهذا سؤال وارد ومحتمل عقلا؛ ولذلك نجد أن فرضيات الفقه في الفقه الإسلامي لم تأت من عبث ولا جاءت من فراغ. فهذه الكتب كانت تؤلف وتكتب في أزمنة فيها جهابذة العلماء، أزمنة ما كان يخط رجل في قرطاسه ولا يخط بقلمه إلا وقد عرض عقله على أئمة ودواوين العلم، فإما أن يكون بهجة للناظرين، وإما أن يكون في أسفل السافلين فلا يعتد به، فهذه الكتب حينما تجد فيها الفرضيات ما جاءت من فراغ، نعم قد يوجد التكلف في بعضها؛ لكن نحن نتكلم عن شيء له حاجة وشيء متصل بالأصل، فإذا تقرر أن الأصل الشرعي يفرق بين من نوى ومن لم ينو، ورسول الأمة عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ، ففرق بين من نوى ومن لم ينو، فإذا جئت تقول: إن نوى وقع وإن لم ينو لم يقع؛ فإن الفرض العقلي يستلزم أن تبين؛ لأن الشريعة كاملة، ولا بد أن يأتيك شخص ويقول لك: والدي قال كذا، ونسينا ونسي أن يسأل ثم توفي، هل نحكم بأنه مات وزوجته في عصمته، أم أن والدتنا مطلقة؟ فهذا كله يحتاج إلى بيان، فالفرضيات ما جاءت من فراغ، وما كان أهل العلم ودواوين العلم ليضيعوا أوقاتهم وأعمارهم، وما كان أئمة الإسلام الذين عرفوا بالنصح لأتباعهم ومن أراد قراءة كتبهم ورضيهم حجة بينهم وبين الله أن يضيعوا أعمارهم بالفرضيات عبثا، فلم توضع هذه الفرضيات إلا بترتيب مبني على الأصول الشرعية، وهذا ينبغي أن يوضع في الحسبان. فلا يعرف قدر هؤلاء العلماء إلا من بلي بالفتاوى، ومن وقف أمام المعضلات والمشكلات في القضاء يعرف عندها هذه النوازل والفرضيات، والله يعلم كم من مسائل نزلت على المفتي في ظلمة الليل وضياء النهار، فحار فيها عقله والتبس عليه أمره، حتى وجد فرضية من إمام متقدم، فأصبح يترحم عليه كلما ذكر أمره؛ لأنه وقع في كرب لا يعلمه إلا الله، فما زالت عنه كربته إلا بفضل الله وفي تلك الساعة الموفقة التي وجد فيها هذه المسألة العجيبة، حتى تجد بعضهم يقول: إنها مسألة تعمل لها المطي، أي: إنها مسألة مشكلة، فلما يجدها الإنسان في وقتها وعند الحاجة إليها يحس بفضل العلماء، ويحس أنهم فعلا قصدوا النصيحة لهذه الأمة. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيهم عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالما عن علم، وأن يسبغ عليهم شآبيب الرحمات، وأن يجعلهم في أعالي الدرجات، وأن يجمعنا بهم في نعيم الجنات. المقصود من هذا التنبيه: أن المصنف رحمه الله قال: إن قال: أنت طالق بالأمس، ونوى وقع حالا، ومفهومه أنه إذا لم ينو لم يقع وصرح بذلك المفهوم، وعليه يرد السؤال: إذا مات أو جن قبل بيان مراده -ولا يلتفت إلى مسألة الموت أو الجنون؛ لأنها أمثلة تذكر لأصل التعذر، وهو تعذر الاستبيان، فليست العبرة بالأمثلة، بل المهم أن تفهم الأصل؛ ولذلك لما تفهم الأصل يسهل عليك الاستحضار، وتكون عندك الملكة الفقهية- وقال هذا الكلام المحتمل الذي يختلط فيه الحكم بين الظاهر والباطن، وجب حينئذ أن ننظر إلى نيته، ولا يمكننا أن نطلع عليها إلا إذا عبر الإنسان عن مكنون نيته وخفي قلبه، وربما تعذر أن نعرف منه ذلك، إما أن يتعذر بموت أو يتعذر بفقد النطق وعدم القدرة على الكتابة وعدم وجود الإشارة المفهمة، أو يتعذر بجنون، فالمجنون لا يستطيع أن يعبر عن مكنون نفسه، والميت لا نستطيع أن نسأله ويجيب، وكذلك أيضا بالنسبة لمن خرس لسانه وهو لا يعرف الكتابة، ولا يستطيع أن يتكلم أو يشير إشارة مفهمة، فهذه أمثلة على الاستعجام وعدم إمكان الاستبيان. قوله: (فإن مات) مثل: رجل جاء ورثته فقالوا: والدنا قال لأمنا: أنت طالق بالأمس، ثم توفي ولم نجد من نسأله، ومضى على هذا الكلام سنة فهل من الممكن أن تخرج المرأة من عصمته، ونحكم بكونها قد طلقت ولا إرث لها، أو نحكم بكونها زوجة وهذا الكلام غير مؤثر؟ فبين رحمه الله قاعدة تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ومعنى ذلك: أن الأصل أنها زوجته وشككنا في طلاقها، فنبقى على الأصل من أنه لم ينو الطلاق حالا؛ لأنه أسنده إلى الأمس، وقوة اللفظ بالأمس توجب عدم وقوع الطلاق، فلا نحكم بكونها مطلقة، والسيوطي في الأشباه والنظائر، ومثله ابن نجيم وعلماء القواعد الفقهية ذكروا في كتبهم أن من تفريعات قاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) : استصحاب الزوجية إذا ترددت نية الطلاق بين أن يكون نوى الطلاق أو لم ينو، فنقول الأصل: أنه لم ينو، وعلى هذا لا تطلق عليه زوجته. أحكام الطلاق في الماضي وخلاصة الكلام: أن الزوج إذا أسند الطلاق إلى الماضي على وجه لا يمكن تأويل وقوع الطلاق به؛ فإنه لا يقع الطلاق، فإذا قال لزوجته اليوم: أنت طالق أمس، فإنه إذا لم يقصد إيقاعه حالا وقصد إسناد الطلاق إلى ظرف الأمس، فإن الأمس قد ذهب، وحينئذ كأن الطلاق حينما تلفظ به الزوج لم يصادف محلا يتعلق به، وعليه: فلا ينفذ هذا الطلاق، وبينا وجه ذلك وشرحناه، وقلنا: إذا قال في هذه الحالة أنت طالق قبل أن أنكحك، وأنت طالق بالأمس، أو أنت طالق أمس، أنه إذا قصد حكاية طلاق كان قد وقع على المرأة بقوله: قبل أن أنكحك؛ صرف إليه، كأن يكون تزوجها رجل من قبل وطلقها، ثم نكحها هذا الرجل أو هذا الزوج فقال: قصدت بقولي: (أنت طالق) قبل أن أنكحك، أي: من زوجك الأول، فلا ينفذ عليه الطلاق؛ لأنه لم يطلق حقيقة، وإنما حكى طلاق الغير، والحاكي لطلاق غيره لا يلزم بالطلاق. قوله رحمه الله: [ولم ينو وقوعه في الحال] لو قال رجل لامرأته: أنت طالق أمس، ونوى أنها تطلق عليه بهذا اللفظ حالا؛ وقع الطلاق، وكذلك لو قال: أنت طالق، ثم قال: قبل أن أنكحك، من باب التهرب من الطلاق، وكان قد نوى بقوله أولا: (أنت طالق) إيقاع الطلاق، وقع الطلاق. قوله: (وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قبل) كأن يكون طلق امرأته طلقة ثم راجعها بعد الطلقة، ويوما من الأيام بعد رجعته لها قال: أنت طالق بالأمس، وذكرنا أن (أمس) إذا عرفت صارت نكرة، وإذا جاءت نكرة صارت معرفة، قال تعالى: {كأن لم تغن بالأمس} [يونس:24] فهو إذا قال لها: أنت طالق بالأمس، وقصد أنها طلقت منه طلقة، فإنه يكون حاكيا لهذه الطلقة ولا تطلق عليه. وذكرنا أن العلماء رحمهم الله يذكرون الحكم ولربما يفصلون فيه، وهذا التفصيل قد يختلف بحسب اختلاف نية المتلفظ بالطلاق، فنحتاج أن نسأل المطلق: ما الذي قصدت؟ هل قولك: أنت طالق بالأمس قصدت به إيقاع الطلاق حالا؟ قال: لا، قصدت بالأمس أنها طلقت مني طلقة قبل هذا الكلام، فإن أمكن ذلك حملناه عليه، فإذا نوى حكاية طلاق منه أو من غيره لم يقع الطلاق؛ لأن حكاية الطلاق ليس بطلاق، ولذلك قالوا: حكاية الكفر ليست بكفر، فعلى هذا قالوا: إذا حكى الطلاق عن غيره أنه طلقها، أو حكى طلاقا سابقا منه؛ فقد تحققنا أنه لا يريد تطليقها، لكن المشكلة إذا قال لها: أنت طالق بالأمس ولم يفصح عن نيته، فقال رحمه الله: (فإن مات أو جن أو خرس ... ) بحيث لا نستطيع أن نعلم منه ما هي نيته، ولا نستطيع أن نسأله. وذكرنا من أمثلة هذه المسألة: رجل قال لامرأته: أنت طالق بالأمس، ثم توفي هذا الرجل وجاء ورثته يسألون، فهل في هذه الحالة نحكم بكونها زوجة؛ لأن الأصل بقاء الزوجية وشككنا في طلاقه؛ لأن هذا اللفظ الذي ذكره يحتمل أنه نوى إيقاع الطلاق، فتكون زوجته قد طلقت عليه، ولربما كانت أجنبية منه إن كانت الطلقة ثالثة، فتوفي وهي ليست في عصمته، ولربما حكى طلاقا سابقا منه أو من رجل كانت تحته قبل زواجها منه فلا يقع به الطلاق؟ فإذا معنى ذلك: أن الميت الذي تلفظ بهذا اللفظ نحن مفتقرون إلى معرفة نيته، حتى نوقع عليه الطلاق أو لا نوقعه، فإن كان حاكيا للطلاق فلا نوقعه، وإن كان ناويا للطلاق حالا فنوقعه، ولربما خرجت من عصمته كأن تكون الطلقة الأخيرة، فإذا: ليس عندنا ما يميز الحال. وذكر رحمه الله أن هذا اللفظ إن أمكن فيه التمييز تميز بحسب ما يميزه، وإن لم يمكن فيه التمييز -وهي القسمة العقلية- قال: الأصل بقاء النكاح، ولا نحكم بوقوع الطلاق؛ لأننا عندنا احتمال أن يكون حاكيا للطلاق، والقاعدة: (أن الأصل بقاء ما كان على ما كان) ، وخذ هذه القاعدة: أنه متى شككنا في وقوع الطلاق وعدم وقوعه؛ فإننا نستصحب بقاء الزوجية، ولا نحكم بكون المرأة مطلقة، ومتى شككنا هل اللفظ يقتضي الطلاق أو لا يقتضيه، وهل نوى أو لم ينو؛ فالأصل أنها زوجته حتى نتحقق من نيته على وجه يوجب حل العصمة بالطلاق؛ لأن القاعدة: (أن الأصل بقاء ما كان على ما كان) وهذه القاعدة هي في الحقيقة مفرعة على القاعدة التي سبق وأن ذكرناها: (اليقين لا يزال بالشك) فنحن على يقين أنها زوجته، وعلى يقين أن هذه الزوجية باقية ما لم نتيقن أنه طلقها وخرجت عن عصمته، فحينئذ نقول: هذه زوجته، ونقول لورثته: لا نجزم بكون هذا اللفظ موجبا للطلاق حتى نتحقق أنه نواه، ولا يمكن التحقق، فنبقى على الأصل. قوله: (أو جن) وهكذا إذا جن، قلنا: مسألة: مات أو جن أو خرس ليست هي المهمة، المهم أن تأتي بشيء يمنع من معرفة الحقيقة، فهو إذا مات لا يمكن أن تسأله، وإذا جن لا يمكن أن تثق بكلامه، وإذا خرس لا يستطيع أن يتكلم إلا إذا كان ثم إشارة مفهمة أو كتابة مستبينة. قوله: (قبل بيان مراده لم تطلق) وذلك كما ذكرناه. وخلاصة ما ذكرنا في قوله: (أنت طالق بالأمس) أن هذا اللفظ يأتي على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: إما أن يقصد إيقاع الطلاق في الحال، وكلمة (أمس) تعتبر لغوا، والعبرة بقوله: أنت طالق. الوجه الثاني: أن ينوي حكاية أمر سابق، فلا إشكال أنه بحسب ما يحكيه. الوجه الثالث: أن لا يستبين لنا الأمر، فنبقى على العصمة والأصل. وذكرنا أنه لو قال لها: (أنت طالق أمس) ولم يقصد إيقاع الطلاق حالا، ولم يحك طلاقا سابقا، وقصد أن الطلاق وقع بالأمس فلا يقع؛ لأن الطلاق جاء بلفظ لا يمكن أن يقع عليه، لأن الأمس قد ذهب وهو يقول: أنت طالق أمس، وأمس ما وقع فيه طلاق، قالوا: فصار كلامه كذبا، والكذب لغو لا ينبني عليه حكم شرعي، فيكون هذا من اللغو. ما لم يقصد به الطلاق حالا، لكن يرد هنا إشكال: أن الرجل لو قال: أنت طالق بالأمس، ونوى أنها طالق حالا فكيف يقع هذا؟ تقول: يكون قوله: أنت طالق، نوى به الطلاق فطلقت، ويكون قوله: بالأمس، لغوا لا تأثير له، كرجل يقول لامرأته: أنت طالق، ثم يسكت على وجه لا يمكن فيه الاستثناء ثم يستثني، فإن قوله: أنت طالق، وسكوته بعد قوله: أنت طالق، فهمنا منه أنه قصد إيقاع الطلاق، فكان ما بعده من الاستثناء والقيد لا يؤثر. أحكام الطلاق في المستقبل قال المصنف رحمه الله: [إن قال: طالق ثلاثا] . ما قال: (أنت طالق) وسكت؛ لأن الحكم يختلف من الطلقة الرجعية والطلقة البائنة، فهذه المسألة إذا قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد، في شيء لا يعلم إلا بالمستقبل، قبل قدوم زيد بيوم، قبل قدوم زيد بأسبوع، قبل قدوم زيد بشهر، في بعض الأحيان تنتقل هذه المسألة إلى حكم الطلاق في الماضي مع أنه أضافها إلى الشهر، فهو إذا قال لها: أنت طالق ثلاثا قبل قدوم زيد بشهر، ننظر الوقت الذي تلفظ فيه بهذه الكلمة، فإذا كان أول يوم من محرم قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، وزيد غائب ومسافر، وقدم زيد أثناء شهر محرم، فمعنى ذلك: أن الشهر لم يتم، فكأنه أسند الطلاق للأمس، مثل مسألتنا التي تقدمت، فحينئذ إذا بت الطلاق في الحال وقال لها: طلقتك قبل قدوم زيد بشهر، فالواقع أنه قبل قدوم زيد بشهر لم يقع طلاقا فصار كذبا ولغوا. وبناء على هذا: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثا قبل قدوم زيد بشهر، قبل قدوم والدي بشهر، ولم يمض الشهر صار لغوا وصار غير مؤثر ولا موجبا للطلاق، لكن لو أن زيدا قدم بعد شهر من كلامه الذي قاله، فإنه يلزمنا عدة أمور: أولا: لابد في هذه المسألة أن تضبط الوقت الذي تلفظ فيه بالطلاق المعلق، وثانيا: تضبط الوقت الذي يقدم فيه زيد الذي علق الطلاق على قدومه، ثم تنظر في المدة بينهما، فإن وافقت ما علق الطلاق عليه من الأمد وقع الطلاق، وإن كان الوقت أقل لم يقع الطلاق، كما ذكرنا، فهو إذا قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، إما أن يقدم زيد قبل تمام الشهر من هذا الكلام، فيكون لغوا ولا يقع، كقوله: أنت طالق بالأمس، وإما أن يقدم زيد بعد شهر من هذه الكلمة، فحينئذ تكون قد طلقت بمجرد قوله: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، فيكون قد أسند الطلاق لوقته، فلو أنه قال هذه الكلمة في واحد محرم، وقدم زيد في الثاني من صفر؛ فإنها قد طلقت عليه في أول محرم؛ لأن قدوم زيد كان في الثاني من صفر، ولفظه بالطلاق استغرق وقتا يمكن تعلق الطلاق به فتطلق، وليست هذه المسألة هي التي تعنينا، بل الذي سيأتي، والآن فقط اضبطوا المسألة، والذي سيأتي لا يمكن أن يفهم إلا بفهم هذه المسألة. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
صور الطلاق في المستقبل قوله: (إذا قال: طالق ثلاثا قبل قدوم زيد بشهر) والأمر لا يتوقف على الشهر، ممكن أن يقول لها: بشهر، بأسبوع، بسنة، بيوم، والمهم أن يحدد مدة من الزمان، فعبر بالشهر حتى تتضح الصورة، فإن قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، لا يخلو قدوم زيد بعد هذه الكلمة من الصور التالية: الصورة الأولى: أن يقدم قبل أن يتم شهر من هذا القول فلا يقع الطلاق؛ لأننا تبينا أنه لغو ولم يصادف الزمان. ثانيا: أن يقدم زيد بعد شهر تام، بحيث لا يكون هناك وقت لمضي الطلاق ووقوعه. ثالثا: أن يقدم زيد بعد شهر ووقت يسير يمكن أن يقع فيه الطلاق، فأصبحت القسمة العقلية تقتضي ثلاث صور: إما أن يقدم زيد والمدة لم تتم، فتبينا أنه لغو ولا يؤثر، وإما أن يقدم زيد والمدة قد تمت، لكن ليس هناك زيادة في الوقت يمكن أن يقع فيها الطلاق، فهي في حكم ما لم تتم المدة، مثلا: لو قال لها في الساعة الثانية ظهرا من أول محرم: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، وجاء زيد في الساعة الثانية في نفس اليوم الذي يتم به شهر كامل، بحيث دخل في نفس الوقت -والمراد فقط ضبط الضابط- ولذلك يقول المصنف: (ومضى وقت يمكن فيه الطلاق) فأنت إذا عرفت هذه المسألة ربما يأتيك مثلها في مواضع تحتاجها، كالبيع والرهن، فتقول: يمضي الشهر وتمضي مدة يمكن أن يقع فيها الطلاق، فإن مضى الشهر ولم تمض المدة التي يمكن في مثلها وقوع الطلاق فقد تبينا أن الطلاق لم يقع، فصارت في حكم ما لم تتم المدة، فعندنا صورتان من الثلاث لا يقع فيها الطلاق: الصورة الأولى: ألا تتم مدة الشهر. الصورة الثانية: أن تتم ولا يمضي قدر من الزمان يمكن فيه الطلاق، يعني: ممكن شخص يعلم بهذا ويقول: أنت قلت: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، وجاء زيد على نفس الوقت الذي يتم به الشهر من فيه تلفظ، ممكن أن يقع هذا، فلو سألك على هذا الوجه تقول: لم تأت مدة يمكن أن يقع فيها الطلاق، وهي التي يسمونها مدة الإمكان، فعندنا المدة التي علق عليها الطلاق، وعندنا مدة إمكان الطلاق، فلابد من وجود المدتين، المدة الأولى: مدة الشهر كاملا، والمدة الثانية: مدة الإمكان وزمن الإمكان. أما الصورة الثالثة: أن يمضي الشهر وزيادة على وجه يمكن فيه وقوع الطلاق، فلو قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر في أول محرم، وقدم زيد في أول -مثلا- ربيع، فحينئذ يكون طلاقها في أول صفر؛ لأن الذي قبل ربيع الأول صفر، فتقول: تكون طالقا من أول صفر؛ لأنه قال: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، ولو قال لها في أول محرم: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، وقدم زيد في أول رمضان، فإنها تطلق في أول شعبان، وتحتسب عدتها من أول شعبان، وتسري الأحكام عليها من أول شعبان. فعرفنا أن الصورتين الأوليين لا يقع فيها طلاق، فالصورة الأولى: إذا لم تمض المدة، وتكون في حكم قوله: أنت طالق بالأمس، والصورة الثانية: أن تمضي المدة وليس هناك زمن إمكان الوقوع، وأما الصورة التي يقع فيها الطلاق فهي إذا مضت مدة الشهر مع زمان الإمكان. قال رحمه الله: [وإن قال: طالق ثلاثا قبل قدوم زيد بشهر، فقدم قبل مضيه، لم تطلق] فقوله: (قدم قبل مضيه لم تطلق) لماذا؟ لأنه مثل قوله: أنت طالق بالأمس؛ لأنه إذا قدم، قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر في أول محرم، وقدم زيد في الخامس عشر من محرم، فقد أسند الطلاق إلى الخامس عشر من ذي الحجة، والخامس عشر من ذي الحجة لم يقع فيه طلاق، فحكى كذبا فصار لغوا، مثل قوله: أنت طالق بالأمس، إذا لم يقصد به الطلاق. قال رحمه الله: [وبعد شهر وجزء تطلق فيه يقع] فقوله: (وبعد شهر) هذا الشرط الأول (وجزء) هو الذي قلنا: قدر الإمكان، (وجزء) تستطيع أن تقول: أي: قدر من الزمان يمكن أن يقع فيه الطلاق ولو دقيقة أو نصف دقيقة الذي هو زمن الإمكان للتلفظ بالطلاق ووقوعه. حكم دخول الخلع على الطلاق في المستقبل قال المصنف رحمه الله: [فإن خالعها بعد اليمين] وهنا مسألة جديدة: إذا قال لزوجته: أنت طالق -بالصورة التي ذكرناها- وخالعها بعد يوم، أو خالعها بعد ساعة، أو خالعها بعد أسبوع، فخالعته المرأة فافتدت ولم تقصد من ذلك الهروب من الطلاق، وهذه المسألة التي سنبحثها مبنية على المسألة التي كنا فيها، لكن قبل أن ندخل فيها نحتاج إلى تنبيه مهم، المصنف رحمه الله قال: (وإن قال: طالق ثلاثا) ما قال: أنت طالق، وعبر بالثلاث على قول جماهير السلف من أن الثلاث ثلاث، وأنها توجب البينونة الكبرى، واختار المصنف ما يوجب البينونة الكبرى؛ لأنه سيتكلم عن الخلع، فمهد بالتطليق ثلاثا، وإلا لو قال لها: أنت طالق طلقة قبل قدوم زيد، فالحكم أنها تقع طلقة واحدة إذا مضى الشهر، ولا يختلف الحكم من واحدة إلى ثلاث، وهذا التنبيه ينبغي أن ينتبه له طالب العلم، فالسبب الذي دعاه -رحمه الله برحمته الواسعة- أن يختار الثلاث: أن الخلع مع الطلاق بالثلاث لا يجتمعان ولا يصح إلا أحدهما؛ لأنك لو أوقعت الطلاق رجعيا ووقع الخلع بعده صح؛ لأن الخلع يصح في حال الطلاق الرجعي ما دام أنها في العدة، فالرجعية تخالع؛ لأن الزوج يمتلك رجعتها. ففهمنا أولا: متى يقع الطلاق إن علقه على زمن في المستقبل، وبينا الصورتين اللتين لا يقع فيهما الطلاق، والصورة التي يقع فيها الطلاق، الآن وسيدخل المصنف في المسألة التي قلنا: إنها تحتاج إلى ضبط. قوله: (فإن خالعها بعد اليمين بيوم، وقدم بعد شهر ويومين؛ صح الخلع وبطل الطلاق) أولا: لفظه بالطلاق متى وقع؟ فتضع تاريخا للفظ الطلاق، هذا أول شيء، ثانيا: تضع تاريخا للخلع، مثلا: عندنا لفظ الطلاق وقع في أول محرم، ولفظ الخلع أو المخالعة وقع في الثاني من محرم. ثالثا: قدوم زيد. إذا عندنا ثلاثة أشياء: أولا: لفظه بالطلاق وتعليقه للطلاق على قدوم زيد، وثانيا: الخلع وزمانه متى وقع؟ وثالثا: قدوم زيد، هذه الثلاث يعني: لابد من تركيب المسألة عليها، فلنجعل لفظه بالطلاق على هذا الوجه في أول محرم، قال لها في أول محرم: أنت طالق ثلاثا قبل قدوم زيد بشهر، قررنا في المسألة الماضية أنه لا يقع الطلاق إلا إذا مضى شهر وقدر يسمونه: قدر الإمكان لوقوع الطلاق، فعلى الأصل الذي قررناه إذا كان قال لها في واحد محرم فإنها تطلق إذا جاء واحد صفر، لكن هنا مشكلة، عندك طلاق بالثلاث وعندك خلع، إن صححت الطلاق من واحد محرم؛ فقد بانت؛ وجاء الخلع وهي أجنبية، ولماذا ذكر مسألة الخلع؟ لأن الخلع تدفع المرأة بسببه مالا، ترد المهر، فأنت إذا صححت الطلاق وأبطلت الخلع؛ وجب رد المال إلى المرأة وإبطال الخلع، وإن أبطلت الطلاق والمرأة في عصمة الرجل منذ التلفظ، أو كان القدوم بعد الخلع بمدة تستغرق الشرط؛ فحينئذ تصحح الخلع ويأتي الطلاق لأجنبية. وحتى نفهم كل الكلام الذي سيأتي نقول: إما أن تقدم تصحيح الطلاق وتبطل الخلع، وإما أن تبطل الطلاق وتصحح الخلع، وعلى هذا نحتاج إلى صورة نقول فيها: إن الطلاق وقع، وصورة نقول: الخلع وقع، فإن قلنا: الطلاق وقع؛ بطل الخلع، وإن قلنا: الخلع وقع؛ بطل الطلاق. فلنبدأ الآن، قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، ووقع هذا الكلام في بداية محرم، فإن قدم زيد في أول صفر، وتم الشهر، وتمت مدة الإمكان من اللفظ الذي تلفظ به، فقدم في أول صفر مع مضي مدة من الزمان للوقوع، مثلا تلفظ بهذا اللفظ في أول محرم في الساعة الثانية ظهرا، وقدم زيد في أول صفر في الساعة الثالثة ظهرا، فما يكون الحكم؟ تقدر زمانا قبل قدوم زيد وهو الشهر، وتقول: تبينا بقدوم زيد أن الطلاق قد وقع؛ لأنه قال: قبل قدوم زيد بشهر، فقد تحقق عندنا أنه في الساعة الثانية وزيادة من أول محرم طلقت المرأة بالثلاث، والخلع وقع في اليوم الثاني من محرم، فهو خلع لأجنبية، فيحكم القاضي برد المهر إلى المرأة، وتصحيح الطلاق، وأنها طلقت عليه من أول يوم من محرم، فيكون الخلع في هذه الحالة وقع بعد وقوع الطلاق بالثلاث، وهذا الذي جعل المصنف يقول: (أنت طالق ثلاثا) لأنه لو قال لها: أنت طالق طلقة، فحينئذ هي في العصمة والخلع لا يتأثر، فهذا وجه اختيار الثلاث. لكن كيف يمكن لنا أن نصحح الخلع ونبطل الطلاق؟ تأتي بمدة بعد الخلع بشهر وزمن الإمكان؛ لأنك إذا جئت بشهر كامل بعد الخلع فمعناه أن الطلاق وقع بعد الخلع، فيكون قدوم زيد في الثالث من صفر، فإذا قدم زيد في الثالث من صفر فمعناه أن الطلاق وقع في الثالث من محرم، والخلع وقع في الثاني، إذا: سبق الخلع الطلاق، فصار الخلع موجبا لطلقة بائنة، وصارت المرأة بالخلع أجنبية، فجاء الطلاق بالثلاث أو بواحدة لأجنبية فلا يقع، فلو عقد عليها في هذه الصورة رجع لها بطلقتين على أن الخلع طلقة، ولا تبين منه. فإذا أردنا أن نوقع الطلاق ونلغي الخلع، فينبغي أن نجعل المدة التي بين الطلاق وبين قدوم زيد هي المدة المشروطة، بحيث يكون الخلع قد صادف امرأة أجنبية قد بانت بالثلاث، ومثال ذلك: أن تقول: قال لها: أنت طالق ثلاثا قبل قدوم زيد بشهر، وكان قوله هذا في نصف الظهيرة من اليوم الأول من محرم، وقدم زيد بعد نصف الظهيرة من أول صفر، فنقول: وقع الخلع في الثاني من محرم لأجنبية، فنصحح الطلاق ونلغي الخلع، ويحكم القاضي ويقول: ثبت عندي طلاق فلانة من زوجها، وأنها بانت منه في اليوم الأول من محرم في كذا، وأن الخلع الذي خالعت به المرأة خالعت من رجل أجنبي، فلا يستحق المهر، ويجب عليه رد ما أخذ منها، هذا بالنسبة للحالة الأولى، حيث صححنا الطلاق وأبطلنا الخلع. إن أردنا العكس؛ يقول لها: أنت طالق ثلاثا قبل قدوم زيد بشهر، وتمضي مدة الشهر بعد الخلع لا بعد الطلاق، فإذا مضت مدة الشهر وزيادة بعد الخلع فقد تحققنا أن الخلع قد سبق الطلاق، فوقع الخلع من امرأة في العصمة فبانت بذلك الخلع، وأنتم تعلمون كما تقدم معنا في الخلع أن الخلع طلقة بائنة، وتصبح كالأجنبية وبينا دليل ذلك، فإذا كانت قد بانت منه وصارت أجنبية؛ فإنه قد وقع التطليق بالثلاث لأجنبية؛ فصار من اللغو ولا تأثير له. (فإن خالعها بعد اليمين بيوم وقدم بعد شهر ويومين صح الخلع وبطل الطلاق) قوله: (وقدم بعد شهر ويومين) والخلع وقع بعد الطلاق بيوم، فاحتاط المصنف باليومين حتى يكون وقوع الطلاق بعد وقوع الخلع، وإذا وقع الطلاق بعد الخلع صار لغوا، فالمسألة مثلما ذكرنا، والمهم أن تفهم الضابط، وممكن يقول لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بيوم، -نفس التفصيل- ثم خالعها بعد ساعة، فإن كان التلفظ بالطلاق في الساعة الثانية عشر ظهرا قال لها هذا الكلام، وقدم زيد في الثانية عشر ظهرا من اليوم الثاني وزيادة قدر الإمكان الذي هو دقيقة أو نصف دقيقة للفظ الطلاق فإنه يقع الطلاق، فإن كان كذلك وكان الخلع في الواحدة ظهرا، فالخلع لم يصادف محلا فيبطل، وإن كان قد قدم زيد بعد الواحدة ظهرا فقد صادف الخلع امرأة في العصمة فصح ووقع طلاقها بعد الخلع؛ لأن الخلع وقع في الواحدة ظهرا، فبعد الواحدة ظهرا إذا وقع الطلاق فإنه قد وقع على أجنبية فلم يؤثر. وهكذا الأسبوع لو قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بجمعة، أو قبل قدوم زيد بأسبوع، وقصد السبعة الأيام، فننظر إن كان قد تلفظ بالكلمة في السبت فنحتسبه أسبوعا ونعتد في السبت بأجزاء اليوم من الساعات واللحظات، ونقدر زمانا لإيقاع الطلاق، فإن لم يتسع الزمان للخلع؛ فحينئذ نحكم بصحة الطلاق وبطلان الخلع، أو نحكم بصحة الخلع وبطلان الطلاق إن كان العكس. قوله: (وعكسها بعد شهر وساعة) حينئذ تصحح الطلاق وتبطل الخلع، فإما أن تصحح الخلع وتبطل الطلاق، وإما أن تصحح الطلاق وتبطل الخلع، كما ذكرنا. حكم تعليق الطلاق بالموت قال رحمه الله: [وإن قال: (طالق قبل موتي) طلقت في الحال] متى تطلق؟ تطلق حالا؛ لأنه أسند الطلاق بما يمكن في أي لحظة بعد تلفظه بالطلاق، فكل لحظة بعد تلفظه بالطلاق هي موته فصح لإيقاع الطلاق، فحينئذ تسند إلى أقرب لحظة؛ لأنه قد طلقها بهذا الوصف، فتطلق عليه مباشرة، فلو قال لها: أنت طالق قبل موتي، ومات من ساعته، فلم يوجد زمن لإمكان الطلاق، فحينئذ لا تطلق، لكن إذا مضى زمن الإمكان فبعده مباشرة تطلق حالا، فمثلا: قال لزوجته: أنت طالق قبل موتي، فأصابته سكتة من الفجعة أو من فراقها مثلا، فحينئذ نقول: هذا اللفظ لم يصادف وقتا للإمكان فلا تطلق. قال رحمه الله: [وعكسه معه أو بعده] أن يقول: أنت طالق مع موتي، أو أنت طالق بعد موتي، فلا يقع الطلاق حالا وإنما ينتظر، فإن قيل: إن الموت يوجب انحلال العصمة؛ فبعد موته صارت أجنبية فلا طلاق، ويثبت إرثها بموته، فحينئذ لا إشكال، أو يقال: إنه لا يوجب انحلال العصمة، وتسري الأحكام، فيتفرع عليه ما ذكرناه. تعليق الطلاق على مستحيل قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن قال: أنت طالق إن طرت أو صعدت السماء أو قلبت الحجر ذهبا ونحوه من المستحيل؛ لم تطلق] ذكرنا غير مرة أن الفقهاء -رحمهم الله- ذكروا أمثلة والمقصود منها تقرير القواعد، وأن المهم لطالب العلم أن يعرف الضوابط والقواعد والأصول التي يمكن من خلالها ضبط المسائل، وقد يعبر بمسألة في باب الطلاق فيستفاد منها في ظهار أو لعان أو أيمان أو نذر، أو يستفاد منها حتى في بيع إذا علق البيع على شيء، فهناك تعليق على الممكن وهناك تعليق على المستحيل، وهنا لما شرع المصنف بالتعليق وذكر الاستثناءات ثم ذكر التعليق: التعليق على الماضي والتعليق على المستقبل، شرع الآن في التعليق على المستحيل، فيعلق طلاق المرأة على شيء مستحيل. ذكرنا أن المطلق من حيث الأصل أعطاه الله الطلاق، ومكنه من تطليق زوجته، لكن هذا التمكين ممكن أن يطلق الإنسان ويبت الطلاق، وممكن أن يعلق طلاقه على شيء، فإذا وقع هذا الشيء الذي علق الطلاق عليه، فبينه وبين الله أنه قد طلق زوجته، فحينئذ يجب على الفقيه والمفتي والقاضي والمعلم أن يعلم متى يكون التعليق ممكنا ومتى يكون التعليق غير ممكن، ففي بعض الأحيان يعلق الطلاق على شيء لا يمكن أن يقع، وقد وجدنا نصوص الكتاب والسنة تعتد بالتعليق، وتعتد بصيغة الشرط التي فيها تعليق، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أهلي واشترطي: إن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما اشترطت) ، هذا في العبادات، وكذلك الله سبحانه وتعالى علق الشيء المستحيل على شيء مستحيل؛ لإفادة استحالته فقال: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف:40] فعلق الله المستحيل على مستحيل، فلما كان دخول الكافر للجنة مستحيلا جاء بصيغة الاستحالة. ففهمنا من هذا أن هذه الألفاظ لها حكم في الشرع، فإذا جاء يطلق ويعلق طلاقه على ممكن وقفنا عند هذا الممكن بصفاته، وطلقنا متى ما وقع الشرط بالصفة المعتبرة، فإذا وقع الشرط؛ وقع المشروط، وهذا معروف من منطوق القرآن والسنة، وليس عندنا فيه إشكال، لكن إذا علق الطلاق على أمر مستحيل؛ فإن الطلاق لا يمكن أن يقع، والمستحيل يختلف في كل زمان، وكل زمان له ألفاظه وعباراته، فقد يأتيك رجل من العامة ويسألك عن أشياء ما تخطر لك على بال، ولذلك يقولون: السائل أو المستفتي لا مذهب له، أي: لا تظن أن الناس تأتيك في حدود ما علمت، قد يأتيك بأشياء ضوابطها وأصولها عندك -وهذه ميزة الشريعة الإسلامية- لكن عين المسئول عنه من الصور والحوادث مستجدة. ولذلك يقرر العلماء القواعد بالأمثلة، فقد يكون المستحيل مستحيلا شرعا، وقد يكون مستحيلا عادة وعرفا، وقد يكون مستحيلا عقلا، فحينئذ نحتاج إلى معرفة مسألة التعليق على المستحيلات، والتعليق على المستحيل إما بالنفي وإما بالإثبات، كقوله: أنت طالق إن طرت في الهواء، فإنه حينئذ أثبت الطلاق معلقا على مستحيل وقد يقول لها: إن لم تطيري في الهواء فأنت طالق، فيأتي بصيغة النفي للمستحيل، فنفي المستحيل إثبات، فيثبت معه الطلاق؛ لأنه أثبت الطلاق بالنفي، فقد يثبت الطلاق بالنفي وقد يثبت الطلاق بالإثبات، وقد ينفي الطلاق بالمستحيل ونحو ذلك، كلها صيغ ستأتي. قوله: (وإن قال: أنت طالق إن طرت) أي: في الهواء، فالعادة جارية على أن الرجل والمرأة والآدمي لا يمكنه أن يطير في الهواء، فحينما قال لها: أنت طالق إن طرت، فمعناه أنه لغو، وعلق الشيء على شيء مستحيل، فصار طلاقها مستحيلا؛ لأنه علقه على مستحيل، كما أن الله تعالى علق دخول الكفار فقال: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف:40] سم الخياط: ثقب الإبرة، وللعلماء رحمهم الله وجهان في تفسير الجمل في هذه الآية الكريمة: فقيل: الجمل هو الحيوان والبعير المعروف؛ لأنه لا يمكنه أن يدخل في ثقب الإبرة، فثقب الإبرة لا يسع مثل هذا الحيوان، فالمراد من الآية بيان استحالة الشيء، فقالوا: إن الله علق دخول الجنة للكفار على مستحيل، فصار دخولهم مستحيلا، وقال بعض العلماء: هو في قراءة جمل، والجمل: الحبال الثخينة التي تشد بها السفن، فبعض العلماء يرجح هذا التفسير الثاني؛ لأن ثقب الإبرة يدخل فيه الخيط، فاختار شيئا من جنس الخيوط وهو الحبال، لكنها بحجم لا يوافق الحجم الذي يدخل في ثقب الإبرة، كالحبال التي تشد بها السفن وتوثق بها، قال: (( لا يدخلون الجنة حتى يلج )) [الأعراف:40] ، يعني: دخول هذا النوع من الحبال في ثقب الإبرة مستحيل، فصار دخولهم مستحيلا، هذا بالنسبة للآية الكريمة. فهو إذا قال لها: أنت طالق إن طرت في الهواء، فلا يمكن لها أن تطير في الهواء، لكن لو أن طيرانها في الهواء قصد به شيئا معروفا في العرف، مثلا: قال لها: أنت طالق إن طرت، يعني: سافرت بالطيارة وقصد ذلك، حينئذ تترتب المسألة على مسألة الطلاق المعلق بالشرط وسيأتي، لكن إذا قصد أن تطير بيديها طيرانا فهذا مستحيل لا يمكن، فيكون قوله: أنت طالق إن طرت، تعليقا للطلاق على مستحيل، فالطلاق محال. المستحيل: هو الذي لا يمكن، أي: ما أبى الثبوت عقلا أو هو المحال عقلا؛ لأن الأشياء إما جائزة عقلا، وإما واجبة عقلا، وإما ممتنعة عقلا، ثلاثة أقسام: وحكمنا العقل قضية بلا وقف على عادة أو وضع جلا أقسام مقتضاه بالحصر تماز هي الوجوب الاستحالة الجواز فواجب لا يقبل النفي بحال وما أبى الثبوت عقلا المحال وجائز ما قبل الأمرين سم للضروري والنظري كلا قسم فالأشياء ثلاثة: الشيء الثابت عقلا الذي لا يمكن نفيه بحال، ويسمى هذا: واجب عقلا، والشيء الذي لا يمكن أن يثبت عقلا فهذا يعتبر من المستحيل أو من الممنوع عقلا، وما كان ممكنا تقول: هذا جائز عقلا، لكن لا تقل: واجب، ولا تقل: مستحيل، فعندنا الواجب والمستحيل والجائز، هذه الثلاثة الأقسام في القسمة العقلية، فالشيء عقلا إما أنه واجب عقلا، مثلا: حينما تقول: هذا الكون مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق، فالعقل يدل على أن الخلق لابد لهم من خالق، قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون} [الطور:35 - 36] ، {أم خلقوا من غير شيء} [الطور:35] أبدا لا يمكن أن يكون الخلق بدون وجود خالق وشيء يوجد به ذلك المخلوق، {أم هم الخالقون} [الطور:35] الذين خلقوا أنفسهم. فالقسمة العقلية إما أنهم هم خلقوا أنفسهم -وهذا طبعا لا يمكن أن يقولوه- وإما أنهم خلقوا، وإذا خلقوا إما أنهم خلقوا من غير شيء وإما أن خلقوا بخالق، فجاء بالفرضيات التي على دينهم من باب رجوعهم إلى الأصل، {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور:35] إما أنهم خلقوا أنفسهم، وإما أنهم خلقوا من غير شيء وليس هناك، ولذلك يقول: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف:87] فإذا معنى ذلك: أن يثبت كون الله عز وجل خالقا لهم. فالمقصود: أن العقل يدل على أن الشيء إما أن يكون واجبا وإما أن يكون مستحيلا وإما أن يكون جائزا، فالمستحيل هو الذي يأبى العقل ثبوته، وبعض العلماء يقول: إن طيرانها في الهواء مستحيل عادة، يعني: في العادة مستحيل بالتجربة والنظر، فما وجدنا أحدا يطير، وعلى هذا يقولون: هذا من المستحيل عادة وليس من المستحيل عقلا، فالعقل لا يمنع أن يطير إنسان مثلما أن الطائر يطير، لكن بعض العلماء يقول: إنه مستحيل عقلا وعادة. قوله: (أو صعدت السماء) يعني: لا يمكنها أن تصعد للسماء، وبناء على ذلك علق على المستحيل، فإذا كان تعليقا على المستحيل، فالتعليق على المستحيل مستحيل، والتعليق على المحال محال، فصار المحال لغوا، كأنه يقول لها: أنت طالق بلا طلاق، يعني: طالق بشيء لا يمكن وقوعه وحدوثه، فعلى هذا كان قوله: (أنت طالق بكذا) من اللغو. قوله: (أو قلبت الحجر ذهبا) يعني: لو كانت تقلب الحجر ذهبا لطلقها؛ وعادة العلماء أنهم يذكرون هذا، مع أن هذا ربح عظيم أن تكون الزوجة تقلب الحجر ذهبا، وعلى العموم إن قلبت الحجر ذهبا فأنت طالق، طبعا لا يمكنها، أو أنت طالق إن قلبت الحجر ذهبا، فهي لا يمكن أن تقلب الحجر ذهبا، وهذا مستحيل، فعلق الأمر على مستحيل فهو مستحيل. قوله: (ونحوه) مثلا قال لها: إن أمسكت الريح -ما يمسكها إلا الله عز وجل- فأنت طالق، فهذا لا يمكن؛ لكن إن عكس كان العكس. قال رحمه الله: (ونحوه من المستحيل لم تطلق) مثلما ذكرنا، وهذه كلها أمثلة. قال رحمه الله: (وتطلق في عكسه فورا) يقول: إن لم تقلبي الحجر ذهبا فأنت طالق، ومستحيل أنها تقلب، فلا نعطيها مدة يمكن فيها قلب الحجر، فإذا قال لها: إن لم تقلبي الحجر ذهبا فأنت طالق، إن لم تصعدي إلى السماء فأنت طالق، تطلق حالا، إن لم تمسكي الريح فأنت طالق، طلقت حالا، وعكسه بعكسه. قال رحمه الله: [وهو النفي في المستحيل] نعم. سواء بالنفي أو بالإثبات، إن لم تقلبي الحجر ذهبا، إن لم تطيري في الهواء فأنت طالق، إن لم تمسكي الريح فأنت طالق. قوله: [مثل: لأقتلن الميت] الميت له حياة واحدة، وإذا مات فلا يمكن أن يعود إلى هذه الحياة؛ لأن الله تعالى كما ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله أنه لما اشتد عليه استشهاد أبيه رضي الله عنه وأرضاه؛ جلس يبكي، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ابكه أو لا تبكه، لا زالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء -ثم قال له:- يا جابر! إن الله كلم أباك كفاحا، وقال: تمن يا عبدي، فقال: أتمنى أن أعود فأقتل في سبيلك ثانية) مما رأى من عظيم ما أعد الله للشهداء، فأحب أن يعاد مرة ثانية فيقتل، فقال تعالى: (أما إنه قد سبق العهد مني أنه من مات لا ير |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (439) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب الطلاق في الماضي والمستقبل [2] تعليق الطلاق قد يكون بصفة، سواء كانت ممكنة أو مستحيلة، وقد يكون بزمان سواء كان ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا، وللعلماء تفاصيل في أحكام هذه التعاليق كلها. تعليق الطلاق على المستحيل بالنفي أو الإثبات باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد تقدم معنا أن من تلفظ بالطلاق له حالتان: الحالة الأولى: أن ينجز الطلاق، فيقول لامرأته: أنت طالق، فإنها تطلق عليه في الحال، وذكرنا أن هذا محل إجماع بين العلماء -رحمهم الله- وأن هذا النوع من التطليق يعتبر أصلا في الطلاق. فالأصل في الطلاق أن يقول لامرأته: أنت طالق، طلاقا منجزا، ولكن إذا علق الطلاق، فإما أن يكون معلقا على مستحيل، أو على شيء غير مستحيل، فإن كان على أمر مستحيل، فقد ذكرنا أن نصوص الشريعة دلت على أن تعليق الطلاق على الشيء المستحيل يمنع وقوعه، ويدل على أن ذلك الشيء المعلق لا يقع قوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف:40] فعلق الله تبارك وتعالى دخول الكفار للجنة على دخول وولوج الجمل في سم الخياط، ولا يمكن للجمل -سواء قلنا: هو الحبل الذي تشد به السفن، أو قلنا: إنه الحيوان المعروف- أن يدخل في سم الخياط، وسم الخياط هو: ثقب الإبرة، فعلق الله دخول الكفار للجنة على هذا المستحيل، ففهمنا أنه قصد أن دخولهم إلى الجنة مستحيل. وبناء على هذه الصيغة الواردة في كتاب الله عز وجل، تبين أن من علق طلاقه على مستحيل، فإن الطلاق لا يقع، وبذلك يكون قوله لغوا وضربا من العبث، ولا يعتد به، ولذلك قلنا: ضرب العلماء أمثلة على ذلك المستحيل، أو على الصيغة التي يعلق فيها على المستحيل، ومما ذكره المصنف-رحمه الله- قوله: أنت طالق إن طرت، أو قلبت الحجر ذهبا، فإن المرأة من المستحيل أن تطير، وكذلك الرجل من المستحيل أن يطير، وأيضا من المستحيل أن تقلب الحجر ذهبا، أو تقلب الخشب حديدا، أو نحو ذلك. فمن علق طلاقه بمثل هذه الألفاظ، على مثل هذا الوجه الدال على أنه قصد المستحيل؛ فإنه لا يعتد بطلاقه، ولا يقع، إلا إذا نوى أنها طالق، بمعنى: نوى أن يبت الطلاق، توضيح ذلك: أنه إذا قال لها: أنت طالق، ثم قال: إن طرت، فيكون قوله: أنت طالق، إذا قصد به الطلاق قدرا كافيا لإيقاع الطلاق، ويكون قوله بعد ذلك: إن طرت، واقعا في غير موقعه، كما لو قال لها: أنت طالق، وسكت، فهذا الذي جعل العلماء يستثنون حالة إذا قصد إيقاع الطلاق، لأنه عند قصد إيقاع الطلاق نأخذ الجملة الأولى (أنت طالق) ويكون قوله بعد ذلك: إن طرت، أو إن قلبت الحجر ذهبا، أو إن قلبت الخشب حديدا، أو العكس، يعتبر ضربا من اللغو، وكذلك إذا أراد إلحاق هذا اللفظ بعد إيقاع الطلاق، فبالإجماع لو أن رجلا نوى تطليق زوجته وتلفظ بلفظ الطلاق للبت في الحال، فقال لها: أنت طالق، ثم مباشرة طرأ له-بعد قوله: أنت طالق- أن يأتي بصفة وقيد، فقال لها: إن طرت في السماء، فتكون جملة: إن طرت، قد وافقت وقوع الطلاق، وكأنه أدخلها وأقحمها بعد وقوع الطلاق. قالوا: كما لو قال: أنت طالق، وسكت سكوتا، وفصل بفاصل مؤثر لا يدل على التعليق، ولا قصد التعليق، وكما لو أدخل كلاما أجنبيا يدل على الفصل، فإنه لا تطلق عليه امرأته. إذا: بالنسبة للأفكار التي معنا: أولا: الطلاق؛ إما معلق، وإما منجز، ثم المعلق له حالتان: إما معلق على مستحيل: فلا يقع، وإما أن يكون معلقا على غير مستحيل. فإذا كان معلقا على المستحيل، فتارة يكون بالنفي، وتارة يكون بالإثبات، فهو تارة يقول لها: إن طرت فأنت طالق، وتارة يقول لها: إن لم تطيري فأنت طالق، فقوله: إن طرت فأنت طالق، يوقف الطلاق حتى تطير، والطيران مستحيل؛ فلا طلاق، وإن قال لها: إن لم تطيري فأنت طالق، فهذا مستحيل منها أصلا أن تطير، فقال لها: إن لم تطيري فأنت طالق، فإنها في الحال لا تستطيع أن تطير فيقع الطلاق، فاختلف الحكم ما بين صيغة النفي وصيغة الإثبات، فإن جاء بمستحيل وعلق الطلاق على إثباته؛ لم تطلق، وإن جاء بمستحيل وعلق الطلاق على نفيه؛ طلقت، وكان طلاقها واقعا حالا. تعليق الطلاق على المستحيل بالإثبات قال رحمه الله: [ونحوه من المستحيل لم تطلق] أي: نحوه من الألفاظ التي تشتمل على الأوصاف المستحيلة، وهذا يختلف باختلاف الأعراف والأزمنة، فلكل عرف كلمته، قالوا: لأنه إذا قال لها أنت طالق إن طرت في السماء، وأنت طالق إن قلبت الحجر ذهبا، فهمنا أنه لا يريد الطلاق، ولا يقصد الطلاق، إنما هو ضرب من العبث. تعليق الطلاق على المستحيل بالنفي قال رحمه الله: [وتطلق في عكسه فورا] يعني: إن علق الطلاق على نفي المستحيل، وإثبات المستحيل مستحيل، لكن نفي المستحيل هو الثابت، وقد بينا أن المستحيل عقلا: هو الذي لا يمكن إثباته، ومعلوم أن الأحكام العقلية ثلاثة: الواجب العقلي، الجائز العقلي، المستحيل العقلي، واختصارا هي الوجوب والاستحالة والجواز، قال الناظم: فواجب لا يقبل النفي بحال وما أبى الثبوت عقلا المحال وجائز ما قبل الأمرين تم للضروي والنظري كلا قسم فقوله: ما أبى الثبوت عقلا المحال، كما ذكرنا: أن المحال هو الشيء الذي يحكم العقل بعدم ثبوته، وعدم وجوبه، وقد يأتي النفي والاستحالة بأسباب أخرى؛ شرطية، أو عرفية، كما هو معلوم. وقوله: (وتطلق في عكسه فورا، وهو النفي بالمستحيل) عندنا عدة فوائد: الفائدة الأولى: أن نفي المستحيل يدل على الثبوت، وهو إذا قال لها: إن لم تطيري فأنت طالق، فإنها تطلق، ونحكم بوجوب الطلاق؛ لأنها لا تطير، وقد علق طلاقه فيما بينه وبين الله على أنها إذا لم تطر فهي طالق، فنقول: يقع طلاقه بثبوت عدم طيرانها. الفائدة الثانية: أن ذلك الحكم يحكم به مباشرة، وتطلق فورا، وهناك أشياء نحكم فيها بأن الطلاق لا يقع، ويبقى، أي: نحكم بوجوب الطلاق، لكن لا يكون فورا، وننتظر مدة، ثم نقول: بفوات المدة يقع الطلاق، كما في أزمنة الإمكان، كما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، فنعلق الطلاق، والطلاق ثابت، لأنه يريد أن يطلق زوجته، لكن عند وجود الدخول، فيبقى الطلاق معلقا إلى وجود صفة الدخول، لكن هنا لو قال لها: إن لم تطيري في الهواء فأنت طالق، نحكم بطلاقها فورا؛ لأن نفي طيرانها ثابت، ولا إشكال أنها لا تستطيع الطيران، فلا نحتاج إلى مدة نختبرها: هل تستطيع أن تطير أو لا، ولا نعلق الحكم بالطلاق على مضي زمن الإمكان، كما مر معنا في بعض المسائل من أنه يعطى زمن لإمكان وقوع الطلاق، أو زمن لحدوث الصفة، أو لإمكان الصفة، ثم بعد ذلك نطلق إذا كان الأمر معلقا على نفيها. فإذا قال لها: إن لم تطيري فأنت طالق، إن لم تقلبي الحجر ذهبا فأنت طالق، فإنها تطلق حالا. قال رحمه الله: [مثل: لأقتلن الميت] لماذا نقول: إن الميت لا يقتل؟ الجواب لأن الله سبحانه وتعالى جعل للحي حياة واحدة بالنسبة لحياة الدنيا، فإن فاتته فلا رجعة إليها، وقد دل على ذلك صريح قوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عز وجل، وذلك حينما قتل شهداء أحد، فسأل جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان والده عبد الله بن حرام من شهداء أحد-كما هو معلوم- وكان جابر يحب والده محبة شديدة، حتى إنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلهف أن يعرف ما هي عاقبته؟ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (إن كان في الجنة؛ سلوت، وتعزيت، وصبرت. فقال: يا جابر! إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة) . وفي هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كلمه كفاحا) وقال تعالى: (تمنوا) -يعني شهداء أحد- وفي رواية: (أنه كلم عبد الله بن حرام كفاحا وقال: تمن عبدي) ، ورواية الترمذي: أنه سألهم، قال: (تمنوا) ، فتمنوا أن يعودوا، فقال الله تعالى-وهذا موضع الشاهد-: (أما إنه قد كان العهد مني- أو مضى العهد مني-؛ أن من مات لا يرجع إليها) ، وهذا نص صريح؛ على أنه لا عود بعد الموت، وهنا ننبه على مسألة عقدية عند بعض الطوائف الزائغة، كما هو واقع في طائفة التيجانية؛ الذين يعتقدون أن أحمد التيجاني قد تلقى الصلوات عن النبي صلى الله عليه وسلم من فمه مباشرة، {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} [الكهف:5] ، وبلغت الجرأة بهم أن يقول قائلهم: إن دلائل الخيرات ختمة منه تعدل عشر ختمات من القرآن -والعياذ بالله- إلى هذه الجرأة!! لأنه تلقاها مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم!، وعندهم عقيدة أن من بلغ في الصلوات إلى حد معين يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم يقظة! فهذا أشبه بالرجعة-والعياذ بالله- ومذهب أهل السنة والجماعة على أنه لا يعود الميت، وأنه إذا مات فهو في البرزخ، كما قال تعالى: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون:100] وقال تعالى: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} [غافر:11] ، فهذا راجع إلى أنه لا ميتة ثالثة، وبناء على ذلك قال العلماء: إنه لا يمكن أن يقتل الميت؛ لأن الميت إذا فاتت حياته، فليست هناك حياة ثانية يمكن أن يقتل فيها، ونحكم بكونه قد قتل الميت، فالميت لا يقتل، وإنما نصف الشيء بكونه قتلا إذا كان فيه إزهاق الروح، والروح لا يمكن إعادتها إلى هذا الجسد الذي فارقته في حال الحياة الدنيا، أما في البرزخ فلا إشكال، لكن نحن نتكلم على أنه يقتله في الحياة الدنيا، فإذا قال: لأقتلن الميت، فإن قتل الميت مستحيل، فإن نفى المستحيل، أو علق على نفي المستحيل، فإنه يقع، كما بينا في مسألة: إذا قال لها: إن لم تقلبي الحجر ذهبا، ونحوه. قال رحمه الله: [ولأصعدن السماء ونحوها] في الحقيقة، السماء إن قصد بها السماء المعروفة، تكون (أل) هنا عهدية، ولا يمكن أن يصعد إلى السماء، وإذا قال: لأصعدن السماء، فإنه علق الطلاق على مستحيل، فإن نفى ذلك المستحيل، ثبت الطلاق، وينتفي الطلاق إن علقه على ثبوت المستحيل. أحكام تعليق الطلاق على الزمان تعليق الطلاق على زمن مستحيل قال رحمه الله تعالى: [وأنت طالق اليوم إذا جاء غد؛ لغو] الغد لا يمكن أن يأتي بنفسه، وهو يقول لها: أنت طالق، بشرط أن يأتي غد في هذا اليوم، (أنت طالق اليوم إذا جاء غد) ولا يمكن أن يأتي في هذا اليوم، فحينئذ يكون من اللغو، ولا يقع الطلاق. وهذا من دقة المصنف رحمه الله، ولماذا ذكر كلمة: أنت طالق اليوم إذا جاء غد؟ نبهنا غير مرة أن العبرة بفهم القاعدة والضابط؛ حتى نستطيع أن نفهم كيف استخرج العلماء مثل هذه الصور العجيبة الدقيقة. حينما قلنا: إن تعليق الطلاق على المستحيل مستحيل، ويوجب الحكم بعدم وقوع الطلاق، قد يكون المستحيل بالصفات، فهو إذا قال لها: أنت طالق إن طرت، فلا يمكن أن تطير، وأنت طالق إن قلبت الحجر ذهبا؛ لا يمكن، فكما أن المستحيل يكون في الأعيان والذوات، كذلك يكون في الأزمنة، فجاء بالمستحيل في الزمان، كأن يقول: أنت طالق اليوم إن جاء غد، وأنت طالق الشهر -مثلا- ربيع إن جاء جمادى، وما يمكن أن يأتي جمادى في ربيع، وإدخال الزمان على الزمان مستحيل، فكما أن الاستحالة في الصفات، والذوات، والأحوال، والأشخاص، فكذلك ربما تقع في الأزمنة، ولذلك جاء بصيغة مركبة على وجه يفهم منه الاستحالة, ولا يمكن أن يقع هذا الشيء على هذه الصورة: أنت طالق اليوم إن جاء غد، فإنه لا يمكن أن يكون الغد إلا بزوال اليوم، وعلى هذا فلو علق الطلاق بمجيء الغد قبل زوال اليوم، فقد علق على مستحيل، والتعليق على المستحيل مستحيل. تعليق الطلاق على الزمن الحاضر قال رحمه الله تعالى: [وإذا قال: أنت طالق في هذا الشهر أو اليوم؛ طلقت في الحال] أي: إذا كان كلامه -مثلا- في شهر ربيع، فإنه حينما قال لها: أنت طالق في هذا الشهر، فقد أسند الطلاق إلى شهر ربيع؛ فتطلق عليه في شهر ربيع، فإذا كان الشهر شهر ربيع، فمعنى ذلك أنها طالق، وكذلك إذا قال لها: أنت طالق اليوم، أنت طالق الساعة، وهذه المسألة ذكرها المصنف في الأجزاء المتعددة التي تشمل الساعة واليوم، وتشمل الأسبوع والجمعة، كما يقال للأسبوع: أو السبت، وتشمل أيضا الشهر والسنة. فهو إذا قال لها: أنت طالق الساعة، الساعة -كما هو معلوم- ستون دقيقة، فهو إذا قال لها: أنت طالق الساعة، يرد السؤال هل نطلقها بمجرد كلامه؛ لأن وقت الكلام الذي تلفظ به هو من الساعة؛ فتطلق حالا، أم ننتظر إلى آخر الساعة، ففي آخر دقيقة وآخر ثواني الساعة نحكم بالتطليق فيها؟ قالوا: العبرة بالوقت الذي تلفظ به، ما دام أن الوصف يصدق عليه، فإذا قال لها: أنت طالق الساعة، طلقنا مباشرة، فصح في الوصف أنه طلق الساعة، ولا نحتاج أن ننتظر إلى نهاية الساعة؛ لأنه بت الطلاق، وإذا بت الطلاق على وجه يقع به منجزا، فلا يمكن لنا أن نجعله معلقا، ولذلك إذا تعارض التنجيز والتعليق، وكان للتنجيز قوة، وللتعليق قوة، فإننا نقدم المنجز؛ لأن اللفظ إذا كان دالا على الوقوع؛ فإنه يقع، فهو يقول لها: أنت طالق الساعة، نقول: تطلق عليه، فإذا حكمنا بالطلاق، فقد صدق قوله: إنها طلقت الساعة، فلا نحتاج إلى الانتظار إلى آخره ما لم ينو آخر الساعة. وكذلك أيضا إذا قال لها: أنت طالق اليوم، فإنه إذا كان في الساعة الأولى من اليوم؛ طلقناها من حين تكلم، ولا نقول: ينتظر إلى نهاية اليوم، فتطلق عليه في نهاية أجزائه؛ لأننا إذا حكمنا بالطلاق في أول ساعة من ذلك اليوم، فإنه يصدق أنه طلق امرأته في ذلك اليوم. كذلك أيضا في الأسبوع؛ إذا قال لها: أنت طالق الأسبوع -يعني: في هذا الأسبوع- فإن اليوم الذي تلفظ به هو من الأسبوع، فتطلق عليه، فلما طلقنا، صدق عليه أنها طلقت في الأسبوع، وعلى هذا لا ينتظر آخر الأسبوع، ولا ينتظر آخر الشهر، ولا ينتظر آخر اليوم، ولا ينتظر آخر الساعة، إلا إذا نوى أو قيد، فقال: أنت طالق آخر الأسبوع، وأنت طالق آخر اليوم، أو في آخر هذا اليوم، أو في آخر هذا الأسبوع، أو في آخر هذا الشهر، ونحو ذلك، فيحمل على الأخير. تعليق الطلاق على ما يستقبل من الزمان قال رحمه الله: [وإن قال: في غد، أو السبت، أو رمضان؛ طلقت في أوله] المسألة السابقة: إذا قال لها: أنت طالق اليوم، أنت طالق الأسبوع، ضابطها في الظرفية، أي: يأتي بوصف يكون وقت التلفظ داخلا في ذلك الزمان، فإن قال: الساعة؛ فإنه وقت تكلمه هو في الساعة، وإن قال: الأسبوع؛ فإن اليوم الذي تكلم فيه هو من الأسبوع؛ لأنه قال: هذا الأسبوع، فقد قيد بالزمان الذي تلفظ به، وجعله يوما، أو أسبوعا، أو شهرا. لكن إذا قال لها: أنت طالق غدا، أو في غد، تارة يأتي غدا-على الظرفية-، وفي غد-صيغة الجر-، فإن قال لها: أنت طالق في غد، يرد السؤال -وقد عرفنا أنه إذا أسند إلى يوم الكلام، أو ظرف الكلام؛ طلقت حالا- فإذا أسند إلى غد، قال لها: أنت طالق غدا، هل تطلق بأول اليوم، أي: بمجرد ما تطلع الشمس على الغد نقول: طلقت، أو ننتظر إلى آخر اليوم، ونطلقها عند آخر ساعة من الغد؟ أو نطلقها في نصف الغد؟ وجهان للعلماء، قال بعض العلماء: إذا أسند الطلاق للمستقبل؛ طلقت، ووقع الطلاق في أوله، فإذا قال لها: أنت طالق غدا؛ فإنها زوجته، ويستمتع بها، ويحل له ما يحل منها، ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس؛ فحينئذ تحرم عليه، ويكون الاعتبار بابتداء اليوم، مالم ينو آخره كما ذكرنا في الأوصاف المعتبرة، والقيود المؤثرة. قوله: (أو السبت) إما أن يسند إلى الغد المباشر، أو يسند إلى يوم بعده، كقوله: في السبت؛ يعني: في يوم السبت القادم، فالعبرة بمغيب الشمس من آخر اليوم الذي قبله، فينتهي يوم الجمعة بمغيب شمسه، ويبدأ السبت بذلك المغيب، فنحكم بكونها طالقا بغروب شمس يوم الجمعة، ولا ننتظر إلى طلوع شمس يوم السبت، والإسناد في هذه المسائل يكون إلى العرف لكن إذا قيل: اليوم؛ فابتداؤه من ابتداء عشيه من الليل، ولذلك قال: {لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات:46] فأسند الضحى إلى العشي، فدل على أن عشية كل يوم قبله، ولذلك قال تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة:185] ، فقالوا: يشرع التكبير ليلة العيد؛ لأن العدة قد كملت بمغيب شمس آخر يوم من رمضان، فلما قال الله تعالى: {لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات:46] دل على أن عشية كل يوم قبله إلا يوم عرفة؛ فإن عشيته بعده، وهذا هو المستثنى، واختلف في أيام التشريق؛ هل ينسحب الحكم عليها، ويتفرع عليها جواز الرمي بعد غروب الشمس؟ وتقدمت معنا هذه المسألة في المناسك، وذكرنا أن بعض العلماء قال: ينسحب العشي في حكم الجمار، ويرمي ما لم يطلع فجر اليوم الذي بعده، ويجوز رميه في يوم العيد، مالم يطلع فجر الحادي عشر، ويرمي الحادي عشر، ما لم يطلع فجر الثاني عشر، وقس على ذلك. قوله: (أو رمضان؛ طلقت في أوله) أي: إذا قال لها: أنت طالق في رمضان؛ فهي تقتضي الظرفية، أي: في شهر رمضان، فإذا دخل رمضان -في أول دخول رمضان، وثبوت رمضان بمغيب شمس آخر يوم من شعبان- حكم بطلاقها، كما ذكرنا في الأيام، وكذلك في الأسابيع؛ يكون الحكم واحدا. تعليق الطلاق بزمن مع نية آخره قال رحمه الله تعالى: [وإن قال: أردت آخر الكل؛ دين، وقبل] هنا مسألة: إذا قال لها: أنت طالق اليوم، أنت طالق غدا، أنت طالق السبت، رمضان، إلى آخره، وفي هذه نوى آخر الكل، وقال: أنا قصدت أنها في آخر رمضان تطلق، وقصدت في آخر الغد تطلق، وقصدت آخر اليوم تطلق، فإن ظاهر اللفظ محتمل، فالأصل أن رمضان يشمل جميع رمضان، والظرف شامل للكل؛ لكن لما كان الوصف يصدق على إيقاع الطلاق مباشرة؛ حكمنا بتنفيذه؛ لكن إذا نوى إلى آخر رمضان، أو إلى آخر الغد، فإنه ونيته، وتبقى زوجة له طيلة شهر رمضان، ما لم يصل إلى آخره الذي نواه؛ لكن هل نقبل منه قوله مجردا؟ أم أنه يلزم بيمين التهمة؟ وهذه اليمين تعرف في القضاء بيمين التهم، ويمين التهم: أن يسند الحكم، أو الوصف، أو الشيء الذي يختلف فيه، أو يستفتى فيه -إذا كان في الفتوى- إلى أمر محتمل، ويكون إما غير ظاهر، أو يكون مترددا مع غيره، فهو حينما قال لها: أنت طالق اليوم، فظاهر اللفظ على أن المقصود اليوم كله، سواء في أوله أو آخره، هذا ظاهر كلامه؛ لكن حينما قال: أردت آخره، فقد خصص عموم اليوم، فخرج عن الظاهر إلى أمر خلاف الظاهر، إذ لو كان في الحقيقة قاصدا الآخر، لكان قال لها: أنت طالق آخر اليوم، ولصرح وقال: أنت طالق آخر رمضان، لكن كونه يطلق، ويجعل الصيغة بهذا الوجه، قالوا: هذا من خلاف الظاهر أن يسند إلى الآخر، وحينئذ قالوا: نحكم بقبول يمينه، فإذا قال: أردت الآخر، نقبل منه ذلك بشرط أن يحلف اليمين -يمين التهمة- ولذلك قال: دين، أي: حلف اليمين، ويدين، والدين فيما بين العبد وربه؛ لأنه متعلق بالاعتقاد، فيقول له القاضي: احلف، وهذه اليمين بينه وبين الله، إن كان كاذبا فاجرا فيها -والعياذ بالله- فهي يمين غموس، تغمس صاحبها في النار؛ لأن الأيمان في مجالس القضاء تعتبر من الأيمان الغموس -والعياذ بالله-، وكذلك أيمان الحكومة التي تكون في المحاكمة بين الطرفين، حتى ولو كانت عند حكم غير القاضي، فإنه إذا حلف اليمين -والعياذ بالله- فإنها يمين غموس، فالشاهد: أنه يحلف اليمين؛ فإن كان صادقا فيها، فإنها لا تطلق إلا في آخر اليوم، أو آخر الشهر -على ما ذكر-؛ لأنه لو طلق مسندا الطلاق إلى زمن هو آخر اليوم، أو آخر الشهر؛ فيبقى الطلاق معلقا إلى وقوع ذلك الآخر؛ لكن لو كان كاذبا في هذه اليمين؛ فإننا نقبل منه في الظاهر، وأما في الباطن فإنه لا يقبل منه ذلك. فائدة المسألة: أننا لو فرضنا أنه قال: أردت الآخر، وكانت زوجته ممن تعتد بالأشهر، ثم إن هذه الزوجة طلقها، وقلنا: إن الرجعية يرثها، وترثه، وبقيت ثلاثة أشهر، فتوفيت في أول يوم السبت، فحينئذ إن كان الطلاق مسندا إلى آخر السبت؛ فقد توفيت وهي في حكم زوجته؛ لأن الرجعية تورث، وإن توفيت في آخر السبت؛ فإنه لا يرثها، فإن كان قد كذب في يمينه، وحكم القضاء أنها زوجته، وتوفيت في أول السبت، وكذب وقال: قصدت الآخر، فإن ميراثها لا يحل له فيما بينه وبين الله، وإن كان قضاء في الظاهر أنه يرثها، وتأخذ حكم المطلقة الرجعية على القول الذي يقول بتوريثها. قوله: (وقبل) أي: وقبل منه الإسناد إلى آخر اليوم؛ لأنه في بعض الأحيان يحلف اليمين، ولا يقبل منه قضاء، لكن يقبل منه ديانة فيما بينه وبين الله عز وجل. حكم قول الرجل: أنت طالق إلى شهر أو سنة قال رحمه الله تعالى: [وأنت طالق إلى شهر] يعني: معك شهر كامل أنت فيه زوجة لي، فإذا مضى الشهر؛ فأنت طالق، فحينئذ نقول له: قصدت التعليق أو التنجيز؟ فلو قال: قصدت التعليق. نقول: تطلق بعد تمام شهر من تلفظه بالطلاق. فلو تلفظ بالطلاق في السبت، حسبنا شهرا من ذلك السبت، فإذا مضى طلقت، وأما إذا قال: قصدت الحال طلقت، لكن كيف نرتب القضية؟ وكيف نحكم بكونها طالقا مع أنه قال لها: أنت طالق إلى شهر؟ فكيف طلقناها منجزة؟ قالوا: تكون نيته أنها طالق حالا، فيكون قوله: أنت طالق، موجبا للطلاق حالا، وقوله: إلى شهر؛ تعليقا لاغيا؛ لأنه ما نواه، فنعتد بقوة اللفظ، مع وجود النية المعتبرة، ونلغي التعليق إلى الشهر، وتطلق عليه حالا، وهذا معنى قوله: (إلا أن ينوي في الحال فيقع) . قال رحمه الله: [طلقت عند انقضائه] أي: طلقت عند انقضاء الشهر وتمامه، فإذا قال: أنت طالق إلى يوم، وأنت طالق إلى أسبوع، وأنت طالق إلى سنة؛ احتسبت المدة كاملة. قال رحمه الله: [إلا أن ينوي في الحال؛ فيقع] إلا أن ينوي أنها تطلق في الحال، فيقع عليه الطلاق حالا -كما ذكرنا-. وفي قوله: (أنت طالق إلى شهر) اختلف العلماء: الجمهور على أنه إذا قال لها: أنت طالق إلى شهر؛ فإنها تطلق -سواء في مسألة اليوم التي ذكرناها أو في الشهر، أو اليوم، أو الأسبوع- بعد تمام المدة؛ لأنه أسند إلى الشهر، وعند الإمام أبي حنيفة: أنها تطلق حالا، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن فيه فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك أبي ذر رضي الله عن الجميع. إذا قال لها: أنت طالق إلى شهر، فالواقع هناك تفصيل، فنحن بين حالتين: إما أن يكون في أول الشهر، بحيث يمكننا أن نحتسب الشهر هلالا، فحينئذ ننتظر إلى هلال الشهر الداخل. وإما أن يكون قد قال الكلام أثناء الشهر؛ فإن قال الكلام أثناء الشهر؛ بحيث لا يمكننا أن نسنده إلى الأهلة؛ فإنها تطلق بمضي ثلاثين يوما، والفرق بين المسألتين: أنه إذا قال لها: أنت طالق إلى شهر، وكان زمن الإمكان -الذي هو الشهر- يتم بظهور هلال الشهر الذي سيدخل، فننظر: إن أهل الشهر ودخل، احتسبنا الشهر بالهلال؛ لأنه بعد زمن الطلاق مباشرة، فإذا ظهر الهلال بعد تسع وعشرين يوما؛ طلقت بعد تسع وعشرين، لكن إذا كان الاحتساب بالعدد فلا تطلق إلا بعد مضي ثلاثين يوما، فبعد أن يمضي على ذلك اللفظ ثلاثون يوما تطلق. قال رحمه الله: [وطالق إلى سنة؛ تطلق باثني عشر شهرا] قوله: (طالق إلى سنة) كأنه أنهى طلاقها وعلق طلاقها بمضي السنة، فننتظر اثني عشر شهرا؛ لأن الله جل وعلا جعل السنة اثني عشر شهرا: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض} [التوبة:36] ، وهذا نص بأن السنة اثنا عشر شهرا، فإذا أسند إلى السنة، فقال: (أنت طالق إلى سنة) يعني: إلى مضي سنة، اعتبرت اثني عشر شهرا. حكم قول الرجل: أنت طالق إلى الشهر أو السنة قال رحمه الله: [وإن عرفها باللام؛ طلقت بانتهاء ذي الحجة] أي: إذا جاء وقال: (أنت طالق إلى السنة) يعني بعد مضي السنة؛ فإنها تطلق بعد انسلاخ شهر ذي الحجة من السنة نفسها. إذا عندنا ثلاثة ألفاظ: أنت طالق السنة؛ فتطلق حالا، مثل قوله: أنت طالق اليوم، ما لم ينو آخر السنة، وأما إذا قال: أنت طالق إلى سنة، فجاء بإلى التي تفيد الغاية، وإذا قال لها: أنت طالق إلى السنة؛ ففرق في الحكم بين التعريف والتنكير، فإن قال لها: أنت طالق السنة-وأسقط حرف الجر- فإنها تطلق حالا، كما لو قال: أنت طالق اليوم، أنت طالق الشهر، فإننا نحتسبها طالقة منذ تكلم وتفوه، ما لم يسند إلى آخره-على التفصيل الذي ذكرناه-، لكن إذا قال: أنت طالق إلى سنة، فلا بد من مضي سنة كاملة، مثل قوله: أنت طالق إلى شهر، وأما إذا قال: أنت طالق إلى السنة، يعني: إلى انتهاء هذه السنة-بالتعريف- وعلى هذا: فإنه إذا انتهى شهر ذي الحجة، وانسلخ شهر ذي الحجة من السنة نفسها؛ طلقت عليه، ولو كان ذلك بعد يوم، فلو قال لها: أنت طالق إلى السنة، فإننا ننتظر إلى انتهاء السنة التي تكلم فيها، ولو كان كلامه قبل انتهائها بساعة، ولو بلحظة، فإنها تطلق عليه مباشرة بانتهائها، لكن إذا قال: أنت طالق إلى سنة-بالتنكير-، إلى شهر-بالتنكير-؛ فإن الحكم ما ذكرناه من كونه ينتظر مدة السنة ومدة الشهر. الأسئلة الفرق بين قول الزوج لزوجته بعد العقد: أنت طالق إلى شهر، وبين زواج المتعة السؤال إذا عقد على امرأة وقال: أنت طالق إلى شهر، ألا يشكل عليه أنه من نكاح المتعة، ولو لم يكتب في صلب العقد؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فينبغي التفريق بين صيغة العقد، وبين الصفة أو الحال التي يقع بها الطلاق بعد العقد. فإذا جئت تقول: إن هذا نكاح متعة، فينبغي أن يكون العقد عقد متعة، وهنا أحب أن أنبه على فائدة: ما الذي جعل العلماء يتكلمون على المصطلحات المتعلقة بأبواب الفقه؟ ما الذي جعلهم يعرفون صيغة العقد؟ يعرفون العقد؟ لأنك إذا قلت: هذا عقد شغار، فلا بد أن تكون الصيغة التي يتركب منها العقد-الإيجاب والقبول- مبنية على الشغار، إذا قلت: هذا نكاح متعة، عقد متعة، زواج متعة، ينبغي أن يكون الإيجاب والقبول مبنيا على هذه الصيغة المعتبرة للمتعة، لكن إذا كان الإيجاب والقبول خاليا من ذلك، والعقد تركب بأركانه وشروطه سالما من ذلك؛ تقول: هذا عقد شرعي، وكونه بعد ذلك يعلق طلاقا، أو يوقع طلاقا بساعة أو بلحظة، أو يقول لها: أنت طالق الآن، لا نقول: إنه نكاح متعة، فهناك فرق، لأنك إذا قلت: إنه نكاح متعة؛ فمعنى ذلك: أن المرأة لا تستحق المهر، ومعنى ذلك: أن المرأة لا تستحق شطر المهر إذا كان لم يدخل بها، ولا تستحق المهر كاملا إذا كان قد دخل بها، ولا يترتب عليه أحكام العدة كالطلاق، والحداد، فالرجل عقد على المرأة عقدا شرعيا، مستوفيا للأركان والشروط، ثم بعد أن أتم العقد قال لها: أنت طالق إلى شهر، فليس بنكاح متعة، بل هذا تطليق واقع بعد تمام الصيغة التامة الكاملة المعتبرة في الشرع، ولا يجوز أن نصفه بالمتعة فنسقط حقوق المرأة، ونسقط حقوق الطلاق، وينبغي على طالب العلم أن يكون عنده دقة، إذا كان العقد مبنيا على صيغة صحيحة؛ فالله أمرنا أن نحكم بصحته، ولماذا تجد العلماء يقولون: الأحكام الوضعية هي العلامات والأمارات التي نصبها الشرع ووضعها للحكم بصحة العبادة، وبطلانها، ووجوبها، ولزومها، وغير ذلك مما هو معروف في الأحكام الوضعية؟ فما وضعه الشرع علامة على صحة العقد؛ حكمنا بصحته، وما وضعه علامة على فساده؛ حكمنا بفساده، بشرط وجوده أثناء العقد، لكن كونه يحصل شيء بعد العقد فهذا لا يؤثر، مثلا: الرجل -ولي المرأة- قال له: زوجتك ابنتي فلانة، قال: قبلت، بعشرة آلاف، وتم العقد، وتم الإيجاب والقبول، ثم بعد أن تم العقد مباشرة قال لها: أنت طالق إلى شهر، نقول: ننتظر إلى شهر، وهي زوجته، يجوز له أن يستمتع بها، وله حقوقه ولها حقوقها الزوجية لمدة شهر، ثم إذا مضى الشهر؛ حكمنا بالطلاق، فهذا ليس بنكاح متعة، ولا يأخذ حكم المتعة؛ لأن العقد ما قام على متعة، ولم يقم على التحديد أصلا، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: إنه إذا تزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها، فإنه عقد، والشرع يحكم على الظاهر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) فنأخذ بالظاهر أنه إيجاب وقبول، وشروطه مستوفية وعقده مستوف، فلو نوى الطلاق بعد شهر، أو بعد شهرين، فلا تأثير لهذا في صلب العقد، ولا تأثير له في الأركان والواجبات، لأن المعتبر الحكم بصحة العقد، فنحكم بكون العقد صحيحا، وقد يموت قبل أن يطلقها، فلا يمكن أن نحكم بأنه زواج متعة، ولذلك يقولون: ينبغي أن يفرق بين الظاهر وصيغة العقد، وترتب العقد على الوصف الموجب لصحته، وبين كونه ترتب على وصف أو رتب على وصف يقتضي بطلانه وعدم صحته، وعلى هذا فالعقد صحيح، ولا يحكم بكونه متعة. ويرد الإشكال: ما الفرق بين هذه الصيغة وبين المتعة؟ الفرق واضح: أن النكاح بالمتعة مقيد بهذا الذي ذكرناه، فبمجرد مضي الشهر لا هي زوجته ولا هو زوجها، هذا نكاح المتعة، إذا مضت المدة مباشرة ينفسخ النكاح، ولا يحتاج إلى طلاق ولا غيره، وأما بالنسبة للنكاح الذي معنا؛ فإن هذا النكاح لا ينفسخ مباشرة، حتى لو وقع الطلاق، إلا إذا كانت غير مدخول بها، فتكون طلقة بائنة، لكن إذا كانت مدخولا بها، مثلا: تزوجها ودخل عليها، ثم مباشرة قال لها: أنت طالق إلى شهر، فإن لها عدة، وتعتبر مدخولا بها، وتبقى بعد مضي مدة الطلاق، فهناك فرق واضح، والفرق يظهر أكثر إذا دخل بها فيما بين العقد وبين تلفظه بالطلاق. والله تعالى أعلم. حكم المراجعة للمرأة قبل وقوع الطلاق المعلق بصفة السؤال هل له أن يراجع قبل وقوع الطلاق؛ إذا قال: أنت طالق غدا؟الجواب هذا سيأتي: أن من علق الطلاق على صفة لم يملك الإسقاط إلا في بعض الأحوال التي استثناها بعض العلماء، وفيها خلاف، يعني: كما لو فهم منه التحديد، وقصد التحديد، وجاء بحرف شرط لا يقتضي الدوام والاستمرار، ولذلك قالوا في هذه الحالة: يمكن أن يحكم برفعه، كما لو كان في نيته أن يقيد منعها من دخول بيت أبيها مدة الخصومة، ومدة النزاع، ونحو ذلك، قالوا: يرتفع بارتفاع السبب الموجب. والله تعالى أعلم. حكم قول الرجل لزوجته: أنت طالق قبل موتي بساعة، ناويا حرمانها من الميراث السؤال رجل قال لزوجته: أنت طالق قبل موتي بساعة، ينوي حرمانها الميراث، فما حكم ذلك؟ الجواب إذا قال: أنت طالق قبل أن أموت بساعة، فإنه إذا مات فإنها مطلقة رجعية، والمطلقة الرجعية ترثه، وعلى هذا ما يؤثر هذا فيه، ولو قصد حرمانها من الميراث؛ فإنه يأثم بنيته، حتى قال بعض العلماء: إنه من خاتمة السوء -والعياذ بالله- أن يوصي الرجل بوصية جائرة، فيكون آخر ما يكتب في عمله -والعياذ بالله- عمل السوء. وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه، وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم لم يمضوا طلاق مريض الموت لشبهته، وجماهير العلماء على العمل بهذه الفتوى، وقالوا: إنها من باب المعاملة بنقيض القصد، إلا إذا كانت الزوجة هي التي سألت طلاقها، فإن كانت هي التي سألت الطلاق، وطلقت عليه في مرض موته؛ فمذهب طائفة من العلماء: أنها لا ترثه، ولا يرثها، على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- في كتاب الميراث. والله تعالى أعلم. شرح قول المصنف: [وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة فطلقتان] السؤال مر معنا سابقا قول المصنف -رحمه الله-: [وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة فطلقتان] يقول السائل: لم أفهم قول المصنف في كيفية وقوع الطلاق طلقتين. نرجو إعادة توضيحها؟ الجواب هو يقول لها: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة؛ فمعنى ذلك: أنت طالق طلقتين؛ لأن الاستثناء نص القرآن ونصت السنة على أنه مؤثر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إلا الإذخر) ، وقال تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3] ، فالاستثناء مؤثر، فهو يقول: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، فلما قال الله عز وجل: حرمت عليكم الميتة والدم. [المائدة:3] ، ثم قال: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3] ، فهمنا: أبيح لكم ما ذكيتم. نسأل الله العظيم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (440) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [1] الطلاق جائز في الشريعة الحكيمة سواء كان منجزا أو معلقا، ولتعليق الطلاق بالشروط أحكام كثيرة تدل على كمال الشريعة الإسلامية ورحمتها بالعباد. تعليق الطلاق بالشروط بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب تعليق الطلاق بالشروط] . التعليق: هو جعل الشيء على الشيء، وقد قال بعض العلماء: إن مادته في اللغة تدور حول ربط الشيء بالشيء ونوطه به؛ ولذلك يقال: علق الثوب على الشجرة، إذا كان الثوب على غصن من أغصانها أو فرع من فروعها فاتصل بذلك الشيء المعلق به. ومسألة تعليق الطلاق بالشروط مسألة مهمة تكثر بها البلوى بين الناس، فإن كثيرا من الناس إذا أراد أن يطلق زوجته علق الطلاق على وقوع شيء أو على عدم وقوعه، ومن هنا يرد السؤال عن حكم هذا النوع من الصيغ المتعلقة بالطلاق. والتعليق عند العلماء رحمهم الله له ضابط ذكره بعض أئمة الأصول والفقهاء رحمة الله على الجميع. فضابط التعليق هو: ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى، فهناك جملتان، وهناك أداة تربط بين الجملة الأولى والجملة الثانية، ولذا فإن التعليق بالشروط يستلزم وجود شرط يترتب عليه وجود المشروط، والأداة التي تربط بين الشرط والمشروط، فهو إذا قال: أنت طالق إن قمت، أو قال: إن قمت فأنت طالق، فقد ربط حصول مضمون جملة -وهي جملة الطلاق- بوقوع مضمون جملة أخرى -وهي جملة: إن قمت. أي: القيام- فكأنه يقول: زوجتي طالق إن وقع القيام منها، ولو قال لها: إن قعدت فأنت طالق. فقد ربط مضمون جملة الطلاق بوقوع مضمون جملة القعود، فإذا حصل القعود حصل الطلاق. وهذا الربط بين الشرط والمشروط يجعل الشرط مرتبا على المشروط، فعندنا شرط وجواب في قوله: إن قمت فأنت طالق. فالشرط: إن قمت، و الجواب فأنت طالق، فإذا اشترط لوقوع الطلاق قيامها فإننا نحكم بوقوع الطلاق إذا حصل القيام منها. فالتعليق هو: ربط حصول مضمون جملة -وهي جملة الطلاق- بحصول جملة أخرى -وهي الجملة التي اشترطها لوقوع الطلاق- إن قمت إن قعدت إن قرأت إن ذهبت إلى بيت أبيك إن كلمت أمك إن كلمت جارتك إن كلمت أختك ونحو ذلك من الشروط التي يربط وقوع الطلاق بها. ولذلك قال العلماء في القاعدة المشهورة: إذا وقع الشرط وقع المشروط. وتعليق الطلاق بالشروط باب من أبواب الطلاق، اعتنى العلماء رحمهم الله به لعموم البلوى به، والناس تختلف الشروط التي تكون منهم فتارة يشترط أحدهم وجود شيء وتارة يشترط نفي الوجود، فإذا قال: إن لم تخرجي فأنت طالق، فقد علق الطلاق على عدم الخروج، فيكون تعليقا بطريقة النفي، وإن قال: إن خرجت فأنت طالق فيكون قد علقه بطريقة الإثبات. الدليل على وقوع الطلاق المعلق بالشروط قال العلماء: إن الطلاق يقع إذا وقع الشرط؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطى المسلم الطلاق، فإن شاء نجزه وإن شاء علقه، والقياس الصحيح والنظر الصحيح يقتضي أنه إذا علق الطلاق على شيء فإنه يقع به من حيث الجملة، فإن الشرع أوقع العتق المعلق على شرط، فإذا أعتق عبيده بشرط وجود شيء ووجد ذلك الشيء فإنه يحكم بعتق العبيد، وهكذا إذا كان العبد مدبرا بحيث يعتق عليه بعد موته، فإنه يعتق عليه بوجود تلك الصفة، قالوا: والعتق والطلاق بابهما واحد؛ لأن الطلاق: التزام من المكلف بما لم يلزمه في الأصل، فالطلاق ليس بواجب عليه وليس بلازم عليه أن يطلق امرأته ولكنه التزم أن يطلقها، فالتزم ما لم يلزمه بالأصل، وكذلك العتق، فإنه إذا أعتق عبيده عن دبر وجعل عتقهم مدبرا فإنه قد علق العتق على وجود صفة وهي الموت، فإذا وجد الموت وجد العتق وحكم به، ولهذا قالوا: ينفذ الطلاق بالشروط كما ينفذ العتق بالتدبير بجامع كون كل منهما التزاما من المكلف بما لا يلزمه بأصل الشرع، وجماهير العلماء والأئمة على أن الطلاق يقع إذا كان مرتبا على شرط ووقع ذلك الشرط، وصيغة الشرط معتبرة في كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن اشترط شيئا ووقع ذلك الشرط فإنه يلزمه ما التزمه في المشروط، فإن هذه الصيغة في أصل الوضع اللغوي صيغة مؤثرة؛ ولذلك اعتبرت الشروط، قال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) ، فإذا اشترط لامرأته أنها إن خرجت فهي طالق أو إن دخلت فهي طالق أو إن قامت فهي طالق، فهذا شرط بينه وبين زوجه، فتطلق عليه إن وقع ذلك الشرط كما لو طلقها طلاقا منجزا. من يصح منه التعليق قال رحمه الله تعالى: [لا يصح إلا من زوج] . أي: لا يصح الطلاق المعلق إلا من زوج، وهذه الجملة المراد بها: أن صيغة التعليق لا تصح إلا بعد وجود عقد النكاح، فلو أن رجلا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، أو قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فمعنى ذلك: أنه علق تطليق المرأة بما إذا تزوج بها، فإذا نظرنا إلى هذا التعليق وجدناه وقع من غير الزوج، وهو الأعزب، فإذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق أو أيما امرأة أتزوجها فهي طالق أو إذا نكحت فامرأتي طالق فإن هذه الصيغة لاغية ولا تأثير لها؛ لأن الطلاق لا يصح إلا بعد وجود العقد، فإذا علق الطلاق بالشرط ولم يعقد على المرأة، فإن الطلاق لم يصادف محلا، والدليل على ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب:49] ، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى جعل الطلاق مرتبا على وجود العقد، فدل على أنه لا طلاق قبل عقد النكاح، فلو سألك سائل وقال: اشترطت على نفسي وقلت: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، هذا في حالة العموم، أو خصص وقال: إذا تزوجت خديجة أو تزوجت من قبيلة فلان، أو من بيت فلان أو من بني عمي أو من بني خالي فهي طالق، فحينئذ سواء عمم أو خصص بذكر القبيلة أو ذكر المدينة أو غير ذلك فنقول: هذا لغو، ولا يترتب عليه ثبوت الطلاق لدليلين: أولهما: دليل الكتاب، والثاني: دليل السنة، أما دليل الكتاب فإن الله تعالى جعل الطلاق مرتبا على وجود العقد، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب:49] ، فجعل الطلاق مرتبا على وجود العقد، وبهذا استدل الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق فيما لا يملك) ، وفي الحديث الآخر في السنن: (إنما الطلاق لمن أخذ الساق) ، فدل هذان الحديثان -وقد صححهما غير واحد من أهل العلم- على أن الطلاق لا يقع إلا إذا وجدت العصمة، وأن من علق طلاقه على وجود العصمة أو طلق قبل العصمة فإنه قد طلق امرأة أجنبية ولا يقع الطلاق، وقد بينا مذاهب العلماء وذكرنا أن هذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها فقال بعض العلماء: إن الذي يشترط على هذا الوجه عموما أو خصوصا فإن شرطه لازم وتطلق عليه المرأة بمجرد أن يعقد عليها، وعلى هذا سيبقى مدى عمره بدون نكاح، وهذا لا شك أنه خلاف شرع الله، لأنه سيؤدي إلى تحريم ما أحل الله عليه، ولربما وقع في الحرام، خاصة في الأزمنة التي لا يوجد فيها ملك اليمين، وقال بعض العلماء: إن هذا الشرط لاغ ولا طلاق إلا بعد نكاح، وهو الراجح كما ذكرنا، وقال بعض العلماء: إن عمم فإنه يلغى قوله: ولا يعتد به، وإن خصص اعتد بتخصيصه، وهذا مروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال به بعض أصحاب الإمام مالك، والصحيح: أن الطلاق لا يقع إلا إذا وجد النكاح، وأن من قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو أيما امرأة أتزوجها فهي طالق، أو أيما امرأة من بني فلان أو من قرية كذا أو من بلدة كذا، كل ذلك لغو ولا تأثير له في إثبات الطلاق. عدم وقوع الطلاق المعلق بالشرط إلا عند حصول الشرط قال رحمه الله تعالى: [فإذا علقه بشرط لم تطلق قبله، ولو قال: عجلته، وإن قال: سبق لساني بالشرط ولم أرده وقع في الحال] . (فإذا علقه بشرط لم تطلق قبله) يعني: إذا علق الطلاق بشرط لم تطلق المرأة قبله، أي: قبل وجود الشرط؛ لأن الذي بينه وبين الله عز وجل: أن امرأته طالق إن وجدت هذه الصفة المشروطة، فهو يقول لها: إن قمت فأنت طالق، فإننا لا نحكم بطلاقها إلا إذا وجد القيام؛ لأن الطلاق تعلق على صفة فإن وجدت الصفة حكمنا به وإلا فلا، فلو أنها ماتت قبل قيامها لم تطلق، ولو قال لها: إن خرجت من الدار فأنت طالق فلم تخرج من دارها فإنها امرأته ويحل له أن يستمتع بها وهي امرأته حتى تخرج، فيسري عليها حكم المطلقة على حسب ما علق من طلاق. فهاتان مسألتان: الأولى: أنه لا يقع الطلاق إلا بعد وقوع الشرط. الثانية: أنها زوجته فيما بين التلفظ بالشرط وما بين وقوعه وحدوث الطلاق. فلو سألك سائل: لو أن رجلا علق طلاق امرأته على صفة، فقال لها: إن خرجت أو إن دخلت أو إن انتهى الشهر أو نحو ذلك فأنت طالق، فهل هي زوجة له قبل وجود الصفة أو لا؟ تقول: هي زوجة له حتى يقع الشرط وحينئذ يحكم بوقوع الطلاق. ادعاء الزوج تعجيل إيقاع الطلاق المعلق بالشرط (ولو قال: عجلته). ولو قال: عجلت الطلاق، قوله: (ولو) إشارة إلى خلاف المذهب، قال بعض العلماء: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن تكلمت اليوم وبقي من اليوم عشر ساعات فننتظر خلال العشر ساعات حتى يتم اليوم، فإذا مضت ولم تتكلم فلا طلاق، فنقول: الأصل أن يبقى الطلاق معلقا على صيغة الخطر، وصيغة الخطر أن يبقى الأمر مترددا، ولذلك صيغة الشرط التعليق بها منبن على الخطورة كما يقول بعض الفقهاء رحمهم الله، بمعنى: أنه يحتمل أن يقع فيقع الطلاق ويحتمل أن لا يقع الشرط فلا طلاق، فتصبح صيغة مترددة على خطر، يحتمل أن تبقى المرأة في عصمته إذا لم يقع الشرط، ويحتمل أنها تطلق إذا وقع الشرط فالأمر متردد، والحال على خطر، فلا نحكم بالطلاق إلا إذا وجد الشرط، وعلى هذا لو قال لها: أنت طالق إن جاء أبوك اليوم فلم يأت أبوها، وجلست تنتظر فما جاء أبوها، فيبقى الأمر معلقا، فإن قال: عجلت الطلاق، لم يقبل منه؛ لأن الأصل أن الطلاق معلق، فإذا أراد تعجيله فليأت بصيغة ثانية يراد بها التعجيل. وقال بعض العلماء: إن قال عجلته أوقعنا الطلاق بقوله: أنت طالق، وأسقطنا قوله: إن جاء أبوك اليوم، وتصبح طالقة بقوله: أنت طالق، فأصبحت الصيغة في ذاتها بين التنجيز والتعليق، قالوا: نحكم بطلاقه بقوله: أنت طالق، لأنه ألغى التعليق فبقي الأصل وهو قوله: أنت طالق، والصحيح ما اختاره المصنف: أنه إذا قال لها: أنت طالق إن جاء أبوك، أو: أنت طالق إن غربت الشمس، فإنها لا تطلق إلا بوقوع الصفة، وإن قال: عجلت لا يعتد بقوله؛ لأن الصيغة ليست دالة على ما قال، فهي صيغة تعليق في أصل الوضع اللغوي، ودالة على التعليق، فلا نحكم بكونها مطلقة بقوله: عجلت، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمهم الله. قال رحمه الله: (ولو قال: عجلته) ، يعني: لو قال: عجلت وقوع الطلاق، فإنه لا يعتد بقوله، لكن لو أنه قال: أنت طالق ونوى في قلبه أنها طالق، ثم قال: إن جاء أبوك اليوم، فنيته أنه معجل فيكون قوله: إن جاء أبوك، صيغة تعليق جاءت بعد وقوع الطلاق وتنجيزه، وهذا شيء بينه وبين الله، فلو أقر عند القاضي أن الصيغة قالها على هذا الوجه، وأنه أدخل التعليق كحيلة ثم تاب واستغفر؛ فإنه يحكم بكونها طالقا لقوله: أنت طالق، ويكون طلاقا منجزا، ولا يحكم بكونه طلاقا معلقا. ومن عجيب ما ذكره بعض العلماء -رحمهم الله- أنه لو قال: أنت طالق بعدد شعر إبليس -وهذا ذكره الإمام النووي رحمه الله- قال بعض العلماء: إنها لا تطلق؛ لأننا لا نعلم هل لإبليس شعر أو لا! والأصل: أنها زوجه، لكن قال بعض العلماء وهو أصح: قوله: أنت طالق، إثبات للطلاق، وقوله بعد ذلك: بعدد شعر إبليس زيادة على الواحدة، يعني: أنه يريد أكثر من واحدة، فنبقى على الأصل من أنه طلق، والزائد ملغي وهذا هو الصحيح. فبعض العلماء يرى أنه إذا قال: أنت طالق، وذكر صيغة الشرط بعد ذلك، ونوى في قلبه أنها طالق مباشرة، فصيغة الشرط جاءت على سبيل اللغو، فيحكم بكونها طلقا بالقول الأول وبالجملة الأولى وتلغو صيغة الشرط. قوله: (وإن قال: سبق لساني بالشرط ولم أرده وقع في الحال) . فهو يريد أن يقول: أنت طالق البتة، فسبق لسانه وقال: أنت طالق إن جاء أبوك، نقول له: هذا الشرط الذي قلته: إن جاء أبوك قصدته أو لم تقصده؟ قال: سبق لساني به وأقر أنه لم يقصده، فيكون التعليق غير مقصود وتكون مطلقة بقوله: أنت طالق. ادعاء الزوج التعليق في لفظ الطلاق قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: أنت طالق وقال: أردت: إن قمت، لم يقبل حكما] . العلماء -رحمهم الله- من دقتهم أنهم يذكرون الأمور المحتملة، فقد يذكر التعليق ويقصده، وقد يذكر التعليق ولا يقصده، وقد لا يذكر التعليق ويقصده، فالقسمة العقلية تقتضي ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يذكر التعليق ويقصده، ففي هذه الحالة اجتمع عندنا اللفظ والنية، فاجتمع الظاهر والباطن على إرادة التعليق، مثال ذلك: أنت طالق إن قمت، فاللفظ لفظ تعليق والنية والقصد أنه تعليق، فالحكم في هذه الحالة أننا نبقى إلى وقوع الشرط. الحالة الثانية: أن يعلق باللفظ ولكن لم يرد ذلك التعليق ولم ينوه، وسبق لسانه بالتعليق، فنقول: العبرة بنيته، والمرأة طالق بقوله: أنت طالق، فيكون قوله: إن قمت، حشوا ولغوا لا تأثير له؛ لأنه لم يقصد تعليق الطلاق، ويثبت طلاقه. الحالة الثالثة: أن يقصد ولا يتلفظ، فيقول لامرأته: أنت طالق، ويسكت، وهنا معناه: أنها تطلق منجزا، فقلنا له: قد طلقت عليك زوجك! قال: لا، أنا قصدت في نيتي: أنت طالق إن قمت، فنوى التعليق بقلبه، فالصورتان الأخيرتان متضادتان، إما أن يكون الظاهر للتعليق والباطن خلاف التعليق أو العكس: أن يكون الباطن للتعليق وقصد التعليق والظاهر لا يريد التعليق، وليس فيه ذكر لصيغة الشرط، فإن تلفظ بالطلاق ونوى في قلبه أنها مطلقة بالتعليق فالعبرة بالظاهر، والباطن لا عبرة به، قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) ، فالقاضي يحكم بطلاق المرأة مباشرة ولا يلتفت إلى تعليقه، فنحكم بالظاهر؛ لأن هذا هو الأصل، ولو فتحنا الباب لأمكن كل زوج أن يدعي أنه نوى التعليق في قلبه فيقول: لا، أنا قصدت: إن قمت، قصدت: إن طرت، قصدت: إن فعلت، ولربما جاء بالمعجز حتى يخرج من تبعة طلاقه، فهذا بالنسبة للحالة الثالثة وهي: أن ينوي في قلبه التعليق ولا يتلفظ به، والحالة الثانية عكسها: أن يتلفظ بالتعليق ولا ينوي ذلك التعليق قال: لم أرده، ولم أقصده، بل سبق به لساني، فقال بعض العلماء: إذا تلفظ وقال لها: أنت طالق إن قمت، وبينه وبين الله أنه قصد تطليق امرأته في الحال قبل قيامها، وجملة: إن قمت، زلة من لسانه، واعترف بذلك فإنها مطلقة عليه بمجرد قوله: أنت طالق، وهذا لا إشكال فيه، فأصبحت ثلاث صور: إما أن يكون التعليق بالظاهر والباطن، ومثالها أن يقول: أنت طالق إن قمت، أنت طالق إن غربت الشمس، أو إذا غربت الشمس فأنت طالق، إذا جاء الغد فأنت طالق، فحينئذ نحكم بكون الطلاق معلقا على الصفة أو على الشرط الذي ذكره على حسب الأحوال، وأما إذا كان قد تلفظ ولم ينو التعليق، أو نوى التعليق ولم يتلفظ به فالحكم في الحال الأولى: إذا تلفظ بالتعليق ولم ينوه وقال: سبق به لساني، فالعبرة بنيته ولا يلتفت إلى وجود التعليق؛ لأنه لم يرده وسبق به اللسان، فوجوده وعدمه على حد سواء، وأما إن قال: أنت طالق، وقصد التعليق في الباطن فتطلق عليه امرأته على الظاهر ولا يلتفت إلى النية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالظاهر وقال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) . وقوله: (لم يقبل حكما) أي: في القضاء، لكن يقبل فيما بينه وبين الله عز وجل، مثلا: قالت المرأة: سأخرج، قال: لا تخرجي، قالت: سأخرج، قال: لا تخرجي أنت طالق، ونوى بقلبه: إن خرجت، ففي هذه الحالة يقول جمهور العلماء رحمهم الله: إنها لا تطلق إلا إذا خرجت ديانة بينه وبين الله، لكن إذا رفع إلى القاضي حكم بالظاهر وقال: زوجتك مطلقة عليك؛ لأنك قلت: أنت طالق، ولم تقل: إن خرجت، فيحكم بكونها طالقا سواء خرجت أو لم تخرج، وإذا كان بينك وبين الله أنك لا تطلقها إلا إذا خرجت فننظر: لو أن هذا الرجل قالت امرأته: سأخرج، قال: لا تخرجي، قالت: سأخرج، قال: لا تخرجي، أنت طالق، وقصد أنها طالق إن خرجت ونوى بذلك أنها طالق في ذلك اليوم إن خرجت، ومضى اليوم كله ولم تخرج، فإنها امرأته ولا يحكم بكونها طالقة، فإن غابت شمس ذلك اليوم ولم تخرج فهي امرأته، فلو أن القاضي حكم بكونها مطلقة فتطلق بالظاهر، لكن فيما بينه وبين الله عز وجل أنه لم يرد إلا التعليق ولم تخرج المرأة فإنها امرأته يرثها وترثه وتسري عليها أحكام الزوجية، ولو أنه جامعها؛ فإنه يحكم بكونها امرأة له فيما بينه وبين الله عز وجل، وحكم القاضي بكونها ليست امرأته حكم في الظاهر، ولكنها زوجه في الباطن، كما لو حكم القاضي بأن بيتك لشخص آخر جاء بشهود كاذبين، فإن البيت بيتك، وملك لك فيما بينك وبين الله، ولا يحل له، وليس من حقه، وإذا علم بذلك من اشترى منه فيكون قد اشترى المغصوب والمأخوذ بالحرام. فالمقصود أننا نحكم على الظاهر والسرائر نكلها إلى الله، فنفرق بين كونه نوى التعليق أو لم ينو التعليق على التفصيل الذي ذكرناه في الثلاث الصور. أدوات الشرط التي يقع بها التعليق قال رحمه الله تعالى: [وأدوات الشرط: إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما وهي وحدها للتكرار، وكلها ومهما بلا لم أو نية فور أو قرينة للتراخي، ومع لم للفور إلا إن مع عدم نية فور أو قرينة] . هذه الشريعة شريعة كاملة، وفصل الله عز وجل فيها كل شيء تفصيلا، فهي شريعة تقوم على إعطاء كل شيء حقه وقدره، حتى الألفاظ التي يتلفظ بها المسلم: إن كانت بالطلاق منجزا حكمنا بكون الطلاق منجزا، وهذا هو لفظه، وهذا هو الذي بينه وبين الله: أنه يطلق امرأته طلاقا منجزا، وإن تلفظ بلفظ وكان اللفظ دالا على التعليق فبينه وبين الله أن امرأته تطلق إذا وجدت هذه الصفة، أو وجد هذا الزمان أو وجد هذا الحال الخ. فإذا قلنا: إن كل لفظ وكل حرف وكل جملة لها معنى ولها دلالة، فلا بد أن نعطي كل زوج حقه فيما تلفظ به من صيغ الطلاق، وصيغ التعليق تكون بحروف الشرط: إن وإذا ومتى ومن ومهما وكلما وأي ونحوها من أدوات الشرط، فينبغي أن تعطى كل أداة دلالتها، فتوجد أدوات تدل على الشرط، وهناك أدوات تدل على الشرط المقترن بالزمان، وأدوات تتمحض في الزمان؛ ولذلك يختلف الحكم بحسب اختلاف هذه الأدوات، ودلالتها، وما وضعت له في أصل اللغة، وقد قرر جمهور العلماء من الأصوليين أن اللغة من وضع الشارع سبحانه وتعالى، فلا يستطيع أحد أن يأتي بصيغة أو بلفظ أو بجملة لها دلالتها في اللغة ويصرفها عن هذه الدلالة. مثلا: لو قال: إن قمت فأنت طالق، قلنا له: إذا قامت طلقت قال: لا، أنا أقصد بهذه الصيغة التمجيد، نقول: هذا قصدك لك أنت، لكن من ناحية وضع اللغة ووضع الألفاظ فإن هذه الألفاظ وضعها الشارع دالة على هذه المعاني، فيؤاخذ بلفظه، واستدل جمهور الأصوليين على هذا بقوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة:31] ، فأصل اللغة أنها من وضع الشارع، فلو أن شخصا قال: والله لا أكتب، فقلنا له: إذا كتبت لزمتك كفارة اليمين قال: لا، أنا أقصد: لا أسوق السيارة أو لا أخرج من البيت، نقول: إن الكتابة وضعت للدلالة على هذا المعنى الذي يجري به البنان بحروف معينة، فإذا وقعت منك الكتابة على هذه الصفة فحينئذ تلزمك اليمين وعليك الكفارة، وكونك تقصد شيئا آخر هذا لك أنت، لكنه لا يؤثر في الأحكام الشرعية. ولهذا ينبغي على الفقيه وعلى العالم أن يقف مع كل حرف وكل صيغة فيما تدل عليه، فهذا كتاب الله عز وجل، قد جاء بصيغة الشرط وجاء بدلالاتها ومعانيها، فلا بد من التقيد بهذه الدلالات والمعاني. الأسئلة حكم من علق الطلاق بشرط فوقع الشرط في وقت نهي عن الطلاق فيه السؤال هل يأثم من علق طلاق امرأته على شرط، وحصل الشرط في وقت بدعي كأن يحصل الشرط وهي حائض أو في طهر جامعها فيه؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فستأتي هذه المسألة في مسألة تعليق الطلاق بالحيض، ويتبعها الكلام على مسألة الطهر، وإذا علق تطليق امرأته على صفة ووجبت حال حيضها، فيأتي الخلاف في مسألة وقوع الطلاق في الحيض وقد قدمنا هذه المسألة، وبينا فيها كلام العلماء والحكم فيها على التفصيل الذي سبق بيانه، والله تعالى أعلم. حكم من أراد بتعليق الطلاق المنع لا الطلاق السؤال ما الحكم إذا أراد الزوج بتعليق الطلاق المنع دون نية الطلاق وإنما قصد أن يمنعها من الخروج؟ الجواب هذه المسألة خلافية، جمهور العلماء -رحمهم الله- على أن صيغة الشرط يترتب فيها الطلاق على وجود الشرط، سواء قصد المنع أو قصد غير ذلك، وبناء على ذلك: لا فرق عندهم بين كون المطلق يقصد المنع أو لا يقصده، وذهب طائفة من العلماء -رحمهم الله- إلى القول بالتفصيل: فإن كان التعليق لا يقصد منه المنع كأن يرتبه على زمان كقوله: إذا غابت الشمس فأنت طالق، طلقت لمغرب الشمس، وإن قصد به المنع فإنه لا يقع الطلاق، ويكون حكمه حكم اليمين، ويكفر عنه، ويخرج من تبعته، والصحيح من حيث الأصل مذهب جمهور العلماء رحمهم الله؛ لكن لو أن شخصا وقع عليه ذلك وقصد منع زوجته وارتفع إلى قاضي أو عالم يرى أنه لا يقع ويعتبر نية المطلق في ذلك فإنه توسعة من الله عز وجل، ولا تطلق عليه امرأته؛ لأن العبرة بمن أفتاه، وبمن قضى عليه، والله تعالى أعلم. العبرة في العدة بزمن الطلاق لا بزمن بلوغ الخبر بالطلاق السؤال امرأة فارقها زوجها ما يزيد على عام وعندما سئل عنها قال: إنه مطلق لها، فهل تعتبر خارجة من العدة أم لا بد من الاعتداد بعد قوله؟ الجواب مذهب جمهور العلماء على أن من طلق امرأة فإنه يحتسب في العدة من الطلاق لا من بلوغ الخبر، وقالوا: أن المقصود من الطلاق استبراء الرحم، فلو أنه طلقها ومضى لها ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار -على الخلاف: هل العبرة في العدة بالحيض أو الطهر؟ - فإنه يحكم بكونها أجنبية إذا لم يراجعها، وكانت الطلقة بعد الدخول، وبناء على ذلك قالوا: إذا طلقها طلقة واحدة، ومضت مدة العدة ولم تعلم، وجاءها الخبر بعد تمام مدة العدة، فإنها تصبح حلالا، والعبرة بوقت الطلاق، لكن في الحداد الحكم يختلف، فإن الحداد عبادة، فلو أن امرأة مات زوجها ولم يبلغها خبر وفاته إلا بعد سنة أو بعد سنوات فإنها تبتدئ حدادها أربعة أشهر وعشرا من بلوغ الخبر، والفرق بينهما: أن عدة الطلاق لا تحتاج إلى نية، وعدة الحداد فيها وجه التعبد فاحتاجت إلى النية، فلا بد من نيتها للحداد حتى يقع ذلك على الوجه المعتبر، والله تعالى أعلم. حكم زواج الرجل من امرأته التي خالعها السؤال إذا طلقت المرأة نفسها هل للزوج أن يعيدها بعقد جديد إذا اصطلحا؟ الجواب يجوز للزوج إذا خالع امرأته وأراد أن يراجعها أن ينكحها بعقد جديد؛ لأن الخلع طلقة بائنة، وقد بينا هذا فيما تقدم، قال صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، فإذا طلقها طلقة وأراد أن يراجعها بعد ذلك فإنه يعقد عليها عقدا جديدا، ولا بد من وجود الولي وشاهدي عدل والمهر والصداق على الشروط المعتبرة في صحة عقد النكاح، والله تعالى أعلم. معنى القوامة في قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) السؤال ما المقصود بالقوامة التي في قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} [النساء:34] ؟ الجواب فضل الله الرجل على المرأة، والله سبحانه وتعالى إذا حكم لا يعقب حكمه، وهو -جل جلاله وتقدست أسماؤه- عليم بخلقه، حكيم في تدبيره وأمره وشأنه، فالله تعالى جعل في الرجال ما لم يجعله في النساء، كما جعل في القوة ما لم يجعله في الضعف، وقد بين الله تعالى أن الرجل لا يستوي مع المرأة، ومن قال: إن الرجل كالمرأة سواء بسواء فقد ناقض شرع الله، وخالف نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران:36] ، وقال سبحانه وتعالى: {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف:18] ، والمراد بذلك: المرأة، والسبب في هذا التفضيل: أن الله سبحانه خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم خلق منه زوجه، وخلقت من ضلع آدم كما أخبر صلى الله عليه وسلم (أنها خلقت من ضلع أعوج) وهذا حكم الله عز وجل كما تجد في الخلق من هو عالم وجاهل، فالعلماء أفضل من الجهال، وتجد الغني والفقير، هذا كله تفضيل من الله، لا يستطيع أحد أن يقول: لماذا؟ أو يريد أن يعطل حكم الله عز وجل، فالأصل أن الله فضل الرجال على النساء، ولكن جعل الفضل المشترك بينهم التقوى، فإن كانت المرأة صالحة قانتة حافظة للغيب بما حفظ الله؛ فلها فضلها ولها قدرها ولها حقها ولها مكانتها، والرجل إذا كان فاسقا فاجرا متنكبا عن صراط الله عز وجل؛ كان كالبهيمة {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] ، فهذا التفضيل في الأصل يبقى موقوفا على اتباع الشرع كما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13] ، فذكر خلق الناس من ذكر وأنثى ثم بين التمايز والتفاضل، وكون المرأة دون الرجل لا يمنع أن تكون في الفضل أفضل من الرجل إن كان الرجل عاصيا لله عز وجل، فالمرأة ينبغي أن تعلم أن الله فضل الرجل عليها، وهذا التفضيل حكم من الله سبحانه وتعالى، وقد دلت دلائل الكتاب والسنة على هذا؛ ولذلك جعل الله شهادة الرجل كشهادة اثنتين من النساء؛ لأن الله جعل في المرأة من الحنان والرحمة والعطف والعاطفة ما لم يجعل في الرجل، وهذه العاطفة تؤثر في المشاعر، وجعل في الرجل من القوة ما لم يجعل في المرأة، وانظر إذا أردت أن تعرف الفرق بين المرأة والرجل في مواقف الشدة والضعف؛ فإن المرأة إذا وقفت أمام قتل أو دماء تسيل لا تستطيع أن تتم النظر وسرعان ما تصرخ، وسرعان ما يغشى عليها، وسرعان ما تضع يديها أمام بصرها؛ لأن الله لم يعطها من القوة ما أعطى الرجل، ولا نستطيع أن نقول للضعيف: كن قويا، ولا نستطيع أن نقول للقوي: اخرج عن فطرتك التي فطرك الله عليها حتى تصير كالمرأة ضعيفا جبانا، ينبغي أن نعلم أن هذا التفاضل وراءه حكم عظيمة، لو أن الكون كله خلق على صفة واحدة لتضادت الأشياء، فالمرأة بضعفها وحنانها ورحمتها وعاطفتها قد تفوق الرجل بكثير، وهذا يكون إذا وضعت رحمتها وعاطفتها في مكانها، فالمرأة حين ترعى الصغير، وتحسن التبعل لزوجها، وتشعر أنها تحت الرجل وتحسن التبعل له، وتحسن القيام على بيته وولده، وترعى المسئولية التي ألقاها الله على عاتقها؛ تكون كأكمل ما أنت راء من امرأة، ولكن ينقلب الحال إذا صارت كالرجل تحاكي الرجال وتحاول أن تكون مثل الرجل سواء بسواء؛ حتى إن بعض الأدعياء -قاتلهم الله- يقولون: إن الإسلام لم يفرق بين الرجل والمرأة: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} [الكهف:5] ، فعلى الرجال الجهاد، وليس على النساء جمعة ولا جماعة ولا جهاد، ومن قال: إن المرأة مثل الرجل، فقد شق على المرأة، ولن يستطيع أحد أن يعطي المرأة حقوقها -على أتم الوجوه وأكملها- إلا الله جل جلاله وحده لا شريك له، الذي أعطاها الضعف، وهذا الضعف كمال لها، وزينة لها وجمال، فإذا نظرت إلى حنانها وهي تمسح صبيها وربما تذكر الإنسان ولادته وحنان أمه وعطفها وشفقتها فلم يتمالك دمعة عينه ويترحم عليها إن كانت ميتة أو يدعو لها إن كانت حية، فالذي يريد أن يجعل المرأة كالرجل فإنه يخرج المرأة عن فطرتها، بل إنه يعذبها، يريد أن تخرج كالرجل سواء بسواء فيحملها ما لا تطيق ويعميها، ويجعلها في وضع لا تستطيع أن تقوم به مهما كانت الأمور؛ لأن فيها من الخصائص وفيها من الطبائع ما لا تقوى أن تكون فيه مثل الرجل؛ لأن هذا حكم الله، وحكم الله إذا خرج الإنسان فيه عن الفطرة السوية، والخلقة المرضية؛ فإنه سيشقى ويتعب، ولذلك الله تعالى يقول: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه:117] ، وأطرد الخطاب للرجال تفضيلا وتكريما؛ لأنهم فضلوا بأصل الخلقة، وخلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فلا بد للمرأة المؤمنة الصالحة أن تدرك هذه الحقيقة، وأن تترك أوهام من يدعي أن المرأة كالرجل، ويحاول أن يجعل المرأة كالرجل سواء بسواء، بل ينبغي للمرأة أن تعلم علم اليقين أنه لا سعادة في بيت الزوجية إلا إذا علمت أن الرجل قائم عليها، وأن الله لم يجعلها قائمة على الرجل إلا في حالة واحدة، وهي: إذا تنكب الرجل عن صراط الله؛ زجرته بزواجر الله وذكرته بأوامر الله وأوقفته عند حدود الله، وعندها تكون قد أقامته على صراط الله ومرضاة الله، والخاص لا يقتضي التفضيل من كل وجه على سبيل العموم، وأيا ما كان فإن القوامة ينبغي للرجال أن يضعوها في موضعها، فيكون الرجل في بيته كاملا يراعي حق الرجولة، ويوقف المرأة عند حدودها، فعلى المرأة أن تذل لزوجها، وتكون تحته مطيعة له، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وتوفيت وزوجها عنها راض قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت) ، ولم يجعل ذلك للرجال، ما قال: إذا صلى الرجل خمسه وصام شهره وأرضى زوجه ورضيت عنه زوجه؛ لأن الأصل أن الرجال هم القائمون، وعلى هذا: فينبغي للمرأة أن تعلم أن سعادتها أن تعطي الرجل حقوقه. وهنا أذكر أن على الرجل أن يتقي الله وأن لا يتخذ من هذه القوامة إساءة وإضرارا خاصة إذا كانت تحته امرأة صالحة، تخاف الله عز وجل، فالمرأة الصالحة لها حق على كل رجل صالح بأن يحفظ صلاحها، خاصة عند كثرة الفتن والمحن، وأن يقبل منها حبها لله وطاعتها لله، وأن يحمد الله جل جلاله أن وفقه لمثل هذه المرأة، فيثبتها حتى يعينه الله عز وجل على القيام بحقوقها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا إلى سبيل البر والرضا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (441) صـــــ(1) إلى صــ(10) شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [2] قد يعلق الزوج طلاق زوجته بأداة شرط على إثبات شيء أو نفيه، وأدوات الشرط كثيرة، وقد يختلف الحكم الشرعي بتلفظه بأداة دون أداة، وقد بين العلماء رحمهم الله أحكام ذلك بالتفصيل. أدوات الشرط التي يعلق بها الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأدوات الشرط: إن وإذا ومتى وأين ومن وكلما، وهي وحدها للتكرار، وكلها ومهما بلا لم أو نية فور أو قرينة للتراخي، ومع لم للفور إلا (إن) مع عدم نية فور أو قرينة] . الله سبحانه وتعالى نص في كتابه في مواضع على اعتبار صيغة الشرط والحكم بها، ولذلك تعد من لسان العرب ولغتهم، فإذا علق المسلم طلاقه بصيغة الشرط فإن هذا يستلزم وجود أداة يسميها العلماء: أداة الشرط، وهذه الأدوات منها ما يتعلق بالشرط المحض، ومنها يتعلق بالزمان، ومنها ما يقصد منه التكرار، ومعانيها ودلالاتها تختلف، فنظرا لذلك لابد عند بيان أحكام الطلاق المعلق بالشروط أن ينتبه طالب العلم لهذه الأدوات، وأن يعطى كل لفظ حقه من الدلالة. التعليق بأداة الشرط (إن) يقول رحمه الله: [وأدوات الشرط إن] . قوله: (إن) : هذه تعتبر أم الأدوات، وهي تدل على محض الشرطية، وقال بعض العلماء: لا علاقة لها بالزمن، ومن المعلوم -كما تقدم معنا- أن هناك شرطا وجزاء للشرط معلق على وجود هذا الشرط، ومعنى ذلك إذا قال لزوجته: إن قمت فأنت طالق، فمعناه: أنه رتب طلاق زوجته على وجود القيام. وبناء على ذلك فلابد من وجود فعل الشرط وجواب الشرط وأداة تربط بين الجملتين، وإذا عبر بأداة (إن) ، فإنه تارة يعبر بالإثبات وتارة يعبر بالنفي، فيقول لزوجته: إن تكلمت فأنت طالق، إن قمت فأنت طالق، إن ذهبت إلى أبيك فأنت طالق. ونحو ذلك، هذا كله متعلق بالإثبات، فإن وجد القيام أو وجد الكلام أو وجد الخروج من حيث الأصل فإنه يحكم بالطلاق، هذا بالنسبة للإثبات. وأما في النفي فنحو: إن لم تقومي فأنت طالق، إن لم تتكلمي فأنت طالق، إن لم تذهبي إلى أبيك فأنت طالق، فهذا نفي، فهذه الأداة فيها ما يتعلق بالإثبات وفيها ما يتعلق بالنفي، وكل منهما له حكم، ففي الإثبات لنا حكم، وفي النفي لنا حكم آخر. قلنا: إن عندنا فعل الشرط: إن قمت، وجواب الشرط: فأنت طالق، هذا الجواب يترتب بالفاء لقوله: فأنت طالق، فمن حيث الأصل إن قال لها: إن قمت فأنت طالق. فلا إشكال في اعتبار الصيغة، ويربط بين جملة فعل الشرط وجواب الشرط بالفاء، لكن لو قال لها: إن قمت أنت طالق. فهذا محل خلاف بين العلماء رحمهم الله، قال بعض العلماء: إن قال لها: إن قمت أنت طالق. فإننا لا نعتبر الجملة الثانية وهي قوله: أنت طالق؛ مرتبة على قوله: إن قمت. لعدم وجود الفاء، وبناء على ذلك تطلق عليه مباشرة؛ لأنهم لا يرون الربط بين الجملة الأولى والجملة الثانية، فيقولون: كأنه قال لغوا: إن قمت، وقوله: أنت طالق، بعد ذلك كلام يستأنف ويوجب وقوع الطلاق على البت والتنجيز. واختار طائفة من العلماء كالإمام ابن قدامة، وبعض أصحاب الإمام الشافعي أنه إذا قصد الشرط فإنها لا تطلق عليه إلا إذا قامت، ويغتفر حذفه للفاء؛ لأن الأمر مستقر في نفسه ونيته، فكأنه قال: إن قمت فأنت طالق، كما لو جاء بالفاء، وهذا هو الصحيح لأنه قصد الشرطية. يبقى عندنا سؤال حين قلنا هنا: إن وجود الحرف الفاء وانتفاءه مؤثر في الصيغة، وقلنا: إن النية أقوى، يرد السؤال لو أن رجلا قال لامرأته: إن قمت فأنت طالق. هل نجعل طلاق المرأة موقوفا على القيام مطلقا؟ أو فيه تفصيل؟ الجواب إذا قال لامرأته: إن قمت فأنت طالق فله ثلاثة أحوال: الحالة الأول: أن يقصد ترتيب الجملة الثانية على الجملة الأولى، أو ترتيب الشرط على المشروط، فإذا وجد الشرط وجد المشروط، فإذا قصد الشرطية وقال لها: إن قمت فأنت طالق، ونوى في قلبه أنها لا تطلق إلا إذا قامت فإنها لا تطلق إذا لم تقم، وذلك لأن اللفظ يدل على الشرطية، وجاءت نصوص القرآن باعتبار الشروط كما سنبين، كقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} [التوبة:6] اشترط الله عز وجل وجود طلب الجوار، وأمر وحكم بأنه مجار بذمة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على اعتبار صيغة الشرط، وترتب الحكم عليها، فهو إذا قال لها: إن قمت فأنت طالق. وفي نيته أنها لا تطلق إلا إذا قامت؛ يتوقف الطلاق على وجود القيام، هذه الحالة الأولى. الحالة الثانية: أن يكون مقصوده إيقاع الطلاق مباشرة، فلو قال لها: إن قمت فأنت طالق. وفي نيته أنها طالق فورا ألغينا قوله: إن قمت. وأوقعنا الطلاق بقوله: أنت طالق، وعلى هذا لا تؤثر صيغة الشرطية لأنه تلفظ بالطلاق، ونوى الطلاق على التنجيز فلا يحكم بالتعليق، إذا عندنا حالتان متقابلتان: الأولى: أن ينوي الشرط ويقول: إن قمت فأنت طالق. ومراده أنها لا تطلق إلا إذا وجد القيام، فبإجماع العلماء من حيث الأصل أنها لا تطلق إلا إذا قامت. ثانيا: إذا قال لها: إن قمت فأنت طالق. قاصدا بت الطلاق ووقوعه مباشرة، طلقت عليه مباشرة، ولم يلتفت إلى قوله: إن قمت أو قعدت أو غير ذلك من الشروط. الحالة الثالثة: إذا لم ينو الشرطية، ولم ينو البت في الطلاق وتنجيزه، قال لامرأته: إن قمت فأنت طالق. قلنا: يا فلان ما الذي قصدت؟ قال: ما دار بخلدي شيء، أتيت بهذا اللفظ وقلت لزوجتي: إن قمت فأنت طالق. قلنا: هل قصدت أن الطلاق يقع فورا؟ قال: لا. قلنا: هل قصدت الشرطية؟ قال: لا. إذا يحكم بالظاهر، ويعتد باللفظ على ظاهره ويؤاخذ به، ولا نلتفت إلى كونه قصد الطلاق أو لم يقصده؛ لأن الشرع في الهازل الذي لم ينو الطلاق اعتد بظاهره وأسقط الباطن، وفي هذه الحالة أيضا إذا لم يقصد الشرطية ولم يقصد تنجيز الطلاق نحكم بظاهر قوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس وأن أكل سرائرهم إلى الله) فظاهر لفظه أنه لفظ يقع فيه الطلاق بشرط معين، فنقول: بينك وبين الله إن وقع هذا الشرط أمضينا عليك الطلاق، وإلا فلا. فهي ثلاثة أحوال: أولا: أن يقصد الشرط، اعتد به وأخذ بظاهر قوله، فاجتمع الظاهر والباطن على الشرطية ولا إشكال. ثانيا: أن يقصد التنجيز والإيقاع فورا، والصيغة لا يلتفت إليها ولا يعتد بها فيمضي عليه طلاقه. ثالثا: أن لا يقصد شيئا من الأمرين فنقول: إنه تلفظ بالطلاق، وحينئذ ننظر إلى ظاهر لفظه، فنؤاخذه على ظاهر اللفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) . مسألة أخيرة في (إن قمت) -وبعضهم يجعلها مطردة في أدوات الشروط كلها- من حيث الأصل يعبرون بقوله: إن قمت، وإذا قمت، إذا قال لها: إن قمت فأنت طالق. هل نطلقها بمجرد الارتفاع للقيام؟ أو بعد تمام القيام؟ عندنا شيء هو الابتداء بحيث يوصف الإنسان بأنه ابتدأ في المحذور، وعندنا شيء هو تمام المحذور بحيث نصفها بأنها قد قامت فعلا ودخلت فعلا، وقد كتبت، مثلا: قال لها: إذا ولدت فأنت طالق، فهل نطلق في ابتداء الولادة؟ أو نطلق بتمامها؟ وهل نطلق بابتداء الدخول؟ أو بانتهائه وتمامه وكماله؟ لو قال لها: إذا حملت هذه الصخرة فأنت طالق، وهي حامل وجاءت تحمل الصخرة، فلما انتصبت لحملها أسقطت جنينها، وهو مكتمل الخلقة فهل يعتد بسقوطه، وتخرج من العدة؟ إن قلت: إنها تطلق بابتداء الشروع، فقد خرجت من عدتها بالولادة؛ لأنها قد وقعت بعد استيفاء الشروط، وإن قلت: إنها لا تطلق إلا بعد تمام حمل الصخرة واستتمامه والوقوف به، فحينئذ يكون سقوط الحمل الموجب للخروج من عدة الطلاق سابقا للطلاق فلا يعتد به، ويحكم بكونها مطلقة بعد تمام الحمل. هذه مسألة: هل يطلق بابتداء الصفة أو بتمامها وكمالها. التعليق بأداة الشرط (إذا) (وإذا (لو قال: إذا دخلت الدار، أو تكلمت، أو إذا سكت، أو إذا قمت، أو إذا قعدت. فهذه صفات تعلق الحكم بالطلاق على وجودها، فنحن في هذه الحالة لا ننظر إلى الزمان، فنقول: هذه المرأة إذا قال لها زوجها: إذا تكلمت فأنت طالق. فإنها زوجة له ما لم تتكلم، فإن تكلمت يحكم بطلاقها، فلا ندري هل تتكلم الآن؟ أو تتكلم اليوم؟ أو تتكلم الغد؟ لا ندري متى زمان الإخلال ولذلك يقولون: (إذا) أداة على الخطر، يحتمل أن تقع ويحتمل أن لا تقع، لو قال لها: إذا كتبت فأنت طالق، ربما جلست حياتها كلها لا تكتب فلا طلاق، ولربما كتبت بعد تلفظه مباشرة فطلقت، ولربما جلست اليوم والأسبوع أو مدة ما شاء الله، فإذا: هذه الصيغة ليس لها تعلق إلا بالشرطية وهي (إن) . ثم (إذا) بعض العلماء يلحقها بإن ويقول: إنها تقتضي الشرطية وتدل على الشرطية، لكن الذي رجحه طائفة من العلماء أنها أقرب إلى الزمان، وبناء على ذلك: إذا قال لها: إذا تكلمت فأنت طالق، فإنه في هذه الحالة لا نحكم بطلاقها إلا بوجود الكلام أو بوجود الدخول ونحو ذلك من الصفات التي علق وقوع الطلاق عليها. التعليق بأداة الشرط (متى) (ومتى) هذا بالنسبة للزمان، متى قمت فأنت طالق، فإنه متى وجد القيام وفي زمان القيام يحكم بطلاقها، وهناك فرق بين قوله: متى قمت فأنت طالق، وبين قوله: إذا قمت فأنت طالق، وقوله: إن قمت فأنت طالق، فإن متى متصلة بالزمان وهي ألصق بالزمان، ولذلك يقولون: إنها متعلقة بالحين، قال الشاعر: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد حطبا جزلا ونارا تأججا قال بعض العلماء: إن لها وجها من الشرطية وإن كانت متعلقة بالحين، فكأن الشاعر يقول: في أي حين تأتيه تعشو إلى ناره تجد، وعلى هذا فإن (متى) لها اتصال بالزمان أقرب من الأداتين الماضيتين، وعليه: فإننا لا نحكم بالطلاق إلا بوجود زمان القيام، متى قامت، فتطلق في زمان القيام. واعتد بعض العلماء بابتداء الزمان فقال: تطلق عند ابتداء قيامها، وبعضهم يقول: لا تطلق إلا في أثناء الوقت الذي هو يستغرق القيام، فيأتي فيها ما لا يأتي في صيغة إن قمت، أو إذا قمت، هل المراد الابتداء أو الانتهاء؟ لأن الظرفية في الشيء تكون داخل الظرف إما زمانا أو مكانا، فحينئذ يكون طلاقها في ظرف الوقت الذي فيه القيام، وعلى هذا: يشمل ما بين الابتداء والانتهاء، فهي في الوسطية أقرب منها من قوله: إذا قمت، أو إن قمت، فهو إذا قال لها: إن قمت فأنت طالق. يحتمل أن يكون مراده: إن قمت وتم قيامك فأنت طالق، ويحتمل أن يكون مراده: إن قمت، أي: بمجرد القيام. والسبب في هذا: أن العرب تعبر بإذا وتريد ابتداء الشيء، وتريد انتهاء الشيء، وتريد أثناء الشيء، فهي ثلاثة أحوال: ابتداء الشيء، إما عند ابتدائه أو عند إرادته كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6] فإن غسل الوجه يكون عند إرادة القيام، والقيام لم يقع حقيقة، فهي لا تكون من هذا الوجه لا أثناء الفعل، ولا بعد تمام الفعل، وكذلك قول أنس رضي الله عنه كما في الصحيحين (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (كان إذا دخل الخلاء) فليس المراد أنه دخل؛ لأن هذا الذكر يشرع قبل الدخول إلى المكان المهيأ لقضاء الحاجة، فهذا من إطلاق الصيغة قبل الفعل كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل:98] هذا كله قبل ابتداء الفعل. وقال بعض العلماء: إنه ليس بها قبل الشيء وإنما المراد عند وهي عند إرادة الشيء، وهذا أشبه بالمصاحب لأول الشيء. وقد يعبر بهذه الصيغة المقتضية للشرط بما يكون أثناء الفعل، كقولك: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، وكقولك: إذا قرأت القرآن فرتل، فإن الترتيل لا يكون قبل القراءة، وإنما يكون أثناء القراءة، وكقولك: إذا صليت فاطمئن، فإن الطمأنينة مصاحبة لأفعال الصلاة، وتكون من المكلف أثناء صلاته، فهذه شرطية والمراد بها ما يكون أثناء فعل الشيء، وتعبر بهذه الصيغة، وتريد ما يكون بعد تمام الشيء وكماله، فتقول: إذا صليت فائتني، أي: إذا أتممت الصلاة وفعلتها كاملة فائتني. وعلى هذا يكون قوله: إذا قمت فأنت طالق. هل المراد به الابتداء، أي: إذا أردت القيام؟ أم المراد: ابتداء الفعل، بمعنى: أنها شرعت في القيام وتهيأت له؟ أم المراد: تمام القيام واكتمال الانتصاب؟ كل هذا يجعل الأمر محتملا، وقد حكى الإمام النووي رحمه الله وغيره من العلماء الوجهين: بعض العلماء يقول: إنها تطلق عند ابتداء الفعل؛ لأن الإخلال واقع بالابتداء، وابتداء الشيء والدخول في الشيء في حكم الشيء، وقد جعل الشرع ابتداء الشيء كالشيء. وبعضهم يقول: الأصل أنها زوجته، فتبقى زوجة له حتى يتم الفعل، وحينئذ نحكم بطلاقها، وكلا القولين له وجهه. استخدام أدوات الشرط في النفي وفي الإثبات قوله: [إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما، وهي وحدها للتكرار] . هذه الأدوات يذكرها المصنف إجمالا ثم سيفصل استعمالها في الإثبات واستعمالها في النفي، وحكم الإثبات والنفي في كلا الصيغتين. (إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما) هذه ست أدوات، وهذه الأدوات تختلف، فتارة تكون بالإثبات، وتارة تكون بالنفي، فتارة يقول مثلا: إن قمت فأنت طالق، وإذا قمت فأنت طالق، ومتى قمت فأنت طالق، ومن قامت منكن فهي طالق، وأيكن قامت فهي طالق، ومهما قمت فأنت طالق، وكلما قمت فأنت طالق، هذه كلها في الإثبات، فإن قال لها: إن قمت فأنت طالق. فالأمر يتوقف على وجود القيام، وكذلك: إذا قمت، وكذلك: من قامت، فإنه يتعلق بالتي تقوم من نسائه، وهكذا بقية الأدوات التي ذكر، وفي هذه الحالة نجعل الأدوات للتراخي من حيث الأصل، نقول: إن الرجل إذا قال لامرأته: إن قمت فأنت طالق، فإنها لا تطلق إلا إذا قامت، فيجوز له أن يستمتع بها، وهي زوجته ما لم يقع موجب الطلاق فنحكم بطلاقها. فهذه الصيغ يتوقف إعمال الطلاق فيها على وجود الشرط وهو القيام، ويتعلق بالمرأة المعينة، فلو قال: من قامت منكن، وأيتكن قامت، فهذا كله يتوقف على وجود الصفة وهي القيام، والأصل في هذه التراخي. أما إذا أدخل النفي فقال: إن لم تقومي فأنت طالق. وإذا لم تقومي فأنت طالق، ومن لم تقم منكن فهي طالق، فلو جلست وما قامت، فحينئذ نقول: إنها تطلق إذا لم يوجد القيام، وإن قامت لم تطلق، وإن قعدت وبقيت قاعدة طلقت، لكن متى تطلق؟ تطلق من حيث الأصل بعد مضي مدة يمكن فيها وقوع القيام، على الظرفية، فحينئذ نقول: إنه إذا علق طلاقها على نفي القيام أعطيت مدة بحيث إذا مضت هذه المدة ولم تقم حكم بطلاقها، لكن لو قال لها: إن لم أطلقك، ولاحظ: إن لم تقومي، شيء، إن لم تقعدي شيء، إذا لم تقومي، شيء، وإذا لم تقعدي، شيء، وعرفنا مسألة: إذا لم تقومي، لم تقعدي، أننا نقدر زمان القيام وزمان القعود، وعلى هذا نحكم بالطلاق، لكن إذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق. فحينئذ يرد السؤال هل نعتد بالزمان الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق؟ أم تكون (إن) على التراخي؟ فتبقى المرأة في عصمته حتى يبقى قبل موته قدر يمكن أن يقع فيه الطلاق؛ فإن لم يطلقها فيه فإنها طالق؟ هو يقول: لا يقع طلاقك إلا إن لم أطلقك. و (إن) ليس لها تعلق بالزمان، فلا تقتضي الفورية، فيبقى الأمر إلى آخر حياته، بحيث لا يبقى إلا القدر الذي يسع للطلاق وإذا لم يطلقها فيه فإنها تطلق عليه بآخر حياته، هذا إذا كان هو أسبق موتا، وأما إذا سبقت هي وماتت قبله فإنه يقدر الزمان قبل موتها بنفس التقدير الذي قدرناه في الزوج. ومن هنا: يقال: إن (إن) إذا دخلت على لم في نفي الطلاق؛ تأجل الطلاق إلى أن يصل إلى مدة قبل الوفاة؛ سواء كانت متعلقة بالزوج أو الزوجة كما يقولون: بأسبقهما موتا، فإن بقي من حياته أو حياتها القدر الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق ولم يطلقها فقد طلقت عليه. النية والقرينة في الطلاق المعلق قال المصنف رحمه الله: [وكلها ومهما بلا (لم) أو نية فور أو قرينته للتراخي] : (نية فور (يعني: إذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق، قلنا: يبقى إلى آخر حياته، أو آخر حياتها، فيبقى إلى مدة يمكن أن يقع فيها الطلاق، أي: قبل أن يموت أسبقهما موتا، سواء الزوج أو الزوجة، لكن في بعض الأحيان يقصد الفورية كما إذا قال لها: إن لم تدخلي الدار فأنت طالق، وقصده البت ونوى الفورية، هذا ما فيه إشكال، وقد بينا في أول المسائل أن صيغة الشرط إذا تلفظ بها المكلف ناويا إيقاع الطلاق على التنجيز؛ فإنه يقع على التنجيز ولا يعلق، هذا بالنسبة لنية الفور. قرينة فور مثل ماذا؟ رجل يقول لامرأته: إن جاء يوم غد فسوف أطلقك فإن لم أطلقك فأنت طالق، فجاءت جملة: إن لم أطلقك بأسلوب النفي والتعليق، فصيغة: إن لم أطلقك فأنت طالق، تتأخر حتى يبقى قبل موته أو موتها هذا القدر؛ فيقع الطلاق حين يتحقق الشرط، لكن هنا في سياق الكلام ما يقتضي تخصيص الحكم بالغد، فننتظر إلى الغد، إذ هو وعدها أن يطلقها في الغد فإن لم يطلقها في الغد فهي طالق، حتى ولو قال لها: سأطلقك اليوم فإن لم أطلقك فأنت طالق، سوف أطلقك الساعة فإن لم أطلقك فأنت طالق، فلو أنه قال: سأطلقك الساعة فإن لم أطلقك فأنت طالق، فإننا نبقى في الساعة بحيث يبقى القدر الذي يقع فيه الطلاق، فإن لم يطلقها فإنها تطلق. فإن قيل: ما الفائدة ما دام أنها ستطلق سواء طلقها أو لم يطلقها؟ الفائدة عند من يقول بوقوع الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، فلو قال لها: سوف أطلقك اليوم فإن لم أطلقك فأنت طالق بالثلاث، فإنه جعل الثلاث مرتبة على عدم تطليقها في اليوم، فالأفضل له أن يطلقها اليوم؛ لأنه إذا لم يطلقها طلقت بالثلاث، والواحدة أفضل من الثلاث، ولذلك قالوا: علق وقوع الطلاق بالثلاث على انتفاء الطلقة الواحدة، فالأفضل أن يطلقها واحدة، لا أن يطلقها ثلاثا. قرينة الفور: أن تأتي بجملة شرطية تدل على التراخي، وتصحب هذه الجملة جملة في سياق الكلام تدل على أنه أراد الفور، أو أراد تعجيل الطلاق قبل الموت، كقوله: سوف أطلقك الآن، فإن لم أطلقك فأنت طالق، فقوله: سوف أطلقك الآن يدل على أنه وعدها بالطلاق في حينه، أو وعدها الطلاق في هذه الساعة، ثم جاء بالجملة التي تدل على التراخي: فإن لم أطلقك فأنت طالق، فأدخلناها ورتبناها على الجملة السابقة، فبهذا الترتيب صارت الجملة الثانية مرتبطة بالجملة الأولى، والجملة الأولى تقتضي نوعا من الفور، ولا تقتضي تأخير الحكم، فخرجت دلالة صيغة الشرط من البقاء إلى آخر حياة أولهما موتا إلى التعجيل، وقلنا: تتقيد بنفس الزمان ويقيد به الطلاق، فلو قال لها: سوف أطلقك اليوم، فإن لم أطلقك فأنت طالق بالثلاث، فهل الأفضل له أنه ينتظر حتى يذهب اليوم، أو يطلق واحدة؟ يطلق واحدة حتى يخرج من تبعة الطلاق بالثلاث عند من يقول بوقوعها ثلاثا. (أو قرينة بالتراخي) (أو قرينة (أي: بعدم قرينة تدل على الفور فإنها على التراخي، هذا أصل تقدير الكلام. (ومع لم للفور) إن قال: إذا لم تقومي فأنت طالق؛ نعطيها قدرا من الزمان يمكن فيه القيام، فإن لم تقم حكمنا بالطلاق، الآن نترك (إن) التي هي أم أدوات الشرط، والسبب في تركنا لإن أنها متعلقة بمحض الشرط، فليس لها علاقة بالزمن، وعندنا: إذا ومتى ومهما وأين، فهذه الصيغ إذا دخلت ورتبت نحو: إذا لم تقومي فأنت طالق، فإننا نعطيها وقتا للقيام بحيث لو لم تقم حكمنا بالطلاق، فهي للفور، وكذلك -مثلا- لو كان عنده ثلاث نسوة وأرادهن أن يخرجن معه لسفر، فقال: من لم تخرج منكن فهي طالق، فحينئذ نعطيهن زمانا للخروج، فإن تأخر خروجهن بمضي مدة ما بين كلامه أو تلفظه بصيغة الشرط وما بين الخروج؛ وقع الطلاق، فلو كان خروجها بعد الصيغة يستغرق نصف دقيقة، فمضت نصف دقيقة ولم تقم ولم تخرج حكمنا بكونها طالقا. هذا معنى قوله: مع لم للفور. إن قال: من لم تتكلم منكن فهي طالق، فإنها تعطى زمانا يمكن فيه الكلام، فإن لم تتكلم حكم بطلاقها فورا، فعندنا الفورية وعندنا التراخي، فمع عدم (لم) يتراخى بالصفة، تقول: من تكلمت منكن فهي طالق، أيتكن تكلمت فهي طالق، فهذا يتراخى إلى وجود الصفة، لكن إذا دخلت لم، فقال: من لم تقم منكن فهي طالق صار على الفور، إذا لم تقومي فأنت طالق صار على الفور، ونحوها من الصيغ، إلا (إن) فلها حكم مستقل. (إلا (إن) مع عدم نية فور أو قرينة). فإنه إذا قال لامرأته بصيغة النفي: إن لم أطلقك فأنت طالق. ظاهر الأصل الذي مشينا عليه في الصيغ المترتبة على الزمان أننا نعطيه وقتا للطلاق، كقوله: إذا لم أطلقك فأنت طالق، فإنه بعد تلفظه بالطلاق وبعد الصيغة ينتظر، فإذا لم يتلفظ بالطلاق طلقت عليه، هذا بالنسبة لبقية الأدوات، لكن (إن) وحدها لا علاقة لها بالزمان، فهي تتعلق بمجرد اشتراط الفعل، وهي متمحضة في الشرطية. وبناء على ذلك قالوا: لا تتقيد بالزمان بل تبقى معه إلى آخر حياته، أو آخر حياتها إن كانت أسبق موتا، فلو قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق، ننتظر إلى آخر حياة أولهما موتا، فإذا بقي قدر الزمان الذي يمكن أن يتلفظ بالطلاق ولم يتلفظ به؛ فإنها تطلق عليه. الأسئلة الطلاق في مرض الموت السؤال إذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق. ولم يطلقها حتى مات نظر إلى أسبقهما موتا إن ماتت قبله، ولكن ربما أراد حرمانها من الإرث، فهل نعامله بنقيض قصده؟ وإذا أوقعنا الطلاق بهذه العبارة، فلماذا لا نوقعه في مرض الموت؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في مسألة الطلاق في مرض الموت، وجماهير الصحابة والعلماء -رحمهم الله- وهي فتوى الصحابة كـ عثمان وغيره: معاملة المطلق في مرض الموت بنقيض قصده، والمراد بذلك: أن الرجل -والعياذ بالله- ينتظر حتى إذا ظهرت به علامات الموت طلق زوجته، وقصد أن يحرمها من الميراث. وفي هذه الحالة يكون تطليقه لها ظلما وعدوانا وإبطالا للحق الذي أثبته الله لها، فإن الميت إذا مرض مرض الموت صار المال منتقلا إلى ورثته، ولذلك لا يجوز له أن يتصرف إلا في حدود الثلث، فإذا أسقط وارثا أو حرم وارثا أعطاه الله إرثه فقد ظلم وجار. ولذلك قال بعض العلماء: إن الزوج إذا طلق امرأته في آخر حياته قاصدا حرمانها من الميراث، فهذا من خاتمة السوء -والعياذ بالله- يختم له في ديوان عمله بهذه المظلمة ويلقى الله عز وجل بها، وهذا من أسوأ ما يكون من نسيان الفضل، والله تعالى يقول: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237] ، فلا يجوز أن يطلق المرأة في مرض الموت قاصدا حرمانها، واستثنى بعض العلماء أن تسأله المرأة الطلاق، فإذا سألته المرأة الطلاق انتفت التهمة، فلو قالت له: طلقني، وكان في آخر حياته فطلقها، فهي التي سألته، وهي التي أدخلت الضرر على نفسها. واختلف العلماء هل ترث أو لا ترث؟ وهذه المسألة ستأتينا -إن شاء الله- في المواريث، والذي قضى به عثمان رضي الله عنه وغيره أنها ترث منه، وهذا يسميه العلماء: المعاملة بنقيض القصد؛ لأن قصده الحرمان، وهذا القصد -وهو حرمانها من الإرث- مخالف لقصد الشارع من توريثها وإعطائها حقها، قال الإمام الشاطبي: (قصد الشارع أن يكون قصد المكلف موافقا لقصده) . يعني: أعمال المكلفين ينبغي أن ترتبط بالمقاصد، وأن تكون هذه المقاصد والنيات موافقة للشرع، فمن قصد مخالفة الشرع ومعارضته فقد ظلم وجار. فالظاهر أنه طلقها، والطلاق ينفذ من حيث الأصل، لكن إذا لم يقصد مجرد الطلاق، وإنما قصد حرمانها من الإرث، فإنه يسقط تأثير هذا الطلاق، خاصة إذا كان طلاقا بالثلاث أو نحوه مما فيه البت بالطلاق حتى يحرمها من الإرث، فحينئذ لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وهو قول طائفة من العلماء، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة والكلام عليها. والله تعالى أعلم. علاج الوسوسة في الطلاق السؤال ما هو الحل لرجل متزوج ابتلي بالوسواس مع زوجته هل طلقها أم لم يطلقها، علما بأنه يأتيه الوسواس عن طريق طلاق الكناية خاصة، وبغيره من أنواع الطلاق؟ الجواب الوسوسة ابتلاء من الله، والعبد المؤمن يسلط الله عليه الشيطان، فإن كمل إيمانه وعظم يقينه وإحسانه فإن الله يبتليه بالوساوس والخطرات ليكفر بها السيئات ويرفع بها الدرجات، ولكن مع عظم هذه الوساوس وشدتها فإن الله يثبت قلوب المؤمنين والمؤمنات. ومن ابتلي بشيء من الوسوسة فالواجب عليه: أولا: أن يفر من الله إلى الله، وأن يسأل الله في دعائه، وأن يبتهل إليه في مناجاته أن يرفع عنه البلاء، فإنها بلوى {ليس لها من دون الله كاشفة} [النجم:58] . ثانيا: أن يعلم أن من أنجع الأدوية للوسوسة أن لا يفتي نفسه، وأن يجعل بينه وبين الله من يرضى أمانته ودينه فيسأله، ما لم تزد الوسوسة عن حدودها، بحيث يكون الأمر خارجا عن حد معقول، فهذا له حكم خاص. فإذا كانت وسوسة يدخل بها عدو الله بالتلبيس في الصلاة وفي العبادات وفي الطاعات، فمن أفضل ما يكون أن يرتبط الموسوس بعالم، ولا يفتي نفسه البتة ويعود نفسه على هذا، فإنه إذا جاءه الشيطان وقال له: خرج منك ريح، وكان قد سأل العالم، وقال له العالم: لا تنصرف حتى تسمع صوتا أو تشم ريحا، فحينئذ سيبقى، فيقول له الشيطان: ويحك صليت بدون طهارة، فيقول: قد أفتيت ولا أعمل إلا بهذه الفتوى، فحينئذ يطمئن قلبه، ويرتاح، وينشرح صدره، وتذهب عنه الوساوس والخطرات. فإن عظمت الوساوس وقال له: إن هذا الذي أفتاك لا يفتيك أن تصلي بدون طهارة، وأنت قد خرج منك شيء! فحينئذ يقول: إن الذي أمرني أن أتوضأ للصلاة أمرني أن أصلي بهذه الحالة. فإن المرأة المستحاضة يخرج منها دمها وهو ناقض لوضوئها في الأصل، ومع ذلك تصح صلاتها ويعتد بعبادتها، فالعبرة بالتعبد، فإذا نظر إلى أن الأمر معتد به بالتعبد خرج عن نطاق الوسوسة. ثالثا: إن عظمت الوسوسة والشكوك في مسائل الإيمان ودخلت في العقيدة فليعلم أنه من كمال إيمانه أن يصرف هذه الوساوس، وأن يكرهها وأن يمقتها، وأن يعتقد فيما بينه وبين الله أنه لو كان بيده أن يدفعها لدفعها، فإذا وصل إلى هذه الدرجة فإنه من كمال الإيمان. ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه أتاه الصحابة وقالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به) أي: من أمور الوسوسة (فقال صلى الله عليه وسلم: أوقد وجدتم ذلك؟ ذاك صريح الإيمان) . واختلف العلماء في هذا الحديث على وجهين: الوجه الأول: قال بعض العلماء: (ذاك صريح الإيمان) أي: إنكاركم الوسوسة، فمن جاءه الشيطان وقال له: أنت لست بمؤمن، الله غير موجود -والعياذ بالله- ونحو ذلك من الشكوك، وما هذا القرآن؟ وما هذه الرسالة؟ وأدخل عليه هذه الأمور، أو قال: قد شككت في ربك فأنت كافر، فيقول: أعوذ بالله، ويكره هذا الشيء ويمقته، فإن الكراهية والمقت والتذمر من صريح الإيمان (أوقد وجدتم ذاك؟) قيل: لأن الضمير ذاك عائد إلى قولهم (ما يتعاظم أن يتكلم العبد به) ، أي: أننا نكره هذه الأشياء، وإنما هجمت على نفوسنا، وقذفت في قلوبنا، وإن كنا لا نرضاها، ولا نعتقدها، فأصبح الجحود والإنكار لها محض الإيمان ومن صريح الإيمان. الوجه الثاني: قيل: ذاك، أي: أن تسلط الشيطان عليكم يكون بقدر قوة الإيمان، ومن كمل إيمانه وعظم إيمانه جاءه الشيطان من جهة العقيدة، ومن كان مطيعا مستقيما محبا للصلاة يوسوس له الشيطان، فبقدر حبه للطاعات يأتيه الشيطان يوسوس، وهذا لا يعني أنه لا إيمان إلا بالوسوسة، وإنما المراد أن العبد إذا قوي إيمانه بالله عز وجل، ودخلت عليه الوسوسة وهجمت عليه في التوحيد، فليعلم أن هجومها في التوحيد والإيمان مع الإنكار ابتلاء من الله لقوة إيمانه، وأنه إذا كان محافظا على الصلوات دخل عليه الشيطان من جهة الصلاة فأفسد عليه صلاته ولبس عليه طهارته. وعماد الخير كله وجماعه كله تقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، فإذا وفق الله من ابتلي بهذا البلاء للدعاء والاطراح بين يدي الله والتضرع إليه سبحانه فإن الله يرفع درجته، ومن نزل به البلاء وحل به العناء فأنزل حاجته بالله أوشك أن يجعل الله له من ذلك البلاء فرجا عاجلا. وأما من نزل به البلاء فالتفت يمينا وشمالا وانصرف عن ربه؛ فذلك من أول علامات الخذلان، ولن يجد له من دون الله نصيرا ولا ظهيرا. بالنسبة للسؤال: الوسوسة في الطلاق تكون على صور: منها: هل تلفظ أم لا؟ فإذا دخل عليه هذا الوسواس فالأصل أنه لم يتلفظ، وإن عرف من قرائن حاله أن الشيطان دخل عليه في ذلك، فإن مثله لا يفتى بوقوع الطلاق عليه؛ لأنه مغلوب على أمره، وإذا غلبت الوسوسة فلا يحمل الإنسان ما لا يطيق، فلو طلقنا عليه زوجته؛ لم يتزوج زوجة إلا طلقت عليه، ومثل هذا أمره ليس في يده. وهكذا إذا عظمت الوسوسة في الصلوات والطاعات والعبادات، حتى أن بعض العلماء في بعض الأحيان يكاد يحكم بكون المكلف غير مكلف، سئل بعض العلماء وقيل له: رجل يصلي أكثر من خمسين مرة، ويعتقد أنه لم يصل، وكلما صلى اعتقد أنه لم يصل، فقال له: أرى أنه ليس عليك صلاة، لأنك إذا وصلت إلى درجة أن تصلي وتعتقد أنك ما صليت فقد أصبحت كالمجنون، والمجنون ليس مكلفا بالصلاة، هذا وجه بلوغه إلى حال لا يكلف فيها، لأنه تكليف بما لا يطاق وخروج عن سنن الرحمة التي بعث بها عليه الصلاة والسلام. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (442) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [3] الطلاق المعلق بالشرط تختلف أحكامه باختلاف أدوات الشرط وباختلاف نية المطلق. وقد يكون الشرط بأداة تفيد التكرار فيتكرر الطلاق بحسب التفصيلات التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله. وقت تحقق الطلاق عند تعليقه بشرط ووقوع المشروط بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. يقول المصنف -رحمه الله تعالى-: [فإذا قال: إن قمت، أو إذا، أو متى، أو أي وقت، أو من قامت، أو كلما قمت؛ فأنت طالق، فمتى وجد؛ طلقت] : تقدم معنا أن من علق الطلاق بشرط، فإنه لا يقع الطلاق إلا بعد وقوع الشرط، وبينا أن هذا هو الأصل، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن اللسان العربي يقتضي هذا الحكم، وأنه لا يقع المشروط إلا بعد وقوع الشرط، وبناء على ذلك شرع المصنف -رحمه الله- في تفصيل ما تقدم من أدوات الشروط فقال: (فإذا قال: إن قمت أو إذا، أو متى) . فإن قال لامرأته: إن قمت فأنت طالق، فبينه وبين الله عز وجل أنه إن قامت امرأته فإنها طالق عليه، وهذا يقتضي أنه متى وجدت صفة القيام فإنه يحكم بوقوع الطلاق، كما لو طلقها منجزا، فالله تعالى أعطاه أن يطلق زوجته، فاستوى في ذلك أن يطلقها بالتعليق، أو يطلقها بالتنجيز، فإن قال لها: إن قمت، فإذا وجدت صفة القيام؛ حكمنا بطلاقها، وهكذا إن قال: إن خرجت، أو قعدت، أو نحو ذلك من الصفات؛ فلا يقع الطلاق إلا بوجودها، وكذا إن قال: إذا قمت، وإذا خرجت، وإذا سكت، وإذا تكلمت؛ فأنت طالق، فإنه حينئذ متى وجد هذا الشرط، فإنه يقع المشروط وهو الطلاق. قوله: (أو أي وقت) هذا راجع إلى الزمان، فإذا قال: أي وقت تكلمت فيه فأنت طالق، فإننا ننتظر إلى حين كلامها، فمتى ما تكلمت حكمنا بكونها طالقا. قوله: (أو من قامت) كأن تكون عنده نساء أكثر من واحدة، فيقول: من قامت منكن فهي طالقة، ومن تكلمت منكن فهي طالقة، فيختص الطلاق بالتي تكلمت، وحينئذ نتوقف حتى توجد هذه الصفة، فمن وجدت فيها هذه الصفة؛ حكمنا بطلاقها دون غيرها. قوله: (أو كلما قمت فأنت طالق) كلما: تقتضي التكرار، وتختلف عن سابقتها من الأدوات بأنها توجب تكرار الطلاق بتكرار الصفة، ولكن هذا يختلف بحسب اختلاف النساء، فهناك فرق بين المرأة التي عقد عليها الرجل ولم يدخل عليها، وبين المرأة التي عقد عليها ودخل، فإن كانت المرأة قد عقد عليها ولم يدخل بها وقال لها: كلما قمت فأنت طالق، فإنها إذا قامت القيام الأول طلقت، وتصبح بائنا عن عصمته وتكون أجنبية، فلا يسري عليها الطلاق بعد ذلك ما دام أنها ليست في عصمته، فقوله: كلما قمت فأنت طالق يقتضي أن يتكرر الطلاق بتكرار الصفة، لكن إذا قال لها: إن قمت، إن قعدت، إذا قمت، أيتكن قامت، متى قمت، فإن هذه الأدوات لا تقتضي التكرار، فاختصت (كلما) بهذا الحكم، كلما قمت، وكلما تكلمت، وكلما دخلت، وكلما خرجت، فهذه كلها ألفاظ وشروط إذا وقعت مكررة وقع الطلاق مكررا. فإذا كانت المرأة غير مدخول بها فتبين بالطلقة الأولى، لكن إذا كانت مدخولا بها، وقال لها: كلما تكلمت فأنت طالق، فتكلمت تطلق الطلقة الأولى، ثم تكلمت بعد ذلك تطلق الطلقة الثانية، ثم تتبعها الطلقة الثالثة؛ لأن الرجعية يتبعها الطلاق، وحكمها حكم الزوجة، ففرق بين المرأة التي تكون في العصمة بعد الطلاق الأول وهي المدخول بها، والتي لا تكون في العصمة وهي غير المدخول بها. قوله: (فمتى وجد طلقت) أي: متى وجد هذا الشرط طلقت المرأة، وحكم بطلاقها؛ وهذا مبني على الأصل الشرعي في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم: أن المشروط يقع بعد الشرط، وهذا معروف من لسان العرب، فإذا اشترط وقع المشروط بوقوع الشرط، وعلى هذا يقول المصنف: متى وجد، يعني: متى وجدت هذه الصفات التي اشترطها الزوج؛ فإننا نحكم بطلاق امرأته. تكرار الطلاق بتكرار المعلق عليه إذا كان بأداة (كلما) قال-رحمه الله تعالى-: [وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحنث إلا في كلما] وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحنث فيما تقدم من أدوات الشرط، فلو قال لها: إن تكلمت فأنت طالق؛ فإننا نطلق بأول كلام لها، ولو تكلمت بعد ذلك مرات فلا تطلق عليه؛ لأن (إن) لا تقتضي تكرارا، وكذلك إذا، ومتى، وأيتكن، فكلها تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط، دون نظر إلى تكرار، فالتكرار لا يستفاد إلا من (كلما) وهي وحدها تقتضي التكرار، فإذا اشترط بها، وقال: كلما خرجت من البيت فأنت طالق؛ فإنها تطلق كلما خرجت، لكن على التفصيل السابق إن كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها. وقت وقوع الطلاق المعلق بالشرط المحض قال المصنف رحمه الله: [وإن لم أطلقك فأنت طالق] الشرط له حالتان: الأولى: أن يكون بالإثبات: إن دخلت، إن خرجت، إن تكلمت، إن قمت، إن كتبت، إن قعدت، إن زرت أباك، إن ذهبت إلى أمك، ونحو ذلك، يعني: إذا وجدت هذه الصفات، وجد المشروط وهو الطلاق. الثانية: أن يكون بالنفي: إن لم أطلقك، إن لم تقومي، إن لم تقعدي، إن لم تتكلمي، فهذا على النفي، والأول على الإثبات، فإذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق، فهذا متعلق بالشرط المحض، ولا علاقة له بالزمان، فقد اشترط فيما بينه وبين الله أن زوجته إن لم يطلقها فإنها تطلق عليه، فنقول: إما أن يقع منه طلاق، فحينئذ ينحل التعليق، وهذا في حالة ما إذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق بالثلاث، عند من يرى أن الثلاث تقع بكلمة واحدة، فالأفضل أن يطلقها طلقة واحدة؛ لأنه قال: إن لم أطلقك فأنت طالق بالثلاث، فالواحدة؛ وهي التي اشترط انتفاءها لوقوع الثلاث أهون من وقوع الثلاث، أو يقول لها: إن لم أطلقك فأنت طالق طلقتين، فالطلقة أهون من الطلقتين، ولذلك إذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق، فإن الشرط لم يتقيد بالزمان المعين، ولم يسند الشرط إلى الزمان ولا يقتضيه، ولا تقتضيه الأداة كإذا ونحوها من الأدوات، وبناء على ذلك يقول العلماء في (إن) التي تتمحض بالشرطية: ننتظر إلى آخر حياة أولهما موتا؛ لأنه يقول: إن لم أطلقك فأنت طالق، فبيني وبين الله أن طلاقك يقع إن لم يحصل مني طلاق، وهو إذا بقي مدة حياته ولم يطلقها، فإنها لا تطلق عليه، حتى يبقى قبل موته قدر زمان الطلاق فتطلق عليه؛ لأنه يتحقق حينئذ أنه لم يطلقها في حياته، وعلى هذا قالوا: ننظر إلى أسبقهما موتا، إما أن تكون هي تموت قبله، أو هو يموت قبلها، فأسبقهما موتا ننظر قبل موته بلحظات يمكن وقوع الطلقة فيها فإن لم يطلق فإنها تطلق عليه. فقوله: إن لم أطلقك فأنت طالق، اشترط فيما بينه وبين الله تطليق امرأته بشرط أن لا يقع طلاق، وحينئذ ينبغي أن ننتظر إلى آخر حياة أولهما موتا، سواء الرجل أو المرأة؛ لأن الزوجية في الحياة موقوفة على الموت، وأما سريان الأحكام بعد الموت فهذا يكون في بعض الأحيان لورود النصوص فيها، لكن من حيث قضية الطلاق للميت، فإن الميت لا يطلق، ولا يطلق، وبناء على ذلك قالوا في هذه المسألة: ننتظر إلى ما قبل الوفاة، سواء تعلقت الوفاة بمصدر الطلاق-وهو الرجل- أو تعلقت بمحل الطلاق-وهي المرأة- فننظر للاثنين؛ أيهما بقي من عمره قدر يصح أن يطلق فيه -إذا كان امرأة- أو يطلق فيه -إذا كان رجلا- فإن مضى قدر ذلك الزمان وقع الطلاق. مثال ذلك: قال لامرأته: إن لم أطلقك فأنت طالق، وسبقته بالوفاة، فننظر إلى ما قبل وفاتها بيسير، فحينئذ إن لم يطلقها، فإنها تطلق عليه بالشرط، وعلى هذا نقول: إن المرأة تطلق إذا سبقت بالوفاة بشرط أن يمضي أو يبقى من عمرها قدر الزمان الذي يمكن أن تطلق فيه، ولم يطلقها؛ لأنه يفوت الطلاق بفواته، إذا فات هذا الزمان-الذي هو قبل الوفاة بقدر التلفظ بالطلاق- فإن هذا القدر من الزمان يفوت الطلاق بفواته، فإذا فات الطلاق تحقق الشرط، إن لم أطلقك فأنت طالق، وبناء على ذلك قالوا: إن (إن) ليست متعلقة بالزمان، وإنما تعلقت بمحض الشرطية، وكذلك بالنسبة للرجل لو أنه امتنع من طلاقها حياته كلها، حتى بقي قبل وفاته بزمان يسير، نظرنا: إن كان الزمن يسع لقدر الطلاق، ولم يتلفظ بالطلاق، وقع الطلاق بالتعليق، وعليه ننظر إلى أسبقهما موتا؛ لأن الطلاق يفوت بفواته-أي بموته-، ونقدر الزمان قبل الوفاة، سواء كانت المرأة، أو كان الرجل. تأثير النية في الطلاق المعلق بالشرط المحض قال رحمه الله: [ولم ينو وقتا] هذا الشرط، فقول الرجل: إن لم أطلقك فأنت طالق، له أحوال: الحالة الأولى: أن يكون مطلقا؛ يعني: قصد مطلق الشرطية- كما فصلنا فيما تقدم- يكون بمطلق الشرطية، فلا ينوي وقتا، ولا تكون في الكلام قرينة تقتضي التخصيص، فحينئذ نقول: نبقى إلى آخر حياة أسبقهما موتا بقدر زمان يمكن أن يقع فيه الطلاق-كما تقدم-. الحالة الثانية: إذا نوى وقتا في نفسه؛ بينه وبين الله قال: إن لم أطلقك -ويعني هذا اليوم، أو هذا الشهر، أو هذا العام-فأنت طالق، فبينه وبين الله يكون ما نواه، فإن نوى وقتا أو زمانا؛ فهو ونيته؛ لأن الطلاق تعتبر فيه النيات، فإذا نوى فيما بينه وبين الله تعجيل الطلاق بزمان؛ في خلال هذا اليوم، أو خلال هذه الساعة، أو خلال هذا الأسبوع، أو الشهر، أو السنة، فإنه ونيته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) . وقوع الطلاق المعلق بالشرط المحض عند وجود القرينة قال رحمه الله: [ولم تقم قرينة بفور] إذا تلفظ بهذا الكلام، قد تكون هناك قرينة تدل على أنه أراد التعجيل، ولم يرد التأخير، مثلا: رجل يقول لزوجته: سأطلقك اليوم، فإن لم أطلقك فأنت طالق، فإن قوله: سأطلقك اليوم، هذه جملة وعد فيها بالطلاق، ثم ركب جملة الشرط عليها فقال: فإن لم أطلقك فأنت طالق، ننتظر اليوم، حتى إذا بقي قبل غروب الشمس بقدر ما تطلق فيه المرأة، ولم يطلقها، وقع عليها الطلاق، فحينئذ نقول: الأصل في (إن) : أنها تمحضت للشرط، ولا تتعلق بالزمان، كإذا، ومتى، وأي وقت، ونحوها. وبناء عليه: إذا كانت متعلقة بمحضية الشرطية ننتظر إلى آخر حياة أسبقهما موتا على التفصيل الذي ذكرناه، ما لم ينو التعجيل-فهذه حالة تستثنى- أو تقوم قرينة على إرادة التعجيل، كقوله: سأطلقك الساعة، فإن لم أطلقك فأنت طالق، سأطلقك اليوم، فإن لم أطلقك فأنت طالق، سأطلقك هذا الأسبوع، فإن لم أطلقك فأنت طالق، فإن جملة الشرط ركبت على ما قبلها فأصبحت مقيدة، وقامت القرينة على أنه أراد التعجيل، ولم يرد محض الشرطية. قال رحمه الله: [ولم يطلقها] يعني: حصل الشرط، ننتظر إلى آخر حياة أسبقهما موتا. قال رحمه الله: [طلقت في آخر حياة أولهما موتا] لماذا يقول: آخر حياة أولهما موتا؟ لأن عندنا في الطلاق: المصدر والمحل، المصدر: هو الزوج، الذي يملك التطليق، والذي خول له الشرع أن يطلق زوجته منجزا ومعلقا، يقول: إن لم أطلقك، فالطلاق يقع منه هو. ويتعلق بالمرأة فحينئذ إما أن يفوت المصدر، أو يفوت المحل وهي الزوجة. فقوله: إن لم أطلقك، الطلاق لا يتعلق بنيته، والطلاق لا يدخله النية، فحينئذ بينه وبين الله أنه إذا لم يطلق فهي طالق، فنعطيه المهلة إلى آخر حياته، بحيث يبقى من عمره على قدر الطلاق، ولم يطلق، فتطلق عليه؛ لأن الشرط بينه وبين الله أنه إذا لم يطلق طلقت عليه امرأته، وأما إذا ماتت هي قبله فإنه يفوت الطلاق بفواتها، فكما أن الطلاق يفوت بفوات المصدر، كذلك يفوت بفوات المحل، فإذا كان يفوت بفوات المصدر، أو فوات المحل، ننظر إلى أسبقهما موتا؛ لأن الطلاق يفوت بموت أحدهما بغض النظر عن كونه رجلا أو امرأة، وعلى هذا قالوا: ننظر إلى أسبقهما موتا، فإذا بقي من عمره على قدر الطلاق، فإننا نطلق المرأة بفوات هذا الزمان؛ لأن الشرط يقع بذلك. وقت وقوع الطلاق المعلق بأدوات الشرط الزمانية قال-رحمه الله-: [ومتى لم، أو إذ لم، أو أي وقت لم أطلقك فأنت طالق، ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل طلقت] قوله: (ومتى لم (متى: هذا للزمان، متى لم أطلقك فأنت طالق، معنى ذلك: أنه بمجرد ما يتكلم نعطيه فرصة هي قدر الطلاق، بحيث لو فاتت فقد مضى زمان لم يطلق فيه فهي طالق، بخلاف الأداة الأولى (إن) فإنها تمحضت بالشرطية، ولا تتعلق بالزمان، وعلى هذا جمهرة النحاة أنها لا تتعلق بالزمان من حيث الأصل، لكن (متى) متعلقة بالزمان، فبينه وبين الله: متى لم أطلقك، يعني: إذا مضى زمن يسع للطلاق ولم أطلقك فأنت طالق، وعلى هذا فإننا ننظر بمجرد تلفظه بالطلاق، فإذا مضى بعد هذا اللفظ قدر يمكن فيه الطلاق ولم يطلق طلقت عليه. قوله: (أو إذا لم (اختلف في (إذا) فبعض العلماء يقرن (إذا) بإن، ويرى أنها تبقى إلى آخر الحياة، بحيث لو قال لها: إذا لم أطلقك فأنت طالق، ننتظر إلى آخر حياة أسبقهما موتا، وكأن (إذا) فيها شبهة الشرطية، وإن كانت تتعلق بالزمان أيضا؛ إذا جاءك زيد، أو إذا جاءك عمرو، أو إذا جاءت القيامة، كل هذه تتعلق بالزمان، فالمراد بها الوقت والزمان، إذا جاء عمرو، أي: وقت مجيء عمرو، وإذا قام زيد، أي: وقت قيام زيد، فإذا لم أطلقك فأنت طالق، فقد أسند النفي إلى الزمان، فإن مضى زمان بعد تلفظه بهذه الكلمة ولم يطلقها طلقت عليه، سواء استغرق دقيقة أو أقل، وهذا على ما اختاره المصنف؛ أن: إذا، ومتى، وأي وقت، كلها تتعلق بالزمان. قوله: (أو أي وقت لم أطلقك فأنت طالق) (أي) من صيغ العموم؛ عممت الزمان، أي: فأي وقت لم أطلقك فيه فأنت طالق فيما بيني وبين الله، فننظر: إن مضى بعد كلامه وقت يمكن أن يقع فيه الطلاق؛ فإنه داخل في عموم قوله: أي وقت، فيقع الطلاق في خلال هذه الظرفية، وهذا الوقت، إذا لم يكن قد طلقها فيه. قوله: (ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه، ولم يفعل طلقت) أي: في هذه الصيغ التي تقدمت، والأدوات التي ذكرت: إذا، متى، أي وقت، إذا مضى زمن ولم يقع الطلاق، طلقت المرأة. وقت وقوع الطلاق المعلق بأداة الشرط (كلما) قال-رحمه الله تعالى-: [وكلما لم أطلقك فأنت طالق، ومضى ما يمكن إيقاع ثلاث مرتبة فيه طلقت المدخول بها ثلاثا، وتبين غيرها بالأولى] على العموم: على طالب العلم دائما أن يصبر، قد يقول: هذه الكلمات وهذه الألفاظ لم تعد موجودة، والواقع إن العلماء-رحمهم الله- يذكرون هذه الأدوات، ويذكرون دلالتها، والمراد التنبيه على الأصل؛ من أنه لا بد من الرجوع إلى اللغة العربية، ودلالاتها، والاحتكام إليها؛ لأنها هي لغة القرآن، وإذا اشترط الإنسان بهذه الصيغ العربية، فإنه يجري عليه ما يجري على المتكلم بها، فهذه الصيغ مختلفة ومتعددة، فعلى طالب العلم أن لا يسأم، ولا يمل، فقد تقع مثل هذه الألفاظ؛ كرجل عامي يأتيك ويقول: قلت لامرأتي: كلما لم أطلقك فأنت طالق، فكلما: تقتضي التكرار، والأدوات أنواع، ذكر أولا: (إن) وهي أم الأدوات ويتأخر الطلاق بها، ثم أتبعها بإذا، ومتى، وأي وقت، وهذه قلنا: يقع الطلاق بعدها مباشرة، فننظر إلى قدر الزمان المباشر، فتباشر الطلاق، وتقع بعد الصيغة مباشرة، إذا مضى زمان يمكن أن يقع فيه الطلاق ولم يطلق، و (كلما) يقع الطلاق بعدها مباشرة أيضا، فهي مثل الأدوات الثلاث التي تقدمت، لكن (كلما) تقتضي التكرار، فالأمر فيها أشد من قوله: إذا لم أطلقك، ومتى لم أطلقك، وأي وقت لم أطلقك، فهذه تختلف عن (كلما) ؛ لأن هذه الثلاث وأيضا: (إن) تطلق فيها المرأة طلقة واحدة على الأصل، لكن لو قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق؛ اختلف الحكم باختلاف النساء: فإذا كانت المرأة مدخولا بها، فإنه إذا مضى بعد هذه الصيغة زمان يمكن فيه الطلاق، ولم يطلق، طلقت الطلقة الأولى، ثم ننتظر بعد الطلقة الأولى زمانا يمكن وقوع الطلاق فيه، ثم تطلق الطلقة الثانية، ثم تطلق الطلقة الثالثة، فالأفضل أن يقول مباشرة: أنت طالق؛ حتى يخرج من مشكلة التكرار في (كلما) أما إذا كان قد عقد عليها، وهي في عصمته، ولم يدخل بها، فإنها إذا مضى زمن يمكن إيقاع الطلاق فيه بعد التلفظ بالشرط، ولم يطلق وقعت الطلقة الأولى، ومعلوم أن غير المدخول بها إذا طلقت طلقة واحدة أصبحت أجنبية، فجاءت الطلقة الثانية فلم تصادف محلا؛ لأن المرأة فاتت بالطلقة الأولى، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] ، فالمرأة غير المدخول بها بمجرد طلاقها الطلقة الأولى تصبح أجنبية، فإذا قال لها: كلما لم أطلقك فأنت طالق، فبينه وبين الله أن الطلقة الأولى تقع إذا لم يطلق بعد الصيغة مباشرة، والطلقة الثانية تقع كذلك، والطلقة الثالثة تقع كذلك، فإذا طلقت الطلقة الأولى؛ فإن الطلقة الثانية تأتي على محل غير قابل للطلاق، وهكذا الطلقة الثالثة فلا تقع الثانية، ولا الثالثة. فالخلاصة: (كلما) إذا أضيفت لصيغة النفي؛ يقع الطلاق بعدها مباشرة، كبقية الأدوات غير (إن) هذا الحكم الأول، والحكم الثاني: أنها تقتضي تكرار الطلاق بتكرار الصفة المشروطة، فالطلاق يتكرر، وتبين المرأة من عصمته إن كانت مدخولا بها، فإن كانت غير مدخول بها؛ فإنها تطلق طلقة واحدة، وتبين بها، وتصبح أجنبية، فترد الطلقة الثانية والثالثة على غير محل، فيكون وجودهما وعدمهما على حد سواء. فـ (كلما) توافق الأدوات المتقدمة في أن الطلاق يقع بعدها إذا مضى وقت يمكن أن يقع فيه الطلاق، ولم يوقع الطلاق، فتطلق عليه المرأة في صيغة النفي، وتخالف (كلما) بقية الأدوات في أنه يتكرر بها الطلاق إذا تكرر الشرط، إلا إذا كانت المرأة غير مدخول بها كما سبق بيانه. قوله: (وتبين غيرها بالأولى) أي: غير المدخول بها تبين بواحدة، ومعنى تبين: أي تصبح أجنبية، وهذا ما يسمى بالبينونة الصغرى. وقت وقوع الطلاق المعلق بحصول أكثر من صفة قال -رحمه الله تعالى-: [وإن قمت فقعدت، أو ثم قعدت، أو إن قعدت إذا قمت، أو إن قعدت إن قمت، فأنت طالق، لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد] هذه من سمات كتب الفقه، قد تجد فيها أمثلة غريبة، لكنها مركبة تركيبا بديعا، ومرتبة ترتيبا جميلا، فرحم الله الفقهاء، الآن يتكلم عن شيء اسمه الشرط، فقد تأتي بالشرط على صفة واحدة، وقد تجمع الشرط مركبا على صفتين، وقد تجمعه على ثلاث صفات، وهذه كلها موجودة في لسان العرب، ووردت في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنبينه، فما معنى قول المصنف: إن قمت وقعدت، إن قمت فقعدت، إن قمت ثم قعدت إلخ؟ إن جئت تتكلم عن صيغة الشرط فإنك تتكلم بطريقتين: الطريقة الأولى: طريقة الإفراد: أن يأتي بشرط واحد مفرد، وهذه الطريقة، إما بصيغة الإثبات نحو: إن دخلت الدار؛ فأنت طالق، هذا شرط مفرد، فننظر فقط للدخول، وإما بصيغة النفي نحو: إن لم تدخلي فأنت طالق، إن لم تسمعي كلامي فأنت طالق، هذا بصيغة النفي وفيه شرط مفرد، وننظر فقط لانتفاء الشيء الذي علق الطلاق عليه. الطريقة الثانية: طريقة الجمع: أن يجمع فيه بين شيئين، على سبيل التلميح، فيأتي بصفتين، ومراده أي واحدة منهما وجدت؛ فإن الطلاق يقع نحو: إن قمت أو قعدت، فأو للتنويع، وقد يأتي بشيئين فيجمعهما معا نحو: إن قمت وقعدت، وقد يجعل الشيئين مرتبا أحدهما على الآخر بالفاء أو بثم. فالخلاصة: أن صيغة الشرط المفردة إما أن تكون إثباتا، أو تكون نفيا، والأدوات تختلف، وأحوالها تختلف، فـ (إن) لا تختص بالزمان، و (إذا، ومتى، وأي وقت، وكلما) يقع فيها الطلاق بعدها مباشرة في صيغة النفي إذا لم يطلق، وقد يجمع أكثر من صفتين، فقد يجمع على سبيل وجود الكل، كأن يقول: إن قمت وقعدت، ومراده: أن يقع القيام والقعود، أو يقول: إن زرت الوالد والوالدة، فمراده أن تقع الزيارة للوالد والوالدة، فيقصد: مجموع الأمرين معا، وقد يقصد وجود أحدهما: إن قمت أو قعدت، فإذا قصد وجود أحدهما؛ فإنها تطلق بمجرد وجوده، وإذا قصد مجموع الشيئين مع بعضهما فقد يرتب أحدهما على الآخر وقد لا يرتب، فإن قال: إن أكلت وشربت، فلو أنها شربت أولا، ثم أكلت، فالطلاق يقع، ولو أكلت أولا، ثم شربت، فالطلاق يقع؛ لأن المراد: مجموع الأمرين، ولم يقصد ترتيبا؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب من حيث الأصل، وإن أراد الترتيب فقال: إن قمت، ثم قعدت، فلا ننظر إلى القعود إلا إذا وجد قبله قيام، فالقعود شرطه أن يكون قبله قيام، فلو كانت قاعدة فإنها لا تطلق حتى تقوم ثم تقعد، والحاصل: إن كان مراده مجموع الشيئين فلا إشكال، وإن كان مراده وقوع أحدهما مرتبا على الآخر؛ فالحكم أننا لا نوقع الطلاق إلا إذا وقع الثاني مرتبا على الأول، فهذه مقيدة بالصيغ، ولا تهتم الألفاظ، فالعلماء وضعوا هذه المتون بدقة، ومرادهم التفصيل في الحكم، فقد تأتي ألفاظ جديدة تتناسب مع العرف، فتقول تارة: لا يقع الطلاق إلا إذا وقع مجموع الأمرين، وتارة تقول: لا يقع الطلاق إلا إذا وقع الثاني مرتبا على الأول، وتارة تقول: يقع الطلاق إن وقع أحد الشيئين، أو إحدى الصفتين، ولا أشترط سبق أحدهما على الآخر. قوله: (وإن قمت فقعدت) القعود مرتب على القيام؛ لأن الفاء تقتضي العطف مع الترتيب، لكنها تدل على الولاء والمباشرة، ولذلك يقول بعض العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا) قالوا: يحرم أن يتأخر عن الإمام بالتكبير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كبر فكبروا) ولم يقل: إذا كبر كبروا، إنما قال: (إذا كبر فكبروا) ، وهذا على صيغة الشرط والعطف بالفاء، فالفاء هنا: تقتضي وجود الشيء مباشرة، تقول: جاء محمد فعلي، أي: أن عليا دخل وراء محمد مباشرة، فالفاء تقتضي الترتيب مع الولاء، ولذلك يقول بعض العلماء: لما قال أصحاب موسى: {إنا لمدركون} [الشعراء:61] رأوا فرعون قد أتاهم، والبحر أمامهم، وإذا بفرعون قد جاءهم بخيله ورجله وعدده وعدته، فقال موسى: {كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا} [الشعراء:62 - 63] ، انظر إلى بلاغة القرآن! (فأوحينا) ، حتى كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يقول: والله ما انتهى موسى من نون (سيهدين) حتى جاء الوحي: {اضرب بعصاك البحر} [الشعراء:63] ، وهذا من كرمه سبحانه، أنه ما أيقن أحد به عند الكرب إلا فرج عنه فقال سبحانه: (فأوحينا) ولم يقل: وأوحينا، إشارة إلى أن الوحي نزل عليه مباشرة بعد يقينه بالله سبحانه وتعالى. فالمقصود: أن الفاء تقتضي العطف مع الترتيب المباشر، فإذا قال لها: إن قمت فقعدت، فهذا يقتضي أن يكون القيام أولا، ثم القعود بعده، فيشترط سبق القيام للقعود. قوله: (ثم قعدت) المراد هنا فقط الترتيب، والفرق بين (الفاء) و (ثم) أن الفاء للولاء والمباشرة، و (ثم) تقتضي التراخي والتأخير، تقول: جاء محمد فعلي، أي: جاء علي بعد محمد مباشرة، حتى كأنهما ملتصقين ببعضهما في المجيء، ولكن إذا قلت: جاء محمد ثم علي، فهذا يقتضي أن هناك فاصلا ووقتا وزمانا فصل بين مجيء محمد ومجيء علي. فإن قال لها: إن قمت فقعدت، إن قمت ثم قعدت، تشترك الصيغتان في كون الثاني مرتبا على الأول، وهذا هو الذي يريده المصنف؛ لكن مسألة الترتيب بسرعة أو على الولاء، هذه مسألة أخرى تستفاد من اللفظ. قوله: (أو إن قعدت إذا قمت) هذا فيه دخول الشرط على الشرط، ودخول الشرط على الشرط يصير المقدم مؤخرا، والمؤخر مقدما، قلت لها: إن قمت إن قعدت، فحينئذ يكون القعود سابقا للقيام، فالشرط الثاني يصير أولا، والأول يصير بعده، كأنك اشترطت في الشرط، ولذلك قالوا: اعتراض جملة الشرط على الشرط يصير المتقدم متأخرا، والمتأخر مقدما، فالصيغ: إن قمت فقعدت، إن قمت ثم قعدت، إن قمت إن قعدت، لابد أن يسبق فيها القيام القعود، وأما صيغة: إن قعدت إن قمت فمعناها: إن قمت أولا، ثم قعدت بعد ذلك، والدليل على ذلك: قوله تعالى: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون} [هود:34] فجعل المتأخر مقدما، فعندنا جملة: (لا ينفعكم نصحي) ، رتبت على قوله: (إن أردت أن أنصح لكم) ، ورتبت على قوله: (إن كان الله يريد أن يغويكم) وأصل التقدير: إن كان الله يريد أن يغويكم، وأردت أن أنصح لكم، فلا ينفعكم نصحي، فجعل المتقدم مؤخرا، وجعل المؤخر مقدما، وهذا معروف في لغة العرب، فإذا قال لها: إن قمت إن قعدت، فمعناه: أن يسبق القعود القيام، كما فهمنا من لغة القرآن، فيقدم المؤخر ويؤخر المقدم في دخول واعتراض جملة الشرط على الشرط، سواء كانت واحدة، أو أكثر من واحدة، فحينئذ نقول بالترتيب، كما ورد في هذه الآية الكريمة: (لا ينفعكم نصحي) أي: أنا أريد أن أنصحكم، فجاء بغاية النصح، وبين براءته من حوله وقوته، فقال: (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) فإذا كان الله عز وجل لا يريد هدايتهم، فلا ينفعهم النصح، حتى ولو نصح لهم، فكونه يقدم المؤخر، ويؤخر المقدم؛ يدل على أن اعتراض جملة الشرط على الشرط يخل بالترتيب. قوله: (حتى تقوم ثم تقعد) فالجمل المتقدمة كلها يراد بها الترتيب. أولا: إن قمت فقعدت، لابد أن يقع القيام أولا، ثم القعود، فلو أنه قال لها: إن قمت فقعدت فأنت طالق، وكانت حاملا، فقامت، ثم قعدت، ثم ولدت، فحينئذ خرجت من عصمته؛ لأنه وقع الطلاق بعد قعودها، ثم وقع بعد الطلاق وضع الحمل، فخرجت من عدتها، وأصبحت أجنبية، فإن قال لها: إن قمت فقعدت فأنت طالق، فقامت، ثم ولدت، ثم قعدت، فإنه في هذه الحالة لا يقع الطلاق إلا بعد قعودها، وعلى هذا يتأقت الطلاق بوجود الترتيب، وهذا مراد الفقهاء؛ لأن الشريعة شريعة كاملة، لا يقول أحد: إن هذه تعقيدات، فإن هذه أمور تتوقف على ألفاظ شرعية، ولن تجد شريعة على وجه الأرض أعمق من هذه الشريعة فقد أعطت كل مكلف حدود ألفاظه، ومدلولات ألفاظه، والصيغ التي يتكلم بها في لسانه، وفي عرفه، وهذا غاية العدل والتمام والكمال، فهذا كله مبني على إعطاء كل شيء حقه وقدره، فهو إذا قال: إن قمت فقعدت، فهي صيغة تقتضي الترتيب، فلا يقع الطلاق بدون وجود الترتيب المشترط فيها، وإن قال: إن قمت ثم قعدت، فلا يقع الطلاق إلا بوقوع الصفتين مرتبا الثاني منهما على الأول على مقتضى لسان العرب ولغتهم، وقس على هذا بقية الصفات. قال المصنف رحمه الله: [وبالواو تطلق بوجودهما ولو غير مرتبين] ولو قال لها: إن قمت وقعدت فأنت طالق، فقامت ثم قعدت، أو قعدت ثم قامت، وقع الطلاق، فالفرق بين هذه الحالة والحالات الماضية: أنه قال لها في الحالات الماضية: إن قمت ثم قعدت، فلا نعتد بالقعود إلا إذا سبقه قيام، وعلى هذا لا يقع الطلاق إلا إذا وقع قعود بعد قيام، وأما في هذه الحالة فالعطف بالواو: إن قمت وقعدت فلو قعدت، ثم قامت أو قامت ثم قعدت، فإنه يقع الطلاق بمجموع الأمرين بغض النظر عن كونهما مرتبين أو لا. قال المصنف رحمه الله: [وبأو بوجود أحدهما] (أو) تقتضي التنويع؛ تقول: خذ هذا أو هذا، بمعنى: أنك مباح لك أن تأخذ هذا أو هذا، ولا يباح لك أن تجمع بينهما؛ لأن (أو) تقتضي التنويع، قال الله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} [المائدة:89] فهذا القرآن يدل دلالة واضحة على أن المراد وقوع أحد هذه الأشياء التي عطفت بأو، ومثل ذلك قوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196] فأي واحد من هذه الأشياء يجزئ؛ للعطف بأو، فإن قال الرجل لزوجته: إن قمت أو قعدت فأنت طالق، فإن وقع قيام، أو وق |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة حالة المعلق طلاقها إن توفي زوجها السؤال إذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فهي تطلق قبل الوفاة، فهل تعتد عدة طلاق أو عدة وفاة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإنه إذا وقع الطلاق قبل الوفاة؛ فعدتها عدة طلاق، وهي الأصل المتمحض، وإنما تكون عدة الوفاة لذات الزوج، والله تعالى أعلم. حكم التزوج بمن عقد عليها الأب السؤال هل يحرم على الابن التزوج بحليلة أبيه بمجرد عقده عليها ولو لم يدخل بها؟ الجواب كل امرأة تزوجها الوالد، وإن علا، سواء دخل بها، أو لم يدخل بها فإنها محرمة عليك، فلو أن الجد عقد على امرأة ثم طلقها، أو توفي عنها، أو خالعته، أو نحو ذلك مما يحصل به زوال العصمة؛ فإنها محرمة عليك؛ يجوز أن تصافحها، وأن تختلي بها، وأن تسافر معها، وأن تزورها، حكمها حكم المحرم سواء بسواء، لقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء:22] فبينت الآية الكريمة: أن منكوحة الأب محرمة، وجعل الحكم بالتحريم مبنيا على وجود النكاح، وقد فهمنا من ظاهر القرآن أن النكاح يطلق على العقد فقط، كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [الأحزاب:49] فدل على أن النكاح يقع بدون دخول، وعلى هذا فالمرأة تكون منكوحة للأب بمجرد العقد، فمثلا: عقد رجل على امرأة ولم يدخل بها، وبعد العقد مباشرة، أراد ابنه أن يدخل، وقال: يا شيخ؛ والدي عقد على فلانة، وأريد أن أدخل لأهنئها، وأكرمها، أو نحو ذلك، هل يجوز لي أن أصافحها؟ هل يجوز لي أن أختلي معها؟ نقول: نعم، بمجرد عقد الوالد عليها أصبحت محرما له؛ لأن الله تعالى يقول: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء:22] ، ويستوي في ذلك الأب من جهة الذكور، وأبوه وإن علا، والجد أب؛ لأن الله تعالى يقول: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج:78] فجعل الجد أبا، وكذلك الأب من جهة الأم، فالجد من جهة الأم، لو عقد على امرأة فإنها محرم لك؛ لأنك ابنه، ولذلك يعتبر أبا لك من وجه؛ والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن وهو ابن بنته: (إن ابني هذا سيد) والله تعالى أعلم. الفرق بين جماعة المسجد وغيرها من الجماعات من جهة مضاعفة الأجر السؤال هل مضاعفة الأجر في الجماعة خاصة بجماعة المسجد؟ الجواب حديث: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) عام، لكن هناك نصوص أخر خص بها بعض العلماء جماعة المسجد كما في حديث أبي هريرة: (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته خمسا وعشرين ضعفا) ، وبعض العلماء يقول: إن السبع والعشرين مختصة بجماعة المسجد، والخمس والعشرين لغير جماعة المسجد، فيجعل الدرجتين بالنسبة للخروج إلى المسجد، فتفترق جماعة عن جماعة، ويفضل بينهما بالخروج، وقال بعض العلماء -وهو الأقوى-: إن السبع والعشرين تشمل جماعة المسجد، وغير المسجد، لكن الخمسة والعشرين ضعفا غير السبع والعشرين درجة، فلا تعارض بين حديث سبع وعشرين درجة وحديث خمسة وعشرين ضعفا؛ لأن رواية مسلم في صحيحه: (صلاة الرجل في مسجده وسوقه تضعف على صلاته في بيته خمسا وعشرين ضعفا وذلك أنه) وجملة (ذلك) بمثابة التعليل، كأنه علل الحكم؛ أي: كانت بخمس وعشرين- لأنه: (إذا خرج من بيته لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، ورفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة) الحديث، فالدرجات السبع والعشرون تكون للجماعة مطلقا، لكن جماعة المسجد أفضل من جماعة البيت بالتضعيف خمسا وعشرين ضعفا، وصلاة الجماعة في البر ليست كالصلاة في المسجد كما جاء في حديث البرية، ونحوها من التفضيلات، والجماعة الأكثر عددا أفضل من الجماعة الأقل عددا، والجماعة في المسجد القديم أفضل لشرف المكان، والجماعة في المسجد المضاعف أفضل من المسجد غير المضاعف، وهذا التفضيل نسبي، والجماعة تضعف بصلاة الرجل مع الرجل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده) ، فالمقصود: أن فضل الجماعة من حيث الأصل يقع في كل جماعة تحققت برجلين، أو رجل وامرأة، أو رجل وصبي، فهؤلاء كلهم جماعة، ولكن تختلف جماعة عن جماعة من حيث الأجر والثواب، ومن حيث الفضل على حسب تفضيل الشرع، وتفريقه بين الجماعات. نصيحة للزوجين عند الغضب السؤال عند ثوران الغضب وشدته بين الزوج وزوجته بماذا يوصى كل منهما دفعا لوقوع ما لا تحمد عقباه؟ الجواب الغضب بلاء من الله يبتلي به العبد، وللغضب أسباب، فإذا وجدت أسباب الغضب فإن النفس الإنسانية قد تخرج عن طورها، وتجاوز حدودها إلى ما لا تحمد عقباه؛ ولذلك يزل الغضبان في بعض المواطن، فيتلفظ بما لا يجوز أن يتلفظ به، ولربما يعتدي حدود الله، فتبطش يداه، أو يفعل أمرا لا يجوز له فعله، وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يسأل ربه أن يصرف عنه الغضب، وأن يصرف عنه عواقبه الرديئة، ووساوسه المردية، وأسبابه المفضية إليه. وعلى المسلم أن يأخذ بالعلاج النبوي الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي قال: (يا رسول الله أوصني. فقال: لا تغضب، قال زدني. قال: لا تغضب، قال: زدني. قال: لا تغضب) فكرر له الوصية ثلاث مرات، فالغضب فيه نفخ من الشيطان؛ ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من نفخ الشيطان، فهو ينفخ في الإنسان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه، واحمرار وجهه) فهذا من نفخ الشيطان. وعليه أن يذكر الله عز وجل، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر على رجل وهو في ثورة الغضب، قد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، فقال عليه الصلاة والسلام: (أعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقيلت للرجل؛ فذهب عنه مايجده) . الله أكبر! إذا رزق الإنسان ذكر الله جل جلاله، فإنه خير للعبد في الدين والدنيا والآخرة، وهو من أفضل الأعمال، وأزكاها عند رب العزة والجلال، وأعظمها في بلوغ العبد لسعادة الدنيا والآخرة؛ والذكر ينقسم إلى قسمين: الذكر المطلق، والذكر النسبي، والذكر النسبي: هو الذي يكون للمناسبة، وللحال، فمثلا: إذا رأيت شرا؛ تقول: أعوذ بالله، فالاستعاذة مناسبة للشخص، وإذا رأيت خيرا؛ تقول: اللهم إني أسألك من فضلك، فهذا ذكر مناسب للحال، فلما كان العبد في هذه الحالة؛ ما بين نفس أمارة، وشيطان يريد به الشر، وبواعث تهيج هذه الأمور، وتقويها، وتدعو النفس إلى مجاوزة حدودها؛ التجأ إلى الله سبحانه وتعالى، وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كما قال تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} [الأعراف:200] ، والله تعالى وعد من استعاذ به أن يعيذه، وما أمرنا الله أن نستعيذ به إلا لما هو خير لنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا؛ ومن لم تنفعه الاستعاذة لأنه استعاذ بقلب منصرف، لا يستحضر عظمة الله جل جلاله؛ وقد ورد أن الشيطان يضع خياشيمه، وخرطومه على قلب العبد، وينفخ فيه، فإذا امتلأ القلب بالإيمان انصرف الشيطان؛ لأنه ليس هناك أقوى من الإيمان بالله جل جلاله؛ وفي الحديث الصحيح أن العبد إذا انكفأ؛ فقال: تعس الشيطان؛ انتفخ الشيطان، وتعاظم، لكن إذا ذكر الله انخنس الشيطان، فذهب كالخردلة حقيرا مدحورا بذكر الله جل جلاله، فنوصي الغضبان: أن يذكر الله جل جلاله؛ ويقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، ونحو ذلك من الاستعاذات الواردة في الشرع. ومما يذهب الغضب: الوضوء، فإن الوضوء يطفئ ثورة الغضب. ومما يذهب الغضب: تغيير الحال؛ فإن كان قائما قعد، وإن كان قاعدا قام، وإن كان في البيت خرج منه، وإن كان في مكان لجج وخصومة؛ فارق مجلس اللجج والخصومة: {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [الأنعام:68] ، فإذا رأى قوما يستزلونه إلى الشر وأسباب الغضب، فينبغي أن يتركهم، ويهجرهم، ويفارق مجالسهم؛ حتى لا يستزله الشيطان فيقع ما لا تحمد عقباه. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، بأسمائه الحسنى أن يعيذنا من نزغات الشياطين؛ إنه هو السميع العليم. حكم الصلاة في المسجد الأبعد طلبا لكثرة الأجر السؤال إذا كان بجوار البيت مسجد قريب، فهل يجوز له أن يمشي إلى الأبعد طلبا للفضل مع أنه يسمع إقامة الصلاة في مسجده القريب؟ الجواب إذا كان المسجد الأبعد أكثر جماعة، أو أفضل؛ كمسجد الكعبة، أو أقدم، فهذه كلها فضلها الشرع، فالمسجد القديم فضله الله عز وجل على المسجد الجديد، كما قال تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة:108] ، فجعل القديم أفضل؛ لأنه عمر بذكر الله أكثر من غيره، وكذلك أيضا المسجد الأكثر عددا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أزكى) ، وهذا يدل على أن الجماعة الأكثر عددا أفضل، وعلى هذا فيجوز له أن ينطلق إلى المسجد الأبعد إذا كان لفضيلة نص الشرع عليها. والله تعالى أعلم. الخلاف في ساعة الإجابة يوم الجمعة السؤال ما هو الراجح في ساعة الإجابة يوم الجمعة؟ وما هو عمل السلف في تلك الساعة؟ الجواب لا إله إلا الله! والله لو جلسنا إلى طلوع الفجر ما استطعنا أن نحصر عمل السلف في تلك الساعة، يا إخوان: أشفقوا على من يجيبكم، لا تسألوا المسائل العظيمة، البعض يسأل السؤال ما يدري ما وراءه، هذه مسئولية، والله ما سئل العبد سؤالا إلا وقف بين يدي الله يسأل عن كل كلمة قالها، ليست المسائل والفتاوى هكذا! كان بعض السلف -رحمه الله- يجثو على ركبتيه، ويحذر من يسأله، ويقول له: إنما هي الجنة والنار، فأشفق علي، يعني: إما أن أجيبك؛ فأدخل الجنة، وإما أن أجيبك؛ فأدخل النار. فليشفق علي السائل، أريد أن السائل إذا سأل عليه أن ينتبه، وأن يعلم أننا بشر لنا حدود، ولنا قدر من العلم: {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف:76] . أما ساعة الإجابة: فهذا أمر فيه أكثر من أربعين قولا، ولو كانت ساعات الجمعة مائة ساعة ربما كان تجد فيها مائة قول؛ لأن كل وقت محتمل، والذي يظهر: أن الله عز وجل أخفاها لحكم عظيمة، منها: أنه لو كشفها الله لتسلط الناس بعضهم على بعض، فآذى القوي الضعيف، وآذى السفهاء الصلحاء، وحصل من ذلك من الشر والبلاء ما الله به عليم، لكن الحمد لله الذي لطف بعباده. ولو علمها كل الناس، لربما تسلطوا بها على الشهوات، والهلكات؛ فأهلكتهم، وأفسدت عليهم دينهم، ودنياهم، وآخرتهم، فيصير أهل الشهوات يطلبون هذه الساعة؛ لشهوة من شهوات النفوس التي لا تحمد عقباها، فتكون متاعا عاجلا، وتبعة ومسئولية في الآخرة. وأقرب الأقوال وأقواها: أنها ما بين طلوع الشمس، وجلوس الخطيب، ثم في هذا الوقت أقوال، فبعضهم يختار أنها ساعة الغفلة؛ وهي حمية الضحى؛ لأن الناس في إقبال على الدنيا، والعبد إذا ترك البيع والشراء في الضحى، ومضى إلى المسجد صار مبكرا للجمعة، ويحصل له فضيلة اليوم على أتم وجوهها، وبعض العلماء يختار أنها أول النهار، وبعضهم يجعلها قبل الزوال بشيء يسير، وقيل: إنها بعد الزوال مباشرة؛ وهي الساعة التي تفتح فيها أبواب السماء؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح) . وقيل: إنها من طلوع الخطيب إلى انقضاء الصلاة، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنها ساعة قليلة، وطلوع الخطيب إلى انقضاء الصلاة هذا يأخذ وقتا طويلا. وليس المراد بالساعة ستين دقيقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار بيده يتقالها، يعني: أنها لحظات يسيرة، لذلك من الصعوبة بمكان أن نقول: إنها من طلوع الخطيب إلى انقضاء الصلاة. وقيل: إنها الساعة التي يجلس فيه الخطيب بين الخطبتين. وقيل: إنها من ابتداء الصلاة إلى انتهاء الصلاة، وقيل: وقت التشهد. وقيل: إنها في الساعة الأخيرة من يوم الجمعة، لكن هذا مشكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي) فذلك يقتضي أن الوقت وقت صلاة، وما بعد العصر ليس وقت صلاة، خاصة عند الغروب، وأجيب عن ذلك بأنه إذا جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، وهذا محل نظر؛ لأنه قال: (قائم يصلي) إلا أن يكون اسم الفاعل المراد به اسم المفعول، أي: أنه مقيم على حالة يكون فيها في حكم المصلي، وحينئذ يتجه أن يكون من بعد صلاة العصر يوم الجمعة يجلس في مصلاه إلى أن تغرب الشمس، فيسأل الله حاجته. وعليك أخي المسلم أن تصلح ما بينك وبين الله، ومن أصلح ما بينه وبين الله، وملأ قلبه بالخوف والرجاء؛ وصدق اللجوء إلى الله، وفقه الله وسدده. ومن أراد أن يكون مجاب الدعوة؛ فليطب مطعمه، وليستفتح بتوحيد الله، والثناء على الله، وليكثر من النوافل، فإنه ما أكثر عبد من النوافل إلا أحبه الله، وإذا أحبه أعطاه سؤله، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) ، فهنيئا ثم هنيئا لمن وفقه الله للخيرات، وفعل الطاعات، حتى أصبح مجاب الدعوات. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم من واسع فضله وهو أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. نصيحة للأزواج والزوجات السؤال إني امرأة متزوجة، ولكني أعاني من مشاكل كثيرة -تعني: المشاكل الزوجية، فلا يمضي أسبوع إلا وتقع مشكلة، ويهددها زوجها بالطلاق- فتقول السائلة: هل من نصيحة للأزواج في هذه الحالة؟ الجواب أوصي الأزواج والزوجات بتقوى الله عز وجل، ولا شك أن المؤمن، خاصة في هذا الزمان الذي عظمت محنه، وكثرت فتنه، مبتلى في نفسه وأهله وماله وولده، وذكر العلماء -رحمهم الله- أن العبد إذا أصاب الذنوب خارج بيته؛ ربما وجد شؤمها مع أهله وزوجه. فأوصي الزوج أن يتقي الله عز وجل، ومن أصلح ما بينه وبين الله؛ أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح ما بينه وبين والديه، أقر الله عينه في زوجه وولده. فعلى الزوج أولا: أن يتقي الله عز وجل في نفسه، وأن يأخذ بالأسباب التي يصلح الله بها زوجه وأهله وذريته، وخاصة في هذا الزمان، فالصبر مطلوب من الزوج، ومطلوب من الزوجة، فعلى الأزواج أن يتحملوا، فما وجدوا من خير شكروه، وما وجدوا من شر ستروه أو صبروا عليه إن أمكن الصبر. وأما بالنسبة للزوجات: فأوصيهن بتقوى الله عز وجل، فإن الرجل ربما استفزته زوجته، ولربما آذته وأضرته، وكان سببا في حصول المشاكل، فأوصي أختي السائلة وغيرها من معاشر المؤمنات أن يتقين الله في الأزواج، وأن تهيئ كل امرأة صالحة لزوجها في بيت الزوجية ما يكون سكنا له ومودة ورحمة، خاصة في هذا الزمان، فكما نقول للأزواج: إن الزمان زمان فتن ومحن، نقول للزوجات، فالزوجة إذا جاءها زوجها من عمله، أو جاء من عند أصحابه أو رفقته، ربما جاء مشتت الفكر، وبه هم وغم، محتاج إلى حنانها ورعايتها وإحسانها وكلمة ود ونحو ذلك، فعليها أن تبذل ذلك، ولتكن المرأة على بصيرة؛ لأنه ربما تغير زوجها عليها بسبب غفلتها عن تعاملها معه، فتكون في أول أيام الزوجية ودودة قريبة رحيمة بزوجها، ثم فجأة بسبب مشاغل البيت أو مشاكلها، يتغير أسلوبها أو طريقتها بدون قصد، فيفهم الزوج أنها لا تحبه، وأنها نافرة منه، فلتحرص الزوجة على تغيير أسلوبها وطريقتها، ولتعلم أن حسن التبعل للزوج سبيل إلى الجنة، فإن وجدت الزوج يشكرها ويذكرها ويحسن إليها، فلتحمد الله على نعمته، وتشكره على فضله، وإن وجدته يكفرها ويؤذيها ويضرها، فخير لها في العاجل والآجل، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا. على المؤمنة، بل على كل مسلم ألا ينتظر من أحد في هذه الدنيا أن يكافئه على معروف أو خير، وعود نفسك دائما ألا تنتظر من أحد كلمة شكر، وألا تنتظر من أحد اعترافا بالجميل، ووجه وجهك للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما موقنا، وإن الله عز وجل لن يخيبك، لا في الدنيا، ولا في الآخرة. ووالله ما من امرأة تصبر وتصابر وتحتسب، إلا أقر الله عينها بصبرها واحتسابها عاجلا أو آجلا، وجمع الله لها بين خير الدين والدنيا والآخرة، وكذلك الزوج؛ فليضح بما يستطيع، فإن وجد المرأة الصالحة المؤمنة التي تعترف بجميله؛ قال: الحمد لله، وهذا من عاجل ما يكون من البشرى له في الدنيا، وإن وجد كفران الجميل والتمرد والأذية، فلينصب وجهه لله، وليقل: اللهم صبرني، اللهم أجرني في مصيبتي، وليحتسب ثوابه؛ فإن الله عز وجل سيكتب له الأجر والمثوبة؛ لأنه بلاء، ولقد عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر المؤمن؛ (كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر؛ فكان خيرا له) . نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا شكره على السراء، وأن يثبت قلوبنا في كل ضراء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (443) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [4] الفقهاء يرتبون أحكاما كثيرة على الألفاظ التي يتكلم بها المكلف، ومن ذلك ألفاظ الطلاق المعلق. فقد يعلق الزوج الطلاق بمجرد حيض زوجته أو باكتمال حيضها أو بمضي جزء من حيضها. وقد يعلقه بالحمل أو بنفي الحمل أو بنوع الحمل أو غير ذلك. وقد بين الفقهاء رحمة الله عليهم أحكام تعليق الطلاق وما يترتب عليها وتفاصيلها. تعليق الطلاق بالحيض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم. أما بعد: فقال الإمام المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: إذا قال: إن حضت فأنت طالق طلقت بأول حيض متيقن] : ذكر المصنف -رحمه الله- في هذا الموضع جملة من المسائل المتعلقة بتعليق الطلاق بالحيض، وقد قدمنا أن النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالة واضحة على أنه ينبغي للمسلم إذا أراد أن يطلق زوجه أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، وبينا أن الإجماع منعقد على تحريم تطليق المرأة إذا كانت في الحيض، وهذا الإجماع مستند إلى النصوص التي ذكرناها، ولذلك غضب صلى الله عليه وسلم على ابن عمر حينما أخبره عمر أنه طلق زوجته وهي حائض. تعليق الطلاق بوقوع الحيض الطلاق في الحيض ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون الطلاق في الحيض، فلو أن رجلا طلق امرأته بعد أن دخل بها في حال حيضها فالإجماع منعقد على أنه طلاق حيض محرم. القسم الثاني: أن يطلقها تعليقا بالحيض، فتكون طاهرة، ويقول: إن حضت، فهذه المسألة حكمها حكم الطلاق في الحيض، فالرجل إذا قال لامرأته: إن حضت فأنت طالق، فإنه طلاق محرم، وهو طلاق بدعي، وعلى هذا يكون آثما بهذا النوع من التعليق، فهذا التعليق محرم، واستفدنا من هذه الجملة أن الطلاق في حال الحيض يستوي فيه أن تكون المرأة أثناء الطلاق حائضا أو تكون المرأة غير حائض فيطلقها معلقا طلاقها على الحيض، فإذا علق طلاقها على الحيض، فإن الطلاق غالبا يكون مستقبلا، فيشمل التطليق في الحيض ما يكون حالا وما يكون مسندا إلى الاستقبال بصيغة التعليق. قال رحمه الله: (إن قال لها: إن حضت فأنت طالق) أي: بينه وبين الله، فإن امرأته طالق إن حاضت حيضة كاملة، يعني: إن دخلت في حيضها، فإننا نحكم بتطليقها إذا تبين حيضها. وهذه الجملة تفيد أنه بمجرد دخولها في الحيض وثبوت الحيض بالنسبة لها تكون طالقا، فإن تكلم بهذه الصيغة والمرأة صغيرة لم تحض بعد، كأن يكون عمرها خمس سنوات، أو ست سنوات، أو سبع سنوات، أو ثماني سنوات، فقال لها: أنت طالق مني إن حضت، يعني: إن جاءك دم الحيض فأنت طالق، فننتظر إلى أقل سن تحيض فيه المرأة، ولا نتيقن بكونها حائضا إلا إذا بلغت تسع سنين على التفصيل الذي قدمناه في كتاب الحيض، وقد ذكرنا رواية البيهقي رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة) ، أي: تأهلت للحيض لتسع سنين، ومن هنا أخذ طائفة من أهل العلم أن أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنوات، وأبو بكر رضي الله عنه زوج النبي صلى الله عليه وسلم بـ عائشة وعمرها ست سنين، ودخل عليه الصلاة والسلام بها وعمرها تسع سنين، وهذا يؤكد أن تسع سنين تتأهل فيها المرأة للزواج وتتأهل للحيض، فإذا قال رجل: زوجتك ابنتي وعمرها ست سنوات، فعقد عليها، فتم العقد فقال له: إن حاضت ابنتك فهي طالق فحينئذ ما قبل سن المحيض تكون في عصمة الرجل ولا يقع الطلاق، فننتظر إلى أقل سن تحيض فيه المرأة، ثم ننظر إلى دم الحيض بصفاته على التفصيل والضوابط التي تقدمت معنا في كتاب الحيض، فلا بد من أمرين: أولا: السن. والثاني: أن يكون الدم الذي يجري من المرأة دم حيض لا دم استحاضة؛ لأنه ربما كان عمرها تسع سنين ولا يتبين أن ما يخرج منها دم حيض ولهذا قال المصنف رحمه الله: (بأول حيض متيقن) فعندنا في الحيض شك ويقين، ومسألة أقل سن تحيض فيه المرأة قد بيناها، وكذلك مسألة أقل الحيض قد تقدمت في كتاب الحيض وذكرنا خلاف العلماء -رحمهم الله- في أقل الحيض وأنه تتفرع عليه مسائل عديدة ومنها هذه المسألة، فأنت إذا قلت: إن أقل الحيض يوم وليلة أي: أربع وعشرون ساعة، فلو أن بنتا عمرها تسع سنوات خرج منها دم لكن هذا الدم استمر سبع ساعات وانقطع فليس بحيض على هذا القول، ولا تطلق المرأة عند من يقول: إنه لا بد أن يستمر أربعا وعشرين ساعة. فلو أن امرأة بلغت تسع سنين وجرى معها دم ولم يستتم أربعا وعشرين ساعة فإنها لا تطلق بذلك الدم، ولا يعتبر ذلك الدم دم حيض، وهذا على مذهب الشافعية والحنابلة الذين يقولون: أقل الحيض يوم وليلة، والحنفية -رحمهم الله- يقولون: ثلاثة أيام، والظاهرية والمالكية واختيار شيخ الإسلام رحمه الله أن الحيض لا حد لأقله، وأن المرأة ممكن أن تدفع الدفعة من الحيض، وذكرنا أن هذا هو أصح أقوال العلماء؛ لأنه لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحديد يدل على أن اليوم أو الليلة أو أن الثلاثة الأيام هي أقل ما تحيض به المرأة، وإنما استندوا في ذلك إلى أدلة نظرية، والصحيح أن الحيض يكون قليلا وكثيرا ولا ضابط له من حيث الساعات أو الزمان. إذا ثبت هذا فنحسب أقل سن تحيض فيه المرأة، فإن كانت السن سن حيض وخرج معها دم الحيض على صفاته فإننا نحكم بكونها طالقا. تعليق الطلاق باكتمال الحيض قال رحمه الله: [وإذا حضت حيضة تطلق بأول الطهر من حيضة كاملة] قوله: (وإذا حضت) لاحظ، (إن حضت) بمجرد تيقن الحيض، (وإذا حضت حيضة) هذا له حكم، فهنا لفظ وهنا لفظ {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] وينبغي أن نتنبه إلى أن العلماء -رحمهم الله- حينما يذكرون هذه الألفاظ ويدققون في كل كلمة وكل جملة ليست القضية قضية الحيض فقط، بل القضية قضية تمرين الفقيه وطالب العلم على أن يعطي كل كلمة حقها وقدرها، فقد تأتي مسألة من المسائل التي تتعلق بالحقوق والأموال وتتفرع على هذا الأصل الذي ذكره العلماء في الألفاظ، فأنت إذا عرفت من باب الحيض أن التعليق بالشروط له ضوابط معينة من جهة الألفاظ فتستطيع أن تطرد ذلك في كل شيء يقع، حتى لو أن رجلا قال لعامل عنده: إن جاءك محمد فأعطه مائة ألف، فاتصل محمد على العامل وقال له: سيأتيك سعد وأعطه المائة ألف، فجاء سعد وأخذها وسرق المال، من يضمن؟ يضمن العامل؛ لأنه قال له: إن جاء وكلمة (إن جاء) ليست كما لو اتصل، ففي الشريعة تقييد وإلزام ولا يقول الإنسان لماذا الفقهاء يقولون: إن حضت وإذا حضت؟ فالشريعة تامة كاملة، ومن تمامها وكمالها أنها تعطي كل لفظ حقه، ودلالته ومعناه. فلو قال الرجل لزوجته: إن حضت، وقصد حيضة كاملة فحينئذ لا تطلق قبل أن تحيض حيضة كاملة، والفرق: أن قوله: إن حضت، مراده الدخول في الحيض، وأما قوله: إن حضت حيضة كاملة أو إن حضت حيضة، مراده إكمال مدة الحيض، فلو قال هذا الكلام أثناء حيضها فإنها تطلق على الأول ولا تطلق على الثاني، حتى تأتي الحيضة التي تلي الحيضة التي قال ذلك فيها؛ لأنه إذا قال لها: إن حضت حيضة كاملة، أو إن حضت حيضة فإنه أثناء الحيض لم تحض بعد حيضة كاملة من قوله إلى نهاية الحيض، فلو قال لها: (إن حضت حيضة فأنت طالق) وقصد الحيضة الكاملة الثانية، فإن وقع هذا الكلام قبل الحيض ننتظر حتى تبدأ الحيض، فإن حاضت وتمت عادتها من الحيض طلقت، وحكمنا بطلاقها، وإن كانت أيست وانقطع حيضها لم يقع الطلاق؛ لأن الطلاق موقوف على وجود الحيض، وفائدة التعليق وجود الحيض، فلو قال لها وعمرها ستون سنة: إن حضت حيضة فأنت طالق، فبعد الستين انقطع عنها الحيض فحينئذ لا تطلق؛ لأن الشرط مركب على وجود حيضة تامة كاملة، حتى ولو قال لها هذا الكلام في آخر حيضة حاضتها من عمرها لم تطلق؛ لأنه لو مضى من الحيضة ثلاثة أيام أو أربع أيام، أو مضى منها ساعة أو مضى منها يوم فإنها لم تحض بعد الشرط حيضة كاملة، مثال ذلك: امرأة عادتها أن تحيض سبعة أيام، فلما صارت في آخر حيضة من عمرها حاضت اليوم الأول فقال لها زوجها في اليوم الثاني: إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق، فإنها بعد هذا الشرط حاضت حيضة ناقصة؛ لأنها بقي لها من عادتها ستة أيام، فما دام أنه قد مضى جزء من الحيضة قبل الشرط فالحيضة غير كاملة، فتوفي هذه الحيضة وتنتظر هل تحيض بعد هذا الشرط أو لا؟ فإن لم تحض؛ فحينئذ لا يقع الطلاق، وإن طهرت ثم حاضت فإننا ننتظر إلى تمام عادتها ونحكم بطلاقها، فهذا الفرق بين قوله: إن حضت حيضة، وقوله: إن حضت. تعليق الطلاق بمضي جزء من الحيض قال المصنف رحمه الله: [وفي (إذا حضت نصف حيضة) تطلق في نصف عادتها] لاحظ الفرق، والعلماء يرتبون المسألة على المسألة، فأنت تقول: إن حضت حيضة كاملة، فمعناه: أنه لو خاطبها بهذا الشرط أثناء حيضها، فإننا نلغي الحيضة التي وقع عليها الشرط، وننتظر إلى طهرها وحيضها من بعد، فلو انقطع حيضها فلا تطلق، وإن حاضت حيضة تامة بعد هذا الشرط حكمنا بطلاقها بمجرد تمام الحيض، ولو قال لها: إن حضت نصف حيضة فأنت طالق، ننظر حينئذ إلى عادتها فإن كانت عادتها ثمانية أيام، فمعناه: أن نصفها أن تحيض أربعة أيام، فتتفرع مسائل عديدة، منها: أنه لو قال لها: إن حضت نصف حيضة وكانت قد مضت ثلاثة أيام فإننا نعتد بالأربعة أيام، ونحكم بطلاقها بمضي أربعة أيام بعد الثلاث، فتكون طالقا في اليوم السابع عند من يوقع الطلاق في الحيض، وإن مضى أربعة أيام وبقيت أربعة أيام فتطلق بعد تمام اليوم الثامن الذي هو الطهر، لكن لو قال لها: إن حضت نصف حيضة وكان قد بقي من عادتها ثلاثة أيام وحيضتها ثمانية أيام فإنها تلغى هذه الحيضة كلها، وتنتظر إلى الحيضة الثانية، فلو أنها توفيت قبل الحيضة الثانية، أو انقطع حيضها قبل الحيضة الثانية لم يتبعها طلاقها. فالمسائل كلها تترتب عليها أحكام، إذا علقت الطلاق على شرط معين كلا أو جزءا تراعي الكلية في ما يشترط فيه الكلية، والجزء فيما يشترط فيه الجزء، فإن بقي من زمان الحيض ما يتحقق به وصف النصف أو الربع -على حسب ما يذكر من شرطه- حكمنا بوقوع الطلاق بعد ذهاب ذلك العدد الذي اشترط فيما بينه وبين ربه أن زوجه تطلق به. هذا بالنسبة لمسألة: إن حضت حيضة، وإن حضت نصف حيضة، فانظر إلى ترتيب المصنف، فهي ثلاث مسائل: المسألة الأولى: إن حضت، ومتى حضت، وأي وقت تحيضين، فحينئذ نحكم بالطلاق بمجرد دخولها في الحيض على القول الراجح بأن أقل الحيض لا حد له، وأما عند من يشترط اليوم والليلة، أو يشترط ثلاثة أيام فلا نحكم بطلاقها إلا إذا بقي الدم يوما وليلة، أو بقي ثلاثة أيام على الخلاف المذكور، وأما على القول بأن قليل الحيض وكثيره سواء فتطلق بمجرد دخولها في الحيض، هذه هي المسألة الأولى، ووجه هذه المسألة أن الرجل طلق امرأته فيما بينه وبين الله إذا دخلت في حيض، فبمجرد دخولها في الحيض تطلق. المسألة الثانية: يعطي شرطا أوسع من شرط الدخول، فيقول لها: إن حضت حيضة كاملة، فلا يكفي دخولها في الحيض، ولا يكفي ابتداؤها الحيض أو شروعها في الحيض بل ننتظر إلى تمام عادتها فلو قال لها وهي طاهر: إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق فحاضت يوم السبت وماتت الأحد فهي في عصمته، ولا يتبعها طلاقه؛ لأنها لم تحض حيضة تامة كاملة. المسألة الثالثة: إن قال لها: إن حضت نصف حيضة أو ربع حيضة فننظر إلى عدد أيام عادتها ونحكم بالطلاق مجزأ فإن قال لها: إن حضت نصف حيضة، لم يخل من حالتين: إما أن يتكلم به قبل الحيض فنقول: بمجرد ما تبتدئ الحيضة المستقبلة الآتية نحسب عدد النصف، ونطلقها في نصف عادتها التي ستأتي، هذا إذا كان وقع كلامه قبل الحيض، فتطلق في نصف العادة الآتية، وإما إن قال هذا الكلام أثناء الحيض نظرنا: فإن بقي من أيام عادتها ما يعادل النصف فأكثر طلقناها بمجرد مضي عدد الأيام التي تستوعب نصف العادة، وحينئذ نحكم بأنها طالق، فإن مضى من عادتها يومان وعادتها ثمانية، فنحكم بكونها طالقا بعد مضي أربعة أيام بعد اليومين أي: بعد السادس، ولا ننتظر إلى النصف الثاني وإنما نقول: تتجزأ بالأيام، وأما لو كان اعتد به كاملا وجعل الطلاق على الحيض كاملا فالعبرة بكماله، أو جعل الطلاق على بعضه، فالعبرة بذلك البعض، أو جعل الطلاق بمجرد تيقن دخول الحيض وحكمنا بالطلاق. وتبين بهذا أن قوله: إن حضت حيضة تامة، أهون من قوله: إن حضت، أو إن حضت نصف حيضة، فإن قوله: إن حضت، مراده: بمجرد دخول الحيضة فيكون طلاقا بدعيا، وإن قال: إن حضت نصف حيضة فيكون قبل الحيض بدعيا، وإذا بقي من عادتها النصف يكون سنيا؛ لأنه إذا قال لها: إن حضت نصف حيضة، في أثناء الحيض، وبقي من حيضها النصف فمعناه أنها ستطلق بعد طهرها، فيكون سنيا، فافترق الحكم، والحاصل: أن الطلاق يكون بدعيا إن قصد مجرد وجود الحيض إن حاضت، ويكون سنيا إن قال: إن حضت حيضة تامة، لأنه يقع بعد الطهر، فبمجرد دخولها في طهر لم يجامعها فيه يقع الطلاق سنيا، ويكون محتملا إن قال: نصف حيضة، فإن قال ذلك قبل الحيض فبدعي؛ لأنه سيقع في نصف العادة، وإن قاله وقد بقي من عادتها ما يستوعب النصف فأكثر فبدعي أيضا؛ لأنه سيبقى من حيضها يوم أو يومان فيقع الطلاق وهي حائض، وإن قال ذلك ولم يبق إلا القدر الذي اشترط فسني لأنها تطهر ويكون حينئذ طلاقها في طهر لم يجامعها فيه. تعليق الطلاق بالحمل تعليق الطلاق بإثبات الحمل قال رحمه الله تعالى: [فصل: إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف] قبل أن ندخل في تفصيلات العلماء في مسألة الحمل نحب أن نمهد بتمهيد نستوعب فيه هذه المسائل. أولا: أقل الحمل: مدة زمانية لا يمكن أن يوجد الحمل في أقل منها، وأكثر الحمل: مدة زمانية الغالب بالعادة والتجربة أنه لا يجاوزها الحمل، وكلتا المسألتين تتفرع عليهما مسائل مهمة، وقد تتفرع عليها مسائل تتعلق بإنقاذ الأرواح كما سيأتي، فأقل الحمل ستة أشهر في قول جماهير العلماء رحمهم الله، فالمرأة لا تضع الحمل التام قبل الستة من حيث الأصل الغالب والذي دل عليه دليل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف:15] فأثبت سبحانه أن حمل الجنين وفطامه بعد الولادة من الرضاع يستغرق الجميع ثلاثين شهرا، يعني: سنتين ونصفا إذ هي ثلاثون شهرا، 24 شهرا للسنتين، و6 أشهر لنصف سنة، فنصت الآية على أن الحمل مع الرضاع والفطام من الرضاع يستغرق ثلاثين شهرا، وفي الآية الأخرى يقول الله عز وجل: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233] . وانظر إلى جمال هذا القرآن وجلاله وكماله وعظمته وما أودع الله فيه من الحكم والأحكام، فالآية تأتي في مسائل النفقات على المرضعات، وإذا هي تتعلق بمسائل الحمل، فانظر كيف يرتبط القرآن كله بعضه ببعض، ولذلك استنبط علي رضي الله عنه من هذه الآية أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأنه إذا كان الرضاع له سنتان من ثلاثين شهرا فما يبقى إلا ستة أشهر، فإذا ثبت أن أقل الحمل ستة أشهر تفرع عن ذلك مسائل كثيرة، منها: لو أن رجلا تزوج امرأة، ودخل عليها ثم توفي عنها، فاعتدت المرأة عدة الوفاة التي هي الحداد، وبعد أن تمت لها العدة جاء رجل ونكحها، فولدت لأربعة أشهر، فإنه يكون ولدا للزوج الأول وليس ولدا للزوج الثاني، على تفصيل في المسائل؛ لأنه لا يمكن نسبته إلى الماء الثاني، ولا بد بعد جماع الثاني أن نحسب الستة الأشهر، فما وقع من حمل قبل الستة الأشهر فهو منسوب للماء الأول من حيث الأصل، وهكذا مسألة أكثر الحمل، تتفرع عليها مسائل حتى في مسألة الإمكان ودفع الشبهة بزنا المرأة، ولذلك قالوا عن مالك رحمه الله: إنه حملت به أمه أربع سنين، وقالوا: هذا أكثر ما وجد في أقصى الحمل ولذلك يقولون: قد يعلق الجنين ويتأخر وتضعه أمه بعد طول زمان، ومن أعجب ما ذكروه من القصص المشهورة عن عمر رضي الله عنه أن امرأة تزوجها رجل ودخل بها ثم توفي عنها ثم اعتدت عدة الوفاة، وبعد مضي المدة تزوجها رجل ثان، فوضعت الولد لأربعة أشهر أو لثلاثة أشهر، والمرأة معروفة بالصلاح، ومن بيت صالح، ولا يعرف عنها أي ريبة فهي مستقيمة صالحة، فاحتار عمر رضي الله عنه في أمرها، فجمع المهاجرين، فأفتوا أن هذا زنا وأنها ترجم، وجمع الأنصار وأفتوا أنها ترجم؛ لأنها اعتدت عدة الوفاة ومضى زمن إمكان الحمل وبعد ذلك ولدت، ولا يمكن نسبته لزوجها الأول فيما نظره الصحابة، وكان عمر رضي الله عنه محدثا ملهما فإذا أعياه الأمر عند الرجال جمع النساء، فلما وجدهم مجمعين على أنها ترجم -وكان مذهب عمر رضي الله عنه أن الحمل دليل على الزنا، كما في صحيح البخاري عنه في القصة المشهورة في آية الرجم- جمع النساء فقامت امرأة عجوز وقالت: إن هذه المرأة علقت من زوجها الأول، ولما أصيبت بالحزن والفاجعة ركن الجنين في رحمها، فلما تزوجت الثاني انتشت وانتشى الفرج بماء الثاني وجماع الثاني، فولدته، فحمد الله عمر أنه لم يرجم المرأة، وعمل بقولها، ولذا قال العلماء: قد يعلق الجنين ويتأخر، ومن الأطباء المتأخرين من يؤكد هذا ويعلل ذلك بضعف الرحم وغير ذلك من الأمور التي تؤثر في وقت وضع الحمل، فمسألة أقل الحمل وأكثر الحمل مهمة جدا تتفرع عليها مسائل في الطلاق كما يذكره المصنف رحمه الله، وتتفرع عليها مسائل في الحقوق، مثل مسألة شق بطن المرأة إذا كان في بطنها جنين، فلو توفيت وهي حامل وفي بطنها جنين فهل نشق بطنها أو لا نشقه، إن كان الجنين تمت له ستة أشهر فجمهور العلماء على أنه يشق بطنها ويستخرج الجنين، وأنه إذا لم تتم له ستة أشهر فلا يشق بطنها، فهذه كلها من المسائل المترتبة على مسألة أقل الحمل وأكثره. فقبل أن ندخل في تعليق الطلاق على الحمل لا بد أن يعلم ما هو أقل الحمل وأكثر الحمل، بحيث يمكن أن ننسب هذا الحمل لكونه وقع بعد الشرط أو قبل الشرط، فالرجل إذا علق الطلاق على وجود الحمل فله طريقتان: الطريقة الأولى: يعلق الطلاق إن ثبت الحمل، فيقول لزوجه: أنت طالق إن كنت حاملا، فعلق الطلاق على وجه الإثبات، وأثبت الطلاق بثبوت الحمل، فإذا ثبت أنها حامل حكمنا بالطلاق، وإذا ثبت أنها غير حامل حكمنا بعدم وقوع الطلاق، ومن قبل لم يكن عندهم من الآلات والوسائل ما يبين حمل المرأة من عدمه، ولربما انتفخ بطن المرأة بمرض وعلة، فيظن أنها حامل، فلا بد من معرفة بعض الضوابط: ضابط الزمان كما ذكرنا أقل الحمل وأكثر الحمل، وضابط استبراء الرحم، فالمرأة إذا حاضت بعد ذلك القول دل ذلك على أنها ليست بحامل فلا يقع الطلاق عند من يقول: إن الحامل لا تحيض؛ لأن الفرج ينسد بالحمل ويخرج الدم بعد النفاس والولادة. فيقول لها: أنت طالق إن لم تكوني حاملا، وهذا هو النوع الثاني من الصيغ، الأول: صيغة الإثبات والثاني: صيغة النفي، فمعنى ذلك: أنه إذا وجد الحمل فلا طلاق، وإن لم يوجد الحمل وكانت بريئة وخلوا من الحمل فإنها طالق، فإذا: نحتاج إلى معرفة هل هي حامل أم ليست بحامل؟ الطريقة الثانية: يعلق الطلاق على نوع الحمل، هل هو من الذكور أو من الإناث فيقول مثلا: أنت طالق طلقة واحدة إن كان حملك ذكرا وأنت طالق طلقتين إن كان حملك أنثى، فعند ذلك لا بد أن نعرف ما الذي في بطنها، هل هو ذكر أم هي أنثى؟ ولربما خرج اثنان ذكر وأنثى، ولربما خرجت بنتان، ولربما خرج ذكران. ثم تأتينا مسألة الولادة وفيها مشكلة؛ لأنها إذا ولدت الأول صارت مطلقة، ثم إذا جاء الثاني فبمجرد وضع الثاني تصبح أجنبية، لأنها إذا طلقت صارت رجعية، إذا كان طلقة واحدة، فإذا جاء الحمل الثاني ووضعت فإن الطلاق الذي علق على الحمل الثاني لا يقع؛ لأنها قد خرجت من عدتها وأصبحت أجنبية بوضعه، فيختلف الحمل وتختلف المسائل بين الحمل في نوعه، وبين الحمل في خروجه، فنوع العلماء بين مسائل الحمل كحمل، وبين مسائل الولادة كولادة، فعندنا تعليق بالحمل، وتعليق بالولادة. قال رحمه الله: (إذا علقه بالحمل فولدت في أقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف) : إذا قال: إن كنت حاملا فأنت طالق، إن قال هذا الكلام في أول محرم من هذه السنة فإذا وضعت ما في بطنها قبل تمام ستة أشهر فإننا تأكد أنها كانت أثناء التلفظ حاملا، فمثلا: وضعت الجنين في ربيع الثاني، فنتأكد بأن الجنين هذا لا يمكن أن يخرج بهذه الصفة، ولا يكون حملا كاملا إلا ببلوغ ستة أشهر، وإذا ثبت أن عمره ستة أشهر فإنك على يقين أنه أثناء الكلام كانت المرأة حاملا، وهو يقول: إن كنت حاملا فأنت طالق، فأثبت الطلاق بثبوت الحمل، ويثبت الحمل إذا ثبت الزمان الذي يدل على وجوده. إذا: إذا قال لها: إن كنت حاملا فأنت طالق فولدت لدون ستة أشهر فقد تحققنا أنه أثناء تلفظه كانت المرأة حاملا وبينه وبين الله أنه طلق امرأته إن كانت حاملا في تلك الساعة، ولو أنها ولدت بعد الستة أشهر، مثلا: قال لها هذا الكلام في أول محرم، وولدت في رمضان وهذا بعد الستة الأشهر قطعا، فحينئذ يرد الإشكال هل كانت أثناء كلامه حاملا أو لا، هذا يحتاج إلى تثبت، فنسأل: هل وقع جماع بعد قوله: إن كنت حاملا، فإن كان جامعها بعد محرم كأن يكون جامعها في ربيع أو جامعها في ربيع الثاني، نقول مثلا: جامعها في صفر، قال لها: إن كنت حاملا فأنت طالق في أول محرم، ثم في صفر جامعها، وولدت في رمضان فإننا نقع بين احتمالين، إما أن نقول: إنها حملت بالجماع الثاني، وحينئذ لا طلاق؛ لأنه وقع الحمل بعد الشرط والشرط متعلق بأن تكون حاملا في محرم، فلما جامعها بعد محرم وولدت في رمضان والمدة مدة حمل، فالقاعدة: أننا ننسب الحكم إلى أقرب حادث. ومعنى ذلك: أنه إذا كان عندك حادثان: قريب وبعيد، واليقين للقريب تنسب للقريب؛ لأنه ما دام مضت ستة أشهر بعد محرم، ولم تلد، ووضعت بعد ستة أشهر من الجماع الثاني فالغالب على الظن أنه من الجماع الثاني، وهذا لقاعدة: (أن الحكم ينسب لأقرب حادث) ومن فروع هذه القاعدة: إذا نام نومتين، أو ثلاث نومات، نام قبل الفجر، وصلى الفجر ونام بعد الفجر، وصلى الضحى ونام بعد الضحى، وصلى الظهر ونام بعد الظهر، ولم يستيقظ إلا على صلاة العصر ووجد أثر المني في ثيابه، فهل نقول: إنه أمنى في النومة الأخيرة، فلا يلزمه إلا إعادة العصر إن كان صلى، أو هو النوم الذي في الضحى فيلزمه إعادة صلاة الظهر والعصر إن كان قد رآه بعد العصر، أو للنوم الذي بعد الفجر للحكم كذلك، أو للنوم قبل الفجر فيعيد الفجر والظهر والعصر جميعا؟ فننسب ذلك لأقرب حادث؛ لأنه ما دام عندنا عدة احتمالات فإننا نأخذ باليقين، فنحن لا نشك أنه في آخر نومة كان جنبا، ونشك فيما قبل ذلك، والأصل أنه طاهر، وكذلك هنا هل ننسب الحكم لأقرب جماع يمكن أن يتخلق منه الولد، أو ننسبه لأبعد جماع؟ أصبح عندنا أصلان، واليقين أنها زوجته، وتبقى العصمة كما هي؛ للقاعدة التي تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) فإن قلت: إن هذا الولد تخلق بجماع قبل الجماع الثاني، وكان موجودا أثناء الشرط فتطلق المرأة، فنلغي اليقين من كونها زوجة، فهذا خلاف الأصل، فتقول: أقرب حادث هو الجماع الأخير الذي هو قبل وضع الجنين بستة أشهر، ولا ننسب الولد للجماع قبل الشرط، وبناء على ذلك: لا يحكم بكونها طالقا، وهذا على أصح أقوال العلماء -رحمهم الله- وهو شبه مذهب الجمهور: أنه إذا وقع جماع بعد قوله إن كنت حاملا فأنت طالق ومضت أكث تعليق الطلاق بنفي الحمل قال المصنف رحمه الله: [وإذا قال: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق] : (إن لم تكوني حاملا) هذا عكس: إن كنت حاملا، وخلاصة الإثبات كالآتي: قال: إن كنت حاملا فأنت طالق، قالها في أول محرم مثلا، فإن مضى بعد قوله أقل من ستة أشهر فوضعت فقد تحققنا أن الولد كان موجودا أثناء الشرط، وأنها حامل أثناء الشرط فتطلق، وإن ولدت بعد ستة أشهر ففيه تفصيل: إن وقع جماع بعد الشرط وأمكن أن ينسب إليه الولد فلا إشكال فهي غير طالق؛ لأنه الظاهر والقاعدة: (أنه ينسب الحكم لأقرب حادث) فنحكم بكونها امرأة له ولا يحكم بطلاقها، وأما إذا لم يقع جماع فنقول: ما جاوز الستة الأشهر -بشرط أن لا يجاوز أقصى مدة الحمل- فإنه يوجب الحكم بكون الولد كان موجودا؛ لأن الولد تخلق من الجماع، والجماع إنما وقع قبل الشرط، وقلنا: إنه بالعادة والتجربة أنه يمكن أن يبقى الجنين مركونا في البطن حملا أربع سنين، فمعنى ذلك: أنها لو وضعت قبل تمام الأربع سنين فهو ولده، وإذا كان ولده ولم يجامع بعد الشرط فمعنى ذلك أنه ولده من الجماع قبل الشرط، وإذا ثبت أنه ولده من الجماع الذي قبل الشرط، فتحققنا أنها حين الشرط كانت حاملا. أما النفي بأن قال: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق، العكس بالعكس، عكس الأحكام السابقة، أول شيء: قلنا في الإثبات: إذا قال لها: إن كنت حاملا فأنت طالق ووضعت لأقل من ستة أشهر تطلق، وهنا إذا قال: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق ووضعت لأقل من ستة أشهر فلا تطلق، لأنه ثبت بوضعها في أقل من ستة أشهر أنها كانت حاملا وقت قوله ذلك، فحينئذ لم يتحقق الشرط، لأن الطلاق عند تعلقه بالإثبات يفتقر للإثبات، وعند تعلقه بالنفي يفتقر إلى النفي، والنفي إن لم تكوني حاملا فأنت طالق غير موجود؛ لأنها كانت حاملا حينئذ، ففي حالة الإثبات إن ولدت بدون ستة أشهر طلقت وفي حال النفي إن ولدت بدون ستة أشهر لم تطلق؛ لأن المسألة الأولى ثبت فيها موجب الطلاق فحكمنا بطلاقها، وفي المسألة الثانية انتفى موجب الطلاق فلم يحكم بطلاقها، فلو جامعها خلال الستة الأشهر وأمكن أن ينسب الولد للجماع الثاني فوضعت الولد في رمضان، وكان قد قال لها: إن لم تكوني حاملا، في المحرم، وجامعها في صفر فإننا نحكم بأن الولد من صفر، وأنها كانت في محرم خلوا من الحمل، فتطلق من حين قوله: إن لم تكوني حاملا، عكس الإثبات، فهو إذا قال لها: إن لم تكوني حاملا فولدت من دون ستة أشهر تحققنا أنها كانت حاملا، وإن مضى أكثر من ستة أشهر وجامعها بعد ذلك جماعا يمكن أن ينسب إليه الولد فحينئذ ثبت أنها لم تكن حاملا فتطلق عليه منذ أن تلفظ بالشرط، لكن لو جامعها جماعا ثانيا بعد الشرط، ووضعت لأربعة أشهر بعد الجماع الثاني فإنها لا تطلق لأن الجماع الثاني لا ينسب له ولد ويكون حينئذ الولد موجودا أثناء الشرط ومنسوبا للجماع الذي قبل الشرط، فإذا نسبت الولد للجماع الذي قبل الشرط فحينئذ كانت حاملا، وهو يقول: أنت طالق إن لم تكوني حاملا فلا تطلق، فالنفي عكس الإثبات، فإذا عرفت الإثبات عرفت النفي. الاستبراء بحيضة عند احتمال وقوع الطلاق المعلق بنفي الحمل في البائن قال المصنف رحمه الله: [وإن قال إن لم تكوني حاملا فأنت طالق حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن] : (حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن) إن لم تكوني حاملا فأنت طالق، فإن حاضت بعد ذلك فقد ثبت عندنا أنها لم تكن حاملا؛ لأن الحامل -كما اختاره المصنف وطائفة من العلماء- لا تحيض، واستدلوا بقوله تعالى: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} [هود:71] فمن العلماء من قال من أسماء الحيض: الضحك، واختاره بعض أئمة اللغة، وإن كان بعض المفسرين ضعف هذا القول واختار غيره، قالوا: ضحكت: بمعنى حاضت {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب * قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز} [هود:71 - 72] ما قالت: أألد وأنا آيسة، لأنه نزل معها الحيض، قالوا: صار قولها: يا ويلتا أألد وأنا عجوز قرينة على أن معنى ضحكت إنما هو الحيض، وليس ضحك التعجب؛ لأنها وجدت ما يدل على إمكان الحمل منذ خروج الدم، وهذا من قدرة الله عز وجل وهو على كل شيء قدير. فدلت الآية على أنه إذا وجد الحيض أمكن الحمل، وعلى ذلك: ينقطع الحمل بانقطاع الحيض، وقالوا على هذا أيضا: ينقطع الحيض بوجود الحمل، ويتعلق كل منهما بالآخر، فالشاهد: أن المرأة إذا قال لها: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق احتمل أنها خلو، وإذا كانت خلوا أي: ليست بحامل فإنها حينئذ تكون طالقا عليه منذ أن تلفظ، فإذا كان الطلاق طلاقا بائنا بأن تكون هي الطلقة الأخيرة وقد طلقها طلقتين من قبل وبقيت طلقة واحدة فحينئذ ينبغي أن يحتاط للاحتمال؛ لأنه لو جامعها لاحتمل أن تكون حاملا، فيكون جامع الأجنبية المحرمة. أما لو كانت الطلقة رجعية وجامعها فالرجعية فيها وجه أنها في حكم الزوجة، فالأمر أخف، وهذا الذي جعل المصنف يفرق بين الطلقة الرجعية والطلقة البائنة. المسألة تقول: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق، فأثبت الطلاق بنفي الحمل فإذا أثبت الطلاق بنفي الحمل وكانت المرأة لم يبق من طلاقها إلا تطليقة واحدة فإنه يحتمل أنها طالق فلا يجوز له أن يغرر بنفسه بجماع امرأة أجنبية منه، فلا بد أن نتحقق ونتأكد أنها حلال؛ لأنه بمجرد ذكره لصيغة الشرط على هذا الوجه جعل امرأته مترددة بين كونها حلالا له إذا كانت حاملا، وبين كونها حراما عليه إذا كانت حائلا أي: غير حامل، فنحتاج إلى الاحتياط، وهذا الاحتياط صيانة للفروج فيجب عليه أن يستبرئها بحيضة فإن ظهر أنها غير حامل طلقت، وإن ظهر أنها حامل لا تطلق. قال المصنف رحمه الله: [وهي عكس الأولى في الأحكام] : كما ذكرنا. تعليق الطلاق بنوع الحمل وقال رحمه الله: [وإن كان مكانه (إن كان حملك أو ما في بطنك) لم تطلق بهما] : وإن كان حملك ذكرا فطلقة، وإن كان حملك أنثى فطلقتين بمعنى: إن كان الرحم اختص إما بذكر وإما بأنثى، وهذه الصورة يسمونها: صورة المحض، يعني: إن كنت تحملين ذكرا فطلقة، وإن كنت تحملين أنثى فطلقتين، فكأنه رتب الطلاق على الوجود المتمحض، يعني: أطلقك طلقة إن حملت ذكرا محضا، وأطلقك طلقتين إن حملت أنثى محضا، فإن حملت الاثنين لم يتحقق الشرط، لأن مراده: إذا خلص الرحم بواحد منهما، فلا يقع الطلاق بمجوعهما؛ فيفرق بين الأمرين، للفرق بين الصيغتين. فقوله: إن كنت حاملا بذكر فطلقة، وإن كنت حاملا بأنثى فطلقتين فإنه جعل الطلاق مرتبا على وجود الذكر والأنثى، سواء كانا موجودين معا، أو كانا موجودين بانفراد، ولا يقصد التمحض، وليست الصيغة مما تحتمل التمحض. لكن إن قال: (إن كان حملك أو ما في بطنك لم تطلق بهما) . لقصد المحضية، أي: بيني وبين الله إن كان هذا الحمل أنثى فطلقتين، وإن كان ذكرا فطلقة فحينئذ ننظر إلى الحمل متمحضا بالذكورة ومتمحضا بالإناث. فهذا الفرق بين المسألتين، في المسألة الأولى جعل الأمر مرتبا على وجود الذكر ووجود الأنثى بغض النظر عن المحضية وعدمها، وفي المسألة الثانية العكس. الأسئلة كيفية وقوع الطلاق المعلق بالحيض إذا كانت المرأة ليس لها عادة منضبطة السؤال لو كانت المرأة ليست لها عادة بأن كانت يأتيها الدم مرة يومين ومرة ثلاثا أو أربعة أيام فعلق الطلاق بالحيضة الكاملة، أو نصف الحيضة فكيف يقع الطلاق في هذه الحالة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالمرأة إذا لم تكن لها عادة فإنها تنتقل إلى التمييز، والتمييز المراد به أن تميز الدم: تميزه بلونه، وتميزه برائحته، وتميزه بغلظته ورقته، وبوجود الألم؛ لأن دم الحيض يخرج من قعر الرحم، فيكون حارقا مؤلما ودم الاستحاضة يخرج من عرق العاذل أو العاند على حسب الروايات فيميز كما قال بعض العلماء: باللون والريح وبالتألم وكثرة وقلة ميز الدم أي: ميز دم الحائض بلونه، كأن يأتيها في اليوم الأول أحمر غامقا شديدا، ثم ينقطع بعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة أيام ويصير أحمر فاتحا، فأيام الأحمر الغامق يثبت الحيض به، وأما أيام انفتاح الدم وضعفه فيكون استحاضة، واستدلوا لذلك بالحديث الذي في السنن -ومن العلماء من حسن إسناده- وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) وقوله: (يعرف) أي: له عرف ورائحة، وعلى هذا قالوا: إنه يدل على أن التمييز معتبر، فتميزه وتبني على التمييز، ويكون حكمه حكم المميزات، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (444) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [5] تعليق الطلاق على ولادة الذكر أو الأنثى، وتعليق عدد الطلاق بولادة أحدهما؛ كل ذلك بين أحكامه العلماء، ويختلف الحكم بولادة التوأم في هذه المسائل سواء كانا ذكرين أو أنثيين أو ذكرا وأنثى. وكذلك تعليق الطلاق على الطلاق فيه مسائل كثيرة؛ بين العلماء رحمهم الله أحكامها بالتفصيل. تعليق الطلاق على الولادة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى فولدت ذكرا ثم أنثى حيا أو ميتا طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به] هذا الفصل وصفه بعض العلماء بتعليق الطلاق بالولادة، والناس تختلف عباراتهم والجمل التي يستخدمونها في تعليق الطلاق، ولما كانت الجمل تشتمل على بعض الأمور المهمة التي يختلف فيها الحكم مع اختلاف الأحوال فإن العلماء -رحمهم الله- يعتنون بذكر المسائل فيها، لكي يكون في ذلك رياضة للذهن، ومعونة لطالب العلم على استيعاب هذه الصور وأمثالها، وقد بينا ذلك فيما تقدم في مسائل التعليق. وتعليق الطلاق بالولادة: أن يرتب الطلاق على وجود الولادة، وقد يكون الطلاق متوقفا على معرفة نوعية الولد الذي تلده المرأة، فتارة يقول: أنت طالق إذا ولدت ذكرا، فيجعل الطلاق مرتبا على كون المولود ذكرا، وتارة يقول: إذا ولدت أنثى، فيكون الطلاق مقيدا بولادة الأنثى، وتارة يخالف في عدد الطلاق باختلاف نوعية المولود، فيقول: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة وإن ولدت أنثى فطلقتين، وتارة يقول: إن كان الذي في بطنك ذكرا فأنت طالق طلقة وإن كان الذي في بطنك أنثى فأنت طالق طلقتين، وفي القديم يتوقفون في مثل هذه الحالة إلى الولادة، فيتوقف العالم والمفتي عن الفتوى في الطلاق إلى خروج الولد، أو يعطي الحكم مرتبا على حسب نوعية الولد، لاختلاف عدد الطلاق باختلافه. والولادة مأخوذة من الولد، والولد في لغة العرب يطلق على الذكر والأنثى، فإذا قيل: ولد، شمل الذكر والأنثى، وإن كان بعض الناس يخصونه بالذكور، ولكن هذا خلاف الأصل اللغوي، وخلاف إطلاق القرآن كما قال سبحانه وتعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] فجعل الولد شاملا للذكر وللأنثى، وسميت الولادة ولادة؛ لأنها تشتمل على الذكور أو على الإناث وهذا في الغالب، وقد تشتمل على الخنثى الذي لا يعرف أذكر هو أو أنثى؟ لكنه نادر الوقوع، والحكم للغالب، وقولهم: يعلق الطلاق على الولادة أي: على الإنجاب وإخراج الولد، ويختلف الحكم بحسب اختلاف هذا الإخراج وما علق عليه الطلاق من صفات. ومناسبة هذا الفصل للذي قبله: أننا كنا نتحدث عن تعليق الطلاق بالحمل، وبينا المسائل المتعلقة بتعليق الطلاق على الحمل، وبعد أن فرغ -رحمه الله- من بيان مسائل تعليق الطلاق بالحمل شرع في بيان المسائل المتعلقة بالولادة، وهذا من باب الترتيب؛ لأن الولادة تأتي بعد الحمل، والناس يعلقون الطلاق على الحمل، ويعلقون الطلاق على الولادة، وقد تتصل أحكام تعليق الطلاق بالولادة بأحكام تعليق الطلاق بالحمل، كما لو قال لها: إذا كان حملك ذكرا فأنت طالق، وإذا كان حملك أنثى فأنت لست بطالق، أو قال لها: إن كان الذي في بطنك ذكرا فأنت طالق. فحينئذ ننتظر إلى الولادة، فنحكم بوقوع الطلاق إن كان ذكرا من حين تكلم به، وتكون قد خرجت من عصمته وذلك بانتهاء عدتها بالولادة؛ لأننا نحكم بطلاقها منذ أن تلفظ بقوله: إن كان الذي في بطنك ذكرا فأنت طالق طلقة. فحينئذ إذا ولدت ذكرا علمنا أن الطلاق قد وقع من قوله: إن كان الذي في بطنك ذكرا، وقد كان الذي في بطنها ذكرا، فحينئذ تطلق من حين تلفظه، ثم تبقى في عدتها إلى أن تخرج من العدة بولادة الولد؛ لأن المرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع حملها، فنحكم بخروجها من العدة بمجرد خروج الذكر. تعليق عدد الطلقات بنوع المولود قوله: (إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى) . قال: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكرا، وأنت طالق طلقتين إن ولدت أنثى، فحينئذ اختلف عدد الطلاق باختلاف نوعية المولود، فالطلقة لازمة له إن كان الذي ولدته ذكرا، والطلقتان لازمة له إن كان الذي ولدته أنثى، وقد يعكس فيجعل الأكثر للذكر والأقل للأنثى، والحكم سواء، لكن من حيث التفصيل في الوقوع يختلف، فهو إذا قال لها: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين؛ فينبغي أن يعلم أن الطلاق موقوف على الولادة، فلا نطلق حتى تقع الولادة، فإذا حصلت الولادة حكمنا بوقوع الطلاق، إن كان ذكرا حكمنا بطلقة، وإن كان أنثى حكمنا بطلقتين. ولا يخلو الذي في بطن المرأة من حالتين: إما أن يكون مولودا واحدا وإما أن يكون أكثر من مولود، فإن كان الذي في بطنها مولودا واحدا؛ فإن أخرجته ذكرا فلا إشكال؛ وإن أخرجته أنثى فلا إشكال؛ لأنك ستحكم بوقوع الطلاق بمجرد الولادة، ثم تفصل في عدد الطلاق على حسب نوعية المولود، هذا إذا قال لها: إن كان ذكرا، إن كان أنثى، لكن لو قال لها: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكرا وسكت، فنتوقف على شيئين: على الولادة، وأن يكون المولود ذكرا، فإن ولدت أنثى فلا طلاق؛ لأنه قيد الطلاق فيما بينه وبين الله عز وجل بكون المولود ذكرا فلا يقع إلا إذا وقع الذي اشترطه. إذا إذا قال لها: إن ولدت ذكرا، إن ولدت أنثى. وحدد الذكر أو الأنثى وجعل الطلاق لواحد منهما كأن يقول: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، أو قال: إن ولدت أنثى فأنت طالق طلقة فلا تطلق عليه إلا بوجود الذكر إن اشترطه أو الأنثى إن اشترطها، لكن إذا جمع بين الذكر والأنثى في وقوع الطلاق فقال: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين حينئذ تنظر في ولادتها، وتخالف في حكم الطلاق من حيث العدد بحسب المولود. تعليق ذات الطلاق بنوع المولود إذا من حيث الأصل إذا ولدت مولودا واحدا وعلق الطلاق على ولادتها فله صورتان: إما أن يعلق الطلاق على جنس واحد ذكرا أو أنثى فلا نطلق إلا بوجود الجنس الذي علق الطلاق عليه، مثل أن يقول: إن ولدت ذكرا فأنت طالق مفهوم اللفظ: أنك إن ولدت أنثى فلست بطالق، فننظر إن كان الذي ولدته ذكرا طلقنا، وإن كان الذي ولدته أنثى فلا طلاق، هذا في حال تردد الطلاق بين الوقوع وعدم الوقوع في حال وجود الحمل الواحد، يعني: ذكرا أو أنثى، وأما إذا قال: أنت طالق إن ولدت ذكرا طلقة وأنت طالق طلقتين إن ولدت أنثى، فحينئذ الطلاق سيقع سيقع لكنه يختلف من حيث العدد. فالفرق بين الصورة الأولى والصورة الثانية، أن الصورة الأولى: لا يقع الطلاق إلا إذا تحقق ما ذكره من كونه ذكرا أو كونه أنثى، وفي الصورة الثانية سيقع الطلاق سيقع، إن ولدت ذكرا طلقة، وإن ولدت أنثى طلقتين، فحينئذ إما أن تلد ذكرا وإما أن تلد أنثى، فإذا ولدت وليس هنا أكثر من واحد، فإن ولدت ذكرا وقع الطلاق، وإن ولدت أنثى وقع الطلاق، لكن يختلف العدد بحسب ما جعل في شرطه للأنثى من عدد وبحسب ما جعل في شرطه للذكر من عدد. ففي الصورة الثانية يتنوع الحكم ويختلف بحسب اختلاف نوعية المولود، فإن جعل الأكثر من الطلاق للأنثى حكمنا بالطلقتين إن كان المولود أنثى، وحكمنا بطلقة إن كان المولود ذكرا، والعكس بالعكس، هذا في قوله: إن ولدت ذكرا أو أنثى وخالف في العدد، وكان المولود واحدا. الحكم إذا علق الطلاق بنوع وولدت توأمين لكن لو قال لها: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين وولدت توأمين، ففي الصورة الأولى إذا قال لها: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكرا، ننظر في التوأم، فلا نوقع الطلاق إلا إذا كان ذكرا، فلو كان التوأم صبيتين فلا طلاق؛ لأنه جعل الطلاق مرتبا على الذكر، وبينه وبين الله أن امرأته طالق إن ولدت الذكر ولم تلد ذكرا، وأما إذا علقه على الجنسين فقال: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكرا وطلقتين إن ولدت أنثى فأخرجت توأمين، إما أن تخرجهما ذكورا أو تخرجهما أناثا أو تخرجهما ذكرا وأنثى، فإذا كانت أخرجته ذكرا وقال لها: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكرا وطلقتين إن ولدت أنثى نحكم بالطلقة الأولى بخروج الذكر الأول، وبمجرد خروجه يقع الطلاق، فتبقى المرأة معتدة بعد خروجه، فإن خرج المولود الثاني وهو الذكر الثاني أخرجها من عدتها ووقع الطلاق الثاني على امرأة خلو من نكاح؛ لأنها أجنبية عنه، فإنها بمجرد إخراج المولود الثاني أصبحت خارجة من عدتها، والطلاق الثاني لا يقع إلا بعد خروج الذكر الثاني، فخرج الذكر الثاني فأخرجها من عصمته وحينئذ جاء طلاقه ولم يصادف محلا موجبا للوقوع. على هذا نقول: إن قال لها: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكرا، وطلقتين إن ولدت أنثى، وحملت بذكرين فولدتهما وكانت الولادة متعاقبة كما هو المعروف حكمنا بالطلقة الأولى بالذكر الأول، وحكمنا بكونها معتدة قبل خروج الذكر الثاني؛ لأن كل طلاق له عدته إلا ما استثناه الشرع، فنحكم بكونها معتدة قبل خروج التوأم الثاني، فلما خرج التوأم الثاني خرجت من عدة طلاق الأول؛ لأن الله يقول: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4] فلما خرجت من العدة؛ والطلاق الثاني لا يقع إلا بعد تمام الولادة؛ لأنه قال: أنت طالق إن ولدت ذكرا، فيأتي الطلاق الثاني وهي أجنبية فلا يقع الطلاق الثاني فتطلق طلقة واحدة في هذه المسألة، والعكس في الأنثى، إن قال لها: أنت طالق إن ولدت أنثى طلقتين فولدت صبيتين فإن الطلقتين تقع بالأنثى الأولى ثم تخرج من العدة بالأنثى الثانية فلا تصادف الطلقة الثالثة محلا، فلا تبين وإنما تكون أجنبية مطلقة طلقتين فقط. إذا: في حال حملها بالتوأم إن تمحض ذكورا طلقت بالذكر الأول وبانت بالذكر الثاني ولم يقع طلاقها بالثاني، وهكذا في الأنثى، واختلف الحكم في عدد الطلاق بحسب ما علقه على الذكر والأنثى، هذا إذا اتحد التوأم، وكان ذكرا أو أنثى، لكن لو قال لها: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكرا، وأنت طالق طلقتين إن ولدت أنثى، وحملت بتوأمين ذكر وأنثى، فإن حملت بتوأمين أحدهما ذكر والثاني أنثى فلا يخلو إما أن يخرج أحدهما قبل الآخر، وإما أن يخرجا مع بعضهما دفعة واحدة، فإن خرج الذكر طلقت طلقة واحدة، وأصبحت أجنبية بخروج الأنثى بعده؛ لأنها قد وضعت حملها فجاء طلاق الأنثى -وهما الطلقتان- على أجنبية، مثل ما ذكرنا في تمحض الذكور وتمحض الإناث، فنحكم بكونها طالقا طلقة إن سبق الذكر وطلقتين إن سبقت الأنثى ولا نتبع الطلقة الأولى في الذكر ولا نتبع الطلقتين في الأنثى؛ لأنها تكون أجنبية بولادة التوأم الثاني، فنوقع الطلاق بالأول، ونخرجها من عصمته بولادة التوأم الثاني ثم نفصل في الأول على حسب ما رتب من العدد، إن طلقة فطلقة وإن طلقتين فطلقتين، لكن لو أنهما خرجا مع بعضهما، وقد قال: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن كان قد قصد أن يكون الولد واحدا منهما، إن ولدت ذكرا متمحضا أو ولدت أنثى متمحضة فحينئذ لا تطلق؛ لأنها لم تلد ذكرا محضا ولم تلد أنثى محضة؛ لأنه ما قصد الجمع وإنما قصد أن يكون متمحضا بالذكورة أو متمحضا بالأنوثة، فحينئذ لا تطلق إلا إذا تمحض الذي في بطنها مولودا ذكرا أو مولودا أنثى، هذا إذا كان قوله بصيغة التمحض، وقصد أن يكون مولودها ذكرا أو يكون مولودها أنثى دون أن يكون معه شريك، فلا تطلق؛ لأنه لم يتحقق الشرط الذي بنى عليه تعليقه، لكن لو قصد مطلق الولادة وقصد أنها إذا ولدت ذكرا أو أنثى مجموعين أو متفرقين فإنها تطلق ثلاثا، طلقتان بالأنثى وطلقة بالذكر، ففي حال كونه يرتب الطلاق على الأنثى طلقتين وعلى الذكر طلقة ويخرجان مع بعضهما، إن قصد تمحض الولادة ذكرا أو تمحض الولادة أنثى وصرح بذلك فحينئذ لا تطلق؛ لأنها لم تضع ولدا ذكرا ولم تضع ولدا أنثى وإنما وضعت الاثنين، وهذه المسألة مشهورة حتى في الأيمان، لو حلف وقال: والله لا ألبس ثوبا من غزل فلانة، ثم لبس ثوبا فيه شيء من غزل فلانة، فالثوب ليس كله من غزلها، فهل ننظر إلى تمحض الثوب من غزلها؟ أو ننظر إلى مطلق الوجود؟ فإذا كنا ننظر إلى مطلق الوجود فحينئذ يحنث في يمينه، وإن نظرنا إلى التمحض فإنه لا يحنث في يمينه، وكلاهما وجهان في مذهب الإمام أحمد رحمه الله كما حكاه القاضي أبو يعلى وأشار إلى ذلك الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني. هذا حاصل الكلام في مسألة اختلاف عدد الطلاق بالذكورة والأنوثة. (إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى، فولدت ذكرا ثم أنثى حيا أو ميتا، طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به). قال: (ولدت ذكرا ثم أنثى) لاحظ كلمة (ثم) وهي تقتضي الترتيب، إذا ولدت الذكر ثم ولدت بعده الأنثى؛ نطلقها بحسب السابق ذكرا كان أو أنثى، ثم نحكم بكونها معتدة، ثم نخرجها من العدة بمجرد وضعها للثاني، ونحكم بأن الطلاق الثاني لم يصادف محلا، وهذا بيناه وفصلناه، لكن لو أنه قال لها: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكرا، وطلقتين إن ولدت أنثى، ثم ولدت ذكرا فلما جاءها في وضعها وعنائها فقالت له: هكذا طلقتني يا فلان، قال: راجعتك، فراجعها، فجاء المولود المبارك الثاني فحينئذ تكون في عصمته ويأتي طلاق الثاني موجبا للبينونة، إذا راجعها قبل خروج الثاني فإننا نحكم بوقوع طلاق الثاني؛ لأن سقوط طلاق الثاني محله أن تكون أجنبية ولم تقع مراجعة، أما لو راجعها وعادت إلى عصمته فإذا خرج المولود الثاني فإنه يوجب الطلاق. (حيا -كان المولود- أو ميتا) لأنه قال: إن ولدت، والولادة تصدق بمجرد الخروج، فإذا أخرجته حيا فهو مولود وإن أخرجته ميتا فهو مولود؛ لأن الولادة تقع على مطلق الإخراج، لكن إذا أخرجته ميتا ففيه تفصيل: إذا كان كامل الخلقة فلا إشكال ويحكم بوقوع الطلاق، وأما إذا كان ناقص الخلقة، فهذه مسألة خلافية، بعض العلماء يقول: كل ما تخرجه المرأة وتسقطه من رحمها قبل تمام خلقته وفيه صورة الخلقة فإنه يتبعه أثر المولود في مسائل، منها: الدم، يعني: لو أنها أسقطت بعض الخلقة، وخرج معها الدم بعد إسقاطه أربعين يوما، فهل نقول: يأخذ حكم المولود التام فيكون الدم دم نفاس؟ أو نقول: إن الإسقاط قبل تمام الخلقة لا يعتبر نفاسا فلا تأخذ حكم النفاس؟ والذي قواه غير واحد وانتصر له غير واحد من العلماء: أنها إن وضعت شيئا فيه صورة الخلقة أنها تأخذ حكم النفساء، وعلى هذا فيكون دمها آخذا حكم دم النفاس، ومن هنا تتفرع مسألة وقوع الطلاق؛ لأنها قد ولدت، والولادة تصدق على إخراج الحمل، وحينئذ قالوا: إنه يستوي في ذلك أن يكون تام الخلقة أو ناقص الخلقة، وبعض العلماء يشترط تمام الخلقة، ثم يبقى الإطلاق في كونه حيا أو ميتا على التفصيل الذي ذكره المصنف رحمه الله. (طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به) (طلقت بالأول) لأن بينه وبين الله أنها إذا وضعت فهي طالق، وقد وضعت مولودها فهي طالق، (وبانت بالثاني) أي: أنها إذا طلقت الطلقة الأولى أو الطلقتين إن كان السابق أنثى فإن المولود الثاني يخرجها من عصمة الرجل؛ لأنها قبل ولادة المولود الثاني في عدتها، وكل امرأة حامل إذا وضعت حملها خرجت من عدتها على ظاهر نص التنزيل: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4] فتصبح أجنبية بوضع الثاني، فإن أصبحت أجنبية بوضع الثاني فلا يقع عليها الطلاق الثاني على التفصيل الذي تقدم في حال التمحض أو حال الاختلاف. الحكم إذا علق الطلاق بنوع وولدت توأمين ولم ندر من السابق منهما قال المصنف رحمه الله: [وإن أشكل كيفية وضعهما فواحدة] أنت تلاحظ أن المصنف جاء بمسألة إذا قال: إن كان ذكرا، إن كان أنثى، وما إذا سبق أحدهما وتأخر الثاني، ولم يتكلم على بقية المسائل التي أشرنا إليها؛ لأن العلماء عندهم أشياء بدهية معروفة لا ينبهون عليها، خاصة في المختصرات، سواء كانت من النظم أو النثر، وهم يذكرون المسائل المشكلة والمسائل التي تكون أصولا لغيرها؛ لأنه حينما نبهك هنا على مسألة الاختلاف فقد وضع لك الأصل في حال التمحض الذي هو أخف حالا من حال الاختلاف. في هذه المسألة: إذا قال لها: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، وكان في بطنها توأما ذكر وأنثى، فحينئذ يرد السؤال إن سبق أحدهما الآخر ولم نعلم هل السابق الذكر أو الأنثى؟ فهل نحكم بطلقة أو نحكم بطلقتين؟ هو قال لامرأته: إذا ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة وإذا ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين فوضعت توأمين، سبق أحدهما الآخر، وأحدهما ذكر والآخر أنثى، فهل نقول: إنها تطلق طلقة واحدة أو نقول: تطلق طلقتين؟ وقد ذكرنا أنه إذا سبق أحدهما فالطلاق للسابق، فإن سبق الذكر فطلقة وإن سبقت الأنثى فطلقتان، فبالتأكيد أنه سبق أحدهما، ولكن المرأة أثناء نفاسها لم يكن عندها أحد، أو وضعت في ظلام وأخرجت الأول ثم الثاني، أو وضعت وعلمت أن الأول أنثى والثاني ذكر أو العكس ثم نسيت، أو التي وضعت كانت لا تعي ولا تتنبه وجاءت التي تقوم على ولادتها فأخرجت ذكرا وأخرجت أنثى ولم نعلم هل الذي سبق الذكر أم الأنثى؟ العلماء -رحمهم الله- عندهم قاعدة تقول: (اليقين لا يزال بالشك) ، فإذا ولدت المرأة توأمين متعاقبين مختلفين، بهذين الشرطين: أن يكونا توأمين، وأن يكونا متعاقبين، أي: تلد الأول ثم الثاني بخلاف ما إذا ولدتهما مع بعضهما، إذا ولدت توأمين متعاقبين، وكان طلاقها مختلفا بحسب اختلاف التوأمين جنسا، بأن يكون طلقة للذكر وطلقتين للأنثى أو العكس، طلقتان للذكر وطلقة للأنثى، وقد تأكدنا أن أحدهما سبق، فعند العلماء قاعدة، يقولون: نحن لا نشك في وقوع طلقة واحدة، أي: متحققون وعلى يقين أنها قد طلقت طلقة واحدة، وهذا ما فيه إشكال؛ لأنه إما أن يكون سبق الذكر وإما أن تكون سبقت الأنثى، والذكر يوجب طلقة والأنثى توجب طلقتين، فهناك طلقة لا إشكال في وقوعها، وهناك طلقة محتملة، حيث يحتمل أن الذي سبق هو الأنثى فتكون قد طلقت طلقتين وتأخر الذكر الذي يوجب الطلقة أو يكون الأمر بالعكس، بأن يكون سبق الذكر وتأخرت الأنثى فوقعت طلقة ولم تقع الطلقة الثانية؛ لأن الأنثى لا طلاق لها؛ لأن المرأة قد بانت بخروجها، فقالوا: اليقين عندنا طلقة والشك في الطلقة الثانية، فنقول: اليقين لا يزال بالشك، والأصل عدم وقوع الطلاق حتى يدل الدليل على وقوعه، فنحن ليس عندنا أمارة ولا غلبة ظن بسبق أحدهما، فتطلق طلقة واحدة، وهذا في حال ما إذا تحققنا أنه سبق أحدهما -بمعنى: التعاقب- ويكون قد خالف في عدد الطلاق، لكن لا تقع هذه المسألة إلا إذا حصل الشك، إذا شك في الذي سبق هل الأنثى أو الذكر؟ أما لو استطعنا أن نميز، ووجدت قرينة تدل على السبق، فحينئذ نحكم بالقرينة، مثال ذلك: لو أن المرأة دهمها الطلق فقذفت بالأول ثم قذفت بالثاني، فلما قذفت بالثاني حملته من بجوارها، فحينئذ الأول المتلطخ يمكن أن يعلم أو يعرف أنه الذي سبق فننظر فيه: إن كان ذكرا فذكر وإن كان أنثى فأنثى، فهنا علامة، إما أن يكون موضوعا على الأرض والثاني حملته من تقوم على ولادتها، أو يكون المكان مختلفا فوضعت الأول ثم نقلت إلى مكان آخر فوضعت الثاني، فنعلم أن الذي ولد في الغرفة الأولى هو السابق والذي في الغرفة الثانية هو اللاحق، فحينئذ إذا وجدت أمارة أو علامة تدل على سبق أحدهما على الآخر حكم بذلك، أو بالصوت الذي هو الصراخ، كأن تكون ولدت وكان الأول لا صوت له فوجد ميتا، والثاني صرخ، فنعلم أن الحي هو الثاني، فإن كان ذكرا احتسبت الطلقتان بالسابق وهو الأنثى، والعكس بالعكس. فإذا وجدت قرائن أو أمارات أو علامات تدل على سبق أحد المولودين للآخر فإنه يحكم بهذه العلامات، فمحل التفصيل أن يستويا ولا يمكن التمييز، أما إذا أمكن التمييز فإنه يحكم به، والقاعدة الشرعية تقول: (الغالب كالمحقق) ، فغلبة الظن والشيء الغالب الوقوع نحكم به، وما دام أنه غلب على ظننا -بهذه الأمارات والعلامات- أنه السابق حكم بذلك واعتد به. تعليق الطلاق على الطلاق قال رحمه الله تعالى: [فصل: إذا علقه على الطلاق ثم علقه على القيام أو علقه على القيام ثم علقه على وقوع الطلاق فقامت طلقت طلقتين فيهما] يقول: إن طلقتك فأنت طالق وإن قمت فأنت طالق، أي: علق على الطلاق وعلق على القيام، فإذا علق على الطلاق وقال: إن طلقتك فأنت طالق؛ فقدم الطلاق على القيام فإنها إذا قامت تطلق طلقة بالقيام ثم طلقة ثانية بقوله: إن طلقتك فأنت طالق، لأنه قال لها: إن طلقتك فأنت طالق ثم قال: إن قمت فأنت طالق، إن قعدت فأنت طالق، إن خرجت فأنت طالق؛ فخرجت أو قعدت أو قامت حكم بطلقتها الأولى لوجود صفة الخروج أو القيام أو القعود، وحكم بالطلقة الثانية لأنه جعل بينه وبين الله أن يطلقها إن كان وقع طلاقه عليها، وقد وقع طلاقه عليها بوجود الشرط، وحينئذ نحكم بأن التعليق الأول وهو قوله: إن طلقتك فأنت طالق، موجب لوقوع الطلاق الثاني. على هذا: إذا قال لها: إن طلقتك فأنت طالق، يستوي أن يطلقها طلاقا منجزا أو طلاقا معلقا، فأي رجل يقول لامرأته: إن طلقتك فأنت طالق، فأي طلاق يقع بعد هذه الجملة يتبع بطلاق ثان لمكان التعليق، فأصبح الطلاق يحمل على الطلاق؛ لأنه فيما بينه وبين الله عز وجل قد طلق امرأته وهو مطلق لامرأته إن طلقها، فنقول: إذا وقع القيام بعد اشتراطها وتعليقه للطلاق على تطليقها؛ فإننا نحكم بكونها طالقا بالقيام أولا، ثم نحكم بطلاق التعليق على الطلاق بعد وقوع الطلاق المعلق على القيام. قال رحمه الله: (إذا علقه -أي: الطلاق- على الطلاق) ومثال ذلك: أن يقول: أنت طالق إن طلقتك، (ثم علقه على القيام) يعني: علق الطلاق على القيام، فإنها تطلق طلقتين إذا قامت، فالقيام أوجب طلقة بالتعليق الثاني، وأوجب تطليق القيام طلقة بالتعليق الأول، إذا قال لها: إن طلقتك فأنت طالق وإن قمت فأنت طالق فتطلق بالقيام طلقة وتطلق طلقة ثانية بوجود الشرط من كونه مطلقا لها، إذا: قوله: إن طلقتك فأنت طالق يستوي فيه أن يطلقها منجزا أو يطلقها معلقة. (أو علقه على القيام ثم علقه على وقوع الطلاق). (علقه على القيام) فقال لها: إن قمت فأنت طالق، وإن وقع مني طلاق فأنت طالق، فحينئذ علق على الوقوع ليس على التطليق، وفرق بين التعليق على التطليق وبين وقوع الطلاق، هناك فرق بين الأمرين، فإنه إذا قال: إن طلقتك فأنت طالق فمراده إن وقع منه طلاق، فهذا يضاف للمستقبل ولا يضاف للماضي حتى لا تشكل علينا المسائل الآتية، إن طلقتك فأنت طالق، يعتبر تعليقا مسندا للمستقبل، بدليل أنه لو كان قد طلقها من قبل فإنها لا تطلق؛ لأنه يقول: إن طلقتك، والكلام مضاف إلى المستقبل، فلا يقع الطلاق فيما مضى ويقع فيما يأتي، فلو أنه قبل هذا التعليق علق الطلاق على قيام أو قعود أو جلوس فهذا مسند إلى الماضي وسيأتي، وإنما يؤثر في هذه الصيغة: (إن طلقتك) أن يكون مضافا إلى المستقبل، وأن يكون تعليقه للطلاق بعد وجود التعليق على الشرط، يعني: على كونه مطلقا لها. بناء على هذا: إذا قال لها: إن قمت فأنت طالق، ثم قال: إن طلقتك فأنت طالق؛ فحينئذ لا نطلق إلا إذا وقع طلاق في المستقبل، فلو قامت طلقت بالتعليق الأول ولم تطلق بالتعليق الثاني؛ لأن التعليق الأول سابق للتعليق الثاني، والتعليق الثاني متعلق بما يقع من الشروط بعد تطليقه، وإنما طلقها قبل التعليق الثاني. الآن عندنا لفظان: اللفظ الأول: إن طلقتك فأنت طالق، بينه وبين الله أنه إن وقع منه طلاق في المستقبل فهي طالق عليه، أي رجل يقول لامرأته: إن طلقتك فأنت طالق، ويوقع صيغة تعليق أو لفظ طلاق بعد هذه الكلمة نطلق عليه. اللفظ الثاني: أن يكون طلق في الماضي أو علق في الماضي ووقع ما علقه في المستقبل فلا يؤثر؛ لأنه لم يطلق في الحال وإنما طلق فيما مضى بصيغة سابقة. فهناك أمر لازم في صيغة (إن طلقتك فأنت طالق) وهو وقوع الطلاق منه في المستقبل وهو يقول: إن طلقتك يعني: إن وقع مني تطليق بعد هذا، فكل شخص قال: إن طلقتك فأنت طالق، نقول له: انتبه، فكل طلاق منك سواء كان معلقا أو منجزا بعد هذه الصيغة تنشئه -أي: تحدثه- فحينئذ يقع ويلزمك الطلاق الذي علقته على هذه الصيغة، وتطلق عليك مرتين، لكن لو علق طلاقا قبل ذلك، نحو: إن ذهبت إلى أبيك، إن خرجت من البيت، إن قمت، إن قعدت، إن تكلمت، إن أكلت، إن شربت، ثم قال: إن طلقتك، فإن التعليق الأول مسند إلى الماضي، وسابق لشرطه فيما بينه وبين الله عز وجل، حيث إنه لم ينشئ طلاقا؛ لأن التعليق قد وقع؛ ولذلك يقع التعليق منذ أن يعلقه فيما بينه وبين الله، بدليل أنه لو وقع منها الأكل أو الشرب قبل الصيغة الثانية التي فيها التعليق طلقت عليه، فإذا التعليق الأول لا يتوقف على التعليق الثاني، والتعليق الثاني يتوقف على وقوع طلاق معلق أو منجز منشأ ومحدث بعد الصيغة. إذا فرق بين قوله: إن طلقتك وقوله: إن وقع مني طلاق، فقوله: إن طلقتك أضاف الأمر إلى المستقبل، فإذا سكت بعد هذه الجملة ولم يتلفظ بالطلاق، ولم يعلق الطلاق فالمرأة امرأته، وإن كان هناك تعليق سابق نحكم بالتعليق السابق مستقلا عن هذه الجملة الثانية، هذا إذا قال لها: إن طلقتك فأنت طالق، فنضيفه إلى ما بعده، والشرط عندنا أن يقع التعليق أو التنجيز بعد هذه الكلمة، وأنه لو قال قبل هذه الجملة: إن تكلمت فأنت طالق أو قمت فأنت طالق أو شربت فأنت طالق ثم قال لها: إن طلقتك فأنت طالق نقول: إن هذا التعليق مضاف إلى الماضي، وصحيح أن الطلاق الذي كان في التعليق السابق يقع بعد وقوع التعليق الثاني لكنه غير مرتبط به، ولا ينشئ طلاقا ثانيا بالصيغة الثانية، وعلى هذا نقول: لو قال لها: إن قمت أو إن قعدت أو أكلت أو شربت ثم أتبع ذلك بقوله: إن طلقتك فأنت طالق لم يقع طلاق بالجملة الثانية حتى ينشئ تطليقا بعدها. لكن إن علق التطليق على وقوع الطلاق، قال: إن وقع مني طلاق فأنت طالق، لاحظ: (إن طلقتك) غير (إن وقع مني) فإن وقوع الطلاق شيء وإنشاء الطلاق شيء آخر، ففي الصورة الثانية تعلق تطليقه بالشرط الثاني على صفة، وبناء على ذلك متى ما وجدت الصفة وجد التطليق، هو يقول لها: إن وقع مني طلاق، يعني: بسببي، فحينئذ يشمل ما إذا كان قبل التعليق الثاني أو بعد التعليق الثاني، وعليه: فإنه إذا قال لها: إن قمت فأنت طالق، ثم قال: إن وقع مني طلاق فأنت طالق؛ فإنها إن قامت بعد الصيغة الثانية تطلق؛ لأن وقوع الطلاق قد وقع، فالصفة وجدت بخلاف الإنشاء الذي لم يوجد. نختصر المسألتين ونقول: إن علق التطليق على الطلاق إنشاء لم يقع حتى يطلق بعد الإنشاء تنجيزا أو تعليقا، وإن علق الطلاق على الطلاق وقوعا لا إنشاء فإنها تطلق بالطلاق المعلق قبل إنشاء الطلاق الثاني، فإن وجدت صفته حكم بالطلاق الثاني وطلقت به. قال المصنف رحمه الله: [وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت فواحدة] إن قال لها: إن طلقتك فأنت طالق، فمعنى ذلك: طالق طلقة واحدة، ثم قال: إن قمت فأنت طالق، فقامت نطلقها طلقتين، طلقة بقيامها وطلقة بتعليق الطلاق على تطليقها؛ لأنه اشترط فيما بينه وبين الله: إن أنشأت أو وقع مني طلاق لك في المستقبل فأنت طالق، فأنشأ طلاقا معلقا بعد هذه الجملة فتطلق بوجوده إن حصل، فنطلق طلقة بوجود شرط القيام، ونطلق طلقة ثانية بوجود شرط الطلاق، هذا بالنسبة للصورة الأولى. الصورة الثانية: العكس، قال لها: إن قمت فأنت طالق، ثم قال لها: إن طلقتك فأنت طالق، فقد أسند الطلاق إلى وجود القيام فنطلقها بمجرد وجود القيام، ثم وجدنا شرطه بالتطليق بالطلاق مضافا إلى مستقبل لم ينشئ فيه طلاقا، فلا نحكم بكونها طالقا الطلقة الثانية. فاختلفت الصيغتان: الصيغة الأولى التي توجب وقوع الطلاق طلقتين مبنية على كونه علق الطلاق على وجود طلاق في المستقبل، وقد طلق بعد هذه الجملة بالقيام، فتطلق بالقيام طلقة وتطلق بصيغة الشرط طلقة ثانية، وأما الصيغة الثانية فقد تمحض شرطه مضافا إلى المستقبل أي: أنه إن أنشأ تطليقا منجزا أو معلقا في مستقبله فتطلق، وإن لم ينشئ وإنما وقع طلاقه بناء على تعليق سابق، ولم يكن هناك شرط منه بوقوع الطلاق على مثله، فلا نطلق عليه. الخلاصة: من قال لامرأته: أنت طالق إن طلقتك طلقة، ثم قال لها: أنت طالق إن قمت فقامت؛ طلقت طلقتين، وإن قال لها: إن قمت فأنت طالق ثم قال: إن طلقتك فأنت طالق، فقامت؛ طلقت واحدة فقط بالقيام للتعليق الأول، ولم تطلق الثانية بالتعليق الثاني؛ لأنه لم ينشئ بعده طلاقا لا منجزا ولا معلقا. |
الساعة الآن : 03:51 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour