رد: الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها
الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (الخصوصية) المجتمع العربي جزء من المجتمع الكبير جدًّا يتأثر فيه ومنه، وهو يؤثر فيه كذلك، بحكم هذه الخصوصية التي يصر المجتمع العربي على التوكيد عليها، رغم محاولات التنصل من هذا التوجه، بل والملل من ترديده. رغم ما قد يقال: إنها ليست خصوصية يتفرد بها المجتمع بقدر ما هي قاسم مشترك لجميع من يحملون هَمَّ هذه الخصوصية، وهذا صحيح، فإن المجتمع العربي يمثل هذه الخصوصية في هذا الزمن أصدق تمثيل، إذا ما قورن بالمجتمعات الأخرى،وهذا سر من أسرار تأثير هذا المجتمع الصغير على المجتمع الكبير جدًّا[1]. وهناك تخوُّف من تأثر المجتمع العربي بالمجتمعات الأخرى، لا سيما تلك التي تسلمت زمام الحضارة والنهضة وسارت به إلى درجات متقدمة جدًّا من العلم والنماء جعلته يخرج من محيط الأرض،والتخوف يأتي من الخشية من أن يكون التأثر على حساب المبادئ التي يؤكد عليها فعلًا وقولًا، وتبني ثقافة بديلة تهتم بالدنيا على حساب الآخرة[2]. حيث إن هذا المجتمع يرغب في النهوض، مثله في ذلك مثل غيره من المجتمعات، وحيث توافرت مقومات النهوض المادية والبشرية، أراد أن ينهل من علم المادة، فلم يكن أمامه إلا أن يطرق المدن الجامعية المتقدمة علمًا وبحثًا،فذهبت مجموعة كبيرة من أبناء المجتمع إلى معقل الحضارة والعلم في أوروبا وأمريكا وروسيا، ونالت من هناك المؤهلات العلمية العالمية في شتى فنون المعرفة، حتى بعض فروع العلوم الإنسانية أخذت من هناك،وهنا يبدأ التأثر والتأثير، إلا أن الوفود الأولى في معظمها اكتفت بالتأثر أكثر من التأثير، الذي لم يتضح بصورة تدعو إلى الفخر إلا في السبعينيات الهجرية/ الخمسينيات الميلادية عندما كثرت الوفود، وبدأت بوادر الثقة بالذات وبالمبادئ تبرز بصورة أكثر وضوحًا،وقد سبق الحديث عن هذا الجانب في المحدد ذي العلاقة بالبعثات[3]. ذهبت الدفعات الأولى وفي مخيلتها أنها ذاهبة لمجتمعات مثالية في التعامل مع الحياة، من حيث احترامها للنظام وبُعدها عن كل ما من شأنه أن يسيء إلى مجتمع متحضر من الجوانب السياسية والاجتماعية والعلاقات الإنسانية،فأصبحت هذه الدفعات الأولى ترى من أي تصرف في هذه المجتمعات الناهضة مثالًا ينبغي أن يحتذى ويطبق في المجتمعات الأخرى رغم الاختلاف في البيئة وفي الخلفية وفي المنطلق وفي الثقافة وطريقة التفكير. المثال يقتضي أن يقاس عليه كل تصرف أو سلوك، فما طابقه فهو الصحيح، وما خالفه فإنه خطأ ينبغي التخلص منه؛ ولذا تجد أن البعض منا ممن عاش في الغرب يضرب دائمًا لك الأمثال بأن القوم هناك يفعلون هذا ولا يفعلون ذاك، وبأن النظام (القانون) والنظام العام هناك يسمح بكذا ولا يسمح بكذا،وإذا ما برز تصرف هنا ذهب الخاطر إلى هناك، فإن وجد له هناك مثل قُبِلَ، وإن لم يكن له هناك مثل اعتبر خطوة إلى الوراء؛ ذلك أن القوم هناك لم يوجد لديهم ما يقرب من التصرف الخاضع للقياس. سواء صرح بعض العائدين بهذا أم لم يصرحوا به، فهو الغالب في الذهن،ومسألة التأثر واردة على أي حال؛ لأن أي مجتمع لا يملك أن يعزل نفسه عن المجتمعات الأخرى، ولا يمكن أن يَعُدَّ نفسه مؤثرًا غير متأثر، مهما زعم هذا المجتمع أنه يملك كل شيء،وعليه، فإنه لا حجة لمن يرفض التأثر بالمجتمع الآخر، بحجة أنه يخالف مجتمعنا في المبادئ والخلفيات والمنطلقات والثقافة وطريقة التفكير. ولعل هذه الفئة الرافضة للتأثر جاءت مصاحبة للفئة التي أرادت الانغماس في الآخر، أي التأثر المطلق في المثال القدوة الذي ما يزال يردد أنهم هناك يعملون هذا ولا يعملون ذاك، فإذا عملوه فلا شيء فيه، وإذا لم يعملوه ففيه شيء، وقبل أن يصدر الحكم على تصرف أو سلوك يقاس بما يعملونه؛ ليكون فيه شيء أو لا شيء فيه! ومن هنا برزت إزاء هذا التوجه مواقف ثلاثة: الموقف الأول: موقف المتأثر تأثرًا مطلقًا، ويرى مثالية ذلك المجتمع، وضرورة كونه قدوةً في مجالات الحياة كلها! الموقف الثاني: موقف الرافض مطلقًا، ويرى خطر ذلك المجتمع وضرورة تجنبه، والاكتفاء منه بما ينتجه ماديًّا، بحكم أنه لا غنى عن هذا المنتج؛ ولذا يرى هذا الفريق عدمَ التعامل المباشر معه، ويكتفي منه بالتأثير عليه فقط! الموقف الثالث: والموقف الثالث الذي يحتل المرتبة الوسط، فيؤمن بالتأثر بأي مجتمع أو بيئة، كما يؤمن بالتأثير على أي مجتمع وبيئة؛ ذلك أنه يملِك الثقة بما لديه من مبادئ ومُثل ومنطلقات، وثقته هذه سمحت له بالتأثر فيما لا يطغى على ذاتيته وخصوصيته وتميزه، كما سمحت له بالتأثير؛ لأنه يؤمن بأن ما لديه نافعٌ ومفيد، ليس له ولبيئته فحسب، بل للجميع، ولا حق لأحد أن يحجره أو يحجبه عن الآخر. والموقف الأول (القبول المطلق) أو التأثر المطلق فيه خطورة واضحة على المجتمع المتميز. والموقف الثاني (الرفض المطلق) أو التأثير فقط، فيه خطورة واضحة أيضًا على المجتمع المتميز؛ذلك أن الأول يميع فكرة التميز والخصوصية، والثاني يقوقع هذا التميز والخصوصية، ويجعله تميزًا وخصوصيةً حاصرتين. لم يصدر هذا الموقف من فراغ، وليس هو تأثرًا ذاتيًّا بالمجتمع الآخر فقط، بل إن هذا المجتمع المتأثر به أملى على المتأثرين مباشرة أو عمليًّا أنه إنما وصل إلى ما وصل إليه بفضل تخليه عن المبادئ التي كان يقوم عليها، لا سيما الدينية منها؛ ولذا فإذا كانت المجتمعات الأخرى التي لا تزال تعيش حالة من التأخر وتريد النمو فإن عليها أن تتخلص من بعض مبادئها التي يعتقد بالقياس أنها هي التي تحُول دون نموها،وقد قيل في أدبيات الاستشراق صراحةً: إن الغرب قد تقدم بفضل تخليه عن نصرانيته، والشرق تأخر بسبب تمسكه بإسلامه[4]. أما أدبيات التنصير فقد قالت صراحة: إن الغرب تقدم بفضل تمسكه بنصرانيته، والشرق يتأخر بسبب تمسكه بإسلامه - كما سبق التعرض له من قبل -ولأن التنصير واضح المعالم لم تؤخذ مقولته بالقبول، بينما أحدثت مقولة الاستشراق العلماني شيئًا من التعاطف معها؛ لأن ظاهر المجتمع الآخر متخلٍّ عن مبادئه الدينية بخاصة، ولتخليه عن المبادئ أصبح عند بعض الناس قدوةً أو مثالًا ينبغي أن يحتذى، الأمر الذي يحتاج معه إلى مواجهة علمية موضوعية تخفف من هذا الاندفاع الذاتي نحو الآخر؛ بسبب