ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 27-02-2025 10:55 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ ق
المجلد الخامس عشر
صـ 5486 الى صـ 5495
الحلقة (561)




القول في تأويل قوله تعالى:

[8] تبصرة وذكرى لكل عبد منيب

تبصرة وذكرى لكل عبد منيب أي: لتبصر وتذكر كل عبد منيب راجع إلى ربه، مفكر في بدائع صنعه.

و تبصرة و " ذكرى " منصوبات بالفعل الأخير على أنهما مفعولان له، وإن كانتا علتين للأفعال المذكورة معنى. أو بفعل مقدر، أي: فعلنا ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا.

القول في تأويل قوله تعالى:

[9_10_11] ونـزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج

ونـزلنا من السماء أي: المزن ماء مباركا أي: كثير المنافع، فأنبتنا به جنات أي: أشجارا ذوات أثمار، وحب الحصيد أي: الزرع المحصود من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب. وتخصيص إنبات حبه بالذكر، لأنه المقصود بالذات.

والنخل باسقات أي: وأنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النخل طوالا، أو حوامل، من (أبسقت الشاة)، إذا حملت، فيكون من: (أفعل) فهو (فاعل)، والقياس: (مفعل)، فهو من النوادر كالطوائح واللواقح، في أخوات لها شاذة؛ وإفرادها بالذكر مع دخولها في جنات لبيان فضلها بكثرة منافعها. وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية، مع ما فيه من مراعاة الفواصل.

لها طلع نضيد أي: متراكم بعضه فوق بعض.

رزقا للعباد أي: لرزقهم، قال أبو السعود : علة لقوله تعالى: فأنبتنا وفي تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكير، تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه [ ص: 5487 ] بذلك من حيث التذكر والاستبصار، أهم من تمتعه به من حيث الرزق. وقيل: رزقا مصدر من معنى أنبتنا لأن الإنبات رزق. وأحيينا به أي: بذلك الماء بلدة ميتا أي: أرضا جدبة، فأنبتت أنواع النبات والأزهار.

كذلك الخروج أي: خروجهم أحياء من القبور. شبه بعث الأموات ونشرهم بقدرته تعالى بإخراج النبات من الأرض بعد وقوع المطر عليها، فـ " كذلك " خبر الخروج، أو مبتدأ، فالكاف بمعنى (مثل).

القول في تأويل قوله تعالى:

[12_13_14] كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد .

كذبت قبلهم أي: قبل قريش قوم نوح قال أبو السعود : استئناف وارد لتقرير حقيقة البعث، ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم السلام عليها، وتعذيب منكريها.

وأصحاب الرس وهو بئر كانوا عنده. يقال: إنهم قوم شعيب عليه السلام. ويقال غير ذلك، كما تقدم في سورة الفرقان.

وثمود وهم اللذين جادلوا صالحا، وقتلوا الناقة.

وعاد وهم اللذين جادلوا هودا في أصنامهم.

وفرعون وهو الذي جادل موسى فيما أرسل به. قال الرازي : ولم يقل: (وقوم فرعون)؛ لأن فرعون كان هو المغتر المستخف بقومه والمستبد بأمره.

وإخوان لوط وهم اللذين جادلوه في إتيان الرجال.

وأصحاب الأيكة أي: الغيضة من الشجر، المجادلون شعيبا في الكيل والوزن.

وقوم تبع قال المهايمي : المجادلون إمامهم وعلماءهم في الدين. ومضى الكلام على ذلك في الحجر والدخان.

كل كذب الرسل أي: كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذبوا رسولهم، [ ص: 5488 ] ومن كذب رسولا فكأنما كذب جميع الرسل، كقوله تعالى: كذبت قوم نوح المرسلين وإنما جاءهم رسول واحد، فهم في نفس الأمر، لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم، أفاده ابن كثير ، وهو توجيه لجمع الرسل. وإفراد ضمير كذب مراعاة للفظ " كل " فإنه مفرد وإن كان جمعا معنى. فحق وعيد أي: فوجب لهم الوعيد الذي وعد به من كفر، وهو العذاب والنقمة. قال ابن جرير :

إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل؛ ترهيبا منه بذلك مشركي قريش ، وإعلاما منه لهم أنهم إن لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه محل بهم من العذاب مثل الذي أحل بهم. أي: فهو تسلية للرسول صلوات الله عليه، وتهديد لهم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[15] أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد

أفعيينا بالخلق الأول أي: أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟! فالهمزة للإنكار. قال الشهاب : العي هنا بمعنى العجز، لا التعب. قال الكسائي: تقول: أعييت من التعب، و (عييت) من انقطاع الحيلة، والعجز عن الأمر. وهذا هو المعروف والأفصح، وإن لم يفرق بينهما كثير.

و(الخلق الأول) هو الإبداء على ما ذكر، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الإنسان متأخر عنه، ويدل له آية: أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن الآية.

وقوله بل هم في لبس من خلق جديد عطف على مقدر، يدل عليه ما قبله، [ ص: 5489 ] كأنه قيل: هم معترفون بالخلق الأول، فلا وجه لإنكارهم للثاني، بل هم اختلط عليهم الأمر والتبس؛ لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرق أجزاؤه وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية، وسهولة ذلك في المقدورات الربانية.

لطيفة:

قال الناصر : في الآية أسئلة ثلاث: لم عرف الخلق الأول، ونكر اللبس، والخلق الجديد؟

فاعلم: أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه، ومنه تعريف الذكور في قوله ويهب لمن يشاء الذكور ولهذا المقصد عرف الخلق الأول؛ لأن الغرض جعله دليلا على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى، أي: إذا لم يعي تعالى بالخلق الأول -على عظمته- فالخلق الآخر أولى أن لا يعيي به. فهذا سر تعريف الخلق الأول.

وأما التنكير فأمره منقسم: فمرة يقصد به تفخيم المنكر من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة. ومرة يقصد به التقليل من المنكر والوضع منه، وعلى الأول: سلام قولا من رب رحيم وقوله: لهم مغفرة وأجر عظيم و، إن المتقين في جنات ونعيم وهو أكثر من أن يحصى. والثاني: هو الأصل في التنكير، فلا يحتاج إلى تمثيله، فتنكير (اللبس) من التعظيم والتفخيم، كأنه قال: في لبس أي لبس. وتنكير (الخلق الجديد)؛ للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول. ويحتمل أن يكون للتفخيم، كأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبسا عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته. انتهى.

[ ص: 5490 ]

القول في تأويل قوله تعالى:

[16] ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد .

ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه أي: تحدث به نفسه، وهو ما يخطر بالبال. وقوله تعالى ونحن أقرب إليه من حبل الوريد تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة، وقد جعل ذلك القرب أتم من غاية القرب الصوري الذي لا اتصال أشد منه في الأجسام؛ إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه.

قال الشهاب : تجوز بقرب الذات عن قرب العلم، لتنزهه عن القرب المكاني، إما تمثيلا، وإما إطلاق السبب وإرادة المسبب؛ لأن القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العادة. والمعنى: أنه تعالى أعلم بأحواله -خفيها وظاهرها- من كل عالم. وقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد؛ لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية، فهي أشد من اتصال ما اتصل به من الخارج؛ وخص هذا لأن به حياته، وهو بحيث يشاهده كل أحد. والحبل: العرق؛ شبه بواحد الحبال؛ فإضافته للبيان أو لأمية، من إضافة العام للخاص. فإن أبقى الحبل على حقيقته، فإضافته كلجين الماء.

تنبيه:

تأول ابن كثير الآية على غير ما تقدم بجعل " نحن " كناية عن الملائكة، وعبارته: يعني: ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه. قال: ومن تأوله على العلم، فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه؛ فإنه لم يقل: (وأنا أقرب إليه)، وإنما قال: ونحن أقرب إليه كما قال في المحتضر: ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون يعني: ملائكته. وكما قال [ ص: 5491 ] تبارك وتعالى:

إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن، بإذن الله عز وجل. وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، بإقدار الله جل وعلا لهم على ذلك. فللملك لمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة؛ ولذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

ثم أيد ابن كثير رحمه الله ما ذكره بما ورد في الآية بعدها. والوجه الأول أدق وأقرب، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم، مع التعريف بجلالة المقام الرباني ما لا يخفى حسنه.

وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط، بل له ولما تقدم أولا، كما أن إيثار: (نحن) على: (أنا) لا يحسم ما نفاه؛ لاحتمال إرادة التعظيم بـ: (نحن)، كما هو شائع، فلا يتم له ذلك. نعم! اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره بأن يكون ورد ذلك تعظيما للملك؛ لأنه بأمره تعالى وبإذنه، ولكن لا ضرورة تدعو إليه، مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة. وقد عنى رحمه الله بمن فهم الحلول والاتحاد من قال في تفسير الآية - كالقاشاني - ما مثاله: وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه؛ لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والاثنينية الراجعة للاتحاد الحقيقي، ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره، بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود، من حيث هو وجود، ولولاه لكان عدما صرفا ولا شيئا محضا. انتهى كلام القاشاني ، ولا يفهم من ذلك حلول ولا اتحاد بالمعنى المتعارف؛ لأن لهؤلاء اصطلاحا معروفا، وهم أول من يتبرأ من الحلول والاتحاد، كما أوضحت ذلك مع برهان استحالتهما في كتاب (دلائل التوحيد) الذي طبع بحمد الله من أمد قريب، فارجع إليه واستغفر لمصنفه.

أقول: رأيت ابن كثير بعد، مسبوقا بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية، فقد أوضح ذلك رحمه الله في كتابه (شرح حديث النزول): ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب [ ص: 5492 ] من كل شيء أصلا، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام، كقوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فهو سبحانه قريب ممن دعاه، وكذلك ما في الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال: « أيها الناس! اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، وإنما تدعون سميعا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ». فقال: « إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم » لم يقل: إنه قريب إلى كل موجود. وكذلك قول صالح عليه السلام فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ومعلوم أن قوله: قريب مجيب مقرون بالتوبة والاستغفار. أراد به، قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود. وقد قرن القريب بالمجيب، ومعلوم أنه لا يقال: مجيب لكل موجود، وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربه سبحانه وتعالى، وأسماء الله المطلقة -كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب- لا يجب أن تتعلق بكل موجود، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه، واسمه العليم لما كان كل شيء يصلح أن يكون معلوما تعلق بكل شيء.

وأما قوله تعالى: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فالمراد به قربه إليه بالملائكة، وهذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف، قالوا: ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة. وقد قال طائفة ونحن أقرب إليه بالعلم، وقال بعضهم: بالعلم والقدرة والرؤية. وهذه الأقوال ضعيفة، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود؛ حتى يحتاجوا [ ص: 5493 ] أن يقولوا: بالعلم والقدرة، ولكن بعض الناس لما ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية. وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا في الآية وهو معكم أين ما كنتم هو معهم بعلمه مع علوه على عرشه. وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين، لم يخالفهم فيه أحد.

ثم قال: ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك أنه قال: هو فوق عرشه، وهو قريب من كل شيء، بل قال:

إن رحمت الله قريب من المحسنين وقال:

وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان

وقد روى ابن أبي حاتم بسنده أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ « فسكت النبي صلى الله عليه وسلم » ، فأنزل الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب الآية. ولا يقال في هذا: قريب بعلمه وقدرته، فإنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، وهم لم يشكوا في ذلك ولم يسألوا عنه، وإنما عن قربه إلى من يدعوه ويناجيه، فأخبر أنه قريب مجيب.

وطائفة من أهل السنة تفسر القرب في الآية والحديث بالعلم؛ لكونه هو المقصود، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل مقصوده، وهذا هو الذي اقتضى أن يقول من يقول بأنه قريب من كل شيء، بمعنى العلم والقدرة، فإن هذا قد قاله بعض السلف وكثير من الخلف، لكن لم يقل أحد منهم: إن نفس ذاته قريب من كل موجود، وهذا المعنى يقر به جميع المسلمين، من يقول: إنه فوق العرش، ومن يقول: إنه ليس فوق العرش.

ثم قال: وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارئ جل وعلا قريبة من [ ص: 5494 ] وريد العبد ومن الميت. ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة فسروا ذلك بالعلم والقدرة، كما في لفظ المعية. ولا حاجة إلى هذا، فإن المراد بقوله: ونحن أقرب إليه منكم أي: بملائكتنا، في الآيتين، وهذا بخلاف المعية، فإنه لم يقل: ونحن معه، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد، وأخبر أنه ينبئهم يوم القيامة بما عملوا، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض، وهو نفسه الذي استوى على العرش؛ فلا يجعل لفظ مثل لفظ، مع تفريق القرآن بينهما.

ثم قال: وقوله تعالى:

ونحن أقرب إليه من حبل الوريد لا يجوز أن يراد به مجرد العلم، فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال: إنه أقرب إليه من غيره، بمجرد علمه به، ولا بمجرد قدرته عليه. ثم إنه سبحانه عالم بما يسر من القول وما يجهر به، وعالم بأعماله، فلا معنى لتخصيصه حبل الوريد بمعنى أنه أقرب إلى العبد منه؛ فإن حبل الوريد قريب إلى القلب، ليس قريبا إلى قوله الظاهر، وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه. قال تعالى:

يعلم السر وأخفى، ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم سياق الآية، فإنه قال: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه فأخبر أنه يعلم وسواس نفسه.

ثم قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فأثبت العلم، وأثبت القرب، وجعلهما شيئين، فلا يجعل أحدهما هو الآخر، وقيد القرب بقوله إذ يتلقى الآية.

وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله، فهذا في غاية الضعف؛ وذلك أن الذين يقولون: إنه في كل مكان، وإنه قريب من كل شيء بذاته، لا يخصون بذلك شيئا دون شيء، ولا يمكن مسلما أن يقول: إن الله قريب من الميت دون أهله، ولا: إنه قريب من حبل الوريد دون سائر الأعضاء. وكيف يصح هذا الكلام على أصلهم، وهو عندهم في جميع بدن الإنسان، وهو في أهل الميت، كما [ ص: 5495 ] هو في الميت، فكيف يكون أقرب إليه منكم إذا كان معه ومعهم على وجه واحد؟ وهل يكون أقرب إلى نفسه من نفسه، وسياق الآيتين يدل على أن المراد هو الملائكة!، فإنه قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى الآيتين. فقيد القرب بهذا الزمان، وهو زمان تلقي المتلقيين، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان، كما قال: ما يلفظ من قول الآية. ومعلوم أنه لو كان قرب ذات لم يخص ذلك بهذا الحال، ولم يكن لذكر القعيدين: الرقيب والعتيد معنى مناسب. وكذلك قوله في الآية الأخرى: فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فإن هذا إما يقال: إذا كان هناك من يجوز أن يبصر في بعض الأحوال، لكن نحن لا نبصره، والرب تعالى في هذا الحال لا يراه الملائكة ولا البشر. وأيضا فإنه قال: ونحن أقرب إليه منكم فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال. وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل: هي في مكان، أو قيل: قريبة من كل موجود، لا يختص بهذا الزمان والمكان والأحوال، فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء، ولا يجوز أن يراد قرب الرب الخاص، كما في قوله: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب فإن ذاك إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبده، وهذا المحتضر قد يكون كافرا وفاجرا، أو مؤمنا ومقربا؛ ولهذا قال تعالى: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنـزل من حميم وتصلية جحيم ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصه الرب بقرب منه دون من حوله، وقد يكون حوله قوم مؤمنون، وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر، كما قال تعالى:



ابوالوليد المسلم 27-02-2025 10:59 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ ق
المجلد الخامس عشر
صـ 5496 الى صـ 5505
الحلقة (562)






إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم وقال [ ص: 5496 ] تعالى:

ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وقال: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون وقال تعالى: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون وقال تعالى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون

ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وهذا كقوله سبحانه: نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون وقال تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وقال: إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه دل على أن المراد أنه سبحانه بجنوده وأعوانه من الملائكة؛ فإن صيغة: (نحن) يقولها المتبوع المطاع المعظم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم، وهو خالقهم وربهم؛ فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه، وملائكته تعلم؛ فكان لفظ: (نحن) هنا هو المناسب، وكذلك قوله: ونعلم ما توسوس به نفسه فإنه سبحانه يعلم ذلك، وملائكته يعلمون ذلك، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إذا هم العبد بحسنة كتبت [ ص: 5497 ] له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات، وإذا هم بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، وإن تركها لله كتبت له حسنة» . فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة، وليس ذلك من علمهم الغيب الذي اختص الله به.

ثم قال: وقوله: ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك يعلمون ما توسوس به للعبد نفسه، كما قال: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون فهو يسمع، ومن يشاء من ملائكته.

وأما الكتابة فرسله يكتبون كما قال هاهنا: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وقال تعالى: إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وأخبر بالكتابة: (نحن)؛ لأن جنده يكتبون بأمره، وفصل في تلك الآية بين السماع والكتابة؛ لأنه يسمع بنفسه.

وأما كتابة الأعمال فتكون بأمره، والملائكة يكتبون، فقوله: ونحن أقرب إليه مثل قوله: ونكتب ما قدموا وآثارهم لما كانت ملائكته متقربين إلى العبد بأمره، كما كانوا كاتبين عمله بأمره، فإن ذلك قربه من كل أحد بتوسط الملائكة، كتكليمه عبده بتوسط الرسل، كما قال تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل، وذاك قربه إليهم عند الاحتضار، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة. انتهى كلامه رحمه الله.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 17]
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17)
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد أي ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به. ف (إذ) ظرف (لأقرب) وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين، فإنه أعلم منهما، ومطلع على ما يخفى عليهما، لكنه لحكمة اقتضته، وهي إلزام الحجة في الأخرى، والتقدم إلى ما يرغبه ويرهبه في الأولى.
وقال القاشاني: بين تعالى بهذه الآية أقربيته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة، كما
قال أمير المؤمنين عليه السلام: هو مع كل شيء، لا بمقارنة، إذ الشيء به ذلك الشيء، وبدونه ليس شيئا حتى يقارنه
.
أي: يعلم حديث نفسه الذي توسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين، مع كونه أقرب إليه منهما. وإنما تلقيهما للحجة عليه، وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية، للجزاء.

ثم قال: والمتلقي القاعد عن اليمين، هو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة. وإنما قعد عن يمينه، لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة، وهي جهة النفس التي تلي الحق. والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرية البهيمية والسبعية، والآراء الشيطانية والوهمية، والأقوال الخبيثة الفاسدة. وإنما قعد عن الشمال، لأن الشمال هي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة، وهي التي تلي البدن، ولأن الفطرة الإنسانية خيرة بالذات، لكونها من عالم الأنوار، مقتضية بذاتها، وغريزتها الخيرات. والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال، وإن صدرت منه سيئة منع صاحب الشمال من كتابتها في الحال انتظارا للتسبيح، أي التنزيه عن الغواشي البدنية، والهيئات الطبيعية، بالرجوع إلى مقره الأصلي، وسنخه الحقيقي، وحاله الغريزي، لينمحي أثر ذلك الأمر العارضي، بالنور الأصلي والاستغفار، أي التنور بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية، لينمحي أثر تلك الظلمة العرضية، بالنور الوارد كما روي أن كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يساره، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين
لصاحب اليسار: دعه سبع ساعات، لعله يسبح أو يستغفر! انتهى.
وقد كثر في كلام القاشاني رحمه الله تأويل الملك بالقوة الحاثة على الخير، والشيطان بالمغوية على الشر. وسبقه إليه الحكماء. قال بعض الحكماء: هذا الشيء الذي أودع فينا ونسميه قوة وفكرا، وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه، وروح لا تكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكا، ويسمي أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حجر فيها على الناس، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ، والعلم الواسع.
وقد سبق الغزالي إلى هذا المعنى، وعبر عنه بالسبب وقال: إنه يسمى ملكا، فإنه، في شرح عجائب القلب من كتاب (الإحياء) ، بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم، قال: وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان: فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا، وسببا لخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا.. إلخ. والبحث كله غرر، تجدر مراجعته.
لطيفة:
قعيد كجليس، بمعنى مجالس، لفظا ومعنى. وإنما أفرد رعاية للفواصل، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كقوله:
فإني وقيار بها لغريب
وقيل: يطلق (فعيل) للواحد والمتعدد، كقوله: والملائكة بعد ذلك ظهير [التحريم: 4] ، وضعف بأنه ليس على إطلاقه، بل إذا كان (فعيل) بمعنى (مفعول) بشروطه، وهذا بمعنى (فاعل) ، فلا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على (فعيل) بمعنى (مفعول) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 18]
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18)
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب أي ملك يرقب عمله، عتيد أي حاضر.
ولما ذكر استبعادهم للبعث، وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه، أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب، ونبه على اقترابه بلفظ الماضي، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 19]
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (19)
وجاءت سكرة الموت أي شدته المحيرة الشاغلة للحواس، المذهلة للعقل بالحق أي بالموعود الحق، والأمر المحقق، وهو الموت، فالباء للملابسة. أو بالموعود الحق من أمر الآخرة، والثواب والعقاب الذي غفل عنه، فالباء للتعدية. أي أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر، وهي أحوالها الباطنة، وأظهرتها عليه.
قال الشهاب: السكرة استعيرت للشدة، ووجه الشبه بينهما أن كلا منهما مذهب للعقل، فالاستعارة تصريحية تحقيقية. ويجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية. وإثبات السكرة لها، تخييل. ذلك ما كنت منه تحيد أي تفر. والجملة على تقدير القول. أي يقال له في وقت الموت: ذلك الأمر الذي رأيته هو الذي كنت منه تحيد في حياتك، فلم ينفعك الهرب والفرار. وهل المشار إليه بذلك، الحق أو الموت؟ قال الطيبي: إن اتصل قوله: وجاءت سكرة الموت.. إلخ بقوله في لبس من خلق جديد وما معه، فالمشار إليه بذلك الحق، والخطاب للفاجر. أي جاءك أيها الفاجر الحق الذي أنكرته. وإن اتصل بقوله ولقد خلقنا الإنسان ... إلخ، فالمشار إليه الموت. والالتفات لا يفارق الوجهين. والثاني هو المناسب، لقوله: وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد بعده، وتفصيله ألقيا في جهنم كل كفار عنيد [ق: 24] ، وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد [ق: 31] انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 20 الى 21]
ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد (20) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21)
ونفخ في الصور يعني: نفخة البعث ذلك أي النفخ يوم الوعيد أي وقت تحقق الوعيد، بشهود ما قدم من الأعمال وما أخر وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد قال ابن جرير: أي سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر. وهل هما ملكان، أو ملك جامع للوصفين، أو الأول ملك، والثاني الإنسان نفسه يشهد على نفسه، أو سائق من أعمالها، إلى مكان جزائها، وشهيد من أجزائها؟ أقوال:
وقال القاشاني: أي سائق من علمه، وشهيد من عمله، لأن كل أحد ينجذب إلى محل نظره، وما اختاره بعلمه. والميل الذي يسوقه إلى ذلك الشيء إنما نشأ من شعوره بذلك الشيء، وحكمه بملاءمته له، سواء كان أمرا سفليا جسمانيا بعثه عليه هواه، وأغراه عليه وهمه وقواه أو أمرا علويا روحانيا بعثه عليه عقله، ومحبته الروحانية، وحرضه عليه قلبه وفطرته الأصلية. فالعلم الغالب عليه سائقه إلى معلومه، وشاهده بالميل الغالب عليه، والحب الراسخ فيه.
والعمل المكتوب في صحيفته يشهد عليه بظهوره على صور أعضائه وجوارحه، وينطق عليه كتابه بالحق، وجوارحه بهيئات أعضائه المتشكلة بأعماله.
انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 22]
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (22)
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد في المخاطب بهذا، أقوال ثلاثة:
أحدها- أنه النبي صلى الله عليه وسلم، أتى بهذه الجملة معترضة في خلال أمر النبأ الأخروي، تنويها بمنة الإعلام بذلك، والتعريف به، ثم شدة نفوذ البصر به، والوقوف على غوامضه، بعد خلو الذهن عنه رأسا. والمعنى: لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك، فبصرك اليوم حديد، نافذ قوي، ترى ما لا يرون، وتعلم ما لا يعلمون. ومثله آية ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [الشورى: 52] .
وثانيها- أنه الكافر، وأن الكلام على تقدير القول. أي: يقال له لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم من الأهوال، فكشفنا عنك غطاءك، بأن جلينا لك، ذلك، وأظهرناه لعينيك، حتى رأيته وعاينته، فزالت الغفلة عنك. ومثله عن الكفار آية أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [مريم: 38] ، وآية ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا [السجدة: 12] .
وثالثها- أنه الإنسان مطلقا، لقوله وجاءت كل نفس، والمقصود أنه كشف الغطاء عن البر والفاجر، ورأى كل ما يصير إليه.
وعول ابن جرير في الأولوية على الثالث.
قال الزمخشري: جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله، أو غشاوة غطى بها عينيه، فهو لا يبصر شيئا. فإذا كان يوم القيامة تيقظ، وزالت الغفلة عنه وغطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحق.
وقال القاشاني في تأويل الآية: لقد كنت في غفلة من هذا لاحتجابك بالحس والمحسوسات، وذهولك عنه، لاشتغالك بالظاهر عن الباطن فكشفنا عنك بالموت غطاءك المادي الجسماني، الذي احتجبت به فبصرك اليوم حديد أي إدراكك لما ذهلت عنه، ولم تصدق بوجوده، قوي تعاينه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 23]
وقال قرينه هذا ما لدي عتيد (23)
وقال قرينه أي قرين هذا الإنسان الذي جيء به يوم القيامة معه سائق وشهيد، وهو إما الملك الموكل عليه في الدنيا لكتابة أعماله، وهو الرقيب المتقدم، أو الشيطان الذي قيض له مقارنا له يغويه، وهو الأظهر- كما اعتمده الزمخشري- لآية نقيض له شيطانا فهو له قرين [الزخرف: 36] ، ويشهد له قوله تعالى: قال قرينه ربنا ما أطغيته [ق: 27] ، هذا ما لدي عتيد أي هذا شيء لدي حاضر معد محفوظ. والإشارة على الأول لما في صحفه، وعلى الثاني للشخص نفسه. أي هذا ما لدي عتيد لجهنم هيأته بإغوائي لها.
وقال القاشاني: وقال قرينه أي من شيطان الوهم الذي غره بالظواهر، وحجبه عن البواطن. هذا ما لدي عتيد مهيأ لجهنم. أي ظهر تسخير الوهم إياه في التوجه إلى الجهة السفلية، وأنه ملكه، واستعبده في طلب اللذات البدنية، حتى هيأه لجهنم في قعر الطبيعة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 24]
ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24)
ألقيا في جهنم كل كفار عنيد خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد، على أنهما ملكان، لا ملك جامع للوصفين، أو لملكين من خزنة النار، أو لواحد، وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل، وتكريره على أنه أصله: ألق، ألق، ثم حذف الفعل الثاني، وأبقى ضميره مع الفعل الأول، فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر. أو الألف
بدل من نون التأكيد، لأنها تبدل ألفا في الوقف، فأجرى الوصل مجراه- أوجه ذكروها-.
وقال ابن جرير: أخرج الأمر للقرين، وهو بلفظ واحد، مخرج خطاب الاثنين.
وفي ذلك وجهان من التأويل:
أحدهما- أن يكون القرين بمعنى الاثنين، كالرسول، والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد والتثنية والجمع. فرد قوله: ألقيا إلى المعنى.
والثاني- أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول. وهي أن العرب تأمر الواحد والجماعة بما تأمر به الاثنين، فتقول للرجل: ويلك! ارحلاها، وازجراها، كما قال:
فقلت لصاحبي لا تحبسانا ... بنزع أصوله واجتر شيحا
وقال أبو ثروان:
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وسبب ذلك منهم، أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه، اثنان. وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة. فجرى كلام الواحد على صاحبيه. ألا ترى الشعراء أكثر شيء قيلا: يا صاحبي، يا خليلي. انتهى.
و (الكفار) المبالغ في جحده وحدانية الله تعالى، وما جاء به رسوله صلوات الله عليه.
و (العنيد) المعاند للحق، وسبيل الهدى، لا يسمع دليلا في مقابلة كفره. وقد زاد على العناد بوصف:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 25]
مناع للخير معتد مريب (25)
مناع للخير أي الكلي، وهو الإسلام. أو المال. واستصوب ابن جرير أنه هنا كل حق وجب لله أو لآدمي في ماله، لأنه لم يخصص منه شيء، فدل على أنه كل خير يمكن منعه طالبه معتد أي متجاوز الحد في الاعتداء على الناس، بالبذاء والفحش في المنطق، وبيده بالسطوة والبطش ظلما، كما قال قتادة: معتد في منطقه وسيرته وأمره.
مريب أي شاك في الحق، أو موقع صاحبه في الريب مع كثرة الدلائل.
وقال القاشاني: الخطاب في ألقيا للسائق والشهيد اللذين يوبقانه ويلقيانه ويهلكانه في أسفل غياهب مهواة الهيولى الجسمانية، وغيابة جب الطبيعة الظلمانية، في نيران الحرمان. أو لمالك. والمراد بتثنية الفاعل تكرار الفعل، كأنما قال: ألق، ألق، لاستيلائه عليهم في الإبعاد والإلقاء إلى الجهة السفلية. ويقوي الأول:
أنه عدد الرذائل الموبقة، التي أوجبت استحقاقهم لعذاب جهنم، ووقوعهم في نيران الجحيم، وبين أنها من باب العلم والعمل. والكفران ومنع الخير، كلاهما من إفراط القوة البهيمية الشهوانية، لانهماكها في لذاتها، واستعمالها نعم الله تعالى في غير مواضعها من المعاصي والاحتجاب عن المنعم بها، ومن حقها أن تذكره، وتبعث على شكره، ومكالبتها عليها، لفرط ولوعها بها، فتمنعها عن مستحقيها. وذكرهما على بناء المبالغة، ليدل على رسوخ الرذيلتين فيه، وغلبتهما عليه، وتعمقه فيهما، الموجب للسقوط عن رتبة الفطرة في قعر بئر الطبيعة. والعنود والاعتداء، كلاهما من إفراط القوة الغضبية، واستيلائها، لفرط الشيطنة، والخروج عن حد العدالة. والأربعة من باب فساد العمل. والريب والشرك. كلاهما من نقصان القوة النطقية، وسقوطها عن الفطرة، بتفريطها في جنب الله، وتصورها عن حد القوة العاقلة. وذلك من باب فساد العلم. انتهى.





