ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 23-06-2025 12:14 AM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البروج
المجلد السابع عشر
صـ 6106 الى صـ 6116
الحلقة (621)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي انصدعت وتقطعت كما تقدم في قوله: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي سمعت له في تصدعها وتشققها. وهو مجاز عن الانقياد والطاعة. والمعنى أنها انقادت لتأثير قدرته، حين أراد انشقاقها، انقياد المطواع الذي يستمع للآمر ويذعن له. قال ابن جرير: العرب تقول (أذن لك في هذا إذنا) بمعنى استمع لك. ومنه الخبر الذي
روي «1» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ يتغنى بالقرآن.
يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبيّ يتغنى بالقرآن. ومنه قول الشاعر:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
ومعنى قوله تعالى: وَحُقَّتْ أي: حق لها ووجب أن تنقاد لأمر القادر ولا تمتنع. وهي حقيقة بالانقياد لأنها مخلوقة له في قبضة تصرفه. قال المعرب: الأصل حق الله طاعتها. ولما كان الإسناد في الآية إلى السماء نفسها، والتقدير: وحقت هي، كان أصل الكلام على تقدير مضاف في الضمير المستكنّ في الفعل. أي وحق سماعها وطاعتها. فحذف المضاف، ثم أسند الفعل إلى ضميره، ثم استتر فيه وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أي بسطت وجعلت مستوية وذلك بنسف جبالها وآكامها كما قال:
قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 106- 107] ، ولذا قال ابن عباس:
مدت مد الأديم العكاظيّ. لأن الأديم إذا مدّ، زال كل انثناء فيه واستوى وَأَلْقَتْ ما فِيها أي ما في جوفها من الكنوز والأموات وَتَخَلَّتْ أي: وخلت غاية الخلوّ،
(1)
أخرجه البخاري في: التوحيد، 32- باب قول الله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، حديث رقم 2088، عن أبي هريرة.

حتى لم يبق شيء في باطنها، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلوّ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي انقادت له في التخلية، وحق لها ذلك، وإعادة الآية للتنبيه على أن ذلك تحت سلطان الجلال الإلهي وقهره ومشيئته. وجواب (إذا) محذوف للتهويل بالإبهام. أي: كان ما كان مما لا يفي به البيان. أو لاقى الإنسان كدحه، كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ قال ابن جرير: أي إنك عامل إلى ربك عملا فملاقيه به، خيرا كان أو شرّا. المعنى: فليكن عملك مما ينجيك من سخطه، ويوجب لك رضاه، ولا يكن مما يسخطه عليك فتهلك. وقال القاشانيّ: أي إنك ساع مجتهد في الذهاب إليه بالموت. أي تسير مع أنفاسك سريعا. كما قيل:
أنفاسك خطاك إلى أجلك أو مجتهد مجد في العمل، خيرا أو شرّا، ذاهب إلى ربك فملاقيه ضرورة. قال: والضمير إما للرب وإما للكدح. وأصل الكدح جهد النفس في العمل والكد فيه، حتى يؤثر فيها. من (كدح جلده) إذا خدشه. فاستعير للجد في العمل وللتعب، بجامع التأثير في ظاهر البشرة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وهم من آمن وعمل صالحا واتصف بما وصف به الأبرار، في غير ما آية فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال ابن جرير: بأن ينظر في أعماله فيغفر له سيئها ويجازى على حسنها. وقال القاشاني: بأن تمحى سيئاته ويعفى عنه ويثاب بحسناته دفعة واحدة، لبقاء فطرته على صفائها ونوريتها الأصلية وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ أي: زوجته وأقاربه.
أو قومه من يجانسه ويقارنه من أصحاب اليمين مَسْرُوراً أي بنجاته من العذاب، أو بصحبتهم ومرافقتهم، وبما أوتي من حظوظه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 10 الى 15]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ أي أعطي كتاب عمله بشماله من وراء ظهره، وهو على هيئة المغضوب عليه، أمام الملك المنصرف به عن ذاك المقام إلى دار
الهوان لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل: 60] ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً أي ينادي بالهلاك وهو أن يقول:
ووا ثبوراه! ووا ويلاه! وهو من قولهم دعا فلان لهفه، إذا قال والهفاه وَيَصْلى سَعِيراً أي يدخل نارا يحترق بها إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي منعما مستريحا من التفكر في الحق والدعاء إليه والصبر عليه. لا يهمه إلا أجوفاه، بطرا بالنعم، ناسيا لمولاه إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي لن يرجع إلى ربه، أو إلى الحياة بالبعث لاعتقاده أنه يحيي ويموت ولا يهلكه إلا الدهر. فلم يك يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا ولا يبالي ما ركب من المآثم، على خلاف ما قيل المؤمنين إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ [الطور:
26] ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: 20] ، بَلى أي ليحورن وليرجعن إلى ربه حيّا كما كان قبل مماته إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً أي بما أسلف في أيامه الخالية فيجازيه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 21]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وهي الحمرة في الأفق من ناحية مغرب الشمس وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي جمع وضمّ مما سكن وهدأ فيه من ذي روح كان يطير أو يدب نهارا كذا قال ابن جرير والأظهر أن يكون إشارة إلى الأشياء كلها، لاشتمال الليل عليها. فكأنه تعالى: أقسم بجميع المخلوقات كما قال: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 38- 39] ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي اجتمع وتم نوره وصار كاملا لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أي حالا بعد حال. والمعني بالحال الأولى البعث للجزاء على الأعمال. وبالثانية الحياة الأولى. وفيه تنبيه على مطابقة كل واحدة لأختها. فإن الحياة الثانية تماثل الأولى وتطابقها من حيث الحس والإدراك والألم واللذة، وإن خفي اكتناهها. وجوز أن يكون طَبَقاً جمع طبقة وهي المرتبة. أي لتركبن مراتب شديدة مجاوزة عن مراتب وطبقات، وأطوارا مرتبة بالموت وما بعده من مواطن البعث والنشور.
قال الشهاب: الطبق معناه ما طابق غيره مطلقا في الأصل، ثم إنه خص بما ذكر، وهو الحال المطابقة أو مراتب الشدة المتعاقبة.
وعَنْ للمجاوزة أو بمعنى (بعد) . والبعدية والمجاوزة متقاربان لكنه ظاهر
في الثاني فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي بهذا الحديث. وقد أقام لهم الحجة على التوحيد والبعث وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ أي لا يخضعون ولا يستكينون ولا ينقادون.
قال في (الإكليل) : وقد استدل به على مشروعية سجدة التلاوة
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 22 الى 25]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أي بآيات الله وتنزيله، المبين لما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها، مع تحقيق موجبات تصديقه، والإضراب عن محذوف تقديره كما قال الإمام، لا تظن أن قرع القرآن لم يكسر إغلاق قلوبهم، ولم يبلغ صوته أعماق ضمائرهم. بلى، قد بلغ وأقنع فيما بلغ. ولكن العناد هو الذي يمنعهم عن الإيمان، ويصدهم عن الإذعان، فليس منشأ التكذيب قصور الدليل. وإنما هو تقصير المستدل وإعراضه عن هدايته، فالإضراب يرمي إلى محذوف من القول يدل عليه السابق واللاحق وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي بما يسرون في صدورهم من حقية التنزيل، وإن أخفوه عنادا. أو بما يصمرون من البغي والمكر، فسيجزيهم عليه. ولذا قال: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي جزاء على تكذيبهم وإعراضهم وبغيهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم.
والاستثناء منقطع أو متصل، على أن المراد بمن آمن من أسلم منهم فآمنوا باعتبار ما مضى أو بمعنى (يؤمنون) وكونه منقطعا أظهر لمجيء (لهم أجر) بغير فاء. والله أعلم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البروج
مكية. وآيها اثنتان وعشرون. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج والسماء والطارق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أي الكواكب والنجوم شبهت بالبروج، وهي القصور، لعلوّها. أو البروج منازل عالية في السماء.
قال ابن جرير: وهو اثنا عشر برجا. فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث فذلك ثمانية وعشرون منزلا. ثم يستسر ليلتين. ومسير الشمس في كل برج منها شهر. وأصل معنى البروج- كما قال الشهاب- الأمر الظاهر من التبرج. ثم صار حقيقة في العرف للقصور العالية. لأنها ظاهرة للناظرين. ويقال لما ارتفع من سور المدينة (برج) أيضا. فشبه- على هذا- الفلك بسور المدينة وأثبت له البروج وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أي الذي وعد فيه العباد لفصل القضاء بينهم، وذلك يوم القيامة وَشاهِدٍ وهو كل ما له حس يشهد به وَمَشْهُودٍ وهو كل محسّ يشهد بالحس.
فيدخل فيه العوالم المشهودة كلها. وتخصيص بعض المفسرين بعضا مما يتناوله لفظهما، لعله لأنه الأهم. أو الأولى أو الأعرف والأظهر، لقرينة عنده. وإلا فاللفظ على عمومه، حتى يقوم برهان على تخصيصه.
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ أي: قتلهم الله وأهلكهم وانتقم منهم. على أن الجملة خبرية هي جواب القسم. أو دليل جوابه إن كانت دعائية، والتقدير: لتبلون كما ابتلي من قبلكم، ولينتقمن ممن فتنكم كما انتقم من الذين ألقوا المؤمنين في الأخدود.
قال الزمخشري: وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم (قتلت قريش) كما قيل: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ والأخدود: الحفرة في الأرض مستطيلة. وقوله تعالى: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ بدل من الْأُخْدُودِ والْوَقُودِ بالفتح الحطب الجزل الموقد به وأما (الوقود) بالضم فهو الإيقاد إِذْ هُمْ عَلَيْها أي على حافات أخدودها قُعُودٌ أي قاعدون يتشفون من المؤمنين وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي حضور يشاهدون احتراق الأجساد الحية، وما تفعل بها النيران. ولا يرقّون لهم لغاية قسوة قلوبهم.
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ أي: وما أنكروا منهم، ولا كان لهم ذنب، إلا الإيمان بالله وحده.
قال الراغب: نقمت من الشيء ونقمته إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة.
ومنه الانتقام الْعَزِيزِ أي الغالب على أعدائه بالقهر والانتقام الْحَمِيدِ أي المحمود على إنعامه وإحسانه الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجرة، أصحاب الأخدود وغيرهم، شاهد شهودا لا يخفى عليه منه مثقال ذرة، وهو مجازيهم عليه. وفي توصيفه تعالى بما ذكر من النعوت الحسنى، إشعار بمناط إيمانهم. فإن كونه تعالى قاهرا ومنعما، له ذلك الملك الباهر. وهو عليم بأفعال عبيده، مما يوجب أن يخشاه من عرف المصائر، وفي الآية نوع من البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهو معروف في كتب المعاني.
تنبيه:
روى ابن جرير عن ابن عباس في أصحاب الأخدود قال: هم ناس من بني إسرائيل خدّوا أخدودا في الأرض، ثم أوقدوا فيها نارا، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء، فعرضوا عليها. وهكذا قال الضحاك: هم من بني إسرائيل أخذوا رجالا
ونساء فخدّوا لهم أخدودا، ثم أوقدوا فيه النيران، فأقاموا المؤمنين عليها. فقالوا:
تكفرون أو نقذفكم في النار.
وقال مجاهد: كان الأخدود شقوقا بنجران. كانوا يعذبون فيها الناس- وتفصيل النبأ- على ما في كتاب (الكنز الثمين) - إن دعوة المسيح عليه السلام الأولى العريّة عن شوائب الإلحاد، لما دخلت بلاد اليمن وآمن كثير من أهلها، كان في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران. وكان أقام عليها ملك الحبشة أميرا من قبله نصرانيّا مثله. وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع. ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نير السلطة المسيحية من اليمن، والإيقاع بمن تنصر، بغضا في المسيحية وكراهة لسلطان مسيحي يملكهم. فأقاموا رجلا يهوديا منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله. فأشهر ذلك اليهودي نفسه ملكا على بلاد سبأ. وجاء لمحاربة مدينة نجران، واستولى عليها بالتغلب والقوة والخيانة. ولما دخلها قتل عددا عظيما من سكانها رجالا ونساء. كانت عدتهم- فيما يقال- ثلاثمائة وأربعين شهيدا. وأتى بذاك الراهب محمولا يحف به الجنود. وكان هرما لا يقوى على المشي. فسئل عن عقيدته فأقر بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عيسى عليه السلام. فأمر بسفك دمه فقتل. وكذلك بقيه الشهداء اعترفوا بما اعترف به دون جبن ولا تهيب، بل بشجاعة وصبر على ما يشاهدونه من أفانين العذاب وأخاديد النيران. ثم ألقت امرأة بنفسها في النار وتبعها طفل لها في الخامسة من عمره. وكل هؤلاء الشهداء أظهروا من السرور بالتألم من أجله تعالى، والفرح بالشهادة، ما أضحوا مثالا وعبرة لكل مفتون من أجل إيمانه ومدافعته عن يقينه.
سواء افتتن بماله أو نفسه أو بسلب حق له. لا جرم أن من تلا ما ورد في الوعد الصادق لكل مفتون في الدين، استبشر بما أعد للمخلصين الصابرين. وتسمى هذه القصة عند النصارى شهادة الحبر أراثا ورفقته. ويؤرخونها بعام (524) من التاريخ المسيحي وقد علمت أن في كلام مجاهد ومن قبله إشارة إليها. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البروج (85) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي بلوهم بالأذى ليرجعوا عن إيمانهم.
قال أبو السعود: والمراد بهم. إما أصحاب الأخدود خاصة، وبالمفتونين المطروحون في الأخدود، وإما الذين بلوهم في ذلك بالأذية والتعذيب على الإطلاق وهم داخلون
في جملتهم دخولا أوليا ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أي عن كفرهم وفتنتهم فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ أي عذابان منوّعان على الكفر وعلى الفتنة. أوهما واحد. أو من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه. لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما.
والأظهر أنهما واحد. وإنه من عطف التفسير والتوضيح.






ابوالوليد المسلم 23-06-2025 06:24 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الطارق
المجلد السابع عشر
صـ 6117 الى صـ 6126
الحلقة (622)




القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البروج (85) : آية 11]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي من هؤلاء المفتونين وغيرهم لَهُمْ أي في نشأتهم الأخرى جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ أي التام الذي لا فوز مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 16]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال أبو السعود: استئناف خوطب به النبيّ صلى الله عليه وسلم، إيذانا بأن لكفار قومه نصيبا موفورا من مضمونه، كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام. و (البطش) الأخذ بعنف. وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم. وهو بطشه بالجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام. كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] .
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي يبدئ الخلق ثم يعيده. قال الإمام: وهو في كل يوم يبدئ خلقا من نبات وحيوان وغيرهما. ثم إذا هلك أعاد الله خلقه مرة أخرى. ثم هو يعيد الناس في اليوم الآخر على النحو الذي يعلمه وَهُوَ الْغَفُورُ أي لمن يرجع إليه بالتوبة الْوَدُودُ أي المحب لمن أطاعه وأخلص له ذُو الْعَرْشِ أي الملك والسلطان أو السماء الْمَجِيدُ أي العظيم في ذاته وصفاته. وقرئ بالجر صفة للعرش. ومجده: علوه وعظمته فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي لا يريد شيئا إلا فعله. فلا يحول بينه وبين مراده شيء. فمتى أراد إهلاك الجاحدين ونصر المخلصين، فعل، لأن له ملك السماوات والأرض. ولذا تأثره بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 22]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ أي الذين تجندوا على الرسل بأذاهم.
قال ابن جرير: أي قد أتاك ذلك، وعلمته، فاصبر لأذى قومك إياك، لما نالوك به من مكروه، كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي. ولا يثنينّك عن تبليغهم رسالتي. كما لم يثن الذين أرسلوا إلى هؤلاء. فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم، إلى عطب وهلاك كالذي كان من هؤلاء الجنود، فالجملة- كما قال أبو السعود- استئناف مقرر لشدة بطشه تعالى بالظلمة العصاة، والكفرة العتاة وكونه (فعالا لما يريد) متضمن لتسليته صلى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب قومه ما أصاب الجنود.
وقوله تعالى: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بدل من (الجنود) لأن المراد بفرعون هو وقومه، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه. والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ أي للحق والوحي، مع وضوح آياته وظهور بيناته، عنادا وبغيا. والإضراب انتقالي للأشد، كأنه قيل ليس حال فرعون وثمود بأعجب من حال قومك. فإنهم مع علمهم بما حل بهم، لم ينزجروا، وفي جعلهم فِي تَكْذِيبٍ إشارة إلى تمكنه من أنفسهم، وأنه لشدته أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه، مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله.
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي محص عليهم أعمالهم. لا يخفى عليه منها شيء وهو مجازيهم على جميعها. فاللفظ كناية عما ذكر. أو المراد وصف اقتداره عليهم. وأنهم في قبضته وحوزته، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه، فسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهربا. ففيه استعارة تمثيلية.
قال الشهاب: وفيه تعريض توبيخي لهم بأنهم نبذوا الله وراء ظهورهم، وأقبلوا على الهوى والشهوات بوجوه انهماكهم، وقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ أي سام شريف لا يماثل في أسلوبه وهدايته فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قرئ بالرفع صفة (لقرآن) والجر صفة للوح. قال ابن جرير: والمعنى على الأولى محفوظ من التغيير والتبديل في لوح. وعلى الثانية محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه، عما أثبته الله فيه. وبَلْ إضراب عن شدة تكذيبهم وعدم كفهم عنه، إلى وصف القرآن بما ذكر، للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء. فإنه تعالى تولى حفظه وظهوره أبد الآبدين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الطارق
وهي مكية وآيها سبع عشرة.
روى الإمام أحمد «1» : عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي حبل العدواني عن أبيه أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا، حين أتاهم يبتغي عندهم النصر. فسمعته يقرأ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حتى ختمها: قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك. ثم قرأتها في الإسلام. قال فدعتني ثقيف فقالوا:
ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم. فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا. لو كنا نعلم ما يقول حقّا لا تبعناه.
وروى النسائي «2» عن جابر. قال: صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة أو النساء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أفتان أنت يا معاذ؟ ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها ونحو هذا؟
(1)
أخرجه في المسند 4/ 335.

(2)
أخرجه في: الافتتاح، 63- باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي المضيء كأنه يثقب ظلمة الليل وينفذ فيه، فيبصر بنوره ويهتدي به. وسمي طارقا لأنه يطرق ليلا أي يبدو فيه.
قال الشهاب: الطارق من (الطرق) وأصل معناه الضرب بوقع وشدة يسمع لها صوت. ومنه المطرقة والطريق، لأن السابلة تطرقها. ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق، لتصور أنه يطرقها بقدمه. واشتهر فيه حتى صار حقيقة. وتسمية الآتي ليلا (طارقا) لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها.
والتعريف في النَّجْمُ للجنس. وأصل معنى (الثقب) الخرق. فالثاقب الخارق. ثم صار بمعنى المضيء، لتصور أنه ثقب الظلام أو الفلك. وفي إبهامه ثم تفسيره، تفخيم لشأنه وتنبيه على الاعتبار والاستدلال به.
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أي مهيمن عليها رقيب. وهو الله تعالى، كما في آية: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً [الأحزاب: 52] ، فيحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، وقد قرئ (لمّا) بالتخفيف ف (إن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وكُلُّ نَفْسٍ مبتدأ وعَلَيْها حافِظٌ خبره. و (ما) صلة واللام هي الفارقة. وقرئ (لما) بالتشديد على أنها بمعنى (إلّا) الاستثنائية و (إن) نافية والخبر محذوف. أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال، إلا في حال أن يكون عليها حافظ ورقيب و (كل) على هذا مؤكدة لأن نَفْسٍ حينئذ نكرة في سياق النفي، فتعم.
قال ابن جرير: والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك، التخفيف. لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، وقد أنكر التشديد جماعة من أهل المعرفة بكلام
العرب. غير أن الفرّاء كان يرى أنها لغة في هذيل. يجعلون (إلا) مع (إن) المخففة لمّا. فإن كان صحيحا ما ذكر الفراء فالقراءة بها جائزة صحيحة. وإن كان الاختيار مع ذلك قراءة التخفيف. لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب. ولا ينبغي أن يترك الأعرف إلى الأنكر. انتهى.
وقد صحح غير واحد ثبوتها. وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة. واستشهد ابن هشام لها في (المغني) فراجعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 10]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ جواب لمقدر. والفاء فصيحة أي:
إن ارتاب مرتاب في كل نفس من الأنفس عليها رقيب، فلينظر إلخ.
قال الإمام: قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ بمنزلة الدليل على الدعوى المقسم عليها، زيادة في التأكيد. ووجه ذلك أن الماء الدافق من المائع الذي لا تصوير فيه ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء ونحوها. ثم إن هذا السائل ينشأ خلقا كاملا كالإنسان، مملوءا بالحياة والعقل والإدراك، قادرا على القيام بخلافته في الأرض. فهذا التصوير والتقدير وإنشاء الأعضاء والآلات البدنية، وإيداع كل عضو من القوة ما به يتمكن من تأدية عمله في البدن، ثم منح قوة الإدراك والعقل، كل هذا لا يمكن أن يكون بدون حافظ يراقب ذلك كله ويدبره، وهو الله جل شأنه. ويجوز أن يكون قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ من قبيل التفريع على ما ثبت في القضية الأولى. كأنه يقول: فإذا عرفت أن كل نفس عليها رقيب، فمن الواجب على الإنسان أن لا يهمل نفسه، وأن يتفكر في خلقه. وكيف كان ابتداء نشئه ليصل بذلك إلى أن الذي أنشأه أول مرة، قادر على أن يعيده. فيأخذ نفسه بصالح الأعمال والأخلاق. ويعدل بها عن سبل الشر. فإن عين الرقيب لا تغفل عنها في حال من الأحوال. انتهى.
ودافِقٍ من الدفق. وهو صبّ فيه دفع. وقد قيل إنه بمعنى مدفوق، وإن اسم الفاعل بمعنى المفعول. كما أن المفعول يكون بمعنى الفاعل ك حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: 45] .
والصحيح أنه بمعنى النسبة ك (لابن وتامر) أي ذي دفق، وهو صادق على الفاعل والمفعول. أو هو مجاز في الإسناد. فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة. أو هو استعارة مكنية أو مصرحة بجعله دافقا. لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضا أي يدفعه. أو دافق بمعنى منصب من غير تأويل، كما نقل عن الليث. أقوال.
وقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أي من بين صلب الرجل ونحر المرأة.
قال الإمام: الصلب هو كل عظم من الظهر فيه فقار. ويعبر عنه في كلام العامة بسلسلة الظهر. وقد يطلق بمعنى الظهر نفسه إطلاقا لاسم الجزء على الكل و (الترائب) موضع القلادة من الصدر، وكنى بالصلب عن الرجل وبالترائب عن المرأة. أي أن ذلك الماء الدافق، إنما يكون مادة لخلق الإنسان، إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع في المحل الذي جرت عادة الله أن يخلقه فيه، وهو رحم المرأة.
فقوله (يخرج) إلخ وصف لا بد من ذكره لبيان أن الإنسان إنما خلق من الماء الدافق المستوفي شرائط صحة الخلق منه.
وقال بعض علماء الطب: الترائب جمع تريبة وهي عظام الصدر في الذكر والأنثى. ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى، ومنها قول امرئ القيس:
ترائبها مصقولة كالسّجنجل
قال: ومعنى الآية أن المني باعتبار أصله وهو الدم، يخرج من شيء ممتد بين الصلب- أي فقرات الظهر في الرجل- والترائب أي عظام صدره. وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر (الأورطي) وهو أكبر شريان في الجسم يخرج من القلب خلف الترائب ويمتد إلى آخر الصلب تقريبا. ومنه تخرج عدة شرايين عظيمة. ومنها شريانان طويلان يخرجان منه بعد شرياني الكليتين، وينزلان إلى أسفل البطن حتى يصلا إلى الخصيتين، فيغذيانهما. ومن دمهما يتكون المنيّ في الخصيتين يسميان شرياني الخصيتين، أو الشريانين المنويين فلذا قال تعالى عن المني يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي أو الأبهر. وهذه الآية على هذا التفسير، تعتبر من معجزات القرآن العلمية وهذا القول أوجه وأدق من التفسير الأول. انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّهُ أي الحافظ سبحانه، المتقدم في قوله: لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أو الخالق المفهوم من خلق عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ أي رجع الإنسان وإعادته في
النشأة الثانية، لقادر. كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي تظهر وتعرف خفيات الضمائر.
قال الزمخشري: السرائر ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعمال. وبلاؤها تعرّفها وتصفّحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ أي من قوة يمتنع بها من عذاب الله وأليم نكاله. ولا ناصر ينصره فيستنقذه ممن ناله بمكروه. يعني أنه فقد ما كان يعهده في الدنيا إذ يرجع إلى قوة بنفسه أو بعشيرته، يمتنع منهم ممن أراده بسوء. وناصر حليف ينصره على من ظلمه واضطهده. ولم يبق له إلا انتظار الجزاء على ما قدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي المطر. يسمى رجعا لأنه تعالى يرجعه وقتا فوقتا إلى العباد، ولولاه لهلكوا وهلكت مواشيهم وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ أي النبات، لأنه يصدع الأرض أي يشقها. أي الانشقاق بالنبات. فهو علم أو مصدر إِنَّهُ أي القرآن الكريم لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي حق فرق بين الحق والباطل وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي بالكلام الذي ليس له أصل في الفطرة ولا معنى في القلب، بل هو جدّ الجدّ إِنَّهُمْ أي المكذبين به، الجاحدين لحقه يَكِيدُونَ كَيْداً أي يمكرون مكرا لإبطال أمر الله وإطفاء نوره وَأَكِيدُ كَيْداً قال ابن جرير: أي وأمكر مكرا. ومكره جل ثناؤه بهم إملاؤه إياهم على معصيتهم وكفرهم به. يعني أن الكيد هنا استعارة تبعية أو تمثيلية. بتشبيه إمهال الله لهم ليستدرجهم، بالكيد وبهذا يظهر تفريع أمره بإمهالهم في قوله: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل عقابهم. وقوله: أَمْهِلْهُمْ بمعنى (مهلهم) فهو بدل منه للتأكيد. أو تكرير بلفظ آخر للتأكيد. وقوله:
رُوَيْداً أي قليلا.
قال الإمام: وفي ذلك وعيد شديد لهم بأن ما يصيبهم قريب، سواء كان في الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت. ثم فيه الوعد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بل لكل داع إلى الحق الذي جاء به، أنه سيبلغ من النجاح ما يستحقه عمله، وأن المناوئين له هم الخاسرون.


ابوالوليد المسلم 23-06-2025 06:29 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الاعلى
المجلد السابع عشر
صـ 6127 الى صـ 6137
الحلقة (622)



بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأعلى
مكية وآيها تسع عشرة: قال ابن كثير: والدليل على أنها مكية ما رواه البخاري «1» عن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن. ثم جاء عمار وبلال وسعد.
ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين. ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم. فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به. حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء. فما جاء حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى، في سور مثلها.
وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى تفرد به الإمام أحمد «2»
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى.
وعن النعمان بن بشير «3»
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية. وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما. رواه مسلم وأهل السنن.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد والمعوذتين.
(1)
أخرجه في: التفسير، سورة الأعلى، 1- حدثنا عبدان، حديث رقم 1831.

(2)
أخرجه في مسنده 1/ 96.

(3)
أخرجه مسلم في: الجمعة، حديث رقم 62.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما، كقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات:
180] ، فالاسم صلة. وسرّ إيراده أن المنوه به إذا كان في غاية العظمة، كثيرا ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه، فيقال: سبح اسمه ومجد ذكره. كما يقال سلام على المجلس العالي. هذا ما ذكروه. وثمة وجه آخر وهو أن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى، لاستحالة اكتناه ذاته العلية، فأقحم تنبيها على ذلك. ومما يؤيده ما ذكر من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا:
سبحان ربي الأعلى، كما رواه ابن جرير وغيره.
وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه أن يسمى به شيء سواه، كما كان يفعل المشركون من تسميتهم آلهتهم، بعضها اللات وبعضها العزى، حكاه ابن جرير فالإسناد على ظاهره، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في (الفصل) حيث رد على من استدل بهذه الآية في أن الاسم عين المسمى، ذهابا إلى أن من الممتنع أن يأمر الله عزّ وجلّ بأن يسبح غيره. فقال ابن حزم رحمه الله:
وأما قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فهو على ظاهره دون تأويل لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عزّ وجلّ، هو تنزيه الشيء عن السوء. وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه، الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء، عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقا به، ووجه آخر وهو أن معنى قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ومعنى قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 95- 96] ، معنى واحد. وهو أن يسبح
الله تعالى باسمه. ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا بتوسط اسمه. فكلا الوجهين صحيح. وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص. ولا فرق بين قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وبين قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطور: 48- 49] .
والحمد بلا شك هو غير الله. وهو تعالى يسبح بحمده كما يسبح باسمه، ولا فرق. فبطل تعلقهم بهذه الآية. انتهى كلامه.
وقد يقال فرق بين الآيتين. فإن الباء في بِحَمْدِ رَبِّكَ للملابسة، ولا كذلك هي في بِاسْمِ رَبِّكَ ومع اتساع اللفظ الكريم للأوجه كلها، فالأظهر هو الأول لما أيده من الأخبار، ولآية فَسَبِّحْهُ وآية سُبْحانَ رَبِّكَ والله أعلم.
والْأَعْلَى هو الأرفع من كل شيء، قدرة وملكا وسلطانا. واستدل السلف بظاهره في إثبات العلوّ بلا تكييف. والمسألة معروفة.
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى قال الزمخشري: أي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية، ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم، وإنه صنعة حكيم وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى أي قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات فَجَعَلَهُ أي بعد خضرته ونضرته غُثاءً أي جافّا يابسا تطير به الريح أَحْوى أي أسود، صفة مؤكدة (لغثاء) لأن النبات إذا يبس تغير إلى (الحوّة) وهي السواد.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى أي أخضر إلى السواد فجعله غثاء بعد ذلك. وهذا القول وإن كان غير مدفوع، أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات، قد تسميه العرب أسود، غير صواب عندي بخلاف تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه أو تأخيره. فأما وله في موضعه وجه صحيح، فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير. انتهى. والقول المذكور هو للفراء وأبي عبيدة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 13]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى أي سنجعلك قارئا، بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه والمعنى نجعلك قارئا للقرآن فلا تنساه.
قال الزمخشري: بشره الله بإعطاء آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أميّ لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه.
تنبيهات:
الأول: قال الرازي: هذه آية تدل على المعجزة من وجهين:
أحدهما- إنه كان رجلا أميّا فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة، خارق للعادة، فيكون معجزا.
وثانيهما- إن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة. فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع، فكان هذا إخبارا عن الغيب، فيكون معجزا.
الثاني: - قيل (لا تنسى) نهي والألف للإطلاق في الفاصلة وهو جائز مثل السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] ، والمعنى لا تغفل قراءته وتكريره فتنساه. فالنهي عنه مجاز عن ترك أسبابه الاختيارية.
قال الرازي: والقول المشهور إن هذا خبر. والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحث لا تنسى وتأمن النسيان. كقولك: (سأكسوك فلا تعرى) أي فتأمن العري، قال: واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية. منها أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يصح ورود الأمر والنهي به. فلا بد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان. مثل الدراسة وكثرة التذكر. وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ.
ومنها أن نجعل الألف مزيدة للفاصلة وهو أيضا خلاف الأصل.
ومنها أنا إذا جعلناه خبرا كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا
تنساه. وإذا جعلناه نهيا كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة. وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول. ولأنه على خلاف قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة: 16] انتهى.
الثالث: قال البرهان الشافعي في كتاب (تفضيل السلف على الخلف) .
إن بعضهم ذكر أن هذه الآية ناسخة لآية: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وتحقيق معنى النسخ هنا في غاية الإشكال، لأن قوله: وَلا تَعْجَلْ نهي عن العجلة، وقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ليس بأمر بها ليكون ناسخا للنهي عنها. بل هو خبر عن بقاء الحفظ بعد إقرائه.
وفحواه مؤكد لمعنى الخطاب الآخر. لأن تأويله إنا نحفّظك تحفيظا لا تخاف معه النسيان. فلا حاجة لك إلى أن تعجل بالقرآن وتحرك به لسانك. ولكنهم سموه نسخا، لغة لا حقيقة. على معنى تبدل الحال عنه. فإنه ظهر له الأمن عن النسيان بعد خوفه أن ينساه لما كان يحرك به لسانه. انتهى.
وقوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء مفرغ من أعم المفاعيل. أي لا تنسى مما تقرؤه شيئا من الأشياء، إلا ما شاء الله أن تنساه، مما تقتضيه الجبلة البشرية أحيانا.
قال الزجاج: إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى. ثم يتذكر بعد ذلك ولا ينسى نسيانا كليّا دائما. وذلك لأن ما بالجبلة لا يتغير. وإلا لكان الإنسان عالما آخر.
وقد روى البخاري «1» عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله فلانا. لقد أذكرني كذا وكذا آية، كنت أسقطتهن. ويروى أنسيتهن.
وقال صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني. رواه الشيخان «2» عن ابن مسعود.
وقيل: الاستثناء مجازي بمعنى القلة المراد بها النفي، وذلك أن المخرج في الاستثناء أقل من الباقي. ولأن (ما شاء الله) في العرف يستعمل للمجهول. فكأنه
(1)
أخرجه في: الشهادات، 11- باب شهادة الأعمى، حديث رقم 1292.

(2)
أخرجه البخاري في: الصلاة، 31- باب التوجه نحو القبلة حيث كان، حديث رقم 266 وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 89.

قيل: إلا أمرا نادرا لا يعلم. فإذا دل مثله على القلة عرفا، والقلة قد يراد بها النفي في نحو (قلّ من يقول كذا مجازا) أريد بالاستثناء هنا ذلك. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله: (أو قال إلا ما شاء الله) والغرض نفي النسيان رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه (أنت سهمي فيما أملك إلا فيما شاء الله) ولا يقصد استثناء شيء.
وهو من استعمال القلة في معنى النفي.
وقال الفراء- فيما نقله الرازي-: إنه تعالى ما شاء أن ينسي محمدا صلى الله عليه وسلم شيئا، إلا المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيرا ناسيا لقدر عليه، كما قال: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: 86] ، ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك. وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرّفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه، لا من قوته. انتهى.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى أي ما يجهر به عباده وما يخفونه من الأقوال والأفعال. وهو تعليل لقوله: سَنُقْرِئُكَ مبين لحكمته، وهو سبق علمه تعالى بحاجة البشر إلى إقرائه الوحي وإخراجهم به من الظلمات إلى النور.
ثم أشار إلى أن هذا المقرأ الموحى به للعمل. ليس فيه حرج وعسر، بقوله تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي نوفقك للطريقة اليسرى، أي الشريعة السمحة السهلة، التي هي أيسر الشرائع وأوفقها بحاجة البشر مدى الدهر فَذَكِّرْ أي عباد الله عظمته، وعظهم وحذرهم عقوبته إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أي الموعظة و (إن) إما بمعنى (إذ) كقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139] ، أو بمعنى (قد) على ما قاله ابن خالويه. ويؤيده قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55] ، وقيل: (إن) شرطية. والمعنى ذم المذكّرين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم، تسجيلا بالطبع على قلوبهم كما تقول للواعظ: (عظ المكّاسين إن سمعوا منك) قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنه لن يكون سَيَذَّكَّرُ أي يقبل التذكرة وينتفع بها مَنْ يَخْشى أي يخاف العقاب على الجحود والعناد، بعد ظهور الدليل وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي العظمى ألما وعذابا ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي لا يهلك فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه. قيل: إن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوع في شدة شديدة قالوا:
(لا هو حي ولا ميت) فجاء على مألوفهم في كلامهم. و (ثم) هنا للتفاوت الرتبيّ، إشارة إلى أن خلوده أفظع من دخوله النار، وصليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أي فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي، وعمل بما أمره الله به وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أي تذكر جلال ربه وعظمته، فخشع وأشفق وقام بما له وعليه، كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] ، وجوز أن يحمل تَزَكَّى على إيتاء الزكاة و (صلى) على إقامة الصلاة، كآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ، لما عهد في كلامه تعالى من الجمع بينهما في عدة آيات، لأنهما مبدأ كل خير وعنوان السعادة. لكن قيل عليه، بأن المعهود في التنزيل الكريم تقديم الصلاة. وأجيب بأنه لا ضير في مخالفة العادة، مع أن الجاري تقديمها إذا ذكرت باسمها. أما إذا ذكرت بفعل مأخوذ منها، فلا كقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] . والأول أظهر، لأنه أشمل وأعمّ. وهو أكثر فائدة.
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا قال أبو السعود: إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام. كأنه قيل، إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها. والخطاب إما للكفرة، فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها [يونس: 7] الآية، أو للكل، فالمراد بإيثارها ما هو أهم مما ذكر، وما لا يخلو عنه الإنسان غالبا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة. في السعي وترتيب المبادئ. والالتفات على الأول لشديد التوبيخ. وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة، وتشديد العتاب في حق المسلمين.
وقرئ (يؤثرون) بالياء وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي أفضل، لخلوصها عما يكدر. وأدوم لعدم انصرام نعيمها. والجملة حال من فاعل تُؤْثِرُونَ مؤكدة للتوبيخ والعتاب إِنَّ هذا أي ما ذكر في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أو ما في السورة كلها لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي ثابت فيها معناه صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى بدل من (الصحف الأولى) وفي إبهامها ووصفها بالقدم، ثم بيانها وتفسيرها، من تفخيم شأنها، ما لا يخفى.
بسم الله الرحمن الرحيم

88- سورة الغاشية


مكية. وآيها ست وعشرون. وقد تقدم حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ (سبح اسم ربك الأعلى والغاشية) في صلاة العيد ويوم الجمعة.