عدم الرضا عن الواقع المحلي وربط أسباب عدم الرضا بالأسلوب الذي تطبق فيه المبادئ[5]. هذا كله داخلٌ في مفهوم الحوار العام مع الثقافات الأخرى الذي يتم بأساليب مختلفةٍ، ومنها هذا الشعور بالدونية أمام الآخر، الأمر الذي ينبغي عمليًّا التخلص منه متى ما بُنيت الثقة بالذات، القائمة على الوضوح في فهم الإسلام والإيمان، اعتقادًا بأنه دين لا كمثل الأديان الأخرى[6]، لا يقف في طريق النمو، بل لا يقف في طريق التأثر الموجَّه والمؤَصَّل. [1] انظر: علي بن إبراهيم النملة،السعوديون والخصوصية الدافعة: وقفات مع مظاهر التميز في زمن العولمة - مرجع سابق - ص 312ص. [2] انظر: شاريل بينارد،الإسلام الديموقراطي المدني: الشركاء والمصادر والإستراتيجيات - واشنطون: مكتب راند للاتصالات الخارجية، 2002م - ص 100. [3] انظر: علي بن إبراهيم النملة،مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات - مرجع سابق - ص 179. [4] انظر: رضوان السيد،مسألة الحضارة والعلاقة بين الحضارات لدى المثقفين في الأزمنة الحديثة - مرجع سابق - ص 9. [5] انظر: كمال أبو المجد،حوار لا مواجهة - القاهرة: دار الشروق، 2002م - ص 303 - (سلسلة مكتبة الأسرة). [6] انظر: أحمد بن سيف الدين تركستاني،الحوار مع أصحاب الأديان: مشروعيته وشروطه وآدابه - في: المؤتمر العالمي عن موقع الإسلام من الإرهاب - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1425هـ/ 2004م - ص 36. |
رد: الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها
الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (الجدل) نوقشت رسالة نال بها صاحبها عبدالله بن عبدالعزيز الشعيبي درجة الدكتوراه في الثقافة الإسلامية، وكانت حول الجدل بين المسلمين والنصارى في العصر الحديث[1]،والجدل نوع من أنواع الحوار المباشر[2]، من منطلق قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]. تبنى الداعية الشيخ أحمد ديدات - رحمه الله تعالى - هذه الآية في دعوته للحوار مع غير المسلمين عندما يحاضر بين المسلمين[3]،وكان يقول: إننا نردد هذه الآية الكريمة في الصلاة، وعند قراءة القرآن الكريم،فهل طبقناها في حياتنا اليومية؟![4]، وكذلك من منطلق الآية الكريمة: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]. للحوار أشكالٌ وأساليب كثيرة، منها المناظرات التي تزعمها الشيخ الداعية أحمد ديدات، وبعده الداعية ذاكر حسين نايك صاحب قناة السلام الفضائية، ومنها الجدل المباشر الذي يدخل في مفهوم المناظرة، ومنها المؤلفات والردود والمؤتمرات والمراكز الدينية والعلمية التي تقوم في المجتمعات غير المسلمة. وجود المراكز الدينية والعلمية غير المسلمة في المجتمعات المسلمة يُعَد نوعًا من أنواع الحوار، الذي يفضل البعض تسميته بحوار الحضارات والثقافات، ابتعادًا خجولًا عن لفظة الدين؛ لما فيها من الحساسية لدى البعض من غير المتدينين من أبناء المسلمين وغير المسلمين من أبناء الديانات الأخرى. يظهر أن الحوار الحضاري والثقافي لا يمكن أن يخلو من المسحة الدينية؛ ذلك أن الحضارات