ابوالوليد المسلم 27-02-2025 11:03 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ ق
المجلد الخامس عشر
صـ 5506 الى صـ 5515
الحلقة (563)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 26]
الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد (26)
الذي جعل مع الله إلها آخر أي: عبد معه معبودا آخر من خلقه فألقياه في العذاب الشديد أي عذاب جهنم.
لطيفة:
الموصول إما مبتدأ مضمن معنى الشرط، وخبره فألقياه أو مفعول لمضمر يفسره فألقياه أو بدل من (كل كفار) فيكون (فألقياه) تكريرا للتوكيد. قيل على الأخير: إنه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن بين المؤكد والمؤكد شدة اتصال تمنع من العطف. وأجيب: بأنه من باب (وحقك ثم حقك) نزل التغاير بين المؤكد والمؤكد، والمفسر والمفسر منزلة التغاير بين الذاتين بوجه خطابي. ولو جعل (العذاب الشديد) نوعا من عذاب جهنم ومن أهواله، على أنه من باب
وملائكته ورسله وجبريل [البقرة: 98] ، كان حسنا.
قال الشهاب (بعد نقله ما ذكر) : قال ابن مالك في (التسهيل) : فصل الجملتين في التأكيد ب (ثم) إن أمن اللبس، أجود من وصلهما. وذكر بعض النحاة الفاء. وذكر الزمخشري في (الجاثية) الواو أيضا. واتفق النحاة على أنه تأكيد اصطلاحي، وكلام أهل المعاني في إطلاق منعه غير سديد. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 27]
قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد (27)
قال قرينه أي قرين هذا الإنسان الكفار المناع للخير، وهو شيطانه الذي كان موكلا به في الدنيا، متبرئا منه ربنا ما أطغيته أي بالإرابة ومنع الإسلام، وجعل إله آخر معك ولكن كان في ضلال بعيد أي في طريق جائر عن سبيل الهدى، جورا بعيدا بنفسه.
قال القاشاني: وقول الشيطان ما أطغيته ... إلخ كقوله إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم [إبراهيم: 22] ، لأنه لو لم يكن في ضلال عن طريق التوحيد، بعيد عن الفطرة الأصلية بالتوجه إلى الجهة السفلية، والتغشي بالغواشي المظلمة الطبيعية، لم يقبل وسوسة الشيطان، وقبل إلهام الملك.
فالذنب إنما يكون عليه بالاحتجاب من نور الفطرة، واكتساب الجنسية مع الشيطان في الظلمة. انتهى.
وقال ابن جرير: وإنما أخبر تعالى عن قول قرين الكافر له يوم القيامة، إعلاما منه عباده، تبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 28]
قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد (28)
قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد أي لا تختصموا اليوم في دار الجزاء، وموقف الحساب، فلا فائدة في اختصامكم، وقد قدمت إليكم في الدنيا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني، وخالف أمري ونهيي في كتبي، وعلى ألسن رسلي.
قال القاشاني: النهي عن الاختصام ليس المراد به انتهاءه، بل عدم فائدته،
والاستماع إليه. كأنه قال: لا اختصام مسموع عندي. وقد ثبت وصح تقديم الوعيد، حيث أمكن انتفاعكم به، لسلامة الآلات، وبقاء الاستعداد، فلم تنتفعوا به، ولم ترفعوا لذلك رأسا، حتى ترسخت الهيئات المظلمة في نفوسكم، ورانت على قلوبكم، وتحقق الحجاب، وحق القول بالعذاب. انتهى.
وعن ابن عباس: أنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 29]
ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد (29)
ما يبدل القول لدي قال ابن جرير: ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا وهو قوله: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها.
وما أنا بظلام للعبيد أي فلا أعذب أحدا بذنب غيره، ولكن بذنبه بعد قيام الحجة عليه.
وقال القاشاني: وما أنا بظلام حيث وهبت الاستعداد، وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكتسابه، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه، وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة، واستبدال ما يفنى بما يبقى.
تنبيهات:
الأول- ظاهر الآيات أن هذا التقاول على حقيقته، إذ لا مانع منها. وذهب بعض المفسرين إلى أنها مجاز.
قال القاشاني: هذه المقاولات كلها معنوية، مثلت على سبيل التخييل والتصوير، لاستحكام المعنى في القلب، عند ارتسام مثاله في الخيال. فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان. وإنكار الشيطان إياه، عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه: الوهمية والعقلية، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه: كالغضبية والشهوية مثلا. ولهذا قال: لا تختصموا ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية، كان أصل التخاصم بينهما. وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر، لتوقع نفع أو لذة، يتوقفان ما دام مطلوبهما حاصلا، فإذا حرما أوقعا بسعيهما في خسران وعذاب، تدارءا، أو نسب كل منهما التسبب في ذلك إلى
الآخر، لاحتجابهما عن التوحيد، وتبرؤ كل منهما عن ذنبه، لمحبة نفسه. ولذلك قال حارثة رضي الله عنه للنبي عليه السلام: ورأيت أهل النار يتعاورون. وصوب عليه السلام قوله. انتهى.
الثاني إن قلت: لم طرحت الواو من جملة قال قرينه وذكرت في الأولى؟
قلت: لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون.
فإن قلت: أين المقاولة؟ قلت: لما قال قرينه هذا ما لدي عتيد وتبعه قوله: قال قرينه ربنا ما أطغيته وتلاه لا تختصموا علم أن ثم مقاولة من الكافر، لكنها طرحت للدلالة عليها من السياق كأنه لما قال القرين: هذا ما لدي عتيد، قال الكافر: رب هو أطغاني، فلما قال الكافر ذلك، قال القرين: ما أطغيته، فلما حكى قول القرين والكافر كأن قائلا يقول: فماذا قال الله تعالى؟ فقيل: قال لا تختصموا لدي. وذكر الواو في الجملة الأولى لأنها أول المقاولة، ولا بد من عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول، أعني مجيء كل نفس مع الملكين، وقول قرينه ما قاله له- هذا ملخص ما في الكشاف-.
الثالث- جوز قوله تعالى: بالوعيد أن تكون الباء زائدة في المفعول، وأن يكون حالا من الفاعل أو المفعول، والباء للملابسة، أو المعية، والمعنى: قدمت هذا القول موعدا لكم به، أو حال كون القول ملتبسا بالوعيد، أو من لا تختصموا على تأويل تقديم الوعيد بالعلم به. أي: لا تختصموا عالمين به. وذلك لتصح الحالية، ويكون بينها وبين عاملها مقارنة على اصطلاحهم.
الرابع- دل قوله تعالى: ما يبدل القول لدي على أنه لا خلف في إيعاد الله تعالى، كما لا إخلاف في ميعاد الله. وهذا يرد على المرجئة، حيث قالوا: ما ورد في القرآن من الوعيد فهو تخويف، لا يحقق الله شيئا منه، وقالوا: الكريم إذا وعد أنجز ووفى، وإذا أوعد أخلف وعفا- أفاده الرازي-.
ووجه الاستدلال أنه لو صح ما ذكروه للزم تبديل قوله تعالى، والخلف في أخباره- تقدس عن ذلك- مع أن طبيعة الذنب تقتضي العقوبة، إلا أن يتاب منه، أو يشاء تعالى العفو عنه.
الخامس- ذكروا في سر المبالغة في بظلام وجوها:
منها- أن (فعالا) قد ورد بمعنى (فاعل) ، فهذا منه.
ومنها اعتبار كثرة الخلق.
ومنها- أن المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم تحت ظلمهم، إن عظيما فعظيم، وإن قليلا فقليل. فما كان ملك الله تعالى على كل شيء ملكه، قدس ذاته عما يتوهم مخذول، والعياذ بالله، أنه منسوب إليه من ظلم تحت شمول كل موجود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 30]
يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد (30)
يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد قال ابن جرير: فيه لأهل التأويل قولان:
الأول- أن معناه: ما من مزيد. فعن مجاهد قال: وعدها الله ليملأنها فقال:
هلا وفيتك؟ قالت: وهل من مسلك؟!.
الثاني- معناه: زدني أي: فالاستفهام على الأول إنكاري. معناه النفي، وأيد بآية لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [هود: 119] و [السجدة: 13] ، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
وعلى الثاني تقريري، دلالة على سعتها. بحيث يدخلها من يدخلها، وفيها فراغ وخلو. كأنه يطلب الزيادة.
فإن قيل: الوجه الثاني، وهو كونها فيها فراغ، مناف لصريح النظم من قوله لأملأن جهنم.. الآية، قلت لا منافاة بينهما كما توهم، لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها، وإن كان فيها فراغ كثير. كما يقال: إن البلدة ممتلئة بأهلها، ليس فيها دار خالية، مع ما بينها من الأبنية والأفضية. أو هذا باعتبار حالين.
فالفراغ في أول دخول أهلها فيها، ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلئ.
تنبيه:
ذهب جماعة إلى أن المقاولة في الآية مجاز على طريق الاستعارة التمثيلية، وأن جهنم لشدة توقدها وزفيرها. وتهافت الكفرة والعصاة، وقذفهم فيها كأنها طالبة للزيادة.
وآخرون إلى أن ذلك حقيقة.
قال الناصر في (الانتصاف) : إنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك بذلك بشرطه. وكيف نفرض، وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك؟ منها هذا، ومنها لجاج الجنة والنار، ومنها اشتكاؤها إلى ربها، فأذن لها في نفسين. وهذه وإن لم تكن نصوصا، فظواهر يجب حملها على حقائقها، لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر، ما لم يمنع مانع، ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة، والعقل يجوز، والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل. وقد وقع مثل هذا قطعا في الدنيا، كتسليم الشجر، وتسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه. ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظاهر في تفاصيل المقالة، لا تسع الخرق، وضل كثير من الخلق عن الحق. وليس هذا كالظواهر الواردة في الإلهيات مما لم يجوز العقل اعتقاد ظاهرها، فإن العدول فيها عن ظاهر الكلام بضرورة الانقياد إلى أدلة العقل المرشدة إلى المعتقد الحق. انتهى.
قال الشهاب: وهو كلام حسن، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا. انتهى.
ولا تنس ما قلناه مرارا من أن اللغة لا تنحصر في الحقيقة، وأن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة، كما أوضحه السيوطي في (المزهر) والجرجاني في (أسرار البلاغة) . وفي شواهد العرب الكثيرة ما يؤيد المجاز، ولا محذور فيه، عدا عن كونه أبلغ، كما قرروه. وبالجملة فالنظم الكريم يحتملها- والله أعلم-.
و (يوم) منصوب ب (ظلام) أو بمضمر، نحو: اذكر وأنذر. و (المزيد) إما مصدر كالمحيد، أو اسم مفعول كالمبيع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 31]
وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (31)
وأزلفت الجنة أي قربت وأدنيت للمتقين أي للذين اتقوا ربهم فخافوا عقوبته، بأداء فرائضه. واجتناب معاصيه غير بعيد أي مكانا غير بعيد. فهو صفة للظرف قام مقامه، أو حال من الجنة. وتذكيره لأنه صفة مذكر. أي: شيئا غير بعيد.
أو تأويل الجنة بالبستان. أو لكونها على زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المذكر والمؤنث، فعومل معاملته، وأجري مجراه. وعلى كل فهو للتأكيد، ودفع التجوز، فلا يقال بعد ذكر كونها قربت، لا يحتاج إلى كونها غير بعيدة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 32]
هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32)
هذا أي الثواب أو الإزلاف ما توعدون أيها المتقون لكل أواب أي راجع عن معصية الله إلى طاعته، تائب من ذنوبه حفيظ أي حافظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه.
وقال القاشاني: أي محافظ على صفاء فطرته ونوره الأصلي، كي لا يتكدر بظلمة النفس و (لكل) بدل من (للمتقين) بإعادة الجار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 33]
من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33)
من خشي الرحمن بالغيب أي خاف الله في سره. وقال القاشاني: أي من اتصف بالخشية، وصارت الخشية مقامه. و (من) بدل بعد بدل، أو خبر لمحذوف.
أي هم من خشي. أو مبتدأ خبره ما بعده بتأويل (يقال لهم ادخلوها.. إلخ) وجاء بقلب منيب أي جاء ربه بقلب تائب من ذنوبه، راجع مما يكرهه تعالى إلى ما يرضيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 34 الى 35]
ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (34) لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد (35)
ادخلوها بسلام أي يقال لهم ادخلوا هذه الجنة بأمان من الهم والحزن والخوف. ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤن فيها أي مما تشتهيه نفوسهم، وتلذه أعينهم ولدينا مزيد أي مما لا يخطر على بالهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 36]
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36)
وكم أهلكنا قبلهم أي قبل هؤلاء المشركين من قريش من قرن هم أشد منهم بطشا أي قوة، كعاد وفرعون وثمود فنقبوا في البلاد أي فضربوا فيها وساروا وطافوا أقاصيها. قال امرؤ القيس:
لقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
هل من محيص أي هل كان لهم، بتنقيبهم في البلاد، من معدل عن الهلاك الذي وعدوا به لتكذيبهم الحق. والضمير على هذا في (نقبوا) للقرن الذين هم أشد بطشا. وجوز عوده لهؤلاء المشركين. أي ساورا في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا لهم محيصا حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم؟.
قال ابن جرير: وقرأت القراء قوله فنقبوا بالتشديد وفتح القاف، على وجه الخبر عنهم. وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ فنقبوا بكسر القاف، على وجه التهديد والوعيد. أي طوفوا في البلاد وترددوا فيها، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 37]
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)
إن في ذلك أي في إهلاك القرون التي أهلكت من قبل قريش لذكرى لمن كان له قلب أي لتذكرة يتذكر بها من كان له عقل من هذه الآمة، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم، خوفا من أن يحل بهم مثل الذي حل بهم من العذاب.
أو ألقى السمع أي أصغى للأخبار، عن هذه القرون التي أهلكت، بسمعه.
وهو شهيد أي حاضر القلب، متفهم لما يخبر به عنهم، غير غافل ولا ساه.
على أن (شهيد) من الشهود، وهو الحضور. والمراد: المتفطن، لأن غير المتفطن كالغائب، فهو استعارة أو مجاز مرسل. أو (شهيد) بمعنى شاهد، وفيه مضاف مقدر. أي: شاهد ذهنه. أو هو من الشهادة، والمراد: شاهد بصدقه، أي: مصدق له، لأنه المؤمن الذي ينتفع به. أو هو كناية عن المؤمن- نقله الشهاب-.
لطيفة:
قيل: (أو) لتقسيم المتذكر إلى تال وسامع، أو إلى فقيه ومتعلم، أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده، وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكليته، وأزال الموانع بأسرها. وفي تنكير (القلب) وإبهامه، تفخيم وإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر، كلا قلب.






ابوالوليد المسلم 27-02-2025 11:07 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الذاريات
المجلد الخامس عشر
صـ 5516 الى صـ 5525
الحلقة (564)









القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 38]
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب أي إعياء.
قال قتادة: أكذب الله اليهود وأهل الفري على الله، وذلك أنهم قالوا إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السابع، وذلك عندهم يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 39 الى 40]
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه وأدبار السجود (40)
فاصبر على ما يقولون يعني: المشركين من إنكار البعث والتوحيد والنبوة وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود أي أعقاب الصلوات. والمراد بالتسبيح إما ظاهره، وهو قرين التحميد، أو هو الصلاة، من إطلاق الجزء، أو اللازم على الكل، أو الملزوم. فالصلاة قبل الطلوع، الصبح.
وقبل الغروب، الظهر والعصر. ومن الليل، العشاآن والتهجد. وأدبار السجود. النوافل بعد المكتوبات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 41 الى 42]
واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (41) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج (42)
واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب أي استمع، أي لما أخبرك به من أهوال القيامة. يوم ينادي مناديها من كل مكان قريب، بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء.
قال القاضي: ولعله في الإعادة نظير (كن) في الإبداء، أي فهو تمثيل لإحياء الموتى بمجرد الإرادة، وإن لم يكن نداء وصوت.
وفي ورود الأمر مطلقا، ثم تبيينه بما بعده، تهويل وتعظيم للمخبر به، لما في الإبهام ثم التفسير، من التهويل والتفخيم لشأن المحدث عنه.
يوم يسمعون الصيحة أي صيحة البعث من القبور، والحشر للجزاء بالحق قال ابن جرير: يعني بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب.
ذلك يوم الخروج أي من القبور.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 43]
إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير (43)
إنا نحن نحيي ونميت أي في الدنيا بإفاضة نور الحياة أو قطعه وإلينا المصير أي مصير الجميع يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 44]
يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير (44)
يوم تشقق الأرض عنهم سراعا أي فيخرجون منها مسرعين ذلك حشر علينا يسير أي ذلك الإخراج لهم جمع في موقف الحساب، علينا سهل بلا كلفة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 45]
نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد (45)
نحن أعلم بما يقولون يعني: مشركي مكة، من فريتهم على الله ورسوله، وإنكارهم قدرته تعالى على البعث. وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم. وما أنت عليهم بجبار أي بمسلط ومسيطر تقهرهم على الإيمان فذكر بالقرآن من يخاف وعيد أي بل إنما بعثت مذكرا ومبلغا، فذكر بما أنزل إليك من يخاف الوعيد الذي أوعد به من عصى وطغى، فإنه ينتفع به.
ومن دعاء قتادة: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعدك، يا بار يا رحيم!
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الذاريات
قال المهايمي: سميت بها لأنها مبدأ الخيرات، فأشبهت العناية الإلهية. وهي مكية. وآيها ستون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
والذاريات ذروا (1)
والذاريات ذروا يعني: الرياح التي تذرو البخارات ذروا. أي نوعا من الذرو ليعقدها سحبا. أو النساء الولود، فإنهن يذرين الأولاد، مجازا شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح. أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم. وهو استعارة أيضا شبهت الأشياء المعدة للبروز من كمون العدم، بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها.
والذاريات اسم فاعل (ذرا) المعتل بمعنى فرق وبدد ما رفعه عن مكانه.
ويقال: أذرى أيضا. وأما (ذرأ) المهموز فبمعنى أنشأ وأوجد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 2]
فالحاملات وقرا (2)
فالحاملات وقرا أي السحب الحاملة للأمطار المنبتة للزروع والأشجار لإفادة الحبوب والثمار. كما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت نفسي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا
أو الرياح الحاملة للسحاب، أو النساء الحوامل، أو أسباب ذلك.
و (الوقر) بسكر الواو، كالحمل وزنا ومعنى. وقرئ بفتح الواو على أنه مصدر سمي به المحمول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 3 الى 4]
فالجاريات يسرا (3) فالمقسمات أمرا (4)
فالجاريات يسرا أي السفن الجارية في البحر سهلا. أو الرياح الجارية في مهابها. أو الكواكب التي تجري في منازلها. ويسرا صفة مصدر محذوف. أو جريا ذا يسر فالمقسمات أمرا أي الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة. أو الرياح يغسمن الأمطار بتصريف السحاب.
تنبيهات:
الأول- ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أمورا متباينة، وأن تكون أمرا له أربعة اعتبارات. والأول هو المأثور عن علي رضي الله عنه: أن الذاريات هي الرياح، والحاملات هي السحاب، والجاريات هي السفن، والمقسمات هي الملائكة.
واختار بعضهم في (الجاريات) أنها الكواكب، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى: فالرياح فوقها السحاب، والنجوم فوق ذلك، والملائكة فوق الجميع، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية.
واستظهر الرازي أن الأقرب أن تكون صفات أربع للرياح، وأطال في ذلك.
واللفظ متسع بجوهره للكل- والله أعلم-.
الثاني- فائدة (الفاء) إن قيل إنها صفات الرياح، فلبيان ترتيب الأمور في الوجود. فإن الذاريات تنشئ السحاب. فتقسم الأمطار على الأقطار. وإن قيل إنها أمور أربعة، فالفاء للترتيب الذكري أو الرتبي.
الثالث- ذكر الرازي في الحكمة في القسم وجوها:
أحدها- أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبي صلى الله عليه وسلم غالبا في إقامة الدليل، وكانوا ينسبونه إلى المجادلة، وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله، وأنه يغلبنا بقوة الجدل، لا بصدق المقال. كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل، ولم يبق له حجة، يقول: إنه غلبني لعمله بطريق الجدل، وعجزي عن ذلك.
وهو يعلم في نفسه أن الحق بيدي، فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين، فيقول: والله! إن الأمر كما أقول، ولا أجادلك بالباطل. وذلك لأنه لو سلك طريقا آخر من ذكر دليل آخر، فإذا تم الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول، إن
ذلك تقرير بقوة علم الجدل، فلا يبقى إلا السكوت أو التمسك بالأيمان، وترك إقامة البرهان.
ثانيها- أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة، وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من الأيمان بكل شريف، ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا.
وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذبا، وإلا لأصابه شؤم الأيمان، ولناله المكروه في بعض الأزمان.
ثالثها- أن الأيمان التي أقسم الله تعالى بها، كلها دلائل أخرجها في صورة الأيمان. مثاله قول القائل لمنعمه: وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك. فيذكر النعم، وهي سبب مفيد لدوام الشكر، ويسلك مسلك القسم. كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة.
فإن قيل: فلم أخرجها مخرج الأيمان؟ نقول: لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف، يعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم، فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر، فبدأ بالحلف، وأدرج الدليل في صورة اليمين، حيث أقبل القوم على سماعه، فخرج لهم البرهان المبين، والتبيان المتين، في صورة اليمين. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 5 الى 6]
إنما توعدون لصادق (5) وإن الدين لواقع (6)
إنما توعدون لصادق جواب القسم و (ما) موصولة أو مصدرية. والموعود هو قيام الساعة، وبعث الموتى من قبورهم. و (صادق) بمعنى صدق. فوضع الاسم مكان المصدر، أو هو من باب (عيشة راضية) . وإن الدين أي الجزاء على الأعمال. إن خيرا فخير، وإن شرا فشر لواقع أي لحاصل. قال قتادة: وذلك يوم القيامة، يوم يدين الله العباد بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 9]
والسماء ذات الحبك (7) إنكم لفي قول مختلف (8) يؤفك عنه من أفك (9)
والسماء ذات الحبك أي الطرق المختلفة التي هي دوائر سير الكواكب.
و (الحبك) أصل معناها ما يرى كالطريق في الرمل والماء، إذا ضربته الريح.
وكذلك حبك الشعر: آثار تثنيه وتكسره. و (الحبك) بضمتين جمع حباك، كمثال ومثل وكتاب وكتب. أو حبيكة كطريقة وطرق. قال زهير يصف غديرا:
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك
ويقال: ما أملح حباك هذه الحمامة! وهو الخط الأسود على جناحها.
وعن الحسن: (ذات الحبك) أي النجوم قال: حبكت بالخلق الحسن، حبكت بالنجوم. وذلك لأنها تزين السماء، كما يزين الثوب الموشى تحبيكه، فشبهت النجوم بطرائق الوشي مجازا بالاستعارة.
وقال بعض علماء الفلك: الحبك جمع حبيكة، بمعنى محبوكة، أي: مربوطة.
فمعنى (ذات الحبك) ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة مجموعة من الكواكب المتجاذبة. فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الأفرنج أنهم مكتشفوها. وعليه، في إحدى معجزات القرآن العلمية. انتهى.
إنكم لفي قول مختلف أي متخالف متناقض. قال ابن زيد: يتخرصون يقولون: هذا سحر ويقولون: إن هذا إلا أساطير الأولين يؤفك أي يصرف عنه من أفك أي صرف عن الحق الصريح الصرف التام، إذ لا صرف أشد منه.
وقد ذكر القاضي في مناسبة المقسم به للمقسم عليه، هو تشبيه أقوالهم في اختلافها، وتنافي أغراضها، بالطرائق للسموات في تباعدها، واختلاف غاياتها.
ثم أشار أنهم لم يؤفكوا لاتباعهم الدلائل، بل لأخذهم بالخرص والتخمين، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 10 الى 13]
قتل الخراصون (10) الذين هم في غمرة ساهون (11) يسئلون أيان يوم الدين (12) يوم هم على النار يفتنون (13)
قتل الخراصون أي لعن الآخذون بالتخمين، مع ترك دلائل اليقين الذين هم في غمرة أي في جهل يغمرهم عن وجوب اتباع الدلائل القاطعة، وترك الشبهات الواهية ساهون أي غافلون عما أتاهم، وعما نزل إليهم، بالانهماك في اللذات البدنية، واستئثار الحظوظ العاجلة يسئلون أيان يوم الدين أي متى يوم الجزاء، ويوم
يدين الله العباد بأعمالهم يوم هم على النار يفتنون أي يحرقون. وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه. ثم استعمل في التعذيب والإحراق ونحوه.
قال القاضي: جواب للسؤال. أي يقع يوم هم على النار يفتنون، أو هو يوم هم.. إلخ، وفتح (يوم) لإضافته إلى غير متمكن، ويدل عليه أنه قرئ بالرفع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 14]
ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون (14)
ذوقوا فتنتكم أي مقولا لهم: ذوقوا عذابكم الذي طلبتموه، بل الذي استعجلتموه قبل وقته، كما قال: هذا الذي كنتم به تستعجلون أي حصوله في الدنيا.






ابوالوليد المسلم 27-02-2025 11:11 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الذاريات
المجلد الخامس عشر
صـ 5526 الى صـ 5535
الحلقة (565)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 19]
إن المتقين في جنات وعيون (15) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون (18) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (19)
إن المتقين أي الذين اتقوا الله بطاعته، واجتناب معاصيه في الدنيا، وبتجنب القول بالخرص والتخمين في الأمور الاعتقادية في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم قال ابن جرير: أي عاملين ما أمرهم به ربهم، مؤدين فرائضه. وقال غيره: أي قابلين لما أعطاهم من النعيم الأخروي، راضين به.
وهذا هو الوجه. ولذا قال ابن كثير: والذي فسر به ابن جرير فيه نظر، لأن قوله تبارك وتعالى آخذين حال من قوله في جنات وعيون فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون، آخذين ما آتاهم ربهم. أي من النعيم والسرور والغبطة.
ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله: إنهم كانوا قبل ذلك يعني: في الدنيا محسنين أي قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم، بظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم، كما بينه بقوله سبحانه كانوا قليلا من الليل ما يهجعون أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. لتقوى نفوسهم على عبادته تعالى، بنشاط.
روى ابن جرير عن أنس في الآية أنهم كانوا يصلون ما بين هاتين الصلاتين، ما بين المغرب والعشاء.
وعن محمد بن علي: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة.
وعن مطرف: قل ليلة أتت عليهم، إلا صلوا فيها من أولها أو من وسطها.
وعن الحسن قال: لا ينامون من الليل إلا أقله، كابدوا قيام الليل.
وقرأ الأحنف بن قيس هذه الآية فقال: لست من أهل هذه الآية.
وعن الضحاك: أن الوقف على قوله تعالى كانوا قليلا أي أن المحسنين كانوا قليلا ثم ابتدئ فقيل من الليل ما يهجعون و (ما) نافية. أي لا يهجعون.
قال ابن كثير: هذا القول فيه بعد وتعسف.
لطيفة:
في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم، وترك الاستراحة.
وذلك ذكر القليل. والليل الذي هو وقت النوم، والهجوع الذي هو الخفيف من النوم، وزيادة (ما) لأنها تدل على القلة. وبالجملة. ففي الآية استحباب قيام الليل، وذم نومه كله. والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة وبالأسحار هم يستغفرون قال القاضي: أي أنهم مع قلة هجوعهم، وكثرة تهجدهم، إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.
قال الرازي: في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك، وأخلص منه، فيستغفرون من التقصير. وهذا سيرة الكريم: يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله، ويعتذر من التقصير. واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره، ويمن به. وفيه وجه آخر ألطف منه: وهو أنه تعالى، لما بين أنهم يهجعون قليلا، والهجوع مقتضى الطبع، قال يستغفرون أي من ذلك القدر من النوم القليل. وفيه لطيفة أخرى نبينها في جواب سؤال: وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع،. ولم يمدحهم بكثرة السهر، وما قال: كانوا كثيرا من الليل ما يسهرون، فما الحكمة فيه؟ مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد، لا الهجوع؟ نقول: إشارة إلى أن نومهم عبادة، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلا، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، وهو الاستغفار، في وجوه الأسحار ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار.
ثم قال: والاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر بقولهم: ربنا اغفر لنا.
وطلب المغفرة بالفعل، أي بالأسحار. يأتون بفعل آخر طلبا للغفران، وهو الصلاة.
والأول أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر. انتهى.
ويؤيد الثاني الإشارة إلى الزكاة في الآية بعدها. والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات وسر التعبير عن الصلاة بالاستغفار، الإشارة إلى أنه ركنها المهم في التهجد، بل وفي غيره، فيكون من إطلاق الجزء على الكل. وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها. كالركوع والسجود وبين السجدتين وآخر الصلاة، كما أخرجه الشيخان وأهل السنن- وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركوع والسجود والتهجد لذلك.
لطيفة:
قال الزمخشري في (أساس البلاغة) إنما سمي (السحر) استعارة، لأنه وقت إدبار الليل، وإقبال النهار، فهو متنفس الصبح. انتهى.
وفي أموالهم حق للسائل والمحروم أي الفقير المتعفف الذي يظن غنيا، فيحرم الصدقة.
قال قتادة: هذان فقيرا أهل الإسلام: سائل يسأل في كفه، وفقير متعفف ولكليهما عليك حق، يا ابن آدم.
وفي الصحيح «1» عن النبي صلى الله عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان. ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
وروى الإمام أحمد عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للسائل حق وإن جاء على فرس. ورواه أبو داود وأسنده عن علي كرم الله وجهه.
ويدخل في (المحروم) كل من لا مال له، ومن هلك ماله بآفة، ومن حرم الرزق واحتاج، إلا أن أهم أفراده المتعفف. ولذا عول عليه الأكثر.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: في أموالهم حق سوى الزكاة يصلون بها رحما، أو يقرون بها ضيفا، أو يحملون بها كلا.
ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات، لكثرة الآيات الواضحة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 20]
وفي الأرض آيات للموقنين (20)
(1)
أخرجه البخاري في: التفسير، 2- سورة البقرة، 48- باب لا يسئلون الناس إلحافا، حديث رقم 788، عن أبي هريرة.

وفي الأرض آيات للموقنين أي عبر وعظات لأهل اليقين، وهم الذين يقودهم النظر إلى ما تطمئن به النفس، وينثلج له الصدر، فيرون فيها مما ذرأ من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار، عبرا وآيات عظاما، وشواهد ناطقة بقدرة الصانع ووحدانيته، جل جلاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 21]
وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21)
وفي أنفسكم، أفلا تبصرون أي في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، واختلاف ألسنتها وألوانها، وما جبلت عليه من القوى والإرادات، وما بينها من التفاوت في العقول والأفهام، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل عضو منها، في المحل المفتقر إليه، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب، ولا لسان بليغ.
أنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه (التفكير والاعتبار) لشيخه أبي جعفر القرشي:
وإذا نظرت تريد معتبرا ... فانظر إليك، ففيك معتبر
أنت الذي تمسي وتصبح في ال ... دنيا وكل أموره عبر
أنت المصرف كان في صغر ... ثم استقل بشخصك الكبر
أنت الذي تنعاه خلقته ... ينعاه منه الشعر والبشر
أنت الذي تعطى وتسلب، لا ... ينجيه من أن يسلب الحذر
أنت الذي لا شيء منه له ... وأحق منه بما له القدر
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 22]
وفي السماء رزقكم وما توعدون (22)
وفي السماء رزقكم وما توعدون يعني ب (السماء) المزن، وب (الرزق) المطر، فإنه سبب الأقوات. والمراد ب ما توعدون العذاب السماوي، لأن مؤاخذات المكذبين الأولين كانت من جهتها. والخطاب لمشركي مكة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 23]
فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون (23)
فو رب السماء والأرض أي الذي خلقهما للاستدلال بهما على حقيقة ما أخبر
إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون أي مثل نطقكم. والضمير في (إنه) عائد لما ذكر من أمر الآيات والرزق، أو أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى ما توعدون ويؤيد الأخير ما تأثره من أنباء وعيد المكذبين، وبدأ منها بنبإ قوم لوط، لأن قراهم واقعة في ممرهم إلى فلسطين للاتجار، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 30]
هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين (26) فقربه إليهم قال ألا تأكلون (27) فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28)
فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (29) قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (30)
هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين يعني: الملائكة الذي دخلوا عليه في صورة ضيف. قال الزمخشري: فيه تفخيم للحديث، وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرفه بالوحي. وإكرامهم أن إبراهيم خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم القرى، أو أنهم في أنفسهم مكرمون.
إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام أي سلام عليكم قوم منكرون أي أنتم قوم لا أعرفكم. وهو كالسؤال منه عن أحوالهم، ليعرفهم. فإن قولك لمن لقيته:
أنا لا أعرفك! في قوة قولك: عرف لي نفسك وصفها.
فراغ إلى أهله أي ذهب إليهم في خفية من ضيوفه. ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرا من أن يكفه ويعذره- قاله الزمخشري- وأيده الناصر بما حكى عن أبي عبيد: أنه لا يقال راغ، إلا إذا ذهب على خفية وأنه يقال روغ اللقمة إذا غمسها فرويت سمنا. قال الناصر: وهو من هذا المعنى، لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى. ومن مقلوباته (غور الأرض) والجرح. وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى. انتهى.
فجاء بعجل سمين أي قد أنضجه شيا فقربه إليهم أي بأن وضعه بين أيديهم قال ألا تأكلون أي منه. قال القاضي: وهو مشعر بكونه حنيذا. والهمزة فيه للعرض، والحث على الأكل على طريقة الأدب، إن قاله أول ما وضعه. وللإنكار، إن قاله حينما رأى إعراضهم.
فأوجس منهم خيفة أي أضمرها، لظنه أنهم أرادوا به سوءا قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم أي يبلغ ويكمل علمه فأقبلت امرأته في صرة أي صيحة فصكت أي لطمت وجهها أي تعجبا، على عادة النساء في كل غريب عندهن وقالت عجوز عقيم أي عاقر ليس لي ولد قالوا كذلك قال ربك أي مثل الذي قلنا وأخبرنا به، قال ربك، فإنما نخبرك عن الله. فأقبلي قوله، ولا تتوهمي عليه خلاف الحكمة، ولا الجهل، بعدم قبولك للولادة. إنه هو الحكيم العليم
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 31 الى 37]
قال فما خطبكم أيها المرسلون (31) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (32) لنرسل عليهم حجارة من طين (33) مسومة عند ربك للمسرفين (34) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35)
فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (36) وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم (37)
قال أي إبراهيم لضيفه فما خطبكم أي أمركم وشأنكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين أي مؤاخذتهم لنرسل عليهم حجارة من طين أي رجما لهم على فعلهم الفاحشة مسومة أي مرسلة، أو معلمة عند ربك للمسرفين أي المتعدين حدود الله. الكافرين به فأخرجنا من كان فيها أي في تلك القرية من المؤمنين أي بإيحاء الخروج إليهم على لسان الملائكة، وهم لوط وابنتاه عليهم السلام. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين يعني بيت لوط عليه السلام وتركنا فيها أي في تلك القرية آية أي علامة تدل على إهلاكهم الدنيوي الدال على الأخروي للذين يخافون العذاب الأليم أي في الآخرة وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 40]
وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين (38) فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم (40)
وفي موسى عطف على (فيها) بإعادة الجار، لأن المعطوف عليه ضمير مجرور. أي وتركنا في قصة موسى بإهلاك أعدائه، آية وحجة تبين لمن رآها حقية دعواه.
إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين أي ببرهان ظاهر فتولى بركنه أي
فأعرض عن الإيمان. والركن: جانب الشيء. ف (ركنه) جانب بدنه، فالتولي به كناية عن الإعراض. والباء للتعدية، لأن معناه ثنى عطفه. أو للملابسة. أو الركن فيه بمعنى الجيش، لأنه يركن إليه، ويتقوى به، والباء للمصاحبة أو للملابسة. وقال ساحر أي هو ساحر أو مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم أي فأغرقناهم في البحر هو مليم
أي آت بما يلام عليه من الكفر والعناد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 41 الى 42]
وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم (41) ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم (42)
وفي عاد أي وتركنا في عاد، قوم هود عليه السلام آية إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم أي التي لا خير فيها من إنشاء مطر، أو إلقاح شجر. وهي ريح الهلاك.
ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم أي الشيء الهالك. وأصل الرميم: البالي المفتت، من عظم أو نبات أو غير ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 43 الى 45]
وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين (43) فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون (44) فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين (45)
وفي ثمود أي وتركنا في ثمود، قوم صالح عليه السلام إذ قيل لهم أي بعد عقرهم الناقة تمتعوا أي في داركم حتى حين يعني: ثلاثة أيام، كما بينته الآية الأخرى.
فعتوا عن أمر ربهم أي فاستكبروا عن امتثاله فأخذتهم الصاعقة يعني العذاب الحال بهم، المعهود وهم ينظرون أي إليها. فإنها نزلت بهم نهارا.
فما استطاعوا من قيام أي نهوض، فضلا عن دفاع عذاب الله وما كانوا منتصرين أي ممتنعين من العذاب. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 46]
وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين (46)
وقوم نوح قرئ بالجر عطفا على وفي ثمود أو المجرورات قبل.
وبالنصب مفعولا لمضمر دل عليه السياق والسباق. أي وأهلكنا قوم نوح. أو عطفا على مفعول أخذناه
أو على محل وفي موسى من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين أي: مخالفين أمر الله، خارجين عن طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 48]
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون (47) والأرض فرشناها فنعم الماهدون (48)
والسماء بنيناها بأيد أي رفعناها بقوة وإنا لموسعون أي لقادرون على الإيساع، كما أوسعنا بناءها. والأرض فرشناها أي مهدناها ليتمتعوا بها فنعم الماهدون أي لهم. وفي إيثار صيغة فاعل من (مهد على فرش) إشارة إلى أن من المواد ما تختلف صيغته في النظم فعلا واسما، فيكون في أحدهما أرق وألطف وأفصح، فيؤثر على غيره في ظرف، ويؤثر عليه غيره في آخر. والمرجع الذوق- كما بسطه ابن خلدون وابن الأثير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 49]
ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49)
ومن كل شيء خلقنا زوجين أي ذكرا وأنثى، أو نوعين متقابلين.
قال ابن كثير: جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض. وليل ونهار. وشمس وقمر. وبر وبحر. وضياء وظلام. وإيمان وكفر. وموت وحياة. وشقاء وسعادة. وجنة ونار. حتى الحيوانات والنباتات. انتهى. وهو مأخوذ من كلام ابن جرير في تأييد تفسير مجاهد، وعبارة ابن جرير:
وأولى القولين في ذلك قول مجاهد: وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانيا له، مخالفا في معناه. فكل واحد منهما زوج للآخر، ولذلك قيل خلقنا زوجين وإنما نبه جل ثناؤه بذلك من قوله: خلقه على قدرته على خلق ما يشاء، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه، إذ كل ما صفته فعل نوع واحد دون ما عداه، كالنار التي شأنها التسخين ولا تصلح للتبريد، وكالثلج الذي شأنه التبريد ولا يصلح للتسخين، فلا يجوز أن يوصف بالكمال، وإنما كمال المدح للقادر على فعل كل ما شاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة. انتهى.
لعلكم تذكرون قال ابن جرير: أي لتذكروا وتعتبروا بذلك، فتعلموا أيها
المشركون بالله، أن ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة، هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداع زوجين من كل شيء، لا ما لا يقدر على ذلك.





ابوالوليد المسلم 28-02-2025 03:27 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الطور
المجلد الخامس عشر
صـ 5536 الى صـ 5545
الحلقة (566)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 50]
ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين (50)
ففروا إلى الله أي فروا من عقابه إلى رحمته، بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته. قال الشهاب: الأمر بالفرار من العقاب، المراد به الأمر بالإيمان والطاعة، لأنه لأمنه من العقاب بالطاعة، كأنه فر لمأمنه. فهو استعارة تمثيلية. إني لكم منه نذير مبين أي أنذركم عقابه، وأخوفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم الذين قص عليكم قصصهم، والذي هو مذيقهم في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 51]
ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين (51)
ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين أي قد أبان النذارة قال أبو السعود: وفيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى، لكن لا بطريق التكرير- كما قيل- بل بالنهي عن سببه، وإيجاب الفرار منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 54]
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52) أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53) فتول عنهم فما أنت بملوم (54)
كذلك أي كما ذكر من تكذيبهم الرسول، وتسميتهم له ساحرا أو مجنونا ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون يعني تقليدا لآبائهم، واقتداء لآثارهم، فمورد جهالتهم مؤتلف، ومشرع تعنتهم متحد. وقوله تعالى:
أتواصوا به إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء، فضلا عن التفوه بها. أي أأوصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا عليه. وقوله تعالى: بل هم قوم طاغون إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك، وإثبات لكونه أمرا أقبح من التواصي وأشنع منه، من الطغيان الشامل للكل، الدال على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة من كل واحد منهم، بمقتضى جبلته الخبيثة، لا بموجب وصية من قبلهم بذلك- أفاده أبو السعود-.
فتول عنهم أي أعرض عن مقابلتهم بالأسوإ كقوله تعالى: ودع أذاهم [الأحزاب: 48] ،. وقوله: واهجرهم هجرا جميلا [المزمل: 10] ، فما أنت بملوم أي في إعراضهم، إذ لست عليهم بجبار ولا مسيطر، وما عليك من حسابهم من شيء.
تنبيه:
قول بعض المفسرين هنا- فتول عنهم أي فأعرض عن مجادلتهم، بعد ما كررت عليهم الدعوة- بعيد عن المعنى بمراحل، لأن مجادلتهم مما كان مأمورا بها على المدى، لأنها العامل الأكبر لإظهار الحق، كما قال تعالى: وجاهدهم به جهادا كبيرا [الفرقان: 52] .
وكذا قول البعض في قوله تعالى: فما أنت بملوم أي في إعراضك بعد ما بلغت فإنه مناف للأمر بالذكرى بعد. فالصواب ما ذكرناه في تفسير الآية، لأنه المحاكي لنظائرها. وأقعد التفاسير ما كان بالأشباه والنظائر- كما قيل-: وخير ما فسرته بالوارد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 55]
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (55)
وذكر أي عظهم فإن الذكرى تنفع المؤمنين أي من قدر الله إيمانه، أو الذين آمنوا، فإنهم المقصودون من الخلق، لا من سواهم، إذ هم العابدون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 56]
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي لهذه الحكمة، وهي عبادته تعالى:
بما أمر على لسان رسوله، إذ لا يتم صلاح، ولا تنال سعادة في الدارين، إلا بها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 57 الى 58]
ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)
ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين بيان لعظمته عز وجل، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم، فإن عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة، وبواسطة كاسب عبيدهم، قدر أرزاقهم والله تعالى لا يطلب من عباده رزقا ولا إطعاما، بل هو الذي يرزقهم. وإنما يطلب منهم عبادته ليصرفوا ما أنعم به عليهم إلى ما خلقوا لأجله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 59]
فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون (59)
فإن للذين ظلموا أي ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب الرسول والإصرار على الشرك والبغي والفساد، ذنوبا أي نصيبا وافرا من العذاب مثل ذنوب أصحابهم أي مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية. وأصل (الذنوب) الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أو القريبة من الامتلاء. وهي تذكر وتؤنث، فاستعيرت للنصيب مطلقا، شرا كالنصيب من العذاب في الآية، أو خيرا كما في العطاء في قول عمرو بن شاس:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب، فيعطى لهذا ذنوب، ولآخر مثله.
فلا يستعجلون أي لا يطلبوا مني أن أعجل به قبل لأجله، فإنه لا بد آتيهم، ولكن في حينه، المؤخر لحكمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 60]
فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون (60)
فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون أي أوعدوا فيه نزول العذاب بهم، ماذا يلقون فيه من البلاء والجهد. و (اليوم) إما يوم القيامة، أو يوم بدر.
قال أبو السعود: والأول هو الأنسب بما في صدر السورة الكريمة الآتية.
والثاني هو الأوفق لما قبله، من حيث إنهما من العذاب الدنيوي- والله أعلم-.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطور
قال المهايمي: سميت به لأنه لما تضمن تعظيم مهبط الوحي، فالوحي أولى بالتعظيم، فيعظم الاهتمام بالعمل، لا سيما وقد عظم مصعد العمل وثمرته. وهذا من أعظم مقاصد القرآن وهي مكية، وآيها تسع وأربعون.
روي الشيخان «1» ومالك عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه.
وروي البخاري «2» : عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إني اشتكي! فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة. فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت، يقرأ بالطور وكتاب مسطور.
(1)
أخرجه البخاري في: التفسير، 52- سورة الطور، 1- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث رقم 465.

وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم 174.
(2)
أخرجه البخاري في: التفسير، 52- سورة الطور، 1- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث رقم 309.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
والطور (1) وكتاب مسطور (2) في رق منشور (3) والبيت المعمور (4)
والسقف المرفوع (5) والبحر المسجور (6)
والطور أي طور سينين، جبل بمدين، سمع فيه موسى، صلوات الله عليه.
كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تعالى.
وكتاب مسطور أي مكتوب. والمراد به القرآن، أو ما يعم الكتب المنزلة.
في رق منشور متعلق ب مسطور. أي وكتاب سطر في ورق منشور يقرأ على الناس جهارا. و (الرق) الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه.
والبيت المعمور أي الذي يعمر بكثرة غاشيته، وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمار والطائفين والعاكفين والمجاورين. وروي أنه بيت في السماء بحيال الكعبة من الأرض. يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبدا.
والأول أظهر، لأنه يناسب ما جاء في سورة (التين) من عطف البلد الأمين على طور سينين والقرآن يفسر بعضه بعضا، لتشابه آياته، وتماثلها كثيرا، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب.
قال المهايمي: أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي، لأنه محل أعظم الأعمال المقصودة منه، ولأنه مظهر الوحي، ومصدر الرحمة العامة المهداة للعالمين، ولأنه أجل الآيات وأكبرها. كما دل عليه آية أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [العنكبوت: 67] وآيات أخر.
والسقف المرفوع يعني السماء. وجعلها سقفا لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه.
والبحر المسجور أي المملوء، أو الذي يوقد، أي يصير نارا، كقوله وإذا البحار سجرت
[التكوير: 6] ، قال ابن جرير: والأول أولى. أعني: أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض، لأن الأغلب معاني (السجر) الإيقاد أو الامتلاء. فإذا كان البحر غير موقد اليوم، ثبتت له الصفة الثانية وهو الامتلاء، لأنه كل وقت ممتلئ. ولا تنس ما قدمنا في أوائل (الذاريات) من أن هذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 7 الى 16]
إن عذاب ربك لواقع (7) ما له من دافع (8) يوم تمور السماء مورا (9) وتسير الجبال سيرا (10) فويل يومئذ للمكذبين (11)
الذين هم في خوض يلعبون (12) يوم يدعون إلى نار جهنم دعا (13) هذه النار التي كنتم بها تكذبون (14) أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون (15) اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون (16)
إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع أي يدفعه عن المكذبين فينقذهم منه إذا وقع. يوم تمور السماء مورا أي تضطرب وتسير الجبال سيرا أي تسير عن وجه الأرض فتصير هباء منثورا فويل يومئذ للمكذبين أي بالحق الجاحدين له الذين هم في خوض أي من الاعتساف والاستهزاء يلعبون أي بآيات الله ودلائله يوم يدعون إلى نار جهنم دعا أي يدفعون إليها بعنف. يقال: دععت في قفاه، إذا دفعته فيه بإزعاج هذه النار التي كنتم بها تكذبون أي يقال لهم ذلك أفسحر هذا أي الذي وردتموه الآن. والفاء للسببية، لتسبب هذا عما قالوه في الوحي أم أنتم لا تبصرون أي كما كنتم لا تبصرون في الدنيا. قال الزمخشري: يعني أم أنتم عمي عن المخبر عنه، كما كنتم عميا عن الخبر. وهذا تقريع وتهكم. اصلوها أي:
ذوقوا حر هذه النار فاصبروا أي على ألمها أو لا تصبروا سواء عليكم أي الأمران. الصبر وعدمه سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون أي لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا لربكم، وكفركم به.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله: إنما تجزون إلخ؟ قلت لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع، لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير. فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء، ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 20]
إن المتقين في جنات ونعيم (17) فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم (18) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (19) متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين (20)
إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم أي متلذذين بما لديهم من الفواكه الكثيرة ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين جمع (عيناء) وهي الواسعة العين، في حسن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 21]
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين (21)
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان أي اقتفت آثارهم في الإيمان والعمل الصالح ألحقنا بهم ذريتهم أي في الجنات والنعيم. والخطاب، لما كان مع الصحابة رضي الله عنهم، وهم واثقون بوعد الله، تمم لهم البشارة بالموعود به، بأنه ينال ذريتهم أيضا، إن اتبعوا آباءهم بإحسان، هذا هو المراد من الآية. وأما من قال في معناها: إن المؤمن ترفع له ذريته فيلحقون به، إن كانوا دونه في العمل، فلا تقتضيه الآية تصريحا ولا تلويحا وما ألتناهم من عملهم من شيء أي وما نقصناهم من ثواب عملهم شيئا كل امرئ بما كسب رهين أي بما عمل من خير أو شر مرتهن به، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 22 الى 24]
وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون (22) يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (23) ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون (24)
وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون أي زدناهم وقتا بعد وقت، ما ذكر.
يتنازعون فيها كأسا أي يتعاطون فيها كأس الشراب ويتجاذبونها لا لغو فيها ولا تأثيم أي لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وباطله، ولا يفعلون ما يؤثم
به فاعله، كما كان في الدنيا. ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون أي مصون في كن، فهو أنقى له، وأصفى لبياضه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 25 الى 28]
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (25) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (26) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم (28)
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي يتجاذبون أطراف الأحاديث المفضية إلى شكر المنعم، والتحدث بالنعمة، وذلك في مساءلة بعضهم بعضا عما مضى لهم في الدنيا. قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم يعني: عذاب النار. وأصل (السموم) الريح الحارة التي تدخل المسام، فسميت بها نار جهنم، لمشابهتها لها، وإن كان وجه الشبه في النار أقوى، لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا، أعرف. إنا كنا من قبل ندعوه أي نعبده مخلصين له الدين إنه هو البر أي المحسن بمن دعاه الرحيم أي لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق.




ابوالوليد المسلم 28-02-2025 03:32 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النجم
المجلد الخامس عشر
صـ 5546 الى صـ 5555
الحلقة (567)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 29]
فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون (29)
فذكر أي من أرسلت إليهم وعظهم فما أنت بنعمة ربك بكاهن أي تتكهن فيما تدعو إليه ولا مجنون أي له رئي من الجن يخبر عنه قومه ما أخبر عنه، كما يعتقده العرب في بعضهم، ولكنك رسول الله حقا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 30 الى 31]
أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون (30) قل تربصوا فإني معكم من المتربصين (31)
أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون أي حوادث الدهر أو الموت، لأن (المنون) قد يراد به الدهر، وريبه صروفه. وقد يراد به الموت، وريبه نزوله. قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أي: حتى يأتي أمر الله فيكم. والأمر للتهكم بهم والتهديد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 32 الى 34]
أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون (32) أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون (33) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (34)
أم تأمرهم أحلامهم بهذا أي عقولهم بهذا التناقض في القول، أم أي بل هم قوم طاغون أي مجاوزن الحد في العناد، مع ظهور الحق أم يقولون تقوله أي اختلق هذا القرآن من عند نفسه، بل لا يؤمنون أي لا يريدون أن يؤمنوا حسدا وتقليدا، فلذلك يرمونه بتلك القرى. فليأتوا بحديث مثله أي في الهداية بذاك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة. كقوله: قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه [القصص: 49] ، إن كانوا صادقين أي في زعمهم، فإنهم من أهل لسان الرسول صلوات الله عليه، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض، في ميدان التساجل والتراسل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 43]
أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون (37) أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين (38) أم له البنات ولكم البنون (39)
أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (40) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (41) أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون (42) أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون (43)
أم خلقوا من غير شيء قال ابن جرير: أي أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء ولا أمهات، فهم كالجماد لا يعقلون، ولا يفهمون لله حجة، ولا يعتبرون له بعبرة، ولا يتعظون بموعظة. وقد قيل: إن معنى ذلك أم خلقوا لغير شيء، كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء، بمعنى: لغير شيء أم هم الخالقون أي أنفسهم، أو هذا الخلق، فهم لذلك لا يأتمرون لأمر الله، ولا ينتهون عما نهاهم عنه، لأن للخالق الأمر والنهي أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أي بوعيد الله، وما أعد لأهل الكفر به من العذاب في الآخرة، فلذلك فعلوا ما فعلوا. أم عندهم خزائن ربك أي خزائن رزقه، فهم لاستغنائهم معرضون أم هم المصيطرون أي الجبابرة المتسلطون أم لهم سلم أي مرتقي إلى السماء يستمعون فيه أي
الوحي، فيدعون أنهم سمعوا هنالك من الله أن الذي هم عليه حق. فليأت مستمعهم بسلطان مبين أي بحجة واضحة تصدق دعواه أم له البنات ولكم البنون أي حيث جعلوا، لسفاهة رأيهم، الملائكة إناثا، وأنها بناته تعالى، مع أنه وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم [النحل: 58] ، أم تسئلهم أجرا أي أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله تعالى، فهم من مغرم أي من التزام غرامة مثقلون أي منه ما شاءوا، وينبئون الناس عنه بما أرادوا أم يريدون كيدا أي بالرسول وما جاء به، فالذين كفروا هم المكيدون أي الممكور بهم دونك، فثق بالله، وامض لما أمرك به أم لهم إله غير الله أي له العبادة على جميع خلقه سبحان الله عما يشركون أي: تنزيها له عن شركهم، وعبادتهم معه غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 44]
وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم (44)
وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم هذا جواب لمشركي قريش الذين كانوا يستعجلون العذاب، ويقترحون الآيات كقولهم: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، إلى قوله: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا [الإسراء: 90- 92] .
قال الزمخشري: يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم، لو أسقطناه عليهم لقالوا:
هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض، يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 45 الى 46]
فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون (45) يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون (46)
فذرهم أي يخوضوا ويلعبوا، ويلههم الأمل، حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون أي يموتون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا أي لا يدفع عنهم مكرهم من عذاب الله، شيئا ولا هم ينصرون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 47]
وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون (47)
وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك أي دون يوم القيامة، وهو إما عذاب القبر،
أو القحط، أو النوازل التي تذهب بأموالهم وأنفسهم- أقوال للسلف- واللفظ صادق بالجميع ولكن أكثرهم لا يعلمون أي سنة الله في أمثالهم من الفجرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 48]
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم (48)
واصبر لحكم ربك أي الذي حكم به عليك، وامض لأمره ونهيه، وبلغ رسالاته. فإنك بأعيننا قال ابن جرير: أي بمرأى منا، نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين.
وقال الشهاب: يعني أن العين، لما كان بها الحفظ والحراسة، استعيرت لذلك، وللحافظ نفسه، كما تسمى (الربيئة) عينا، وهو استعمال فصيح مشهور. ونكتة جمع (العين) هنا وإفرادها في قصة الكليم، عدا عن أنه جمع هنا لما أضيف لضمير الجمع، ووحد ثمة لإضافته الواحد، هو المبالغة في الحفظ، حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم، لأن المقصود تصبير حبيبه على المكايد ومشاق التكاليف والطاعة. فناسب الجمع، لأنها أفعال كثيرة، يحتاج كل منها إلى حارس بل حراس. بخلاف ما ذكر هناك من كلاءة موسى عليه السلام وسبح بحمد ربك حين تقوم أي من منامك.
روى الإمام أحمد «1» عن عبادة بن الصامت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: رب اغفر لي (أو قال: ثم دعا) استجيب له. فإن عزم فتوضأ ثم صلى، قبلت صلاته» . وأخرجه البخاري «2» في صحيحه وأهل السنن.
وورد من أذكار الاستيقاظ من النوم قول: سبحان الله وبحمده، سبحان القدوس. و: لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم أستغفر لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما. ولا تزغ قلبي بعد إذا هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وقيل: حين تقوم إلى الصلاة- روى مسلم «3» في صحيحه عن عمر، أنه كان
(1)
أخرجه في المسند 5/ 313.

(2)
أخرجه في: التهجد، 21- باب حدثنا علي بن عبد الله، حديث رقم 634.

(3)
أخرجه في: الصلاة، حديث رقم 52.

يقول في: ابتداء الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول ذلك. وعن مجاهد: حين تقوم من كل مجلس. وكذا قال عطاء وأبو الأحوص.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من جلس في مجلس، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفرك وأتوب إليك- إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك- رواه الترمذي وصححه، وكذا الحاكم.
وأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة، إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. فقال رجل: يا رسول الله! إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى؟! قال: كفارة لما يكون في المجلس!
وقد أفرد الحافظ ابن كثير لهذا الحديث جزءا على حدة، ذكر فيه طرقه وألفاظه، وعلله، فرحمه الله.
ولا يخفى أن لفظ الآية يصدق بالمواضع المذكورة كلها، وتدل الأحاديث المذكورة على الأخذ بعمومها، فإن السنة بيان للكتاب الكريم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 49]
ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم (49)
ومن الليل فسبحه أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة بالليل، كما قال تعالى: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [الإسراء: 79] .
وقد روي في أذكار الليل من التسابيح ما هو معروف في كتب الحديث. وقد جمعت ذلك معرى عن أسانيدها في كتابي (الأوراد المأثورة) .
وإدبار النجوم أي: وسبحه وقت إدبارها، وذلك بميلها إلى الغروب عن الأفق، بانتشار ضوء الصبح، وقد عنى ذلك إما فريضة الفجر أو نافلته، أو ما يشملها.
قال قتادة: كنا نحدث أنهما الركعتان عند طلوع الفجر.
وقد ثبت في الصحيحين «1»
(1)
أخرجه البخاري في: التهجد، 27- باب تعاهد ركعتي الفجر، حديث 638.

وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 94 و 95.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل، أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر.
وفي لفظ لمسلم «1» : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.
قال الزمخشري: وقرئ وإدبار بالفتح، بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت.
تنبيه:
قال في (الإكليل) عن الكرماني: إن بعض الفقهاء استدل به على أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل لأن النجوم لا إدبار لها، وإنما ذلك بالاستتار عن العيون. انتهى.
وهو استدلال متين.
(1)
أخرجه في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 96.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النجم
مكية. وآيها ثنتان وستون آية.
روى البخاري «1» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم. قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أمية بن خلف
.
ووقع في رواية غيره، تسمية غير أمية- كما بسطه ابن حجر في (الفتح) -.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2)
والنجم إذا هوى أي إذا غرب وغاب عن الأبصار، أو انتثر يوم القيامة. أو انقض. ما ضل صاحبكم يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. والخطاب لقريش. أي ما حاد عن الحق، ولا زال عنه. وما غوى أي ما صار غويا، ولكنه على استقامة وسداد ورشد وهدى. وفيه تعريض بأنهم أهل الضلال والغي. وذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان (صاحبهم) للإعلام بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم بمحاسن شؤونه المنيفة.
فهو تبكيت لهم على وجه أبلغ من أن يصرح باسمه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 3 الى 4]
وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)
وما ينطق عن الهوى أي وما ينطق بهذا القرآن عن هواه ورأيه. وفيه تعريض بهم أيضا إن هو إلا وحي يوحى أي ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه.
وجملة (يوحى) صفة مؤكدة ل (وحي) رافعة لاحتمال المجاز، مفيدة للاستمرار
(1)
أخرجه البخاري، في: التفسير، سورة النجم، 4- باب فاسجدوا لله واعبدوا، حديث 588.

التجددي. والضمير للقرآن، لفهمه من السياق، ولأن كلام المنكرين كان في شأنه.
وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به مطلقا. واستدل على أن السنن القولية من الوحي، وقواه بما في (مراسيل) أبي داود عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها، كما يعلمه القرآن، واستدل أيضا على منع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم. والصواب هو الأول. أعني: كون مرجع الضمير للقرآن، لما ذكرنا، فإنه رد لقولهم (افتراه) والقرينة من أكبر المخصصات.
وجلى أنه صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول بالرأى في أمور الحرب، وأمور أخرى. فلا بد من التخصيص قطعا، وبأنه لا قوة في المراسيل، لما تقرر في الأصول. وبأن الآية لا تدل على منع الاجتهاد المذكور، ولو أعيد الضمير لما ينطق مطلقا. لأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا، لا نطقا عن الهوى. لأنه بمنزلة أن يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (متى ما ظننت كذا فهو حكمي) أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي، فيكون وحيا حقيقة، لاندراجه تحت الإذن المذكور، لأنه من أفراده. فما قيل عليه من أن الوحي الكلام الخفي المدرك بسرعة، فلا يندرج فيه الحكم الاجتهادي إلا بعموم المجاز. مع أنه يأباه قوله: علمه شديد القوى [النجم: 5] ، غير وارد عليه، بعد ما عرفت من تقريره- نقله في (العناية) عن (الكشف) - وتفصيل المسألة في مطولات الأصول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 5]
علمه شديد القوى (5)
علمه شديد القوى أي علم محمدا صلى الله عليه وسلم ملك شديد قواه، يعني جبريل عليه السلام. كما قال: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين [التكوير: 19- 20] ، والقوى جمع قوة، بضم القاف. ومن العرب من يكسرها كالرشا بكسر الراء في جمع رشوة بضمها والحبا في جمع حبوة- نقله ابن جرير.





ابوالوليد المسلم 28-02-2025 03:40 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النجم
المجلد الخامس عشر
صـ 5556 الى صـ 5565
الحلقة (568)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 6 الى 7]
ذو مرة فاستوى (6) وهو بالأفق الأعلى (7)
ذو مرة بكسر الميم. أي متابة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيره ونسيانه.
والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي ذو مرة من (أمررت الحبل) إذا أحكمت فتله فاستوى وهو بالأفق الأعلى قال الزمخشري: فاستقام على صورة نفسه الحقيقة، دون الصورة التي كان يتمثل بها، كلما هبط بالوحي. وكان ينزل في صورة دحية.
فالفاء- كما قال شراحه- سببية، لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق. أو عاطفة على علمه أي علمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية.
وقيل: (استوى) بمعنى (استولى) بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمور- حكاه القاضي-.
قال الشهاب: الأفق الناحية، وجمعه آفاق. والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، لا مصطلح أهل الهيئة. انتهى.
وقال ابن كثير: وقوله تعالى: فاستوى يعني جبريل عليه السلام- قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وهو بالأفق الأعلى يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى. قاله عكرمة وغير واحد.
ثم قال ابن كثير: وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد. وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى، أي هذا الشديد القوى وصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم، بالأفق الأعلى، أي استويا جميعا بالأفق الأعلى، وذلك ليلة الإسراء- كذا قال- ولم يوافقه أحد على ذلك. ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال:
وهو كقوله: أإذا كنا ترابا وآباؤنا [النمل: 67] ، فعطف بالآباء على المكني في كنا من غير إظهار (نحن) فكذلك قوله: فاستوى وهو. قال: وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء، بل قبلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام، وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح. ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة، بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة (اقرأ) ثم فترة الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال، فكلما هم بذلك ناداه جبريل من الهواء: يا محمد! أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل، فيسكن لذلك جأشه، وتقر عينه. وكلما طال عليه الأمر، عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، قد سد عظم خلقه الأفق، فاقترب
منه، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به، فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة، وجلالة قدره، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه اليه. انتهى.
أقول: قد وافق القاشاني ابن جرير في تأويل الآية، وعبارته:
فاستوى فاستقام على صورته الذاتية، والنبي بالأفق الأعلى، لأنه حين كون النبي بالأفق المبين لا ينزل على صورته، لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب، إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه، ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبي وكان من أحسن الناس صورة، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر، لم يفهم القلب كلامه، ولم ير صورته. وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مرتين: عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي، وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام عند سدرة المنتهى في التدلي. انتهى.
وكذا المهايمي وافقهما وعبارته:
فاستوى وهو أي صاحبكم عند استواء نفسه، صار بالأفق الأعلى الروحاني. انتهى.
وكذا الفخر الرازي وعبارته:
المشهور أن (هو) ضمير جبريل، وتقديره: استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقي، فسد المشرق لعظمته. والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم. معناه: استوى بمكان، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر، لا حقيقة في الحصول في المكان.
فإن قيل: كيف يجوز هذا والله تعالى يقول: ولقد رآه بالأفق المبين [التكوير: 23] ، إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين؟ نقول: وفي ذلك الموضع أيضا نقول كما قلنا هاهنا، أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق المبين. يقول القائل: رأيت الهلال، فيقال له: أين رأيته؟ فيقول: فوق السطح. أي: إن الرائي فوق السطح، لا المرئي. و (المبين) هو الفارق، من (أبان) أي فرق. أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان، ومنزلة الملك، فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى، وبلغ الغاية، وصار نبيا، كما صار بعض الأنبياء نبيا يأتيه الوحي في نومه، وعلى هيئته، وهو واصل إلى الأفق الأعلى، والأفق الفارق بين المنزلتين.
فإن قيل: ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه، فإن قوله: ثم دنا فتدلى إلى غير ذلك، وقوله تعالى: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته؟ نقول: سنبين موافقته لما ذكرنا إن شاء الله تعالى في مواضعه، عند ذكر تفسيره.
فإن قيل: الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته، حيث ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على صورته، فسد المشرق. فنقول: نحن ما قلنا إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية، حتى يلزم مخالفة الحديث، وإنما نقول إن جبريل أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مرتين، وبسط جناحيه، وقد ستر الجانب الشرقي وسده، ولكن الآية لم ترد لبيان ذلك.
انتهى كلام الرازي.
وفي القرطبي حكاية أقوال أخر، وعبارته:
فاستوى أي ارتفع جبريل، وعلا إلى مكانه في السماء، بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم- قاله سعيد بن المسيب وابن جبير-.
وقيل: فاستوى أي قام وظهر في صورته التي خلق عليها.
وقول ثالث: أن معنى فاستوى أي استوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان:
أحدهما- في صدر جبريل حين نزل به عليه السلام.
الثاني- في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه.
وقول رابع: أن معنى فاستوى فاعتدل. يعني محمدا في قوته، والثاني في رسالته- ذكره الماوردي-.
وعلى الأول يكون تمام الكلام ذو مرة، وعلى الثاني شديد القوى.
وقول خامس أن معناه فارتفع، وفيه على هذا وجهان:
أحدهما- أنه جبريل ارتفع إلى مكانه، على ما ذكرناه آنفا.
الثاني- أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج.
وقول سادس: فاستوى يعني الله عز وجل. أي استوى على العرش- على قول الحسين- انتهى.
هذا ما وقفنا عليه الآن من الأقوال في الآية، وسيأتي في أول التنبيهات إيضاح ما اخترناه منها، وإنما أخرنا ذكره لارتباطه بالآيات الآتية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 8 الى 9]
ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9)
ثم دنا أي ثم بعد استوائه، اقترب جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى أي إليه.
قال ابن جرير: هذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو ثم تدلى فدنا، ولكنه حسن تقديم قوله دنا إذ كان الدنو يدل على التدلي، والتدلي على الدنو.
كما يقال: زارني فلان فأحسن، وأحسن إلي فزارني.
وقال الشهاب: التدلي مجاز عن التعلق بالنبي بعد الدنو منه، لا بمعنى التنزل من علو، كما هو المشهور. أو هو دنو بحالة التعلق، فلا قلب ولا تأويل ب (أراد الدنو) - كما في الإيضاح-.
فكان قاب قوسين أو أدنى أي كأن مسافة ما بينهما مقدار قوسين. أي بقدرهما إذا مدا أو أقرب. أو الضمير لجبريل. أي كأن قربه قدر ذلك.
قال الشهاب: وقاب القوس وقيبه: ما بين الوتر ومقبضه. والمراد به المقدار، فإنه يقدر بالقوس، كالذراع.
وقد قيل: إنه مقلوب، أي قابى قوس، ولا حاجة إليه. فإن هذا إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله. إذا تحالفوا أخرجوا قوسين. ويلصقون إحداهما بالأخرى، فيكون القاب ملاصقا للآخر، حتى كأنهما ذوا قاب واحد، ثم ينزعانهما معا ويرميان بهما سهما واحدا، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهما رضا الآخر، وسخطه سخطه، لا يمكن خلافه- كذا قال مجاهد، وارتضاه عامة المفسرين- انتهى.
قال السمين: وقوله تعالى: أو أدنى كقوله: أو يزيدون [الصافات:
147] ، لأن المعنى: فكان بأحد هذين المقدارين في رأى الرائي. أي لتقارب ما بينهما، يشك الرائي في ذلك. فهو تمثيل لشدة القرب، وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بأنه في رأى العين، ورأى الواقف عليه، كما مر في أو يزيدون فإن المعنى:
إذا رآهم الرائي يقول هم مائة ألف أو يزيدون.
وقيل: (أو) بمعنى (بل) أي بل أدنى.
و (أدنى) أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف. أي: أو أدنى من قاب قوسين. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 10]
فأوحى إلى عبده ما أوحى (10)
حى إلى عبده ما أوحى (10) فأوحى أي جبريل إلى عبده
أي عبد الله تعالى، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما أضمر اسمه تعالى لعدم اللبس، وغاية ظهوره. أو: فأوحى الله عز وجل بواسطة جبريل الذي تدلى إليه ما أوحى
أي مما أمره به. وفيه تفخيم للموحى به، إذ الإبهام يفيد التعظيم، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 11]
ما كذب الفؤاد ما رأى (11)
ما كذب الفؤاد ما رأى أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه من الملك الذي جاءه بالوحي من ربه. يعني: أنه رآه بعينه، وتيقنه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق وصدق وقرئ ما كذب بالتشديد. أي صدقه ولم يشك أنه ملك رباني، لا خيال شيطاني، كما قال وما هو بقول شيطان رجيم [التكوير: 25] . وقد ذكر ابن كثير أن هذه الرؤية في أوائل البعثة، كما تقدم النقل عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 12]
أفتمارونه على ما يرى (12)
أفتمارونه على ما يرى أي أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك المنزل عليه.
قال القاشاني: أي أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره، فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات، فحيث لا تصور، فلا مخاصمة حقيقة. انتهى. وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء عليهم السلام، لا يمكن لغيرهم اكتناهها، وإنما عليهم الإيمان بها، والإذعان لها، لقيام الدليل عليها. وبالجملة، فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئي، لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 13 الى 18]
ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17)
لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)
ولقد رآه نزلة أخرى أي مرة أخرى من النزول، وتأكيد الخبر عن الرؤية الثانية هذه، لنفي الريبة والشك عنها أيضا. وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه. عند سدرة المنتهى أي موضع الانتهاء، أو الانتهاء. ف (المنتهى) : اسم مكان، أو مصدر ميمي. وقد جاء في الصحيح أنها شجرة نبق في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من أمر الله من الأرض، فيقبض منها. وما يهبط به من فوقها، فيقبض منها.
قال القاضي: ولعلها شبهت بالسدرة، وهي شجرة النبق، لأنهم يجتمعون في ظلها. يعني أن شجر النبق يجتمع الناس في ظله، وهذه يجتمع عندها الملائكة، فشبهت بها، وسميت (سدرة) لذلك. فإطلاقها عليها بطريق الاستعارة. لكن ورد في الحديث أن كل نبقة فيها كقلة من قلال هجر، فهي على هذا حقيقة، وهو الأظهر- قاله الشهاب-.
عندها جنة المأوى أي التي يأوي إليها أرواح المقربين. إذ يغشى السدرة ما يغشى قال القاشاني: أي من جلال الله وعظمته. معناه أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها، وتهبط عليها، وتحف من حولها. ما زاغ البصر أي ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه. وما طغى أي ما تجاوز مرئية المقصود له، بل أثبت ما رآه إثباتا مستيقنا صحيحا لا شبهة فيه.
وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم وتمكنه، إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته. لقد رأى من آيات ربه الكبرى يعني الملك الذي عاينه وأخبره برسالته. وفيه غاية التفخيم لمقامه، وأنه من الآيات الكبر.
قال الناصر: ويحتمل أن تكون الكبرى صفة لآيات، ويكون المرئي محذوفا لتفخيم الأمر وتعظيمه، كأنه قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف. والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول.
تنبيهات:
الأول- قدمنا في تفسير قوله تعالى: فاستوى وهو بالأفق الأعلى ما قاله المفسرون من الأقوال العديدة. ولا يخفى ما في بعضها من التكلف والتعسف، كتوجيه ابن جرير والرازي ومن وافقهما، وبعض أقوال حكاها القرطبي. والأقرب في معنى الآية ما ذكره الإمام ابن كثير، كما نقلناه عنه، لكثرة الأحاديث الواردة فيما يفسرها بذلك ونحن نقول في تأييده إن القرآن يفسر بعضه بعضا، لتشابه آياته الكريمة وتماثلها. والآية هذه مشابهة لما في سورة التكوير تمام المشابهة، فقد قال
تعالى ثمة: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين [التكوير: 19- 23] ، فترى هذه الآيات مشابهة للآيات هنا، وإن كان فيما هنا زيادة رؤية، وبيان دنو واقتراب لم يذكر في (التكوير) . وسر الزيادة هو ارتقاء النبي صلى الله عليه وسلم في معارج الكمالات وقتا فوقتا. وسورة النجم مما نزل بعد التكوير، كما حكاه في (الإتقان) عن ابن عباس وغير واحد من السلف، فلذلك كان في (النجم) زيادة هذا التكريم والتفضيل. وحاصل المعنى:
أن ما ينطق به من هذا القرآن ليس عن هواه، وإنما هو وحي علمه إياه ملك كريم، جم المناقب، لأنه شديد القوى، ذو مرة، رفيع المكانة بالأفق الأعلى. ثم لما شاء تعالى إنزال وحيه على نبيه تنزل من الأفق، ودنا إليه، وكان في غاية القرب منه، والتمكن من رؤيته، وتلقي الوحي عنه، وذلك كله حق وصدق لا مرية فيه. وكيف يماري من يرى ببصره ما يصدقه فؤاده فيه ولا يكذبه، لا سيما ولم تكن رؤياه له مرة واحدة، بل رآه نزلة ثانية، نزل إليه بالوحي في مكان معين لا يشتبه على رائيه، وهو سدرة المنتهى. وبالجملة، فتوافق هذه الآيات لآيات (التكوير) وتفسير بعضها بعضا، أمر لا خفاء به عند المتدبر، وكله رد على المشركين المفترين، وإقسام على حقيقة الوحي والتنزيل، وصدق ما يخبر به، لا سيما وهو صادق عندهم لا يكذبونه. فما بقي بعد التعنت والجحد إلا انتظار سنة الله في أمثالهم من الأمم الكافرة الجاحدة، كما أشار له في آخر السورة.
هذا ملخص معنى الآيات، وما عداه فتوسع وحمل اللفظ على ما تجوزه مادته. وكل ما يتسع له اللفظ هو المراد- والله الموفق-.
الثاني- ما قدمناه من رجوع الضمائر في قوله تعالى: ثم دنا فتدلى ...
إلخ إلى جبريل عليه السلام، هو الذي عول عليه عامة المفسرين، وقد أيدناه بما رأيت.
قال الإمام ابن تيمية: الدنو والتدلي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه- كما قالت عائشة وابن مسعود- والسياق يدل عليه، فإنه قال علمه شديد القوى وهو جبريل، ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وهو ذو المرة أي القوة، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى، وهو الذي دنا فتدلى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين
أو أدنى، وهو الذي رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، رآه على صورته مرتين، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. انتهى.
وروى البخاري «1» في هذه الآيات عن ابن مسعود قال: رأى جبريل له ستمائة جناح.
وروى الترمذي «2» عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، ولم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في جياد- مكان بمكة- له ستمائة جناح، قد سد الأفق.