وروى الإمام مالك أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير : بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال: هل أتاك حديث الغاشية (رواه مسلم وأبو داود وغيرهما).

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 1 - 9 ] هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية

هل أتاك حديث الغاشية أي: خبرها وقصتها، وهي القيامة.

وأصل الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها. والاستفهام للتعظيم والتعجب مما في حيزه، مع تقريره.

وجوه يومئذ خاشعة أي: ذليلة. وهي وجوه أهل الكفر بالحق والجحود له. والمراد بالوجوه الذوات.

عاملة ناصبة قال القاشاني: أي: تعمل دائبا أعمالا صعبة تتعب فيها، كالهوي في دركات النار، والارتقاء في عقباتها، وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها. أو عاملة من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضريت بها في الدنيا، وأتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب. [ ص: 6138 ] وجوز أن يكون عاملة ناصبة إشارة إلى عملهم في الدنيا، أي: عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة. فيكون بمنزلة حابطة أعمالها. أو جعلت أعمالها هباء منثورا كما يدل عليه آيات أخر، ويؤيده مقابلة هذه الآية، لقوله في أهل الجنة لسعيها راضية وذلك السعي هو الذي كان في الدنيا. والله أعلم.




ابوالوليد المسلم 23-06-2025 06:37 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الفجر
المجلد السابع عشر
صـ 6137 الى صـ 6147
الحلقة (623)





تصلى نارا حامية أي: تدخل نارا متناهية في الحرارة. قال القاشاني: أي: مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال.

تسقى من عين آنية أي: بلغت غايتها في شدة الحر.

ليس لهم طعام إلا من ضريع وهو من جنس الشوك، ترعاه الإبل ما دام رطبا، فإذا يبس تحامته، وهو سم قاتل. قال ابن جرير : الضريع عند العرب نبت يقال له: الشبرق، وتسميه أهل الحجاز الضريع، إذا يبس. ولا منافاة بين هذه الآية وآية: ولا طعام إلا من غسلين لأن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع، وقيل: الضريع مجاز أو كناية، أريد به طعام مكروه حتى للإبل التي تلتذ برعي الشوك، فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا.

لا يسمن أي: لا يخصب البدن ولا يغني من جوع أي: لا يسكن داعية النفس ولا نهمها من أجله.

وجوه يومئذ ناعمة أي: ذات حسن، على أنه من النعومة، كناية عن حسن المنظر. أو ناعمة بمعنى متنعمة، على أنه من النعيم.

لسعيها راضية أي: لعملها الذي عملته في الدنيا وجدها في طريق البر واكتساب الفضائل، شاكرة لا تندم ولا تتحسر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : الآيات 10 الى 16]
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أي مرتفعة المحل. أو رفيعة القدر، من علوّ المكانة.
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي لغوا، أو كلمة ذات لغو، أو نفسا تلغو. لأن كلامهم الحكمة والعلوم والتسبيح والحميد فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ أي لا انقطاع لها فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أي مرتفعة ليروا، إذا جلسوا عليها. جميع ما خولوه من النعيم والملك وَأَكْوابٌ جمع كوب، وهو إناء لا أذن له مَوْضُوعَةٌ أي بين أيديهم لا يعوزهم تفقدها وَنَمارِقُ أي وسائد مَصْفُوفَةٌ أي فوق الأسرة أو في جوانب المساكن للاستناد إليها وَزَرابِيُّ أي بسط مَبْثُوثَةٌ أي مفروشة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 20]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ قال أبو السعود: استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية، وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون، بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. والهمزة للإنكار والتوبيخ. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكلمة (كيف) منصوبة بما بعدها، معلقة لفعل النظر.
والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من (الإبل) أي أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عزّ وجلّ، فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين، إلى أنها كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات، في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة به تأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة، كالنوء بالأوقار الثقيلة وجر الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة. وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى أن أظماءها لتبلغ العشر فصاعدا. واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك، مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم. وفي انقيادها مع ذلك الإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وَإِلَى السَّماءِ التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار كَيْفَ رُفِعَتْ أي رفعت كواكبها رفعا سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكا لا يختل سيره ولا يفسده نظامه وَإِلَى الْجِبالِ أي التي ينزلون في أقطارها كَيْفَ نُصِبَتْ أي أقيمت منتصبة لا تبرح مكانها، حفظ للأرض من الميدان وَإِلَى الْأَرْضِ أي التي يضربون فيها ويتقلبون عليها كَيْفَ سُطِحَتْ أي بسطت ومهدت، حسبما يقتضيه صلاح أموره ما عليها من الخلائق.
قال الزمخشري: والمعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق. حتى لا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه.
لطيفة:
ذكر السكاكي في (المفتاح) في بحث الجامع الخيالي أن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال. وأنه إذا لم يوفه حقه من التيقظ وأنه من أهل المدر، أنى يستحلى كلام رب العزة مع أهل الوبر، حيث يبصرهم الدلائل ناسقا ذلك النسق أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الآيات، لبعد البعير عن خياله في مقام النظر، ثم لبعده في خياله عن السماء، وبعد
خلقه عن رفعها. وكذا البواقي. لكن إذا وفاه حقه بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم، جاء الاستحلاء. وذلك إذا نظر أن أهل الوبر، إذا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي، كانت عنايتهم مصروفة لا محالة إلى أكثرها نفعا، وهي الإبل. ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلا بأن ترعى وتشرب، كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر، وأهم مسارح النظر عندهم السماء، ثم إذا كانوا مضطرين إلى مأوى يؤويهم وإلى حصن يتحصنون فيه ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال.
لنا جبل يحتلّه من نجيره ... منيع يردّ الطرف وهو كليل
فما ظنك بالتفات خاطرهم إليها؟ ثم إذا تعذر طول مكثهم في منزل- ومن لأصحاب مواش بذاك- كان عقد الهمة عندهم بالتنقل من أرض إلى سواها من عزم الأمور. فعند نظره هذا، أيرى البدوي إذا أخذ يفتش عما في خزانة الصور له، لا يجد صورة الإبل حاضرة هناك أو لا يجد صورة السماء لها مقارنة، أو تعوزه صورة الجبال بعدهما، أو لا تنصّ إليه صورة الأرض تليها بعدهن؟ لا. وإنما الحضري، حيث لم تتآخذ عنده تلك الأمور، وما جمع خياله تلك الصور على ذلك الوجه وإذا تلا الآية قبل أن يقف على ما ذكرت، ظن النسق بجهله معيبا للعيب فيه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : الآيات 21 الى 26]
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
فَذَكِّرْ أي من أرسلت إليه بآياته تعالى، التي تسوق إلى الإيمان بخالقها الفطرة إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي مبلغ ما نسي من أمره تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي بمتسلط تقهرهم على الإيمان. وقرئ بالصاد على إبدالها من السين إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو عذاب جهنم. والاستثناء منقطع. أي لكن من تولى وكفر، فإن لله الولاية والقهر، فهو يعذبه العذاب الأكبر على جحده الحق إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أي رجوعهم ومعادهم بالموت والبعث. والجملة تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر. وجمع الضمير فيه وفيما بعده، باعتبار معنى (من) كما أن إفراده قبل باعتبار لفظها ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ أي فنجازيهم بالعذاب الأكبر. فإن القهر والغلبة له تعالى وحده.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفجر
مكية. وآيها تسع عشرة
روى النسائي «1» عن جابر قال: صلى معاذ صلاة. فجاء رجل فصلى معه، فطول. فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف. فبلغ ذلك معاذا، فقال: منافق. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل الفتى فقال: يا رسول الله! حيث أصلي معه يطول عليّ. فانصرفت وصليت في ناحية المسجد فعلفت ناقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتانا يا معاذ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والفجر والليل إذا يغشى؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
وَالْفَجْرِ أي الصبح كقوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] ، أقسم تعالى بآياته، لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضّوء وانتشار الناس وسائر الحيوانات، لطلب الأرزاق. وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم. وفيه عبرة لمن تأمل وَلَيالٍ عَشْرٍ هي، على قول ابن عباس ومجاهد، عشر ذي الحجة، لأنها أيام الاهتمام بنسك الحج.
وفي البخاري «2» عن ابن عباس مرفوعا: ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام يعني عشر ذي الحجة.
وحكى ابن جرير: أنه قيل عني بها عشر المحرم. والرازي، قولا أنها العشر الأواخر من رمضان، لما فيه من ليلة القدر، ولما صح «3» أنه صلوات الله عليه كان إذا
(1)
أخرجه في: الافتتاح، 63- باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى.

(2)
أخرجه الترمذي في: الصوم، 52- باب ما جاء في العمل في أيام العشر، حديث رقم 757.

(3)
أخرجه البخاري في: فضل ليلة القدر، 5- باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، حديث رقم 1027، عن عائشة.

دخل العشر الأخير من رمضان شدّ مئزره وأحيى ليله وأيقظ أهله. وثمة وجه آخر في العشر. وهو أنها الليالي التي يحلولك فيها الليل ويشتد ظلامه ويغشى الأفق سواده.
وتلك خمس من أوائله وخمس من أواخره. وإن لفظة (عشر) بمثابة قوله في السور الآتية إِذا يَغْشى إِذا سَجى مما يبيّن وجه العبرة ويجلّيها أتم الجلاء، ولا بعد في هذا المعنى. بل فيه توافق لبقية الآيات. وبالجملة فأوضح المخصصات ما عضده دليل أو أيدته قرينة أو حاكى نظائره. والله أعلم.
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يعني الخلق والخالق. فالشفع بمعنى جميع الخلق، للازدواج فيه كما في قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49] ، قال مجاهد: كل خلق الله شفع. السماء والأرض. والبر والبحر.
والجن والإنس والشمس والقمر والكفر والإيمان. والسعادة والشقاوة. والهدى والضلالة. والليل والنهار.
وَالْوَتْرِ هو الله تعالى لأنه من أسمائه. وهو بمعنى الواحد الأحد. فأقسم الله بذاته وخلقه. وقيل: المعنى بالشفع والوتر، جميع الموجودات من الذوات والمعاني. لأنها لا تخلو من شفع ووتر.
قال القاضي: ومن فسرهما بالبروج والسيارات أو شفع الصلوات ووترها أو بيومي النحر وعرفة، فلعله أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلا في الدين، أو مناسبة لما قبلهما.
قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالشفع والوتر، ولم يخصص نوعا من الشفع ولا من الوتر، دون نوع، بخبر ولا عقل، وكل شفع ووتر، فهو مما أقسم به. مما قال أهل التأويل أنه داخل في قسمه هذا، لعموم قسمه بذلك.
وقد قرئ (الوتر) بفتح الواو وكسرها. وهما لغتان.
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي إذا يمضي، كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: 33] ، والتقييد بذلك لما في التعاقب من قوة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة. ففي الليل الراحة التي هي من أعظم النعم، وفي النهار المكاسب وغيرها. وحذف الياء للتخفيف ولتتوافق رؤوس الآي. ومن القراء من حذفها، أصلا ووقفا. ومنهم من خصه بأحدهما، كما فصل في كتب الأداء.
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ قال ابن جرير: أي هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر. وإنما عني بذلك: أن في هذا القسم مكتفى لمن عقل عن ربه، مما هو أغلظ منه في الإقسام.
وقال الرازي: المراد من الاستفهام التأكيد. كمن ذكر حجة باهرة ثم قال: هل فيما ذكرته حجة؟ والمعنى أن من كان ذا لبّ علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية. فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه. أي على طريقة قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:
76] ، وإنما أوثرت هذه الطريقة هضما للخلق، وإيذانا بظهور الأمر. و (الحجر) العقل. لأنه يحجر صاحبه، أي يمنعه من ارتكاب ما لا ينبغي. والمقسم عليه محذوف. وهو (ليعذبن) كما ينبئ عنه قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 6 - 8 ] ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد

ألم تر كيف فعل ربك بعاد أي: ألم تعلم علما يقينيا كيف عذب ربك عادا، [ ص: 6147 ] فيعذب هؤلاء أيضا، لاشتراكهم فيما يوجبه من جحود الحق والمعاصي. و (عاد): قبيلة من العرب البائدة، وتلقب بإرم أيضا، وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودا عليه السلام، فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية. فقوله تعالى: إرم عطف بيان لعاد ذات العماد أي: ذات الخيام المعمدة، لأنهم كانوا أهل عمد ينتجعون الغيوث وينتقلون إلى الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم في الأحقاف في حضرموت. وقيل: كني بالعماد عن العلو والشرف والقوة، إلا أنه الأشبه -كما قال ابن جرير - بظاهر التنزيل هو الأول، وهو أنهم كانوا عمد سيارة; لأن المعروف في كلام العرب من العماد، ما عمد به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء. ثم قال: وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه، ما وجد إلى ذلك سبيل، دون الأنكر.

التي لم يخلق مثلها في البلاد أي: في العظم والبطش والأيدي.

قال ابن كثير : كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا; ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم. فقال: واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون وقال تعالى: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة





ابوالوليد المسلم 23-06-2025 06:42 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البلد
المجلد السابع عشر
صـ 6148 الى صـ 6160
الحلقة (624)






تنبيه:
قال الإمام الدرّاكة ابن خلدون في (مقدمة) تاريخه في سياق الأخبار الواهية للمؤرخين ما مثاله: وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير
سورة (الفجر) في قوله تعالى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ فيجعلون لفظه إِرَمَ اسما لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين، وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان. هما شديد وشداد. ملكا من بعده. وهلك شديد فخلص الملك لشداد. ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة فقال لأبنينّ مثلها. فبنى مدينة (إرم) في صحارى عدن في مدة ثلاثمائة سنة. وكان عمره تسعمائة سنة. وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت. وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته. حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم. ذكر ذلك الطبريّ والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين. وينقلون عن عبد الله بن قلابة، من الصحابة، أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه. وبلغ خبره إلى معاوية فأحضره وقص عليه. فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال: هي إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له. ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا، والله، ذاك الرجل.
قال ابن خلدون: وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض. وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقبا. والأدلاء تقص طرقه من كل وجه. ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم، ولو قالوا إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه. إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة. وبعضهم يقول إنها دمشق، بناء على أن قوم عاد ملكوها. وقد انتهى الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر. مزاعم كلها أشبه بالخرافات. والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة ذاتِ الْعِمادِ أنها صفة إِرَمَ وحملوا العماد على الأساطين. فتعين أن يكون بناء. ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير (عاد إرم) على الإضافة من غير تنوين. ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات. وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام. وإن أريد بها الأساطين، فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم. بما اشتهر من قوتهم. لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها. وإن أضيفت، كما في قراءة ابن الزبير، على إضافة الفصيلة إلى القبيلة. كما تقول: قريش كنانة وإلياس مضر، وربيعة نزار. وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة؟ انتهى. وسبقه الحافظ ابن كثير في تفسيره حيث قال: ومن زعم
أن المراد بقوله: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مدينة إما دمشق أو إسكندرية، ففيه نظر. فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا، إن جعل إِرَمَ بدلا أو عطف بيان؟ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يردّ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.
قال: وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية، من ذكر مدينة يقال لها إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مبنية بلبن الذهب والفضة إلخ. فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين، من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس إن صدقهم في جميع ذلك. وحكاية عبد الله بن قلابة الأعرابي ليس يصح إسنادها. ولو صح إلى ذلك الأعرابي، فقد يكون اختلق ذلك، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وليس كذلك. وهذا مما يقطع بعدم صحته. وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتخيلين، ومن وجود مطالب تحت الأرض، فيها قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللآلئ والإكسير الكبير. لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها. فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء. فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير، ونحو ذلك من الهذيانات. ويطنزون بهم.
والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 9 الى 14]
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
وَثَمُودَ وهم قوم صالح عليه السلام الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ أي قطعوا صخر الجبال، واتخذوا فيها بيوتا. كما في قوله: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ [الحجر: 82] ، والباء ظرفية. والمجرور متعلق ب (جابوا) أو هو حال من الفاعل أو المفعول. وقرئ بالياء وبإسقاطها. كما في (يسر) والوادي هو وادي القرى. كانت منازلهم فيه. كما قاله ابن إسحاق وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ أي الجنود الذين يشدون له أمره. أو هي أوتاد يشد بها من يعذّبه. أو القوى والعدد والعدد التي تم له بها ملكه، ورسخ بطشه وسلطانه، ومنه قولهم، لمن تمكن في أرض ما: ضرب بها أوتادا الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ صفة للمذكورين: عاد وثمود وفرعون. أي تجاوزوا ما وجب عليهم إلى ما حظر من الكفر بالحق والعتو والتمرّد والبغي في
بلادهم، اغترارا بالقوة وعظم السلطان فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ أي الضرر والإيذاء وهضم الحقوق فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ أي أنزل بهم عذابه، وأحلّ بهم نقمته، بما طغوا في البلاد وأفسدوا فيها. وقد بين تعالى إهلاكهم مفصلا في غير ما سورة وآية. و (السوط) إما مصدر (ساطه) أي خلطه كما في قول كعب:
لكنها خلّة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
أريد به المفعول هنا. أي أنزل عليهم ما خلط لهم من أنواع العذاب. قيل:
وبما ذكر سميت الآلة المعروفة، وهو الجلد المضفور الذي يضرب به، لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض. وإما أن يكون السوط الآلة المعروفة. استعيرت لعذاب أدون من غيره. وهو ما اختاره الزمخشري حيث قال: وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّ لهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به.
وقيل: هو من قبيل (لجين الماء) أي عذابا كالسوط في شدته، وهو ما يقتضيه كلام الطبري، حيث زعم أن السوط مثل لشدة العذاب.
قال الشهاب: وأما استعارة الصبّ للعذاب فشائعة، كالإذاقة. يقال: صبّ عليه السوط، وقنّعه به وغشّاه. وهو تمثيل وتصوير لحلوله أو تتابعه عليه وتكرره. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي لهؤلاء الذين قصّ نبأ هلاكهم، ولضربائهم من الكفرة بالحق والعاثين بالفساد. و (المرصاد) اسم مكان للذي يترقب فيه الرصد- جمع راصد- أو صيغة مبالغة. كمطعام ومطعان. فالياء تجريدية وفيه استعارة تمثيلية. شبه كونه تعالى حافظا لأعمال العباد، مترقبا لها ومجازيا على نقيرها وقطميرها. بحيث لا ينجو منه أحد- بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها، ليأخذه فيوقع به ما يريد. ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر.
ثم أشار إلى غفلة الإنسان في حالي غناه وفقره. ونعى عليه شأنه فيهما.
بما يقرر ما تقدم من استحقاقه صبّ العذاب، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ أي بالغنى واليسار فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ أي فضّلني، لما لي عنده من الكرامة وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي
ضيّقه عليه وقتّره، فلم يكثر ماله ولم يوسع عليه فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أي أذلني بالفقر. وذلك لسوء فكره وقصور نظره في الحالين. فإنه إنما ابتلاه بالغنى ليقوم بواجبه ويعرف حق الله فيه. وبالفقر ليظهر بمظهر العفاف ويتخلق بخلق الصبر على الكفاف. ففي كلّ ابتلاء وامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب. ونظير الآية، آية:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] وآية، أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55- 56] وآية، إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج: 19- 22] . وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 17 الى 20]
كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
كَلَّا ردع عن قوليه في حاليه. أعني اعتقاد الإكرام في الإعطاء، والإهانة في المنع، بل لطلب الشكر. وهو صرف النعم إلى ما خلقت له، وإعطاء المال لذويه، وأحقهم الأيتام وهم لا يفعلونه، كما قال: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وهو من فقد كافله ومربيه. فإن من آكد الواجبات القيام على تأديبه وكفالته، صونا له إذا أهمل من فساد طبيعته وعيثه بالضرر في أهل جبلته. ومثله التحاضّ على مواساة البؤساء. وهؤلاء المنعي عليهم ضلالهم في غفلة عنه، كما قال: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يحض بعضكم بعضا عليه ولا يتواصى به.
قال الإمام: وإنما ذكر التحاض على الطعام، ولم يكتف بالإطعام فيقول لم تطعموا المسكين) ليصرح لك بالبيان الجلي أن أفراد الأمة متكافلون. وإنه يجب أن يكون لبعضهم على بعض عطف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع التزام كلّ لما يأمر به، وابتعاده عما ينهى عنه.
لطيفة:
قال القاشاني: في دلالة قوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ: أي الإنسان يجب أن يكون في مقام الشكر أو الصبر بحكم الإيمان، لحديث (الإيمان نصفان. نصف:
صبر، ونصف شكر) لأن الله تعالى إما إن يبتليه بالنعم والرخاء، فعليه أن يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من إكرام اليتيم وإطعام المسكين وسائر مراضيه. ولا
يكفر نعمته بالبطر والافتخار فيقول: إن الله أكرمني لاستحقاقي وكرامتي عنده، ويترفه في الأكل ويحتجب بمحبة المال وبمنع المستحقين. أو بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه أن يصبر ولا يجزع ولا يقول: إنّ الله أهانني. فربما كان ذلك إكراما له.
بأن لا يشغله بالنعمة عن المنعم، ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق، كما أن الأول ربما كان استدراجا منه. انتهى.
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا قال ابن جرير: أي تأكلون الميراث أكلا شديدا، لا تتركون منه شيئا. من قولهم: (لممت ما على الخوان أجمع فأنا ألمه لمّا) إذا أكلت ما عليه فأتيت على جميعه.
قال ابن زيد: كانوا لا يورّثون النساء ولا يورّثون الصغار، وقرأ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ [النساء: 127] ، أي لا تورثونهن أيضا. وقال بكر بن عبد الله: اللمّ: الاعتداء في الميراث. يأكل ميراثه وميراث غيره وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي جمعه وكنزه، حبّا كثيرا شديدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 26]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)
كَلَّا ردع لهم عن ذلك، وإنكار لفعلهم. وما بعده وعيد عليه بالإخبار عن ندمهم وتحسرهم حين لا ينفعهم الندم إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي دكا بعد دك حتى عادت هباء منثورا.
قال الشهاب: ليس الثاني تأكيدا، بل التكرير للدلالة على الاستيعاب. كقرأت النحو بابا بابا. وجاء القوم رجلا رجلا. و (الدك) قريب من الدق، لفظا ومعنى وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا قال ابن كثير: أي وجاء الرب، تبارك وتعالى، لفصل القضاء، كما يشاء والملائكة بين يديه صفوفا صفوفا. وسبقه ابن جرير إلى ذلك وعضده بآثار عن ابن عباس وأبي هريرة والضحاك في نزوله تعالى من السماء يومئذ في ظلل من الغمام، والملائكة بين يديه، وإشراق الأرض بنور ربها. ومذهب الخلف في ذلك
معروف، من جعل الكلام على حذف مضاف، للتهويل. أي جاء أمره وقضاؤه. أو استعارة تمثيلية لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه.
قال الزمخشري: مثلت حاله في ذلك، بحال الملك إذا حضر بنفسه، ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم انتهى.
وكأنّ الخلاف بين المذهبين لفظي، إذ مبنى مذهب الخلف على أن الظاهر غير مراد. ويعنون بالظاهر ما للخلق مما يستحيل على الخالق، فوجب تأويله. وأما السلف فينكرون أن معنى الظاهر منها ما للخلق. بل هو ما يتبادر إلى فهم المؤمن الذي يعلم أن ذاته تعالى، كما أنها لا تشبه الذوات، فكذلك صفات لا تشبه الصفات. لأنها لا تكيف ولا تعلم بوجه ما. فهي حقيقة النسبة إليه سبحانه. على ما يليق به. كالعلم والقدرة. لا تمثيل ولا تعطيل.
قال الإمام ابن تيمية رضي الله عنه: واعلم أن من المتأخرين من يقول إن مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. وهذا لفظ مجمل. فإن قوله (ظاهرها غير مراد) يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين. مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلّي، أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، و (إن الله معنا) ظاهره أنه إلى جانبنا، ونحو ذلك. فلا شك أن هذا غير مراد، ومن قال إن مذهب السلف أن هذا غير مراد، فقد أصاب في المعنى، لكن أخطأ في إطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث. فإن هذا المجال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع. اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار، معذورا في هذا الإطلاق. فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية. انتهى.
وقد بسط رحمه الله الكلام على ذلك في (الرسالة المدنية) وأوضح أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذي حذوه ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية.
وقال رحمه الله في بعض فتاويه: نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله. وبالتأويل الجاري على نهج السبيل. ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا، أنا لا نقول
بالمجاز والتأويل. والله عند لسان كل قائل. ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب، وما فتح به الباب، إلى هدم السنة والكتاب واللحاق بمحرّفة أهل الكتاب.
والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه أن القرآن مشتمل على المجاز. ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة. وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم، كأبي بكر بن أبي داود، وأبي الحسن الخرزيّ، وأبي الفضل التميميّ، وابن حامد، فيما أظن، وغيرهم، إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز. وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز. فقابلوا الضلال والفساد، بحسم الموادّ. وخيار الأمور التوسط والاقتصاد. انتهى.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ أي أظهرت حتى رآها الخلق وعلم الكافر أن مصيره إليها. فمجيئها متجوز به عن إظهارها. كما صرح به آية وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات: 39] ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ
تفريطه في الدنيا في طاعة الله وفيما يقرب إليه من صالح الأعمال وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي منفعتها. فالمراد بتذكره ندامته على تفريطه في الصالحات من الأعمال التي تورثه نعيم الأبد، كما فسره بقوله تعالى: يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي أسلفت من الأعمال الصالحة لحياتي هذه. فاللام للتعليل. أو: قدمت وقت حياتي. فاللام بمعنى وقت. والحياة هي التي في الدنيا فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أي لا يعذب كعذاب الله، أحد في الدنيا وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ أي لا يوثق كوثاقه يومئذ أحد في الدنيا. وقرئ (يعذب ويوثق) على بناء المجهول.
قال السمين: وعذاب ووثاق في الآية، واقعان موقع تعذيب وإيثاق. والمعنى لا يعذب أحد تعذيبا مثل تعذيب الله هذا الكافر. ولا يوثق أحد إيثاقا مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال. فالوثاق في الآية بمعنى الإيثاق. كالعطاء بمعنى الإعطاء.
ثم أشار إلى ما يقال لمن آمن وعمل صالحا، في مقابلة من تقدم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 30]
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ أي الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن. وهي التي كان قلبها اطمأن بذكر الله وطاعته وخشيته من الاضطراب ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ
أي وعده وثوابه راضِيَةً مَرْضِيَّةً أي راضية بما أوتيت، مرضية عند ربها فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي في زمرتهم، وهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَادْخُلِي جَنَّتِي أي معهم. وهذا القول إما عند الموت أو البعث أو دخول الجنة.
ومن غرائب المأثور هنا، تأويل النفس بالروح، والرب بصاحبها. أي ارجعي إلى جسد صاحبك إيذانا بأن الأرواح المطمئنة تردّ يوم القيامة في الأجساد، وأن لها مقرّا قبل تعلقها بالبدن في عالم الملكوت. والمسألة من الغوامض بل من الغيوب.
وبمعرفة نظائر التنزيل، يظهر بعد هذا التأويل.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البلد
مكية وهي عشرون آية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3)
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ تقدم في مواضع متعددة من التنزيل الكريم تفسير لا أُقْسِمُ والْبَلَدِ هو مكة. وقيد القسم بقوله تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ عناية بالنبيّ صلوات الله عليه. فكأنه إقسام به لأجله، مع تعريض بعدم شرف أهل مكة، وأنهم جهلوا جهلا عظيما، لهمهم بإخراج من هو حقيق به، وبه يتم شرفه.
قال الشهاب: و (الحل) صفة أو مصدر بمعنى الحالّ على هذا الوجه. ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة. وقيل معناه وأنت يستحل فيه حرمتك، وتعرض لأذيتك. ففيه تعجيب من حالهم في عداوته، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم بأنه لا يستحل فيه الحمام، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام، عليه الصلاة والسلام؟؟.
وقيل: معناه وأنت حل به في المستقبل. تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له ساعة من نهار، يقتل ويأسر. مع أنها ما فتحت على أحد قبله، ولا أحلت له. ففيه تسلية له، ووعد بنصره، وإهلاك عدوه.
و (الحل) على هذين الوجهين ضد (الحرمة) وفيهما- كما قالوا- بعد. لا سيما إرادة الاستقبال في الوجه الأخير، فإنه غير متبادر منه. وإنما كان الأول أولى لتشريفه عليه السلام، بجعل حلوله به مناطا لإعظامه، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب، بذكر بعض موادّ المكايدة، على نهج براعة الاستهلال، وإنه كابد المشاق، ولاقى من الشدائد، في سبيل الدعوة إلى الله، ما لم يكابده داع قبله، صلوات الله عليه وسلامه.
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ عطف على (هذا البلد) داخل في المقسم به. قيل: عني
بذلك آدم وولده وقيل: إبراهيم وولده. والصواب- كما قال ابن جرير- أن المعني به كل والد وما ولد. قال: وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولا خبر بخصوص ذلك ولا برهان، يجب التسليم له بخصوصه. فهو على عمومه كما عمه.
وإيثار (ما) على (من) لإرادة الوصف. فيفيد التعظيم في مقام المدح. وإنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها. ولذا أفادت التعجب أو التعجيب، وإن لم يكن استفهاما كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36] أي أيّ مولود عظيم الشأن وضعته. وهذا على كون المراد إبراهيم والنبيّ عليهما الصلاة والسلام، ظاهر. أما على أن المراد به آدم وذريته، فالتعجب من كثرتهم، أو مما خص به الإنسان من خواص البشر. كالنطق والعقل وحسن الصورة. حكاه الشهاب.






ابوالوليد المسلم 23-06-2025 06:47 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الشمس
المجلد السابع عشر
صـ 6161 الى صـ 6172
الحلقة (625)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البلد (90) : الآيات 4 الى 7]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي في شدة، يكابد الأمور يعالجها في أطواره كلها، من حمله إلى أن يستقر به القرار. إما في الجنة وإما في النار.
قال الزمخشري: (الكبد) أصله من قولك (كبد الرجل كبدا) فهو أكبد، إذا وجعت كبده وانتفخت. فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة. كما قيل: (كبته) بمعنى أهلكه. وأصله كبده إذا أصاب كبده. قال لبيد:
يا عين هلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد
أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب. انتهى.
وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه، مما كان يكابده من قريش، من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا. وأن كل من كان أعظم فهو أشد نصبا. هذا خلاصة ما قالوه.
وقال القاشاني: (في كبد) أي مكابدة ومشقة من نفسه وهواه. أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب. إذ (الكبد) في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفساده وحجاب القلب وفساده من هذه القوة. فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.
أَيَحْسَبُ أي لغلظ حجابه ومرض قلبه لاحتجابه بالطبيعة أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ
أَحَدٌ
أي أن لن تقوم قيامة، ولن يقدر على مجازاته وقهره وغلبته. مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته واعترافه بعجزه.
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي كثيرا. من (تلبد الشيء) إذا اجتمع. والمراد ما أنفقه للافتخار والمباهاة والرياء. كقولهم (خسرت عليه كذا وكذا) إذا أنفق عليه.
يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله. ولهذا قال: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أي: أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه ونيته، حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله، وهي رذيلة على رذيلة فكيف تكون فضيلة؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البلد (90) : الآيات 8 الى 16]
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ قال القاشانيّ: أي ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال، ليبصر ما يعتبر به، ويسأل عما لا يعلم، ويتكلم فيه؟
وقال السيد المرتضى: هذا تذكير ينعم الله عليهم، وما أزاح به علتهم في تكاليفهم، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويدفعون بها المضار عنهم. لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة. فالحاجة إلى العينين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم، والنطق أيضا. وقوله تعالى:
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي طريقي الخير والشر، قال الإمام: النجد مشهور في الطريق المرتفعة والمراد بهما طريقا الخير والشر. وإنما سماهما نجدين، ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة مسلك فليس الشر بأهون من الخير كما يظن، وإلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك. أي أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر. وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاما تدله عليهما. ثم وهبناه الاختيار. فإليه أن يختار أي الطريقين شاء. فالذي وهب الإنسان هذه الآلات. وأودع باطنه تلك القوى، لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته، ولا يجوز أن يخفى عليه
شيء من سريرته. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي فلم يشكر تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة. و (الاقتحام) الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. و (العقبة) الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها. استعارها لما يأتي، لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفي الاستفهام زيادة تقريرها وكونها عند الله تعالى بمكانة رفيعة فَكُّ رَقَبَةٍ أي عتقها. أو المعاونة عليه وتخليصها من الرق وأسر العبودية، رجوعا به إلى ما فطرت عليه من الحرية أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي مجاعة يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي قرابة. قال السيد المرتضى: وهذا حض على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين، على الأجانب في الإفضال.
قال: وقد يمكن في مَقْرَبَةٍ أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى، بل من (القرب) الذي هو من الخاصرة، فكأن المعنى أنه يطعم من خاصرته لصقت من شدة الجوع والضرّ وهذا أشبه بقوله تعالى: ذا مَتْرَبَةٍ لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالضر. وليس من المبالغة في الوصف بالضر أن يكون قريب النسب. انتهى. وقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي فقر شديد لا يواريه إلا التراب. يقال: (ترب) كأنه لصق بالتراب. ويقال: (فقر مدقع) و (فقير مدقع) بمعنى لاصق بالدقعاء، وهي التراب.
لطيفة:
ذهب الأكثرون إلى أن (لا) من قوله (فلا) نافية. وإنما لم تكرر، مع أن العرب لا تكاد تفردها، كما جاء في آية فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] ، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] ، استغناء بدلالة بقية الكلام على تكرارها. لأن (لا اقتحم) لما فسر بما بعده كان في قوة (لا فك رقبة ولا أطعم مسكينا) وفي الآية أجوبة أخرى. منها أنه لما عطف عليه، كان وهو منفي أيضا.
فكأنها كررت. وقيل (لا) للدعاء. كقولهم (لا نجا ولا سلم) وقيل مخففة من (ألا) التي للتحضيض. وقيل: إنها للنفي فيما يستقبل. وقال الإمام: أما ما قيل من أن (لا) إذا دخلت على الماضي وجب تكرارها، ولم تكرر في الآية، فذلك لا يلتفت إليه. لأن الكتاب نفسه حجة في الفصاحة. وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البلد (90) : الآيات 17 الى 18]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي بالحق الذي جاءهم. عطف على المنفي ب (لا)
وهو (اقتحم) أو على (فك) وَتَواصَوْا أي أوصى بعضهم بعضا بِالصَّبْرِ أي على ما نابهم في سبيل الدعوة إلى الحق وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي بالرحمة على بعضهم. كقوله: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، أو بموجبات رحمته تعالى من القيام بالحق والصدع به وعمل الصالحات أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي اليمين، أو جهة اليمين التي فيها السعداء.
تنبيه:
قال القاشاني: يشير قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الآيات، إلى قهر النفس بتكلف الفضائل والتزام سلوك طريقها واكتسابها، حتى يصير التطبع طبعا. ثم قال:
فإن الإطعام، خصوصا وقت شدة الاحتياج للمستحق، الذي هو وضع في موضعه، من باب فضيلة العفة بل أفضل أنواعها- والإيمان من فضيلة الحكمة وأشرف أنواعها وأجلها، وهو الإيمان العلمي اليقيني- والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة- وأخّره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين.
و (المرحمة) أي التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة. فانظر كيف عدّد أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس. بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل.
وعبر عنها بمعظم أنواعها. وأخص خصالها الذي هو السخاء. ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس. وجاء بلفظة (ثم) لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلوّ.
وعبر عن الحكمة به لكونه أمّ سائر مراتبها وأنواعها.
ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين. وأخر العدالة التي هي نهايتها.
واستغنى بذكر المرحمة، التي هي صفة الرحمن، عن سائر أنواعها. كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البلد (90) : الآيات 19 الى 20]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي بأدلتنا وأعلامنا من الكتب والرسل وغير ذلك من آيات الأنفس والآفاق، التي بكل يرتقي إلى معرفة الصراط التي تجب الاستقامة عليه في الاعتقاد والعمل هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أي الشؤم على أنفسهم، أو جهة الشمال التي فيها الأشقياء. وقال الإمام: أهل اليمين، في لسان الدين الإسلامى، عنوان السعداء. وأهل الشمال عنوان الأشقياء عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة أبوابها، كناية عن حبسهم المخلد فيها، وسد سبل الخلاص منها، أجارنا الله بفضله وكرمه منها.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الشمس
مكية، وآيها خمس عشرة.
وقد تقدم
حديث جابر الذي في الصحيح «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: هلّا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)
وَالشَّمْسِ وَضُحاها أي ضوئها إذا أشرقت. قال الراغب: (الضحى) انبساط الشمس وامتداد النهار، وبه سمي الوقت. وحقيقته- كما قال الشهاب- تباعد الشمس عن الأفق المرئي وبروزها للناظرين، ثم صار حقيقة في وقته. وقال الإمام:
يقسم بالشمس نفسها ظهرت أو غابت لأنها خلق عظيم. ويقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة ومجلى الهداية في عالمها الفخيم. وهل كنت ترى حيا أو تبصر ناميا، أو هل كنت تجد نفسك، لولا ضياء الشمس، جلّ مبدعه؟.
وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبع الشمس، قال الإمام: وذلك في الليالي البيض، من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة. وهو قسم بالقمر عند امتلائه أو قربه مع الامتلاء. إذ يضيء الليل كله مع غروب الشمس إلى الفجر. وهو قسم في الحقيقة بالضياء في طور آخر من أطواره. وهو ظهوره وانتشاره الليل كله.
وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها أظهر الشمس. وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه، لأن
(1)
أخرجه النسائي في: الافتتاح، 63- باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى. []

الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وفي هذه الأقسام كلها- كما قاله الإمام- إشارة إلى تعظيم أمر الضياء وإعظام قدر النعمة فيه ولفت أذهاننا إلى أنه من آيات الله الكبرى ونعمه العظمى وفي قوله: إِذا جَلَّاها بيان للحالة التي ينطق فيها النهار بتلك الحكمة الباهرة والآية الظاهرة. وهي حالة الصحو. أما يوم الغيم الذي لا تظهر فيه الشمس، فحاله أشبه بحال الليل الذي يقسم به في قوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي يغشى الشمس ويعرض دون ضوئها فيحجبه عن الأبصار. وذلك في ليالي الظلمة الحالكة المشار إليها بقوله في الآية المتقدمة: وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر: 2] ، على القول الأخير. قال الإمام: ولقلة أوقات الظلمة، عبر في جانبها بالمضارع لا مفيد للحاق الشيء وعروضه متأخرا عما هو أصل في نفسه. أما النهار فإنه يجلي الشمس دائما من أوله إلى آخره. وذلك شأن له في ذاته. ولا ينفك عنه إلا لعارض كالغيم أو الكسوف قليل العروض.. ولهذا عبر في جانبه بالماضي المفيد لوقوع المعنى من فاعله، بدون إفادة أنه مما ينفك عنه.
وَالسَّماءِ وَما بَناها أي ومن رفعها، وصيّرها بما فيها من الكواكب، كالسقف أو القبة المحكمة الزينة المحيطة بنا. ف (ما) موصولة بمعنى (من) أوثرت لإرادة الوصفية. أي والقادر الذي أبدع خلقها.
قالوا: وذكر ما بَناها مع أن في ذكر السَّماءِ غنية عنه، للدلالة على إيجادها وموجدها صراحة وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي بسطها. من كل جانب، لافتراشها وازدراعها والضرب في أكنافها.
قال الإمام: وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية، كما يزعم بعض الجاهلين. أي بتحريفه الكلم عن معناه المراد منه وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها أي خلقها فعدل خلقها ومزاجها، وأعدها لقبول الكمال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أي أفهمها إياهما، وأشعرها بهما، بالإلقاء الملكي والتمكين من معرفتهما، وحسن التقوى وقبح الفجور بالعقل الهيولاني.
لطيفة:
جوز في (ما) كونها مصدرية في الكل، ولا يضره خلو الأفعال من فاعل ظاهر ومضمر إذا لا مرجع له. وعطف الفعل على الاسم لأنه يكفي لصحة الإضمار دلالة السياق. وهي موجودة هنا. وأن العطف على صلة (ما) لا عليها مع صلتها. فكأنه قيل: ونفس وتسويتها، فإلهامها إلخ. وعطف الفعل على الاسم ليس بفاسد. نعم في الوجه الأول توافق القرائن وهو أسدّ. وأما الثاني فوجه يتسع النظم الكريم له. وأما تنكير (نفس) فللتكثير أو التعظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : الآيات 9 الى 12]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أي زكى نفسه وطهرها من رجس النقائص والآثام. أو نمّاها بالعلم والعمل والوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي أخملها ووضع منها، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله تعالى. هذا ما قاله ابن جرير: وقال غيره: أي نقص تزكيتها وأخفى استعدادها وفطرتها التي خلقت عليها بالجهالة والفسوق. وهو مأخوذ من (دس الشيء في التراب) أي أدخله فيه وأخفاه. وأصل (دسّى) دسّس. كتقضّى البازي.
وجملة قَدْ أَفْلَحَ إلخ جواب القسم وحذف اللام للطول.
قال القاضي: وكأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه، أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية ويذكرهم عظائم الإله ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي هو منتهى كمالات القوة العملية.
وذهب الزمخشري إلى أن هذه الجملة كلام تابع لقوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على سبيل الاستطراد. وجواب القسم محذوف تقديره: ليدمدمنّ الله عليهم. أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود، لأنهم كذبوا صالحا عليه السلام. وقد دل عليه قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها أي بسبب طغيانها ومجاوزتها الحدّ في الفجور. ف (الطغوى) مصدر. وجوز أن يراد به العذاب نفسه، على حذف مضاف أو بدونه مبالغة كما يوصف بغيره من المصادر.
أي كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى، كقوله: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ فالطغوى على هذا من التجاوز عن الحدّ والزيادة من العذاب. والباء صلة (كذبت) وقوله تعالى: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها ظرف ل (كذبت) أو (طغوى) أي حين قام أشقى ثمود لعقر ناقة صالح عليه السلام. وكانوا نهوا عن مسّها بسوء، وأنذروا عاقبة المخالفة، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : الآيات 13 الى 15]
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ يعني صالحا عليه السلام لقومه- ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها
أي احذروا واتقوا ناقة الله التي جعلها آية بينة وشربها، الذي اختصه الله به في يومها. وكان عليه السلام تقدم إليهم عن أمر الله أن للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم آخر، غير يوم الناقة. كما بينته آية الشعراء قال: هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 155- 156] ، أي لا تؤذوا الناقة ولا تتعدوا عليها في شربها ويوم شربها فَكَذَّبُوهُ أي فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا فَعَقَرُوها أي قتلوها.
قال في النهاية: أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. ثم اتسع حتى استعمل في القتل والهلاك. وذلك أنهم أجمعوا على منعها الشرب ورضوا بقتلها. وعن رضا جميعهم قتلها قاتلها وعقرها من عقرها. ولذلك نسب التكذيب والعقر إلى جميعهم فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ أي أهلكهم وأزعجهم بسبب كفرهم به وتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته، استهانة به واستخفافا بما بعث به. وقيل:
دمدم أطبق عليهم العذاب. وقيل: الدمدمة حكاية صوت الهدة فَسَوَّاها أي فسوى الدمدمة عليهم جميعا، فلم يفلت منهم أحد. بمعنى جعلها سواء بينهم أو الضمير لثمود. أي جعلها عليهم سواء وَلا يَخافُ عُقْباها أي لا يخشى تبعة إهلاكهم لأنه العزيز الذي لا يغالب.
قال الشهاب: أي لا يخاف عاقبتها كما يخاف الملوك عاقبة ما تفعله. فهو استعارة تمثيلية لإهانتهم وأنهم أذلاء عند الله. فالضمير في (يخاف) لله وهو الأظهر. ويجوز عوده للرسول صلى الله عليه وسلم أي أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم وهو على الحقيقة، كما إذا قيل: الضمير للأشقى أي أنه لا يخاف عاقبة فعله الشنيع. والواو الحال أو الاستئناف.
تنبيه:
قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) : المقصود أن الآية أوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلالة والكفر عن علم ويقين. ولهذا، والله أعلم، ذكر قصتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة وَالشَّمْسِ وَضُحاها لأنه ذكر فيها انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة المهتدية وإلى الفاجرة الضالة الغاوية. وذكر فيها الأصلين: القدر والشرع.
فقال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] ، فهذا قدره وقضاؤه ثم قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 9] ، فهذا أمره ودينه. وثمود، هداهم فاستحبوا العمى على الهدى. فذكر قصتهم ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى. والتدسية على التزكية. والله أعلم.






ابوالوليد المسلم 23-06-2025 06:51 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الليل
المجلد السابع عشر
صـ 6173 الى صـ 6186
الحلقة (626)



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الليل
مكية، وآيها إحدى وعشرون. وقد تقدم
قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ «1» : هلّا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي يغشى الشمس أو النهار بظلمته، فيذهب بذاك الضياء وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي ظهر بزوال الليل أو تبين بطلوع الشمس.
قال الإمام: والتعبير في الغشيان بالمضارع، لما سبق من عروض الظلمة لأصل النور الذي هو أكمل مظاهر الوجود، حتى عبر به عن الوجود نفسه. أما تجلي النهار فهو لازم له. لهذا عبر عنه بالماضي كما سبق بيانه وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي والقادر الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد. ف (ما) موصولة بمعنى (من) أوثرت لإرادة الوصفية، كما تقدم.
قال الإمام: وإنما أقسم بذاته بهذا العنوان، لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة وما فيها، والإشارة إلى الإبداع في الصنع. إذ لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى، في الحيوان، يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، كما يزعم بعض الجاحدين. فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر أو كون الأنثى. فتكوين الولد من عناصر واحدة تارة ذكرا وتارة أنثى، دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، محكم فيما يضع ويصنع. انتهى.
(1)
أخرجه النسائي في: الافتتاح، 63- باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى.

وقوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى جواب القسم. أو هو مقدر، كما مر تفصيله. أي مختلف في جزائه. ومفرّق في عاقبته. فمنه ما يسعد به الساعي ومنه ما يشقى به، فشتان ما بينهما، كما فصله بعد. و (شتى) إما جمع شتيت أو شت، بمعنى متفرق، والمصدر المضاف يفيد العموم. فيكون جمعا معنى. ولذا أخبر عنه ب (شتى) وهو جمع. وفيه وجه آخر وهو أنه مفرد مصدر مؤنث. كذكرى وبشرى. فهو بتقدير مضاف، أو مؤول، أو بجعله عين الافتراق، مبالغة.
قال الرازيّ: ويقرب من هذه الآية قوله: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] ، وقوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة: 18] ، وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية: 21] .
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 11]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى تفصيل لتلك المساعي الشتى، وتبيين لمآلها ما تقدم.
قال الرازيّ: وفي أَعْطى وجهان:
أحدهما- أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب، وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوّهم. كما كان يفعله أبو بكر، سواء كان ذلك واجبا أو نفلا وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] ، فإن المراد منه كل ما كان إنفاقا في سبيل الله، سواء كان واجبا أو نفلا وقد مدح الله قوما فقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان: 8] ، وقال في آخر هذه السورة وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى [الليل: 17- 18] الآية.
وثانيهما- أن قوله أَعْطى يتناول إعطاء حقوق المال، وإعطاء حقوق الناس في طاعة الله تعالى. يقال: فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة. انتهى.
إلا أن الأول هو المناسب للإعطاء. لأن المعروف فيه تعلقه بالمال خصوصا وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال وَاتَّقى أي ربه فاجتنب محارمه وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنى
أي بالمثوبة الحسنى. قال قتادة: أي صدق بموعود الله الحسن. وهو بمعنى قول مجاهد، إنها الجنة كما قال تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً [الشورى: 23] ، فسمى مضاعفة الأجر (حسنى) وقال القاشاني: أي صدق بالفضيلة الحسنى التي هي مرتبة الكمال بالإيمان العلميّ، إذ لو لم يتيقن بوجود كمال كامل لم يمكنه الترقي. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى، التي هي السلوك في طريق الحق، لقوة يقينه.
قال الشهاب: ولما كانت مؤدية إلى اليسر، وهو الأمر السهل الذي يستريح به الناس وصفت بأنها يسرى، على أنه استعارة مصرحة أو مجاز مرسل أو تجوّز في الإسناد.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ أي بالنفقة في سبيل الله، ومنع ما وهب الله له من فضله من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها وَاسْتَغْنى أي عن ربه فلم يرغب إليه بالعمل له بطاعته بالزيادة فيما خوّله، أو استغنى بماله عن كسب الفضيلة، وعمه به عن الحق وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أي بوجود المثوبة للحسنى، لمن آمن بالحق، لاستغنائه بالحياة الدنيا واحتجابه بها عن عالم الآخرة. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبديّ.
قال الإمام: الخطة العسرى هي الخطة التي يحط فيها الإنسان من نفسه، ويغض من حقها وينزل بها إلى حضيض البهيمية، ويغمسها في أو حال الخطيئة. وهي أعسر الخطتين على الإنسان، لأنه لا يجد معينا عليها لا من فطرته ولا من الناس وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أي وما يفيده ماله الذي تعب في تحصيله، وأفنى عمره في حفظه وبطر الحق لأجله، إذا هلك، من قولهم: (تردى من الجبل وفي الهوة) وفي التعبير به إشارة إلى أنه بما قدمه من أعماله الخبيثة، هو المهلك والموقع لنفسه. وهو الحافر على حتفه بظلفه و (ما) نافية أو استفهام في معنى الإنكار. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى استئناف مقرر لما قبله. أي علينا بموجب قضائنا المبنيّ على الحكم البالغة، حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض، أن نبين لهم طريق
الهدى ليجتنبوا مواقع الردى. وقد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والتمكين من الاستدلال والاستبصار، بخلق العقل وهبة الاختيار.
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي ملكا وخلقا. فلا يضرنا توليكم عن الهدى.
وذلك لغناه تعالى المطلق، وتفرده بملك ما في الدارين، وكونه في قبضة تصرفه. لا يحول بينه وبينه أحد، ولا يحصله أحد، حتى يضر عدم اهتدائه أو ينفع اهتداؤه.
وفيه إشارة إلى تناهي عظمته وتكامل قهره وجبروته. وإن من كان كذلك، فجدير أن يبادر لطاعته ويحذر من معصيته. ولذا رتب عليه قوله: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى أي تتلظى وتتوهج. وهي نار الآخرة لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ أي بالحق الذي جاءه وَتَوَلَّى أي عن آيات ربه وبراهينها التي وضح أمرها وبهر نورها، عنادا وكفرا وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي ينفق ماله في سبيل الخير، يتزكى عن رجس البخل ودنس الإمساك وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي من يد يكافئه عليها. أي لا يؤتيه للمكافأة والمعارضة إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي لكن يؤتيه ابتغاء وجه ربه وطلب مرضاته. لا لغرض آخر من مكافأة أو محمدة أو سمعة. وفي حصر (الأتقى) بالمنفق، على الشريطة المذكورة، عناية عظيمة به، وترغيب شديد في اللحاق به، كيف لا؟ وبالمال قوام الأعمال، ورفع مباني الرشاد وهدم صروح الفساد. وقوله تعالى: وَلَسَوْفَ يَرْضى قال ابن جرير: أي ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عزّ وجلّ، يتزكى بما يثيبه الله في الآخرة عوضا مما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي ربه تبارك وتعالى. ففيه وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها، إذ به يتحقق الرضا. وهذا على، إن ضمير (يرضى) ل (الأتقى) لا للرب. قال الشهاب: وهو الأنسب بالسياق واتساق الضمائر.
وذهب بعضهم إلى الثاني، ومنهم الإمام، قال: أي ولسوف يرضى الله عن ذلك الأتقى الطالب بصفة رضاه (ثم قال) : والتعبير ب (سوف) لإفادة أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفي القليل من المال، لأن يبلغ العبد درجة الرضا الإلهيّ.
تنبيه:
قال ابن كثير: ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك.
ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها. فإن اللفظ لفظ العموم وهو قوله تعالى:
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ولكنه مقدم
الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة. فإنه كان صدّيقا تقيّا كريما جوادا بذّالا لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم. ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها. ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل.
ولهذا قال له عروة بن مسعود، وهو سيد ثقيف، يوم صلح الحديبية: أما والله! لولا يد لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك. وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة. فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل. فكيف بمن عداهم؟
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة: يا عبد الله هذا خير. فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما على من يدعى منها ضرورة، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم
.
انتهى.