والثقافات القائمة الآن إنما قامت على الدين، وتفوح رائحتها بالخلفية الدينية التي انطلقت منها، رغم تجاهل الدين ظاهرًا على الأقل،واستعراض الأسماء، سواء أسماء الأشخاص أم المدن أم المرافق الحضارية والثقافية أم المنتجات التجارية والطبية، يظهر أنه تكاد لا تخلو من خلفية دينية. عليه، فإن الحوار قائم بأشكاله المختلفة،والمزعج هنا ألا يدرك المسلمون كُنْهَ هذا الحوار، فيكون حوارًا من طرف واحد هو المنتج أو المرسل أو مصدر المعلومة، ويكتفي الطرف الثاني، وهم المسلمون هنا، بدور المستهلك أو المستخدم أو المستقبل لتلك المعلومات،ويبدو أن خروج مجتمع ما من المجتمعات، وليكن هنا مجتمعًا مسلمًا، عن أطواره في تقاليده وعاداته وسلوكياته، إنما هو أثر من آثار الحوار. يتضح هذا الموقف أكثر عندما يخرج المجتمع من طورٍ عاشه قرونًا من الزمان إلى طور جديد عليه، مطبق في مجتمع آخر يدين بثقافة أخرى ويتبنى حضارة مختلفة،وهذا ما نسميه أحيانًا بالتغريب الذي يعاني منه المجتمع المسلم، حينما يعمِد إلى تبني ثقافة الآخر في كل سلوكياته الخاصة والعامة أو في معظمها - كما مر بيانه في المحدد ذي العلاقة بالتغريب. من منطلق هذه النتيجة من نتائج الحوار، وهي التغريب، نجد أن الحوار قد يقتصر على أبناء الأمة الواحدة الذين يفترقون على فرقتين؛ فرقة تدعو إلى الأصالة ونبذ الضار من المستورد، وفرقة تدعو إلى تبني أفكار الآخر وثقافته وحضارته؛ بحجة أن هذه الأفكار والثقافة والحضارة هي التي أوصلته إلى ما وصل إليه، في الوقت الذي يدعي فيه هؤلاء أن هذا التخلف الذي وصل إليه المجتمع المسلم والمجتمع غير المسلم من العالم الثالث هو نتيجة لتبنيه الثقافة التي يتبناها الآن،ويظهر أن في هذا غلوًّا يقود إلى غلو في رفض كل ما هو أجنبي،وهذا ما حدا برابطة العالم الإسلامي بالدعوة إلى عقد لقاء بين العلماء والمفكرين المسلمين سنة 1430هـ/ 2009م لتحديد إستراتيجية للحوار مع الآخر. إزاء هذه الأفكار المنثورة حول الحوار صار لزامًا على المسلمين أن يخطوا خطوات إيجابية في هذا المضمار قبل أن يسبق السيف العذل. [1] انظر: عبدالله بن عبدالعزيز الشعيبي، الجدل بين المسلمين والنصارى في العصر الحديث: دراسة نقدية - الرياض: المؤلف، 1412هـ/ 1992م - ص 567. [2] انظر: خالد عبدالعظيم عبدالرحيم السيوطي،الجدل الديني بين المسلمين وأهل الكتاب بالأندلس: ابن حزم - الخزرجي - القاهرة: دار قباء، 2001م - ص 296. [3] توفي الداعية الإسلامي أحمد ديدات - رحمه الله تعالى - يوم الأحد 2/ 7/ 1426هـ الموافق 7/ 7/ 2005م. [4] انظر: عبدالله بن حمد الشبانة،يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء - الرياض: دار الهدى، 1407هـ - ص 261، وانظر أيضًا: رؤوف شلبي،يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء - ط 2 - القاهرة: دار الاعتصام، 1400هـ/ 1980م - ص 335. |
رد: الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها
الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (حوار التجار) يقرر بعض المستشرقين أن الإسلام قد انتشر بالسيف[1]، ويرد عليهم بعض المسلمين أن الإسلام لم ينتشر بالسيف[2]، ولكلٍّ أدلته، إلا أن معظم المستشرقين يهمهم التعميم في إطلاق الأحكام السلبية ما دامت تخدم الغرض،والذي نعرفه نحن المسلمين أن الإسلام يضع المدعوين أمام ثلاثة خيارات؛ الإسلام أو الجزية أو القتال،والقتال هو الخيار الأخير، وهو كرهٌ، وليس غاية، كما أنه ليس مطلبًا[3]،كما أن الذي نعرفه نحن المسلمين أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، ذلك الجهاد الذي فهمه المجاهدون الأوائل، وأن القتال جزء من ثلاثة عشر جزءًا من الجهاد، وليس الجهاد كله قتالًا[4]، وأنه ماضٍ إلى يوم القيامة[5]، ونحن لا نعتذر في ذلك لأحد؛ إذ إن هذا من معتقدنا. إلا أن هذا المصطلح "الجهاد" قد أخضع لقدر من سوء الاستخدام، بحيث أصبح يطلق على عمليات ليست بالضرورة داخلة في مفهوم الجهاد كما فهمه سلف هذه الأمة، مما أدى إلى تشويه هذا المفهوم ومحاولة التملص والتخلص منه من قبل بعض الاعتذاريين - كما مرت الإشارة إليه من قبل. تشير التقارير الأخيرة الواردة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا في تلك البلاد، وأنه الآن الدين الثاني من حيث الأتباع[6]، ويبرر المحللون ذلك بأسباب عديدة، منها تزايد التضامن بين المسلمين في هذه القارة، وكذا الحال في أوروبا، وانفتاحهم على المجتمع الذي يعيشون فيه، عندما فاز مسجد مانهايم بألمانيا بجائزة معتبرة لاتباعه سياسة المسجد المفتوح[7]. الذين درسوا انتشار الإسلام يدركون أنه انتشر بالجهاد كما انتشر بوسائل أخرى غير الجهاد، وأن الإسلام قد انتشر في شرق آسيا وجنوبها الشرقي عن طريق التجار، وانتشر في إفريقيا عن طريق الدعوة،ولا تزال العائلات العربية تقطن تلك البقاع. كما انتشر الإسلامُ شَمالَ آسيا وآسيا الوسطى عن طريق التجار، والذي يقرأ رحلة ابن فضلان وغيره كابن جبير والعياشي وابن بطوطة وسليمان التاجر، سيدرك ذلك الحوار الذي تبناه التجار المسلمون مع علماء تلك البقاع وقادتها السياسيين والاقتصاديين الذين قَبلوا الإسلام في مجملهم، ولم يقبله بعضهم؛ لأن الإسلام يدعو إلى التوحيد، ويحرم الخمر ولحم الخنزير، مثلًا، وقد تكون الأسباب سياسية أكثر منها دينية في العقيدة والعبادات[8]. يظهر أن هذه فرصة للذين يدرسون الدعوة وانتشار الإسلام في أن يغوصوا في كتب الرحلات، لا سيما رحلات المسلمين، ليتخذوها مصدرًا مهمًّا من مصادر المعلومات عن انتشار الإسلام على مدى العصور، ففي هذه الكتب، التي تمثل ما نسميه بأدب الرحلات، مادةٌ علميةٌ جيدةٌ في مجال الحوار بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الأديان الأخرى. يبدو أن تأثير التجار المسلمين في حوارهم مع غيرهم لا يزال قائمًا، وإن لم يكن بذلك الوضوح الذي كان لدى السلف من التجار؛ لأن أولئك ذهبوا بروحين؛ روح التجارة وروح الدعوة. بعض تجارنا اليوم يذهبون بروحين؛ روح التجارة وروح تقمص شخصية الآخر، فتخفت الحاجة إلى الحوار، ويخفت بالتالي التأثير، ويبرز التأثر،وما ذلك إلا نتيجة لعدم الاقتناع بدمج الدعوة بالتجارة، الأمر الذي