ابوالوليد المسلم 28-02-2025 03:47 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النجم
المجلد الخامس عشر
صـ 5566 الى صـ 5575
الحلقة (569)






وأما ما وقع في حديث شريك في البخاري «3»
من قوله: (دنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)
، فإن لم يكن ذلك من زيادة شريك، على ما ذهب إليه الإمام مسلم وغيره، فهو دنو وتدل غير ما في سورة النجم، نؤمن به. ونفوض كيفيته إليه تعالى، كسائر أخبار الصفات.
قال ابن كثير: قد تكلم كثير من الناس في رواية شريك، فإن صح فهو محمول على وقت آخر، وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال بعده ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذه هي ليلة الإسراء، والأولى كانت في الأرض. انتهى.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: وقع في حديث شريك في الإسراء زيادة على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل. وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤية جبريل، أصح.
قال العماد بن كثير: وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة، هو الحق،
فإن أبا ذر قال: يا رسول الله! رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه.
وفي رواية: رأيت نورا- أخرجه مسلم «4» -.
وقوله: ثم دنا فتدلى إنما هو جبريل عليه السلام، كما ثبت ذلك في
(1)
أخرجه البخاري في: التفسير، سورة النجم، 1- حدثنا يحيى بن وكيع، حديث رقم 1526. []

(2)
أخرجه الترمذي في: التفسير، سورة النجم، 3- حدثنا ابن أبي عمر.

(3)
أخرجه البخاري في: التوحيد، 37- باب قوله: وكلم الله موسى تكليما، حديث رقم 1684، عن أنس بن مالك.

(4)
أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 291 و 292.

الصحيحين عن عائشة «1» وعن ابن مسعود «2» . وكذلك هو في صحيح مسلم «3» عن أبي هريرة، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه بهذا. انتهى.
وقال شمس الدين بن القيم في (زاد المعاد) : اختلف الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأى ربه تلك الليلة أم لا؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقال: إن قوله تعالى:
ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى إنما هو جبريل.
وصح عن أبي ذر أنه سأله: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه.
أي حال بيني وبين رؤيته النور، كما في لفظ آخر: رأيت نورا.
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره.
قال الإمام ابن تيمية: وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا، ولا قوله رآه بفؤاده. وقد صح عنه أنه قال: رأيت ربي تبارك وتعالى، لكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه. وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال: نعم رآه حقا، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد. وأما قول ابن عباس: رآه بفؤاده مرتين. فإن كان استناده إلى قوله تعالى: ما كذب الفؤاد ما رأى ثم قال: ولقد رآه نزلة أخرى والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها. انتهى.
وقال ابن كثير: أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي عز وجل»
، فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام، كما
رواه الإمام أحمد «4» أيضا عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني ربي الليلة في أحسن صورة (أحسبه، يعني في النوم) فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: لا. فوضع يده بين كتفي حتى
(1)
أخرجه البخاري في: التفسير، سورة النجم، 1- حدثنا يحيى حدثنا وكيع، حديث رقم 1528 وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث 287.

(2)
أخرجه البخاري في: التفسير، سورة النجم، 1- حدثنا يحيى حدثنا وكيع، حديث رقم 1526.

وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث 280.
(3)
أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 283.

(4)
أخرجه في المسند 1/ 368. حديث رقم 3484.

وجدت بردها بين ثديي (أو قال نحري) فعلمت ما في السموات وما في الأرض. ثم قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: نعم! يختصمون في الكفارات والدرجات. قال: وما الكفارات؟ قال: قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره! من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير. وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: قل يا محمد إذا صليت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة، أن تقبضني إليك غير مفتون.
قال: «والدرجات بذل الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام» .
ثم قال ابن كثير: وقوله تعالى: لقد رأى من آيات ربه الكبرى، كقوله:
لنريك من آياتنا الكبرى [طه: 23] ، أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا، وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة، أن الرؤية تلك الليلة لم تقع. لأنه قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك، ولقال ذلك للناس. انتهى.
الثالث- ذهب بعضهم إلى أن هذه السورة أنزلت لإثبات المعراج النبوي، أعني: عروجه صلى الله عليه وسلم، وصعوده وارتقاءه إلى ما فوق السموات السبع، كما ذكر في أحاديث المعراج عن سدرة المنتهى فوق السماوات، ومشاهدة جبريل على صورته.
قال القليوبي: لما كان الإسراء مقدما في الوجود على المعراج، لأنه كالوسيلة والبرهان، إذ يلزم من التصديق بخوارق العادة فيه، التصديق بالمعراج وما فيه. وكان ما في المعراج من الخوارق أعظم وأكثر، صدره تعالى بالقسم الدال على تأكيد ثبوته، والرد على منكريه والطاعنين فيه، واستطرد مع ذلك الرد على من نسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز عليه، فقال والنجم ... إلخ انتهى.
ومما قدمنا يظهر أن نزول السورة لتأييد الرسالة النبوية، وتحقيق الوحي، بأنه تعليم ملك كريم، مرئي للحضرة النبوية رؤية تدفع كل لبس، لا لإثبات المعراج.
ثم من الغرائب أيضا هنا، قول بعضهم محاولا سر إفراد الإسراء عن المعراج، وذكر كل في سورة، ما مثاله: إن الإسراء أنزل أولا وحده، حملا للمشركين على تسليم ما وضح صدقه صلى الله عليه وسلم فيه، توصلا للتصديق بما وراءه فإنه صلى الله عليه وسلم أرشد أن يخبر المشركين أولا بالإسراء إلى المسجد الأقصى، لأن قريشا تعرفه، فيسألونه عنه، فيخبرهم بما يعرفون، مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط، فتقوم الحجة
عليهم. وكذلك وقع، كما ذكر في الروايات. وعلى أثر هذا الإخبار أنزل بيان الإسراء، ثم ألهم صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بالمعراج إلى ملكوت السموات، ورؤية جبريل عليه السلام، وأنزل الله تصديقه في سورة النجم. انتهى. فكل هذا مما لا سند له، نعم! روى البيهقي وابن أبي حاتم وابن جرير في حديث مطول، أنه صلى الله عليه وسلم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب. إني أتيت البارحة بيت المقدس، وعرج بي إلى السماء ورأيت كذا وكذا، إلا أن يقال ليس هذا من مرويات الصحيحين، ولا حجة في الأخبار إلا مرويهما. وبالجملة، فالمعول عليه هو أن المعراج لم يرد له ذكر في القرآن مطلقا، وما ورد في هذه السورة وسورة التكوير، فلا علاقة له بالمعراج، وإنما هي رؤية النبي صلوات الله عليه لجبريل من الأرض على صورته الحقيقية كما تقدم. وأما المعراج فإنما كان رؤيا منامية روحانية. لصريح حديث البخاري في ذلك من طرقه التي عن أنس ومالك بن أبي صعصعة. قال بعضهم ولذلك لم يذكر في حديث المعراج، بحسب رواية البخاري التي هي أصح الروايات بالإجماع، أن النبي صلى الله عليه وسلم سار أولا إلى بيت المقدس، بل المذكور فيه أنه سار مباشرة من مكة إلى السماء الأولى، وكذلك لم يذكر فيه أن جبريل فارقه، ثم ظهر له عند سدرة المنتهى بصورته الحقيقية، بل المذكور أنه كان مصاحبا له من أول المعراج إلى آخره على صورة واحدة، وذلك يدل على أن ما ذكر في القرآن مما وقع يقظة، هو غير ما ذكر في الحديث، مما وقع مناما في وقت آخر، وإلا لذكرا معا في سياق واحد، إما في القرآن، وإما في أصح الأحاديث، وهو الأمر الذي لم يحصل إلا في بعض روايات لا يعول عليها، وهي من خلط بعض الرواة الحوادث بعضها ببعض. انتهى- والله أعلم-.
ثم قال تعالى منكرا على المشركين عبادتهم الأوثان، واتخاذهم لها البيوت، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن لعبادته تعالى وحده، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 20]
أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20)
أفرأيتم اللات قال ابن كثير: هي صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، هم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله، فقالوا اللات يعنون مؤنثة من لفظه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، كما قالوا: عمرو وعمرة.
وقال الزمخشري: هي فعلة من (لوى) لأنهم كانوا يلوون عليها، ويعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها، أي يطوفون.
وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرءوا (اللات) بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلا يلت للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه. والعزى وهي شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف.
قال ابن جرير: اشتقوا اسمها من اسمه تعالى (العزيز) وقال الزمخشري: أصلها تأنيث الأعز.
ومناة الثالثة الأخرى وهي صخرة كانت بالمشلل عند قديد، بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة.
روى البخاري عن عائشة نحوه.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول:
اللات والعزى ومناة الثالثة، أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
انتهى.
تنبيهات:
الأول- قال القاضي: (مناة) فعلة، من مناه إذا قطعه. فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين. ومنه سميت (منى) لأنه يمنى فيها القرابين، أي ينحر.
وقال الزمخشري: وكأنها سميت (مناة) لأن دماء المناسك كانت تمنى عندها، أي تراق. وقرئ (مناءة) مفعلة من (النوء) ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها.
فإن قيل: كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها، معلوم غير محتاج للبيان.
وأجيب: بأنهما صفتان للتأكيد، أو الثالثة للتأكيد، والأخرى بيان لها، لأنها مؤخرة رتبة عندهم، عن اللات والعزى.
قال الناصر: (الأخرى) ما يثبت آخرا، ولا شك أنه في الأصل مشتق من التأخير الوجودي، إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجودي، إلى الاستعمال، حيث يتقدم ذكر معاير لا غير حتى سلبته دلالته على المعنى الأصلي، بخلاف (آخر) و (آخرة) على وزن فاعل وفاعلة، فإن إشعارها بالتأخير الوجودي، ثابت لم يغير، ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا ربيع الآخر، على وزن الأفعل، وجمادى الأخرى، إلى ربيع الآخر على وزن فاعل، وجمادى الآخرة على وزن فاعلة، لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجودي، لأن (الأفعل) و (الفعلى) من هذا الاشتقاق مسلوب الدلالة على غرضهم، فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة والتزموا ذلك فيهما.
وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدته، وهو الحق إن شاء الله تعالى، وحينئذ يكون المراد الإشعار بتقدم مغاير في الذكر مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية. انتهى.
الثاني- قال ابن كثير: كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب. ويهدى لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده. فكافت لقريش ولبني كنانة (العزى) بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم. وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
روى النسائي عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالدين الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد، وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ارجع، فإنك لم تصنع شيئا. فرجع خالد. فلما أبصر السدنة وهم حجبتها، أمعنوا في الحيل وهم يقولون: يا عزى! يا عزى! فأتاها خالد. فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها. تحفن التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: تلك العزى!
قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بني معتب، وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فدماها، وجعلا مكانها مسجدا بالطائف.
قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر، من ناحية المشلل بقديد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان، صخر بن حرب فهدمها. ويقال: علي بن أبي طالب. انتهى.
الثالث- قال ابن جرير: اختلف أهل العربية في وجه الوقف على (اللات) و (منات) فكان بعض نحويي البصرة يقول: إذا سكت قلت اللات، وكذلك مناة، تقول منات. وقال: قال بعضهم: اللات، فجعله من اللت الذي يلت. ولغة العرب يسكتون على ما فيه الهاء بالتاء، يقولون: رأيت طلحت. وكل شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه بالتاء، نحو نعمة ربك، وشجرة. وكان بعض نحويي الكوفة يقف على (اللات) بالهاء. وكان غيره منهم يقول: الاختيار في كل ما لم يضف، أن يكون بالهاء رحمة من ربي [الكهف: 98] ، وشجرة تخرج [المؤمنون: 20] ، وما كان مضافا فجائز بالهاء والتاء، فالتاء للإضافة، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني. وهذا القول الثالث أفشى اللغات وأكثرها في العرب، وإن كان للأخرى وجه معروف. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 21 الى 22]
ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22)
ألكم الذكر وله الأنثى قال الزمخشري: كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، مع وأدهم البنات، فقيل لهم: ألكم الذكر وله الأنثى ويجوز أن يراد أن اللات والعزى ومنات إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولدن لكم، وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله، وتسمونهن آلهة؟ انتهى.
لطيفة:
قال الشهاب: قد مر مرارا الكلام في أرأيت وأنها بمعنى (أخبرني) وفي كيفية دلالتها على ذلك، واختلاف النحاة في فعل الرؤية فيه، هل هو بصري؟ فتكون
الجملة الاستفهامية بعدها مستأنفة لبيان المستخبر عنه. وهو الذي اختاره الرضي.
أو علمية، فتكون في محل المفعول الثاني، فالرابط حينئذ أنها في تأويل: أهي بنات الله؟
قال السمين: وكأن أصل التركيب: ألكم الذكر، وله هن، أي: تلك الأصنام.
وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأس فاصلة.
وقوله تعالى: تلك إشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية إذا قسمة ضيزى أي جائرة، غير مستوية، ناقصة غير تامة، لأنكم جعلتم لربكم من لولد والند ما تكرهون لأنفسكم، وآثرتم أنفسكم بما ترضونه.
قال ابن جرير: والعرب تقول (ضزته حقه) بكسر الضاد، و (ضزته) بضمها، فأنا أضيزه وأضوزه، وذلك إذا نقصته حقه ومنعته.
تنبيه:
قال السمين: قرأ ابن كثير (ضئزى) بهمزة ساكنة، والباقون بياء مكانها. وقرأ زيد بن علي (ضيزى) بفتح الضاد والياء الساكنة. فأما قراءة العامة فتحتمل أن تكون من (ضازه يضيزه) إذا ضامه وجار عليه، فمعنى (ضيزى) جائرة. وعلى هذا فتحتمل وجهين: أحدهما- أن تكون صفة على (فعلى) بضم الفاء، وإنما كسرت الفاء لتصح الياء كبيض.
فإن قيل: وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضم الفاء، ولم لا قيل (فعلى) بالكسر؟.
فالجواب: أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات (فعلى) بكسر الفاء، وإنما ورد بضمها، نحو حبلى وأنثى وربى وما أشبهه، إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك.
حكى ثعلب: مشية حيكى، ورجل كيسي. وحكى غيره: امرأة عزهى وامرأة سعلى.
وهذا لا ينقض على سيبويه لأنه يقول في (حيكى وكيسي) كقوله في (ضيزى) لتصح الياء. وأما عزهى وسعلى فالمشهور فيهما عزهاة سعلاة.
والوجه الثاني- أن تكون مصدرا كذكرى. قال الكسائي: يقال ضاز يضيز ضيزى، كذكر يذكر ذكرى. ويحتمل أن يكون من (ضأزه) بالهمزة كقراءة ابن كثير، إلا أنه خفف همزها، وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدال مثل هذه الهمزة ياء، لكنها لغة التزمت، فقرأوا بها. ومعنى ضأزه يضأزه بالهمزة، نقصه ظلما وجورا، وهو
قريب من الأول. و (ضيزي) في قراءة ابن كثير مصدر وصف به، ولا يكون وصفا أصليا. لما تقدم عن سيبويه.
فإن قيل: لم لا قيل في (ضئزى) بالكسر والهمز، أن أصله ضيزى بالضم فكسرت الفاء، لما قيل فيها مع الياء؟
فالجواب: أنه لا موجب هنا للتغيير، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنة وسمع منهم (ضؤزى) بضم الضاد مع الواو والهمزة.
وأما قراءة زيد فيحتمل أن تكون مصدرا وصف به، كدعوى، وأن تكون صفة كسكرى وعطشى. انتهى.





ابوالوليد المسلم 28-02-2025 03:53 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النجم
المجلد الخامس عشر
صـ 5576 الى صـ 5585
الحلقة (570)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 23]
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23)
إن هي أي الأصنام المذكورة باعتبار الألوهية التي يدعونها لها إلا أسماء أي محضة ليس تحتها مما تنبئ هي عنه من معنى الألوهية، شيء ما أصلا.
أي ليس لها نصيب منها إلا إطلاق تلك الأسماء عليها.
قال الشهاب: والمراد لا نصيب لها أصلا، ولا وجه لتسميتها بذلك، ولو كانت الألوهية متحققة بمجرد التسمية كانت آلهة، فهو من نفي الشيء بإثباته، أو هو ادعاء محض لا طائل تحته. سميتموها أي جعلتموها أسماء مع خلوها عن المسميات أنتم وآباؤكم أي بمقتضى أهوائكم. وتقليد التابع للمتبوع ما أنزل الله بها من سلطان أي برهان يتعلق به إن يتبعون إلا الظن أي إلا توهم أن ما هم عليه حق وما تهوى الأنفس أي تشتهيه أنفسهم.
قال ابن جرير: لأنهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله، ولا عن رسول من الله أخبرهم به، وإنما هو اختلاق من قبل أنفسهم، أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه ولقد جاءهم من ربهم الهدى أي الدليل الواضح، والبيان بالوحي أن عبادتها لا تنبغي وأنه لا تصلح العبادة إلا له تعالى وحده.
قال أبو السعود: والجملة حال من فاعل يتبعون أو اعتراض. وأيا ما كان، ففيه تأكيد لبطلان اتباع الظن، وهوى النفس، وزيادة تقبيح لحالهم، فإن اتباعهما
من أي شخص كان، قبيح. وممن هداه الله تعالى بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال الكتب، أقبح.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بقوله: إن هي إلا أسماء.. إلخ على أن اللغات توقيفية. ووجهه أنه تعالى ذمهم على تسمية بعض الأشياء بما سموها به، ولولا أن تسمية غيرها من الله توقيف، لما صح هذا الذم، لكون الكل اصطلاحا منهم.
واستدل بقوله تعالى: إن يتبعون إلا الظن إلخ على إبطال التقليد في العقائد واستدل به الظاهرية على إبطاله مطلقا، أو إبطال القياس.
أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال: احذروا هذا الرأي على الدين، فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا لأن الله كان يريه، وإنما هو منا تكلف وظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 24]
أم للإنسان ما تمنى (24)
أم للإنسان ما تمنى أي ليس له ما يشتهيه من الأمور التي منها طمعه الفارغ في شفاعة الأنداد، وتعنته في دفاع اليقين بالظن، وتركه نفسه وهواها بلا شرع يقيده ولا مهيمن يزعه. فإن ذلك من المحالات في نظر العقل السليم، كقوله: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب [النساء: 123] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 25]
فلله الآخرة والأولى (25)
فلله الآخرة والأولى أي فمصير الأمر فيهما له تعالى، لا للإنسان حسب ما تسول له نفسه الأمارة بالسوء، كما قال: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض إلخ [المؤمنون: 71] ، ولذا أرسل له الرسل، وانزل الكتب، قطعا للمعاذير.
ونبهه بالعقل على سبل السعادة التي لا تخفى على بصير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 26]
وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26)
وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى هذا توبيخ من الله تعالى لعبدة الأوثان، بإقناطهم عما علقوا به أطماعهم من شفاعة أوثانهم، بأن ملائكته الكرام لا يتفوهون بالشفاعة إلا من بعد إذنه ورضاه. فإنى لهذه الطواغيت أن تفتات على هذا المقام، ولها من الذلة والصغار ما يبعدها عنه بألف منزل.
ثم أشار إلى طغيان آخر للمشركين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 27]
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى (27)
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى أي تسمية الإناث، وذلك أنهم كانوا يقولون: هم بنات الله. فالأنثى بمعنى الإناث، لأنهم اسم جنس يتناول الكثير والقليل. وقيل: بمعنى الطائفة الأنثى. وقيل: منصوب بنزع الخافض على التشبيه، فلا تمس الحاجة إلى الجمعية. وقيل: أفرد لرعاية الفاصلة. وقيل:
الملائكة في معنى استغراق المفرد، أي ليسمون كل واحد منهم بنتا، وهي تسمية الأنثى، على وزان (كسانا الأمير حلة) أي كسا كل واحد منا حلة، والإفراد لعدم اللبس.
قال أبو السعود: وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة، إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة، واستتباع العقوبة في الآخرة، بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 28 الى 29]
وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا (28) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29)
وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا أي لا يفيد فائدته، ولا يقوم مقامه، وذلك لأن حقيقة الشيء وما هو عليه، إنما تدرك إدراكا معتدا به، إذا كان عن يقين، لا عن ظن وتوهم فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا أي من هؤلاء الكفرة الذين يرون غاية سعادتهم التنعم بلذائذها، لقصر نظرهم على المحسوسات. والمراد من (الإعراض) هجرهم هجرا
جميلا، وترك إيذائهم. وقول الزمخشري: أي أعرض عن دعوة من رأيته معرضا عن ذكر الله ... إلخ- لا يصح. لأن الصدع بالحق لا تسامح فيه، لا سيما والدعوة للمعرضين، وهي تستلزم أن يحاجوا به بمنتهى الطاقة لقوله تعالى: وجاهدهم به جهادا كبيرا [الفرقان: 52] ، وإنما معنى الآية: فاصفح عنهم ودع أذاهم في مقابلة ما يجهلون به عليك، كما بين ذلك في مواضع من التنزيل، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 30]
ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30)
ذلك مبلغهم من العلم يعني أمر الدنيا منتهى علمهم، لا علم لهم فوقه.
ومن كان هذا أقصى معارفه، فما على داعيه إلا الصفح عنه، والصبر على جهله.
و (مبلغ) اسم مكان مجازا، كأنه محل وقف فيه علمهم ادعاء- كما حققه الشهاب- والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا، ثم علل الأمر بالإعراض بقوله سبحانه: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى أي: ولا بد أن يعاملهم بموجب علمه فيهم، فيجزي كلا بما يقتضيه عمله، وتقديم العلم بمن ضل، لأنهم المقصودون من الخطاب، والسياق فيهم. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 31]
ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى (31)
ولله ما في السماوات وما في الأرض تنبيه على سعة ملكه، وعظمة قدرته، وأن ما فيهما من قبضته، فلا يعجزه جزاء هؤلاء الفجرة، كما قال: ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى أي بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة ثم بين صفات هؤلاء المحسنين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 32]
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (32)
الذين يجتنبون كبائر الإثم يعني ما كبر الوعيد عليه من المناهي والفواحش يعني ما فحش منها. والعطف إما من عطف أحد المترادفين أو الخاص على العام إلا اللمم أي الصغائر من الذنوب. ومثله أبو هريرة بالقبلة والغمزة والنظرة- فيما رواه ابن جرير- وأصل معناه: ما قل قدره. ومنه: لمة الشعر، لأنها دون الوفرة. وقيل: معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له. والاستثناء منقطع على ما ذكر. أي إلا اللمم بما دون الكبائر والفواحش، فإنه عفو. وقيل: متصل، والمراد مطلق الذنوب. وقيل: إنه لا استثناء فيه أصلا. و (إلا) صفة بمعنى غير- وتفصيله في (العناية) -.
وحكى ابن جرير عن ابن عباس وغيره أن معنى (اللمم) ما قد سلف لهم مما ألموا به من الفواحش والكبائر في الجاهلية قبل الإسلام، وغفرها لهم حين أسلموا.
وعن ابن عباس أيضا قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب ولا يعود.
قال:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
وقال الحسن: (اللمم) أن يقع الوقعة ثم ينتهي. وكل هذا ما يتناوله اللفظ الكريم والأقوى في معناه هو الأول. ولذا استدل بالآية على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر كما قال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [النساء: 31] .
إن ربك واسع المغفرة قال ابن جرير: أي واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض قال ابن جرير: أي أحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم أي حيثما يصوركم في الأرحام فلا تزكوا أنفسكم أي تشهدوا لها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي. والمراد به الثناء تمدحا أو رياء هو أعلم بمن اتقى أي بمن اتقاه فعمل بطاعته، واجتنب معاصيه وأصلح. وهذا كقوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [النساء: 49] .
وفي الصحيحين «1» عن أبي بكرة قال: مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال
(1)
أخرجه البخاري في: الأدب، 95- باب ما جاء في قول الرجل ويلك، حديث رقم 1293.

وأخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث 65 و 66.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! قطعت عنق صاحبك (مرارا) إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا
، أحسبه:
كذا وكذا إن كان يعلم ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 35]
أفرأيت الذي تولى (33) وأعطى قليلا وأكدى (34) أعنده علم الغيب فهو يرى (35)
أفرأيت الذي تولى أي عن الذكر بعد إذ جاءه، كما قال تعالى: فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [القيامة: 31- 32] . وأعطى قليلا وأكدى أي قطع العطاء بخلا وشحا أعنده علم الغيب فهو يرى أي يراه حتى يحكم على نفسه بالتزكية والنجاة والفوز؟.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 36 الى 37]
أم لم ينبأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37)
أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى أي بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه، كما قال: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن. [البقرة: 124] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 38]
ألا تزر وازرة وزر أخرى (38)
ألا تزر وازرة وزر أخرى أي لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها. بل كل آثمة، فإن إثمها عليها.
قال القاشاني: لأن العقاب يترتب على هيئات مظلمة رسخت في النفس بتكرار الأفاعيل والأقاويل السيئة التي هي الذنوب، وكذلك الذنوب. وكذلك الثواب، إنما يترتب على أضدادها من هيئات الفضائل، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 39]
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39)
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى أي: إلا سعيه وكسبه.
تنبيهات:
الأول- قال ابن جرير: إنما عنى بقوله: ألا تزر وازرة وزر أخرى الذي
ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة! يقول: ألم يخبر قائل هذا القول، وضامن هذا الضمان، بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب: أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها وأن ليس للإنسان إلا ما سعى أي: وأنه لا يجازى عامل إلا بعمله، خيرا: كان أو شرا. انتهى.
وظاهر السياق يشعر بنزول الآيات ردا على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه، ويتحكمون فيه على الغيب لجاجا وجهلا. ومع ذلك فمفهومها الشمولي جلي.
الثاني: قال السيوطي في (الإكليل) : استدل به على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحي والميت. واستدل به الشافعي على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات. انتهى.
وقال ابن كثير: ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما
الحديث الذي رواه مسلم «1» في صحيحه عن أبي هريرة قال «قال رسول الله إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به»
-
فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في

الحديث «2»
«إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه. والصدقة الجارية- كالوقف ونحوه- هي من آثار عمله ووقفه»
، وقد قال تعالى: إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم [يس: 12] . والعلم الذي نشره في الناس، فاقتدى به الناس بعده، هو أيضا من سعيه وعمله.
وثبت في الصحيح «3» : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. انتهى.
(1)
أخرجه مسلم في: الوصية، حديث رقم 14.

(2)
أخرجه النسائي في: البيوع، 1- باب الحث على الكسب، عن عائشة.

(3)
أخرجه مسلم في: العلم، حديث رقم 16.

الثالث- قال الرازي: المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة، أو بيان كل عمل. نقول: المشهور أنها لكل عمل، فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به، والظاهر أنه لبيان الخيرات، يدل عليه اللام في قوله تعالى للإنسان فإن اللام لعود المنافع، و (على) لعود المضار. تقول: هذا له، وهذا عليه، ويشهد له، ويشهد عليه، في المنافع والمضار. وللقائل الأول أن يقول بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل، كجموع السلامة تذكر، إذا اجتمعت الإناث مع الذكور. وأيضا يدل عليه قوله تعالى ثم يجزاه الجزاء الأوفى والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة، وأما في السيئة فالمثل أو دونه، أو العفو بالكلية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 40 الى 41]
وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزاء الأوفى (41)
وأن سعيه سوف يرى أي يراه، ويعرض عليه، ويكشف له. من (أريت الشيء) أو يرى للخلق وللملائكة. ففيه بشارة للمؤمن، وإفراح له، ونذارة للكافر، وإرهاب له، أو هو من (رأى) المجرد. أي يراه. كقوله تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله [التوبة: 105] ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى أي يجزى سعيه جزاء وافرا لا يبخس منه شيئا.
قال الشهاب: أصله يجزي الله الإنسان سعيه، ف (الجزاء) منصوب بنزع الخافض، و (سعيه) هو المفعول الثاني، وهو يتعدى له بنفسه. نحو: جزاك الله خيرا.
وجزاؤه سعيه بمعنى جزائه بمثله. أو هو مجاز. وقيل: المنصوب بنزع الخافض الضمير، والتقدير: بسعيه أو على سعيه- كما في (الكشاف) -.






الساعة الآن : 12:23 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 381.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 381.14 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.13%)]