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الضّحى
مكية وآيها إحدى عشرة.
لطيفة:
قال ابن كثير: روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرئ قال: قرأت على عكرمة بن سليمان، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد. فلما بلغت وَالضُّحى قال لي: كبّر حتى تختم مع خاتمة كل سورة. فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك. وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك. وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب فأمره بذلك، وأخبره أبيّ أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك. فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، من ولد القاسم بن أبي بزة. وكان إماما في القراءات. وأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازيّ وقال: لا أحدث عنه. وكذلك أبو جعفر العقيليّ، قال: هو منكر الحديث.
لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في (شرح الشاطبية) عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: أحسنت وأصبت السنة. وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته. فقال بعضهم:
يكبر من آخر وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وقال آخرون: من آخر وَالضُّحى وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول (الله أكبر) ويقتصر، ومنهم من يقول (الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر) وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى، أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة، ثم جاء الملك فأوحى إليه وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى السورة بتمامها، كبر فرحا وسرورا، ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. فالله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)
وَالضُّحى تقدم في سورة وَالشَّمْسِ وَضُحاها تفسير الضحى بالضوء وارتفاع النهار ارتفاعا عاليا وَاللَّيْلِ إِذا سَجى أي اشتد ظلامه. وأصله من التسجية وهي التغطية، لستره بظلمته. كما في آية وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً [النبأ: 10] ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ جواب القسم. أي: ما تركك وما قطعك قطع المودّع.
قال الشهاب في (العناية) : فالتوديع مستعار استعارة تبعية للترك هنا. وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى. فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعزّ مفارقته.
كما قال المتنبي:
حشاشة نفس ودّعت يوم ودّعوا ... فلم أدر أيّ الظاعنين أشيّع
وقال في (شرح الشفاء) : الوداع له معنيان في اللغة: الترك وتشييع المسافر.
فإن فسر بالثاني هنا على طريق الاستعارة، يكون فيه إيماء إلى أن الله لم يتركه أصلا.
فإنه معه أينما كان. وإنما الترك، لو تصور في جانبه، ظاهر مع دلالته بهذا المعنى على الرجوع. فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده. وإليه أشار الأرجاني بقوله:
إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمنّك البعاد
وانتظر العود عن قريب ... فإن قلب الوداع (عادوا)
فقوله وَما قَلى مؤكد له. (قال) : وهذا، لم أر من ذكره مع غاية لطفه.
وكلهم فسروه بالمعنى الأول. ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه. فيقتضي الانقطاع التام، قالوا: إن المبالغة في النفي لا في المنفيّ فتركه لحكم عليه، لا لضرره بهجره. أو لنفي القيد والمقيد. وقرئ ما وَدَّعَكَ بالتخفيف. وورد
في الحديث «1» شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه. وورد في الشعر، كقوله:
فكان ما قدّموا لأنفسهم ... أعظم نفعا من الذي ودعوا
ولهذا قال في (المصباح) بهذا: اعلم أن قولهم، في علم التصريف، أماتوا ماضي يدع ويذر خطأ. وجعله استعارة من الوديعة تعسّف. انتهى وكذا قال في (المستوفى) : أنه كله ورد في كلام العرب، ولا عبرة بكلام النحاة فيه، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وإن كان نادر. انتهى وقوله تعالى: وَما قَلى أي: وما أبغضك. والقالي: المبغض. يعني ما هجرك عن بغض.
قال الشهاب: وحذف مفعول (قلى) اختصارا للعلم به، وليجري على نهج الفواصل التي بعده، أو لئلا يخاطبه بما يدل على البغض.
تنبيه:
روى ابن جرير: عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياما، فعيّر بذلك. فقال المشركون: ودعه ربه وقلاه. فأنزل الله هذه الآية،
وفي رواية: إن قائل ذلك امرأة أبي لهب، وفي أخرى أنها خديجة رضي الله عنها. ولا تنافي، لاحتمال صدوره من الجميع. إلا أن قول المشركين وقول خديجة- إن صح- توجع وتحزن-
وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال: فتر الوحي حتى شق ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأحزنه. فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني. فجاء جبريل بسورة والضحى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى
قال ابن جرير: أي وللدار الآخرة، وما أعد الله لك فيها، خير لك من الدار الدنيا وما فيها. يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها. وقال القاضي: أو: لنهاية أمرك خير من بدايته. فإنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أي يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى، وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين، بالفتوح الواقعة في عصره عليه الصلاة والسلام، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من ملوك الإسلام، وفشوّ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، ولما
(1)
أخرجه البخاري في: الأدب، 48- باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب، حديث رقم 2330، عن عائشة.

ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى. وبالجملة، فهذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام في الدارين، حيث أجمله ووكله إلى رضاه وهذا غاية الإحسان والإكرام.
تنبيه:
قال في (المواهب اللدنية) : وأما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى واحدا من أمته في النار، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم، ولعبه بهم. فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة. وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة تغريرا للجهال وتزيينا لموارد الضلال. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الضحى (93) : الآيات 6 الى 11]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى قال أبو السعود: تعديد لما أفاض عليه من أول أمره إلى ذلك الوقت، من فنون النعماء العظام، ليستشهد بالحاضر الموجود على المترقب الموعود. فيطمئن قلبه وينشرح صدره، والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفيّ على أبلغ وجه. كأنه قيل: قد وجدك إلخ. والوجود بمعنى العلم.
روي أن أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر. وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب وعطّفه الله عليه فأحسن تربيته، وذلك إيواؤه وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى
أي غافلا عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان، فهداك إليه وجعلك إماما له، كما في آية ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] .
قال الشهاب: فالضلال مستعار من (ضل في طريقه) إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده لعدم ما يوصله للعلوم النافعة، من طريق الاكتساب وَوَجَدَكَ عائِلًا أي فقيرا فَأَغْنى أي فأغناك بمال خديجة الذي وهبته إياه. أو بما حصل لك من ربح التجارة فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فلا تغلبه على ماله فتذهب بحقه، استعطافا منك له وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ قال ابن جرير: أي وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته. أي لأن للسائل حقا، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي
أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
[المعارج: 24- 25] .
وقد ذهب الحسن- فيما نقله الرازيّ- إلى أن المراد من السائل من يسأل العلم. فيكون في مقابلة قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وهكذا قال ابن كثير:
أي وكما كنت ضالا فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد. قال الإمام:
ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام بيان ما يشتبه عليهم. فمنهم أهل الكتاب الممارون. ومنهم الأعراب الجفاة. ومنه من كان يسأل عما لا يسأل عنه الأنبياء. فلا غرو أن يأمره الله بالرفق بهم، وينهاه عن نهرهم، كما عاتبه على التولّي عن الأعمى السائل، في سورة عبس. انتهى.
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي بشكرها وإظهار آثارها، فيرغب فيما لديه منها، ويحرص على أن تصدر المحاويج عنها. وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها. وفي الآية تنبيه على أدب عظيم. وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها، حرصا على التفضل والجود والتخلق بالكرم، وفرارا من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى.
قال الإمام: عن عادة البخلاء أن يكتموا مالهم، لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل. فلا تجدهم إلا شاكين من القل. أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه. فلهذا صح أن يجعل التحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين.
فهذا هو قوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي إنك لما عرفت بنفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفقراء. وليس القصد هو مجرد ذكر الثروة، فإن هذا من الفجفجة التي يتنزه عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولم يعرف عنه في امتثال هذا الأمر أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض. ولكن الذي عرف عنه أنه كان ينفق ما عنده ويبيت طاويا. وقد يقال: إن المراد من النعمة النبوة. ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله: وَوَجَدَكَ عائِلًا فتكون النعمة بمعنى الغنى. ولو كانت بمعنى النبوة، لكانت مقابلة لقوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا وقد علمت الحق في مقابله. والله أعلم.






ابوالوليد المسلم 23-06-2025 06:57 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة التين
المجلد السابع عشر
صـ 6187 الى صـ 6200
الحلقة (628)




بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الشرح
مكية. وقيل: مدنية، وهو الأقوى عندي. فإن استقرار هذه النعم المعدودة فيها، إنما كان بالمدينة المنورة، كما لا يخفى. وآيها ثمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ أي: ألم نوسعه بإلقاء ما يسره ويقويه، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام، وتأييده وعصمته، حتى علم ما لم يعلم وصار مستقرّ الحكمة ووعاء حقائق الأنباء، والهمزة لإنكار النفي. ونفي النفي إثبات. ولذا عطف المثبت عليه. وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه، مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه، وما خفي منه. استعمل في القلب الشرح والسعة، لأنه محل الإدراك لما يسرّ وضده. فجعل إدراكه لما فيه مسرة يزيل ما يحزنه، شرحا وتوسيعا. وذلك لأنه بالإلهام ونحوه، مما ينفس كربه ويزيل همه، بظهور ما كان غائبا عنه وخفيّا عليه، مما فيه مسرته. كما يقال (شرح الكتاب) إذا وضحه. ثم استعمل في الصدر الذي هو محل القلب مبالغة فيه. لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه. ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطا. ثم سموا ضده ضيقا وقبضا. وهو من المجاز المتفرع على الكناية بوسائط، وبعد الشيوع زال الخفاء وارتفعت الوسائط- هذا ما حققه الشهاب.
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ قال الشهاب: الوزر الحمل الثقيل. ووضعه:
إزالته عنه. لأنه إذا تعدى ب (على) كان بمعنى التحميل. وإذا تعدى ب (من) كان بمعنى الإزالة. والإنقاض: حصول النقيض وهو صوت فقرات الظهر. وقيل: صوت الجمل أو الرحل أو المركوب إذا ثقل عليه. فالإنقاض، التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض، أي صوت، كما قاله الأزهريّ.
وقال ابن عرفة: هو إثقال يجعل ما حمل عليه نقضا. أي مهزولا ضعيفا. وقد مثل بذلك حاله صلوات الله عليه، مما كان يثقل عليه ويغمه من قلة المستجيبين لدعوته، وضعف من سبق إلى الإيمان به، وشيوع الشرك والضلال في جزيرة العرب، وقوة أهلها. ووضعه عنه هو كثرة من آمن بعد، ودخولهم في دين الله أفواجا، وقوة أتباعه وانمحاء الشرك والجاهلية من الجزيرة، وذل أهلها بعد العز، وانقيادهم بعد شدة الإباء. وقيل: الآية كناية عن عصمته وتطهيره من دنس الآثام كقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] .
والوجه الأول أقوى، وفي الآية، على كلّ، استعارة تمثيلية. والوضع ترشيح لها وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي بالنبوة وفرض الاعتراف برسالته وجعله شرطا في قبول الإيمان وصحته. وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة. فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.
وعن مجاهد: أي لا أذكر إلا ذكرت معي. قال الشهاب وهذا- أي المأثور عن مجاهد- إن أخذ كلية خالف الواقع. فإنه كم ذكر الله وحده! وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده! وإن عين موضعا فهو ترجيح بلا مرجح. وإن جعلت القضية مهملة، فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة.
قال: وقد أمعنت فيه النظر فلم أر ما يثلج الصدر، ويردّ السائل غير صفر، حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال: الذكر محمول على الذكر في مجامع العبادة ومشاهدها. فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره فيها في الواقع في الصلوات والخطب.
فلا ترى مشهدا من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك. فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي بل ولا في وقت من الأوقات المعتدّ بها، فتتجه الكلية. فإن قلت: من أين لك هذا التقييد، فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح؟
قلت: المقام ناطق بهذا القيد. فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره، الدال على قربه صلى الله عليه وسلم من ربه، كقرب اسمه من اسمه، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد. وأي إشاعة أقوى من الآذان؟ لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر.
ثم قال: واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قاله الإمام الشافعيّ في أول (رسالته الجديدة) وبينه السبكيّ في تعليقة على الرسالة فقال رحمه الله تعالى:
قال الإمام رضي الله تعالى عنه عن مجاهد في تفسير الآية: لا أذكر إلا ذكرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد أن محمدا رسول الله. قال الشافعيّ: يعني
ذكره عند الإيمان بالله والأذان، ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.
قال السبكيّ: هذا الاحتمال من الشافعيّ جيد جدّا.

وهو مبني على أن المراد بالذكر، الذكر بالقلب، وهو صحيح. فعلى هذا يعم. لأن الفاعل للطاعة أو الكافّ عن المعصية امتثالا لأمر الله تعالى به، ذاكرا للنبيّ صلى الله عليه وسلم بقلبه، لأنه المبلغ لها، عن الله. وهذا أعم من الذكر باللسان، فإنه مقصور على الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحوها. قال الشافعيّ: فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت، نلنا بها حظا في دين أو دنيا. أو رفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما، إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها. فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره، حمل الذكر على الذكر القلبيّ فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله، تذكر من دل على معرفته وهداه إلى طاعته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قيل:
فأنت باب الله أيّ امرئ ... أتاه من غيرك لا يدخل؟
ولك أن تقول: المراد برفع ذكره تشريفه صلى الله عليه وسلم بمقارنته لذكره في شعائر الدين الظاهرة، وأولها كلمتا الشهادة، وهما أساس الدين ثم الأذان والصلاة والخطب.
فالحصر إضافيّ. انتهى كلام الشهاب. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 8]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إشارة إلى أن الذي منحه، صلوات الله عليه، من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر، بعد ضيق الأمر واستحكام حلقات الكرب في أول السير، كان على ما جرت به سنته تعالى في هذا النوع من الخليقة. وهو أن مع العسر يسرا. ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب. (وأل) في (العسر) للاستغراق ولكنه استغراق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه. فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدوّ، وقلة الوسائل إلى المطلوب. ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف. فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت، وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل ما من شأنه أن يعدّ لذلك في معروف العقل، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى، فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة. وقد كان هذا حال النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك، وهو
الوحي والنبوة.
ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئا من عزمه. بل ما زال يلتمس الغنى في الفقر، والقوة في الضعف، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصارا طوالا. أفاده الإمام رحمه الله.
لطيفة:
تنكير (يسرا) للتعظيم. والمراد يسر عظيم وهو يسر الدارين. وفي كلمة (مع) إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر. فهو استعارة، شبه التقارب بالتقارن، فاستعير لفظ (مع) لمعنى (بعد) وقوله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تكرير للتأكيد، أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر كثواب الآخرة. وعليه أثر: «1» (لن يغلب عسر يسرين) فإن المعرّف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول، سواء كان معهودا أو جنسا. وأما المنكّر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول فَإِذا فَرَغْتَ أي من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك فَانْصَبْ أي خذ في عمل آخر واتعب فيه. فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل، قاله الإمام وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ
أي في الدعوة إليه. أي لا ترغب إلا إلى ذاته، دون ثواب أو غرض آخر، لتكون دعوتك وهدايتك إليه، قال القاشانيّ.
وقال ابن جرير: اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه. إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد، والأظهر عندي، اعتمادا على ما صححناه من أن الآية مدنية وأنها من أواخر ما نزل- أن يكون معنى قوله تعالى فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي فرغت من مقارعة المشركين، وظفرت بأمنيتك منهم، بمجيء نصر الله والفتح، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار، شكرا لله على ما أنعم، وأرغب إليه خاصة ابتغاء لمرضاته. فتكون الآيتان بمعنى سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال: فإذا فرغت من الجهاد، جهاد العرب وانقطع جهادهم، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب. وهو ظاهر. نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعه. إلا أن السياق والنظائر- وهو أهم ما يرجع إليه- يؤيد ما قاله ابن زيد واعتمدناه. والله أعلم.
(1)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: الجهاد، حديث 6، ونصه: عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم. فكتب إليه عمر بن الخطاب: أما بعد فإنه مهما ينزل بعيد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين ... إلخ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة التّين
مكية، ويقال: مدنية. وأيد الأول بقوله: وَهذَا الْبَلَدِ وآيها ثمان.
روي عن البراء بن عازب «1»
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون.
فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه. أخرجه الجماعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين مكة المشرفة، الآمن أهلها أن يحاربوا كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] ، وأما المقسمات بها قبل، ففيها أقوال للسلف لاحتمال موادها لكل منها. فعن مجاهد والحسن وغيرهما أن التِّينِ الذي يؤكل والزَّيْتُونِ الذي يعصر. قالوا: وخصهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما. وعن قتادة (التين) الجبل الذي عليه دمشق و (الزيتون) الذي عليه بيت المقدس. وعن كعب وابن زيد: (التين) مسجد دمشق و (الزيتون) بيت المقدس. فطهر أنهما الشجران المعلومان أو جبلان أو مسجدان. وصوب ابن جرير الأول منها، وعبارته:
والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال التِّينِ هو التين الذي يؤكل والزَّيْتُونِ هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت. لأن ذلك هو المعروف عند العرب.
ولا يعرف جبل يسمى تينا ولا جبل يقال له زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام، القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهبا وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك، دلالة في ظاهر التنزيل
(1)

أخرجه البخاري في: التوحيد، 52- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع الكرام البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم» ، حديث رقم 467.
ولا من قول من لا يجوّز خلافه، لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون. انتهى كلامه. وفيه نظر، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ. كيف وجبل الزيتون هو من جبال فلسطين، معروف ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين في تقويم البلاد.
قال صاحب (الذخيرة) في تعداد جبال فلسطين: ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون. قال: وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه، وهو قريب المسافة من أورشليم، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء. انتهى.
ويسمى أيضا طور زيتا إلى الآن. على أن فيما صوبه ابن جرير، تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين وحكمة جمعهما معهما في نسق واحد- غير مفهومة. كما قاله الإمام. فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معظم، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة.
قال ابن كثير: وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبيّا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار. فالأول محل التين والزيتون وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام.
والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران.
والثالث: مكة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم وفي التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء: يعني الذي كلم الله عليه موسى. وأشرق من ساعير: يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله عنه عيسى. واستعلن من جبال فاران: يعني جبل مكة التي أرسل الله منها محمدا صلى الله عليه وسلم. فذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجوديّ بحسب ترتيبهم في الزمان. ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما. انتهى كلام ابن كثير.
ومراده ببعض الأئمة، شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان. فإنه ذكر ذلك في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) ونحن ننقلها زيادة في إيضاح المقام، واهتماما بتحقيقه. قال رحمه الله (فصل شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم) : وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: جاء الله من طور سيناء. وبعضهم يقول في الترجمة: تجلى الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران. قال كثير من العلماء (واللفظ لأبي محمد بن قتيبة) : ليس بهذا خفاء على من تدبره. ولا غموض. لأن مجيء الله من طور سيناء، إنزاله التوراة
على موسى بطور سيناء. كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا. وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير، إنزاله على المسيح الإنجيل. وكان المسيح من ساعير أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة، وباسمها تسمى من اتبعه نصارى. وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران، إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبال فاران. وهي جبال مكة.
قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة. فإن ادعوا أنها غير مكة- وليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم- قلنا أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران، والنبيّ الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح. أو ليس استعلن وعلن بمعنى واحد وهما: ظهر وانكشف. فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوّه؟؟.
وقال أبو هاشم بن طفر: ساعير جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح عليه السلام. قلت: وبجانب بيت لحم- القرية التي ولد فيها المسيح- قرية تسمى إلى اليوم ساعير. ولها جبال تسمى جبال ساعير، وعلى هذا فيكون ذكر الثلاثة الجبال:
جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه، وفيه كان أول نزول الوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحوله من الجبال جبال كثيرة. وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم. وفيه كان ابتداء نزول القرآن. والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران. ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح، نزل كتاب في شيء من تلك الأرض، ولا بعث نبيّ. فعلم أن ليس المراد باستعلانه من جبال فاران، إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم. وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزمانيّ فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن. وهذه الكتب نور الله وهداه.
وقال في الأول: جاء أو ظهر. وفي الثاني: أشرق. وفي الثالث: استعلن. وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك. ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى. وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء.
ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران. فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في شرق الأرض وغربها، أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها. ولهذا سماه الله سراجا منيرا. وسمى الشمس سراجا وهاجا. والخلق محتاجون إلى السراج المنير، أعظم من حاجتهم إلى السراج
الوهاج. فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت. بل قد يتضررون به بعض الأوقات. وأما السراج المنير فيحتاجون إليه في كل وقت، وكل مكان، ليلا ونهارا، سرّا وعلانية. وقد قال صلى الله عليه وسلم «1» : زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها. وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها. وهذه الأماكن الثلاثة، أقسم الله بها في القرآن في قوله:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ فأقسم بالتين والزيتون، وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل. وأقسم بطور سيناء وهو الجبل الذي كلم الله موسى وناداه فيه، من واديه الأيمن، في البقعة المباركة من الشجرة- وأقسم بهذا البلد الأمين وهو مكة الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل، وأمه هاجر فيه. وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حوله.
وجعله آمنا خلقا وأمرا، قدرا وشرعا.
ثم قال (ابن تيمية) : فقوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداه، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن. كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران.
ولما كان ما في التوراة خبرا عنها، أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق وأما في القرآن، فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها. وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله. فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة. فختمها بأعلى الدرجات. فأقسم أولا بالتين والزيتون. ثم بطور سينين، ثم بمكة. لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل. وكذلك الأنبياء. فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: 1- 4] ، فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة.
فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح، ثم بالجاريات يسرا، وقد قيل إنها السفن، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 15- 16] ، فسماها جواري كما سمى الفلك جواري في قوله: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الشورى: 32] ، والكواكب فوق السحاب ثم قال: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: 4] ، وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.
(1)
أخرجه مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث رقم 19. عن ثوبان.

واستظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى: وَالتِّينِ يعني به شجرة (بوذا) مؤسس الديانة البوذية، التي تحرفت كثيرا عن أصلها الحقيقي. لأن تعاليم بوذا لم تكتب في زمنه. وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية. ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعها.
ثم قال: والراجح عندنا، بل المحقق إذا صح تفسيرنا لهذه الآية، أنه كان نبيّا صادقا ويسمى (سكياموتي) أو (جوناما) وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي. وأرسله الله رسولا. فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه. ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين، وتسمى عندهم (التينة المقدسة) وبلغتهم (أجابالا) .
قال: ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم. فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إلى آخر السورة.
قال: ولا يزال أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عددا وأرقاهم.
والترتيب في ذكرها في الآية، هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى. فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفا عن أصلها.
كما يبدأ الإنسان بالقسم بالشيء الصغير، ثم يرتقي للتأكيد إلى ما هو أعلى. ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفا. ثم اليهودية وهو أصح من النصرانية، ثم الإسلامية وهو أصحها جميعا وأبعدها عن التحريف والتبديل. بل إن أصولها، الكتاب والسنة العملية المتواترة، لم يقع فيها تحريف مطلقا. ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك، ذكر ديني الفضل (البوذية والمسيحية) أولا ثم ديني العدل (اليهودية والإسلامية) ثانيا للإشارة إلى الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولا. ثم تربية الشدة والعدل. وكذلك بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب.
ولا يخفى على الباحثين التشابه العظيم بين بوذا وعيسى ودينيهما. وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينيهما. فلذا جمع الأولان معا والآخران كذلك. وقدم البوذية على المسيحية لقدم الأولى. كما قدم الموسوية على المحمدية لهذا السبب بعينه.
ومن محاسن الآية أيضا الرمز والإشارة إلى ديني الرحمة بالفاكهة والثمرة، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية (مكة) وهي البلد الأمين. ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية أن التين والزيتون ينبتان كثيرا في أودية الجبال، كما في جبل الزيتون
بالشام وطور سيناء، وهما مشهوران بها. فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي، وأكرم أماكن التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة، الذين بقيت شرائعهم للآن. وأرسلهم الله لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم. انتهى بحروفه. والله أعلم.
لطيفة:
لم ينصرف (سينين) كما لا ينصرف (سيناء) لأنه جعل اسما للبقعة أو الأرض. فهو علم أعجميّ. ولو جعل اسما للمكان أو المنزل أو اسما لمذكر لانصرف، لأنك سميت به مذكرا. وقرأ العامة (سينين) بكسر السين. وقرأ بعض السلف بفتحها. وآخرون (سيناء) بالكسر والفتح ممدودا. قال السمين: وهذه لغات اختلفت في هذا الاسم السريانيّ، على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية.





ابوالوليد المسلم 23-06-2025 07:02 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة العلق
المجلد السابع عشر
صـ 6201 الى صـ 6212
الحلقة (629)



وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التين (95) : الآيات 4 الى 8]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أي في أحسن تعديل خلقا، وشكلا، صورة ومعنى قال الشهاب: الظرف في موضع الحال من الإنسان. والتقويم فعل الله، فهو بمعنى القوام أو المقوم، أو فيه مضاف مقدر، أي قوام أحسن تقويم، أو (في) زائدة والتقدير: قومناه أحسن تقويم.
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي جعلناه أسفل من سفل، وهم أصحاب النار لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين، ف (رد) بمعنى جعل التي تنصب مفعولين. قال الشهاب: و (السافلين) العصاة وغيرهم، وأسفل سافل للمتعدد المتفاوت. و (ثم) للتراخي الزماني أو هو رتبي، وجوز نصب أَسْفَلَ بنزع الخافض صفة لمحذوف. أي إلى مكان أسفل سافلين. أي محل النار. أو النار بمعنى جهنم. وهذا ما قاله مجاهد حيث قال: (في النار) وفي رواية (إلى النار) والسافلين، على هذا، الأمكنة السافلة وهي دركاتها.
وجمعها للعقلاء للفاصلة، أو للتنزيل منزلة العقلاء. كذا قالوا. ولو أريد بهم أهل النار والدركات، لأنهم أسفل السفل كالأول، لكان أولى.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع أو غير
منقوص أو غير محسوب أو غير ممنون به عليهم. والاستثناء متصل من ضمير (رددناه) فإنه في معنى الجمع لأن المكنيّ عنه وهو الإنسان، في معنى الجنس.
هذا، وقد اعتمد ابن جرير في تأويل الآية، ما روي عن ابن عباس من أن المعنى (ثم رددناه إلى أرذل العمر. وأن من كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها، ثم كبر حتى ذهب عقله، كتب له مثل عمله الصالح الذي كان يعمل في شبيبته، ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره وذهاب عقله، من أجل أنه مؤمن وكان يطيع الله في شبيبته) .
وعبارة ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة، وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال معناه: ثم رددناه أي إلى أرذل العمر إلى عمر الخرفى الذين ذهبت عقولهم من الهرم والكبر، فهو في أسفل من سفل في إدبار العمر، وذهاب العقل.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في حال صحتهم وشبابهم فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ بعد هرمهم، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل.
قال: وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب في ذلك، لأن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال، احتجاجا بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت. ألا نرى أنه يقول: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ يعني بعد هذه الحجج. ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكرين معنى من المعاني بما كانوا له منكرين. وإنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه، أو يقرون به وإن لم يكونوا له محسين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان القوم، للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا أهل الهرم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن، والشباب والجلد إلى الهرم والضعف وفناء العمر وحدوث الخرف. انتهى كلامه.
وعليه فيكون الاستثناء منقطعا، استدراكا للدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره، ويكون (الدين) حينئذ مبتدأ، والفاء داخلة في خبره. وأما على الوجه الأول، فالفاء للتفريع، ومدخولها جملة مترتبة عليه، ومؤكدة له. وقوله تعالى: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ خطاب للإنسان على طريق الالتفات، لتشديد التوبيخ والتبكيت، أي فما يحملك على التكذيب بالدين، أي
الجزاء بعد البعث، وإنكاره بعد هذه الدلائل. والمعنى: إن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشرا سويا، وتحويله من حال إلى حال، كمالا ونقصانا، من أوضح الدلائل على قدرة الله عزّ وجلّ على البعث، والجزاء فأي شيء تضطرك إلى التكذيب به؟
وجوز أن يكون الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ومعنى يُكَذِّبُكَ إما ينسبك إلى الكذب (كفسقته إذا قلت له إنه فاسق) والباء في بِالدِّينِ بمعنى (في) أي يكذبك في إخبارك به. أو سببية أي بسبب إخبارك به وإثباته. أو المعنى ما يجعلك مكذبا بالدين. على أن الباء صلته. وهو من باب الإلهاب والتعريض بالمكذبين، والمعنى إنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالدين. لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله ولا يرفعون لها رأسا. والاستفهام للإنكار والتعجب.
واستصوب ابن جرير: قول من قال (ما) بمعنى (من) أي فمن يكذبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين.
قال الشهاب: (فما) استفهام عمن يعقل، وفيه نظر، لأنه خلاف المعروف، فلا يرتكب مع صحة بقائها على أصلها، كما بيناه لك. والداعي لارتكاب هذا، أن المعنى عليه أظهر إذا كان المخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه إنكار توبيخيّ للمكذبين له صلى الله عليه وسلم بعد ما ظهر لهم من دلائل صدقه وصحة مدعاه أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي بأحكم من حكم في أحكامه. قال أبو السعود: أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا، حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء، وحيث استحال عدم كونه أحكم الحاكمين، تعين الإعادة والجزاء. فالجملة تقريرا لما قبلها. وقيل: الحكم بمعنى القضاء، فهي وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما يستحقونه من العذاب و (أحكم) من الحكم أو الحكمة. قيل: والثاني أظهر.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأها قال:
بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. أرسله قتادة، ورفعه أبو هريرة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم
.بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العلق
سورة العلق. وهي مكية بالإجماع. وصدرها أول آية نزلت من القرآن، كما صحت بذلك الأخبار. وأما أول سورة نزلت كاملة فهي الفاتحة. ويروى في الأوائل غيرها، ولا منافاة. لأن الأولية حقيقية ونسبية.
روى الشيخان «1» وغيرهما عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء. فكان يخلوا بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد. ويتزوّد لذلك. ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزوّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك فقال اقْرَأْ قال: ما أنا بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقْرَأْ فقلت:
ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقْرَأْ فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده.
(1)
أخرجه البخاري في: بدء الوحي، 3- باب حدثنا يحيى بن بكير، حديث رقم 3.

وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 252.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي اقرأ ما يوحى إليك من القرآن ملتبسا باسمه تعالى. أي مبتدئا به لتتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء. قال أبو السعود:
والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية، والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام، للإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية، بإنزال الوحي المتواتر. ووصف الرب بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ لتذكير أول النعماء الفائضة عليه صلى الله عليه وسلم منه تعالى. والتنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة، وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية، من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلا عن سائر الكمالات، قادر على تعليم القراءة للحي العالم المتكلم- أي الذي أنشأ الخلق واستأثر به أو خلق كل شيء.
وقال الإمام: ترى من سياق الرواية التي قدمناها أن المتبادر من معنى الآية الأولى: كن قارئا باسم الله من قبيل الأمر التكويني. فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا ولا كاتبا. ولذلك كرر القول مرارا: ما أنا بقارئ. وبعد ذلك جاء الأمر الإلهي بأن يكون قارئا وإن لم يكن كاتبا. فإنه سينزل عليه كتاب يقرؤه. وإن كان لا يكتبه. ولذلك وصف الرب بالذي خلق، أي الذي أوجد الكائنات التي لا يحيط بها الوصف، قادر أن يوجد فيك القراءة وإن لم يسبق لك تعلمها. لأنك لم تكن تدري ما الكتاب.
فكأنّ الله يقول: كن قارئا بقدرتي وبإرادتي. وإنما عبر بالاسم، لأنه كما سبق في (سورة سبح) دال على ما تعرف به الذات، وخلق القراءة يلفتك إلى الذات وصفاتها جميعا. لأن القراءة علم في نفس حية. فهي تخط ببالك من الله وجوده وعلمه وقدرته وإرادته. أما إذا حملنا الأمر على التكليف وقلنا: إن المعنى أنك مأمور إذا قرأت أن تقرأ باسم الله. وهو خلاف المتبادر، فيكون معنى ذلك: إذا قرأت فاقرأ
دائما على أن تكون قراءتك عملا تنفذه لله لا لغيره فلو فرض أنه قرأ وجعل قراءته لله لا لأحد سواه ولم يذكر الاسم، فهو قارئ باسم الله. وإنما طلبت التسمية باللسان لتكون منبهة للضمير في بداية كل عمل، إلى أن يرجع إلى الله في ذلك العمل.
ويلاحظ أنه يعمل لاسمه لا لاسم غيره سبحانه. انتهى. وهو جيد خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أي دم جامد. وهي حالة الجنين في الأيام الأولى لخلقه، وتخصيص خلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات، لاستقلاله ببدائع الصنع والتدبير وتفخيما لشأنه. إذ هو أشرفها وإليه التنزيل. وهو المأمور بالقراءة وإنما قال عَلَقٍ دون (علقة) كما في الآية الأخرى، لرعاية الفواصل، ولأن الْإِنْسانَ مراد به الجنس.
فهو في معنى الجمع. فلذا جمع ما خلق منه ليطابقه. وخص العلق دون غيره من التارات، لأنه أدل على كمال القدر، من المضغة. مع استلزامه لما تقدمه. ومع رعاية الفواصل.
قال الإمام: أي ومن كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا، وهو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية، ويسخرها لخدمته يقدر أن يجعل من الإنسان الكامل مثل النبيّ صلى الله عليه وسلم قارئا. وإن لم يسبق له تعلم القراءة. وجاء بهذه الآية بعد سابقتها، ليزيد المعنى تأكيدا. كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ: أيقن أنك قد صرت قارئا بإذن ربك الذي أوجد الكائنات، وما القراءة إلا واحدة منها. والذي أنشأ الإنسان خلقا كاملا من دم جامد لا شكل فيه ولا صورة.
وإنما القراءة صفة عارضة على ذلك الإنسان الكامل. فهي أولى بسهولة الإيجاد، ولما كانت القراءة من الملكات التي لا تكسبها النفس إلا بالتكرار، والتعوّد على ما جرت به العادة في الناس، ناب تكرار الأمر الإلهي عن تكرار المقروء، في تصييرها ملكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلهذا كرر الأمر بقوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ وجملة وَرَبُّكَ إلخ استئنافية لبيان أن الله أكرم من كل من يرتجي منه الإعطاء. فيسير عليه أن يفيض عليك هذه النعمة، نعمة القراءة، من بحر كرمه. ثم أراد أن يزيده اطمئنانا بهذه الموهبة الجديدة، فوصف مانحها بأنه الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان. والقلم آلة جامدة لا حياة فيها، ولا من شأنها في ذاتها الإفهام. فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان، ألا يجعل منك قارئا مبيّنا وتاليا معلما وأنت إنسان كامل؟؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه، ويبعد عنه استغراب أن يقرأ ولم يكن قارئا، فقال: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة، وسيبلغك فيها
مبلغا لم يبلغه سواك، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئا، فهل يستغرب من هذا المعلّم الذي ابتدأ العلم للإنسان ولم يكن سبق له علم بالمرة، أن يعلمك القراءة وعندك كثير من العلوم سواها ونفسك مستعدة بها لقبول غيرها؟؟ انتهى.
تنبيهات:
الأول: قال الإمام ابن القيّم في (مفتاح دار السعادة) في مباحث عجائب الإنسان وما في خلقه من الحكم: ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين. البيان النطقي والبيان الخطي وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعتد به من نعمة على العبد. فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها، وكيف تضمنت مراتب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه. فذكر أولا عموم الخلق وهو إعطاء الوجود الخارجي. ثم ذكر ثانيا خصوص خلق الإنسان لأنه موضع العبرة. والآية فيه عظيمة.
ومن شهوده عما فيه محض تعدد النعم. وذكر مادة خلقه هاهنا من العلقة. وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها. أما مادة الأصل وهو التراب والطين أو الصلصال الذي كالفخار، أو مادة الفرع وهو الماء المهين. وذكر في هذا الموضع أول مبادئ تعلق التخليق وهو العلقة. فإنه كان قبلها نطفة فأول انتقالها إنما هو إلى العلقة. ثم ذكر ثالثا التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده. إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين. ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، ودرست السنن وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذاهب السلف. وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحور صور العلم من قلوبهم. فجعل لهم الكتاب وعاء حافظا للعلم من الضياع. كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان. فنعمة الله عزّ وجلّ بتعليم القلم بعد القرآن، من أجلّ النعم. والتعليم به، وإن كان مما يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحيلة، فإن الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه، وفضل أعطاه الله إياه، وزيادة في خلقه وفضله. فهو الذي علمه الكتابة، وإن كان هو المتعلم ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم. فإنه علمه فتعلّم. كما أنه علمه الكلام فتكلم. هذا، ومن أعطاه الذهن الذي يعي به، واللسان الذي يترجم
به، والبنان الذي يخطّ به، ومن هيأ ذهنه لقبول هذا التعلم دون سائر الحيوانات، ومن الذي أنطق لسانه وحرك بنانه، ومن الذي دعم البنان بالكف، ودعم الكف بالساعد.
فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم. فقف وقفة في حال الكتابة وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد، ووضعته على القرطاس وهو جماد، فتولد من بينهما أنواع الحكم وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر، وجوابات المسائل. فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك، ورسمها في ذهنك، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشا عجيبا، معناه أعجب من صورته، فتقضي به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك، وترسله إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة، فيقوم مقامك، ويترجم عنك. ويتكلم على لسانك ويقوم مقام رسولك، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسله، سوى من علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم؟ والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة: مرتبة الوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الرسمي. فقد دل التعليم بالقلم على أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب. ودل قوله: خَلَقَ على أنه يعطي الوجود العيني. فدلّت هذه الآيات، مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها، على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقا وتعليما. وذكر خلقين وتعليمين خلقا عاما وخلقا خاصا، وتعليما خاصّا وتعليما عاما. وذكر من صفاته هاهنا اسم (الأكرم) الذي هو فيه كل خير وكل كمال. فله كل كمالا وصفا، ومنه كل خير فعلا. فهو (الأكرم) في ذاته وأوصافه وأفعاله. وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه، لا من حاجة دعته إلى ذلك، وهو الغني الحميد.
الثاني: قال الإمام: لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه. من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات. فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى، ولم ينبهم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم، وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليهم رؤساؤهم وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع، فلا أرشدهم الله أبدا.
الثالث: قال الرازي: في قوله: بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة. وفي قوله: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع. فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية. والثاني إلى النبوّة. وقدم الأول على
الثاني تنبيها على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 8]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أي حقّا إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه، أن رأى نفسه استغنت. ف (كلا) بمعنى (حقا) لعدم ما يتوجه إليه الردع ظاهرا، لتأخر نزول هذا عما قبله- على ما تقدم في المأثور- أو هو ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر، لدلالة الكلام عليه. فإن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل: كَلَّا يكون ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم بالكفران والطغيان. أي ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان. ينعم عليه ربه بتسوية خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم، وإنعامه بما لا كفء له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك ويطغى عليه أن رآه استغنى.
قال الكرخي، ومذهب أبي حيان أن (كلا) بمعنى (ألا) الاستفتاحية، وصوبه ابن هشام بكسر همزة (إن) بعدها كما بعد حرف التنبيه. وفي (الكواشي) : يجوز في (كلا) أن تكون تنبيها، فيقف على ما قبلها. وردعا، فيقف عليها.
تنبيه:
دلت الآية على قاعدة عظيمة في باب التموّل المحمود، قررها الحكماء المصلحون. وهو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير. قالوا: لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان، كما نطقت به الآية الكريمة.
قال بعض الحكماء: التحول لأجل الحاجات وبقدرها، محمود بثلاثة شروط.
وإلا كان حرص التمول من أقبح الخصال.
الشرط الأول: أن يكون إحراز المال بوجه مشروع حلال. أي إحرازه من بذل الطبيعة أو بالمعارضة أو في مقابل عمل.
والشرط الثاني: أن لا يكون في التمول تضييق على حاجات الغير، كاحتكار الضروريات، أو مزاحمة الصناع والعمال الضعفاء، أو التغلب على المباحات. مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحا لكافة مخلوقاته. وهي أمهم ترضعهم لبن جهازاتها وتغذيهم بثمراتها وتؤويهم في حضن أجزائها.
الشرط الثالث لجواز التمول: هو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، وإلا فسدت الأخلاق. ولذلك حرمت الشرائع السماوية كلها، والحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا. وذلك لقصد حفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية. لأن الربا كسب بدون مقابل ماديّ، ففيه معنى الغصب. وبدون عمل، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق. وبدون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك. دع أن بالربا تربو الثروات، فيختل التساوي بين الناس، كما تقدم بيانه في أواخر سورة البقرة.
وقوله تعالى: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي المرجع في الآخرة. قال أبو السعود:
تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطاغين. والالتفات للتشديد في التهديد، و (الرجعى) مصدر بمعنى الرجوع. وتقديم الظرف لقصره عليه. أي إن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث، لا إلى غيره، استقلالا ولا اشتراكا. فسترى حينئذ عاقبة طغيانك. وقد جوز كون الخطاب للرسول صلوات الله عليه، والتهديد والتحذير بحاله.






ابوالوليد المسلم 23-06-2025 07:12 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة القدر
المجلد السابع عشر
صـ 6213 الى صـ 6223
الحلقة (630)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 9 الى 14]
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى أي يمنعه عن الصلاة. وعبر بالنهي، إشارة إلى عدم اقتداره على غير ذلك. قال ابن عطية: لم يختلف المفسرون في أن الناهي أبو جهل والعبد المصلي النبيّ صلى الله عليه وسلم. كما روي في الصحيحين.
ولفظ البخاريّ «1» عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه.
فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: لو فعله لأخذته الملائكة
.
وفي الآية تقبيح وتشنيع لحال ذاك الكافر، وتعجيب منها وإيذان بأنها من الشناعة والغرابة بحيث يجب أن يراها كل من يتأتى منه الرؤية ويقضي منها العجب. ولفظ (العبد) وتنكيره، لتفخيمه عليه السلام، واستعظام النهي وتأكيد التعجب منه. وقيل: إنه من إرخاء العنان في الكلام المنصف، إذ قال (ينهى) ولم يقل (يؤذي) و (عبدا) دون (نبيّا) والرؤية هاهنا بصرية، وفيما بعدها قلبية. معناه: أخبرني. فإن الرؤية لما كانت سببا للإخبار عن

(1)
أخرجه البخاري في: التفسير، سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق، حديث رقم 2072.

المرئي، أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها. قاله أبو السعود.
وقال الإمام: كلمة (أرأيت) صارت تستعمل في معنى (أخبرني) على أنها لا يقصد بها في مثل هذه الآية الاستخبار الحقيقي، ولكن يقصد بها إنكار المستخبر عنها وتقبيحها. فكأنه يقول: ما أسخف عقل هذا الذي يطغى به الكبر فينهى عبدا من عبيد الله عن صلاته، خصوصا وهو في حالة أدائها. وقوله: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أي أرأيت إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله، أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان، كما يعتقد؟ وجواب الشرط محذوف دل عليه ما بعده. أي ألم يعلم بأن الله يرى. وعليه، فالضمائر كلها ل (الذي ينهى) وجوز عود الضمير المستتر في (كان) للعبد المصلي. وكذا في (أمر) أي أرأيت الذي ينهى عبدا يصلي؟ والمنهيّ على الهدي آمر بالتقوى. والنهي مكذب متول، فما أعجب من هذا! وذهب الإمام رحمه الله، في تأويل الآية إلى معنى آخر. وعبارته: أما قوله: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى فمعناه أخبرني عن حاله إن كان ذلك الطاغي على الهدى وعلى صراط الحق، أو أمر بالتقوى مكان نهيه عن الصلاة، أفما كان ذلك خيرا له وأفضل؟ وقوله:
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي نبئني عن حاله إن كذب بما جاء به النبيون. وتولى أي أعرض عن العمل الطيب، أفلا يخشى أن تحل به قارعة ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتمال؟ فجواب كل من الشرطين محذوف كما رأيت في تفسير المعنى وهو من الإيجاز المحمود، بعد ما دل على المحذوف بقوله: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى أي أجهل أن الله يطلع على أمره؟ فإن كان تقيّا على الهدى أحسن جزاءه، وإن كذب وتولى لم يفلت من عقوبته. ثم إن ما يطيل به المفسرون في المفعول الثاني لفعل (أرأيت) الأولى ومفعوليها في الثانية والثالثة. فهو مما لا معنى له؟ لأن القرآن قدوة في التعبير، وقد استعملها بمفعول واحد وبلا مفعول أصلا بمعنى (أخبرني) .
والجملة المستخبر عن مضمونها، تسد مسد المفاعيل. انتهى كلامه رحمه الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 15 الى 19]
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
كَلَّا ردع عن النهي عن الصلاة لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أي عن هذا الطغيان، وعن النهي عن الصلاة، وعن التكذيب والتولي لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أي لنأخذن بناصيته،
ولنسحبنّه بها إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة. والأخذ بالناصية هنا، مثل في القهر والإذلال والتعذيب والنكال. وقوله تعالى: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ بدل من (الناصية) ولم يقتصر على إحدى الجملتين، لأن ذكر الأولى للتنصيص على أنها ناصية الناهي والثانية لتوصف بما يدل على علة السفع وشموله لكل من وجد فيه ذلك. ووصفها بالكذب والخطأ، وهما لصاحبها، على الإسناد المجازي، للمبالغة لأنها تدل على وصفه بالكذب بطريق الأولى، ولأنه لشدة كذبه كان كل جزء من أجزائه يكذب. وكذا حال الخطأ، وهو كقوله: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ [النحل: 62] ، و (وجهها يصف الجمال) - والتجوز بإسناد ما للكل إلى الجزء، كما يسند إلى الجزئيّ في قوله (بنو فلان قتلوا قتيلا) والقاتل أحدهم.
لطيفة:
قال في (البحر) : كتبت نون (لنسفعا) بالألف باعتبار الموقف عليها بإبدالها ألفا. وقال السمين: الوقف على هذه النون بالألف تشبيها لها بالتنوين. وتكتب هنا ألفا اتباعا للوقف لأن قاعدة الرسم مبنية على حال الوقف والابتداء فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهل مجلسه، ليمنع المصلين ويؤذي أهل الحق الصادقين، اتكالا على قوتهم وغفلة عن قهر الحق وسخطه. والجملة إما بتقدير مضاف، أو على الإسناد المجازي من إطلاق اسم المحل على من حلّ فيه. والنادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم، أي يجتمعون سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أي زبانية العذاب من جنوده تعالى فيهلكونه في الدنيا، أو يردونه في النار في الآخرة وهو صاغر، ولم يرسم (سندع) بالواو في المصاحف باتباع الرسم للفظ، أو لمشاكلة قوله: (فليدع) وقيل إنه مجزوم في جواب الأمر وفيه نظر كَلَّا ردع للناهي بعد ردع، وزجر إثر زجر لا تُطِعْهُ أي لا تطع ذاك الطاغي إذا نهاك عن عبادة ربك. قال الزمخشريّ: أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه كقوله فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم: 8] ، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي صل لربك وتقرب منه بالعبادة وتحبب إليه بالطاعة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فأكثروا من الدعاء.
تنبيهات:
الأول: قدمنا أن الآيات نزلت في أبي جهل، على ما صح في الأخبار، قال الإمام: ولا مانع من أن يكون في الآيات إشارة إليه، ولكنها عامة في كل وقت وزمن كما ترى. والخطاب فيها موجه إلى من يخاطب لا إلى شخص النبيّ صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
الثاني: قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : إنما شدد الأمر- أمر الوعيد- في حق أبي جهل ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط، حيث طرح سلى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي- لأنهما وإن اشتركا في مطلق الأذية حال صلاته لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوة أهل طاعته، وبوطء العنق الشريف. وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة له، لو فعل ذلك. وقد عوقب عقبة بدعائه صلى الله عليه وسلم وعلى من شاركه في فعله، فقتلوا يوم بدر، كأبي جهل.
الثالث: قال الإمام: ذكر الصلاة في الصورة لا يدل على أن بقيتها نزل بعد فرض الصلاة. فقد كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلاة قبل أن تفرض الصلوات الخمس المعروفة.
الرابع: قال في (اللباب) : سجدة هذه السورة من عزائم سجود التلاوة عند الشافعيّ. فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها. يدل عليه ما
روي عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ: أخرجه مسلم في صحيحه.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القدر
قال السيوطي: فيها قولان، والأكثر أنها مكية، وآيها خمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي أنزلنا القرآن على قلب خاتم النبيين، بمعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقد وصفت بالمباركة في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] ، وكانت في رمضان، لقوله تعالى:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
[البقرة: 185] .
قال الإمام: سميت ليلة القدر، إما بمعنى ليلة التقدير، لأن الله تعالى ابتدأ فيها تقدير دينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه. أو بمعنى العظمة والشرف، من قولهم (فلان له قدر) أي له شرف وعظمة. لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرّفه وعظّمه بالرسالة، وقد جاء بما فيه الإشارة، بل التصريح، بأنها ليلة جليلة، بجلالة ما وقع فيها من إنزال القرآن. فقال: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ أي وما الذي يعلمك مبلغ شأنها ونباهة أمرها لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فكرر ذكرها ثلاث مرات. ثم أتى بالاستفهام الدالّ على أن شرفها ليس مما تسهل إحاطة العلم به، ثم قال: (إنها خير من ألف شهر) لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهم يختبطون في ظلمات الضلال. فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى. ولك أن تقف في التفضيل عند النص، وتفوض الأمر، في
تحديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر، إلى الله تعالى. فهو الذي يعلم سبب ذلك ولم يبينه لنا، ولك أن تجري الكلام على عادتهم في التخاطب. وذلك في الكتاب كثير. ومنه الاستفهام الواقع في هذه السور وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ فإنه جار على عادتهم في الخطاب. وإلا فالعليم الخبير لا يقع منه أن يستفهم عن شيء. فيكون التحديد بالألف لا مفهوم له، بل الغرض منه التكثير. وإن أقل عدد تفضله هو ألف شهر. ثم إن درجات فضلها على هذا العدد غير محصورة. فإذا قلت (إخفاء الصدقة خير من إظهارها) لم تعين درجة الأفضلية. وهي درجات فوق درجات وقد جاء في الكتاب في واقعة واحدة، هي واقعة بدر، أن الله أمد المؤمنين بألف من الملائكة، أو بثلاثة آلاف، أو بخمسة آلاف، كما تراه في الأنفال وآل عمران. فالعدد هناك لا مفهوم له، كما هو ظاهر. فهي ليلة خير من الدهر إن شاء الله. ثم استأنف لبيان بعض مزاياها فقال: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها يخبر جلّ شأنه أن أول عهد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بشهود الملائكة، كان في تلك الليلة. تنزلت من عالمها الروحانيّ الذي لا يحده حد ولا يحيط به مقدار، حتى تمثلت لبصره صلى الله عليه وسلم، والروح هو الذي يتمثل له مبلغا للوحي، وهو الذي سمّي في القرآن بجبريل. وإنما تظهر الملائكة والروح بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي إنما تتجلى الملائكة على النفس الكاملة، بعد أن هيأها الله لقبول تجليها. وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس كما هو معلوم. فذلك فضل الله يختص به من يشاء. واختصاصه هو إذنه ومشيئته. ثم إن هذا الإذن مبدؤه الأوامر والأحكام. لأن الله يجلي الملائكة على النفوس، لإيحاء ما يريده منها. ولهذا قال:
مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي أن الله يظهر الملائكة والروح لرسله عند كل أمر يريد إبلاغه إلى عباده. فيكون الإذن مبتدئا من الأمر على هذا المعنى. والأمر هاهنا هو الأمر في قوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان: 4- 5] ، فالكلام في الرسالة والأوامر والأحكام، لا في شيء آخر سواها. ولهذا قال بعضهم: إن (من) هاهنا بمعنى الباء، أي بكل أمر. ولا حاجة إليه لما قلنا. وإنما عبر بالمضارع في قوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وقوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مع أن المعنى ماض، لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن- لوجهين:
الأول: لاستحضار الماضي لعظمته على نحو ما في قوله: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ [البقرة: 214] ، فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرا. والثاني: لأن مبدأ النزول كان فيها. ولكن بقية الكتاب وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام كان فيما بعد. فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان حتى يكمل الدين. وقوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي أنها كانت ليلة سالمة من كل

شر وأذى. والإخبار عنها بالسلام نفسه- وهو الأمن والسلامة- للمبالغة في أنه يشبها كدر، بل فرج الله فيها عن نبيه كل كربة. وفتح له فيها سبل الهداية، فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها، الأيام والشهور الطوال.
تنبيهات:
الأول: قدمنا أن ليلة القدر التي ابتدأ فيها نزول القرآن كانت في رمضان لآية شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ولا إجماع في تعيين تلك الليلة. بل في صحيح البخاري «1» : أنها رفعت. أي رفع العلم بتعيينها.
وفي رواية فيه: نسيتها أو أنسيتها
.
من قوله صلوات عليه. ولذا رغب في قيام رمضان كله رجاء موافقتها في ليلة منه. نعم الأقوى رواية أنها في العشر الأخير من رمضان لما كان من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف فيه وإحياء ليله وإيقاظ أهله. وقد ذهب ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة إلى أنها ليلة أربع وعشرين قال ابن حجر: وحجتهم حديث واثلة أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان. وقد اضطربت أقوال السلف فيها. صحابة ومن بعدهم.

حتى أنافت على أربعين قولا.
قال الإمام: ثم الأخبار الصحيحة متضافرة على أنه في شهر رمضان. ولا نعيّنها من بين لياليه. فقد اختلف فيها الروايات اختلافا عظيما. وكتاب الله لم يعينها. وما ورد في الأحاديث من ذكرها، إنما قصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة، شكرا لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم، في أثنائها.
ولهم أن يعبدوا الله فيها أفرادا وجماعات فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله. وهذا هو السر في عدم تعيينها. وتشير إليه آية البقرة فإنها تجعل الشهر كله ظرفا لنزول القرآن، ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه. فهي ليلة عبادة وخشوع، وتذكر لنعمة الحق والدين. فلا تكون ليلة زهو ولهو تتخذ فيها مساجد الله مضامير للرياء، يتسابق إليها المنافقون. ويحدث أنفسهم بالبعد عنها المخلصون. كما جرى عليه عمل المسلمين في هذه الأيام. فإن كل ما حفظوه من ليلة القدر هو أن تكون لهم فيها ساعة سمر يتحدثون فيها بما لا ينظر الله إليه. ويسمعون شيئا من كتاب الله لا ينظرون فيه ولا يعتبرون بمعانيه. بل إن أصغوا إليه، فإنما يصغون لنغمة تاليه، ثم يسمعون من الأقوال ما لم يصح خبره، ولم يحمد في الآخرين ولا الأولين أثره. ولهم
(1)
أخرجه في: فضل ليلة القدر، 2- باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، حديث رقم 419، عن أبي سعيد الخدري.


خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال، فضلا عن الراشدين من الرجال. انتهى.
وقال الطبريّ: إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون، ما لا يظهر في سائر السنة. إذ لو كان ذلك حقّا، لم يخف على كل من قام ليالي السنة، فضلا عن ليالي رمضان.
الثاني: حكى الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) قولا عن بعض العلماء أن ليلة القدر خاصة بسنة واحدة وقعت في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم ولعل مستنده ما صح أنها رفعت. وقد قدمنا معناه. ولذا ذهب الجمهور إلى خلافه. وعندي أن لا تنافي. لأن المراد بالأول هو ليلة نزول القرآن وما كان فيها من التجلي الخاص التي انفردت به- وبالثاني أن ما يوافق تلك الليلة من رمضان كل عام، هي ليلة فيها مزية على غيرها، بفضل اختصت به دون غيرها. وهذا هو السرّ في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه. أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركا وتيمنا وشكرا لله تعالى على تلك النعمة والهداية، فالقائم في ليالي العشر الأخير، أو في رمضان، مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة. لأنها منه قطعا. وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسما للعبادة. ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخر في تذكاراتهم وجعلها أعيادا، تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو، مما ينافي حكمة ذكراها فتأمّل الفرق، واحمد الله على اتباع الحق.
الثالث: قال الإمام: ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، هي ليلة النصف من شعبان، وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر، فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة. وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك، ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك لم يرد، لاضطراب الروايات، وضعف أغلبها، وكذب الكثير منها. ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد. ومثل ذلك يقال في بيت العزة، ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة. فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين. لعدم تواتر خبره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه. وإلا كنا من الذين (إن يتّبعون إلّا الظّنّ) نعوذ بالله. وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة، مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ويعدّ من عقائد الدين، وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل. فأحذر أن تقع فيها مثلهم، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.





الساعة الآن : 07:45 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 286.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 286.47 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.18%)]