يحتاج معه التجار المسلمون إلى أن يجلسوا في القاعات الثقافية يستمعون إلى محاضرات حول انتشار الإسلام عن طريق التجار، ولتكن هذه القاعات في مقرات الغرف التجارية الصناعية والاتحادات التجارية الصناعية المنتشرة في أرجاء العالم الإسلامي، ليعود للتجار المسلمين تأثيرهم على الآخر تأثيرًا إيجابيًّا، فيجيدوا الحوار مع أقرانهم التجار الآخرين وغيرهم ممن يختلطون بهم، وهذا جزء من مسؤولياتهم تجاه هذا الدين العظيم. [1] وهذه من افتراءات بعض المستشرقين التي فندها بعض الكتاب المسلمين الذين تولوا الرد على الشبهات التي أثارها المستشرقون. [2] انظر مثلًا: أحمد شلبي،الاستشراق: تاريخه وأهدافه، شبهات المستشرقين: مناقشتها وردها - القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، د.ت - ص 212. [3] قال الله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]. [4] انظر: ابن قيم الجوزية، الإمام المحدث شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي،زاد المعاد في هدي خير العباد - مرجع سابق - 3: 9 - 11. [5] من منطوق حديث المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم "باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة))؛رواه البخاري وأبو داود وأحمد في المسند. [6] انظر مثلًا الصفحة الأخيرة من العدد 16989 من صحيفة الحياة (الجمعة 20/ 10 / 1430هـ الموافق 9/ 10/ 2009م)،ويبلغ عدد المسلمين اليوم مليارًا وخمسمائة وسبعين مليون (1،570،0000،000) نسمة، ويمثل هذا الرقم ربع سكان العالم. [7] انظر المقابلة مع د.نديم عطا إلياس حول فكرة المسجد المفتوح بعنوان: يوم المسجد المفتوح في ألمانيا: حوار مع د.نديم إلياس - في مجلة الرائد - ع 194 (11/ 1418هـ - 11/ 1997م) - ص 1 - 5،وانظر إلى موقع المجلة: www.dfi-aglraid.de،19/ 11/ 1430هـ - 7/ 11/ 2009م. [8] انظر في الفرق بين الرحالة العرب المسلمين في الماضي، وبين الرحالين العرب المسلمين في الحاضر: نازك سابا يارد،الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة - ط 2 - د. م: نوفل، 1992م - ص 512. |
رد: الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها
الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (الغزو الفكري) في فترة من فترات انحطاط المسلمين وفي فترة من فترات الابتعاد التي أعقبت الحروب الصليبية بزمن، تسلَّطت على المسلمين تيارات متعددة الأشكال والأساليب والوسائل، يأتي في مقدمتها الاحتلال العسكري لمعظم بلاد المسلمين. مهَّد هذا الاحتلال لبقية التيارات الأخرى التي يمكن أن تحصر في أربعة تيارات عدا الاحتلال، وهي: التنصير والاستشراق والتغريب والصهيونية، وداخل كل تيار من هذه التيارات الخمسة تيارات فرعية تكون موجَّهة إلى مفهوم من المفهومات الإسلامية، أو إلى فئة من الفئات المسلمة، أو أرض من أراضي المسلمين،وقد سبق التعرض لهذه التيارات على أنها من محددات العلاقة بين الشرق والغرب. قد يضيف البعض تيارًا سادسًا يدعونه بالغزو الفكري[1]، ولكن هذا التيار لا يعدو أن يكون داخلًا في التيارات الأربعة سالفة الذكر،مع أن هناك بيننا من يقول: إنه ليس هناك ما يسمى بالغزو الفكري، فالفكر مبسوط للعالم، لك أن تأخذه أو تأخذ منه، ولك أن تتركه أو تترك منه، ويبدو أن هذا المنطلق لا يعدو أن يكون تأثرًا من قائله بالأفكار الغربية عن المجتمع المسلم، جاء بها من منطلق ما يتردد من حرية الفكر وحرية الكلمة وحرية الرأي دونما ضابط دقيق لهذه الإطلاقات أو هذه المصطلحات. هذا التحدي الذي يواجهه المسلمون اليوم من هذه التيارات لم يكن جديدًا على المسلمين؛ فالصراع بين الحق والباطل والصراع بين الخير والشر مستمرٌّ وقائم، وقد شاءت إرادة الله تعالى أن يستمر هذا الصراع. يجتمع معظم دعاة هذه التيارات من منصِّرين ومحتلين ومستشرقين ومتغربين، بل وصهيونيين، في أنهم إذا عرفوا الحق اتبعوه، ومنهم المعاندون المصرون على عنادهم، والمكابرون المصرون على مكابرتهم، ولكن منهم من هداهم الله تعالى إلى الحق، فتركوا الدعوة إلى الباطل وانتصروا للحق، وصاروا حربًا على التيارات التي كانوا يقودونها في زمن الجهل والضلال،وقد تقابل أكثر من حال كان أصحابها دعاةً للباطل، فأصبحوا - بفضل من هداية الله تعالى - دعاةً للحق، منصرفين إليه بقوة؛ لأن حالهم تقول: إنهم يرغبون في التكفير عما قاموا به من ضلالة وإضلال. من هنا ينبغي الوضوح في العلاقة مع أفراد هذه التيارات،ولا شك أن التعاون معهم مرفوض، من منطلق النصوص الشرعية: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، وليس التعامل معهم بالضرورة تعاونًا على العدوان، إذا ما أريد له أن يكون محاولات جادة لإظهار الحق لهم؛ رغبة في هدايتهم، أو على أقل التقدير رغبة في اتقاء شرهم. هناك نقاشٌ حول مسألة الحوار مع أرباب هذه التيارات، وهناك آراء حول جواز هذا الحوار أو عدم جوازه،وليس الباحث من مصاف المشرعين من علماء الأمة، ولا يخضع الأمر لوجهات النظر الفردية؛ فالدِّين لا يؤخذ بوجهات النظر، ولكنه يعتمد على النصوص، وعلى مصادر التشريع الإسلامي الأخرى، ومنها القياس،والحذر الآن من الحوار قد يكون مرده عدم القدرة على الإمساك بزمام الحوار، وترك المجال للطرف الآخر ليسيطر عليه، لا سيما أنه الآن ينظر من علو، وأنه هو الغالب فينتظر اتباع المغلوب له. تلك مشكلة إدراكية رانت على أذهان بعض من أبناء الأمة وبناتها، فرفضوا الحوار خوفًا منه، وخوفًا على أنفسهم من الآخر، وكأنهم لا يملِكون أقوى مقوم للحوار تبناه أسلافهم، فخاضوا غمار الحوار، وانتصر الحق في النهاية. [1] انظر: أحمد عبدالرحيم السايح - في الغزو الفكري - مرجع سابق - ص 157، وانظر أيضًا: نذير حمدان،في الغزو الفكري: المفهوم - الوسائل - المحاولات - الطائف: مكتبة الصديق، د.ت - ص 375، وانظر كذلك: علي عبدالحليم محمود، الغزو الفكري وأثره على المجتمع المسلم - ط 3 - القاهرة: دار المنار الحديثة، 1410هـ/ 1989م - ص 208، وانظر كذلك: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام - الرياض: الجامعة، 1414هـ/ 1984م - ص 523. |
الساعة الآن : 04:01 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour