رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (450) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - الشك في الطلاق [2] من مسائل الطلاق ما يقع الشك فيها، وذلك لأن المطلق معرض للنسيان والخطأ، والشك إما أن يكون في وقوع الطلاق أو شرطه أو عدد الطلقات، وقد بين الفقهاء أحكام ذلك، ومآخذ الأحكام التي حملتهم على ذلك. كما أنه قد يطلق الرجل لفظ الطلاق على زوجتيه أو أزواجه مبهما للمطلقة غير معين لها، أو معلقا له على شرط ثم يشك في وقوعه أو يجهله، وهذه مسائل قد تقع لأي مسلم، فكان من المهم أن يتعلم المسلم أحكامها وتفصيلاتها وأدلتها. مسائل الشك في الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد: فقد ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تتعلق بمسائل الشكوك في الطلاق، فقال: [باب الشك في الطلاق] . وقد تقدم بيان مقدمات الشكوك وما يعتري الإنسان من الوسوسة في الطلاق، وبينا هدي الشريعة الإسلامية في ذلك، وقد اعتنى أئمة الإسلام وفقهاؤه ببيان الأحكام المتعلقة بالشكوك سواء كانت في العبادات أو المعاملات. ومن أشهر المواضع التي تبحث فيها مسائل الشكوك: كتاب الطهارة، وكتاب الصلاة عند بيان مسائل الشك في باب السهو، وكذلك أيضا تذكر في باب الآنية جملة من مسائل الشكوك، فتذكر في كتاب الطهارة والصلاة وجملة من مسائل الصوم والحج، ثم في كتاب المعاملات تقع كثير مسائل الشكوك، ويعتني العلماء رحمهم الله ببيانها في باب الطلاق، وتعم بها البلوى، ويكثر عنها السؤال، وتكثر منها الشكوى. وقد ذكرنا ما يتعلق بالشك في الطلاق إلا أننا ننبه أن الشك قد يقوى على الإنسان ويتسلط عليه إلى درجة يفقد فيها التحكم بنفسه، وفي هذه الحالة ربما بلغ به الأمر أنه يتلفظ بالطلاق حقيقة مع أن الله مطلع على سريرته وقلبه أنه لا يريد الطلاق، وأنه لا يقصده؛ ولكن تهجم عليه الوساوس شيئا فشيئا حتى يتكلم ويهذي، وحينئذ فالأشبه أنه قد وصل إلى حالة يسقط عنه فيها التكليف. ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يراعون درجات الوسوسة والشكوك في الطلاق، فهناك درجات في ابتداء الطلاق، وفي ابتداء الوسوسة، وابتداء الشكوك، ودرجات مستفحلة أشبه بالمرض، فمثلها ينبغي للفقيه ألا يتعجل في الفتوى فيها، وعليه أن يسبر حال السائل وألا يتعجل في الجواب، وهذا من فقه الفتوى؛ ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله يحذر من الفتوى في مسائل الطلاق في الشكوك، ويتريث في جواب السائل، خوفا من أن يفتيه بتحريم ما أحل الله له دون استبيان من حاله. صور الشك في الطلاق والصورة الثانية: أن يكون شكا في حصول الشرط الذي رتب الطلاق على وقوعه. والصورة الثالثة: الشك في عدد الطلاق. الصورة الأولى: أن يكون الشك في وقوع الطلاق ففي الحالة الأولى: يشك في وجود الطلاق وعدم وجوده. أي: هل تلفظ بالطلاق أو لم يتلفظ؟! وحينئذ يلزم شرعا بالرجوع إلى الأصل، ويقال له: الأصل العدم حتى يدل الدليل على الوجود. ثم هناك أصل ثان: وهو أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل: أن الزوجة زوجتك، وأنها امرأتك، وأنها حلال لك بحكم الله عز وجل، فأنت باق على هذا الأصل، وتستصحبه لعدم قوة المزيل. وعلى كل حال فلا تطلق عليه زوجته. مثال ذلك: لو أن شخصا جاءه الشيطان فقال له: تلفظت بالطلاق. فقال: ما تلفظت، فحصل له شك وتردد، وأصبح في شك هل طلق زوجته أو لم يطلقها، هل وقع منه الطلاق أو لم يقع، أو نبست شفتاه به وتحركت؟ ففي جميع ذلك يقال له: الأصل أنك لم تتلفظ حتى يثبت أنك تلفظت وقلت الطلاق، هذا بالنسبة لوجود الطلاق، هل وجد منه طلاق أو لم يوجد؟ فنقول: الأصل العدم حتى يدل الدليل على الوجود، ثم نقول: هذه زوجته؛ لأن القاعدة الشرعية تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان. فالذي كان: أنها زوجته، والأصل بقاء ما كان وهي كونها زوجة له، على ما كان، أي: على حال العصمة والزوجية وهو ما يسمى بـ (استصحاب حكم الأصل) . الصورة الثانية: أن يكون الشك في الشرط أما النوع الثاني: وهو الشك في الشرط فمثاله: قال: إن فعلت كذا وكذا فامرأتي طالق، ثم شك هل فعل أو لم يفعل؟ أو قال في شرط عدمي: إن لم أفعل فزوجتي طالق، وشك هل فعل فزوجته لم تطلق أو لم يفعل فزوجته طالق. للعلماء في هذا الشرط أقوال: فمنهم من قال: يفرق بين الشرط العدمي (إن لم أفعل، إن لم أقل) فلا يقع لأن الأصل العدم، وبين غيره وهو الوجودي. والصحيح: أنه لا فرق بين العدمي الوجودي، وأنه إذا شك في الشرط هل تحقق حتى يقع الطلاق أو لم يتحقق، فإننا نقول: تبقى على الأصل: أن لا طلاق حتى تتحقق من وقوع الشرط وثبوته، مثل ما تقدم معنا في مسألة وجود الطلاق وعدمه. وفي كلتا الصورتين الأولى والثانية، الشك في الوجود وعدمه، والشك في تحقق الشرط وعدمه، يكون التردد بين وقوع الطلاق وعدم وقوع الطلاق، فحينئذ يتردد بين الأمرين، أي: بين ما يوجب ثبوت وقوع الطلاق وبين ما يمنع من وقوع الطلاق ويدل على بقاء الزوجية. الصورة الثالثة: أن يكون الشك في عدد الطلاق في الصورة الثالثة: أن يتحقق من وقوع الطلاق ولكن لا يدري كم طلق زوجته، فقال: قلت لامرأتي أنت طالق وأشك، هل طلقتها ثلاثا أو اثنتين أو واحدة؟ فنقول: يبنى على الأقل، فإن قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فهذه ثلاث تطليقات، وفي الأصل: أن من تلفظ بالطلاق ناويا الطلاق ثلاثا -كما تقدم معنا- أنه تنفذ عليه الثلاث في مجلس واحد أو كلمة واحدة، كما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانعقد عليه سواد الأمة الأعظم، ولا مخالف له من الصحابة في مواجهته حينما أفتى به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا تلفظ بهذا فالأصل أنه ملزم بالثلاث، لكن لو أنه شك هل الذي قاله: طلقتين أو قال: ثلاث تطليقات فإنه يبني على اثنتين؛ لأنه إذا شك هل طلق واحدة أو اثنتين فهو لا يشك أنه طلق واحدة، والشك في الطلقة الثانية هل وقعت أو لم تقع، وإذا شك هل طلق طلقتين أو ثلاثا فإنه يجزم بأن الاثنتين وقعتا، ولكن الشك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع! فالأصل أن يبني على الأقل، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا كلام العلماء رحمهم الله فيها وأشرنا إلى قاعدتها الأصلية: (اليقين لا يزال بالشك) وذكرنا الفروع التي بناها العلماء في المسائل المتقدمة معنا في كتاب العبادات، فيقال: من شك هل طلق طلقتين أو ثلاثا بنى على اثنتين، ومن شك هل طلق واحدة أو اثنتين بنى على واحدة؟ إذا الثلاث الصور: وقوع الطلاق وعدم وقوعه، والشك في الشرط هل وقع فيقع الطلاق أو لم يقع فلا طلاق، أو الشك في العدد؛ فإن الكل يجري فيه الزوج على اليقين، أما الزوجة فزوجته حتى يتحقق من ثبوت موجب الطلاق. وهذا من رحمة الله لعباده، وتيسير الله عز وجل على هذه الأمة التي وضع عنها الآصار، ولو تصور المسلم أن الله آخذ كل من شك بشكه لما استقامت الحياة للإنسان، وقل أن تجد إنسانا إلا وقد ابتلاه الله بشيء من حديث النفس في أمر من أموره، ولذلك لو فتح باب الوسوسة لأصبح الناس في عناء وضيق وحرج لا يعلمه إلا الله، فالحمد لله الذي لطف بعباده، ويسر علينا، وهدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وقول المصنف: [وإن شك في عدده فطلقة وتباح له] . هذه الجملة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن قوله: (إن شك في عدده) هذا إذا شك: هل هو واحدة أو اثنتين يقال: واحدة، أما لو شك اثنتين أو ثلاثا فإنه يبني على اثنتين قولا واحدا عند العلماء أن من شك: هل طلق زوجته طلقتين أو ثلاثا بنى على طلقتين؛ لأنه متيقن أنها طلقتان وشاك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع؛ مثلما ذكرنا في الصلاة. والأصل في هذا كله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثا فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثا صلى أو أربعا فليبن على ثلاث، ثم إذا تشهد فليسجد سجدتين قبل أن يسلم) الحديث. هذا الحديث الثابت في الصحيح كما في رواية ابن عباس أصل عند العلماء رحمهم الله في البناء في الأعداد على الأقل، فمن شك هل صلى واحدة أو اثنتين بنى على واحدة، ومن شك في زكاته هل أخرج كل الزكاة أو نصف الزكاة بنى على أنه أخرج نصفها حتى يتحقق أنه قد أدى حق الله بأداء الكل. والمرأة إذا كان عليها الحداد وشكت هل مر عليها أربعة أشهر وعشر، أو أربعة أشهر وتسعة أيام؛ بنت على أنها تسع حتى تتحقق من اليوم العاشر، ومن شك هل صام الشهرين متتابعين أو بقي له يوم أو يومان بنى على أنه لم يصم اليومين حتى يتحقق من ذلك. وفي الزكاة لو أنه وجبت عليه مائة ألف، فشك هل أخرج تسعين ألفا أو مائة ألف نقول: أنت على يقين أنك أخرجت تسعين ألفا وشككت من المائة، فالذي دفعته هو تسعون ألفا حتى تتحقق أنك أكملتها مائة، فيجب عليه التمام والبناء على الأقل، والعكس: فلو شك هل بلغ ماله النصاب أو لم يبلغ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يتحقق أنه وصل إلى العدد الذي هو نصاب ماله. وكذلك أيضا في الحج: فمن طاف وشك هل طاف سبعة أشواط أو ستة أشواط بنى على الستة، ومن سعى على الصفا والمروة وشك هل هذا الشوط هو الخامس أو السابع ولم يكن هناك قرينة، كما لو وقف على المروة وشك هل هو في الخامس أو السابع أو شك وهو على الصفا هل هو في الشوط الثاني أو في الشوط الرابع؛ فإنه يبني على الأقل وهو الثاني؛ لأنه على يقين من الأقل وعلى شك مما زاد، فيبني على الأقل. وكذلك في رمي الجمار، لو أنه شك هل رمى سبع حصيات أو ستا، بنى على ست حتى يتيقن أنه رمى السابعة. وكذلك في المعاملات مثلما ذكرنا هنا في الطلاق: فلو أنه شك هل طلق طلقتين أو واحدة بنى على واحدة كما ذكر المصنف، وذكر الواحدة لأنها الأصل، وما زاد على ذلك يبنى على هذه المسألة، فإن شك هل طلق اثنتين أو ثلاثا قلنا: يبني على اثنتين ولا يبني على واحدة؛ لأن الواحدة مفروغ منها، وإنما الشك هل هما طلقتان أو ثلاث تطليقات، فيقال: إنهما طلقتان حتى يتحقق أنه قد طلق الثالثة. إذا جئت إلى أي مسألة من هذه المسائل فهناك أصل وخارج عن الأصل، ففي الصلاة الأصل أنه مطالب بأربع ركعات والله فرضها عليه، وذمته مشغولة بها، فإذا جاء يقول: أصليت أربعا أو ثلاثا، فنحن متأكدون أن ذمته قد فرغت من الثلاث وشككنا في الرابعة، فنرجع إلى الأصل أنه لم يؤدها حتى يتحقق أنه أداها، وكذا لو طاف بالبيت وشك هل هو في الشوط السابع أو في السادس نقول: إن الله فرض عليه أن يطوف سبعا، فإذا تحقق من ستة وجب عليه أن يتم السابع كما أمره الله. كذلك هنا في مسألة الطلاق: الأصل أنها زوجته وامرأته، فإذا شك هل طلقها ثلاثا فهي بائن منه أو طلقها طلقتين فليست ببائنة، فالأصل أنها زوجته، فكل شيء له أصل، فإذا عارضه ما لا يقوى على رفعه وهو من الشكوك والاحتمالات سقط الشك وبنى على اليقين، وهذا معنى قول العلماء: (اليقين لا يزول بالشك) ، فاليقين في الطلاق أنها زوجته، ولا يزول بالشك وهو أنه حرمها بالثلاث. وهكذا: اليقين لا يزول بالشك، فاليقين أنه طلق طلقتين، فلا يزال بالشك في الثالثة، واليقين أنه إذا شك واحدة أو اثنتين، فاليقين أنه طلق طلقة واحدة فلا نزيل يقين الواحدة بشك الثانية، وقس على ذلك بقية المسائل؛ فإنها مبينة على هذا الأصل الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة. مسألة: إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق قال رحمه الله: [فإذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق طلقت المنوية، وإلا من قرعت] . وهنا حالتان: الحالة الأولى: أن يميز من هي التي طلقها ويعينها في قرارة نفسه. والحالة الثانية: ألا يميز، بأن يقول: إحداكما، ويرسلها هكذا فإذا قال: إحداكما طالق ونوى واحدة منهما، فمثلا: كان بين امرأتيه وأراد أن يخوف الثانية حتى تتأدب بطلاق الأولى فقال لهما حينما تمالأتا عليه وعلم أن إحداهما هي شر وهي البلاء فقال: إحداكما طالق، فأراد أن تخاف الثانية وأن توقع على نفسها احتمال أنها مطلقة فترتدع وتدخلها الرهبة، وهو قاصد في قرارة قلبه أن المطلقة خديجة، وأن الثانية وهي عائشة ليست بمطلقة، فحينئذ إذا عين وقال: قصدت عائشة أو قصدت خديجة عمل بالتعيين إجماعا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) ، وفي التردد يرجع إلى النية، وهذا أصل في الشريعة. ولذلك إذا قال أحد كلاما محتملا فلا يجوز أن يجزم بأحد الاحتمالين حتى يعين ويقول: قصدت كذا أو أردت كذا، أما إذا لم يعين ولم يبين فإننا لا نجزم؛ لأن كلامه محتمل، والله عز وجل لم يجعل المحتمل كالصريح، ولم يجعل الواضح البين كالمبهم، فكل شيء قد جعل له ربك قدرا، فلا يجوز أن يرفع عن قدره ولا أن يوضع عن حقه. فعلى كل حال إذا قال: إحداكما طالق، وعين إحدى المرأتين؛ وجب الحكم بطلاق المعينة التي عينها. فيقال له: من قصدت بالطلاق؟ فإن قال: خديجة أو عائشة حكم بطلاقها، فاللفظ متردد ورجع في تعيينه وزوال إبهامه، وتردده إلى المتلفظ وهو الزوج. الحالة الثانية: ألا يكون هناك تعيين، ولها صور: منها أن يقول: إحداكما طالق ويموت. ومنها أن يقول: إحداكما طالق ولم يتمكن من مراجعة ومعرفة ماذا قصد حتى نسي، ولم يدر أهي فلانة أو فلانة، فجهل التعيين. فإذا جهل التعيين فمذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، أننا تحققنا من وقوع الطلاق ولكن لا ندري أيتهما التي تطلق، فحينئذ يصار إلى القرعة، والقرعة أصل شرعي في إثبات التعيين، فإذا قصد واحدة ونسيها فإنه يعين بالقرعة، وقال بعض العلماء: لا تطلق لا هذه ولا تلك حتى يستيقن من التي عينها بالطلاق. فقوله: [وإلا من قرعت] . أي: التي خرجت عليها القرعة كما ذكرنا، قالوا: لأن القرعة دليل شرعي تثبت به الأحكام، دل على ثبوته الكتاب والسنة، وعمل السلف الصالح من هذه الأمة، فقد بين الله تعالى أن الأنبياء عملوا بالقرعة، ولذلك قال عن نبيه يونس: {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات:141] ، وخرجت عليه القرعة فرمي في البحر. وكذلك: سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عمل بالقرعة. وكذلك: كان نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه يعمل بالقرعة كما في الصحيح: (أنه كان إذا خرج إلى سفر أقرع بين نسائه صلوات الله وسلامه عليه، فمن خرجت عليها القرعة منهن سافر بها) ، فهذا يدل على العمل بالقرعة، ولذلك عمل بها الصحابة رضوان الله عليهم وعمل بها أئمة السلف رحمهم الله أجمعين، وكذلك الخلف من بعدهم. فدل هذا على ثبوتها حجة، ولذلك يقولون: تثبت حجة شرعا وقدرا، فالحكم بها شرعي، وأما القدري فإن الله يقدر لعباده فإن خرجت القرعة على واحد، فإنه يكون هو المعين لما قصد من هذه القرعة في طلاق وغيره. إذا: إذا قال: إحداكما طالق. تحققنا أن إحدى الزوجتين طالق، فإن قلنا له: عين، فقال: لا أتذكر ونسيت، حكم بالقرعة، أما لو قلنا له: هل تعلمها، فقال: نعم أعلمها؛ فإنه حينئذ يجبر على التعيين، فإذا امتنع من التعيين امتنعت كلتا الزوجتين من تمكينه من نفسها، فإذا بلغ أمره إلى القاضي أجبره على التعيين، وقال بعض العلماء: يعزر ويسجن حتى يحدد من هي الزوجة التي قصدها بهذا اللفظ، ولا يتساهل معه في هذا؛ لأن الطلاق تترتب عليه حقوق، ولأنه لو مات حصل الإشكال، حتى لو وجدت القرعة ربما خرجت على غير المطلقة، ولذلك يلزمه شرعا التعيين، ومن مهمات القاضي إرجاع الحقوق إلى أهلها، فالطلاق له حقوق وتبعات، خاصة مع وجود المرأة الثانية التي لم يقع عليها الطلاق، فهو بهذه الطريقة يعلم المرأة التي لم تطلق وحينئذ يجب عليه أن يعين. فإذا قال: نسيت؛ فحينئذ يحكم القاضي بالقرعة، فمن خرجت القرعة عليها فقد اختارها الله قدرا فينفذ الطلاق ويتعلق بها. قال رحمه الله: [كمن طلق إحداهما بائنا ونسيها] . أي: إذا قال: إحداكما طالق ثلاثا وكانت الزوجتان معقودا عليهما لم يدخل بهما، فالطلقة الأولى طلقة بائنة. حكم طلاق الشك إذا تغينت المطلقة بعد القرعة بزمن قال رحمه الله: [وإن تبين أن المطلقة غير التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج أو تكن القرعة بحاكم] . هذه من آثار الحكم، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية ودقة أهل العلم رحمهم الله فإنهم لا يبحثون فقط في حكم المسألة وإنما يعتنون ببيان ما يترتب عليها من آثار، وفصلوا في المسائل التي تنبني على الأصول، وفرعوا الفروع في القواعد، كل هذا حتى يكون النظر والفهم من الفقيه شاملا؛ لأن الشريعة شريعة كمال، ومن كمال الشريعة العناية بمثل هذه المسائل. ولو أن القرعة خرجت على واحدة وطلقت عليه، وتبين بعد خمس سنوات أو ست سنوات من هي التي قصدها، فتذكر وقال: كنت أقصد فلانة، وتبين أن التي قصدها غير التي خرجت عليها القرعة، فقد عاش مع هذه المطلقة البائنة منه وهي امرأة أجنبية؛ عاش معها على أنها زوجته وفي عصمته، وربما أنجب منها أولاده، وكذلك أيضا الثانية هي زوجته وفي عصمته وربما تزوجت أجنبيا، وهي امرأة في عصمة غيره، فما الحكم في هذه الآثار؟ أولا: بالنسبة للزوجة التي بقيت في عصمته وهي أجنبية، فوطؤه لها وطء شبهة لا يوجب الحد لا عليه ولا عليها، وهذا ما يسميه العلماء بنكاح الشبهة، بأن يكون عنده شبهة تبيح له وطء امرأة يظن أنها زوجته، فحينئذ يدرأ عنه الحد ولا يفتى أنه زان، ولا يحكم بزناه، ولذلك لما عرف الزنا قيل: (الوطء في غير نكاح صحيح ولا شبهة) ، فشبهة النكاح تدرأ الحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ، وتسري عليه الأحكام، فيكون ما أنفق عليها لقاء استمتاعه بها، والنفقة ليست واجبة على الأجنبية، فنقول: ليس من حقك أن تسترد نفقة السنوات الماضية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلها المهر بما استحل من فرجها، وقال تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء:24] ، فدل على المعاوضة في جانب الوطء والنفقة. ثانيا: بالنسبة للمرأة الثانية التي هي في عصمته، والتي تبين أنها زوجته، فحينئذ ينظر فيها: قال بعض العلماء: ترد له بكل حال، وهذا في الحقيقة أقوى المذاهب وأعدلها وأولاها بالصواب؛ لأن نكاح الثاني فاسد تبين خطؤه، وقد ظنوا أنها أجنبية منه، والظن مخطئ، وإذا تبين خطؤه رجع إلى الأصل. قاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) أي: الذي بان خطؤه، فنحن صححنا النكاح بظننا أنها أجنبية، وقد تبين أنها محصنة، وقد نص الله في كتابه على أن المحصنات من النساء لا يحل نكاحهن، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز نكاح المرأة وهي في عصمة الزوج، وإذا ثبت هذا فهي امرأة في عصمة زوج، فيكون دخول نكاح الثاني لاغيا وترد إلى الأول. هذا عند بعض العلماء؛ لكن أشكل على هذا القول أن بعض أهل العلم -كما اختاره المصنف رحمه الله- قال: إنها إذا تزوجت رجلا ثانيا وقال الأول: أنا قصدت بالطلاق فلانة فيتهم في قوله؛ لأننا نكون حينئذ قد ألغينا نكاحا ثابتا؛ لأن النكاح الثاني وقع بصفته الشرعية، وأردنا أن نلغيه بقول من يتهم في قوله، لأنه ربما قصد رجوع تلك المرأة إليه؛ فقال: أتذكر من التي طلقتها! أنا طلقت فلانة. فقالوا: لا يصح أن نرفع اليقين من كونها زوجة للثاني باحتمال من هذا الرجل الذي قد يتهم في قوله. ولذلك قالوا: لا نرفع اليقين بالشك، وهذا القول هو الذي اختاره المصنف، قالوا: لكن صححنا الأول وقويناه في حالة واحدة، وهي أن يثبت بالدليل أنه عين التي قصدها؛ كأن يكون مع رجلين وقال: خديجة طالق مني، فتكون هي التي عينها، ثم رجع إلى بيته فنسي من التي طلقها أهي خديجة أو عائشة، فلما قيل له: من الذي طلقت؟ قال: أنا أجزم بأن إحداهما طلقت ولكن لا أدري أخديجة أو عائشة، فنقول حينئذ: عين، فإن قال: لا أدري ولا أستطيع، قلنا: هل سمعك أحد؟ فإن قال: سمعني رجلان، قلنا: هل تستطيع أن تعثر عليهما؟ فإن قال: لا. ثم بعد سنتين التقى بالرجلين فقال: هل طلقت خديجة أو عائشة؟ فإن قالوا: طلقت خديجة، فحينئذ لا إشكال أن ثبوت البينة والدليل يقوى على رفع نكاح الثاني وإلغائه؛ لأنه دل الدليل على ثبوت العصمة للمرأة وأنها باقية على نكاح زوجها الأول وقد نكحت الثاني امرأة محصنة، فلا يصح نكاح الثاني، وقد تبين خطؤه، وهذه هي الحالة التي نصحح فيها هذا القول ونقويه، ونقويه أيضا ديانة فيما بينه وبين الله، فإنه إذا جزم فيما بينه وبين الله أنه عين خديجة فلا إشكال، وهذا فيما بينه وبين الله، ويحل له أن يرجع إليها ما لم تكن قد تزوجت؛ على التفصيل الذي ذكرنا. وقوله: [أو تكن القرعة بحاكم] . أي: بحكم الحاكم كما سيأتي إن شاء الله في كتاب القضاء، ولا يجوز نقضه ولا فسخه إلا إذا عارض نصا صريحا قاطعا في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شذ عن الإجماع، فهذه هي الحالات التي تنقض فيها أحكام القضاة، أما لو كانت المسألة خلافية وقضى القاضي بأحد القولين فلا يجوز لأحد أن ينقض قوله كائنا من كان؛ لأن الله تعبده أن يقضي في هذه المسألة بما يراه الحق. ولو فتح الباب لكل قاض أن ينقض أحكام من قبله من القضاة الذين خالفوه لما استقام الأمر، ولذلك لا يعقب على حكم القاضي الذي تأهل للقضاء إلا إذا عارض نصا من كتاب الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو إجماعا كما سيأتي إن شاء الله بيانه. ويشترط في النص أن يكون صريحا، فإن النص المحتمل كما أنه يحتمل قول الآخر فهو يحتمل قول القاضي، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر، وما دام أن الشريعة جاءت بنصوص محتملة فقد عذر كل من أخذ بهذه الاحتمالات ما لم يكن بعضها أرجح من بعض، وحينئذ يعمل المسلم فيما بينه وبين الله بما ترجح، لكن الراجح عندي لا ألزم به غيري إذا رآه مرجوحا، فكل يعمل بما ترجح عنده، وهذا الذي جعل العلماء يقرون القاعدة المعروفة: (لا إنكار في الخلاف) أي: لا ينكر في المسألة الخلافية. فإذا رفعت القضية إلى القاضي فأقرع بينهما وحكم أن المطلقة خديجة ففي هذه الحالة نحكم بأن خديجة قد أصبحت أجنبية وحل نكاح الثاني لها، ولا يمكن أن يزال هذا اليقين بشك خاصة وأن الزوج الأول متهم في قوله. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
مسألة: إذا علق طلاق زوجتيه على كون الطائر غرابا أو حمامة وجهل قال رحمه الله: [وإن قال إن كان هذا الطائر غرابا ففلانة طالق وإن كان حماما ففلانة. وجهل؛ لم تطلقا] . إذا كان عنده أكثر من زوجة فقال: إن كان هذا الطائر غرابا ففلانة طالق وإن كان حمامة ففلانة، فإن جهل الحال لم تطلق فلانة ولا فلانة. وقال بعض العلماء: إنه في هذه الحالة يجب أن يعين عن طريق القرعة. ودليل القول الأول: أنهما زوجتاه وفي عصمته ولم يحدث تعيين هل هو غراب أو حمام، وقد لا يكون غرابا ولا حمامة، وحينئذ فلا ينبغي أن يجزم؛ لأن حال الطائر مجهول، فإذا جهل حال الطائر فإننا نجهل وقوع الطلاق فلا تستقيم القرعة؛ لأن الطلاق لم يثبت؛ بسبب جهل حال الطائر؛ لأن الطائر ليس منحصرا في الغراب والحمام فقط فقد لا يكون غرابا ولا حمامة، وقد يكون قمريا أو حباريا أو صقرا أو بازا أو نسرا، فهذا كله محتمل؛ لأنه جهل حاله. وإذا: لم يثبت الطلاق، ولا يحكم بوقوع الطلاق؛ لأن الأصل أنهما زوجتاه، وقد علق على شرط لم يتحقق وجود موجبه الذي يبنى عليه الحكم بالطلاق فتبقى المرأة في عصمته. مسألة: إن قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق أو العكس [وإن قال لزوجته وأجنبية اسمها هند: إحداكما أو هند طالق، طلقت امرأته] . في هذه الحالة: إذا كان هناك امرأة في عصمته وامرأة ليست في عصمته، فقال: إحداكما طالق، فننظر من هي التي يتعلق الطلاق بها، ولا شك أن الأجنبية لا يتعلق بها الطلاق فيصرف إلى زوجته، للقاعدة: (الإعمال أولى من الإهمال) . فقد تلفظ بلفظ معتبر شرعا، وهذا اللفظ لا يمكن إهماله؛ لأن الشريعة آخذت المطلق حتى في حال الهزل، فلا يمكن إهمال هذا اللفظ، وهذا لتعظيم حرمات الله وعدم اتخاذ آيات الله هزوا ولعبا، ولذلك قال الله في أمر الطلاق: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة:229] ، وقد ذكر هذا في أكثر من موضع من كتابه سبحانه وتعالى، وقال: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق:1] . والعلماء يقولون: (لفظ الطلاق مبني على الخطر) فهو يقول: إحداكما طالق، فإذا قال ذلك لزوجته وأجنبية، فالأصل شرعا في اللفظ أن يعمل به، ولذلك قالوا: ينصرف اللفظ إلى زوجته؛ لأنه يقول: إحداكما طالق، فقد جزم لنا بأنه مطلق لكن هل هو مطلق للأجنبية أو لزوجته قالوا: ينصرف الطلاق إلى زوجته؛ لأن الطلاق صادف محلا، والآخر ليس بمحل، فينصرف إلى ظاهر الشرع وهو أنه متعلق بزوجته لا بالأجنبية، وحينئذ تطلق عليه زوجته وينصرف الطلاق إليها. وذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أنه لا تطلق عليه زوجته، ولا يحكم بطلاقها؛ لأنه يحتمل أن تكون الأجنبية مطلقة، لكن إذا كان في قرارة قلبه طلاق زوجته وقع الطلاق. وكل هذا إذا لم يعين، أو مات بعد تلفظه بالطلاق على هذا الوجه؛ فإنه يحكم بالطلاق على ما اختاره المصنف، ودليله ما ذكرنا. قال رحمه الله: [وإن قال: أردت الأجنبية لم يقبل حكما إلا بقرينة] . هذا من المصنف رحمه الله احتياط للشرع، والعلماء الذين اختاروا وقوع الطلاق نصوا على أنه لو قال: أردت الأجنبية لم يقبل منه؛ لأنه يلغي ما ثبت، والإعمال أولى من الإهمال فنحن علمنا اللفظ، ولو صرفناه للأجنبية لأهملناه، والإعمال أولى من الإهمال. فالإعمال معتبر شرعا ومقدم على الإهمال، فإذا قال: أردت الأجنبية، فهو متهم في قوله، والمتهم في قوله فيما بينه وبين الله ينفعه إذا كان صادقا في قوله: إحداكما طالق فقصد الأجنبية؛ وله أن يعاشر زوجته ولو كانت الطلقة الثالثة. مثال ذلك: رجل اسمه محمد قال لزوجته عائشة وهي جالسة مع امرأة أجنبية: إحداكما طالق، وقصد الأجنبية، وكان فيما بينه وبين الله أنها الأجنبية ولم يقصد زوجته، وقال: إحداكما طالق، بقصد أنها ليست في عصمته وليست بحلال له؛ ففي هذه الحالة لو كانت زوجته قد طلقها قبل طلقتين: وقال لها: أنا قصدت الأجنبية، فصدقته، وهو معروف بالصدق والأمانة، فلها أن تعاشره ولا حرج عليه ولا عليها. لكن لو رفع الأمر إلى القضاء، فالأمر يختلف في هذه الحالة، فإنه لا يقبل منه إلا بقرينة، وقد فصلنا في هذه المسألة -مسألة الطلاق قضاء وديانة- وذكرنا أنه إذا كان صادقا فيما بينه وبين الله، فإنه ينفعه القول في الطلاق، ويسقط عنه الطلاق ديانة فيما بينه وبين الله؛ لأنه متحقق وجازم في قرارة قلبه والله مطلع على سريرته، فهو لم يرتكب حراما، وأما قضاء فلا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكل سرائرهم إلى الله) ، فهذا يدل على أن القضاء يجري على الظاهر، ولا حكم للباطن إلا في المسائل التي نص الشرع على اعتباره فيها، فالظاهر هو المحتكم إليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لتختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع) فالقاضي ظهر له أن الرجل تلفظ بلفظ شرعي مؤاخذ عليه، وهذا اللفظ الشرعي ما بين إعمال وإهمال، وأصول الشريعة تقتضي أن الإعمال مقدم على الإهمال، وأن الطلاق لا يتعلق بالأجنبية فصرف إلى من يتعلق بها الطلاق، ولا يقبل غير ذلك منه إلا بقرينة، فإذا وجدت قرينة إكراه، ودفع مظلمة، ودلت دلائل بساط المجلس على أنه لا يريد زوجته وإنما يريد الأجنبية، فحينئذ لا تطلق عليه زوجته وتعاد إليه، ويحكم القاضي باعتبار نيته. مسألة: إن قال لمن ظنها زوجته أنت طالق أو العكس قال رحمه الله: [وإن قال لمن ظنها زوجته: أنت طالق، طلقت الزوجة، وكذا عكسها] . أي: كامرأة في عبائتها ظنها زوجته فقال لها: أنت طالق. فالحقيقة أن مسائل الطلاق فيها باطن وظاهر، والظاهر هو اللفظ: أنت طالق، والباطن: النية والقصد؛ فإذا قال لامرأة يظنها زوجته: أنت طالق، فللعلماء فيه وجهان: منهم من قال: لا تقع الطلقة على زوجته؛ لأنها لو وقعت الطلقة على زوجته كان مطلقا بنيته لا بلفظه؛ فهو لما تلفظ خاطب معينا؛ فلو كانت زوجته لطلقت، ولكن لما تبين أنها ليست بزوجته فإنه طلق وهي ليست بزوجة له فلا طلاق؛ لأن الطلاق لا يقع بالنية وحدها، وجماهير السلف والخلف وأئمة العلم على أن من نوى في قرارة قلبه أن يطلق زوجته ولم يتلفظ؛ أنها لا تطلق عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) . فقالوا: لو خاطب امرأة أجنبية بالطلاق، فظاهره ليس بظاهر المطلق لكن باطنه باطن المطلق، فقالوا: لا نطلق عليه لأن هذا من الطلاق بالنية دون اللفظ. ومن أهل العلم من قال: تطلق عليه زوجته؛ لأنه لما قال: (أنت) قصد الزوجة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها) ، فإنه قد قيد وقال: (ما لم تتكلم أو تعمل) ، وهذا تكلم وقصد زوجته والذي اختلف إنما هو الشكل، والشكل ليس بمؤثر؛ لأن العبرة بالمعنى والمعنى موجود، فتطلق عليه زوجته كما اختاره المصنف ونص عليه رحمه الله. وقوله: (والعكس) أي: إذا قال لزوجته يظنها أجنبية: أنت طالق طلقت عليه زوجته. وهنا تعارض، فالمصنف يقول: لو قال لزوجته: أنت طالق، وهو يظنها أجنبية؛ كأن جاءت امرأة وقرعت عليه الباب وظنها أجنبية ضيفة أو نحوها فقال لها: أنت طالق، وتبين أنها زوجته؛ فقالوا: إنه واجهها فقال أنت طالق. أي: بيني وبين الله أن هذه المرأة وهذه الذات مطلقة مني، فلما صادف الطلاق محلا طلقت، ولو كانت أجنبية لما طلقت إلا في مسألة إذا نوى. وقالوا: لأن الطلاق لم يصادف محلا في الأجنبية، لكن هذه زوجته وقد صادف الطلاق المحل، فتطلق عليه. - المسألة الأولى: إذا ظنها زوجته وظهرت أجنبية: إذا قال لامرأة من زوجاته يظنها أجنبية: أنت طالق، قالوا: فإنه في هذه الحالة قصد الطلاق ونواه في قرارة قلبه فتطلق عليه، وكونه يقول: (أنت) يخاطب محلا أو يوجه لمحل كالذي يطلق وهي غائبة، فهو كمن يقول: زوجتي طالق، والطلاق لا يتوقف على أن تكون الزوجة أمامه، قالوا: فإذا قال لها: أنت طالق، وقصد في قرارة قلبه إخراج امرأته من عصمته فيؤاخذ بهذا القصد وتمضي عليه الطلقة. المسألة الثانية: إذا ظنها أجنبية وظهرت زوجته فقال لها: أنت طالق، فصحيح أنه يعتقد أنها أجنبية، لكن اللفظ الذي خرج منه في الظاهر لفظ شرعي للطلاق، والمرأة التي وقع عليها الطلاق زوجته، فهو يقول: (أنت) فحينئذ يؤخذ بالظاهر، ففي الأول نظر إلى الباطن مع وجود المؤاخذة باللفظ، وفي الثاني اعتبر بالظاهر. ومن هنا قد يحصل إشكال ونوع من التعارض، فينبغي أن نقول إذا غلبنا الظاهر وظهرت أنها امرأته، ينبغي أن لا تطلق إذا خاطب الأجنبية، وإذا جئنا ننظر إلى الباطن، فينغبي أن لا تطلق في حال استئذان الزوج وهو يظنها أجنبية، فحينئذ قالوا: نعمل الأمرين، نعمل الظاهر في حال قوته ونعمل الباطن في حال قوته، وكلاهما له وجه، والإشكال كله في مواجهتها بالخطاب (أنت) ، فإنه لما قال لها: (أنت) في المسألة الثانية فقد واجه محلا قابلا للطلاق فوقع الطلاق عليه، وفي الأجنبية قال لها: (أنت) فكلمة (أنت) معلقة بالزوجة، وفي قرارة قلبه أنها زوجته؛ ولذلك قالوا: إنه ينفذ عليه الطلاق؛ لقوة قصده، ووجود المعنى من إرادة الطلاق ونيته. الأسئلة حكم العدول عن القرعة عند الشك في الطلاق إلى الاختيار بحسن السؤال هل للقاضي أن يعدل عن القرعة ويسأل عن أحسنهما عشرة مع زوجها فيبقيها ويحكم بطلاق الأخرى أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد الأحكام الشرعية لا تدخلها العواطف والاحتمالات والآراء والأهواء، والقاضي إذا رفعت إليه القضية لا يجتهد من عند نفسه، إنما هو ملزم شرعا أن يحكم بالدليل الشرعي، والدليل الشرعي الموجود: أن من طلق زوجته طلاقا واضحا بينا ينفذ عليه الطلاق، ومن طلق زوجته طلاقا محتملا مترددا رجعنا إلى الأصول الشرعية في تعيين المبهمات والمجهولات، وليست أمور الشريعة محل تخرصات وتحكيم للهوى، وليس لكل شخص أو طالب علم أن يقترح من عنده؛ لأن أمور الشرع عظيمة مبنية على أسس، والفتوى إذا لم تبن على الشريعة فإنها تهوي بصاحبها كأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لأنه تقول على الله بدون علم. والشريعة ليس فيها عواطف ولا مجاملات: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف:52] ، هذا الكتاب الذي فصل على علم هدى ورحمة مبني على أصول لا يستطيع القاضي أن يجاوزها شعرة، فهذه امرأة وهذا زوج، فلا تحل العصمة ولا تزيلها من زوجها إلا بدليل، ولا تقول: والله أخلاقها طيبة، فكونها طيبة أو تؤذي أو لا تؤذي لا دخل لها. وهناك أمر يسمى بالتعليم، والأوصاف المناسبة للتعليم، فهذه المسألة ليس لها علاقة، فقد يطلق الرجل زوجته وهي من أحسن الناس أخلاقا، لكنها لا تريحه بالفراش ويريد أن يعف نفسه عن الحرام، وليست قضية جمال الأخلاق أو حسن العشرة مؤثرة في مسألة الطلاق من كل وجه؛ لأنه قد يقع الطلاق لأسباب خارجة عن إرادة الإنسان، فقد يفارق بلدها ويرى أنها لو جاءت معه لتعذبت، وربما رأى أنها تتحمل مشاق من أجله وأراد أن يريحها من كل هذه الأمور؛ فهذا ليس له علاقة بمسألة كونها حسنة العشرة أو لا. وأحب في هذه المناسبة أن ننبه ونذكر أنفسنا وإخواننا أن مسائل الشرع مسائل عظيمة، خاصة في هذا الزمان؛ فقد يتكلم الرجل في الفتوى ويبنيها على النص من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بنا نفاجأ بشخص يقول: عندي مداخلة، لي وجهة رأي، اسمح لي لو تفضلت لو تكرمت! ويأتي بأمور ما أنزل الله بها من سلطان: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم:23] . إذا وقفت بين يدي الله قاضيا أفتيت بالقرعة فقلت: يا رب جاءنا في كتابك وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فإنه أهون من أن تقف بين يدي الله عز وجل فتستند إلى رأيك واجتهادك. واعلم أن الدين ليس فيه وجهة نظر ومداخلات، فهذه أمور دخيلة دخلت على الأمة، فشتتت شملها، وفرقت آراءها فأصابها الخور والضعف حتى في العلم والعلماء، فذهبت كرامة العلماء وكرامة العلم بسبب إدخال العواطف والآراء الشخصية، وقل أن تجد عالما يتكلم في مجمع أو مناسبة إلا وجدت من يعقب عليه، ونرجو من الله تعالى أن يجعل هذا رفعة لدرجة العلماء ومقامهم في الدنيا؛ لأن هذا من غربة الإسلام؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ) . أين مكانة العلماء فينا، كانوا إذا تكلموا أنصت الناس إلى كلامهم، وإذا أمروا ائتمر الناس بأمرهم، وإذا نهوا انتهى الناس عما نهوا عنه، أين مكانة العلماء من القبول والتكريم، يقول الله جل وعلا: {فلا وربك لا يؤمنون} [النساء:65] ، هذه شهادة من الله من فوق سبع سماوات: {حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء:65] ، وليس وحدها الرجوع إلى العلماء. {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا} [النساء:65] (نكرة) أي: أيا كان هذا الحرج، (ليس هناك: عندي وجهة نظر، ولا عندي مداخلة، ولا اسمح لي) . بل تسمع وتطيع، تقول: سمعنا وأطعنا، وتقبل من العالم ما دام أنه عالم رباني يقول بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في هذه الأيام نزعت الثقة من العلماء وذهبت مكانتهم، وبعض هذه المداخلات تذهب هيبة العلم ومكانته وتسلط السفهاء على العلماء. وإذا كان المداخلة أو وجهة الرأي من طالب علم عنده عقلية أو ذكاء؛ فقد يأتي بعده من ليس عنده عقلية ولا ذكاء وإذا كان الذي يحاور العلماء عنده وجهة نظر ورزقه الله شيئا من الأدب، فقد يأتي من لا أدب عنده، فهذا يجرئ الناس والرعاع على العلماء رحمهم الله، ولم نكن نعرف أن أحدا ينتقد على عالم رأيا أو هوى، فقد كان طالب العلم إذا جلس في مجلس العلم يسمع ويطيع ويحمل العلم ويقول: هذا الذي سمعت وهذا الذي بلغني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) ، الأمانة والضبط، وليس في العلم رأي، ومن أنت حتى تعطي رأيك أو اجتهادك؟ فهذا الزمان زمان غربة العلماء، وإبداء الآراء حتى من طلاب العلم، وأنا لا أقصد السائل، فقد يكون السائل تأثر بغيره، فلا بد أن نتربى على احترام العلم واحترام العلماء، ولا يحسن لطالب العلم أن يفتح مثل هذا، وإذا وجدت شيئا مبنيا على الكتاب والسنة فلا تقل: على القاضي أن يفعل أو لا، فلو كنت تعرف مكانة القاضي وتعرف أن القاضي قد نصب نفسه حكما بين الناس، ووقف على شفير نار جهنم فإما إلى جنة وإما إلى نار، ما تكلمت؛ فهذا أمر ليس بالسهل. ولذلك ننبه على مثل هذه الأمور، لأنها مما عمت بها البلوى، فذهبت مكانة العلماء والعلم، والآن أبسط ما تراه -وقد يكون بسيطا في نظر الناس لكنه عند الله عظيم- أنه عندما يطرح موضوع الصبر، أو الحلم أو موضوع من الموضوعات، كل يدلي برأي وكل يدلي بوجهة نظر، وقد يكون مسموعا أمام الناس، وهذا ينزع الثقة من العلماء؛ لأنه إذا كان كل من هب ودب عنده مداخلة، وكل من هب ودب يكتب كلمتين ويأتي يصيح بها أمام الناس، وكل من هب ودب يستطيع أن يدلي بوجهة نظره؛ ضاعت مكانة العلماء؛ لأنه الناس يسمعون كلاما كثيرا، وإذا سمعوا كلاما كثيرا فلا يجدون العلماء والنور الرباني. وقد يخدعهم بليغ اللسان عذب البيان ويصرفهم عمن هو أتقى لله وأورع، وكم من عالم ورع تقي نقي لا يقول الكلام إلا وقد عده لا تنصرف إليه الأعين ولا تصغي له الآذان؛ ولكنه عند الله ذو شأن. فهذه أمور تقوم على التسليم للشريعة، تقوم على الأدب والتسليم والخوف من الله، ويجب على طالب العلم أن يتعود أن لا يقول على الله بدون علم، وأن يتعود الحرص على الوقوف عند الكتاب والسنة، هذا هو هدي العلماء، ولا يمكن لطالب العلم أن يبارك له في علمه إلا إذا أقام نفسه على التسليم طالبا، ونفع الأمة معلما، إذا وفقه الله عز وجل للتسليم خرج للناس وعاء من أوعية العلم. وكان بعض العلماء يقول: إن الوحي كالماء الصافي من الكدر. أي: إذا كان طالب العلم يملأ قلبه بالوحي صار هو الوعاء الذي يملأ بالماء الصافي، يأتي بعد فترة وقد وعى وفتح الله عز وجل عليه فلا يتكلم ولا ينضح إلا بماء صاف من الكدر، والعكس، فالطالب الذي يبتدئ طلب العلم بالمداخلات والآراء، ولماذا لا يقول القاضي كذا! ولماذا لا تقولوا كذا، وهل وضعتم كيت كذا، ولماذا لم يشترط كذا، فهذا يدخل على نفسه الوساوس، وربما لم يحسن العالم الجواب ويكون ما قاله باطلا فتقع في قلبه الشبهة؛ لأنه ما تأدب مع العلم، وقد تبقى في قلبه هذه الشبهة حتى يصير عالما ويبثها بين الناس، فيحمل وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم الدين. العلم أن يتعلم الإنسان الانضباط والخوف والورع، فمن كان على ورع فقد علم وعرف من هو ربه، وإذا كان طالب العلم لا يعرف من هو الرب الذي يتكلم عنه، وما هو الشرع الذي يدين الله عز وجل به، ويريد أن يلقى الله عز وجل به، فهذا على هلاك وحسرة إذا كان لا يعرف هذا كله، فطوبى ثم طوبى لمن رزقه الله البصيرة والأدب مع العلم والعلماء، وأنصت وعدل، ورد الأمر إلى أهله، وسلم بالقول إذا صدر عمن هو أهل. هذا الذي يسعنا، والله عز وجل يقول: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء:65] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (العلماء ورثة الأنبياء) ، فكما أن الأنبياء لا نرد عليهم، فلا نرد على العلماء، ونحن لا نقول: إن العلماء معصومون، ولا نقول إن العلماء والجهال على مرتبة واحدة: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9] ، فالعلماء ليسوا بمعصومين، ولكن قد يرد عالم على عالم، أما طالب العلم فإنه يسلم للعالم ويتبع؛ لأن هذا هو الاهتداء الذي سارت عليه الأمة وبه استقام أمرها. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم والعمل، وأن يعصمنا من الشرور والزلل، والله تعالى أعلم. الولد للفراش وللعاهر الحجر السؤال في اختصام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وعبد بن زمعة في الغلام: هل الحكم بالغلام لـ عبد بن زمعة لم يبعد الشك، وذلك في قوله: (واحتجبي منه يا سودة) أثابكم الله؟ الجواب هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله ولهم فيها اختيارات، واختيار الوالد رحمه الله: أن مسائل النكاح أضيق من غيرها، فمسائل الفروج والمحرمية ونحوها مما يتبع حكم النسب واللحوق يحتاط فيها، فقد يبنى على الظن، وقد يعمل بالشكوك ويحتاط فيها صيانة للأبضاع. ومن هنا لما جاءت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته أنها أرضعت الزوج وزوجته وبينت له، فانتشر بين الناس، فجاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي له من هذا، فقال عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل) ، مع أن (قد قيل) صيغة تمريض، لكنه بنى عليها عليه الصلاة والسلام كما في الحديث في صحيح مسلم وغيره: (كيف وقد قيل) ، فأعمل القيل وأعمل التهمة. وكذلك في مسألة سعد وعبد بن زمعة رضي الله عنهما، خاصة وأن الوطء كان في الجاهلية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعمل الأمرين، أعمل الفراش لقوله: (الولد للفراش) ، فهذا يقتضي اللحوق ويكون لـ عبد بن زمعة؛ لأن الفراش فراش أبيه، والزنا وقع من أخي سعد وقد عهد إليه أن هذا الولد ولده، وأنه قد زنا بها، فنظر إلى وجود الشبه من أخي سعد ونظر إلى وجود الفراش، فأعطى كلا منهما حظه، وبني الحكم على مراعاة الأمرين وعلى وجود المرجح وإن كان الأصل في الشريعة أن المسائل في الزنا مثل النسب وأحكام الولد تابعة للفراش، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) . فهذا كله من الجمع بين الظنون، خاصة إذا لم يوجد المرجح، لكن قد يستثنى منها مسائل؛ مثلا: لو وجد المرجح ودل الدليل على ترجيح أحد الاحتمالين وجب العمل به، وإذا لم يوجد المرجح من المرجحات وجود القاصد. ولذلك نص العلماء رحمهم الله: لو أن رجلا تزوج امرأة وكانت قد حملت من الزوج الأول وتأخر حملها، وظن أنها ليست بحامل وهي حامل، فلما وطئها الثاني ظهر حمل وتبين أن هناك حملا من الأول، فاختلط الماءان، فهل يلحق بالأول أو بالثاني؟ الأول الأصل أن الفراش فراشه، والثاني أن الأصل طارئ، وهذا يسمونه تعارض الأصل القديم والجديد. فالأصل القديم يدل عليه أن الولد جاء قبل المدة التي في مثلها يكون الحمل، والثاني يقويه أن الفراش فراشه؛ لأنه تزوجها وأصبحت زوجة له، ومن كانت المرأة فراشا له، فكل ما تلده تابع له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش) ، ففي هذه الحالة لما كانت مدة الحمل قصيرة، لا يمكن لمثلها أن يحسب التخلق، فالغلام للأول من حيث الحكم، لكن لو حصل اشتباه فيستعان بأهل الخبرة وهم القافة، فيلحقونه بأقواهم شبها به. ومثل ذلك: لو أن رجلا سافر مع رجل آخر وكل منهما معه زوجته، فجاء أحدهما ووطئ زوجة الآخر ظنا منه أنها زوجته، فما الحكم في هذا الولد، هل يكون الولد له أم لزوج المرأة؟ يرجح بالقيافة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بالقيافة وسيأتي بيان هذه المسائل إن شاء الله، أو بيان جمل منها إن شاء الله في أحكام النسب والله تعالى أعلم. حكم الخروج من المسجد بعد الأذان الأول للجمعة السؤال هل الخروج بعد الأذان الأول من يوم الجمعة يشمله النهي أثابكم الله؟ الجواب الأذان الأول يوم الجمعة أذان شرعي، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيه بأي وجه كان، فهذا الأذان الذي أحدثه عثمان رضي الله عنه وأرضاه أذان شرعي قضى به خليفة راشد أمرنا باتباع سنته، وانعقد إجماع الصحابة كلهم والأمة كلها على العمل به. ومن قال بأن هذا الأذان بدعة فقد أخطأ كائنا من كان؛ لأننا لا نستطيع أن نرد هذا الإجماع، فكل يؤخذ من قوله ويرد، ولا يمكن أن نرد الإجماع، فلا يتكلم في هذا الأذان. ولو قال قائل: وجدت الآن الأجهزة والآلات -مكبرات الصوت- فهذا يرد عليه بأنه في الزمان القديم كانت هناك قرى صغيرة لا يحتاج إليها الأذان الأول، ومع ذلك فالسلف لم يفرطوا فيه، وأتحدى أن يوجد واحد من علماء السلف ومن بعدهم ذكر أن هذا الأذان بدعة؛ لأنه ليس من السهولة بمكان أن نبدع سنة راشدة، وأن نقول إن هذه الأمة كلها على ضلالة، وأنا لا أقصد شخصا بعينه، وإنما أقصد أن هذا القول لا يجوز لمسلم أن يقول إن الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، لأنه يرد سنة راشدة أجمعت الأمة كلها على قبولها والعمل بها، وإذا قال: إن الزمان اختلف نقول: إن هذا باطل؛ لأن العلماء رحمهم الله وأئمة الإسلام كلهم قبلوا هذا الأذان وما فرقوا بين القرى الصغيرة والكبيرة. والقرى الصغيرة التي كانت أيام السلف ليست بحاجة إلى هذا الأذان، وإنما احتاجه عثمان لما كبرت المدينة، وهم يقولون: احتاجه لما كبرت المدينة، فلما زال السبب أصبح بدعة. وأوصي طلاب العلم أن يتقوا الله عز وجل وأن لا يتعصبوا إلا للحق؛ لأن هذا أمر ليس بالسهولة، ومشايخنا كانوا يشددون في هذا الأمر، ويضيقون على أحد أن يتكلم في هذه المسألة؛ لأنها مسألة إجماعية، ولا يعرف عن أحد من أئمة السلف ولا من الخلف التابعين لهم أنهم قالوا: إنه بدعة، والبدعة أمرها عظيم، ومعناها أن من يؤذن آثم، والمسجد الذي أذن فيه مسجد بدعة، والمصلون الساكتون ساكتون عن بدعة، إلخ. فقول بدعة ليست بالهينة، وينبغي لطالب العلم أن يحذر. وعلى كل حال: فالأذان الأول يعتبر سنة كما ذكرنا، فللعلماء فيه وجهان: بعض العلماء يقول: يطرد فيه حكم الأذان مطلقا، وإذا قلت باطراده فإنها تتفرع عليه مسائل: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الخروج بعد الأذان) ، فلا يجوز أن يخرج، على ظاهر هذا الحديث؛ لأنك احتسبته أذانا شرعيا، وإن قلنا: إنه آخذ حكم الأذان، فيجوز أن يصلي بعده الركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة) ، وقصد أنه بعد الأذان تفتح أبواب السماء، وهذا مطلق، ولذلك قال بعض العلماء: يشمل هذا الأذان الأول والثاني من الفجر، فإن الأذان الأول والثاني تستحب بينهما الصلاة، وهو داخل في هذا العموم. ومن أهل العلم من قال: يقال إنه أذان شرعي؛ لكن لا يأخذ وصف الأذان من كل وجه، فلا يتنفل على قصد بين كل أذانين، وإن كان التنفل بين الأذان الأول والثاني جائزا عند الشافعية، كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري أن من الشافعية رحمهم الله من قال: يشرع أن يتنفل قصدا لما بين الأذانين، وهناك فرق ما بين القصد وبين كونه يتنفل نافلة مطلقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت في الحديث الصحيح عنه أنه (صلى ثم جلس وأنصت) ، فأخبر أن الذي خرج للجمعة جلس يصلي ثم جلس ينصت للخطبة. والوقت الذي قبل الزوال يوم الجمعة محل للصلاة بإجماع العلماء، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا طلعت الشمس فصل، فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى ينتصف النهار، ثم أمسك عن الصلاة ... ) ، هذا حديث صحيح، يدل على أن ما بين طلوع الشمس وبعد ارتفاعها قدر رمح إلى الزوال محل للصلاة حتى يدل الدليل على المنع والتحريم، فلو صلى بين الأذان الأول والثاني من الجمعة؛ فإن الأذان الثاني لا يكون إلا بعد الزوال، فقد وافقت صلاته المحل المأذون به شرعا. ولا يقال: إنه بدعة، فليس هناك أحد من العلماء قال إنه بدعة، وأنا أقول هذا عن علم، والذي يأتيني بأحد من أئمة السلف ودواوين العلم المتقدمين أنه يقول: الصلاة بين الأذان الأول والثاني بدعة، فإني أعتبره قد أهدى إلي هدية عظيمة، ومستعد أن أرجح عن هذا القول، وهذا أمر لا أعرفه، ولقد تعبت كثيرا كي أجد عالما واحدا يقول: الصلاة ما بين الأذان الأول والثاني بدعة، فما وجدت أحدا يقول بهذا القول، وأقولها أمانة وإنصافا؛ لأن هذه مسئولية وأمانة، الأذان الأول والثاني بينهما صلاة بعموم الأحاديث الواردة في الصلاة فيما بين طلوع الشمس وزوالها، وهي أحاديث صحيحة لا غبار عليها، فإذا جئت تمنع من الصلاة حرمت، وإذا قلت: إنها بدعة أثمت، ومن يصلي في هذا الموضع أثم، إنما الذي ضيق فيه أن يعتقد لهذا الوقت مزية الفضل، فإذا اعتقد ذلك فإنه يمنع منه. أما لو أنه أخذ بقول من يقول: (بين كل أذانين صلاة) ، فقد تمسك بحديث نبوي، وبعموم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلى كل حال: المسألة محتملة، ولا ينكر على من فعل هذا؛ لأن له وجها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أذن المؤذن الأذان الأول فلا يخرج إلا إذا وجدت الحاجة والضرورة، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (451) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [1] من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده وعلمه بما يحصل بين الزوجين من خلاف بديهة أن سن لهم سنناً، ووضع لهم قوانين بها يتلافى الزوج أخطاءه ويحاسب نفسه إن كان ظالماً لزوجته، والعكس إن أساءت الزوجة زوجها فإنها تحاسب نفسها، وتحاول أن تغير من أخلاقها مع زوجها. ومن هذه السنن التي سنها الله سنة الطلاق والعدة المحتومة بعده، والرجعة أثناء العدة إن أراد الزوج أن يردها أو أرادت أن ترجع إليه تائبة نادمة. الرجعة تعريفها مشروعيتها الحكمة منها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فالرجعة في لغة العرب: مأخوذة من قولهم: رجع الشيء يرجع رجوعاً، والرجعة المرة الواحدة من الرجوع، وأصل الرجوع في لغة العرب: العود إلى الشيء، يقال: رجع إلى بلده، أو رجع المسافر من سفره إذا عاد، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة:83] . فالمقصود: أن الرجوع هو العود. وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله؛ فقد عرفها بعض أهل العلم بقولهم: عود المرأة المطلقة إلى العصمة من دون عقد، فالرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق، وهذا الطلاق الذي تقع الرجعة بعده يشترط فيه أمور ينبغي توفرها للحكم بكونه طلاقاً رجعياً. وقد تقدم الإشارة إلى جملة من تلك الأمور، وسيبين المصنف رحمه الله في هذا الباب جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بارتجاع المرأة. والأصل في مشروعية إرجاع المرأة بعد الطلاق دليل الكتاب والسنة والإجماع: أما دليل الكتاب: فإن الله تعالى قال في كتابه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فهذه الآية الكريمة جاءت بعد قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فبين سبحانه وتعالى حكم رجوع المرأة بقوله: (فإمساك بمعروف) أي: بعد الطلاق، (أو تسريح بإحسان) إذا كان لا يرغب في المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً. كما دلت هذه الآية الكريمة على المرأة التي يصح ارتجاعها، وهي التي طلقت الطلقة الأولى أو الثانية، بشرط أن يكون قد دخل بها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فبيّن سبحانه وتعالى أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول أنه لا عدة عليها. وعلى كل حال فدليل القرآن واضح في الدلالة على مشروعية ارتجاع المرأة المطلقة، ولذلك قال سبحانه في سورة الطلاق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] . فدلت هذه الآيات الكريمات -آية البقرة وآية الطلاق- على مشروعية ارتجاع المرأة. وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح حينما طلق امرأته وهي حائض؛ قال لوالده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر) الحديث. وقوله عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها) يدل دلالة واضحة على أن الرجعة مشروعة، ومن هنا أخذ بعض العلماء وجوب ارتجاع المرأة المطلقة طلاقاً بدعياً في الحيض كما ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى. وكذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حفصة رضي الله عنها واختلف في إسناده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم أتاه جبريل وقال له: إنها صوّامة قوّامة فارتجعها) فأمره بارتجاعها، فعلى القول بثبوت هذا الحديث -وقد حسن بعض العلماء إسناده، ومنهم من صححه لغيره- تصبح السنة دالة بالقول والفعل، بالقول في حديث ابن عمر في الصحيح، وبالفعل بهذا الحديث. وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية ارتجاع المرأة. والرجعة بعد الطلاق فيها حكم عظيمة، فهي من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وتيسيره لخلقه، وذلك أن الطلاق قصد منه إصلاح بيت الزوجية؛ لأن الرجل إذا طلق امرأته لا بد في الغالب أن يطلقها لسبب، وهذا السبب إما أن يكون ناشئاً منه أو ناشئاً من المرأة أو ناشئاً من الطرفين. فإذا طلق المرأة لعيب فيها، أو عيب فيه، أو فيهما، فإنه يدركه الندم ويدركها الندم، وربما يحتاج إلى تلافي وتدارك ما فات، فشرع الله الرجعة لكي يعود الزوجان إلى حياة أفضل من حياتهما فيما قبل، ففيها حكم عظيمة، إذ بها يستطيع الزوج أن يرد زوجته فيجبر الكسر الذي وقع بسبب الطلاق. وانظر إلى حكمة الله جل جلاله، وعلمه بخلقه سبحانه وتعالى، وكمال تشريعه؛ أن جعل الطلاق ثلاثاً، فالطلقة الأولى ربما كانت بسبب أخطاء من الزوجة، بحيث لو أخطأت المرأة وطلقت، ثم أخطأ الرجل وطلق مرة ثانية، فإنه حينئذٍ يتلافى كل منهما الخطأ؛ لكن بعد هذا كونه يتلافى خطأه وتتلافى هي خطؤها فيحتاجان إلى معين أجنبي، فإذا طلق الطلقة الثالثة وكان الخطأ منه، فإن الله لا يحلها له ولا يبيح له رجعتها حتى تنكح زوجاً أجنبياً، فيتقطع قلبه حسرة ويتألم ويحس بخطئه، ويشعر بقيمة الطلاق، بحيث لو تزوج امرأة ثانية لم يمكن أن يعود إلى الخطأ، ولو أنها طلقت وانتظرها حتى طلقت من زوجها الثاني وحنّت إليه، فإنه يعود إلى حال أفضل وأكمل. فكانت الطلقة الأولى والثانية رجعيتين، لكن الطلقة الثالثة ليست برجعية؛ لأن الطلاق إما أن يكون باستثارة من الزوجة أو يكون باستعجال من الزوج، وحينئذٍ أعطي الطلقتين: الطلقة الأولى أن يكون الخطأ منه، والطلقة الثانية أن يكون الخطأ منها، فإذا تكرر خطؤه مرتين أدب بالزوج الأجنبي، وإذا كانت المرأة هي التي آذت الزوج وأضرت به حتى طلقها الطلقة الأولى، ثم لم تتأدب وطلبت الطلقة الثانية أدبها الله عز وجل بالطلقة الثالثة، فإنها ستذهب وتعاشر غيره، فإما أن تلتزم الأدب وتحسن القيام على بيت الزوجية وتجده أفضل من الأول فتعيش معه حياة سعيدة، ويعوضها الله عز وجل، وتترك الخطأ وتتجنب استثارة الأزواج، وإما أن ينكد عليها الزوج الثاني ويريها فضل الزوج الأول، فيحصل الطلاق، وتعود إلى الأول بأحسن حال مما كانت عليه. وهذا كله مبني على حكم عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فشرع الله الطلاق بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته. والحكمة فيه كما ذكرنا: أن الله شرع الرجعة بكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين، وجعل من الحكم في هذه الرجعة إصلاح ما كان من الخطأ، وعود كل من الزوجين إلى حياة زوجية أفضل. يشترط لمراجعة الزوجة أن تكون مدخولاً بها وطلقت بلا عوض يقول رحمه الله: [باب الرجعة] . أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بارتجاع الزوج لزوجته. وهذه الجمل من المسائل والأحكام ذكرها العلماء رحمهم الله بعد باب الطلاق، والمناسبة في هذا ظاهرة؛ لأن الرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق، فذكر المصنف رحمه الله لباب الرجعة بعد الطلاق ترتيب صحيح راعى فيه الوقوع، ولذلك يكاد يكون منهج العلماء قاطبة أنهم يذكرون أحكام الرجعة بعد باب الطلاق. قال رحمه الله تعالى: [من طلق بلا عوض زوجة مدخولاً بها] . أي: لم يطلقها في خلع؛ لأن الخلع فيه العوض، فقصد بهذه الجملة أن يخرج طلاق الخلع؛ لأن الله شرع الخلع لكي يخلّص المرأة من زوجها إذا كرهته ولم تستطع نفسها أن ترتاح إليه، فلو كان طلاق الخلع يوجب الرجوع لذهبت الحكمة من مشروعية الخلع، ولأن المرأة قد افتكت من الزوج بالفدية، ولذلك سمى الله عز وجل الخلع فدية، والمال المدفوع وهو المهر فدية، قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] فهي تخلّص نفسها خلاصاً كلياً، وبناءً على ذلك لا يحق له أن يرتجعها، ومن هنا انعقد قول جماهير السلف والخلف على أن طلاق الخلع لا رجعة فيه. فقوله رحمه الله: [بلا عوض] أي: يكون الطلاق بلا عوض. وقوله: [زوجة مدخولاً بها] . أي: يشترط أن تكون زوجة له، وقد تقدم أن الطلاق لا يقع إلا على الزوجة، وقوله (مدخولاً) صفة لـ (زوجة) ، والزوجة إذا طلقت يشترط في كون طلاقها رجعياً أن يقع طلاقها بعد الدخول، فإذا كان طلاقها قبل الدخول لم يوجب الرجعة، والدليل على ذلك آية الأحزاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فنصت الآية الكريمة على أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول فإنه لا يحق للزوج أن يطالبها بالعدة، ولا تجب عليها؛ لأنه إذا كانت المرأة قد طلقت قبل الدخول فإنها تصير أجنبية بالطلاق، وتخرج من عصمته، ولا يحل له أن يعيدها إليه إلا بعقد جديد، فكل من طلق امرأة بعد أن يعقد عليها وقبل أن يدخل بها فإن طلاقه حينئذٍ يكون طلاقاً بائناً بينونة صغرى، لا يحل له أن يرد هذه الزوجة إلا بعقد جديد، وتكون أجنبية عنه. قال رحمه الله: [أو مخلواً بها] . الخلوة: إرخاء الستر، فإذا دخل الرجل على امرأة بعد أن عقد عليها وخلا بها، أي: أرخى الستر عليهما، أو أغلق الباب عليهما، ففي هذه الحالة اختلف العلماء: فجماهير العلماء من السلف والخلف على أن المرأة التي خلا بها زوجها وثبت أنه لم يجامعها؛ أن حكمها حكم المرأة الأجنبية إذا طلقت، وحينئذٍ يكون طلاقها طلاقاً بائناً في قول جمهور العلماء. إلا أن الحنابلة رحمهم الله قالوا: إذا خلا بها فإن الخلوة تأخذ أحكام الدخول، وحينئذٍ يكون الطلاق رجعياً. وهذا القول ضعيف؛ لأنه مصادم لنص كتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فقوله: (من قبل أن تمسوهن) الأصل أن المراد به الجماع بالإجماع، كقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] فعبر بالمس، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله يكني. فالله عز وجل يعلم عباده الأدب، وحسن التحدث عن الأمور التي يستحيا من ذكرها، فقال تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] أي: من قبل أن تجامعوهن، فدل على أن مجرد الخلوة لا يوجب ثبوت الرجعية، وعلى هذا جمهور العلماء، وهو القول الصحيح، والمصنف مشى على المذهب: أن الخلوة توجب الرجعة، وهو قول مرجوح ضعيف. يشترط ألا تكون الرجعة بعد الطلقة الثالثة قال رحمه الله: [دون ما له من العدد] . أي: فالشرط الأول: أن يطلق. الشرط الثاني: أن يكون الطلاق بدون عوض. الشرط الثالث: أن يكون العدد الذي طلقه لم يصل إلى الحد الأعلى، فلو طلق بالثلاث وهو الحد الأعلى من العدد فإنه لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ولا يحل له ارتجاعها؛ لأن الله سبحانه وتعالى نص في آية البقرة على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الأول الذي طلقها إلا بعد أن ينكحها زوج آخر، وذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] . إذاً يشترط: أن تكون مطلقة، وأن تكون مدخولاً بها، وأن يكون الطلاق دون العدد الذي أعطاه الله عز وجل، وتقدم معنا أنه ثلاث للحر وطلقتان بالنسبة للعبد، على تفصيل وخلاف عند العلماء رحمهم الله. الرجعة حق للزوج في العدة وإن كرهت الزوجة قال رحمه الله: [فله رجعتها في عدتها ولو كرهت] . فله أن يملك ارتجاع هذه الزوجة في عدتها. إذاً الحكم الأول: أن من حقه الرجعة. الحكم الثاني: أن هذه الرجعة تختص بالعدة، فلا ينتظر حتى تخرج عليه عدتها، وسيأتي بيان العدد وأحكامها إن شاء الله تعالى. فإذاً يحق له ارتجاعها بشرط أن تقع هذه الرجعة أثناء العدة، وقبل خروج المرأة من عدتها بوضع حملها إن كانت ذات حمل، أو بعدة الأشهر إن كانت آيسة أو صغيرة، أو بثلاثة قروء وهي الأطهار إن كانت من ذوات الحيض. فإذا وقعت الرجعة أثناء العدة فإنه يمتلكها الزوج ولو كرهت الزوجة، والدليل على ذلك قوله تعالى في شأن المطلقات طلاقاً رجعياً: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فدلت هذه الآية الكريمة على أن من حق الزوج أن يرتجع زوجته. ولكن اشترط سبحانه وتعالى أن يكون ارتجاع الزوجة للإصلاح وليس للإضرار؛ والسبب في ذلك: أنه كان بعض الناس قبل شرعية هذا الحكم يطلق المرأة ثم يراجعها، ثم يطلق المرأة ويتركها تعتد وقبل أن تخرج من عدتها يردها ثم يطلقها من جديد، ثم يتركها تعتد حتى إذا قربت من الخروج من عدتها ردها، وهكذا حتى تبقى كالمعلقة لا زوجة ولا مطلقة، كما قال تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] . وقد هدد بعض الصحابة زوجته بذلك، وقال: إني لا أدعك تحلّين لزوج من بعدي وأفارقك، فقالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك حتى إذا قاربت الخروج من عدتك راجعتك، ثم أطلقك حتى إذا قاربت الخروج من عدتك راجعتك إلى آخره؛ فأنزل الله تعالى آية البقرة بتشريع الطلاق ثلاثاً، وأن المرأة إذا خرجت من عدتها لم يملك الزوج إرجاعها كما في آية البقرة التي ذكرناها في شرعية الطلاق بالثلاث، فتضمنت أنه إذا خرجت المرأة من العدة فإن الزوج لا يملك إرجاعها لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فالظرفية في قوله: (في ذلك) أي: في مدة العدة التي عبر عنها قبل في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] . الأمر الثاني: أنه يستحق الزوج إرجاع زوجته، بشرط أن يردها للإحسان لا للإساءة، كما ذكرنا في خبر الصحابي رضي الله عنه أنه أراد الإضرار، ولذلك قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] . ومن هنا قسم العلماء الرجعة إلى: رجعة واجبة، ورجعة مستحبة، ورجعة محرمة. فالذي يريد إرجاع زوجته: إما أن يجب عليه إرجاعها في قول بعض العلماء رحمهم الله، وإما أن يكون مستحباً له إرجاعها، وإما أن يكون محرماً عليه إرجاعها. فأما بالنسبة لوجوب إرجاع الزوجة فمذهب طائفة من العلماء: أنه يجب على الزوج أن يراجع زوجته إذا طلقها في الحيض، وهو مذهب الحنفية والمالكية، فيرون أنه طلاق بدعي، وأنه خطأ، ولا يمكن إصلاح هذا الخطأ إلا بردها، قالوا: ودليلنا قوله عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها) فإنه أمر، والأمر يدل على الوجوب، قالوا: فيجب عليه أن يراجعها. الحالة الثانية: أن تكون الرجعة مستحبة وهي: إذا انتفت الموانع والدوافع، فإنه يستحب للإنسان أن يراجع زوجته المطلقة إذا غلب على ظنه أنها ستصلح الأحوال، وغلب على ظنه أن في ذلك خيراً للمرأة، فقالوا: الأفضل والأكمل أن يراجعها؛ لأن إرجاع الزوجة ربما يكون فيه الرفق بالأولاد، خاصة إذا كانت ذات أولاد وذرية، فإنه ربما لا تجد زوجاً من بعده، خاصة إذا كانت كبيرة أو ذهب جمالها، فإنه ربما بقيت عانساً، وقد لا يأمن عليها الوقوع في الحرام، فإذا علم الله بقرارة قلبه أنه يريد إرجاعها من أجل أن لا تتعرض للحرام، ويريد ارتجاعها رفقاً بأولاده ولطفاً بهم، فإنه قد فعل أمراً مستحباً، وعلى الله أجره وثوابه، وقد أحسن في ذلك. وأما بالنسبة لتحريم رجوع المرأة فتحرم الرجعة إذا قصد الزوج منها أذية المرأة والإضرار بها وقال: أردها حتى أنتقم منها أو أوذيها، فإنه إذا ثبت عند القاضي بشاهدة الشهود أنه قال هذا الكلام، فمن حق القاضي أن يمنعه من ارتجاع زوجته؛ لأن الله يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] ومفهوم الشرط في قوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] أنه لا حق لهم إذا كانوا لا يريدون الإصلاح. كذلك أيضاً: إذا كان رجوع المرأة فيه شر وفساد، مثل أن تتعاطى المحرمات، أو تقع في الزنا فتخلط عليه نسبه، وتفسد عليه فراشه، ولم يعلم منها توبة، بل علمها فاسدة، وطلقها من أجل ذلك، فمثل هذه لا يجوز له أن يراجعها؛ لأنه إذا راجعها آذى أولاده وذريته، وأفسد فراشه ونسبه، فلا يحل له أن يتعاطى مثل هذه الأمور؛ لأن لأولاده وذريته عليه حقاً في مثل هذا، فلا يجوز له أن يعرّض نسبه لهذه المخاطر العظيمة، والشر والبلاء الكبير. على كل حال فقد بيّن المنصف رحمه الله أنه يستحق الرجعة بهذه الشروط التي أشار إليها رحمه الله، فيزاد إليها شرط: قصد الإحسان والإصلاح؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] . الألفاظ التي تقع بها الرجعة قال رحمه الله: [بلفظ: راجعت امرأتي، ونحوه] . الرجعة تقع بأمرين: الأول: القول، والثاني: الفعل. يحق للزوج أن يراجع زوجته بالقول، وهو أقوى ما يكون في الرجعة، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه إذا تلفظ بلفظ الرجعة الصريح أنه مراجع لزوجته، ولا خلاف بين العلماء أن القول يوجب الرجعة. ثانياً: تقع الرجعة بالفعل، ومن ذلك أن يجامع المطلقة أو يلمسها أو يقبلها أو ينظر إلى فرجها بشهوة، على تفصيل عند العلماء: هل يقصد الرجوع أو لا؟ سيأتي إن شاء الله. وقوله رحمه الله: [بلفظ راجعت] أي: تقع الرجعة بلفظ: راجعت، وألفاظ الرجعة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: اصطلح العلماء رحمهم الله على تسميته باللفظ الصريح، وهذا النوع من الألفاظ إذا شهد الشهود أو سمعه القاضي من الزوج، حكم بكونه مراجعاً لزوجته ولو لم يلتفت إلى نيته، وهو أنه يقول: راجعتك أو أرجعتك، فإذا قال لها: راجعتك أو أرجعتك، وما اشتق منه مما يدل على الرجعة صراحة، حكم بكون المرأة قد رجعت إلى عشرة الزوج، فلو توفي بعد هذه الكلمة حكمنا بأنها رجعية وترثه، ويحكم لها بالأحكام الزوجية، ويجب عليها أن تعتد، شأنها شأن الزوجة. القسم الثاني من الألفاظ التي تقع بها الرجعة: الألفاظ غير الصريحة، وهي ألفاظ الكناية، وهو أن يأتي بلفظ يحتمل أنه يريد الرجعة ويحتمل أنه لا يريد الرجعة، فيقول لها: الأمر بيني وبينك على ما كان، فهذا يحتمل أنني رجعت عن طلاقك وأريد أن أرتجعك، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل الطلاق، ويحتمل قوله: الأمر بيني وبينك على ما كان، أي: لا زلت مطلقاً لك وباقياً على طلاقك، ولا أريد رجوعك إليّ، أو يقول: أنت مني على ما كنت من قبل، فيحتمل (من قبل) أي: من قبل الطلاق، ويحتمل (من قبل) أي: من قبل أن أكلمك، فلا زلت أكرهك ولا أريد رجوعك. فهذه الألفاظ المحتملة إذا قال لها: الأمر بيني وبينك على ما كان، أو يقول لها: عدت إلى حالي الذي كنت عليه، فنسأله: هل قصدت الرجعة؟ فإن قال: قصدت رجوعها ثبت رجوعه، وإن قال: لم أقصد بهذا اللفظ رجوعها، فإنه لا يحكم بكونه مرتجعاً لها. واختلف العلماء في قوله: (رددتك وأمسكتك) هل يعتبر مراجعاً لزوجته؟ فلو أن رجلاً طلق امرأته طلقة ثم قال لها: رددتك، أو قال لها: أمسكتك، ثم توفي، وشهد الشهود عند القاضي أنه قال: رددتك وأمسكتك، فهل يحكم بكونه مراجعاً لزوجته أو لا يحكم؟ قال بعض العلماء: رددتك وأمسكتك صريح؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229] ، وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] وهذا يدل على أنه إذا قال لها: أمسكتك، فإنه يحكم بكونه مرتجعاً لزوجته. وهذا القول فيه قوة، خاصة وأن دليل القرآن يشير إلى اعتباره، وأنه يحتمل بقوة رجوع المرأة. وعلى هذا فإن الألفاظ تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وفي الأصل قسمان: قسم الصريح والكناية، وقسم مختلف فيه هل هو صريح أو كناية، وإن كان يرجع إلى أحد الأمرين، فيصبح المجموع قسمين على ما ذكرناه. وقوله رحمه الله: [بلفظ: راجعتك] هو اللفظ الصريح. قال رحمه الله: [لا نكحتها ونحوه] . لو قال: راجعتك، أو قال أمام عدلين أو أمام أصحابه كلمة: راجعتك، ارتجعت زوجتي، رددتها، أمسكتها، فيستوي أن يقول لفظ الرجعة وهو لوحده، أو يقول بحضور الزوجة، أو يقوله في حال غيبتها، فالحكم واحد، إذا قال: أرجعتك، يخاطب الزوجة فإنها تثبت الرجعة، ولو قال: راجعت زوجتي، وهو جالس مع شخص، وبقي من عدة زوجته يوم واحد، أو اتصل على أبيها قبل انتهاء عدتها بيوم وقال: رجعت، أو رددت بنتك، فحينئذٍ تثبت الرجعة. إذا تلفظ بلفظ الرجعة فسواء خاطب به الزوجة أو لم يخاطبها به فإنه يثبت له حكم الرجعة، أي: فلا يشترط في الرجعة أن يواجه الزوجة بها، ويستوي أن تسمع منه، أو يقول ذلك في حال غيبتها. الإشهاد وحكمه في الرجعة لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] فأمر الله تبارك وتعالى بالإشهاد على الرجعة. وهذا الإشهاد من حيث الأصل فيه حكم عظيمة؛ لأن المرأة إذا طلقت فإن هذا نوع من الانفصال، بحيث لو خرجت من العدة صارت أجنبية. فإذاً: رجوعها إلى زوجها يترتب عليه أحكام من حلها وغير ذلك، وخاصة على القول الذي يقول: إن الرجعية أجنبية، يعني: لا تعتبر في حكم الزوجة، كما هو مذهب الشافعية وغيرهم. وأيضاً يثبت بذلك أحكام: فلو أنه توفي فجأة، أو جاءته سكتة، أو جاءه حادث -والعياذ بالله- فالإشهاد فيه صيانة، وحفظ للحقوق، فلو أن رجلاً طلق امرأته ثم قال لرجل: راجعت زوجتي، ثم ركب سيارته وتوفي، أو جاءته سكتة في تلك الليلة ولم يصبح منها؛ فإنها زوجة، ويجب عليها الحداد، وحكمها حكم الزوجات، فكيف نثبت هذه الزوجية والكل يعلم أنها قد طلقت؟! فإذاً الإشهاد على الرجعة فيه خير للزوج والزوجة، وحفظ لحق الزوج، وحفظ لحق الزوجة. ولذلك لو كان الزوج في مكة والزوجة بالمدينة، وقبل خروجها من عدتها بيوم أو أثناء عدتها قال لشخصين: اشهدا أني راجعت زوجتي، ثم سافر يريد أن يخبر زوجته ويردها إليه، فلما وصل إليها وجدها قد خرجت من عدتها، فإذا وجدها قد خرجت من عدتها فإنها ستنكر أن تكون زوجة له، وتقول له: يا فلان! طلقتني وخرجت من عصمتك بخروجي من عدتي، فأنت أجنبي مني وأنا أجنبية منك، فإنه لا يستطيع أن يثبت هذا إلا بالشهود، فإذاً يضيع حقه لو لم يكن مشهداً، ويضيع حقها أيضاً إذا توفي عنها إلا إذا كان مشهداً، فالشهادة لا شك أنها تحفظ الحقوق. واختلف العلماء في الإشهاد على الرجعة: فمنهم من يقول: الشهادة على الرجعة واجبة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه ولا صارف له، وهو قول الشافعية وطائفة. وقال بعض العلماء: الإشهاد مسنون كما اختاره المصنف رحمه الله، وهو قول الجمهور. الأسئلة حرمة كتم الزوج مراجعته لزوجته السؤال الإشهاد ليس شرطاً في الرجعة، ولكن هل له أن يكتم رجعة زوجته؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالإشهاد ليس شرطاً لصحة الرجعة على أصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور، حتى الشافعية الذين أوجبوا الإشهاد لم يقولوا: بأنه شرط في صحة الرجعة، فتصح الرجعة بدون إشهاد؛ ولكن يجب عليه ويأثم بتركه، ولذلك جاء عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه لما طلق رجل امرأته وردها ولم يشهد بيّن أنه خالف السنة، وقال له: (طلقت لغير السنة، وراجعت لغير السنة فلا تعد) . على كل حال: إذا كتم الرجعة فإنها تضيع حقوق الزوجة، ولا يجوز للزوج أن يكتم هذه الرجعة، بل عليه أن يخبر ويبيّن؛ لأنها امرأة تحس وتتألم، وإذا كتم ربما وقعت في المحظور من أن تُنكَح من رجل وهي ذات زوج، ولذلك لا بد أن يبين، ومن هنا جاء عن السلف وأئمة السلف رحمهم الله التشديد في كتمان شهادة الرجعة، فلو قال للشهود: لا تخبروا أحداً أني راجعت زوجتي، فإنه إذا علم القاضي بذلك يعزره ويعزر الشهود، فلا يجوز كتمان هذه الشهادة؛ لأن الله يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] فأمر الله عز وجل أن تكون شهادة تامة كاملة قائمة لله عز وجل، وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى، وأمر الشهود أن يكونوا قوّامين بالقسط شهداء لله. فإذا كُتمت الشهادة أو كتم الزوج رجعته لزوجته ضاعت الحقوق، ولا ينبغي مثل هذا لأنه منكر، وتضييع لحق الله عز وجل وحقوق عباده. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
خروج المرأة المطلقة رجعياً من بيت الزوجية السؤال بعض النساء عندما يطلقها زوجها طلقة واحدة فإنها لا تجلس في بيت زوجها، بل تذهب إلى بيت أهلها، فهل يصح هذا الفعل، وخاصة إذا قصدت الزوجة من خروجها أن يهدأ الزوج ويذهب غضبه؟ الجواب في الحقيقة ينبغي على العلماء وعلى طلاب العلم وعلى أئمة المساجد والخطباء أن ينبهوا الناس على هذه القضية، وأن يتواصى طلاب العلم بها، وهي قضية خروج المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً من بيت الزوجية. فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا يجوز للزوج أن يطردها من بيتها، ولا يجوز لأبيها أو أخيها أن يأتي ويأخذها. فلينبّه الناسُ على ذلك، فهذه مسئولية الخطباء، ويجب عليهم أن يبينوا للناس حكم الله في الطلاق، وأن يبينوا لهم السنة والبدعة، والأحكام المترتبة على هذا الأمر، خاصة في هذا الزمان. تفشى بين الناس كثيراً إلا من رحم الله؛ أن المرأة بمجرد ما يطلقها زوجها يأتي أبوها أو يأتي أخوها أو يأتي قريبها، فيأخذها، وقلّ أن تجد امرأة اعتدت عدة الطلاق الرجعي في بيت الزوجية، وهذا من المنكر العظيم؛ فإن الله يقول: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] فهذه المرأة المطلقة طلقة أولى أو طلقة ثانية بعد دخوله بها لا يحل خروجها من البيت، ولا يجوز للزوج أن يطردها إلا في أحوال مستثناة. والأحوال المستثناة: هي أن يكون الزوج شريراً عظيم البلاء ويغلب على ظنها أنها لو جلست لحصل ما لا يحمد، ففي هذه الحالة من حقها أن تفر من ضرره، خاصة إذا كان عنده أمور خطيرة، أو رجل شديد العصبية، وأنه ربما أضر بها إضراراً عظيماً، وربما ضربها، وربما يتعدى بها إلى القتل أو الإضرار بها، فحينئذٍ يجوز للوالد إذا خاف من هذه الأضرار، ولأقرباء الزوجة إذا خافوا من هذه المفاسد؛ أن يخرجوا المرأة من بيت الزوجية. أما إذا كانت الزوجة لا تخشى الضرر العظيم الفادح والغالب على الظن وقوعه؛ فإنه لا يجوز إخراجها، ويجب عليها أن تبقى في بيت الزوجية، وأخوها ظالم وأبوها ظالم ووليها ظالم إن أخرجها، ومن أخرجها من بيت الزوجية فقد ظلم، وطيلة ما تعيش في بيت أخيها أو بيت أبيها أو بيت قريبها بعيدة عن بيت الزوجية؛ فإن هذه الأيام والليالي كلها إثم وحرج على من أعانها على هذا الخروج؛ لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وهذا تعاون على الإثم وعلى العدوان، وتضييع لحق الله العظيم. لأن الله لما جعل المطلقة طلاقاً رجعياً تبقى في بيت الزوجية فذلك لحكم عظيمة؛ فإنها إذا بقيت في بيت الزوجية حنّ كل من الزوجين للآخر، ولذلك قلّ أن تسمع اليوم رجلاً راجع زوجته وصلحت الأمور، لأنها بمجرد خروجها من بيت الزوجية تذهب إلى أهلها، فتفسد على زوجها، حتى ولو عادت مرة ثانية وهي صالحة؛ فوالله لو بقيت في بيت الزوجية لكان أصلح لها وأفضل. فهذه أمور عظيمة، ولذلك لا يصلح الأزواج إلا بتفاهم الزوجين مع بعضهم، ولا يضر الزوجين شيء مثل دخول الطرف الأجنبي، حتى ولو كان الطرف الأجنبي أباً لها أو أخاً أو قريباً، فإن المرأة إذا بقيت مع زوجها استطاع كل منها أن يعرف كيف يحل مشاكل الآخر. فهي إذا بقيت في بيت الزوجية أولاً: يستطيع الزوج أن يستخدم قوته في الصبر عنها حتى تتأدب إذا كانت هي التي أخطأت، فتراه يمر عليها، وتمر عليها الليلة تلو الليلة وهي في نفس البيت تعيش الذكريات القارسة المؤلمة، فتكتوي بنار الفرقة، والمرأة خلقها الله ضعيفة المشاعر، وجعل هذا الضعف كمالاً لها وجمالاً وجلالاً، وهذه المشاعر لا تكتوي بها عادة إلا إذا جلست قريباً من زوجها وهي تراه، لكن إذا ذهبت إلى بيت أبيها أو إلى بيت قريبها انشغلت مع بيت أبيها عن تحسس هذه الأحاسيس، ولذلك انظر حكمة الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] ونسب البيوت إليهن، مع أنها بيوت الزوجية {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] . كما أن الزوجة تفر من بيت الزوجية إذا خشي الضرر، كذلك من حق الزوج أن يطردها وأن يخرجها من بيت الزوجية إذا كانت قد ارتكبت فاحشة مبينة كالزنا والعياذ بالله، أو كانت سيئة عظيمة الضرر؛ بأن تكون شريرة تستفزه، أو ربما تؤذيه، خاصة إذا كانت مسترجلة! ففي هذه الحالة من حق الزوج أن يطردها ويخرجها من بيت الزوجية، ويقول لوليها في هذه الحالة: تعال وخذ وليتك؛ لأن هناك فاحشة، سواءً كانت فاحشة باللسان أو كانت فاحشة بالجوارح والأركان. فإذا كانت ذات فحش وأذية وإضرار بالزوج أو بقرابته، بحيث إذا طلقها قامت تسب أمه أو تسب والده، فإذا بقيت في بيت الزوجية والرجل ساكن مع والديه، فتطيل لسانها على أبيه وأمه، فمن حقه أن يطردها من بيت الزوجية ولو كانت في عدتها؛ لأنها أتت بفاحشة مبينة، وآذت وأضرت، مثل أن تقول لأمه: قولي له يردني، وتؤذيها وتضرها، وتزعجها وتقلقها؛ لكن لو جاءت بالمعروف وبكت عند أمه، وقالت: يا أم فلان قولي لفلان يراجعني، إني مخطئة إني كذا، فهذا شيء طيب، لكنها تأتي وتسبها وتشتمها وتؤذيها وتضرها وتضيق عليها، أو تضيق على والده وعلى قرابته، فإنه في هذه الحالة من حقه أن يطردها من بيت الزوجية، وليس لها حق في سكناها. على كل حال: هذا الأمر ينبغي علينا جميعاً أن نتقي الله، وأن نتبع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الحكم العظيمة أن الزوج يحنّ لزوجته إذا كانت في بيت الزوجية، والزوجة تحنّ إلى زوجها إذا كانت في بيت الزوجية، وتصلح الأمور وتهدأ، ولا شك أن الله حكيم عليم، ولذلك قال: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] ونشهد لله أننا لا نعلم وأنه هو وحده سبحانه العليم الحكيم علام الغيوب، ونشهد أننا أجهل ما نكون إلا أن يعلمنا سبحانه وتعالى، وهو العليم الحكيم، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم! فلا شك أن لله الحكمة التامة البالغة في هذا الشرع الذي أوجب علينا في المطلقة طلاقاً رجعياً أن تبقى في بيت الزوجية ولا تخرج منه. فالواجب أن يؤمر الناس بهذا الأمر، وأن يبين لهم شرع الله، وأن يحثوا ويحضوا على ذلك. والله تعالى أعلم. عدم ثبوت الرجعة بلفظ (نكحتها) الجواب إذا قال: نكحتها، لم تثبت الرجعة؛ لأنه لا يدل على الرجعة لا صراحة ولا ضمناً، ومن هنا يفتقر هذا اللفظ إلى الدلالة، فلا تثبت الرجعة به في قول جمهور العلماء رحمهم الله. والله تعالى أعلم. عدد الطلقات التي يملكها العبد السؤال مر معنا أن العبد له رجعة واحدة، فما هو التفصيل في المسألة، أثابكم الله؟ الجواب تقدمت هذه المسألة وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله في: هل للعبد أن يطلق ثلاث تطليقات أو طلقتين؟ وهذا مما يسمى بتعارض العموم مع القياس، وهي مسألة أصولية تكلم عليها العلماء وأشرنا إليها. العموم في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وهذا عام شامل للحر والعبد. وأما القياس: فإن الله عز وجل جعل الحد في الإماء والرقيق على النصف من حد الحر: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] فجعل الحد على التشطير. فجمهور العلماء رحمهم الله يرون القياس في هذا، وفيه أقضية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقوي هذا القياس على قول من يقول: إن قول الصاحب حجة، وهذا قول جمهور الصحابة رضوان الله عليهم، حتى قيل: إنه لا مخالف في أن العبد يملك طلقتين ولا يملك ثلاثاً. ومن تمسك بالقول بالثلاث فقوله له وجه، ومن تمسك باثنتين فقوله له وجه؛ لأنه ليس هناك طلقة ونصف، فالطلاق لا يشطر، فتمت له طلقتان؛ لأنه لا يصح أن يقال: له نصف الطلاق طلقة ونصف، ولا يصح أن يقال: له طلقة؛ لأن الطلقة ليست بنصف إنما هي ثلث، ولو قيل: طلقة ونصف، فالطلاق لا يتشطر بالإجماع من حيث الأصل العام، ولذلك لو قال لامرأته: طلقتك نصف طلقة، طلقتك ربع طلقة، أنت طالق ثمن طلقة؛ فإنها تطلق طلقة كاملة، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله وأئمة السلف والخلف رحمهم الله برحمته الواسعة. والله تعالى أعلم. حكم إخراج كفارة اليمين نقوداً السؤال هل يجوز إخراج كفارة اليمين نقوداً أم لا؟ الجواب كفارة اليمين بيّنها الله تبارك وتعالى فهي تخييرية وترتيبية: تخييرية في عتق الرقبة، وإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فهو مخيّر بين هذه الثلاث، إن شاء أعتق رقبة، وإن شاء أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم. وترتيبية: أنه إذا لم يجد واحدة من هذه الثلاث ولم يستطع فعليه صيام ثلاثة أيام متتابعات. فهي تخييرية من وجه، ومرتبة من وجه، وليس فيها ذكر للنقود، ومن أخرج النقود في كفارة الأيمان فإنها لا تجزي؛ لأن الله أمر بالإطعام، والنقود غير الطعام، وقد كانت النقود موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فالكفارات التي سمى الله لا يجوز إخراج البدل عنها نقوداً في مذهب جمهور العلماء، خلافاً للإمام أبي حنيفة النعمان عليه من الله تعالى شآبيب الرحمات والرضوان، حيث قال: إنه يجوز إخراج النقود عن الإطعام في مسائل الكفارة ككفارة اليمين، وكفارة الصيام ونحو ذلك، وهذا مرجوح؛ لأنه استدل رحمه الله بحديث معاذ رضي الله عنه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مصدقاً قال: (ائتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فانتقل إلى البدل، وهو الخميص والبيس وقال: (إنه أرفق) ؛ قال فهذا يدل على جواز إخراج البدل في الصدقات الواجبة. وهذا ضعيف؛ لأن حديث معاذ في الحقيقة ليس في الصدقات وإنما هو في الجزية، والجزية يجوز فيها إخراج البدل، فيجوز أن نخرج في الفدية الثياب وكل شيء له قيمة، وأن يخرج عدلها من النقود، فينبغي إعمال النصوص، فنعمل بما ورد مسمى في الصدقات والكفارات، فنتقيد فيه بالواجب. فلا يجوز إخراج صدقة الفطر في رمضان إلا طعاماً، ولو جاء شخص وقال: إن الطعام يضيّع أو يباع، نقول: على الله الأمر وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم، ولنترك هذه الاجتهادات والآراء، ولنتمسك بما ثبت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع احترام أهل العلم وتقديرهم وحفظ مكانتهم وجلالتهم رحمهم الله برحمته الواسعة، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه. وبالنسبة لقضية: لماذا لا تخرج النقود؟ أولاً: أن الأمر تعبدي. ثانياً: أن النقود كانت موجودة والله لم يذكرها، ولو كانت جائزة لذكرها. ثالثاً: كأن هذا يستدرك على الله ويقول: النقود أفضل، سبحان الله! النقود أفضل الآن دون زمان النبي صلى الله عليه وسلم؟!! بالعكس: النقود أفضل الآن وفي زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فكون الله لا ينبه عليها ولا يأمر بها مما لا يدع لعاقل أن يشك في أن الإطعام مقصود. رابعاً: أن الله لما قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] فهذا الإطعام فيه حكمة عظيمة؛ لأن الطعام لا يأخذه إلا المستحق، ولكن النقود يأخذها المستحق وغير المستحق، ولذلك لو أخذت طعاماً في فدية أو كفارة فإنك تتعب حتى تجد المستحق الذي يأخذ منك، لكن النقود يأخذ منك الغني والفقير، ويأخذها كل شخص، ويدعي كل إنسان أنه مستحق لها، ففي هذا لا شك حكم عظيمة، ومن هنا لا بد من التقيد بالوارد. والله تعالى أعلم. جواز اعتبار الصغار والكبار من المساكين في الكفارة السؤال هل يعتبر في عدد كفارة اليمين الصغار من المساكين؟ بمعنى: لو أن إنساناً أعطى كفارته لأسرة عددها أكثر من عشرة كباراً وصغاراً فهل يجزئ، أثابكم الله؟ الجواب نعم يجزيه إذا أعطاها للصغير والكبير، وبناءً على ذلك: لو كانت هناك أسرة تتكون من عشرة أنفس فيهم زوجان والبقية أطفال وأولاد، فإنها تجزيه عن كفارته، سواء أطعمهم أو كساهم للإطلاق في الآية. والله تبارك وتعالى أعلم. ضابط سفر القصر السؤال متى يكون القصر في الصلاة الرباعية؟ هل هو بمجرد النية في السفر أم بالخروج من المدينة؟ الجواب نص الكتاب يدل على أن أحكام السفر لا تشرع ولا تكون إلا إذا تلبست بالسفر: أولاً: لدلالة لفظ السفر. ثانياً: قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] والتعبير بـ (على سفر) يدل على أنه في حال السفر. ثم قال تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] . فإذاً: لا نستبيح ولا نستحل الرخص إلا إذا كنا على حالة سفر، فإذا كان الإنسان في بيته ونوى السفر فإنه لم يسافر حقيقة، والشريعة ترتب الأحكام على الباطن والظاهر، وترتبها على مجموع الأمرين، ففي السفر نشترط الأمرين: أن يكون حاله حال السفر، وهذا الظاهر. وأن تكون عنده نية السفر. ولذلك لو خرج من المدينة غير ناو للسفر فحاله حال المسافر؛ لأنه أسفر وخرج، ولكن يقصر؛ لأنه تحقق أحد الأمرين ولم يتحققا معاً، وكذلك النية، فمن وجدت فيه النية ولم يسافر لم نصحح له قصره. فالذي عنده نية للسفر ولم يسافر جزماً فليس بمسافر، وإلا لصح أن يقال: إنني لو نويت الحج هذه السنة أستبيح القصر منذ أن أبقى ناوياً لهذه النية، ثم يرد السؤال: متى تتخيل هذه النية؟ فيدخل الإنسان في إشكال لا ينتهي. هذه مذاهب شاذة وضعيفة، وإذا قلنا: مذاهب شاذة، فالتعبير بالشذوذ عند أئمة الفقه يدل على أنها لا يؤتى بها ولا يعمل، والله عز وجل قد نص على أن الرخص لا تستباح إلا على السفر، فإذا أراد أن يفطر وهو صائم فلا يفطر وهو في بيته، وإنما يفطر بعد أن يخرج. وما ورد من أفعال الصحابة فقد أجيب عن ذلك من أن قوله: (من السنة) في حديث أنس وأبي بردة؛ أجيب عنه: أن الصحابي ربما فهم ما ليس بسنة سنة، حتى إن الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله مع أنه يأخذ بظواهر النصوص قال: إنه ربما فهم الصحابي ما ليس بسنة سنة. ولذلك نبقى على نص القرآن الواضح الدلالة، وهو أنه لا يجوز لك أن تقصر الصلاة، ولا يجوز لك أن تفطر في سفرك إلا إذا كنت على سفر. وبناءً على ذلك: إذا خرجت من آخر عمران المدينة فلك أن تستحل رخص السفر، فيجوز لك الفطر، ويجوز لك قصر الصلاة، فلو أذن المؤذن وأنت في طرقات المدينة ولم تخرج من آخر عمرانها فلست على سفر، ولم تضرب في الأرض بعد، فلم يتحقق الشرط الذي ذكره الله عز وجل، ولا يجوز لك القصر في هذه الحالة، وتجب عليك الصلاة رباعية فتصلي الظهر أربعاً، فلو أذن عليك الظهر وأنت قد حزمت أمتعتك وخرجت من بيتك ومشيت، ولكن بقي عمران المدينة لم تخرج منه بعد، فإنك تصلي أربعاً في الظهر والعصر والعشاء. لكن لو أنك وضعت متاعك وركبت سيارتك وخرجت من آخر المدينة وبمجرد خروجك ولو بدقيقة واحدة أذن الظهر، فلك أن تصلي الظهر ركعتين، ويجوز لك أن تؤخرها إلى وقت العصر، أما لو أذن عليك قبل خروجك فيجب عليك أن تصليها في وقتها، ولا يجوز أن تؤخرها وتقول: أنوي جمعها؛ لأن الحضرية لا تجمع مع السفرية على الأصل الذي بيناه في مسائل الجمع بين الصلاتين للسفر. والله تعالى أعلم. حكم طواف الوداع للمعتمر والحاج السؤال من أقام بمكة بعد حجه ثم اعتمر، فهل يطوف الوداع لحجه أم لعمرته، أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن طواف الوداع يشرع في الحج، وليس بمشروع في العمرة ولا بواجب، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في الحج ولم يأمر به في العمرة؛ والسبب في ذلك: أنهم كانوا إذا طاف طوافوا الإفاضة في الحج مكثوا أيام التشريق بمنى، ثم يسافرون إلى ديارهم من منى، فصار هذا جفاءً للبيت، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً) فهذا يدل على أن طواف الوداع شرع من أجل الحاج، وأما المعتمر فأصح أقوال العلماء: أنه لا يجب عليه طواف الوداع. والذين قالوا بوجوب طواف الوداع على المعتمر قالوه بالقياس، قالوا: إن العمرة كالحج، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) ، وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) المراد به مقام التروكات وليس في مقام الأفعال؛ لأن أصل الحديث حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه يعلى بن أمية رضي الله عنه في قصة الرجل المعتمر من الجعرانة: (أنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة عليها طيب، قال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يغط كغطيط البكر صلوات الله وسلامه عليه، فلما سري عنه، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) والسياق سباق محكم، فلا يؤتى ويقتطع في الحديث. فإن قال قائل: العبرة بعموم اللفظ، قلنا: (اصنع بعمرتك ما أنت صانع في حجك) لو أخذت به على عمومه للزم الوقوف بعرفة على المعتمر، ولزمه أن يبيت في مزدلفة، وأن يرمي الجمار؛ لأنه قال: (اصنع) أي: افعل. فإذا كنت تقول: إنه لا يجب عليه الوقوف بعرفة، ولا يجب عليه المبيت بمزدلفة ولا بمنى، ولا الرمي، فقل: ولا يجب عليه طواف الوداع؛ لأنه واجب من واجبات الحج، فإذا سقط هذا الواجب سقطت تلك الواجبات، وإذا سقطت تلك الواجبات سقط هذا الواجب. أما أن نقول: هذا الواجب يلزم، وهذا الواجب لا يلزم، فهذا تفريق بدون دليل فلا يصح. وعلى كل حال: مما يدل على ضعف القول بوجوب طواف الوداع على المعتمر؛ أنه لما قالوا بوجوبه تعارضت أقوالهم: فقال بعضهم: إذا جلس المعتمر وصلى فرضاً واحداً ثم سافر فعليه طواف الوداع. وقال بعضهم: إذا صلى ثلاثة فروض. وقال بعضهم: خمسة فروض. وقال بعضهم: إذا مكث يوماً. وقال بعضهم: إذا بات بمكة. وهذا التعارض والتناقض في الأقوال يدل على أنه ليس هناك أصل، ويدل على ضعف الأصل؛ لأنه لو كان المعتمر عليه طواف وداع لبينت الشريعة ونصت النصوص متى يجب على المعتمر أن يطوف طواف الوداع ومتى يسقط عنه، فإذا ثبت أن المعتمر لا وداع عليه زال هذا الإشكال. فإذاً: إذا خرج الحاج للعمرة وجاء بالعمرة فإنه متى ما أراد السفر فإنه طاف طواف الوداع. ومن أهل العلم من قال: إذا اعتمر الحاج ونوى في عمرته أن يفارق بعد عمرته البيت دخل طواف الوداع تحت طواف العمرة، وأجزأه طواف العمرة عن طواف الوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً) والسعي بعد الطواف لا يقطع الطواف، ومن هنا قالوا: لو أن معتمراً جاء مباشرة وطاف وسعى ثم صدر، فلا وداع عليه. فالسعي لا يقطع وداع البيت، وعلى هذا فإنه إذا صدر بعد عمرته مباشرة سقط عنه طواف الوداع، وأما إذا بقي بعد عمرته فإنه يجب عليه أن يطوف طواف الوداع عند خروجه، على الأصل الذي دل عليه حديث الصحيح: (أمر الناس أن لا ينفروا حتى يكون آخر عهدهم بالبيت طوافاً) . والله تعالى أعلم. تعارض طاعة الوالدين مع حب الصدقة والإنفاق السؤال أحب أن أتصدق من مالي كثيراً، ولكن والدي وإخوتي يطلبون مني أن أتاجر بأموالي مما يقلل من نصيبي في الصدقة، فأيهما أفضل؟ الجواب دين ودنيا، دنيا وآخرة، أيها أفضل؟ لا شك أنك إذا قصدت من إمساك المال بر الوالد والسمع والطاعة للوالد، ونويت أنه لو لم يأمرك الوالد لتصدقت فإن الله يأجرك بثلاثة أجور: الأجر الأول: أجر البر، وهو أعظم عند الله من الصدقة التي تفعلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن: أحب الأعمال إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) والوالد إذا أمر بأمر لا يتهم فيه بمعصية وجبت طاعته، وهو قد أمرك؛ لأنه قد يشفق عليك في مصلحة لولدك أو لك، أو يراك تحمل نفسك ما لا تطيق، فحينئذٍ تكون هذه توسعة من الله ساقها لك، وأرجو من الله أن يأجرك بحسن نيتك. ثانياً: يأجرك الله عز جل على الصدقة بنيتك؛ لأنه لو لم ينهك والدك لتصدقت. وثالثاً: أن هذا الأمر الذي وقع من منع والدك لك يحدث عندك نوعاً من الضيق؛ لأن الكريم يتألم إذا امتنع عن الصدقة، الكريم الذي قذف الله في قلبه الرحمة حتى ولو كان يبر والديه تجده يتألم، والله يعطيك أجر الألم، هذا أمر ثالث. فمن نعم الله عز وجل على من أعطاه الله الكرم وأرسل يده بالإحسان، أنه لا يرجع في عطية، وأكره ما عنده أن يرد في عطيته، أو يمنع من الإحسان إلى الناس. ومن القصص العجيبة عن الملك عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، وكان من أكرم الناس، وحدث ذات يوم أنه أعطى عطية وروجع فيها، وكانت عطية كبيرة جداً، وربما أجحفت ببعض المصالح، لكنه روجع فيها رحمه الله، فيحدث بعض الثقات الذين عايشوا هذه القضية أنه بعد أن روجع فيها ورأى المصلحة أن يرجع لم ينم ليلته تلك إلى الفجر، وهو يقول: عبد العزيز يعطي ويرجع في عطيته! عبد العزيز يعطي ويرجع في عطيته! فلما طلع الفجر دعا المسئول وهو ابن سليمان رحمه الله، وقال له: الذي أمرت به من العطية ينفذ، وعندها جاءه النوم رحمه الله. فالكريم لا يرجع في عطيته، ولا يرضى لنفسه البخل، ولو منع من عطيته فإنه يتألم، حتى إن بعضهم يمرض ولا يطيب له العيش ولا تهنأ له النفس. يقال عن بعض الكرماء العرب وكرماء السلف رحمهم الله القدماء: إنه كان إذا سافر ومعه خدمه وحشمه لا يمكن أن يأكل لوحده، وكان يضع طعامه على الطريق ويقول: التمسوا لي الضيف. فلا يرتاح الكريم إلا بالإعطاء. فيأجرك الله الأجر الثالث بما ذكرناه، وهو كونك تتألم أنك لم تعط الناس، وهذا هو شأن من حبب الله إليه الآخرة. أخي في الله! بر والدك، وتاجر إذا كانت تجارة مباحة، وانو في قرارة قلبك محبتك لربك وحبك للإحسان لإخوانك المسلمين، وانو في قرارة قلبك أنك تستعين بهذه التجارة لجمع مال لصدقة أعظم، فإن الله عز وجل يبلغك بحسن النية. ولا شك أن الصدقة من أحب الأعمال إلى الله، وينبغي على كل من يريد أن يكون التزامه صادقاً وطاعته صادقة لله عز وجل أن تكون بينه وبين الله صدقات خفيات يجبر بها قلوب المؤمنين والمؤمنات، ومن كانت له صدقة بينه وبين الله كانت بينه وبين الله وسيلة نافعة شافعة في الدنيا والآخرة، فكم من كربات فرجت بفضل الله ثم بفضل الصدقة، وإن المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته يوم لا ظل إلا ظله جل جلاله، وإن العبد يكف عن وجهه النار بفضل الله ثم بالصدقة. لو لم يكن في الصدقة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) لكفى، قالوا: إن الإنسان ربما كان من أعصى الناس لله عز وجل، وربما ينزل الله به بلاءً فيتصدق فيذهب عنه غضب الله، ولربما غفر الله ذنبه بتلك الصدقة، لكن يستدل على ذلك بالتوفيق في الصدقة، ومن أعظم البشائر لولي الله المؤمن بالدرجات العلى في الصدقات: أولاً: أنه إذا جاءه المال، ومكنه الله منه، نظر إلى أن هذا المال لا يغني عنه من الله شيئاً، وأنه لا قيمة لهذا المال إلا إذا اشترى به رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه من بعده، حتى إن عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تكون صائمة فيأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وأرضاه ثلاثين ألفاً فتتصدق بها، حتى إنها لا تبقي شيئاً تفطر به في ذلك اليوم، وكانت كأبيها والشيء من معدنه لا يستغرب: إن الأصول الطيبات لها فروع زاكية أبوها الذي أنفق ماله كله لله جل وعلا ورسوله، وأنزل الله من فوق سبع سماوات تزكيته أنه مجنب من النار مبرؤ منها: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18] وأعطى ماله لله، حتى إنه لما هاجر أخذ ماله معه نصرة للإسلام ونصرة لله ولدينه عز وجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فجعت أهلك بنفسك، ثم فجعتهم بمالك، ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم حب الله ورسوله) رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه. بخٍ بخٍ! هذا والله العيش! الصدقة ما سميت صدقة إلا لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها؛ لأنه لا يتصدق بهذه الدنيا لوجه الله ويشتري بها رحمة الله عز وجل إلا من كان مؤمناً صادقاً في إيمانه؛ لأن المال يأسر صاحبه، والمال له سلطان على القلوب، به سفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، وقطعت الأرحام، والله يقول: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] فالمال فتنة، ومع هذا يأتي الإنسان يريد أن يتصدق فتأتيه النفس الأمارة بالسوء وتقول له: تضيع مستقبلك ومستقبل أولادك وأهلك وذريتك! وكذا وكذا، فيعده الشطيان الفقر، وتأتيه رحمة الله جل وعلا، فيثبت الله عز وجل قلبه فيقول: لا، إن خزائن الله لا تنفذ (ويد الله ملأى سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة) إني أعامل الله الذي لا غنى إلا به سبحانه وتعالى، فيخرج هذا المال ولو كان من أعز أمواله صدقة، وهو موقن أن الله سيخلف عليه، وأنه هو الرابح وليس بخاسر. ولذلك لما جاء عام الرمادة واشتد الأمر على المسلمين في المدينة جاءت عير لـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فخرج التجار يتلقونه، فقالوا: يا عثمان! بعنا التجارة، نربحك الدرهم بالدرهمين؟ قال: أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك ثلاثة؟ قال: أعطيت أكثر، قالوا: أربعاً خمساً قال: أعطيت أكثر، قالوا: من ذا الذي أعطاك وما بالمدينة تاجر سوانا؟ قال: إن الله أعطاني بالدرهم عشرة، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، أشهدكم أنها صدقة على فقراء المسلمين! هذا هو الإيمان والثقة الصادقة بالله جل وعلا، أن تكون بما في يد الله أغنى منك بما في يدك، وإن العبد تأتيه زينة الدنيا وزهرتها حتى إذا أراد الله أن يسعده في هذه الدنيا جعل أول ما يفكر فيه أن يقدمه لآخرته. عمر رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين لما جاءته أرض بخيبر ما دنا منها ولا أجرى ماءً ولا نهراً ولا غرس شجراً، ولكن بمجرد ما فاز بالأرض وأصبحت في ملكيته انطلق إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم لكي يشتري الآخرة، فكانت الدنيا تحت أقدامهم، وكانت الآخرة ملء قلوبهم، فجاء وقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أنفس مالي، ما أصبت مالاً أحب إليّ من هذا المال، فماذا تأمرني فيها؟) وقد كانوا يحكمونه في أموالهم وأنفسهم رضوان الله عليهم. فما أخذها مع أنه لو أخذها فهي حلال له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت تصدقت بها وحبّست أصلها وتصدقت بثمرتها) الحديث، فتصدق بها رضي الله عنه وأوقفها على فقراء المسلمين وضعفتهم. فأول دلائل التوفيق للصدقة الصالحة قوة اليقين بالله عز وجل. ثانياً: أن يخرج بهذه الصدقة وأحب ما يكون إليه ألا يعلم به أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله لا يعرفهم الفقير الذي يعطونه، فيأتي الرجل منهم متنكراً في ظلام الليل وسواده البهيم. وكان علي زين العابدين رحمه الله برحمته الواسعة يحمل على ظهره الصدقات إلى بيوت الأرامل والأيتام، فكان إذا جنّ عليه الليل حمل على ظهره الطعام، وهو إمام من أئمة المسلمين، وديوان من دواوين العلم والعمل، فكان ينطلق إلى بيوت الضعفاء والفقراء والأيتام والأرامل وهم في جوف الليل، فيقرع عليهم أبوابهم، ثم يعطيهم هذا الطعام، ثم لم يعلم أحد أنه زين العابدين الطيب بن الطيب رضي الله عنه ورحمه برحمته الواسعة وأباه وجده، وهذه سلالة طيبة من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم الطيبون الطاهرون. فما علم أنه زين العابدين إلا لما توفي، ففقد ستون بيتاً من ضعفاء المسلمين ذلك الرجل الذي يطرق عليهم في جوف الليل أبوابهم، وكان رضي الله عنه يحمل الطعام على ظهره وعنده من العبيد والخدم ما لا يحصى، ولو شاء أن يأمرهم لحملوا، ولما أرادوا أن يغسلوه كشفوا عن ظهره فوجدوه متأثراً من الأكياس التي كان يحملها رحمه الله برحمته الواسعة. فالذي يشتري رحمة الله عز وجل هو الرابح، الصدقة هي الربح والتجارة مع الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] من هو السعيد الموفق الذي يضع في دواوين الآخرة صدقاته صادقات من قلبه المؤمن الموقن بربه جل وعلا؟! وأعظم ما تكون الصدقة أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى، أتخاف أن تأتيك هموم المستقبل؟ لا تبالغ، الإسلام وسط، لكن في بعض الأحيان يبالغ الإنسان في تقدير الأمور، حتى إنه يحجم عن الصدقات، فإذا كان الإنسان صحيحاً شحيحاً يخاف الفقر ويأمل الغنى، وتزينت له الدنيا بزينتها، ثم جاءه نداء الله جل وعلا، وتذكر ما عند الله فرفض الدنيا ووضعها تحت قدميه؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. ووالله ثم والله |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (452) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [2] للرجعة أحكام كثيرة تتعلق بها، ينبغي على كل مسلم أن يتفقه فيها، لأنه يعيش في مجتمع لا يخلو من الحاجة إلى هذه الأحكام. فمن ذلك معرفة حكم الإشهاد على الرجعة، وحكم المعتدة في حال عدتها وحقوقها على زوجها. ومن الأحكام المهمة أن يعرف المسلم متى تنتهي عدة المرأة، وما يترتب على ذلك، وهل يصح أن يكون الوطء للمعتدة رجعة، وإذا خرجت الرجعية من العدة وتزوجت بآخر ثم عادت، فهل النكاح الثاني يهدم الأول. وهذه مسائل وغيرها كثير فصلت أحكامها بدلائلها في هذه المادة. حكم الإشهاد على الرجعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم أن رجعة الزوجة تكون بالقول والفعل، وبيّنا أن اللفظ الذي يتلفظ به الزوج لكي يرتجع زوجته إما أن يكون صريحاً كقوله: راجعت زوجتي، أو يكون مختلفاً في كونه صريحاً ملحقاً بالصريح عند بعض العلماء كقوله: رددت زوجتي، أو أمسكت زوجتي. فاللفظ الصريح المتفق عليه: راجعت، وارتجعت، وأما بالنسبة لـ (رددت وأمسكت) ففيهما الوجهان عن العلماء رحمهم الله. وبيّن المصنف رحمه الله أن الرجعة تكون بما دل عليها في القول سواء كان صريحاً أو كناية، إلا أن الكناية كقول الرجل: أنت مني كحالك من قبل، يحتمل الأمرين: يحتمل: كحالك من قبل الطلاق فأنت زوجة لي الآن، وأرجعتك من طلاقي. ويحتمل أن يكون مراده أن الحال باق كما هو، أي: لا زلت أكرهك ولا زلت مطلقة مني، فأصبح متردداً بين الأمرين فلا بد من نية تميز. وقد تقدم معنا قول العلماء: إن الأمور بمقاصدها، والنيات تميز الأشياء المحتملة، فلما كان اللفظ محتملاً ميزته النية في الكنايات. وقوله رحمه الله: [لا نكحتها] فالنكاح لا علاقة له بالرجعة، ومن هنا لا يدل على الارتجاع لا صراحة ولا كناية، فلو قال: نكحتك. فإن هذا لا يدل على الرجعة؛ لأن إنشاء العقود ليس كاستدامتها، فالرجعة استدامة للنكاح، والنكاح ابتداء للعقد من جديد، وحينئذٍ فرق بين الاستدامة وبين الابتداء، فلا يعتبر قوله: (نكحتك) ارتجاعاً لزوجته. فقوله: [بلفظ: راجعت امرأتي ونحوه، لا نكحتها ونحوه] . قد تقدم أن لفظ النكاح لا يدل على الرجعة صراحة ولا ضمناً. ثم قال رحمه الله: [ويسن الإشهاد] . تقدم أن الإشهاد على الرجعة فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله: فمنهم من قال: الإشهاد على الرجعة سنة، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله. ومنهم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب، وانقسم أصحاب هذا القول إلى طائفتين: منهم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب لا تصح الرجعة إلا به، فجعله شرطاً في صحة الرجعة، فلو أنه ارتجع زوجته ولم يشهد لم تصح رجعته. مثال ذلك: لو أن رجلاً قال: راجعت زوجتي، ثم توفي، ولم يكن هناك من شهد أو لم يكن هناك شهود ولم يستشهد على رجعته، فعلى القول باشتراط الإشهاد فإن الرجعة لا تثبت، وتصبح لو خرجت من عدتها أجنبية إذا لم يقع الإشهاد قبل خروجها من العدة، فلو كان خروجها من العدة بمغيب شمس يوم الأحد وقال: راجعت زوجتي قبل أن تغيب الشمس بلحظة، ثم توفي بعد مغيب الشمس قبل أن يشهد، فإنها تكون قد خرجت من عدتها قبل وفاته، فتصبح أجنبية لا ترثه في هذه الحالة، ولا يرثها أيضاً لو توفيت هي؛ لأنه لم يقع إشهاد على الرجعة قبل الخروج من العدة. إذاً لا بد من الإشهاد على الرجعة عند الظاهرية، ويرون أنه شرط في صحة الرجعة. ومن أهل العلم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب ولكنه ليس شرطاً في صحتها، فإنه لو أشهد صحت رجعته، وإذا لم يشهد فإننا نحكم بأنه آثم ورجعته صحيحة، ولكن يعتبر آثماً إذا تيسر له الإشهاد ولم يشهد. واستدلوا بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] ووجه الدلالة: أن الله أمر بالإشهاد على الرجعة، والأمر للوجوب، ولا دليل يدل على صرف هذا الأمر عن ظاهره. ودليل جمهور العلماء على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] فجاء بالأوامر في سياق واحد، ومن المعلوم أن الإمساك في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] لي واجباً بالإجماع، ليس واجباً، فليس بواجب أن تمسك الزوجة إذا طلقتها، وليس بواجب على من طلق زوجه رجعية أن يمسك؛ لأن له أن يتركها حتى تخرج من عدتها وتصبح أجنبية. وقوله: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] ليس بواجب أن يتركها حتى تخرج من عدتها، وإنما الأمر للتخيير، أي: إن شئت فأمسك، فإن أمسكت فبمعروف، وإن شئت ففارق فإن فارقت فبمعروف، ثم أشهد على ذلك، فكما أن الأوامر الأولى للاستحباب، فكذلك أمره بالإشهاد يكون للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب. ثم الدليل الثاني على عدم وجوب الرجعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر حينما أخبره أن ابنه عبد الله رضي الله عنه طلق امرأته في الحيض: (مره فليراجعها) ولم يأمره بإشهاد على الرجعة، فدل على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب. ثم إن الأصل عدم الوجوب حتى يدل الدليل على الوجوب صراحة، والدليل هنا محتمل. ولأن المقصود عودة المرأة إلى عصمة الزوج، وهذا لا يفتقر إلى الإشهاد لأنه ليس بمؤثر في هذه العودة، فأصبح ليس بواجب وإنما هو مستحب. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الإشهاد مستحب، لكن الخلاف في أنه لازم أو ليس بلازم، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأن الأحاديث التي ذكرت تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب، خاصة وأن الصحابة نصوا على أن الإشهاد ليس بواجب، ولذلك لما سئل عمران بن حصين رضي الله عنهما: عن رجل طلق امرأته ثم راجعها ولم يشهد؟ فقال رضي الله عنه: (راجعتها بغير السنة) . يعني: أنه كان ينبغي عليك أن تتحرى السنة، ولم يقل له: عليك إثم أو عليك حرج، فدل على أن الأمر ليس للوجوب، ثم حكم بصحة النكاح والرجعة، فلو كان الإشهاد شرطاً في صحة الرجعة لقال له: إنها ليست بزوجة، ويجب عليك أن تعيد الرجعة مرة ثانية وتشهد، ولكنه صحح رجعته، فدل على أن الإشهاد ليس بشرط في صحة الرجعة، وليس بلازم. المعتدة في طلاق رجعي لها حكم الزوجة إلا في القسم [وهي زوجة لها وعليها حكم الزوجات، لكن لا قسم لها] . من طلق زوجته طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية، وكان طلاقه بالطلقة الأولى والثانية بعد دخوله بها كما تقدم فإن هذه المرأة تعتد، وخلال العدة تصبح امرأة رجعية من حقه أن يراجعها في أي وقت ما دام أنها لم تخرج من عدتها كما قدمنا، لكن السؤال هل هذه المرأة الرجعية أجنبية، أو ما زالت في حكم الزوجة؟ وجهان للعلماء رحمهم الله: منهم من قال: إنها أجنبية، كما اختاره بعض العلماء، ومنهم الشافعية. ومنهم من قال: إنها في حكم الزوجة، كما اختاره المصنف رحمه الله وهو مذهب الحنابلة، أي: أنها زوجة لها ما للزوجات وعليها ما على الزوجات إلا ما استثني، وبناءً على ذلك: يجوز له أن يختلي بها، وأن يلمسها، ويجوز أن يسافر بها وهو محرم لها؛ لأنها في حكم زوجاته. كذلك يتفرع على هذه المسألة أنه لو قال لها وهي في أثناء عدتها من الطلقة الأولى: طلقتك، أو أنت طالق، فأردف الطلقة الثانية على الأولى وقع الطلاق؛ لأنها زوجته، وليست بأجنبية. وعلى كل حال يعتبر الحكم أنها زوجة من هذا الوجه. ويترتب على هذا أيضاً حقوق، فلو أنه توفي عنها وهي في أثناء العدة ووقعت الوفاة قبل خروجها من العدة ولو بلحظة، ولو بثانية واحدة، أو هي توفيت؛ فإنها ترثه ويرثها إجماعاً. فلو طلقها طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية بعد الدخول، ثم اعتدت، وقبل خروجها من عدتها بلحظة توفيت ورثها، وإن توفي هو ورثته، فإذاً معنى ذلك: أنه لا زالت هناك علاقة الزوجية، فقال رحمه الله: [وهي زوجة] والدليل على ذلك، عدة أدلة: أولاً: من أقوى الأدلة أن الله عز وجل قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:228] هذا الحكم، {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] يعني: أزواجهن الذين طلقوهن ووقع الطلاق منهم، أحق بارتجاع هؤلاء الزوجات المطلقات، وقوله: {فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] يعني: أثناء الثلاثة قروء، لأن صدر الآية يقول: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فقال الله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] يعني في مدة العدة. ثم قال: (بُعُولَتُهُنَّ) يعني: أزواجهن، فوصف المطلق بكونه زوجاً للمطلقة، فدل على أنها ليست بأجنبية، ولو كانت أجنبية لما صح أن يقال إنه بعل لها؛ لأن البعل هو الزوج. كذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة على أن المطلقة طلاقاً رجعياً تعتبر في حكم الزوجة: أن الله قال: (فَإمْسَاكٌ) ، فلو كانت المطلقة طلاقاً رجعياً أجنبية لم يقل: (فإمساك) ؛ لأن الإمساك استدامة لما قبل، فمعناه: أن النكاح لا زال باقياً، فدل على أنه يريد رد الأمر على ما كان عليه بإثبات الرجعة، فلو كانت أجنبية لما عبر بالإمساك ولعبر بلفظ ثان يقتضي الابتداء. ولأن الإمساك يدل على الاستدامة لا على الإنشاء؛ فتقول: أمسك؛ لأن الشيء في يدك، ولا تقول: أمسك لشيء ليس بيدك، فدل على أن قوله: (فإمساك بمعروف) أي: أنه لا زال بيده شيء، والله عز وجل يكني، فكنى عن كون النكاح لعصمة النساء وفي يد الرجل فقال: {فَإمْسَاكٌ} [البقرة:229] فدل على أن المطلقة لا زالت تحت سلطان زوجها، وأنها في عصمته. وبمعنى آية البقرة: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229] آية سورة الطلاق في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] فدل على أن النكاح لا زال مستمراً، وأن المطلقة طلاقاً رجعياً لا تزال في حكم الزوجة، وبناءً على ذلك ترثه ويرثها. ومما يدل على أنها في حكم الزوجة أمر الله بالنفقة على المطلقات: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فألزم المطلق فقال: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] فأمر أن تبقى المطلقة طلاقاً رجعياً في بيت الزوجية، وهذا يدل على أنها لا زالت زوجته؛ ولأن هذا حق من حقوق النفقة، والنفقة لا تكون إلا استتباعاً لعقد النكاح، فدلت هذه الأمور كلها على أن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة وليست بأجنبية. وقوله: [لها وعليها حكم الزوجات] . أي: فيجوز له أن ينظر إليها وأن تنظر إليه ولو بشهوة، ويجوز له أن يلمسها وأن تلمسه، ويجوز أن يختلي بها وتختلي به، ويسافر معها وهو محرمها، كما ذكرنا. المعتدة لا قسم لها في المبيت وقوله: [لكن لا قسم لها] . أي: لو كان عنده أربع نسوة فطلق واحدة منهن طلاقاً رجعياً فبقيت في عدتها، فإنه يجعل قسمه بين زوجاته على ثلاث ليال، فتسقط ليلة الرابعة مع أنها في العدة، فهي زوجة من وجه وليست بزوجة من وجه آخر، لكنها ليست بأجنبية. حصول الرجعة بالوطء أي: لو أنه وطئ الزوجة الرجعية فإن هذا الوطء يعتبر مراجعة، وقلنا: قد تكون الرجعة بالقول وتكون بالفعل، فالرجعة بالفعل كالجماع، فلو أن رجلاً طلق امرأته الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية بعد الدخول، ثم بعد ذلك مكثت الحيضة الأولى وطهرت، والحيضة الثانية وطهرت، ثم أراد أن يجامعها فجامعها، فالجماع من أقوى الأدلة على الرغبة في الإنسان، والله يقول: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] ، {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] والفعل يدل على الإمساك كما يدل عليه القول؛ لأنه ليس معقولاً أن يطأ امرأة أجنبية، فلما حصل الوطء دل على رغبته فيها، وحبه لها ولعودها زوجة له كما كانت؛ لأن الرجل لا يحل له أن يطأ الأجنبية، وبناءً على ذلك يكون وطؤه لها رجعة، فتقع الرجعة بالفعل وهو الوطء كما تقع بالقول. واختلف العلماء في ذلك: فمن أهل العلم من قال: الوطء دليل على الارتجاع، سواء نوى أو لم ينو، فلو أنه جامع زوجته وهي في عدتها حكمنا برجوعها له على ما اختاره المصنف وهو مذهب الحنابلة؛ سواء نوى أو لم ينو. ومن أهل العلم من قال: إذا جامعها وهو لا ينوي ارتجاعها فإنه في هذه الحالة لا يعتبر مراجعاً لزوجته؛ لأنه يشترط أن ينوي. وبالمناسبة: أن المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً تبقى في بيت الزوجية كما ذكرنا، وهذا البقاء يحرك الزوج إلى إعادتها، ولذلك قال الله عز وجل يشير إلى هذه الحكمة العظيمة: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] ولا يريد الله بعباده إلا كل خير، ولا يريد إلا ما يعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم وآخرتهم، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] . فإذا كان أهل الزوجة وأم الزوجة وأبو الزوجة كل منهم يتمنى، وأبناء الزوجين يتمنون أن تعود هذه الزوجة ويحبون عودتها، فإن الله أرحم بخلقه من هؤلاء بأنفسهم؛ لأنه يحب سبحانه لهم الخير، لأنه يعلم أن الشيطان دخل بين هذه الزوجة وزوجها حتى طلقها كما في الحديث الصحيح: أن الشيطان من الشياطين لا يدنو ولا تعلو منزلته عند الشيطان الأكبر إلا إذا فرق بين الزوج وزوجته؛ لأنه من أعظم ما يكون، فمن حكمة الله عز وجل أن جعل المرأة تعتد في بيت الزوجية، فإذا اعتدت هناك فإنها تتحرك النفوس بالذكريات، ويحس بقيمتها وتحس هي بقيمته فيتحرك كل منهما للآخر، فإذا كان الخطأ شنيعاً وقف صاحب الحق لكي يؤدب الطرف الثاني، وذل المخطئ لمن أخطأ عليه، حتى التحاكم فيما بينهما يكون في مكان واحد ولا يدخل بينهما أجنبي؛ لكن إذا رجعت إلى بيت أبيها أفسدت على زوجها، وأفسد الزوج على زوجته، ودخل الأجنبي فساءت الأمور أكثر كما ذكرنا. لكن عندما تكون المرأة في بيته فإنه إذا كان يراها معتدة في بيته ولا يمكن أن يخرجها، وليس من حقه أن يخرجها، وفي المساء والصباح يصبح ويمسي ويراها أمامه، فهذا يحركه: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] فيحرّكه إلى أن يرتجعها، فلا يملك بحكم المحبة إلا أن يشتاق إليها ويجامعها. فإذا كان شوقه إليها بقصد الرجعة فلا إشكال، وأما إذا جامعها دون أن يقصد ارتجاعها فحينئذٍ عند من يرى أن المطلقة طلاقاً رجعياً أجنبية يرد السؤال هل يعتبر زانياً؟ وهل يقام عليه الحد؟ لأنه ما قصد بها الوطء الشرعي. قال جماهير العلماء: إنه لا يوجب الحد، لكن من أهل العلم من قال: إذا لم يقصد رجعتها -على القول بأنه وطئ بدون نية- فإنه لا يوجب الرجوع، وعلى هذا القول يقولون: يجب تعزيره، وحينئذٍ يعزره القاضي ويؤدبه إذا أقر على نفسه أنه جامعها ولكنه لم ينو بجماعها الرجعة. فبيّن رحمه الله أن الرجعة تكون بالقول والفعل، فإذا جامعها ناوياً ارتجاعها وقعت الرجعة. وأكمل ما تكون الرجعة أن يقول: ارتجعت زوجتي، ويشهد شاهدين على ارتجاعه، ثم يجامعها بنية الارتجاع، فحينئذٍ اجتمعت النية واجتمع القول والفعل، وأما القول مع النية فلا إشكال، كأن يقول: راجعت زوجتي ناوياً عودتها إلى عصمتي. وأما نية وفعل فأن يجامع زوجته قاصداً ارتجاعها؛ فهذه كلها من صور ارتجاع الزوج لزوجته. تعليق الرجعة بشرط قال رحمه الله: [ولا تصح معلقة بشرط] . أي: ولا تصح الرجعة معلقة بشرط، كأن يقول: راجعتك إذا طلعت الشمس، أو إذا جاء غداً، أو إذا انتهى الشهر فقد راجعتك، أو إذا طهرت من الحيضة الأولى فقد راجعتك، فهذا تعليق لا يصح. ومن التعليق أن يقول لها: راجعتك إن شئت، يعني: إن كنت تريدين الرجوع إليّ فقد راجعتك، فقالت: قد شئت، فليست رجعة؛ لأن الرجعة لا تصح بالتعليق، بل لا بد وأن يبتها وينجزها ويقول: راجعتك. فإذا قال لها: راجعتك أن شئت، صحت الرجعة، لأنها هنا بمثابة التعليل، أي: لأنك شئت فقد راجعتك، لكن لو قال لها: راجعتك إن شئت، لم يصح، فهناك فرق بين الكسر والفتح، فإن قال: راجعتك إن شِئت، فهذا تعليق لرجعتها على وجود المشيئة، أو قال لها: راجعتك إن شاء أبوك، أو راجعتك إن رضي أبوك، أو رضيت أمك، فهذا لا يصح، فينبغي أن يجدد الرجعة ويقول: راجعتك، أو يفعل فعلاً دالاً على ارتجاعه لها على التفصيل الذي تقدم. مسألة إذا طهرت المعتدة الطهر الثالث ولم تغتسل قال رحمه الله: [فإذا طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فله رجعتها] . أي: لأن العدة ثلاثة أطهار، فإذا طهرت في الحيضة الثالثة فبعض العلماء يقول: لا بد أن تغتسل، حتى يحكم بانتهاء عدتها. وبعض أهل العلم يقول: إن مجرد طهرها يوجب انتهاء عدتها وإن لم تغتسل. فمنهم: من اشترط الاغتسال، ومنهم: من قال بعدم اشتراطه، وفائدة الخلاف: أولاً: عندنا امرأة طلقها زوجها الطلقة الأولى فاعتدت، فلما كانت في الحيضة الأخيرة قبل غروب الشمس بنصف ساعة رأت علامة الطهر، لكنها أخرت الغسل من الحيض إلى ما بعد غروب الشمس، فإذا قلت: المرأة تخرج من عدتها بمجرد انقطاع الدم ورؤية علامة الطهر، فإنها تكون قد حلّت للأزواج قبل غروب الشمس بنصف ساعة، فلو نكحت وعقد عليها بعد ذلك مباشرة صح العقد، وصارت أجنبية من الأول وزوجة للثاني؛ لأنه قد حصل تمام العدة وخرجت منها وأصبحت أجنبية على هذا القول، ولو أنه حصلت الوفاة من زوجها بعد طهرها مباشرة ورؤيتها للدم وقبل أن تغتسل، فحينئذٍ تكون قد خرجت من عدتها فلا ترثه ولا يرثها، وهي أجنبية وهو أجنبي. فحكم بخروجها من العدة وانتهاء الرجعة بمجرد رؤية الطهر. وعلى هذا: لا يشترط الغسل عند أصحاب هذا القول، كما اختاره جمع من العلماء رحمهم الله. ومن أهل العلم من قال: إنها إذا طهرت من حيضتها ورأت علامة الطهر من حيضتها الأخيرة ولم تغتسل، فلا تزال في العدة حتى تغتسل، ولو أخرّت الغسل سنوات فإنها لا تزال في عدتها من زوجها الأول. وبناءً على هذا القول: لا تزال رجعية، فلو وقع مراجعة من زوجها الأول قبل أن تغتسل حلّت له، ولو توفي ورثته، ولو توفيت ورثها، وهذا القول مأثور عن أبي بكر وعمر وعلي، وطائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ معاذ وأبي هريرة رضي الله عن الجميع، فهم يقولون: إنها لا تخرج من العدة إلا بالاغتسال، ورأوا أن طهارتها تابعة لدمها. والأول أقوى من حيث الأصول، والثاني أشبه بالقوة على مذهب من يرى أن قول الصحابي حجة؛ ولكن الأول أقوى من حيث الأصول، فإن مجرد طهرها يدل على خروجها من عدتها؛ لأن الله يقول: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وقد طهرت حقيقة فيحكم بطهرها؛ لأن الشرع علق على الطهر وقد حصلت هذه الصفة، فلا داعي لاشتراط الغسل إلا للعبادات التي تشترط لها الطهارة، أما هذا فهو خارج عن العبادة، فالرجعة ليس لها علاقة بالعبادة، فهي ليست مصلية، ولا طائفة بالبيت، ولا داخلة للمسجد، ولا تالية للقرآن حتى نشترط طهارتها. الطهارة والغسل يشترط فيها شيء نص الشرع على اشتراطه، وأما ما رتب الشرع وقوع الرجعة عليه، فحده ما لم تطهر، وقد طهرت، فتكون قد خرجت من عدتها بذلك الطهر. حكم المرأة إذا انتهت عدتها ولم تراجع قال رحمه الله: [وإن فرغت عدتها قبل رجعته بانت وحرمت قبل عقد جديد] . البينونة تنقسم إلى قسمين، وهي مأخوذة من: بان الشيء، إذا وضح وظهر. ويقال: بان فلان من فلان، إذا فارقه، والبين هو الفراق. آذنتنا ببينها أسماء رب ثاوٍ ملَّه الثواء أي: آذنتنا بفراقها، فالبين هو الفراق، ولذلك يقال: غراب البين، أي الفراق، فالبين في لغة العرب يطلق بمعنى الفراق. بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي فهذا قول أبي الدحداح الصحابي رضي الله عنه يخاطب زوجته لما تصدق بحائطه فقال لها: (بيني) ، أي: اخرجي من الحائط وفارقيه، والحائط: البستان، يعني: اخرجي وفارقي البستان، ويقال: بان إذا فارق. فالبينونة هي: أن يبين الرجل من امرأته وتبين امرأته منه: فإما أن تبين بينونة كبرى كأن يطلقها ثلاث تطليقات، وحينئذٍ لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، على نص آية البقرة. وإما أن تبين منه بينونة صغرى، والبينونة الصغرى هي التي لا تحل بها المرأة إلا بعقد جديد، إذا عقد عليها عقداً جديداً حلت له، وأما قبل العقد فلا تحل له، وهذا النوع من البينونة يقع إذا طلقها طلقة واحدة قبل أن يدخل بها، فإذا طلقها طلقة واحدة قبل الدخول فإنها بائنة منه، ولو طلقها طلقتين قبل الدخول بانت منه، بمعنى: أنها بمجرد طلاقه لها تحل لغيره، ويجوز لغيره أن ينكحها. وأما البينونة الصغرى بعد الدخول فتقع بالخروج من العدة، وتقع أيضاً بطلاق الصلح، وطلاق القاضي، والتفريق للعيوب إلى غير ذلك مما فيه تفصيل سبق بيان بعض مسائله. فلو طلق زوجته طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية وتركها حتى خرجت من عدتها، فإنها بمجرد خروجها من العدة لا تحل له إلا بعقد جديد، فلما كانت لا تحل له إلا بشرط أن يوجد عقد جديد علمنا أنها بائنة، ففيها شبه من المطلقة ثلاثاً، وفيها شبه من الرجعية؛ لأنه يحق له أن يتزوجها، ولكن يشترط في زواجه بها عقد جديد لأنها أصبحت كالمرأة الأجنبية. فأشبهت المطلقة ثلاثاً في أنها لا تحل إلا بعقد جديد، فحينئذٍ قالوا: بينونة صغرى. وأصل البين الفراق، فكل امرأة لا يحل لزوجها أن يرتجعها تعتبر بائناً، ثم تنقسم إلى بائن بينونة صغرى، وهي المرأة التي لا تحل لزوجها إلا بعقد ومهر جديد، وبائن بينونة كبرى، وهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره ويدخل بها ويحصل الوطء. هذا بالنسبة لقوله: (بانت منه) ، والبائن بينونة صغرى إذا كانت أثناء العدة فإن من حقه أن يردها ولو لم ترض ولو لم يأذن وليها، فلو قالت: لا أريد أن أرجع، فإنها تجبر ولو كرهت كما ذكر المصنف؛ لأن الله يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] فأعطى الحق للزوج أن يرتجع الزوجة ما دامت في عصمته وفي مدة العدة، فإذا خرجت من العدة صارت أجنبية فلا تحل له إلا بعقد ومهر جديدين كأنها أجنبية. مسألة: هل النكاح الثاني يهدم النكاح الأول؟ قال رحمه الله: [ومن طلق دون ما يملك] . أي: الذي يملك ثلاث تطليقات إذا طلق الطلقة الأولى أو الطلقة الأولى والثانية فبقيت الثالثة، وإن شئت قلت: من طلق فبقي له طلاق، فهذا (دون ما يملك) أو بقي له طلاق واحد. فمن طلق دون ما يملك وخرجت المرأة من عدتها، ثم تزوجها زوج غيره وطلقها وأرادت أن ترجع للأول، فهل ترجع بثلاث تطليقات جديدة، أو يبني على ما سبق؟ وهذه مسألة: هل النكاح الثاني يهدم النكاح الأول أو لا يهدم؟ فمن أهل العلم من قال: لو تزوجت المرأة مائة زوج وعادت لزوجها الأول رجعت بالعدد الأول، فلو طلقها قبله طلقة واحدة ورجعت إليه بقيت له طلقتان، سواء دخلوا بها أو لم يدخلوا بها، وسواء حملت أو لم تحمل وأنجبت أو لم تنجب، المهم أنه لا زالت هناك علاقة في الطلاق الأول؛ لأن الله يقول: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] وهذا لم يطلقها الطلقة الثانية، فبقي على الترتيب الأول بنص الآية الكريمة، وهذا مذهب جمهور العلماء وأئمة السلف رحمهم الله. وهو قول أئمة الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فكلهم يقولون: إن النكاح لا يهدم، بل يبقى على الطلاق الأول. وقال بعض السلف كـ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: إنه إذا نكحها زوج ثان رجعت بثلاث تطليقات من زوجها الأول إن طلقها الثانية، ويرون أن النكاح الثاني يهدم النكاح الأول. والصحيح: مذهب الجمهور، لظاهر القرآن. والمخالفون لهم قاسوه وألحقوه بمن طلق ثلاثاً فنكحت زوجاً غيره، فإنه بالإجماع لو طلقها ثلاثاً وتزوجها زوج غيره ودخل بها فإنه يعود لها بثلاث تطليقات، فهم يقيسون من طلق الطلقة الأولى وتزوجت من بعده ثم طلقها الثاني وتزوجها الأول؛ يقيسون على من طلق ثلاثاً ونكحها زوج غيره. والصحيح: أنه يعود بالعدد الأول قلّ الأزواج أو كثروا، دخلوا أو لم يدخلوا، فالنكاح الثاني لا يهدم النكاح الأول. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة المطلقة الرجعية لها حق السكنى والنفقة السؤال فضيلة الشيخ! قول المصنف: [لكن لا قسم لها] هل في المبيت فقط، أم يدخل فيه النفقة، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمراده القسم، وأما مسألة النفقة فالمطلقة الرجعية لها حقها في السكنى والقيام عليها، وإن كانت من أولات الحمل فإنه ينفق عليها حتى تضع حملها على التفصيل الذي تقدمت الإشارة إليه في الدروس الماضية في النفقات وحقوق الزوجات. والله أعلم. دور العلماء والخطباء في مواجهة أعداء الإسلام السؤال تعلمون حفظكم الله أن هذه البلاد تتعرض في هذه الآونة الأخيرة إلى أذية وتشويش من أعداء الإسلام باسم حقوق الإنسان، فما هو دور الدعاة والخطباء وطلاب العلم، ودورنا في مواجهة هذا الحقد والدفاع عن هذا البلد المبارك وولاة أمره حفظهم الله، الذين نذروا أنفسهم لتطبيق الشريعة والالتزام بحدود الله، حتى أصبحوا محل تقدير العلم، وفقكم الله لكل خير؟ الجواب هذا السؤال سؤال مهم، وشكر الله للسائل عنايته بهذا الأمر. وقد بلغنا وسمعنا جميعاً ما يثير أعداء الإسلام ضد هذه البلاد بناءً على تطبيقها للشريعة الإسلامية، وهذا أمر لا ينبغي السكوت عنه، ولا ينبغي أن يمر على الدعاة والعلماء والأئمة والخطباء وطلاب العلم دون أن تكون هناك وقفة ترضي الله عز وجل. فهذه البلاد أنعم الله عز وجل عليها بتحكيم الشريعة الإسلامية، وأنعم الله سبحانه وتعالى على ولاة أمرها، فنسأل الله أن يثبتهم على الحق وأن يعينهم عليه وأن يكبت أعداءهم وأن يصرف عنهم سوءهم، ولا شك أنهم محسودون على هذه النعمة. حسد أعداء الإسلام هذا الخير الذي تعيشه هذه الأمة، وهذا الأمن وهذه الرحمة التي عاشت فيها الأمة بخير عظيم من الله سبحانه وتعالى، فأصبحوا يشوشون ويرجفون ويكيدون باسم حقوق الإنسان، ووالله إنه لحقد دفين على هذه الأمة، وهذا التدخل السافر لا يمكن أن يقبله أي إنسان منصف في شئون المسلمين؛ إلى درجة أن يدخلوا بيننا وبين شرع الله عز وجل الذي رضينا به سبحانه رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؛ فيريدون أن يدخلوا بيننا وبين الله جل وعلا. أصبح أعداء الإسلام في منتهى الوقاحة والسفور، إلى درجة أن يدخلوا بين المسلمين وبين شريعة ربهم، ولا شك أن هذا الحقد وهذه الأذية والكيد السافر للإسلام والمسلمين ينبغي للأئمة والدعاة والخطباء أن لا يسكتوا عنه. ينبغي التعامل مع هذه الأذية؛ لأنه بلغنا أن الأعداء يقولون: لن نسكت، ويقولون: إننا سنثير هذه المسألة المرة بعد المرة، والقضية ليست قضية حقوق إنسان، القضية كيد لهذا الدين، وكيد لهذه الأمة المسلمة، ونوع من الإرجاف والإضعاف لهذه القوة التي خاف منها أعداء الإسلام. من هذه النعمة العظيمة أن مئات الألوف والملايين يعيشون على هذه الأرض، ولا يمكن لأحد أن يحيد عن صراط الله عز وجل فيسرق إلا قطعت يده، ولا يزني إلا أقيم عليه حده، ولا يفعل أي حد من حدود الله إلا أقيم عليه شرع الله عز وجل، فكبت أعداء الله عز وجل، وحيل بين الناس وبين حدود الله عز وجل، هال الأعداء هذا الخير وهذه الطمأنينة وهذا الأمن، وهم لا يريدون هذا. فليس هناك حقوق للإنسان يبحثون عنها، هؤلاء يريدون أن يفرقوا بين الناس وبين دينهم، وبين المسلمين وإسلامهم. فإذاً: لا بد من وقفة خاصة من أهل العلم، ومن المنتسبين لهذه الدعوة ولهذا الدين، وأن يكون عندهم وقفة صادقة تدعو الناس إلى الترابط وإلى القناعة التامة بهذا الدين؛ لأن أعداء الإسلام أخوف ما يخافون من هذه الأمة أن تماسك جبهتها الداخلية، ولا يفكرون في شيء مثل زعزعة الناس والدخول بينهم واختراق صفوفهم، فينبغي على الأئمة والخطباء من وجهة نظري إذا شوش أعداء الإسلام في حقوق الإنسان وتطبيق الشريعة والحدود؛ أن يعتنوا بالخطب الهادفة المركزة التي تبين الحدود خطبة بعد خطبة، خطبة عن حد القصاص وآثاره الحميدة على النفوس، وما يثمر من الأمن للناس في أرواحهم وأنفسهم، وخطبة عن حد السرقة، وما ذكر العلماء والأئمة فيها، وخطبة عن حد الزنا، وخطبة عن حد الحرابة، وعن الثمرات التي تجنيها الأمة الإسلامية من تطبيق شرع الله عز وجل، من رضا الله سبحانه وتعالى، وحلول الخيرات، ودفع النقم والبلاء عن المؤمنين والمؤمنات. هذه الخطب يعتني فيها الخطيب الموفق بالرجوع إلى كتاب الله وكلام أئمة التفسير حول الحكم والأسرار المبنية على الحدود، فيبين للناس الحدود حداً حداً، حتى يصبح الناس في وعي كامل وقناعة تامة بهذه الشريعة، لا نريد قناعة مبنية على العواطف، المسألة اليوم أصبحت مسألة مواجهة، لا بد للأئمة والعلماء وطلاب العلم والحاضرين أن يقوموا بدورهم، وعلى مراكز الدعوة أن تنشئ المحاضرات التي تثقف الناس وتبين لهم أمر دينهم، فلا بد أن يكون عند الناس قناعة مبنية على أساس صحيح. أولاً: الناس على فطرتهم، مؤمنون بشرع الله، فلو أتيت إلى رجل في برية أو بادية تسأله عن شرع الله لم يقبل النقاش؛ لأن القضية عنده مسلمة وسيقول لك: الله أمر انتهى، ولا يبحث عن الحكمة ولا يسأل عنها، يقول: الخير كله في أمر الله. لكن اليوم غزت الفضائيات العقول، وأتت بالسموم، ولبّس الحق في الباطل، فلا بد من وعي، وهناك شباب بريء وأطفال صغار يسمعون، وتحاك لهم المؤامرات من التشويش عليهم لنزع ثقتهم من أمتهم ودينهم وشريعتهم، هناك تشكيك في هذه الأمور، وطعن للأمة من داخلها حتى تنشأ أفراد تتأثر بهذه الأفكار لأن أعداء الإسلام دائماً يرمون ويخططون إلى الغد لا إلى اليوم. ولذلك لا بد أن نواجه هذا السيل الجارف، والحقد الدفين، والإفك المبين بقوة تردعه، ولا يردعه مثل سلطان الحق، ولا تردعه مثل الكلمة الصادقة المبنية على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يقولها الموفق المسدد. فلا بد للأئمة أن يعتنوا بهذا، وأن يتواصى طلاب العلم فيما بينهم ببيان حكم الشريعة، والتحدث عن مثل هذه الحدود وآثارها الإيجابية وعواقبها الحميدة، وأن نتواصى بالحق؛ لأنه لا يسعنا السكوت؛ ولأن إغاظة الكافر مطلوبة، وأعداء الإسلام إذا وصلوا إلى درجة أن يأتونا في عقر دارنا لكي ينظروا إلى حقوق الإنسان؛ فماذا بقي بعد ذلك، قبحهم الله؟! ألا شاهت وجوههم! فلينظروا إلى دولهم وما فيها من سفك الدماء البريئة، وانتهاك الأعراض، وبيع النساء كالسلع في الحانات والخمارات، ما بحثوا عن هذا ولا فكروا فيه، إنما فكروا في البلاد الآمنة المطمئنة، وفكروا في البلاد المسلمة المسددة الموفقة التي أصبحت مضرب المثل، فالشمس لا يمكن لأحد أن ينكر ضوءها، هذه حقيقة وشيء يشكر؛ لأن من الإنصاف والحق أن يقال للمصيب: أصبت، وأن يقال للمبطل: أبطلت، فهؤلاء يكيدون. هؤلاء لا يريدون الخير الذي نعيشه وتعيشه الأمة، وقد هالهم ما يرون، حتى إن مواسم الحج التي يأتي فيها الملايين هالهم هذا الأمن من أمم مختلفة الأجناس والأعراف والدول، كلها تأتي لتطبيق دين الله وشريعته. فيأتون يشككون باسم حقوق الإنسان، أي حقوق للإنسان التي يهتفون بها؟! دماء تسفك! وأعراض تنتهك في مشارق الأرض ومغاربها وما حركوا لها ساكناً، نساء ترمل! أطفال تيتم وما حركوا لها ساكناً، كل هذا لا يبحثون عنه، فالدعوة ليست دعوى حقوق إنسان، وهذا هو الذي يغيظ، وهذا الذي ينبغي أن تنطلق منه حمية الدين لا حمية الجاهلية، أن تكون عندنا غيرة على هذه الأمة وعلى هذه البلاد وعلى هذا الأمن، وعلى هذا الخير الذي نرفل فيه؛ لأن هذه حقيقة لا يمكن أن ننكرها، ومن كفر نعمة الله بدل الله عز وجل عليه نعمه، نسأل الله أن لا يبدل علينا نعمه. فالواجب علينا عدم السكوت على هذا، والواجب علينا أن نتواصى، وأن نقول الكلمة المهمة ولا نجيب بعاطفة ولا بخواء، نريد كلاماً سليماً مصيباً مبنياً على حجج مقنعة، والحمد لله فالحجة عندنا؛ لأن الله يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] وإذا نطق كتاب الله بأمر فهو الأمر الذي لا يمكن أن يرد: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] فالله حكم ولا يستطيع ابن النصرانية أو ابن اليهودية أن يعقب على حكم الله جل وعلا، ولا نرضى بهذا؛ لكن لا نرضى بهذا حينما نتعقل في معالجة هذا الداء، وبتر واستئصال شأن هذا الشر، وذلك حينما يسمع أعداء الإسلام أن هذه الأمة لا تقبل أن يتدخل أحد في شئونها، ولا تقبل من داخلها أن يخترق أحد صفوفها، ولذلك ينبغي توعية الشباب، وتوعية الأحداث الصغار. ولذلك هناك واجب على الأئمة والخطباء، والأقلام التي تخاطب الناس في وسائل الإعلام والتوجيه المسموع والمرئي؛ أن يقوموا بكلمتهم، وأن يوجه الناس؛ لأننا نخشى أن تبث هذه السموم فتجد من يتلقاها، وإن كنا على قناعة أن الأمة على ثقة بدينها، وأن أعداء الإسلام أحقر من أن يدخلوا بين المسلمين وبين ربهم، ولكن لا بد أن ننبه على هذا. وإنني والله أقولها من قلبي، والله يشهد أنني ما أقولها إرضاءً لأحد ولكن إرضاءً لله: شكر الله لولاة الأمر في هذا البلد ثباتهم على الحق، ولقد سمعت بأذني ما صرح به وزير الداخلية من كلام يثلج الصدر، ويبهج النفس، من كشف عور الأعداء وبيان كيدهم، وأنهم لا يريدون إلا الحقد على هذه الأمة وعلى دينها، وقال: إنهم أعداء للإسلام، حتى يستطيع الإنسان أن يقف منهم الموقف الصحيح، فهذا أمر يثلج الصدر؛ لأن كل من نصر هذا الدين ننصره ونحبه، وهذا دأبنا، ولا نزكيهم على الله من نصرتهم للحق نسأل الله أن يثبتهم عليه، وأن يعينهم عليه، وأن يكبت أعداءهم فيه، وأن يجعلهم حماة لهذا الدين ورعاة للحق. ولا شك أنهم موفقون ما داموا يقولون بذلك ويحمونه، ولا شك أنهم منصورون، لسنا نحن الذين ننصرهم، وليسوا بحاجة إلى نصرنا، لكنهم أحوج ما يكونون إلى نصر الله عز وجل، إنما نقول هذا لأن هناك واجباً ومسئولية، وهناك فرضاً محتماً على أبناء الدين الإسلامي. وكلنا والحمد لله في هذا البلد نؤمن بهذا الإسلام، ليس عندنا تيارات دينية وكافرة، ولكن نقول: إن كل شيء ينصر هذا الدين ينبغي أن نقف معه الوقفة التي ترضي الله عز وجل. والله عز وجل أخبر في كتابه أن المجاهدين في سبيل الله ما وطئوا موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم، والجهاد كما يكون بالسنان وباللسان، ويكون بالحجة والبيان، فالذي يتكلم بحجة وبكلام قوي ومبني على حجة فقد نصر الدين، ومن تكلم كلاماً في وجه أعداء الله عز وجل لرد شبهاتهم وضلالاتهم فقد جاهد في سبيل الله؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم لما نزل قوله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُ حكم من نوى ارتجاع زوجته بقلبه أثناء العدة السؤال هل النية معتبرة في الرجعة، فمن طلق زوجته ثم سافر ونوى ارتجاعها وهو في سفره، ولكن لم يرجع من سفره إلا بعد انتهاء العدة، فما الحكم في ذلك؟ الجواب من نوى ارتجاع زوجته ولم يتكلم ولم يعمل، فإنه لا تصح رجعته على أصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور. عند المالكية: أن النية تثبت بها الرجعة، على تفصيل عندهم وتفريق في ضوابط المقاصد. لكن مذهب جمهور العلماء رحمهم الله على أن النية وحدها لا تكفي، وأنه لا بد من قول أو فعل، فلو أنه نوى الرجعة في قرارة قلبه قبل خروجها من عدتها، ثم خرجت من عدتها؛ فهي أجنبية وليست بزوجة له؛ لأن حديث النفس لا عبرة به ما لم يصحبه قول وفعل دال عليه. والله تعالى أعلم. التفصيل في قتل الحمام داخل الحرم وخارجه الجواب الأصل أن قتل الصيد الذي هو الحمام؛ إن كان الإنسان محرماً ويقود السيارة، فقد تقدم معنا في قتل الصيد أنه يستوي فيه الخطأ والعمد، والحمامة فيها شاة بقضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فتجب فيها شاة كما هو قضاء الصحابة، فإذا كنت مسافراً وأنت محرم بالحج أو العمرة ثم صدمت حمامة أو دهستها وقتلتها فإن عليك الضمان، ويكون هذا الضمان بشاة في قضاء الصحابة رضوان الله عليهم في جزاء المثل، فتخرج شاة أو عدلها من الطعام أو عدل الطعام من الصيام، هذا هو الأصل المقرر في كفارة قتل الصيد أو جزاء الصيد. وأما إذا كان الدهس في حرم لا إحرام فيه، أي: إذا كنت داخل مكة ودهست حمامة، فقتل الحمام أيضاً داخل الحرم فيه شاة، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم أيضاً، فقد قضوا في الحمامة بشاة، وأن من قتل حمام الحرم فكل حمامة فيها شاة. وأما إذا كان الدهس خارج الحرم والإحرام، مثل أن تكون في غير مكة والمدينة، كأن تكون في جدة وحصل الدهس في الطريق إلى مكة أو إلى المدينة قبل الدخول في حرمهما، فحينئذٍ لا شيء عليك، ولا ضمان في هذا، خاصة وأنك مخطئ. والله تعالى أعلم. قول (سبحانك فبلى) عند قراءة آخر سورة القيامة السؤال هل ورد عند قراءة آخر سورة القيامة: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] ذِكرٌ، كأن يقول: بلى في صلاة الفريضة، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب في صلاة الفريضة لم يرد، إنما جاء في حديث الترمذي أنه سمع رجلاً في قيام الليل يقول: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] فقال: (سبحانك بلى) . وعلى ذلك فالسنة أنك إذا قرأتها خارج الصلاة أو سمعت رجلاً يقرؤها، فاشهد أن الله قادر على أن يحيي الموتى سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] جل جلاله، وتقدست أسماؤه. وكذلك إذا صليت بالليل أو صليت نافلة فقرأت هذه السورة تقول: سبحانك بلى؛ لكن في الفريضة لا؛ لأنه ما حفظ في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه صلاة الليل والنهار المفروضة أنه وقف عند آية رحمة ولا آية عذاب ولا رد على آية، ولذلك يجب أن نفرق بتفريق السنة. فلو كانت سنة ما سكت عنها عليه الصلاة والسلام، وما كان ثابتاً عنه في الفرض ثبت في الفرض، وما كان في النفل فهو في النفل، فيفرق حيث فرق الشرع؛ لأننا وجدنا الشريعة تخفف في النافلة ما لا تخففه في الفرض. فوجدنا النافلة تصح من القاعد وهو قادر على القيام ولا يصح ذلك في الفرض، ووجدنا الإنسان يصلي على دابته في السفر النافلة ولا يصلي عليها الفريضة، ويصلي على دابته حيثما توجهت به في السفر إلى غير القبلة، ولا يصح ذلك في الفريضة، ففرقت الشريعة بين الفرض والنفل، وفي الفرض مزية ليست في النفل، ففرقنا لتفريق الشرع. قال زيد رضي الله عنه: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) وهذا أصل في أننا لا نتكلم في الفريضة، فلما جاء الكلام في نافلة ولم يوجد في فرض بقي الفرض على الأصل، وهذا ما يسمونه تخصيص العموم، خصت النافلة فبقي الفرض على أصله، فلا نقول: الأصل أن النافلة والفرض على حد سواء؛ لأن الشريعة ما قالت إنهما على حد سواء، بل جعلت في النافلة تخفيفاً ليس في الفرض، وبناءً على ذلك نقول: ما ورد بعمومه يبقى على عمومه، وما ورد بخصوصه يخص الحكم به. والله تعالى أعلم. جواز خروج الموكل من منى قبل رمي وكيله السؤال في مسألة رمي الجمار، هل يجوز للموكل أن يخرج من منى قبل رمي وكيله؟ الجواب أول شيء يشترط في صحة التوكيل في رمي الجمار؛ أن يكون الأصيل عاجزاً عن الرمي، حقيقة أو حكماً، عاجز حقيقة مثل المشلول لا يستطيع أن يرمي، وعاجز حكماً مثل الشخص الذي يخشى منه ضرر أو يخشى أن يموت مثل المريض بالقلب، وكبير السن من الحطمة الذي يغلب على الظن أنه لو دخل في زحام الجمرة لمات، فهذا عاجز حكماً، وإن كان قادراً على الرمي حقيقة، لكنه لا يستطيع لأجل الزحام، فهو في حكم العاجز الذي لا يستطيع أن يرمي. كذلك العاجز حكماً مثل المرأة الحامل التي يغلب على الظن أنها لو دخلت في الزحام أو ضربت على بطنها ربما قتلت، فهؤلاء يرخص لهم، ومثل الصبيان الذين لا يعرفون الرمي ولا يستطيعون، فهؤلاء يوكلون، وجاء في حديث أنس عند ابن ماجة وغيره: أنهم رموا عن الصبيان في حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم. الشرط الثاني: أن يكون الوكيل الذي توكله بالرمي حاجاً في ذلك العام، فلا توكل الذي لم يحج، ومن الخطأ أن بعض الباعة في منى يتوكل عن بعض الحجاج، وهذا خطأ، فلا يصح الرمي إلا من حاج؛ لأنه عبادة لا تصح إلا من الحاج، والوكيل تابع للأصيل فحكمه حكم الأصيل، كما أن هذا الرامي -الأصيل- لا يصح رميه إلا أن يكون محرماً، كذلك الوكيل لا يصح رميه إلا إذا كان محرماً بالحج في ذلك العام. ثالثاً: يشترط أن يبدأ الوكيل بالرمي عن نفسه حتى يتم الجمرات الثلاث ثم يرجع ويرمي عمن وكله، وقلنا: الجمرات الثلاث؛ لأنها نسك واحد، فيتم الرمي الذي أوجب الله عليه حتى يتم الثلاث ثم يرجع ويرمي عن غيره بالسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم بهذا فقال: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) فإذا كان هذا في الكل فإن الجزء آخذ حكم الكل، فيرمي عن نفسه ثم يرمي عن غيره، ولا يصح أن يبرئ ذمة الغير مع شغل ذمته في حق نفسه. وقال بعض السلف: الأفضل أن يحضر الأصيل ثم يرمي الوكيل بمحضره؛ ولكن هذا إن تيسر وفعل فهو من باب الأفضل، ولكن لا بأس بتركه وليس بلازم، ولو أنه جلس في الخيمة أو جلست المرأة في الخيمة وانطلق وكيلها ورمى فإنه يصح. والذين استحبوا حضور الموكل قالوا: فائدة حضوره أن هناك سنناً مرتبطة به شخصياً، فإذا عجز عن الرمي فهو قادر على الدعاء، فبعد ما يرمي وكيله يقوم هو بالدعاء عن نفسه ويحقق هذه السنن تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه شهد ورمى، فإن عجز عن شيء في سنة الرمي بقيت سنة الشهود والحضور، فقالوا: إن مقصود الشرع أن يكون في هذا الموضع، إلى غير ذلك مما ذكر من التعليل، وعلى كل حال: ليس الحضور بلازم ولا واجب، وإذا رمى وكيله وهو في خيمته فالرمي صحيح ويجزيه. والله تعالى أعلم. فإن قيل: هل الخروج من منى له تأثير؟ أي: هل يشترط أن يكون الموكل في منى، أو يكون عند الجمرات؟ فالجواب: لا يشترط؛ بحيث إنه لو رمى عني جمرة العقبة وأنا أطوف طواف الإفاضة -أي: لست في داخل منى- فلا بأس، والمرأة العاجزة عن الرمي لو وكلت عن رميها ثم بعد ذلك نزلت وطافت طواف الإفاضة وتحللت فلا بأس، فلا يشترط أثناء الرمي أن تكون بمنى، وهكذا لو تعجل ورمى عنه وكيله ثم خرج من منى فإنه يجزيه ولا حرج عليه في ذلك. والله تعالى أعلم. أهمية العمل بالعلم السؤال نجد العلماء ينبهون على ضرورة العمل بالعلم، فما معنى هذا؟ وما هو الطريق للحصول على العمل بالعلم وفقكم الله لكل خير؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالعمل بالعلم درجة عظيمة، ومنزلة شريفة كريمة أحبها الله وأحب أهلها، واصطفى لها خيرة خلقه بعد أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فأحب الخلق إلى الله بعد الأنبياء والرسل العلماء العاملون، وهم الصديقون الذين جعل الله مراتبهم في الجنة بعد مراتب الأنبياء، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين. فالعمل بالعلم هو البركة العظيمة، وهو من أصدق الشواهد وأظهر الدلائل على أن هذا العلم مبارك، فالعبد الذي بورك له في علمه تظهر دلائل بركة علمه في جانبين عظيمين: أولهما: عمله بالعلم، وحرصه على ألا يدنس علمه بالمخالفة لله ورسوله حتى لا يمقته الله عز وجل، وإذا مقت الله عبداً فلا تسأل عن حاله والعياذ بالله. ثانياً: أن يرزقه الله عز وجل نشر العلم، ونفع الأمة، والحرص على دلالتها للخير، ومحبة هذا النصح وهذا التوجيه بنشر العلم قائماً وقاعداً، مسافراً وحاضراً، ينشره بين الصغير والكبير، والجليل والحقير، يحب أن الناس كلهم مثله، وأن الناس أفضل منه في العلم. فإذا رزق الله العالم هاتين الخصلتين: علماً وعملاً، ودعوة وتعليماً للمسلمين، فقد أتم الله عليه النعمة، وبارك له في العلم، وهذا هو الذي يسأله ولي الله المؤمن حينما يقول: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ومن هنا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بربه جل جلاله من علم لا ينفع. فمن أظهر الدلائل على عدم نفع العلم أن ينزع الله من صاحبه العمل، وإذا نزع العمل من العلم أصبح صاحبه من الجاهلين، فتجده يخبط خبط عشواء، وتجد علوم العلماء الراسخين من أئمة السلف والتابعين لهم بإحسان منيرة، وأقوالهم واضحة، وحججهم بينة، وألسنتهم ألسنة صدق لا تتلجلج؛ من وضوح الحق وظهوره في صدورهم؛ لأنهم أحبوا العلم من كل قلوبهم، وعملوا به بأبدانهم، أحبته قلوبهم وأجنتهم، ونطقت به ألسنتهم، وعملت به جوارحهم وأركانهم، فأسعدهم الله به في الدنيا والآخرة، فهذه هي سعادة العلم، وهي لذته وسلوته وبركته وخيره، أعني أن يرزق الإنسان العمل به؛ لأنه إذا عمل رأت الناس عمله، ورأت دلائل العلم في سمته وهديه وقوله وعمله وظاهره وباطنه، فصار إماماً هادياً مهدياً، مهتدياً في نفسه هادياً لغيره، وقد جمع الله هذه المنزلة لخيرة عباده فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:1 - 3] هذا الأساس والقاعدة التي عليها سعادة الدنيا والنجاة من الخسارة، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فاهتدوا في أنفسهم أولاً، ثم هدوا غيرهم، ولن يهتدي الإنسان في نفسه حتى يعمل بالعلم. وإذا أراد الله عز وجل أن يبارك لطالب العلم في علمه، فإنه يحتمل همه العمل بعد العلم، أول ما يحمل في العلم الإخلاص، ثم بعد ذلك يحمل هم الجد والاجتهاد في تحصيله وطلبه، ثم إذا رزقه الله الإخلاص والجد والاجتهاد في تحصيله وطلبه، حمل هم العمل بما علم، فإذا وفق للعمل بما علم حمل هم القبول من الله جل وعلا، فإذا وفق في دلائل القبول وظهرت أمارات القبول من حب الله سبحانه وتعالى له، ووضع المحبة في الخلق، وانتشر علمه، وانتفع به الناس؛ ازداد ذلة وانكساراً لربه، فلم يشعر في نفسه حتى يجعله ربه هادياً مهدياً، فينشر العلم بين الناس، ويوطئ كنفه للناس، ويخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين حتى ينتفع الناس بعلمه. العمل بالعلم المراد به فعل ما أوجب الله عز وجل، وترك ما حرم الله عز وجل مما علم من نصوص الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة:24] فجعل الهداية بالعلم، فلا هداية إلا بعلم، ولا يمكن أن يكون العلم صحيحاً إلا إذا كان معه العمل، قالوا في الحكمة: (هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل) . فأي سنة تتعلمها تحرص على تطبيقها، فإذا سمعت رحمك الله: أن الله يحب الصلاة والمصلين، فمن عملك بعلمك حينما علمت أن أفضل ما تكون الصلاة أن تبكر إليها، فتبكر أول الناس إلى المسجد، إن استطعت أن لا يؤذن للفريضة إلا وأنت في المسجد فقد عملت بما علمت، وإن استطعت إذا دخلت المسجد فصليت أن لا تجلس صامتاً؛ لأنك تعلم فضل الذكر، فتجلس ما بين تلاوة القرآن وتسبيح وذكر لله واستغفار وانكسار لله عز وجل حتى تصلي والملائكة تصلي عليك؛ فقد عملت بما علمت لأنك علمت فضل هذه الأمور فعملت بها. فإذا صليت رحمك الله ووسعك أن تنتظر الصلاة بعد الصلاة، وسمعت ما ورد من السنة في فضل ذلك فجلست ورابطت واحتسبت الأجر عند الله عز وجل، خاصة إذا كنت من طلاب العلم ومن أهل القدوة فتحرص على أن تكون إماماً لغيرك؛ فإذا حرصت على ذلك فقد عملت بما علمت. فإذا صليت وأديت الصلاة على أتم وجوهها وجاءتك الفرائض ونوافلها ورواتبها حرصت على الأكمل والأسمى، فانتقلت من السنن الراتبة ومن الوتر إلى إحياء الليل وقيامه، فحرصت على قيام الليل، فلا تمر عليك ليلة إلا قمتها ما لم تكن مسافراً أو عندك عذر، ثم إذا وفقك الله إلى قيام الليل حرصت على الإكثار من النوافل في النهار، وعلمت فضل الوضوء وفضل الصلاة بعد الوضوء، فصرت لا تحدث حتى تتوضأ، ولا تتوضأ حتى تصلي ركعتين، فبورك لك في علمك بالصلاة وفضائلها. تنتقل بعد ذلك إلى فضائل الصدقات علمت أن الله يحب المتصدقين، وأن الصدقة صدق في الإيمان، وتصديق لما ورد من الرحمن مما يكون من فضائل الصدقة في الدين والدنيا والآخرة، والمراتب العلى في الجنان، فسخى قلبك، وأنفقت يمينك، فأصبحت الدنيا في يدك لا في قلبك، وأصبحت لا تبالي بما تنفق، وأصبح أحب ما يكون عندك أن تلتمس مرضاة الله. فإذا علمت أن الله يحب منك الصدقة الخفية، فبعد أن كنت تتصدق أمام الناس علمت أن الأفضل أن تخفيها: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فتنتقل إلى مرتبة الإخفاء، فكنت تتصدق بالنهار ثم صرت تتصدق بالليل، كنت تتصدق مع أناس فإذا بك تحمل الصدقة لوحدك. ثم بعد الصدقات انتقلت إلى درجة الإيثار، فكنت تتصدق بالفضل، فجاءك أخوك في كربة أو دين أو نكبة وعندك مال، فعلمت أن الله يبتليك، وخرجت من المسجد ورأيت مكروباً منكوباً يقول لك: لله! وليس في جيبك إلا ريال أو ريالان أو عشرة أو عشرون، وهو أشد ما يكون حاجة لها، فعلمت معنى: (لله) أي: أعطني وثوابك على الله، فأعطيته فقد عملت بما علمت. ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ينزعج إذا قيل له: في سبيل الله، ولا يمكن أبداً أن يبرح حتى يعطي، يقول: لأنه قال لي: لله وفي سبيل الله، ولا يمكن أن أبرح حتى أعطيه؛ لأنه يعلم ما معنى هذه الكلمة. ففائدة العلم أن يعمل الإنسان بما علم، وأن يعلم كيف يعامل الله سبحانه وتعالى. ثم تنتقل إلى مراتب أخرى حتى يجعلك الله عز وجل من العلماء العاملين، والله يبتلي طالب العلم من أول خطوة يخطوها، من اليوم تفكر أنك لا تتعلم شيئاً إلا عملت به، ولا تسمع بسنة إلا عملت بها، قالوا: اعمل بالحديث ولو مرة تكن من أهله، حتى إن بعض أئمة الحديث كالإمام البخاري وغيره كانوا إذا قرءوا أحاديث الصدقات جمعوا ما عندهم فتصدقوا بها، لا يحبون أن يمر عليهم أمر من أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في ندب أو طلب أو رغبة أو رهبة أو رجاء إلا حرصوا على تطبيقه والعمل به؛ وعندها ينشرح صدره، ويثبت على الخير قدمه، ولذلك تجد بعض طلاب العلم لا يطلب العلم شهراً أو شهرين إلا وجد نفحات العلم وبركاته في صدره وقلبه وقالبه، تجد فعلاً أن العلم أثر عليه. وتجد بعض طلاب العلم -نسأل الله السلامة والعافية- إذا دخل في طلب العلم إذا به يحفظ الصغير والكبير، وإذا به أقسى الناس قلباً، وأبعدهم عن الله عز وجل، وتجده يمر على المواقف التي تهز عامة المسلمين ولا يحرك فيه ساكناً؛ لأنه إذا طبع على القلب أو مقت الله صاحبه فلا تسأل عن حاله، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من هذا. على كل موفق سعيد أن يحرص على أن يكون بينه وبين الله سر، وأفضل ما يكون العمل بالعلم إذا كان بينك وبين الله عز وجل، وأفضل ما يكون وأكمل ما يكون عملك بعلمك حينما يكون بينك وبين الله في أسرارٍ خفية لا يعلمها إلا الله عز وجل. تجلس مع الناس وتعاشر طلابك وإخوانك وأهل مسجدك كواحد منهم، تسافر معهم وتجلس معهم ولا يشعرون بقيامك في ليلك، ولا بطاعاتك ولا بنفقاتك ولا بأمورك الخفية؛ لأنك تخاف الرياء على نفسك، فإذا خلوت بربك علم الله أن بينك وبينه سراً وهو الخوف الصادق والخشية الخفية، فعندها يبوئك الله مبوأ الصادقين، ويفتح عليك حتى تبلغ درجات العلماء العاملين. هذه مرتبة. ثم إذا أراد أن يتم عليك النعمة أوصلك إلى درجة لا تبالي بما أظهرت وأخفيت من عملك، فتصبح عندك السر والعلانية سواء، بحيث إنك لو أظهرت العمل لم تبال بالناس، ولو جلست في محاضرة وفي مسجد تخطب خطبة وأمامك عشرة آلاف، فكأنك جالس وحدك. هذه كلها مراتب للمخلصين والأئمة المهتدين، ولذلك كان أئمة السلف يضربون أروع الأمثلة في المعاملة مع الله عز وجل. نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى ووجهه الكريم، أن يجعلنا علماء عاملين أئمة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (453) صـــــ(1) إلى صــ(13) شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [3] لقد اهتم الإسلام بشأن المرأة فجعل لها قدرها عند زوجها، ورفع من شأنها كأم مربية للأجيال، ورد لها اعتبارها فيما إذا اختلفت مع زوجها أو حصل لها طلاق أو فراق، أو انتهت العدة ولم يشعر بذلك الزوج، فلها قولها ورأيها تتكلم وتتخاطب مع زوجها وفق معايير الشرع وآدابه وأخلاقه أمام القضاء العادل. وهنا أحكام تتعلق باختلاف الزوج مع زوجته في وقت الطلاق وانتهاء العدة، ففي أحوال يقبل قولها وفي أحوال يقبل قوله، وقد بين الشيخ هذا الاختلاف، مع بيان مأخذ كل قول للعلماء في ذلك اختلاف الزوجين في انقضاء العدة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان مسائل الاختلاف في الرجعة، وهذه المسائل في الحقيقة ترجع إلى كتاب القضاء، يختصم فيها الزوج مع زوجته، هل وقعت الرجعة أو لم تقع الرجعة؟ وكان ينبغي أن تُذكر هذه المسائل في كتاب القضاء؛ لأنها راجعة إلى المسألة المشهورة: من هو المدعي ومن هو المدعى عليه؟ وقد ذكرنا غير مرة أن من عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم يذكرون مسائل الاختلاف في كل باب من أبواب المعاملات بحسبه، فمسائل الاختلاف في البيع تُذكر في كتاب البيع، ومسائل الاختلاف في الإجارة تذكر في باب الإجارة، وهكذا بالنسبة لمسائل الاختلاف في باب الأنكحة، فذكر المصنف رحمه الله اختلاف الزوج مع زوجته وسيذكر جملة من الصور التي اختلف فيها العلماء رحمهم الله. هل نصدق الزوجة ونحكم بكونها خرجت من العدة، أو يبقى الزوج على الأصل من أنها رجعية وأنها في عدتها، ويحكم بقوله قضاءً؟ هذه المسألة فيها تفصيل: من حيث الأصل: إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً، وادعت المرأة أن العدة قد انتهت، فإنها إما أن تكون من ذوات الحيض، أو تكون من ذوات الحمل، أو من ذوات الأشهر. فالعدة إما أن تكون بالحيض (بالأقراء) ، وإما أن تكون بالأشهر كالصغيرة والآيسة من الحيض، وإما أن تكون بوضع الحمل، فإن كانت المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً من ذوات الأقراء، فإنه حينئذٍ ينظر في الشيء الذي تدعيه، إن كان الوقت الذي ادعت فيه أنها قد خرجت من عدتها يمكن في مثله أن تخرج، حُكِمَ بقولها إلا إذا دل الدليل على خلافه. فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكان قد طلقها قبل شهر نظرنا إلى أقل الحيض، يكون فقه المسألة أنها دعت أنها قد حاضت ثلاث حيضات، أو طهرت ثلاثة أطهار، على الخلاف هل العدة ثلاثة أطهار أو ثلاثة حيضات؟ إذا ادعت أنها خرجت من العدة وكان وقت الطلاق قد مضى عليه ثلاثة أشهر، فحينئذٍ لا إشكال؛ لأن الغالب صدقها، وهذا لأن الأصل أنها في كل شهر تحيض حيضة. لكن الإشكال أن تدعيه في غير المعتاد، كأن يمضي شهر على الطلاق، أو يمضي شهر ونصف على الطلاق، فهل يمكن لمثلها أن تحيض ثلاث حيضات أو تطهر ثلاثة أطهار في هذه المدة؟ الجواب نرجع إلى المسألة التي تقدمت معنا في باب الحيض، فننظر إلى أقل الحيض وأقل الطهر، فنضيف أقل الحيض إلى أقل الطهر ونكرره ثلاث مرات في الأطهار، وثلاث مرات في الحيضات مع الطُهر. فإذا قلنا على قول الحنابلة والشافعية رحمهم الله: إن أقل الحيض يوم وليلة، وقالت: إنها حاضت الحيضة الأولى في اليوم الأول وطهرت مباشرة ثم قالت: إنها طهرت ننظر في الطهر، فإذا وافق أقل الطهر الذي هو ثلاثة عشر يوماً أضفناها لليوم الذي هو يوم الحيض. ففي يوم الرابع عشر تم طهرها الأول، وتدخل في الحيضة الثانية، فإذا قالت: رأيت الدم في اليوم الخامس عشر، واليوم الخامس عشر هو الحيضة الثانية، فإذا قالت: انقطع الدم بتمام مدته أضفنا ثلاثة عشر يوماً فصار الكل ثمانية وعشرين يوماً فتكون قد دخلت في الحيضة الثالثة في التاسع والعشرين؛ فإذا قلنا: إنها قد دخلت بدخول التاسع والعشرين فأضف يوماً واحداً لحيضتها الثالثة، فبتمام اليوم التاسع والعشرين تكون قد أتمت الحيض، ثم قالت: إنها طهرت. فبداية طهرها أن تضيف على اليوم التاسع والعشرين لحظة لكي تدخل في الطهر الثالث. فإذا دخلت في الطهر الثالث فقد حلت على القول بتمام الحيض. وكذلك بالنسبة للمذهب قلنا: إن هذا القول وهو أن أقل الحيض يوم وليلة وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً استند إلى قضية شريح رحمه الله مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. فإن امرأة ادعت أنها قد خرجت من عدتها في شهر، فرفعت القضية إلى علي رضي الله عنه فقال: شريح لهذا، وقال: (إن جاءت ببينة من أهلها يشهدون بصدقها حكمت) يعني: بخروجها من عدتها، فقال له علي رضي الله عنه: (قالون) أي: أحسنت، أو كلمة ثناء بالفارسية. فدل هذا على أنه إذا مضت تسعة وعشرون يوماً ولحظة أنه يمكن أن يحكم بخروج المرأة من عدتها. أما إذا قلنا: إن الحيض لا حد لأقله فالأمر أخف وأقل؛ لأنه يتحقق ولو بلحظة واحدة كما هو مذهب المالكية، وتضيف إليها ثلاثة عشر يوماً طهراً، ويكون حينئذٍ الشهر زمن الإمكان من حيث الأصل. على كل حال المصنف رحمه الله اختار أنه تسعة وعشرون يوماً ولحظة، فإذا ادعت المرأة وكانت من ذوات الأقراء أنها قد طهرت خلال شهر أو خلال هذه المدة فأكثر، حكم بتصديقها من حيث الأصل؛ لأنه زمن الإمكان. هكذا لو كان الزوج يقر أن زوجته عادتها مثلاً ستة أيام، وتطهر في العادة أربعة عشر يوماً، فحينئذٍ يحسب لها عشرون يوماً ثم عشرون يوماً ثم عشرون يوماً، فلو ادعت بعد شهرين حكم بخروجها من العدة. وتقاس على هذا المسائل الأخر؛ لأن هذه المسألة أصل من جهة أقل الحيض وأقل الطهر؛ وإلا إذا ادعت المرأة أنها خرجت من عدتها في زمن يمكن أن تخرج فيه من عدتها وكانت من ذوات الحيض حكمنا بصدق قولها ما لم يقم الدليل على خلافه، هذا بالنسبة لذوات الأقراء. وإذا كانت المرأة من ذوات الأشهر كالصغيرة والآيسة من الحيض فعدتها ثلاثة أشهر، فحينئذٍ لا يكون الاختلاف في نهاية العدة مشكلاً إذا كان هناك اتفاق على بداية الطلاق. فإذا اتفقا على اليوم الذي وقع فيه الطلاق لم يقع إشكال في خروجها؛ لأنها تضاف ثلاثة أشهر كاملة، ولو ادعت دون الثلاثة الأشهر لم يلتفت إلى قولها؛ لكن الإشكال في هذا النوع من النساء أنه يختلف الزوج مع زوجته في زمن وقوع الطلاق. فيقول مثلاً: إن الطلاق كان يوم الخميس، وتقول هي: كان الطلاق يوم الأربعاء، فالزوج يدعي الطلاق في الخميس، والزوجة تدعي الطلاق في الأربعاء. فالفرق بينهما يوم واحد فإذا كان قد راجعها في هذا اليوم، فهل تكون قد خرجت من عدتها أو لم تخرج؟ فحينئذٍ يحكم بالأصل. وسيأتي إن شاء الله بيان أن الأصل بقاء الزوجية إلى يوم الخميس؛ لأنها قالت: طلقت يوم الأربعاء، فأنا الآن حل للأزواج وقد خرجت من عدتي، فقال: بل طلقتك يوم الخميس ولا زلت في عصمتي، وقد راجعتك في هذا اليوم الأخير. فاليوم المختلف فيه الذي هو تمام الستين يوماً على قوله، وزيادة اليوم على قولها، ترجع إلى مسألة أخرى، وهي أن الزوج حينما قال: طلقتك يوم الخميس. وقالت هي: طلقتني يوم الأربعاء، فالأصل واليقين أن الزواج باق إلى الخميس؛ لأن الأصل أنها زوجته وهو الذي أوقع الطلاق. الأمر الثاني أنه من حيث الأصل: أننا يوم الأربعاء متفقون على أنها كانت زوجته من حيث الأصل حتى وقع طلاقها، فيقولون: نستصحب الأصل. ولذلك فطائفة من العلماء يفرعون هذه المسألة على مسألة (اليقين لا يزال بالشك) ، وهي إحدى القواعد الخمس التي ذكرناها، والتي قام عليها الفقه الإسلامي، ومن فروعها: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) . فالأصل أنها زوجته إلى يوم الخميس حتى يدل الدليل على سبق الطلاق، فإذا جاءت بشهود أنه طلقها يوم الأربعاء خرجت من عدتها وأصبحت حلالاً للأزواج، ولا يملك ارتجاعها إلا بعقد جديد، فهما إذا اختلفا وقالت: طلقتني يوم الأربعاء وأنا الآن حل وليس لك عليّ سلطان؛ لأني قد خرجت من عدتي. وقال: بل طلقتك يوم الخميس. حكمنا بقوله، فإن شهد الشهود أنه وقع طلاقه لها يوم الأربعاء حكم بكونها أجنبية ولا تحل له إلا بعقد جديد على الأصل الذي ذكرناه في الرجعية إذا خرجت من عدتها. أما ذات الحمل إذا طلقها وكانت حاملاً فالعلماء اختلفوا فيها على وجهين: من أهل العلم من قال: لا يمكن أن يحكم بخروجها من عدتها إلا إذا وضعت جنينها، ويكون الوضع المعتبر، وحينئذٍ لابد من مضي ستة أشهر؛ لأن الستة الأشهر هي تمام الحمل. وتقدير الحمل بستة أشهر تتفرع عليه مسائل مهمة جداً منها: مسألة شق بطن المرأة إذا ماتت وفي بطنها جنين، فلا يجوز إلا إذا تمت له ستة أشهر، وحكم الأطباء بوجوده حياً، فحينئذٍ يشق بطنها ويستخرج، أما إذا كان دون ستة أشهر فلا يشق. كذلك مسألة: إذا ادعت أنها وضعت حملها قبل ستة أشهر لا يحكم، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] فبيّن سبحانه أن حمل الجنين وفصاله عن الرضاع يتم في خلال ثلاثين شهراً. وقد بيّن نص القرآن أن الرضاع في الأصل يكون حولين كاملين، والحولان أربع وعشرون شهراً، فإذا كان الحمل مع الرضاعة التامة بنص القرآن يكون ثلاثين شهراً، فمعنى ذلك أن أربعة وعشرين شهراً منها للرضاعة، ويبقى ستة أشهر هي للحمل، وهذا يدل على أن أقل الحمل هو ستة أشهر. إذا ثبت هذا وادعت أنها وضعت حملها، فقد اختلف العلماء فبعض العلماء يقول: ينظر إلى تمام الحمل وذلك بستة أشهر ولا يلتفت إلى ما دونه، ومن أهل العلم من قال: السقط إذا كان بعد مدة التخلق وتصويره حكم بخروجها من العدة إذا ألقته ولو كان سقطاً. وفرعوا على ذلك مسائل منها: أنه يستتبع الدم ويحكم بكونه آخر حكم دم النفاس، كما اختاره بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله عليهم. وبناءً على ذلك يقولون: إذا تمت ودخلت في الأربعين الثانية هي التي ينتقل فيها من النطفة إلى العلقة، ثم ألقته، حكم بخروجها من العدة، والصحيح ما ذكرناه أنه لابد من تمام مدة الحمل حتى يحكم بخروجها من العدة، كما سيأتي تفصيله في باب العدد. بالنسبة لقوله: [إن أمكن] أي: زمان الإمكان لا نقبل من كل امرأة أن تدعي خروجها من عدتها؛ لأن هذا يفوت على الزوج إرجاعها، فالأصل أنها إذا طلقت طلقة واحدة أو طلقتين وكانت مدخولاً بها، فإن زوجها أحق بارتجاعها. فإذا ادعت أنها خرجت من العدة فقد فوتت على زوجها حقه، وحينئذٍ يترتب عليه أنه ربما عقد عليها رجل آخر، فعقد على امرأة في عصمة غيره. فهذا يدعو العلماء رحمهم الله إلى بيان الحد المعتبر للحكم بخروج المرأة، والقول المعتبر من المرأة إذا ادعت تمام عدتها وخروجها من حك أحوال المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها من زوجها أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن ممكن انقضاؤها فيهقال المصنف رحمه الله: [وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه] . فقوله: (وإن ادعت انقضاء عدتها) أي: من طلاقها الرجعي (في زمن يمكن انقضاؤها فيه) بأن قالت ذات حمل: مضت ستة أشهر، وأيضاً إذا قالت أنها ألقت جنينها أو ولدت. وكذلك ادعت انقضاء عدتها في شهر على القول الذي ذكرناه في أقل الحيض، أو ادعت أنها خرجت من عدتها وكان الطلاق قد وقع قبل ثلاثة أشهر، إن كانت من ذوات الأشهر، فحينئذٍ يحكم بقولها. قوله: [في زمن يمكن] فلو انعكس الأمر وكان في زمن لا يمكن، فادعت ذات الأشهر أنها خرجت من عدتها بعد شهرين لم يقبل قولها؛ لأنها قالت: طلقني في أول رجب ثم جاءت في نهاية شعبان تقول: إنها خرجت من عدتها. هذا زمن لا يمكن فيه خروجها من العدة؛ لأن الله عز وجل بين أن الآيسة من الحيض والصغيرة التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا ادعت الشهرين أو ادعت الشهرين والنصف وعدتها ثلاثة أشهر لم يقبل قولها قطعاً. وكذلك أيضاً لو ادعت أنها حاضت وطهرت، وحاضت وطهرت، وحاضرت وطهرت في أقل من شهر كأن تقول في عشرين يوماً، فهذا ليس بزمن إمكان، وحينئذٍ لا يعتد بقولها. هناك قول آخر: إنه ينظر إلى أكثر الحيض ويعتد بأكثره، ويلزمها هذا الأكثر، وحينئذٍ تكون الصورة على خلاف مسألتنا كما هو مذهب الحنفية رحمهم الله؛ لأنهم يحتاطون خاصة في مسألة حلها لزوج، وخروجها من عصمة الزوج الأول. قال رحمه الله: [أو بوضع الحمل الممكن] أي: أنها مضى لها ستة أشهر فأكثر، فهذا ممكن أنها تضع فيه حملاً، ويحكم بخروجها من عدتها بالوضع، وقال تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكانت حاملاً، ومضى على طلاقها ستة أشهر، فإننا نحكم بكونها أجنبية عنه وقد خرجت من عدتها. قال رحمه الله: [وأنكره فقولها] . مفهوم (أنكره) أنها إن صدقها في زمن الإمكان فلا إشكال، لكن إذا أنكر فالقول قولها، ومعنى كون القول قولها أن الزوج لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على كذبها وعدم صحة ما ذكرته. وهذا يختلف بحسب اختلاف الدعاوى، فالمسألة فيها خصومة بين الزوج وزوجته، فيأتي الزوج الأول ويجد أن زوجته قد عقد عليها زوج غيره فحينئذٍ يقول: هذه المرأة لا زالت في عصمتي. فقالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني. أو قال مثلاً: راجعت وأنت ما زلت في العدة الآن فكيف تنكحي، كل هذه المسائل تحتاج إلى فصل، وكل هذا الخصومات والنزاعات تحتاج إلى قطع. فبيّن المصنف رحمه الله أننا ننظر إلى دعوى المرأة، فإن كانت دعواها أنها خرجت من العدة وافقت أصلاً صحيحاً، بحيث مضى زمن يمكن أن يصدق فيه قولها حكمنا بأنها أجنبية، وأنه لا حق للزوج إلا إذا أقام بينة. فالأصل أن العلماء رحمهم الله ذكروا هذه المسائل لبيان هل خرجت المرأة من العدة أو لم تخرج؟ مما يترتب عليها من الحقوق والحكم ببطلان نكاح الثاني إذا وقع نكاحه، فإن المرأة في بعض الأحيان بمجرد ما تخرج من عدتها من الزوج الأول يعقد عليها في اليوم الثاني. وحينئذٍ يقع شيء من الخصومة، وربما حصل بين الناس شرور، ففصل بينهم بأن القول قول المرأة إذا مضى زمن يمكن أن يصدق فيه دعواها فيقبل قولها ويقال له: أحضر البينة على صدق ما تقول. فلو أقام البينة على أنها لا زالت في عصمته على صور مختلفة في ذوات الأقراء والحمل والأشهر حكم بقوله؛ لأن البينة حجة قاطعة للدعاوى. أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن غير ممكن قال رحمه الله: [وإن ادعته الحرة بالحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة لم تسمع دعواها] : إذا ادعته الحرة من ذوات الحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة، فإذا ادعت هذا كان خلاف زمن الإمكان كما ذكرنا، ويُحكم ببطلان دعواها؛ لأن الدعوى إذا كذبها الحس لم تقبل. فالدعوى لها شروط وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في كتاب القضاء، فالقضاء لا يقبل كل دعوى، فشرط قبول الدعوى أن تكون صادقة أي: يصدقها الواقع ولا يكذبها الحس. لو أن شخصاً جاء عند القاضي وقال: أدعي أنني أملك مكة كلها، أو أني أملك المدينة كلها، أو أملك جدة، هذه لا يصدقها الحس وتكون دعوى باطلة من أصلها. الدعاوى الباطلة من أصلها لا تقبل، المرأة إذا ادعت أنها خرجت من عدتها في زمن لا يمكن أن تخرج فيه من عدتها كذبها الواقع والحس، فترد هذه الدعوى ولا تسمع. خلاف الرجل والزوجة في إثبات الرجعة ونفيها قال رحمه الله: [وإن بدأته فقالت: انقضت عدتي فقال كنت راجعتك] . هذه المسألة ترجع إلى مسألة من المدعي والمدعى عليه؟ من أهل العلم من قال: إن المدعي كل من خالف الأصل والظاهر والعرف، فإذا خالف قوله الأصل أو خالف الظاهر أو خالف العرف فإنه يُحكم بكونه مدعياً ويطالب بالبينة. ويكون خصمه مدعىً عليه، فيكون القول قول خصمه حتى يقيم هو الدليل، ولا شك أنك حينما تكون مدعىً عليه أفضل من أن تكون مدعياً؛ لأن المدعى عليه الأصل أنه بريء، وأن القول قوله حتى يثبت ما يخالف هذا الأصل. فإذا كانت المرأة في مسائل الاختلاف هنا ابتدأته فقالت: خرجت من عدتي فقال: كنت قد راجعتك، فإذا قالت: خرجت من عدتي فلا شك أن الزوج يسلم، واليقين أنها الآن قد خرجت من العدة، لكن عنده دعوى أنه راجع. فاختلف العلماء رحمهم الله، هل الذي يطالب البينة الزوجة؟ لأن الأصل أنها زوجته ما دام أنه قد ادعى رجعتها فنقبل قوله ويكون إنكارها للرجعة دعوى تحتاج إلى بينة. نحن قلنا: المدعي من كان قوله يخالف الأصل أو يخالف العرف أو يخالف الظاهر، وهناك ضابط آخر عند بعض العلماء: أن المدعي هو الذي يقول: حصل، والمدعى عليه الذي يقول: لم يحصل، أي أن المدعى عليه هو الذي ينفي، والمدعي الذي يثبت. تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا المدعي من قوله مجرد من أصل او عرف بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه ادعى فهو هنا يقول: كنت راجعتك، قالت: ما راجعتني، فبعض العلماء يقول: القول قوله لأنه يثبت أصلاً مستصحباً من كونها زوجة. وبعض العلماء كما درج عليه المصنف يقول: القول قول الزوجة؛ لأننا على يقين أنها أجنبية؛ لأن الزوج لابد أن يسلم أنها انتهت عدتها، وأنها قد خرجت من وقت الرجعة؛ فحينئذٍ لا نشك أنها أجنبية؛ فإذا جاء يدعي أنه راجع كانت دعواه خلاف الأصل والظاهر. ومن هنا نقبل الظاهر من أنها أجنبية ونلغي دعوى الرجعية حتى يقيم الدليل. ويلاحظ كل طالب علم أن الإشكال هنا ما لم تقم البينة، فلو قامت البينة زال الإشكال، فلو أن الزوجة ادعت ولو بعد سنتين أنها خرجت من عدتها، وجاء وأثبت بالشهود أنه راجعها قبل خروجها من عدتها فإننا نحكم بكونها زوجته. إذا قامت البينة أو صدقته فلا إشكال، والأصل أن الزوج إذا أقام البينة وأثبت أنه راجعها رجعت إلى زوجها وأصبحت في حكم زوجاته. لكن الإشكال إذا وقع الخلاف بين الزوج والزوجة، أو تزوجها رجل آخر، فهل نهدم النكاح الثاني ونحكم بكونه دخل على امرأة محصنة، والله عز وجل حرم المحصنات لأنها زوجة للغير، ولا يحل نكاح زوجة الغير؟ وقد أفتى بهذا الأئمة، وعلي رضي الله عنه كان يقضي بهذا، ويقضي أنها للزوج الأول مطلقاً سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل؛ فإذاً الإشكال عندنا في هذه المسألة، هل نصدق قول الزوج بناءً على أنه يستصحب أصلاً سابقاً للخروج من العدة، أو نصدق قول الزوجة؟ المصنف رحمه الله وطائفة من أهل العلم وأئمة السلف يقولون: القول قول الزوجة مطلقاً، سواء بدأت أو بدأها هو بالكلام فالقول قولها، ومن أهل العلم من قال: القول قول الزوج. ومنهم من قال: القول قول من سبق منهما بالدعوى، ويكون من خالفه خالف الأصل، فالزوج إذا قال: راجعتك كان مدعىً عليه بنفي الرجعة عندما تقول: ما راجعتني وإنني أجنبية، أو خرجت من عدتي ولم تراجعني، والعكس لو أن المرأة قالت: أنا أجنبية وقد خرجت ولم تراجعني، فقال: راجعتك. يكون هو المدعي. فإذاً هذه ثلاثة أوجه عند العلماء، والأقوى والأصح إن شاء الله: أن القول هو قول الزوجة؛ لأن الظاهر والثابت عندنا هو أن يسلم أنها قد خرجت من العدة. والصورة هذه وقع فيها الخلاف والمرأة قد خرجت من العدة، فليس الخلاف في أنها لا زالت في العدة أو لم تزل، لو كان الخلاف في أنها خرجت من العدة أو لم تخرج لرجعنا إلى أن الأصل أنها في عدتها، ويكون موقف الزوج قوياً من هذا الوجه. لكن عندما يكون الطرفان متفقين على خروجها من العدة، وهو يدعي أنه قد راجعها قبل خروجها، فهناك شيء يسمى الظاهر، وهو أنه لم يراجعها؛ لأنه لو راجع لما نكحت، ولو راجع لقام الدليل على مراجعته فهذا يسمى عند العلماء بالظاهر. فهناك شيء يسمى الأصل، وهناك شيء يسمى الظاهر؛ وهناك شيء يسمى العرف، فمثل الظاهر لو أن شخصين راكبان على بعير فقال أحدهما: البعير بعيري، وقال الثاني: بل هو بعيري، فإنا نقول: الذي في المقدمة الظاهر أنه يملك هذا البعير؛ لأن ظاهر الحال أنه ما يقود البعير إلا صاحبه، فنقول: البعير له. ولو أن اثنين اختصما في بيت أحدهما داخل البيت، والثاني خارجه فأحدهما يقول: البيت بيتي فاخرج من بيتي، وقال الآخر: البيت بيتي ولست بخارج منه، فحينئذٍ نحكم للذي بداخل البيت أنه بيته؛ لأن دليل الظاهر يشهد بأن البيت بيته. فإذا ثبت هذا فإن الظاهر أنها أجنبية، وإذا ثبت عندنا كونها أجنبية فنقدم هذا الظاهر ونحكم به، ونعتبرها مدعىً عليها حتى يقيم الزوج الدليل والبينة على أنه راجعها. فإذا قالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني، وقال: بل راجعتك، فقال القاضي: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، فهنا يقول القاضي: إذاً ليس لك إلا يمينها، فإذا قلنا: القول قولها فمعناه أنها تحلف اليمين عند عجز المدعي عن إقامة البينة. والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين فيطالب المدعى عليه بأن يحلف اليمين وتقول: والله لم تراجعني، بناءً على أن هذا هو الظاهر، وتشهد بالله أنه ما راجعها؛ لأنها ما سمعته يراجعها، ولا ثبت عندها بينة أنه راجعها، ويجوز للمسلم أن يحلف على غلبة الظن. فلو أن شخصاً استلفت منه عشرة آلاف ريال، وغلب على ظنك أنك رددت له العشرة آلاف ريال فمن حقك أن تحلف اليمين، ولو قال لك: احلف لي بالله أنك رددتها -وعندك غلبة ظن- فإنه يجوز لك أن تحلف على غالب الظن. ومن هنا فرع العلماء جواز حلف اليمين على الأمر الظاهر، فلو أن شخصاً ادعى على ورثة أن له على ميتهم مائة ألف ريال فقالوا: ما نعرف لك هذا، أحضر لنا بينة تثبت أن لك على مورثنا مائة ألف ريال، قال: ما عندي بينة ولكن احلفوا أنتم أنه ليس لي في ذمة أبيكم مائة ألف ريال. فهل من حقهم أن يحلفوا؟ نعم؛ لأن عندهم دليل الظاهر، وهو أن مورثهم لو كان في ذمته شيء لأخبر ورثته وكتب ذلك، ولو فتح هذا الباب لكان كل شخص يدعي على الورثة أن له على مورثهم حقوقاً، فتؤكل أموال الناس بالباطل. فإذاً من حقها أن تحلف على الظاهر وتقول: والله ما راجعتني، بناءً على أنها لم تسمع برجعته، فهو يقول لها إنه راجعها وهي لم تر منه فعلاً يوجب الرجعة، ولم تقم البينة والدليل على ثبوت رجعته، فهي على يقين من أنها أجنبية، فيجوز لها الحلف على ذلك. قال رحمه الله: [أو بدأها به] هكذا الحكم لو بدأها، فالمصنف اختار هذا القول سواء بدأها هو بالقول أو هي بدأته، وبعض العلماء يقول: القول قول الزوجة، وبعضهم يقول: العبرة بمن بدأ، كما ذكرنا. وهناك وجه رابع أشار إليه الإمام النووي وغيره رحمهم الله برحمته الواسعة وقالوا: إنه يقرع بينهما، ومن خرجت له القرعة فالقول قوله؛ لأن كلاً منهما له أصل. فكل منهما له دليل قد يوجب أن يكون مدعياً من وجه ومدعىً عليه من وجه آخر، فنقول: يقرع بينهما لاستواء حقيهما، فمن خرجت له القرعة حكم بأن القول قوله. لكن المصنف اختار هذا القول الذي مشى عليه طائفة من العلماء رحمهم الله، أن القول قول الزوجة ما لم يقم زوجها الدليل والبينة على صدق ما ادعى. [فأنكرته فقولها] . أي قالت: ما راجعتني. فالقول قولها لما ذكرناه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة السؤال ذكرتم حفظكم الله أن ذوات الحمل يجب أن تنقضي لها ستة أشهر، فأشكل عليّ لو أسقطت قبل ذلك؛ فهل نلزمها بعدة ذوات الأشهر أو نلزمها بثلاث حيض؟ حكم من طلقت وهي حامل ثم أسقطت قبل مضي ستة أشهر الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هذه المسألة مندرجة تحت مسألة ذكرها العلماء رحمهم الله: إذا كانت المرأة على حال حكم بعدتها باعتبار حالها الذي هي فيه، ثم تغير هذا الحال. مثال ذلك: أن تكون صغيرة آيسة من الحيض ثم تحيض فهل تستمر بعدة الأشهر أو بعدة الأقراء أو يجمع بينهما؟ فبعض العلماء رحمهم الله يرى أن دخول الوصف الثاني خاصة إذا كان أصلاً يلغي الوصف الأول، فلو مضى لها شهران ثم حاضت الشهر الثالث يقول: تستأنف المدة بعدة الحيض. ودليل هذا القول: أن الله اشترط في الاعتداد بالأشهر أن تكون غير حائض، فدل ذلك على أن الأصل أنها تعتد بالحيض. فإذا كان الأصل أنها تعتد بالحيض فحينئذٍ إذا حكم بعدتها بالأشهر ورجعت إلى الأصل ألغي الفرع، وحكم بالرجوع إلى الأصل ووجب عليها بالأصل بمعنى: أنها تعتد ثلاث حيضات على القول بالحيض أو ثلاثة أطهار على القول بالطهر. القول الثاني: يجمع بينهما ويحكم بإتمام العدة إن مضى لها شهران، فتكون في حكم من مضى لها حيضتان على القول بالحيض أو طهران على القول بالطهر. ويقول أصحاب هذا القول: تحيض حيضة ثالثة ويحكم بخروجها بها، فبأول حيضة من حيضاتها تخرج فيها من عدتها، أو بأول طهر على التفصيل والاختلاف هل العدة بالحيضات أو بالطهر، سيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة واختلاف أهل العلم رحمهم الله فيها. وهذا المسلك أشبه بمسلك التلفيق، ومسلك التلفيق في بعض الصور قوي وراجح، وفي بعضها ضعيف مرجوح، ومسلك الرجوع إلى الأصل من ناحية أصولية أقوى إلا أنه في هذه المسألة أضيق، والقول بالتلفيق في الصورة الأخيرة التي ذكرناها أصح وأوجب. وبناءً على ذلك يقع التفصيل في هذه المسألة على الخلاف المعروف عند أهل العلم رحمهم الله. ففي بعض الأحيان بعض النساء تكون من ذوات الحيض، وفجأة يطلقها زوجها وينقطع عنها الحيض، وتبقى فترة طويلة لا يأتيها الحيض لمرض أو صدمة أو شيء يحدث لها، فهل تنتقل إلى ذوات الأشهر وتكون في حكم الآيسة؟ هذه المسألة أصعب من المسائل التي قبلها، وهذه الأمور كلها خارجة عن الأصل ويتجاذبها أكثر من أصل، ففي بعض الأحيان يتجاذبها أصلان، وبعض الأحيان يتجاذبها ثلاثة أصول. وعلى كل حال فبالنسبة لمسألتنا التي وردت، وهي أنها لو حملت ثم أسقطت جنينها فلا أشك أنها ترجع إلى حيضها وتعتد بأطهارها؛ لأن الصحيح أن العبرة بالطهر لا بالحيض، فيلزمها أن تعتد ثلاثة أطهار؛ لأن الحمل لم يستتم، فوجوده وعدمه على حد سواء. والله تعالى أعلم. دلائل الشريعة جاءت بالحكم بالظاهر دون الالتفات إلى الباطن السؤال إذا راجع الزوج زوجته دون أن يكون هناك إشهاد وعدم العلم من الغير، ثم بعد خروج المرأة من العدة أخبرها فأنكرته، فعلى القول بأن القول قولها هل تكون زوجته ديانة؟ الجواب هذه المسألة من حيث الأصل أنها زوجته إذا ثبتت الرجعة، خاصة على مذهب جماهير العلماء الذين لا يرون الإشهاد شرطاً لصحة الرجعة. وأما على مذهب الظاهرية الذين يرون أن الإشهاد شرط لصحة الرجعة فلا تكون زوجة له؛ لأنهم يرون أن الإشهاد شرط، ولم يقع الشرط الذي يحكم عند وجوده بصحة الرجعة. والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لا يشترط لصحة الرجعة الإشهاد، بل ليس الإشهاد بواجب كما ذكرنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجع زوجته ولم يأمره بالإشهاد، وصُرف الأمر عن ظاهره المقتضي للوجوب إلى الندب والاستحباب. وإذا ثبت هذا فهي زوجته ديانة بينه وبين الله، وأجنبية عنه قضاءً، فلو أنه وطئها ورفع إلى القاضي وليس عنده دليل على رجعتها فإنه يرجم ويقتل؛ لأنه زانٍ في هذه الحالة؛ وهي أجنبية منه، فلو وطئها دون أن يعقد عليها فيحكم بكونه زانياً والعياذ بالله. أما لو أنها بقيت ودخل بها الزوج الثاني وعقد عليها فالحكم قضاءً أنها زوجة الثاني؛ لأننا مأمورون بالأخذ بالظاهر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) فما دام أنه قد فرط في حقه حتى خرجت من عدتها فالله حكم حكماً أنها زوجة الآخر قضاءً. والحكم القضائي لا يؤثر في الحقيقة شيئاً، الزوج الثاني الذي تزوجها هو زوج شرعي، وهي زوجة شرعية؛ لأن هذا حكم الظاهر، وليس هناك دليل يدل على أنه راجعها. فهذا في حقوق المخلوقين، والله جعل أحكام الظاهر حتى في الحق بينه وبين عباده، فلو أن رجلاً جاء ودخل المسجد وهو يظن أنه متوضئ والواقع أنه غير متوضئ، وبقي على هذا بقية عمره وما تبين له أنه أخطأ، فصلاته تجزيه؛ لأن هذا الذي كلفه الله على الظاهر. وكذلك لو أنه شك هل خرج منه ريح أو لم يخرج، فأوجب الله عليه أن لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، لحديث عبد الله بن زيد في الصحيحين. فإذا صلى والواقع أنه كان قد خرج منه شيء لكنه لم يسمع صوتاً ولم يجد ريحاً برئت ذمته، وصحت صلاته؛ لأن الذي تعبده بالوضوء تعبده أن يصلي على الأصل الظاهر. والذي تعبدنا بخروجها من عدتها وحلها للزوج الأول هو الذي حكم بهذا الظاهر، ولذلك لو أن رجلاً قذف امرأة بالزنا والعياذ بالله، وقد رآها بعينه تزني، فإنه يحكم بجلده حد القذف، ويحكم بكونه كاذباً {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] . مع أن الآية نصت على أن من رمى امرأة محصنة بدون دليل أنه عند الله من الكاذبين، والمراد بقوله: (عِنْدَ اللَّهِ) أي: في حكم الله وشرعه. وفي الحقيقة لو أنه كان صادقاً أو أقام ثلاثة شهود عدول كلهم رأوها على الزنا والعياذ بالله، وثبت عندهم الزنا وشهدوا به، فكلهم يجلدون حد القذف إذا لم يشهد الرابع، وهؤلاء ثلاثة عدول من المسلمين كلهم شهدوا عليها بالزنا، فإننا نحكم على أنها برئية ومحصنة؛ لأن هذا هو حكم الله عز وجل. وهذا شيء من العدل الإلهي الذي تنزل من الخبير سبحانه وتعالى، ولا أصدق منه قيلاً، ولا أحسن منه حكماً: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فهذا الحكم الرباني على الظاهر. ولذلك ترتاح القلوب، وتبتهج النفوس بزوال الوساوس، ولو فتح باب هذه الظنون اليسيرة لما استطاع رجل طلق امرأته أن تعود له زوجته من كثرة الشكوك والحكم بالأدلة الضعيفة. فالحكم بناءً على الظاهر، والظاهر مرتبط بأصول شرعية إذا وجدت حكم بالحكم الشرعي كما هو، وإذا تخلفت حكمنا بالأصل الذي حكم الله عز وجل به، ولا شك أن هذا هو عين العدل والحكمة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43] . والله تعالى أعلم. حكم الجنين إذا دفن مع أمه المتوفية وقد تجاوز الشهر السادس السؤال والدتي توفيت أثناء الوضع ولم يخرج الجنين من بطنها، ولكن لجهلنا دفناها كما هي ولا ندري هل كان الجنين حياً أو ميتاً، فهل علينا شيء؟ الجواب أولاً: كان ينبغي سؤال العلماء والرجوع إلى أهل العلم، وبالمناسبة أقول: أي مسألة شرعية تنزل للإنسان في نفسه أو مع الناس أو مع أهله أو ولده، ولا يسأل عنها ولا يستفتي العلماء؛ فإنه يتحمل إثمها وإثم كل ما يترتب عليها من الأخطاء. هذا أمر ينبغي أن يكون الإنسان فيه على بينة، بل حتى لو اجتهد ووافق اجتهاده الشرع وعنده علماء يمكن أن يسألهم ورجع وسألهم بعد ما فعل الذي فعل ووجد أن الذي فعله صحيح، فإنه لا يزال آثماً شرعاً، الذي فعله صحيح لكنه آثم لكونه لم يسأل العلماء. سؤال العلماء ليس بالأمر السهل وليس بالأمر الهين، ولذلك فرض الله على أهل العلم أن يجيبوا السائل إذا سأل، وأمر الله نبينا من فوق سبع سماوات صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين في أوامره فقال: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] . فالسؤال أمر مطلوب وواجب شرعاً. الأمر الثاني: لا يسأل كل أحد، فوالله لا تقف على أحد تسأله إلا وقفت بين يدي الله يسألك: هل هذا أهل أن تسأله أو لا؟ فجامل من شئت أن تجامل، وأنصف في دين الله وشرعه ما شئت أن تنصف، فستقف بين يدي الله عز وجل. لا يجوز أن تسأل الجهّال وأنصاف العلماء وطويلبي العلم وكل من هب ودب، لا تتقي الله في نفسك ولا تتقي الله في دينك، ولا تتقي الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تغرر به فتسأل إنساناً وتجلس بين يدي إنسان لا يستحق أن يجلس بين يديه أو يسأل. وعلى كل شخص يُسأل أو إمام أو خطيب إذا جاءه أحد يسأل وهو يعلم من نفسه أن أهل العلم لم يزكوه بالفتوى، فعليه أن يتقي الله، وأن يخاف الله جل وعلا، وأن لا يكثر سواد الناس حوله ليغرر بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا من الخديعة والغش. وعلينا أن ننصح لله ولكتابه ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنصيحة لعامة المسلمين أن نتقي الله في الفتاوى، فليس كل أحد يسأل، بل تسأل من تستطيع أن تقف بين يدي الله عز وجل. قال الإمام الشافعي: (رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله) لأنه علم أن كل صغير وكبير في هذا الدين سيسأل عنه أمام الله عز وجل، فلا تحضر لأحد يعلم إلا إذا كان قد أخذ العلم عن أهله، ولا تحضر لأحد يفتي إلا إذا كان قد أخذ الفتوى عن أهلها. نقول هذا الكلام لأن هذا الزمان كثرت الفتوى فيه، وكثر الغش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصبح يلمع ويبرق ويزين للأمة من ليس بأهل للفتوى، ومن ليس عنده دين ولا ورع ولا علم ولا عقل يمنعه ويردعه، فتسمع الفتاوى العجيبة هنا وهناك ويشتت بالأمة شذر مذر. فهذا أمر ليس بالهين: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] وما ضلت الأمة ولا شقيت في هذا الزمان بشيء في ثلمة الدين مثل الفتوى، خاصة في أمور العقيدة والأحكام التي يتعبد بها الناس ربهم. فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يفعل أي شيء لنازلة نزلت به حتى يرجع إلى العلماء ويسألهم، ويسأل من يرضى بدينه قال الإمام مالك: (ما أفتيت حتى شهد لي سبعون) ، الله أكبر ما أعظم الورع والخوف من الله جل وعلا! إنه ما رضي أن ينصب نفسه مفتياً في دين الله عز جل حتى شهد له الأمناء العلماء الأتقياء الأصفياء أنه أهل لذلك. ولذلك بورك له في علمه وفتواه، وبورك له في قوله، وبورك فيما كان عليه رحمه الله برحمته الواسعة، فلا يجوز لأحد أن يتساهل في هذه الأمور. وعلى طلاب العلم أن ينصحوا الناس وينصحوا لهم، فأي شخص يأتي ليسألك قل له: يا أخي! لست بأهل للسؤال، وإذا كان في مدينتك أو قريتك أو بلدتك رجل تلقى العلم عن أهله تقول له: اذهب إلى فلان واسأله. هكذا كان الصحابة والتابعون وأئمة السلف وأهل الخير والصلاح في كل زمان ومكان يحيلون إلى من هو أهل للفتوى. الأمر الثالث: مسألة دفن المرأة وفي بطنها جنين فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: إن المرأة إذا لم تخرج جنينها وتمت للجنين ستة أشهر ووجد الدليل على حياته فإنه يشق بطن المرأة ويستخرج الجنين منها. القول الثاني: إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين أو ماتت أثناء الوضع، ولا يمكن إخراج الجنين إلا بشق البطن فإنه لا تشق بطن المرأة. القول الأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى، من أنه يشق بطن المرأة لعدة أدلة: أولاً: أن الله أوجب علينا إنقاذ الأنفس من التهلكة، فإذا ثبت بدليل أو بشهادة أهل الخبرة، كما في زماننا من وجود الصور الإشعاعية التي تبين حال الجنين في بطن أمه؛ فإنه لا يجوز لنا أن نتسبب في هلاك هذه النفس؛ لأن الله أوجب علينا إنقاذ النفس المحرمة، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما توقف إنقاذه على شق البطن صار شق البطن واجباً. ثانياً: فقه المسألة من حيث القواعد أنه تعارضت عندنا مفسدة موت الجنين ومفسدة شق البطن، فوجدنا أن مفسدة موت الجنين أعظم من مفسدة شق البطن؛ لأن مفسدة شق البطن أهون من عدة وجوه: أولاً: أن الروح أعظم من إتلاف الجسم، ولذلك لو أن شخصاً وقعت الأكلة في يده مثل ما هو موجود الآن في مرض السكري أو نحوه، إذا سرت (الغرغرينة) في قدمه وقال الأطباء: إذا لم تقطع رجله يموت، وجب قطعها؛ لأن مفسدة العضو أهون من مفسدة النفس كلها، فهذا الوجه الأول. الوجه الثاني: أن مفسدة شق البطن يمكن تداركها بالخياطة، وأما مفسدة موت الجنين فلا يمكن تداركها أبداً. وحينئذٍ القاعدة (أنه إذا تعارضت المفسدة التي يمكن تداركها مع المفسدة التي لا يمكن تداركها قدمت المفسدة التي لا يمكن تداركها على المفسدة التي يمكن تداركها) ، فوجب شق البطن. ولذلك كان الذي تطمئن إليه النفس أنه يشق البطن ويستخرج الجنين، وفي هذه الحالة ينزع الجنين إذا أمكن نزعه، وإذا لم يمكن فإنه يجوز الشق ولو توسع في شق الموضع الذي يخرج منه الجنين ثم يخاط بعد إخراج الجنين؛ إبقاءً لهذه النفس المحرمة. وأما بالنسبة لكم في هذه الحال فينظر في المسألة على التفصيل الذي ذكرناه، إذا كانت هناك أدلة تدل على حياة الجنين، مثل أنها قبل الطلق بيوم أو يومين أو مدة صورت وثبت أن الجنين حي أو بالحركة التي كان يعرفها القدماء يعرفون بها حياة الجنين من حركته وانقلابه، ونحو ذلك مما يدل على وجود الروح فيه، مما أشار إليه العلماء رحمهم الله في هذه المسألة. فالأصل أنه حي ويكون قبر المرأة على هذا الوجه فيه شبهة بقتل الجنين، والقاعدة أن قتل الجنين بإلقائه حتى يموت أو تعاطي أسباب موته على هذا الوجه الذي ذكر، خاصة وأنه لم تكن هناك شبهة الفتوى، بحيث أنكم ما سألتم أحداً يرى عدم جواز الشق. فالأشبه في هذا أنه صورة قتل بالسببية، والقتل بالسببية موجب للضمان، لأنكم لم تقتلوه مباشرة وإنما قتلتموه تسبباً، وذلك أنه كان يجب إنقاذه. قال العلماء: لو أن شخصاً رأى غريقاً وناداه وبيده حبل كان يمكنه أن يلقيه له وينقذه، أو مر على جائع في مخمصة شديدة ويحتاج إلى ماء وطعام وبيده الطعام والماء وامتنع؛ كان قاتلاً له بالسببية، فإن قصد موته كان قاتلاً بالعمد والعياذ بالله. أما إذا قال: لا والله أنا هذا الطعام أخذته لنفسي، وعنده نوع من البخل، فهذا نوع من الشبهة، ولا يكون قتل عمد لكن إن قال: أنا قصدت قتله وأريد أن يموت، فهذا قتل عمد؛ لأن السببية المفضية للهلاك تكون بحكم المباشرة. أو نهشته حية فإن الحية هي التي قتلته، لكن السببية في تقريب الحية الذي أتى بها، أو حبسه في زريبة أسد فقتله الأسد، فالذي باشر قتله الأسد، والقتل سبب مفض للهلاك، فالسبب المفضي للهلاك مؤثر، ولذلك قالوا: لو أنه ضربه على مكان يغلب على الظن القتل به وأراد به الإضرار، كان سببية مفضية إلى القتل آخذة حكم قتل العمد. وقد فصل العلماء رحمهم الله في مسائل قتل الصيد، وسيأتينا إن شاء الله بيان أحكام السببية المباشرة في باب الجنايات، ولذلك فالأشبه والأحوط في هذا أنه قتل السببية. والله تعالى أعلم. التفصيل فيما إذا نسي الإمام التشهد الأول ثم رجع بعدما استتم قائماً السؤال إمام قام عن التشهد الأول واستتم قائماً، فلما سبح المأموم عاد للجلوس، فانقسم أهل المسجد إلى طائفتين: طائفة رجعت، وطائفة استمرت في قيامها، فأي الطائفتين أقرب للصواب؟ المشكلة أنه يوجد خلاف في هذه المسألة، الجمهور على أنه إذا استتم قائماً وشرع في الفاتحة لا يرجع، فلو استتم قائماً وشرع في الفاتحة ثم رجع وعلمت أنه جاهل فعليك أن تنوي مفارقته وتبقى على القيام؛ لأنك إذا رجعت رجعت إلى فعل زائد في الصلاة؛ لأنه ليس من حقه أن يرجع وليس من حقك أن ترجع؛ فإذا رجع فإنه قد زاد، خاصة إذا كان جاهلاً. في هذه الحالة تنوي مفارقته وتطيل في القيام حتى يقوم لأنك في مسجد لا تستطيع أن تنفرد، فإذا قام تابعته شكلياً، إذا جاء يكبر للركوع كبرت أنت لركوعك ولا تنوي متابعته، وإنما تتابعه صورة لا حقيقة، ظاهراً لا باطناً. أما إذا كان الشخص الذي فعل هذا الفعل يرى قول من يقول من السلف: إن من وقف ولم يجلس للتشهد الأول فعليه يرجع ما لم يركع، فهذا القول شاذ وضعيف لأنه مصادم لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي، فقام من الركعتين فسبحوا له، فأشار إليهم أن قوموا) . فدل على أنه إذا استتم قائماً لا يرجع، في هذه الحالة نقول: تنوي مفارقته؛ لأنه أبطل صلاته؛ لأنه عندما رجع زاد في الصلاة ما ليس منها؛ لأنه قد سقط عنه التشهد والجلوس له، فكأنه رجع إلى جلسة ليست بلازمة له فأحدث في الصلاة فعلاً زائداً. ومن هنا قالوا: إنك لا تتابعه وتنوي مفارقته، ومن أهل العلم من قال: تتابعه لما كان فيها من شبهة الخلاف، وخاصة إذا كان طالب علم وتظن أنه يقول بهذا القول، أو يقول بقول من يرى أن مجرد القيام لا يكفي، بل لابد أن يشرع في الفاتحة حتى يكون قد شرع في الركن فعلاً. والصحيح أن العبرة بالوقوف؛ لأن بنفسه ركن القيام فلا يشترط له قراءة الفاتحة؛ لكن على القول الثاني لو كان الإمام يرى أنه لابد أن يقرأ الفاتحة، ففي هذه الحالة من أهل العلم من قال: يجب عليك الرجوع؛ لأنه يفعل فعلاً مشروعاً في حقه، فتجب عليك متابعته؛ لأن المتابعة في الأفعال الظاهرة واجبة في الواجبات. ومن هنا وجب عليك القنوت إذا قنت الشافعي وأنت لا ترى القنوت؛ لأنه يراه واجباً، فينقلب واجباً عليك بحكم المتابعة، والمتابعة للإمام خلاف مذهبه واجبة في الواجبات، ولازمة في الأركان، فحينئذٍ يجب عليك الرجوع، وهذا مذهب صحيح وقوي، أنه إذا كان يرى أنه لابد من قراءة الفاتحة ورجع وكان طالب علم فإنك ترجع معه؛ لأن المتابعة في الأفعال واجبة ولو خالفت مذهبك. وهذا أمر قرره أئمة المذاهب على اختلافهم، قرره الفقهاء الحنفية، كالإمام ابن عابدين في حاشيته، وكذلك صاحب فتح القدير الكمال بن الهمام رحمه الله. وكذلك قرره من أئمة المالكية رحمهم الله شراح خليل كـ الحطاب وعليش، وأيضاً قرره فقهاء الشافعية كالإمام النووي خاصة في الروضة، وأشار إلى أن الاقتداء بالمخالف في الفروع يلزم المتابعة. وقرره من أئمة الحنابلة الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، فذكر أنه يجب عليك أن تتابعه في الواجبات ولو كنت لا ترى وجوبها، لكنها لما كانت واجبة عليك صارت واجبة لك في حكم الاتباع في الائتمام، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لم حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) فرق فيه بين الأركان والواجبات. فأمر بالمتابعة في الأركان في قوله: (إذا كبر) أي: تكبيرة الإحرام (إذا ركع) (إذا رفع) ، ثم قال في الواجبات: (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) . فدل على أن الإلزام بالمتابعة للإمام واجب في الواجبات والأركان؛ لأن الحديث فصلها، وقوله: (فإذا كبر) تفصيل لقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وتفسير لهذا الأصل، وإذا ثبت هذا فإنه إذا كان الإمام يرى أن مجرد القيام لا يكفي فعليك أن ترجع معه وتبقى معه. أما إذا كان عندك شبهة وبقيت واقفاً حتى انتهى لأنك تخاف أنه فعل هذا عن جهل، ثم قام ورجع إلى القيام، فالأفضل والأكمل أنك تنوي مفارقته لوجود العذر، وتتابعه في الصورة ولا تتابعه في الباطن؛ احتياطاً وابتعاداً عن السبب الموجب للفساد. والله تعالى أعلم. حكم هدم المساجد القديمة أو توسعتها السؤال هناك مسجدٌ يراد توسعته فأضيفت إلى أصل أرضه أراض مجاورة له، ثم هدم هذا المسجد، ولما أعيد تخطيطه جعل الموضع القديم للمسجد دورات للمياه، فما حكم ذلك؟ علماً بأنه يمكن الآن قبل إتمام البناء إعادة النظر في الخرائط. أثابكم الله. الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: أولاً: ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز هدم أي مسجد إلا إذا وجد مبرر شرعي يقتضي جواز الهدم، من المبررات خشية سقوط المسجد كلية، أعني تهدمه وتهتكه بحيث يخشى أن يسقط على المصلين، أما لو كان السقف هو الذي يخشى أن يسقط فإننا نجدد السقف فقط. هذه أوقاف وأموال محبسة وأهلها بنوها يروجون ثوابها، وبمجرد ما بني المسجد أصبح المسجد وبناؤه وما فيه لله عز وجل، لا يجوز لأحد أن يقدم على التصرف فيه بإحداث شيء أو تغيير شيء إلا بحكم وإذن شرعي، هذا أمر تساهل فيه الناس. ومسألة توسعة المسجد تحتاج إلى نظر، وليس كل شيء يوسع، وليس كل شيء يهدم، ويبذر في بناء المساجد وتوسع حتى تكون لإنسان على حساب حسنة لغيره ممن هو أسبق وأحق، هناك حق للسابق الذي بنى المسجد أولاً فهو أحق، ولا يجوز لأحد أن يهدم بناءه ولا أن يفسد الأجر عليه؛ لأني إذا بنيت المسجد وأصلحته وبقي صالحاً لأن يصلى فيه فإنه يبقى على حالته إلى أن يشاء الله عز وجل أن ينهدم أو يخشى هدمه. أما أن كل شخص يأتي إلى مسجد مبني ليهدمه فلا. وبعض المساجد مسلحة مبينة ما فيها أي شيء، ولكن نريد أن نبنيها على بناءٍ حديثٍ، أو نريد أن نجملها، أو نريد أن نكملها، وهذا لا يجوز، ولا يرضى الله عز وجل به، ولا يرضى به رسوله، ولا يرضى به أئمة الإسلام، ولا يفتي به أحد من أهل العلم لا الأموات ولا الأحياء ممن يعرف أصول أهل العلم في الأوقاف. فالأوقاف لا يجوز التلاعب فيها، الشخص إذا أوقف مسجداً خرج من ملكه، حتى صاحب الأرض لا يستطيع أن يتصرف فيه لأنه خرج من ملكيته لله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] . فالمسجد إذا أوقف خرج عن ملكية صاحبه، فهذا أمر ينبغي أن يعلم، فلا يجوز هدم المساجد إلا بإذن شرعي، وبفتوى شرعية تبيح هدم هذا المسجد. ثانياً: توسعة المسجد عند العلماء فيها تفصيل: أن ما جاز لحاجة يقدر بقدرها، إذا كان المسجد يمكن توسعته مع بقاء القديم فإنه يترك القديم كما هو، ويوسع بأن تفتح جوانبه الشرقية والغربية، ويفتح جانبه المؤخر ويبقى القديم كما هو. لا يتلاعب في أموال الناس؛ لأن هذا إسراف، هذا بذخ، ومن علامات الساعة التباهي بالمساجد، فإذا كان التباهي بالمساجد مذموم شرعاً، والمبالغة في تزويقها مذموم شرعاً، فكيف تهدم المساجد من أجل هذا المذموم شرعاً. هذا أمر ينبغي أن يوضع في البال. والسبب في هذا الجهل والجرأة على حدود الله عز وجل دون الرجوع إلى أهل العلم، وقل الرجوع إلى أهل العلم وتقديرهم في مثل هذه الأمور. ولذلك ينبغي على كل مهندس يخطط المساجد أن يسأل أهل العلم، وأن يرجع إلى أهل العلم قبل أن يرهن بين يدي الله عز وجل عن مساجد المسلمين، كل من يتصل بأمر شرعي يتحتم عليه الفتوى والسؤال وينبغي عليه أن يرجع إلى أهل العلم. الطبيب أي شيء يطرأ عليه يرجع إلى أهل العلم قبل أن يقوم بأي عملية جراحية، فيسأل هل تجيز الشريعة هذا العمل أم لا؟ والمهندس قبل أن يقوم بتخطيط شيء يسأل ما هي الأصول الشرعية. فالأصل الشرعي في هذا أنه إذا احتيج إلى الزيادة للتوسعة فينبغي إبقاء القديم، ودورات المياه لا تفعل في القديم ولا يحل فعلها في القديم ولا يجوز شرعاً، ولو فعلت هدمت ويرجع المسجد إلى ما كان؛ لأن صاحبه أوقف هذه الأرض للعبادة وما أوقفها لقضاء الحاجات. ولو أن القديم بني بيتاً للإمام فإنه يهدم، وليس من حقه أن يبنى؛ لأن صاحبه أوقفه أرضاً للصلاة وما أوقفه بيتاً للإمام، ولا مسكناً للإمام ولا للمؤذن. هذه أمور ينبغي وضعها في نصابها، وينبغي الانتباه إلى أن هذه الأشياء ينبغي ترتيبها مع من يفتي ويعرف الأصول الشرعية. الشيء الثاني: أن هذا المسجد القديم أحق من الجديد، والله يقول: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] فصاحب المسجد القديم والأرض القديمة أولى بالعبادة من الأرض الجديدة. وجمهرة السلف وأئمة العلم على أنه لو تعارض مسجدان أحدهما قديم والآخر جديد فالأفضل أن تصلي في القديم؛ لأن القديم نص الله عز وجل على أحقيته {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] . فلذلك لا ينبغي التلاعب في هذه الأمور، ولا التساهل في إحداث المساجد وبنائها، الآن تجد مسجداً صغيراً يصلي فيه أهل القرية الجمعة، ثم تفاجأ بشخص يأتي ويبني مسجداً آخر بجواره، هذا جهل! من الذي أذن له أن يبني؟! ومن الذي أفتاه بهذا؟! ينبغي الرجوع إلى أهل العلم ووضع الأمور في نصابها، هذه أمور فيها حقوق شخصية، أهل العلم لهم كلمة في هذا وهم أحق أن يرجع إليهم، كما أن المهندس يبني عمارته. كذلك الأرض لا يمكن أن يفرط فيها، والحقوق التي تساهل فيها أهلها وبذلوها لوجه الله عز وجل لا يمكن أن تذهب هدراً، بذلوها لوجه الله وأوقفوها لوجه الله، أموات ينتظرون ثوابها في قبورهم، ويأتي من يجرؤ على هدم المسجد ثم يجعله دورات مياه!! هذا الأمر كله باطل، ويعاد الأمر إلى ما كان عليه، ويقال لمن يريد أن يوسعه: وسع مع إبقاء القديم، الأرض القديمة تبقى أرضاً للعبادة. إذا كان يريد أن يبني سكناً للإمام فجزاه الله خيراً، يريد أن يبني سكناً للمؤذن جزاه الله خيراً، لكن ليس على حساب حقوق الآخرين. كذلك ننبه على أن حد الأرض المسجد الآن بكامله يصلى فيه، لو جاء إمام المسجد وقال: نريد أن نضع حاجزاً ونبني مكتبة، فلا يصح أبداً، صاحب المسجد ما وضعه مكتبة، ولا أوقفه مكتبة، أوقفه مسجداً للصلاة، فينظر إذا كان هذا يضيق للصلاة ويمنع من الصلاة فيه فيمنع منه، ويبقى على الأصل أرضاً. ونقول لمن يريد أن يفعل مكتبة: جزاك الله خيراً أضف إلى المسجد قطعة أرض تكون مكتبة أو تجعل المكتبة في منطقة تابعة للمسجد. أما إن كانت الأرض قد أوقفها وسبلها صاحبها للصلاة فتبقى للصلاة، ولا يغير في الأوقاف ولا يبدل إلا وقف أصول شرعية محددة مرتبة، وقد تقدم بيانها في كتاب الوقف. فعلى المهندسين أن يتقوا الله عز وجل، وعلى كل من له علاقة بهذه الأمور أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يغير ولا يبدل؛ لأن تبديل الأوقاف تبديل وتغيير لشرع الله عز وجل، فالوقف ما سمي وقفاً إلا للتحبيس. ولذلك جاء في الصحيحين عن ابن عمر لما روى عن أبيه عمر قال: (إني أصبت أرضاً بخيبر هي أحب مالي إلي لم أصب مالاً هو أنفس عندي منه، فماذا تأمرني فيه؟ قال: إن شئت حبست أصلها) . فبيّن أن الوقف محبوس لا يجوز صرفه عن هذا الحبس، ولذلك سميت أوقاف المسلمين أحباساً لأنها أوقفت فتبقى محبوسة على ما أوقفت عليه، وهذا أمر ينبغي التنبه له والتناصح فيه، وتذكير الناس بالله عز وجل، حتى لا يسيئوا إلى غيرهم. فكم من إنسان يريد الحسنة فيقع في السيئة، والسبب في هذا الجهل، وقد قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] فهي عاملة ناصبة. عمر بن الخطاب لما نظر إلى النصراني في صومعته بكى قيل: يا ابن الخطاب أترق للنصرانية؟ قال: لا والله ومعاذ الله إني نظرت إليه فذكرت قول الله عز وجل: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4] . فهذا الشخص قد يأتي ويهدم مسجداً ويسيء إلى أخيه ويجعله دورات المياه؛ أعوذ بالله هذا لا يجوز! وعليكم النصيحة لهذا المهندس الذي قام بهذا الشيء، وينصح كل من يقوم بهذا الأشياء أن يرجع إلى أهل العلم فيما يتصل بالمساجد ونحوها. نسأل الله العظيم أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه. والله تعالى أعلم. جواز تقبيل الحجر واستلامه في غير الطواف السؤال هل استلام الحجر الأسود وتقبيله مشروع في غير الطواف؟ الجواب نعم! هذه المسألة نص طائفة من أهل العلم على أنه يجوز أن يقبل الحجر وأن يستلم في غير الطواف لما ثبت في الحديث الصحيح في رواية أحمد في مسنده (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف في حجة الوداع صلى ركعتي الطواف، ثم شرب من زمزم، ثم مضى إلى الحجر وقبله، ثم مضى إلى الصفا والمروة) . فقبله بعد شرب زمزم، أي: بعد انفصال الطواف؛ لأنه طاف وصلى ركعتي الطواف ثم شرب من زمزم، الشرب أجنبي؛ لأنه فصل بفاصل أجنبي. ومن هنا كان بعض العلماء يقول: عجبت من هذا الحديث لما فيه من هذا المعنى الدقيق؛ لأنه لو قبل بعد ركعتي الطواف لتوهم أحد أنها متصلة؛ لأن ركعتي الطواف متصلة بالطواف، لكن ذهب وشرب من زمزم، فقطع العبادات المتصلة بشيء أجنبي؛ لأن الأكل والشرب يقطع. ولذلك قالوا: من جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر والمغرب والعشاء فلا يجوز له أن يتغدى بين الظهر والعصر ولا أن يتعشى بين المغرب والعشاء؛ لأن الأكل والشرب أجنبي عن الصلاة. فلابد وأن يكون الجمع موافقاً للأصل، وعلى كل حال فإنه يصح ويجوز أن يُقبّل الإنسان الحجر ولو لم يكن طائفاً؛ لأن المراد تعظيم الحجر في الحدود الشرعية، وهذا التعظيم من تعظيم شعائر الله عز وجل، ولذلك قبله عليه الصلاة والسلام واستلمه وكان إذا وضع يده عليه قبلها، كما في الحديث الصحيح عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره فهذا كله من فضل الحجر، ولما خصه الله عز وجل به. وقد جاء في الحديث أنه من يواقيت الجنة على اختلاف ألفاظه في رواية الترمذي وغيره، وقد حسن غير واحد من العلماء رحمهم الله هذا الحديث، وأشار الإمام الترمذي إلى أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحيح. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (454) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [4] لقد بين الشارع كل كبير وصغير من مسائل هذا الدين ومن ذلك تعامل الزوج مع زوجته وما يحل له منها وما يحرم عليه منها. وقد يقع خلاف بين الزوجين يؤدي بالزوج إلى بت طلاقها، وإذا بت طلاقها حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره. وإذا نكحت المطلقة ثلاثاً زوجاً آخر ثم فارقها حلت للأول، ولكن هذا النكاح المحلل ينبغي أن يتصف بصفات معتبرة خالية من الحيلة، ثم إذا تم ذلك فلابد من الوطء، وهذا الوطء المحلل لابد فيه من صفات اعتبرها الشرع، بحيث يكون قد أذن بها وكانت دالة على رغبة وزواج لا احتيال فيه. وقيد بين الشيخ ما يتعلق بذلك بياناً واضحاً. تحريم المرأة على زوجها إذا استوفى الطلاق أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بمن طلق زوجته الطلقة الأخيرة، فاستتم العدد الذي جعله الله في الطلاق. الحكمة في اشتراط نكاح الزوجة بزوج آخر حتى تحل لزوجها الأول ونظراً إلى أن هذه المسألة مترتبة على الطلاق ذكرها المصنف رحمه الله في ختام كتاب الطلاق، فذكر أن المطلق إذا استتم العدد وذلك في قوله: [إذا استوفى ما يملك] أي: إذا استتم العدد الذي جعله الله له. فكأن الزوج يملك الطلاق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل له الطلاق، فإذا استتم العدد المعتبر فإنه لا تحل له الزوجة إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] أي: الطلقة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] . وذلك بعد قوله سبحانه: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فبيّنت هذه الآية الكريمة من سورة البقرة أن من طلق الطلقة الثالثة أنه لا تحل له هذه الزوجة حتى تنكح زوجاً غيره، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأن كلا الزوجين أعطي المهلة. فالطلقة الأولى والثانية كان بإمكان كل منهما أن يصحح خطأه، فلو حصل أن الزوج تسرع في الطلقة الأولى فإن تسرعه يستطيع أن يتلافاه بما بقي له من الطلقتين. فإن كان الخطأ صادراً منه لأنه ربما يكون أول سبب للطلاق هو الزوج، ولربما كان السبب الزوجة، فإذا وقع من الزوج الطلقة الأولى بسبب خطأ أو تقصير منه؛ فإنه بوقوع الطلقة سيندم ويتأثر ويرجع إلى زوجته. فلو أنه استقام ربما أخطأت الزوجة، فجعل الشرع له أن يعطيها مهلة كما أعطى لنفسه المهلة، فجاءت الطلقة الثانية على فرضية أن يكون الخطأ من الزوجة، فبقيت الطلقة الثالثة فيصلاً بينهما، حتى ولو حصل أنه تكرر خطأ من الزوج مرتين فطلق الطلقة الأولى بقيت الثالثة، فيحترز كل منهما؛ لأنه إذا أخطأ الزوج المرة الأولى، وأخطأ المرة الثانية حرصت المرأة على أسلوب أشد من حالها في الطلقة الثانية على أن تعامل زوجها وتحافظ عليه إذا كانت تريد هذا البيت. فإذا طلقها فلا يخلو إما أن يكون الطلاق -في الثلاث تطليقات- بسبب الزوج أو يكون بسبب الزوجة، أو يكون مشتركاً بينهما. فإن كان بسبب الزوج فإنه يكتوي بنار الغيرة حينما يحس أن زوجاً آخر قد استمتع بهذه الزوجة، وعندها يتألم ألماً شديداً، بحيث لو فكر أن يتزوج امرأة ثانية فإنه يخاف من الطلاق ويهاب. كذلك أيضاً جعل الشرط تحقيقاً لهذا المقصود، أنها لا تحل له حتى يطأها الزوج الثاني، وهذا أبلغ ما يكون تأثيراً وزجراً ومبالغة في دفع الأذية من الأزواج. فإذا ما نكحت الزوج الثاني -والشرع اشترط أن يدخل بها الزوج الثاني- تأثر الزوج الأول واكتوى بنار الغيرة، هذا إذا حرص وعرف قيمة زوجته الأولى. ثم الفرض الثاني: أن يكون الخطأ من الزوجة فإذا كانت الزوجة هي التي تستفز زوجها، وهي التي ألجأته إلى الطلقة الأولى أو الثانية، أو ألجأته إلى أغلب الطلاق، أو إلى الطلقة الأخيرة التي بسببها حصل الفراق، فإن الزوج لا يحل لها أن يراجعها حتى تنكح زوجاً غيره. وحينئذٍ فالغالب أنه لا يصبر وسيتزوج امرأة ثانية، أو يفكر في زواج الثانية، فتكتوي هي أيضاً بنار الغيرة، ولكنها لابد لحلها للزوج الأول من أن تتزوج الزوج الثاني، فإذا نكحت الثاني إما أن يكون الثاني أفضل من الأول فتحرص على عشرته على أحسن ما تكون الزوجة لزوجها. وإما أن يكون أسوأ من الأول، فتحرص على أن ترجع للأول، والشرع من كماله ووفائه راعى المعاني النفسية ولم يهدرها، ولذلك جاءت امرأة رفاعة حينما طلقها فبت طلاقها ونكحها عبد الرحمن بن الزبير؛ جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: إن ما معه مثل هدبة الثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته) . فاكتوت بنار الحرص على أن ترجع إلى زوجها الأول قبل أن ينكح غيرها؛ لأنها عرفت قيمة زوجها الأول. وهذا لا شك أنه من أكمل ما يكون، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وقوم يعقلون وقوم يتقون وقوم يؤمنون؟ فالله يحكم ولا معقب لحكمه. فمن حكمته سبحانه وتعالى أن شرع هذا الأمر، وهو أن تحل الزوجة المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول بشرط أن ينكحها زوج آخر. ولهذا النكاح شروط شرعية وأحكام ومسائل وتفصيلات يعتني العلماء رحمهم الله بذكرها، وهذا ما سيبينه رحمه الله في هذا الفصل. جاء القرآن باشتراط الزوج الثاني، وهذا الشرط محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وبناءً على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمن طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله. [إذا استوفى ما يملك من الطلاق] حراً كان أو عبداً على التفصيل المذكور عند العلماء، وقد تقدم بيان هذه المسألة وكلام العلماء رحمهم الله. [إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت] حكم بحرمة المرأة المطلقة، وهذا النوع من التحريم يوصف عند العلماء بالتحريم المؤقت؛ لأن تحريم المرأة ينقسم إلى قسمين: إما أن تحرم حرمة مؤبدة. وإما أن تحرم حرمة مؤقتة. فالحرمة المؤقتة من أمثلتها المطلقة ثلاثاً فإنها تحرم على الزوج الاول حتى تنكح زوجاً غيره، فأقتت باشتراط أن ينكحها زوج آخر، ومن التحريم المؤقت أن يكون عنده أربع نسوة، فلا تحل له الخامسة حتى يطلق واحدة من الأربع وتخرج من عدتها، ويسمى مانع العدد. ومن أمثلة الموانع المؤقتة مانع الرق ومانع الكفر مثل المجوسية قال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) . فالمرأة إذا كانت مجوسية والعياذ بالله فلا يحل للمسلم أن ينكحها، وهكذا إذا كانت وثنية أو مشركة أو ملحدة أو لا دين لها والعياذ بالله، هذه لا يحل نكاحها. فيعتبر وجود هذا الكفر مانعاً؛ لكنه مانع مؤقت بحيث لو أسلمت أو صارت كتابية حل نكاحها على التفصيل الذي تقدم معنا. الحرمة المؤبدة: مثل النكاح المحرم من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة، وقد تقدم بيان هذه الموانع وتفصيلها. قوله: [حرمت] أي: لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ} [البقرة:230] عند علماء الأصول أن من صيغ التحريم الصريح القوية نفي الحل عن الشيء، مثل قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52] ، {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} [البقرة:229] . هذه كلها تدل على تحريم الشيء، فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] نص في تحريم المطلقة على من طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره. صفات النكاح المعتبر في تحليل الزوج الثاني للمطلقة ثلاثاً [حتى يطأها زوج في قبل] إذاً يشترط أن يكون هناك نكاح، فلو وطأها والعياذ بالله بالزنا فإنه لا يحللها لزوجها الأول، بل يجب رجمها. وأما إذا كان وطؤها بين الحل والحرمة وهو الذي يسمى بوطء الشبهة، بأن ظنها زوجته فوطأها ثم تبين أنها أجنبية مطلقة من زوج ثلاثاً فلا تحل أيضاً، فوطء الشبهة والحرام لا يحلل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، بل يحللها الواطئ في نكاح صحيح. إذاً يشترط وجود النكاح وأن يحصل مع النكاح وطء، وأن يكون هذا الوطء على الصفة التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) . قال رحمه الله: [ولو مراهقا] (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، بعض العلماء يقول: لو وطأها مراهق وحصل به ما يحصل بالبالغ من الاستمتاع واللذة فإنه يحللها، ولا شك أن المراهق الصغير لا يحصل بمثله الاستمتاع وذوق العسيلة الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك قالوا: (ولو مراهقاً) لأن ما قارب الشيء يأخذ حكمه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) . فلو أن مراهقاً عقد على امرأة مطلقة ثلاثاً ودخل بها، وحصل منه الوطء فقالوا: إن هذا الوطء معتبر، فلو طلقها هذا المراهق حلت لزوجها الأول، ولو طلقت بعد بلوغه حلت لزوجها الأول ورجعت؛ لأن الوطء من المراهق يحصل به ذوق العسيلة. وأما إذا كان صغيراً فمثله لا يحصل به ذوق العسيلة على الوجه المعتبر. التحليل للمرأة المطلقة ثلاثاً له ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكون مقصوداً يراد به تحليل المرأة لزوجها الأول باتفاق من أهل الزوج والزوجة، فهذا حرام بالإجماع، وملعون من فعله، والإعانة عليه من الكبائر؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها عند طائفة من العلماء رحمهم الله لورود الوعيد الشديد فيه، ولما فيه من التحايل على شرع الله عز وجل، ومخالفة مقصوده. لأن مقصود الشرع والمقصود من الآيات الكريمة في اشتراط نكاح الزوج الثاني أن يتألم الزوج الأول، فإذا حصل ترتيب من أنه يدخل بها وبمجرد دخوله بها يطلقها، فحينئذٍ الزوج الأول لا يتألم ذلك الألم، ولا يتحقق المقصود شرعاً من اشتراط هذا الزوج. ولذلك كان وجود نكاح المحلل وعدمه على حد سواء، ونص طائفة من العلماء على أنه من كبائر الذنوب لورود اللعن فيه كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له. فالزوج الذي يحلل له يقول: يا فلان اذهب إلى فلانة وانكحها وحللها لي، وحتى إن بعضهم والعياذ بالله ربما يقول له: وأنا أدفع المهر، فليس لك إلا أن تحللها. ولربما والعياذ بالله اتفق معه على أن يأخذ عقداً صورياً وأنه لا يدخل بها، ثم يدعي أنه دخل بها وتدعي هي أنه أصابها، ثم ترجع إلى زوجها الأول. وهذا كله والعياذ بالله اعتداء لحدود الله عز وجل وتحليل لما حرم الله، وجرأة على محارم الله، نسأل الله السلامة والعافية. الصورة الثانية: أن يكون مقصود الشخص أن يحللها ولا يطلع الزوجين على ذلك، ولا أهل الزوجة على ذلك ويفعله، ففيه الخلاف، وشدد فيه طائفة من السلف، حتى أن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الله لا يخادع) جاءه رجل وقال له: إن عمي طلق زوجته ثلاثاً وأنا أريد أن أنكحها حتى أحلها له، فقال له رضي الله عنه: (ويحكم! إن الله لا يخادع) . يعني: أتخادع الله عز وجل؟ فإن الله لا يخادع سبحانه وتعالى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] نسأل الله السلامة والعافية، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] . فمن اجترأ على هذا الفعل أفتى ابن عباس رضي الله عنهما بأنه في حكم المحلل، وأنه اعتداء لحرمات الله عز وجل. وقال بعض العلماء: إذا لم يطلع أحد على ذلك وغيب ذلك في نيته فلا بأس ولا حرج، وفي الحقيقة الأصل في الظاهر قد يقتضي الحل بناءً على الظاهر، ولكن بالنظر إلى المعنى يقتضي التحريم، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمهم الله يقول: هذا النوع لا يفتى بحله ولا بحرمته زجراً للناس ومنعاً لهم عنه. لأنه ليس على السنن الوارد شرعاً، وليس بمخالف لكل وجه، ولذلك منعوا منه وقالوا: إنه يكون في هذه المرتبة فلا يفتى للناس بحله، ولا يفتى لهم بحرمته؛ لأن النية مغيبة، كما لو تزوج امرأة وفي نيته طلاقها. وأياً ما كان فإنا إذا نظرنا إلى معاني الشرع وجدنا أن الأصل يقتضي تحريم هذه الصورة، والسبب في هذا أن المعنى الذي أراده الشرع وهو زجر الزوج الأول، وحصول الرفق للمرأة بتغيير حياتها، فلربما وجدت الزوج الثاني أكرم من الأول، فانتظمت بيوت المسلمين، ووجدت كل زوجة ما يناسبها من الأزواج، واستقام النكاح على الوجه المعتبر. الصورة الثالثة من النكاح الذي يحصل به التحليل: أن يتزوج الرجل المرأة المطلقة ثلاثاً وفي نيته أنها إن كانت صالحة أمسكها، وإن كانت غير صالحة طلقها، ونكحها نكاحاً على السنن المعتبر شرعاً لا يقصد تحليلها للأول، ولم يدر بخلده ذلك، فهذا لا إشكال أنه معتبر شرعاً وأنه نكاح صحيح تنبني عليه الآثار الشرعية من حلها لزوجها الأول بشرط حصول الوطء. قال رحمه الله في بيانه للشروط التي ينبغي توفرها في هذا النكاح الثاني: [ويكفي تغييب الحشفة أو قدرها] فهذا شرط وطء الزوج الثاني للزوجة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فهذا نص في المطلقة ثلاثاً أنها لا تحل لزوجها الأول إلا إذا دخل بها الزوج الثاني. قوله: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أدب من رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه، حيث عبر بالألفاظ التي تتضمن المعاني مع مراعاة الأدب والحشمة والكمال في الخطاب فلم يصرح لها تصريحاً، ولا شك أن النساء كن على فطنة ومعرفة، واللسان العربي فيه أسرار عجيبة، ودلائل بليغة؛ ولذلك جعله الله لأفضل كتبه، وأفضل ما أنزل على عباده، تشريفاً لهذا اللسان وإكراماً له. ضابط الوطء المحلل للمطلقة ثلاثاً لزوجها الأول فقال لها: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) هذه الكلمة تنتظم شروطاً مهمة: أولاً: اشتراط الدخول؛ لأن المرأة قد عقد عليها زوجها الثاني، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحليلها لزوجها الأول حتى يدخل بها، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم على تفصيل. ثم لما قال: (حتى تذوقي عسيلته) دل على أنه لابد من الإصابة التي يتحقق بها الإيلاج والجماع المعتبر الذي يترتب على مثله ما يترتب من أحكام الشريعة. فبيّن رحمه الله أنه يشترط تغييب الحشفة في الفرج. فقال رحمه الله: [ويكفي تغييب الحشفة] الحشفة: هي رأس الذكر، ومعناه: هو الذي عبر عنه بمجاوزة الختان للختان. وتغييب رأس الذكر يترتب عليه من الأحكام الشرعية ما يقارب ثمانية أحكام ما بين العبادات والمعاملات، ومنها هذه المسألة، أنه إذا اشترط الوطء فلابد من تغييب الحشفة وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وسيأتي تفصيل ذلك أكثر في أحكام الجنايات والحدود في باب الزنا، فبيّن رحمه الله أنه لا بد من حصول الإيلاج. فلو أنه دخل بالمرأة وحصلت المباشرة دون إيلاج لم تحل، بل لابد من الجماع وأن يحصل إيلاج في الفرج فقال: [يكفي تغييب الحشفة] ، إذاً لا يشترط أن يكون الوطء بكامل الذكر وإنما يكفي أن يكون ببعضه. وصرح العلماء رحمهم الله بهذا تصريحاً واضحاً؛ لأن المسائل الشرعية في بعض الأحيان يكتفى فيها بألفاظ الكنايات، ويتأدب ويؤتى بها مخفية، لكن في تعليم العلم وشرحه وبيانه لا بد من التوضيح والتفصيل؛ لأنه ربما فهم أحد غير المراد. وحينئذٍ كان العلماء رحمهم الله والأئمة في مجالسهم يصرحون ويبينون حتى يفهم الناس، حتى يعذروا إلى الله عز وجل ببيان العلم وتوضيحه، ولا يقع الإنسان في لبس. فمن هنا قالوا: لابد كما صرح رحمه الله [ويكفي تغييب الحشفة] أي: لابد من حصول إيلاج رأس الذكر في فرج المرأة المطلقة ثلاثاً. فإذا حصل المسيس دون إيلاج من رأس العضو فإنها لا تحل، والدليل على اشتراط هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته) ولا يمكن أن يوصف بهذا الوصف إلا إذا حصل الجماع، ويكفي قدر الإجزاء وهو رأس الذكر، فلو حصل الإيلاج الكامل فهذا من باب أولى وأحرى. قوله: [أو قدرها] جمهور العلماء أن المسائل المترتبة على الحشفة وهي رأس الذكر، إذا كان الشخص مقطوع الحشفة فإنه ينظر إلى قدرها من المقطوع، فإذا أولج في فرج المرأة هذا القدر حلت لزوجها الأول. وأما إذا حصل الاستمتاع بما دونه ولو وضع الفرج على الفرج فإنه لا يوجب الغسل، ولا يحكم بالإحصان، ولا بثبوت المهر كاملاً؛ ولا تحل لمطلقها ثلاثاً، إلى غير ذلك من الأحكام المعتبرة، وهكذا الزنا لا يحكم بثبوت حده ما لم يحصل إيلاج رأس العضو أو قدره من مقطوع الحشفة. قال رحمه الله: [مع جب في فرجها مع انتشار] . (مع جب) أي: إذا كان مقطوع العضو وبقي منه شيء ينظر إلى القدر، فإذا كان هذا القدر المعتبر شرعاً والذي نص العلماء والأئمة على اعتباره موجوداً مثله مما بقي من العضو فإنه يكفي للحكم بالأحكام الشرعية التي ذكرناها، ومنها تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول. قوله: [مع انتشار] : أي: فإذا كان العضو غير منتشر أي: غير منتصب فإنه لا يحكم بحلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ولذلك يقول بعض العلماء: من بلاغة السنة أن الكلمة الواحدة والجملة الواحدة تتضمن من المسائل كثرة. فهو عليه الصلاة والسلام بهذه الكلمة الجامعة أفتى، وفرع العلماء الأبواب والمسائل فيقولون: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل، وله مرابط وأوصاف لا بد من تحققها حتى يحكم بكون المرأة قد حلت لزوجها الأول. ومن هنا قالوا باشتراط الانتشار، وهذا معنىً ظاهر من الحديث وواضح؛ فإنه إذا كان العضو غير منتشر فإن المرأة لا يتحقق فيها هذا الوصف من إصابة العسيلة. قال رحمه الله: [وإن لم ينزل] . أي: لا يشترط الإنزال، ومن هنا صح وطء المراهق، وأن المراهق إذا جامع المرأة المطلقة ثلاثاً حللها للأول. وقالوا: إنه لا يشترط الإنزال لأن الشرع رتب الحكم على ذوق العسيلة، وذوق العسيلة لا يشترط فيه ألا تزال، فالقدر المعتبر للإجزاء هو حصول الإيلاج، وأما الإنزال فإنه ليس بشرط. الأحوال التي لا يصح بها تحليل المرأة لزوجها الأول قال رحمه الله: [ولا تحل بوطء دبر] لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط ذوق العسيلة، والمراد به الوطء المعتبر شرعاً، فالوطء المحرم شرعاً وهو وطء الدبر الذي لا يحل للزوج ولا لغيره؛ فإنه لا يحصل به التحليل ولا يحكم به بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول. فلا تحل بوطء في غير المكان المعتبر، وهو مكان الحرث. [وشبهة] فلو أنها طلقت ثلاثاً ونكحها شخص نكاح الشبهة أو وطئها وطء شبهة، فإنها لا تحل بهذا الوطء لزوجها الأول. فلو أنها كانت نائمة مع امرأة ومعها زوجها، فجاء زوجها يظنها زوجته، أو أخطأ وجاء ووطئها يظنها زوجة له، فهذا الوطء وطء شبهة لا يوجب الحد كما سيأتي إن شاء الله، ولا يعتبر موجباً لحلها لزوجها الأول. والدليل على اشتراط أن يكون الوطء في نكاح صحيح قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ} [البقرة:230] فبيّن هذا الشرط وجوب النكاح، والنكاح حقيقة شرعية لابد من وجود نكاح معتبر شرعاً، ونكاح الشبهة ليس بنكاح معتبر شرعاً للتحليل. قال رحمه الله: [وملك يمين] وهكذا لو وطئت يملك يمين، فلو أنها كانت أمة وطلقها زوجها الرقيق واستوفى عدد التطليقات ورجعت لسيدها، ثم بعد أن استبرأها سيدها وطئها وطء ملك اليمين، فإنه في هذه الحالة لو أرادت أن ترجع إلى زوجها الأول لم تحل له، بل لابد أن تنكح، فإذا حصل نكاحها فإنه حينئذٍ تحل لزوجها الأول بشروطها المعتبرة. قال رحمه الله: [ونكاح فاسد] وهكذا إذا كان النكاح فاسداً، بأن طلقها ثلاثاً فنكحها رجل نكاح شغار أو نكاح متعة، فنكاح الشغار والمتعة نكاح فاسد شرعاً، فلا تحل بهذا النوع من النكاح لزوجها الأول. قال رحمه الله: [ولا في حيض] . أي: ولو أنه تزوجها الزوج الثاني فوطئها أثناء الحيض، ثم طلقها في الطهر، فإنه حينئذٍ لا يحكم بحلها لزوجها الأول. وهكذا لو وطئها في الحيض ثم مات عنها، وخرجت من حدادها وأراد زوجها الأول أن ينكحها نقول له: لا؛ لأن الوطء الذي حصل من الزوج الثاني حصل على غير الصورة المعتبرة شرعاً، ووطء الحيض والنفاس محرم شرعاً، والمحرم لا تترتب عليه الآثار الشرعية، فوجوده وعدمه على حد سواء. لأن الله عز وجل حرم الوطء في الحيض، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فالمراد به الذوق المأذون به والمعتبر شرعاً. فلما كان ذوقه لها في حال النقص وحال غير معتبرة شرعاً، كان وجوده وعدمه على حد سواء. قال رحمه الله: [ونفاس] أي: سواء كانت في حيض أو في نفاس، وقد تقدم أن الوطء لا يحل فيهما حتى تطهر وتغتسل. قال رحمه الله: [وإحرام وصيام فرض] أي: وهكذا لو كانت محرمة فقال بعض العلماء: إن الوطء في الإحرام محرم شرعاً، وكل وطء محرم شرعاً لا يوجب التحليل. لأن المراد بالوطء المشترط الوطء الذي أذن به الشرع، ووطء المحرمة لا يحل، فلو أنه عقد عليها قبل الإحرام، ثم أحرمت، ثم وطئها وهي محرمة، ثم مات عنها أو طلقها، فإنها لا تحل لزوجها الأول في قول طائفة من العلماء بهذا النوع من الوطء؛ لأنه محرم شرعاً، فوجوده وعدمه على حد سواء لا يوجب الحكم بتحقق الشرط المعتبر شرعاً. ادعاء المرأة أنها قد حلت لزوجها الأول بنكاح حال غيابها [ومن ادعت مطلقته المحرمة وقد غابت نكاح من أحلها، وانقضاء عدتها منه، فله نكاحها إن صدقها وأمكن] . امرأة طلقها زوجها ثلاثاً وغابت عنه، وقوله: [غابت] يقتضي أنها لو كانت حاضرة عنده في المدينة ويعرف أحوالها وأخبارها فلا إشكال. من المعلوم أن النكاح يشهر ولا يستر، ويعرف ولا يخبأ عادة؛ فإذا كانت موجودة ويطلع على أحوالها، ثم ادعت يوماً من الأيام بعد مرور أشهر قالت: أنا تزوجت ثم طلقني، فحينئذٍ يعرف أنها لم تتزوج ولم تطلق، ولم يحصل الأمر المعتبر شرعاً، وأنها تريد أن تحتال لرجوعها إليه، فحينئذٍ لا يجوز له أن يعمل بهذا لأنها تدعي شيئاً لمصلحتها. لأنه من مصلحتها أن تعود لزوجها الأول، ولربما طلقت المرأة فلم ينكحها أحد؛ لأن الغالب أن النساء المطلقات يحصل شيء من امتناع الأزواج منهن فتدعي شيئاً لمصلحتها. فإذا قالت: تزوجت ووطئت بالزواج، وحصل تحليل، وخرجت من عدتي، وكانت حاضرة ويعلم أخبارها فالظاهر أنها غير صادقة، والأصل بقاء ما كان على ما كان، أنها امرأة محرمة عليه، فلا ينبني على مثل هذا القول حكم ولا يعول عليه. لكن لو أنه طلقها ثلاثاً، ثم سافرت إلى بلدها وغابت عنه، أو سافر هو وانقطعت أخبارها وغابت عنه، أو كانت في موضع لا يتيسر له العلم بحالها أو معرفة صدقها من كذبها. فإنه في هذه الحالة إذا جاءت وادعت أنها نكحت، وأنه دخل بها الناكح ثم طلقها، فإن كان الزمان الذي ادعت ممكناً في مثله حصول النكاح وحصول الطلاق مع العدة، فإن له أن يعمل بقولها، ولا حرج عليه في ذلك. إذاً: يشترط أن يكون ذلك ممكناً. لكن لو أنه طلقها وخرجت من عدتها، وبعد أسبوع جاءت وقالت: والله تزوجت! فلا، لأنها لم تخرج من عدتها فلا يمكن؛ لأنها مازالت تابعة لزوجها الأول، لكن لو أنها خرجت من عدتها وادعت الإصابة بعد خروجها من عدتها، وجاءت بعد أسبوع فنقول: لا يمكن؛ لأنه لابد من حصول طلاق حتى تحل للزوج الأول وحصول العدة من الطلاق الصادر من الزوج الثاني. ففي هذه الحالة لا يصح دعواها لأنه غير ممكن، لأنه لابد من وجود العدة والاستبراء، وهذا لا يتحقق في هذه المدة الوجيزة، فحينئذٍ لا يقبل قولها ولا يعول عليه. فاشترط رحمه الله غيابها، بأن لا تكون شاهدة يمكنه أن يعرف حالها وأن يطلع على صدقها من كذبها. ثانياً: أن يكون ما ادعته ممكناً، أما إذا كان غير ممكن فإنها لا تعطى بدعواها ما ادعت، وعليه أن يبقى على الأصل من كونها محرمة عليه. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة الفرق بين الطلاق والوطء حال الحيض الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: مسألة الطلاق في الحيض قدرنا أن هناك ما يقرب من اثنتي عشرة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عمر وعن بعض أصحاب ابن عمر رضي الله عنهم الثقات، مثل سالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولاه، ومحمد بن سيرين وأنس بن سيرين ومن طريق خالد الحذاء. وهي روايات صحيحة ليس فيها إشكال، وأن ابن عمر نفسه كان يفتي أنها مطلقة وأن الطلاق قد وقع. وبينا أن هذا مذهب جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة، فإنهم يقولون بوقوع الطلاق والاعتداد به، فأوقعوا الطلاق بنص كتاب الله، فإن الله عز وجل نص على أن من طلق مضي عليه طلاقه، وهذا هو الأصل، فمن طلق في الحيض فقد طلق بكتاب الله عز وجل. فإن قال قائل: إن المرأة أثناء الحيض محرم عليه أن يطلقها، نقول: هذا مبتدع، والمبتدع يزجر بالعقوبة؛ لأنه حتى من جهة المعنى متفق على أنه يقع طلاقه، ومن جهة الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا يفتون بوقوع الطلاق. والحقيقة للمحدث العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة بحث من أنفس البحوث في هذه المسألة، في الجزء السابع من إرواء الغليل، تكلم كلاماً نفيساً جمع فيه الروايات، وهناك رواية عن حنظل بن أبي سفيان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها احتسبت طلقة. فنحن نطلق بالكتاب والسنة، فالطلاق في الحيض يقع بالكتاب والسنة. أما مسألة الجماع في الحيض، فالجماع في الحيض جماع ناقص، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] . فاشترط الشرع أن يوجد ذوق العسيلة، وذوق العسيلة لا يكون على وجه فيه ضرر: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222] . ومن إعجاز القرآن أنهم وجدوا أن الجماع في الحيض يورث التهاباً وأمراضاً في غدد البروستات وغيرها، وهذا من إعجاز القرآن ومن الحكم العظيمة، والأسرار التي أطلع الله عز وجل عليها العباد، ولم يعرفوها إلا الآن، وقد عرفها أئمة السلف من قرون عديدة. حتى إن بعض الباحثين من الكفار لما تبجح أنهم اكتشفوا ذلك قال له بعض الموفقين: هذا الذي عرفتموه اليوم كان يعرفه المسلمون منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً. كل هذا بفضل الله ثم بفضل هذا القرآن الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] . فالوطء أثناء الحيض أذىً، حتى إن الأطباء يثبتون أنه ضرر، فكيف تثبت الوصف الشرعي (حتى تذوقي عسيلته) ؟ فالوطء في الحيض لا يحصل به ذوق العسيلة على الوجه المعتبر، لأن المرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء وأصابها فإنه يؤذيها. حتى إن بعض الأطباء يستغرب من اشتراط كون المرأة لا تجامع في النفاس إلى الأربعين، وجدوا من ناحية طبية أنه يضر بالمرأة، ويؤذي جماعها، فكل هذه الأمور فيها أضرار. والوصف الذي اشترطه الشرع من كونه يذوق العسيلة وتذوق هي عسيلته غير موجود في حال الحيض وفي حال النفاس، حتى المرأة نفسها لا تذوق العسيلة على الوجه المعتبر، ومن هنا اختلف القياس. هذا الجواب الأول، فنقول: لا اعتراض؛ لأن تلك الصورتين كل صورة تخالف الصورة الثانية، فهنا يتحقق وصف الشرع بأنه مبتدع ووصف الشرع أنه يزجر، مع نص القرآن على أن طلاقه نافذ. أما رواية أبي الزبير (ولم يرها شيئاً) فهذه رواية محتملة؛ لأن رواية أبي الزبير ليست كالروايات الصريحة عن ابن عمر نفسه رضي الله عنه صاحب القصة، والذي هو أدرى بما رواه، وليس أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي رحمه الله بمنزلة نافع مولى ابن عمر ولا بمنزلة سالم بن عبد الله بن عمر في الضبط عن ابن عمر وهؤلاء الأئمة الأثبات في الرواية والضبط أدرى بروايتهم عن ابن عمر. ولو سلم أن أبا الزبير له مكانته في الحفظ والرواية، لكنه خالف من هو أوثق منه وأقوى منه رواية، ثم إن اللفظ الذي قاله: (ولم يرها شيئاً) معناه: لم يرها على السنة ولم يرها موافقة على السنة. فحينئذٍ يكون لفظه: (لم يرها شيئاً) محتملاً لأمرين: لم يرها طلاقاً، ولم يرها على السنة، والقاعدة أنه إذا روى الراوي وجاءت روايته معارضة لرواية الأكثر والأشهر، وعارضت الأصل، ولها معنىً يوافق الأشهر ويوافق الأصل، وجب صرفها لما هو موافق للأشهر والأصل. فنقول: (لم يرها شيئاً) أي: لم يرها شيئاً موافقاً للسنة، وهذا جواب الإمام الشافعي رحمه الله برحمته الواسعة، فإنه أجاب على رواية أبي الزبير من أنها ليست صريحة، إنما تكون صريحة ومعارضة حينما يقول ابن عمر: (احتسبت) ويفتي ابن عمر بالطلاق المحتسب فتأتي رواية: ولم يحتسبها طلاقاً. إذا قال: (لم يحتسبها طلاقاً) تعارض صريح مع صريح كما هو معروف في الأصول، لكن (لم يرها شيئاً) يحتمل أنه لم يرها شيئاً موافقاً للسنة، ويحتمل أنه لم يرها طلاقاً، هذا كله محتمل. فاللفظ ليس بصريح، والقاعدة (أنك لا تحكم بالتعارض في الروايات إلا بشيء صريح) حتى لا تضرب بعض النصوص ببعض، إذ الكل خارج من مشكاة واحدة، وشرع الله عز وجل إذا جاءنا بنقل الثقات لا شك أنه في الأصل مقبول غير مردود، وينبغي التسليم له والعمل به. ولذلك نقول: إن الحيض ألزمنا الطلاق به إعمالاً للأصل من أن المطلق ينفذ عليه طلاقه، وعملاً بالروايات التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعة كما في مسند عبد الله بن وهب رحمه الله وهي رواية صحيحة، واحتسبت الطلقة. وكذلك الروايات الموقوفة عن ابن عمر أفتى فيها بالطلاق، وإعمالاً لأصل الشرع، فإن المبتدع الأصل فيه أنه يزجر ويعاقب لا أنه يخفف عليه بأنها لا تقع طلقة. هذا ليس مقام عبادات يثاب عليه، الفقه أن تنظر إليه من أنه إنسان متعد لحدود الله؛ لأن الله لما ذكر الطلاق الشرعي في الطهر قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:230] . فبيّن أن الطلاق في الحيض اعتداء على حدود الله عز وجل، والمعتدي على حدود الله نعرف من أصول الشريعة أنه يزجر ويعاقب، هذا مبتدع الأشبه به أنه يزجر. ولذلك تجد من يطلق في الحيض ويجد من يخفف عنه ويقول له: لا ليس عليك شيء؛ يستخف بهذا الأمر، ولا يراه شيئاً. لكن لو قيل له: إن الطلاق ماضٍ عليك وإنك ابتدعت واعتديت على حدود الله عز وجل؛ فإنه يكون أبلغ في تحقيق مقصود الشرع. وأما بالنسبة لجماع المطلقة ثلاثاً في الحيض فإنه ليس بالجماع المأذون به شرعاً حتى نرتب عليه الأحكام الشرعية. وقد اشترط الله عز وجل جماعاً مأذوناً على السنن الشرعي، فنقول: لا يتحقق به الحل على القول الذي اختاره المنصف رحمه الله. والله تعالى أعلم. حرمة نكاح الرجل المرأة لقصد التحليل تصريحاً أو ضمناً السؤال لو طرأت نية الطلاق بالتحليل للزوج الأول بعد أن كان الزوج الثاني على غير علم بأن الزوجة تريد زوجها الأول أو هو يريدها، فهل لو طرأت عليه هذه النية يجوز أن يطلقها؟ الجواب الزوجة إذا أرادت أن ترجع أو تزوجت ووطئها الثاني، أو عقد عليها وأحبت الرجوع إلى الأول، هذا لا حرج عليها فيه، يعني: من حيث الأصل لا تلام. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على امرأة رفاعة لما جاءت تشتكي عبد الرحمن وقالت: يا رسول الله! إن معه كهدبة الثوب، وكان معه طفل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قال: ابني. فعلم أنها تدعي شيئاً ليس بالصحيح؛ لأنه لو كان الأمر مثلما ذكرت ما حصل له ولد من الزوجة الأولى التي قبل هذه الزوجة المطلقة ثلاثاً. ففطن عليه الصلاة والسلام إلى أنها اختارت زوجها الأول إما لعشرة وإما لأمور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته) فهذا حكم بيّن أنها فعلاً تريد الرجوع إلى رفاعة، ثم هي أقرت وسكتت. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أورع الخلق وأكملهم أدباً وأبعدهم عن اتهام الناس ليس بمعقول أن يقول لها: (تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟) بالباطل والزور، حاشاه! بل ذكر لها أنها تريد أن ترجع إلى رفاعة بدليل وحجة، وهي سكتت وأقرت، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن من طلقها ثلاثاً حتى لو طلقها زوجها اليوم، وحنت إليه ورغبت أن تعود إليه فلا بأس، هذا مقصود الشرع؛ لكن الذي يحلل وينكح لا يجوز له أن ينكح بقصد أن يحللها للأول. هناك فرق بين الاثنين، وهي بالعكس فحينما تحن لزوجها الأول فمن المصلحة أن تعود إليه، ولربما كان الزوج الثاني أسوأ، ولربما كان ظالماً مؤذياً، ومقصود الشرع أن تعرف النعمة التي كانت فيها، ولذلك كان الحكماء يحدثون عن الرجل العاقل الذي يريد زوجة أنه يقول: اطلبوا لي امرأة أدبها الدهر. اطلبوا لي امرأة أصابت النعمة ثم أدبها الدهر، فعندما تكون في نعمة وتزول عنها، وتعظها الأيام والسنون، وتجد الشدة والحاجة، تعرف قيمة النعمة. فإذا تزوجها أحد بعد ذلك عادت من أعقل النساء، وأعرفهن بالأمور، ومن هنا عندما تطلق ثلاثاً وتحن إلى زوجها الأول، فإنه قد عضها وآلمها ما وجدت من فراق النعمة، فهذا لا تلام عليه، فانظر حكمة الشريعة التي لم تلم المرأة ولكن لامت الرجل. فهناك فرق بين الرجل وبين المرأة، فالرجل لا ينكح بقصد التحليل لا صراحة ولا ضمناً على التفصيل الذي ذكرناه. والله تعالى أعلم. حكم وطء العنين في تحليل المرأة للزوج الأول السؤال إذا كان الزوج الثاني عنيناً فكيف تذوق المرأة عسيلته ويذوق عسيلتها؟ الجواب العنين له حكم، وتقدم معنا قضاء الصحابة رضوان الله عليهم فيه، وقضاء الفاروق رضي الله عنه أنه يمهل سنة حتى يطأ، فإذا حصل الوطء خلال السنة ولو مرة واحدة فإنه يحصل به التحليل للأول. وأما قبل الوطء فإنها لا تحل لزوجها الأول بهذا النكاح، فإن شاءت صبرت معه، وإن شاءت عوضها الله غيره. والله تعالى أعلم. حكم من أوتر بركعة ثم سها فقام للثانية السؤال إذا أوتر شخص بواحدة فسها وقام إلى الثانية، فهل يسجد للسهو أم يجعلها شفعاً ويوتر بواحدة، لأن الوتر مرتبط بعدد الفرد؟ الجواب هذه المسألة للعلماء فيها تفصيل، ولها نظائر، فمن أمثلتها أيضاً أن تصلي بالليل ركعتين ركعتين وفجأة قمت إلى الثالثة فهل ترجع وتجلس وتسجد للسهو وتلغي الزيادة، أو تستمر فيها وتضيف ركعة فتشفعها؟ هذه فيها وجهان للعلماء: بعض العلماء يقولون: الإعمال أولى من الإهمال، فما دام أنك تكسب الأجر والخير أكثر فتضيف هذه الركعة وتزيدها وتصبح الثنائية رباعية. وهكذا لو صليت أربعاً ثم قمت إلى الخامسة قالوا: تضيف سادسة، وإذا صليت سبعاً تضيف ثامنة، فهذا بعض العلماء يستحبه. لكن في مسألة الوتر كان بعض مشايخنا رحمه الله يقول: إنه إذا قام إلى الوتر وأوتر فإنه لا يعرف في الشرع ركعتان يدعى بعد الأولى منهما، فإذا كان قد قنت ودعا بعد الركعة الأولى في وتره، فإنه الأشبه به أن يجلس مباشرة وأن يسجد سجود السهو؛ لأن الشريعة لم تجعل صلاة ركعتين يكون الدعاء في الأولى منهما، وإنما الدعاء في الشفعية بعد الركوع الثاني كما في قنوت الفجر ونحو ذلك مما ورد به الشرع. إلا أن الأولين ردوا وقالوا: إن هذا الدعاء فعله لإذن شرعي، كما لو أنه جلس للتشهد الأول ثم قام وتذكر أنه يصلي شفعاً فإنه يكون معذوراً بجلوسه، وهنا كان معذوراً لنيته الوتر. لكن الأشبه والأولى أنه يصليها وتراً وينقض هذه الزيادة، وإن أتمها ركعتين فلا حرج على ما ذكرناه في اختيار بعض العلماء رحمهم الله؛ لأن الأجر أكمل له وأعظم، ولذلك يقولون: إن الثانية تنقض وتره الأول. والله تعالى أعلم. حكم دخول المأموم مع إمام يصلي العشاء بنية المغرب والعكس السؤال دخلت المسجد ولم أصل المغرب فانتظرت الإمام حتى قام للثانية من صلاة العشاء، ثم دخلت معه، وذلك من أجل عدم الاختلاف عليه، فما الحكم؟ الجواب فعلت هذا من أجل أن تجتنب المخالفة ووقعت في مخالفة ثانية، فأنت إذا دخلت المسجد فأنت مأمور بأن تدخل مع الإمام (إنما جعل الإمام ليؤتم به) . فلا يجوز للمسلم إذا دخل المسجد أن ينفرد عن الجماعة، ولو أدركت الإمام قبل السلام بلحظة، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فما أدركتم فصلوا) فبيّن صلى الله عليه وسلم أن كل من أدرك جماعة تصلي في المسجد أنه لا يجوز له أن يشذ عنها وينتظر. وأما مذهب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وبعض أهل الرأي فإنهم يقولون: إنه ينتظر إذا كان قبل السلام بلحظة حتى يحدث جماعة ثانية، وهذا اجتهاد مع النص. النص يقول: (فما أدركتم فصلوا) ومعروف أن (أدركتم) لم يفرق فيه بين إدراك قليل أو كثير؛ لأن الإنسان يعتبر مدركاً للجماعة الأولى ولو قبل السلام بلحظة، فما دام أنه كبر قبل تسليم الإمام، فعندنا نص صحيح يدل على أنك إذا دخلت المسجد والإمام في جماعة فواجب عليك أن تتبع جماعة المسلمين. والإسلام يحارب الشذوذ خاصة في العبادات، ولذلك شرع الله صلاة الجماعة وأمر بها، ووضع عليها الفضائل والعواقب الحميدة تحقيقاً لجماعة المسلمين، وأمر من حضر هذه الجماعة أن يركع لركوع الإمام، ويسجد لسجوده، وألا يختلف على الإمام. فكما أن الاختلاف يكون داخل الصلاة -كما ذكر العلماء- كذلك يكون الاختلاف والشذوذ قبل الصلاة، فتجد الإمام ساجداً وتجده الرجل واقفاً ينتظر أن يرفع الإمام رأسه، وهذا خلاف السنة وشذوذ عن الجماعة؛ لأنه لو سجد لرفع الله درجته، وكفر خطيئته وأعظم أجره، وأجزل مثوبته. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فأي حالة أدركتمونا عليها فصلوا) أي: على أي حال وجدتمونا فصلوا معنا. فلا يجوز الشذوذ عن الجماعة والخروج عنها، هذا مبدأ إسلامي، ولذلك لما صلى عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين ورأى رجلاً لم يصل قال: (ما منعك أن تصلي في القوم؟) وفي حديث أنه قال: (ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟) . فدل على تشديد الشرع في متابعة الجماعة، فكما أن المتابعة تكون أثناء الصلاة تكون كذلك قبل الصلاة، فإذا كنت في داخل المسجد وجب عليك أن تتبع الإمام وأن تدخل معه، حتى ولو أنك صليت في مسجدك وفي حيك وفي بيتك لزمك أن تدخل مع الجماعة (فإذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا) . فنهى الشذوذ عن الجماعة وأمر بإعادة الصلاة مرة ثانية، تحقيقاً للأصل الذي ذكرناه. وإذا ثبت هذا فإذا دخلت والإمام في صلاة العشاء فعليك تدخل وراءه، وإن كنت لم تصل المغرب، فإن جمهور العلماء رحمهم الله على أنك تصلي وراءه نافلة، ولا يجوز إيقاع صلاة المغرب وراء العشاء؛ لأنها مخالفة لشرع الله عز وجل، فالرباعية لا تؤدى وراء الثلاثية والثلاثية لا تؤدى وراء الرباعية. والاختلاف واضح، ولو أنك أدركت الركعتين الأخريين فإن الأصل في صلاة المغرب أن تدرك إماماً في ركعتين أوليين أن يجهر لك بقراءتهما. ولذلك تدخل وراءه بنية النافلة؛ لأنه لا يصح أن تصليها عشاءً لأنك لم تبرئ ذمتك من المغرب، ولا يصح أن تصليها مغرباً؛ لأنك لا تصليها على الصورة المعتبرة شرعاً، ولا تؤديها على السنة. وأما اجتهاد بعض العلماء في هذه المسألة ونظائرها قالوا: إذا صلى المغرب وراء العشاء يجلس بعد الركعة الثالثة، وهذا قول شاذ لأنهم قاسوه على صلاة الخوف، وهذا قياس ضعيف؛ لأن القاعدة في الأصول (أن ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس) . وصلاة الخوف صلاة ضرورة جاءت بصورة خاصة، والقياس في التعبديات ضعيف، فجاءت على هذه السنن وهذه الصورة، فلا ينقاس غيرها عليها، وقد نبه الأئمة على ضعف هذا، حتى إن الشافعية عندهم هذا الوجه، نبه الإمام النووي في روضة الطالبين وغيره على ضعفه، وعدم الاعتداد به. ومن هنا نقول: إن من أدرك الإمام يصلي العشاء ولم يكن صلى المغرب فإنه يدخل وراءه بنية النافلة، ودخوله وراءه بنية النافلة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدخول مع الجماعة. فلا يصح أن نصليها مغرباً لاختلاف صورة الصلاة، ولا يصح أن نصليها عشاءً لأن الذمة لم تبرأ من المغرب، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] فلا يصح أن يصلي العشاء قبل أن تبرأ ذمته من المغرب. وإذا ثبت هذا فإنه يصح ما ذكرناه من مذهب جمهور العلماء أنك تصلي نافلة، ثم تقيم وتصلي المغرب، ثم تصلي العشاء، وفائدة هذا أن الله يأجرك عن الثلاث الصلوات اتباعاً للسنة، واتباعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة مع الجماعة، وتؤجر عن صلاة فرضك في المغرب والعشاء. أما لو كانت صورة الصلاتين متحدة كأن تدخل والإمام يصلي العصر وأنت لم تصل الظهر، فيجوز أن تصلي الظهر وراء العصر، فحينئذٍ تكبر وتنوي وراء الإمام الظهر، فإذا سلم الإمام أقمت وصليت العصر أو تدخل مع جماعة ثانية تصلي العصر، ولا بأس؛ لأن صورة الصلاتين متحدة على أصح قولي العلماء. والله تعالى أعلم. التورك يكون في التشهد الثاني من كل صلاة فيها تشهدان السؤال إذا قصر المسافر الصلاة فهل يشرع له التورك، أم أن التورك خاص بالصلاة الرباعية؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: يشرع التورك في جميع الركعات، ومنهم من قال: يشرع التورك في كل تشهد بعده سلام، ومنهم من قال: لا يشرع التورك في الثنائية، وإنما يتورك في الرباعية والثلاثية. ومن هنا يقولون: لا يتورك إلا في التشهد الثاني والأخير، لحديث أبي حُميد وأظن هذا هو أقوى الأقوال وأقربها إن شاء الله للسنة. ولكن لو تورك أحد فله وجه من السنة ولا ينكر عليه، وهو قول طائفة من العلماء وبعض أئمة السلف رحمهم الله أن التورك مشروع في الثنائية، ومنهم من يقول: يسن التورك مطلقاً كما هو مذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين. فهذه مسائل لا ينكر على أحد فيها، وأنبه على أن المسائل الخلافية كالصلوات ونحوها إذا كان هناك نصوص محتملة وترجح عند إنسان أو عند شيخه الذي يعمل بقوله قولاً، فلا ينبغي له أن ينكر على غيره. إنما يقول: هذا الأقوى وهذا الأقرب إلى السنة، فإذا عمل بالقول الآخر الذي قال به أئمة السلف ودواوين العلم؛ فإنه لا ينكر عليه، ولا يثرب عليه؛ تأسياً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح كما ذكر العلماء والأئمة، أنه لا إنكار في الفروع المختلف فيها ما دام أن الأدلة تحتملها، وهذا من شرع الله عز وجل؛ لأنه يحتمل أن يكون الصواب والحق معه. وذلك لأن النصوص إذا وردت محتملة فإنه إذن من الله عز وجل بالخلاف؛ فإن أصاب المصيب كتب الله له أجران وهو صاحب السنة والحق، وإن أخطأ من أخطأ بعد اجتهاد وتعاطٍ للسبب كتب الله له الأجر الواحد. والله تعالى أعلم. نصيحة لطلاب العلم في استغلال أوقاتهم وجدولتها السؤال كيف يجدول طالب العلم وقته، وذلك بالنسبة للمراجعة والضبط والتحضير للدرس، والاستفادة من أهل العلم خصوصاً إذا أراد أن يجمع إلى ذلك تلاوة للقرآن وقياماً لليل؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلا شك أن من أعظم نعم الله عز وجل على العبد بعد الهداية نعمة العلم إذا صحب بالعمل والدعوة إلى الله عز وجل، وكمل الله نعمته على العبد بالقبول. فمن جمع الله له بين الهداية والعلم النافع والعمل والتطبيق والدلالة على الخير، والحرص على نفع الأمة وتعليم المسلمين وإرشادهم، حتى يجعله الله إماماً من أئمة الدين، ثم يكمل الله له بالقبول ويزيده فضلاً بالثبات حتى يختم له بخاتمة السعداء فليس هناك عبد بعد الأنبياء أسعد من هذا العبد. هذه هي النعمة العظيمة، والمنة الجليلة الكريمة، نعمة العلم والعمل مع القبول والإخلاص والثبات وحسن الخاتمة، نسأل الله بعزته وجلاله وكماله أن يرزقنا ذلك، وأن يبارك لنا في علمنا وعملنا. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد صلاة الفجر كما صح عنه عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً) . فكان يستفتح يومه بسؤال الله عز وجل أن يجعله من أهل العلم، وأن يزيده علماً، فإذا كان الإنسان في إجازة أو فراغ، فنسأل الله عز وجل أن يبارك له في هذا الفراغ. والعاقل الحكيم يعلم أن أعظم ما تنفق فيه الأعمار، ويمضى فيه الليل والنهار، الاشتغال بكتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما بني عليهما من الأحكام الشرعية المتعلقة بأصول الدين من العقيدة، أو متعلقة بفروع الدين من أحكام العبادات والمعاملات التي تحتاجها الأمة، فسد ثغور الإسلام في هذا لاشك أنه من أعظم النعم التي يوفق الله لها وليه الصالح. والعبد لا يكون صالحاً إلا إذا أصلح الله له قوله وعمله، ولا يصلح القول والعمل إلا بعلم وبصيرة، على كل حال طالب العلم لا يمكن أن يبارك له في طلبه للعلم إلا إذا عرف قيمة العلم الذي يطلبه، وقيمة العلم الذي يريده، وأنت طالب علم كلما سمعت كلمة أو حرفاً من العلم فأنت طالب علم. فإن شئت فاستزد، وإن شئت فاستقل، والسعيد من استزاد من رحمة الله عز وجل، فأنت طالب علم ما طلبت كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما بني عليهما، فتحرص كل الحرص على معرفة قيمة هذا العلم، ومن عرف قيمة العلم عظّمه، وأحبه وأحب أهله، ووقرهم وأجلهم وعرف قيمة كل كلمة وكل حرف. ولذلك تجد طلاب العلم على مراتب، منهم من يطلب العلم وهو يعرف قيمة العلماء ولكن على نقص، فلا يعرف قيمة العلماء من السلف الصالح والأئمة المتقدمين ولا المتأخرين. وتجده يأخذ العلم بعضاً، وهم أنصاف طلاب العلم الذين يأخذون بعض العلم، فإذا تعلم الكلمة والكلمتين تطاول بها على الناس، ولربما خطأ ولربما فاجترأ على العلم قبل أن يتمكن وقبل أن يحصل، فهذا تجده يعظم العلم بقدر ما أخذ من العلم فتجد تعظيمه ناقصاً، حتى إنه لربما يجلس المجلس يتتبع الزلة والخطأ، فتجده يبحث عن الخطأ أكثر من بحثه عن النفع، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا ولو كان فيه نوع من الخير لكنه لا يأمن من مكر الله عز وجل به، ومن أراد أن يجرب ذلك فليجربه. فسنن الله لا تتبدل ولا تتحول، فإن الله عليم حكيم، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته في الأنبياء والرسل، فهو أعلم كيف يجعل العلم ونوره آيات بينات: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلم} [العنكبوت:49] . من الذي آتى أهل العلم العلم؟ الله عز وجل، لا يستطيع أحد أن يطلب العلم إلا إذا عرف قدر العلماء خاصة من أئمة السلف ودواوين العلم، وتأدب الأدب الكامل معهم. سواء كانوا علماء في التفسير أو الحديث أو الفقه، نتأدب معهم ونعرف قدرهم، ومن عرف قدرهم ومكانتهم أحب العلم منهم، ولذلك كان علماء الأئمة والسلف يتأدبون مع مشايخهم، حتى قال بعض المحدثين رحمهم الله لشيخ: أعطني لسانك الذي رويت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله. لما عرف قيمة السنة أجل كل شيء، حتى إنه يريد أن يقبل لسانه إكراماً لهذا العلم وإجلالاً له، فالمقصود أن الإنسان الذي يعرف قيمة العلم، ويعرف قيمة من يأخذ عنه العلم، وعرف ما وضع الله عز وجل في صدور أهل العلم من أئمة السلف، ودواوين العلم الذين زكاهم الله لهذه الأمة، وجعلهم أئمة صالحين هداة مهتدين، يقولون بالحق وبه يعدلون، ووضع لهم القبول بين الناس يحبونهم كمال المحبة لله وفي الله، وتعظيماً لشعائر الله. فإذا أحب السنة انحرف على كل كلمة ما وافقت شرع الله، فعند معرفته بقيمة السنة والعلم بها، يعطيه الله عز وجل النور الذي يهتدي به بهدي الكتاب والسنة؛ لأن هؤلاء العلماء ما وضعتهم الأمة في هذه المكانة وهذه المنزلة إلا بعد أن عرفت منهم العلم والعمل. إذا عرف قيمة العلماء حرص على أخذ هذا العلم عن أهله، وعرف قيمة كل كلمة في العلم؛ فسهر ليله، وأضنى جسده، وتلذذ بهذا السهر، وتلذذ بهذا التعب، فيا لله من طالب علم يحس أن ذلة العلم عزة، وأن مهانته كرامة، وأن تعبه راحة. ولذلك تجد أئمة السلف رحمهم الله كانوا يسافرون ويتغربون، ويجتهدون ويتعبون، فانظر إلى آثار رحمة الله عز وجل عليهم حينما وضع الله لهم الدعوات الصالحة لمن جاء بعدهم من الذكر الحسن، وأحسن لهم المآل، الله أعلم كيف ختم لهم بخاتمة السعداء؟ وكيف يتقلبون الآن في منازل العلى من جنات عدن؟! وهذا من رحمة الله عز وجل وبركته سبحانه عليهم بفضله أولاً وآخراً، ثم بما وضع لهم من هذا العلم الذي هو سبب كل رحمة وكل خير وبركة. فطالب العلم الذي يعرف قيمة العلم يحرص عليه، ولذلك إذا كانت عندنا هذه المعرفة، وكان عندنا هذا المبدأ، حرصنا على كل دقيقة من العطلة وكل ثانية قد تستنفذ في هذا العلم، ولكن يعلم كل طالب علم أنه يعتري كل ذلك عقبات ومخذلات ومنغصات ومكدرات وهجنة ونكد، ولكن إن صبر رفع الله منزلته، وأعظم أجره، وأجزل مثوبته، فيصبر ويصابر. فإذا جئت تطلب العلم تجد عقبات بينك وبين السلف وبين العلماء وبين الأئمة، حتى لربما وجدت أشياء يصعب عليك فهمها من كلامهم، فتصبر وتصابر، وترابط حتى يفتح الله عليك. مما وجدنا من سنن الله عز وجل ورحمته وعظيم فضله أننا كنا نقرأ بعض الكتب ونجلس عند بعض العلماء ما نفقه منه إلا القليل، وبفضل الله أولاً وآخراً -لا بحولنا ولا بذكائنا ولا بقوتنا ونبرأ إلى الله من الحول والقوة- ما مضت إلا أسابيع، بل بعض الأحيان أيام وإذا بذلك الأمر المعقد الصعب أصبح ألذ في قلوبنا وفي نفوسنا وفي أرواحنا من الطعام والشراب. وأقسم بالله أن بعض طلبة العلم ما كان يجلس على طعامه لغداء وعشاء إلا وكتابه مفتوح، ومنهم من كان لا يدخل حتى دورة المياه إلا ويفتح مسجلاً يذكره بالعلم من حرصه. حتى كان بعض أئمة السلف كما جاء عن أبي حاتم البستي كان إذا دخل الخلاء أمر ابنه يقرأ الروايات كلها حتى لا تذهب عليه ساعة أو لحظة أو دقيقة دون أن يكون هناك اتصال بهذا العلم. فالذي يريد أن يبارك في وقته وجده وتحصيله فليعرف قيمة هذا العلم، فإذا عرفت قيمة هذا العلم فتح الله لك أبواب الرحمة؛ لأن تعظيم شعائر الله مظنة التوفيق والبركة، ولذلك لما ذهبت كرامة العلماء ومكانتهم ومنزلتهم، وسب الخلف السلف وانتقصوهم، وأصبحت مكانة العلماء لا شيء؛ حتى إنك لتسمع الآن العالم يريد أن يفتي في مسألة فمن معقب وناقد ومن مداخلة! متى كنا نسمع أن العالم عنده مداخلة أو إضافة أو زيادة؟ ما تربت الأمة على هذا، ولا عرفت الأمة هذه الأساليب التي تنقص من مكانة العلماء، حتى أصبح يتكلم في العلم من لا يحصى كثرة ويقول: عندي مشاركة، وكل يشارك وكل يتكلم، حتى ذهبت كرامة العلماء، وأصبح العالم كغيره، حتى إنك تسمع الكلام المعسول من الرجل اللبق البليغ ولكن لا تجد نور العلم، ولا بهاءه عليه، ولن تجده حتى تطلبه من أهله، وتأخذه من مكانه، ممن ورث العلم وأخذه بحقه، فهذا هو الذي بورك له في علمه، المقصود أن طالب العلم إذا عرف قدر العلم فتح الله عليه وبارك له في وقته وعمره، وكل ما يعانيه، وأكثر ما يعاني طلاب العلم اليوم بل الناس جميعاً، من الجهل بقدر العلم والعلماء. ومما يدلك على جهل كثير من الناس بقدر العلم والعلماء أن العلماء في انتقاص والجهال في ازدياد، وكل زمان يذهب من الأمة عالم لن تجد من يسد ثغرته إلا من رحم الله؛ لأنه لو كانت الأمة تعرف قيمة هذا العلم ما مات عالم إلا وخلف وراءه أمة ممن هم مثله ممن يأخذ عنهم العلم. والسبب في هذا أن الكثير ممن يجلس مع العلماء لا يلبث أن يتعلم بعض العلم حتى يخرج، ويذهب لكي يدعو ويعلم وينسى ضبط العلم كاملاً، فيموت العالم وقلَّ أن تجد من ضبط العلم ضبطاً كاملاً، لأننا ما عرفنا قدر العلم على التمام والكمال، ولو عرفنا قدر العلم على التمام والكمال للزمنا حلق العلماء والعلماء حتى تشيب رءوسنا، ونعلم بقدر ما عندنا، حتى إذا توفاهم الله عز وجل وجدت أمثالهم ممن سار على نهجهم وتأدب بآدابهم. فالحث على طلب العلم، وعلى معرفة قدر العلم، وطول الزمان في هذا العلم، وعدم التصدر للناس في الفتوى، وعدم أخذ العلم ممن ليس بأهله؛ هذا كله مما يعين على ضبط العلم وإتقانه وأخذه من أهله. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وأن يجبر كسر هذه الأمة في ذهاب علمائها، ونسأله بعزته وجلاله أن يبارك في العلماء الباقين، وأن يبارك في أعمارهم وأوقاتهم، وأن يفتح على طلاب العلم لمحبتهم ومعونتهم على طاعة الله عز وجل ومحبته ومرضاته، وأن يجمعنا بهم في جنات عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. |
الساعة الآن : 11:34 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour