ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272987)

ابوالوليد المسلم 23-06-2025 07:17 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البينة
المجلد السابع عشر
صـ 6224 الى صـ 6235
الحلقة (631)






بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البيّنة
ويقال سورة القيمة. وسورة المنفكين. وسورة البرية. وعدد آياتها ثمان وهي مدنية على الأصح.
روى الإمام أحمد بن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيّ ابن كعب: إن الله أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال: وسمّاني لك، قال: نعم. فبكى. ورواه البخاري ومسلم «1» .
وفي رواية الإمام أحمد «2» عن أبي حبّة البدريّ قال: لما نزلت لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال جبريل: يا رسول الله! إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيّا. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبيّ: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة. قال أبيّ: وقد ذكرت ثمّ يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فبكى أبيّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا نبوة النبيّ صلوات الله عليه بعنادهم، بعد ما تبينوا الحق منها مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى الذي عرفوه وسمعوا أدلته وشاهدوا آياته، لم يكونوا هم وَالْمُشْرِكِينَ أي وثنيّ العرب مُنْفَكِّينَ أي عن غفلتهم وجهلهم بالحق، ووقوفهم عند ما قلدوا فيه آباءهم، ولا يعرفون من الحق شيئا حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي الحجة القاطعة المثبتة للمدعي، وهي هنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فمجيئه هو الذي أحدث هذه الرجة فيما رسخ من عقائدهم وتمكن من عوائدهم، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومناكرتهم بأنه كان شيئا معروفا لهم، يصلون إليه بما كان لديهم، ولكنه ليس بمستحق أن يتبع. فإن ما هم فيه أجمل وأبدع. ومتابعة الآباء
(1)
أخرجه البخاري في: التفسير، سورة لم يكن، 1- حدثنا محمد بن بشار، حديث رقم 1784، عن أنس.

(2)
أخرجه في المسند 3/ 489.

فيه أشهى إلى النفوس وأمتع. تلك البينة التي تعرفهم وجه الحق هي رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أي محمد صلى الله عليه وسلم يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً وهي صحف القرآن المطهرة من الخلط وحشو المدلّين، فلهذا تنبعث منها أشعة الحق حتى يعرفه طالبوه ومنكروه معا فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي مستقيمة لا عوج فيها. واستقامة الكتب اشتمالها على الحق الذي لا يميل إلى باطل لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] ، والكتب التي في صحف القرآن ومصاحفه، إما أن تكون هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما، مما حكاه الله في كتابه عنهم. فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم. وقد ترك حكاية ما لبّس في الملبّسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه. ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته عليه السلام من أهل الكتاب سبيلا إلى إنكار الحق. وإنما فضلوا عليه سواه. أن هي سور القرآن. فإن كل سورة من سوره، كتاب قويم. فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة. ولما كان لسائل أو يسأل: إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وقد انفكوا عن ذلك الظلام المطبق، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم، فما بالهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم؟
أجاب الحق تعالى بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعة على الحق الذي لا يختلف وجهه، بما أوحى الله به إلى أنبيائهم. وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله حتى لا ينحرفوا عنه. فإذا عرض لأحدهم شبهة رجع في كشفها إلى العارف بمعاني الكتب. ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها وفهم أساليبها ويحافظوا عليها حتى لا يضللهم فيها مضلل. لكن هذه البينة لم تفدهم شيئا فإنهم اختلفوا في التأويل وتفرقوا في المذاهب حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر. وكان ذلك بغيا منهم، واستمرارا في المراد، وإصرارا على ما قاد إليه الهوى. وهذا هو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (98) : الآيات 4 الى 5]
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي على ألسنة أنبيائهم. فهكذا كان شأنهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم.
بتفرقهم فيها، وبعدهم بالتفرق عن حقيقتها. فإن كان هذا شأن أهل الكتاب في بينتهم وبينتنا، فما ظنك بالمشركين، وهم أعرق في الجهالة وأسلس قيادا للهوى،
منهم؟؟ وقول تعالى: وَما أُمِرُوا أي والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الإذعان والخضوع، وذلك بتنقيته من أن يشركه فيه شيء. لا واسطة ولا مال، ولا كرامة ولا جاه حُنَفاءَ أي متبعي إبراهيم عليه السلام، أو على مثاله. وأصله جمع (حنيف) بمعنى المائل المنحرف. سمي به إبراهيم عليه السلام لانحرافه عن وثنية الناس كافة وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي الإتيان بها، لإحضار القلب هيبة المعبود وترويضه بالخشوع لا أن تكون مجرد حركات ظاهرة. فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء، البتة وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ أي بصرفها في مصارفها التي عينها الله تعالى: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الكتب القيمة.
أو دين الأمة القيمة المستقيمة. ومعنى الآية: إن أهل الكتاب قد افترقوا، ولعنت كل فرقة أختها. وكان افتراقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة، مع أنهم لم يؤمروا ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى.
وأن يخشعوا لله في صلاتهم، وإن يصلوا عباد الله بزكاتهم. فإذا كان هذا هو الأصل الذي يرجع إليه في الأوامر، فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم، فيردوا إليه كل ما يعرض لهم من المسائل ويحلّوا به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل. ومتى تحكم الإخلاص في الأنفس، تسلط الإنصاف عليها، فسادت فيها الوحدة، ولم تطرق طرقها الفرقة. هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب. فما نقول في حالنا؟ أفما ينعاه كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا، في افتراقنا في الدين، وأن صرنا فيه شيعا، وملأناه محدثات وبدعا؟ بهذا الذي تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند دعوتهم إلى قبول ما جاء به. وإن مِنْ في قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للتبعيض. وأن معنى (لم يكونوا منفكين) :
أي لم يكن وجه الحق لينكشف لهم، فيقع الزلزال في عقائدهم، فينفكوا عن الغفلة المحضة التي كانوا فيها، حتى تأتيهم البينة. ويجوز أن يكون المراد من الَّذِينَ كَفَرُوا والله أعلم، أولئك الذين جحدوا شيئا من دين الله تعالى عند ما جاءهم. ولم ينظروا في دليله. أو أعرضوا عنه بعد ما عرفوا دليله سواء كانوا من مشركي العرب أو من أهل الكتاب. وإن آمنوا بعد ذلك وصدقوا. فأراد الله أن يذكر منته على من آمن من هؤلاء. فبين أن الذين كفروا، أي جحدوا ما أوجب الله على عباده أن يعتقدوه عنه من صفاته وشرائعه من أهل الكتاب ومشركي العرب، لم يكونوا براجعين عن كفرهم وجحودهم هذا، حتى يأتيهم الرسول فيبين لهم بطلان ما كانوا عليه من الكفر، فيؤمنوا. فما أعظم فضل الله عليهم في إرسال رسوله إليهم!
وهذا وجه آخر غير الذي قدمناه في معنى الذين كفروا وانفكاكهم. وبذلك أو هذا ظهر معنى (حتى) وبطل جميع ما يهذي به كثير من المفسرين الذين أضلهم التقليد، عن الرأي السديد، فصعبوا من القرآن سهله، وحرموا من فهمه أهله. انتهى كلام الإمام نقلناه من أول السورة إلى هنا بالحرف لنفاسته، ولكونه أحسن ما فسّرت به، وقاعدتنا التي انتهجناها في هذا التفسير أن نؤثر في معاني آياته، أحسن ما قيل فيها. فلذلك سميناه (محاسن التأويل) هدانا الله إلى أقوم السبيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (98) : آية 6]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فجحدوا نبوّته مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي شر من برأه الله وخلقه. قال الإمام: لأن منكر الحق، بعد معرفته وقيام الدليل عليه، منكر في الحقيقة لعقل نفسه، مهلك لروحه، جالب الهلاك لغيره.
لطائف:
الأولى- دلت هذه الآية والتي قبلها على أن عنوان (المشركين) لا يتناول أهل الكتاب في عرف القرآن، بل هو خاص بالوثنيين. أعني من يدينون بالإشراك وتعدد الأرباب، فأهل الكتاب- وهم اليهود والنصارى- لا يتناولهم ذلك العنوان وإن دخل في عقائدهم الشرك. لأنه دخيل لا أصيل. ولذلك ينفرون من وصمة الشرك. وبسببه حل النكاح منهم دون الوثنيين.
الثانية- قال ابن جرير: العرب لا تهمز البرية. وبترك الهمزة فيها قرأتها قراء الأمصار، غير شيء يذكر عن نافع بن أبي نعيم. فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها.
وذهب بها إلى قول الله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها وأنها فعلية من ذلك. وأما الذين لم يهمزوها، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين: أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها كما تركوه من الملك، وهو مفعل، من (ألك) أو (لأك) ومن (يرى) و (ترى) و (نرى) ، وهو (تفعل) من رأيت. والآخر أن يكونوا وجهوها إلى أنها فعيلة من (البراء) وهو التراب. حكي عن العرب سماعا فقيل (بفيك البراد) يعني به التراب. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (98) : الآيات 7 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي بالله ورسوله محمد، صلوات الله عليه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي من بذل النفس في سبيل الجهاد للحق، وبذل المال في أعمال البر، مع القيام بفرائض العبادات، والإخلاص في سائر ضروب المعاملات. لأن إذعانهم الصحيح، ووجدانهم لذة معرفة الحق، ملّكت الحق قيادهم. فعملوا الأعمل الصالحة، قاله الإمام أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي أفضل الخليقة، لأنهم بمتابعة الحق عند معرفته بالدليل القائم عليه، قد حققوا لأنفسهم معنى الإنسانية التي شرفهم الله بها. وبالعمل الصالح، قد حفظوا نظام الفضيلة الذي جعله الله قوام الوجود الإنسانيّ، وهدوا غيرهم بحسن الأسوة إلى مثل ما هدوا إليه من الخير والسعادة. فمن يكون أفضل منهم؟ قاله الإمام جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي بساتين إقامة، لا ظعن فيها، تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي ماكثين على الدوام، لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي بما أطاعوه في الدنيا، وعملوا لخلوصهم من عقابه في ذلك وَرَضُوا عَنْهُ لأنهم بحسن يقينهم يرتاحون إلى امتثال ما يأمر به في الدنيا. فهم راضون عنه. ثم إذا ذهبوا إلى نعم الآخرة، وجدوا من فضل الله ما لا محل للسخط معه، فهم راضون عن الله في كل حال. أفاده الإمام.
ذلِكَ أي هذا الجزاء الحسن وهذا الرضاء لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي خاف الله في الدنيا. في سره وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية.
قال الإمام: أراد بهذه الكلمة الرفيعة الاحتياط لدفع سوء الفهم الذي وقع ولا يزال يقع فيه العامة من الناس، بل الخاصة كذلك. وهو أن مجرد الاعتقاد بالوراثة، وتقليد الأبوين، ومعرفة ظواهر بعض الأحكام، وأداء بعض العبادات، كحركات الصلاة وإمساك الصوم، مجرد هذا لا يكفي في نيل ما أعد الله من الجزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات. وإن كانت قلوبهم حشوها الحسد والحقد والكبرياء والرياء. وأفواههم ملؤها الكذب والنميمة والافتراء، وتهز أعطافهم رياح العجب والخيلاء. وسرائرهم مسكن العبودية والرق للأمراء. بل ولمن دون الأمراء. خالية من أقل مراتب الخشوع والإخلاص لرب الأرض والسماء- كلا لا ينالون حسن الجزاء. فإن خشية ربهم لم تحلّ قلوبهم. ولهذا لم تهذب من نفوسهم. ولا يكون ذلك الجزاء إلا لمن خشي ربه، وأشعر خوفه قلبه. والله أعلم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الزّلزلة
قال ابن كثير: مكية. ورجّح السيوطيّ أنها مدنية. وآيها ثمان.
روى الترمذي «1» عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا زُلْزِلَتِ تعدل نصف القرآن. وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن. وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ تعدل ربع القرآن
.
وسيأتي سر ذلك في تفسير سورة الكافرين والإخلاص إن شاء الله تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2)
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي أصابها ذلك الزلزال الشديد والاهتزاز الرهيب.
فالإضافة للتفخيم أو الاختصاص، بمعنى الزلزال المخصوص بها. وهي الرجة التي لا غاية وراءها. والأقرب الأول. لآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] ، وقرئ بفتح الزاي. وقد قيل هما مصدران. وقيل المفتوح اسم والمكسور مصدر. وهو المشهور وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها أي قذفت ما في باطنها من كنوز ودفائن وأموات وغير ذلك. لشدة الزلزلة وتشقق ظهرها. كقوله: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق: 3- 4] ، والأثقال جمع (ثقل) بفتحتين.
وهو متاع المسافر وكل نفيس مصون. وهذا على الاستعارة. ويجوز أن يكون بكسر فسكون بمعنى حمل البطن، على التشبيه أيضا. لأن الحمل يسمى ثقلا كما في قوله تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ [الأعراف: 189] ، قاله الشريف المرتضى في (الدرر) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزلزلة (99) : الآيات 3 الى 8]
وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
(1)
أخرجه في: ثواب القرآن، 10- باب ما جاء في إِذا زُلْزِلَتِ.

وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها أي قال من يكون من الإنسان شاهدا لهذا الزلزال، الذي فجأه ودهشه، ولم يعهد مثله: ما لهذه الأرض رجّت الرجة الهائلة، وبعثر ما فيها من الأثقال المدفونة يَوْمَئِذٍ بدل من (إذا) أي في ذلك الوقت تُحَدِّثُ أَخْبارَها أي تبين الأرض بلسان حالها، ما لأجله زلزالها وإخراج أثقالها. فتدل دلالة ظاهرة على ذلك. وهو الإيذان بفناء النشأة الأولى وظهور نشأة أخرى. فالتحديث استعارة أو مجاز مرسل مطلق الدلالة.
قال أبو مسلم: أي يومئذ يتبين لك أحد جزاء عمله. فكأنها حدثت بذلك.
كقولك (الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة) فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة، تحدث أن الدنيا قد انقضت، وأن الآخرة قد أقبلت.
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها الباء سببية متعلق ب (تحدث) أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث. والإيحاء استعارة أو مجاز مرسل لإرادة لازمه. وهو إحداث ما تدل به على خرابها.
وقال القاشانيّ: أي أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال.
يعني الأمر التكويني. وهو تعلق القدرة الإلهية بما هو أثر لها يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً أي ينصرفون عن مراقدهم إلى مواطن حسابهم وجزائهم، متفرقين سعداء وأشقياء لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي ليريهم الله جزاء أعمالهم فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ أي فمن عمل في الدنيا وزن ذرة من خير، يرى ثوابه هنالك. والذرة النملة الصغيرة وهي مثل في الصغر. وقيل الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أي ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر، يرى جزاءه ثمة.
تنبيهات:
الأول- دل لفظ (من) على شمول الجزاء بقسميه، للمؤمن وغيره.
قال الإمام: أي من يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره، فإنه يراه ويجد جزاءه.
لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر. غاية الأمر أن حسنات الكفار الجاحدين لا تصل بهم إلى أن تخلصهم من عذاب الكفر، فهم به خالدون في الشقاء. والآيات التي تنطق بحبوط أعمال الكفار، وأنها لا تنفعهم، معناها هو ما ذكرنا. أي أن عملا من
أعمالهم لا ينجيهم من عذاب الكفر، وإن خفف عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم، على بقية السيئات الأخرى، أما عذاب الكفر نفسه فلا يخفف عنهم منه شيء. كيف لا، والله جل شأنه يقول: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء: 47] ، فقوله: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أصرح قول في أن الكافر والمؤمن في ذلك سواء. وإن كلّا يوفى يوم القيامة جزاءه. وقد ورد أن حاتما يخفف عنه لكرمه. وأن أبا لهب يخف عنه لسروره بولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم وما نقله بعضهم من الإجماع على أن الكافر لا تنفعه في الآخرة حسنة ولا يخفف عنه عذاب سيئة ما، لا أصل له. فقد قال بما قلناه كثير من أئمة السلف رضي الله عنهم. على أن كلمة (الإجماع) كثيرا ما يتخذها الجهلاء السفهاء آلة لقتل روح الدين، وحجرا يلقمونه أفواه المتكلمين. وهم لا يعرفون للإجماع الذي يقوم به الحجة معنى، فبئس ما يصنعون. انتهى.
وقد سبقه الشهاب في (حواشيه) على القاضي، حيث ناقش صاحب المقاصد في دعواه الإجماع على إحباط عمل الكفرة. وعبارته: كيف يدعى الإجماع على الإحباط بالكلية، وهو مخالف لما صرح به في الآية؟ والذي يلوح للخاطر، بعد استكشاف سرائر الدفاتر، أن الكفار يعذبون على الكفر بحسب مراتبه. فليس عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل. ولا عذاب المعطلة كعذاب أهل الكتاب، كما تقتضيه الحكمة والعدل الإلهيّ. انتهى الثاني- قال في (الإكليل) : في هاتين الآيتين، الترغيب في قليل الخير وكثيره. والتحذير من قليل الشر وكثيره. أخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود قال: هذه الآية أحكم آية في القرآن. وفي لفظ (أجمع) وسمّى «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية الجامعة الفاذة، حين سئل عن زكاة الحمير
فقال: ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
وروى الأمام أحمد «2» عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق، أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ إلخ. قال:
حسبي. لا أبالي أن لا أسمع غيرها. ورواه النسائي في تفسيره.
(1)
أخرجه البخاري في: التفسير، 99- إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، 1- باب قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، حديث رقم 1185، عن أبي هريرة.

(2)
أخرجه في مسنده: 5/ 59.





ابوالوليد المسلم 23-06-2025 07:21 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة القارعة
المجلد السابع عشر
صـ 6236 الى صـ 6247
الحلقة (632)






بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العاديات
مكية أو مدنية. وآيها إحدى عشرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً إقسام بخيل الغزاة التي تعدو نحو العدوّ، فتضبح.
و (الضبح) صوت أنفاسها إذا عدت. وليس المراد بالصوت الصهيل. بل قولها (اح.
اح) كما قاله ابن عباس. ونصب ضَبْحاً إما بفعله المحذوف، أو بالعاديات لإفادته معناه، أو بالحالية فَالْمُورِياتِ قَدْحاً أي تورى النار بحوافرها. والقدح هو الضرب لإخراج النار، والإيراء يترتب عليه. لأنه إخراج النار وإيقادها. فإيراؤها ما يرى من صدم حوافرها للحجارة. وتسمى نار الحباحب. ولما كان مرتبا على عدوها، عطفه بالفاء، وكون المراد به الحرب- بعيد. وفي إعرابه الوجوه السابقة.
فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً أي تغير على العدوّ في وقته. يقال (أغار على العدوّ) إذا هجم عليه ليقتله أو يأسره أو يستلب ماله.
قال الإمام: وهو وصف عرض للخيل من الغاية التي أجريت لها. أي أنها تعدو ويشتد عدوها حتى يخرج الشرر من حوافرها، لتهجم على عدوّ وقت الصباح، وهو وقت المفاجأة لأخذ العدو على غير أهبة فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أي فأهجن، بذلك الوقت، غبارا من الإثارة. وهي التهييج وتحريك الغبار ونحوه ليرتفع. وانتفع: الغبار كما ذكرنا، وورد بمعنى الصياح. فجوّز إرادته هنا بمعنى صياح من هجم عليه، وأوقع به. لا صياح المغير المحارب، وإن جاز على بعد فيه. أي هيجن الصياح بالإغارة على العدوّ، وضمير (به) للوقت والباء ظرفية. وفيه احتمالات أخر. ككونه للعدو أو للإغارة، لتأويلها بالجري. فالباء سببية أو للملابسة. ويجوز كونها ظرفية أيضا. والضمير للمكان الدال عليه السياق، للعلم بأن الغبار لا يثار إلا من موضع. وهو الذي اختاره ابن جرير.
قال الشهاب: وذكر إثارة الغبار، للإشارة إلى شدة العدو وكثرة الكرّ والفرّ.
وتخصيص الصبح، لأن الغارة كانت معتادة فيه. أي لمباغتة العدوّ. والغبار إنما يظهر نهارا و (أثرن) معطوف على ما قبله.
قال الناصر: وحكمة الإتيان بالفعل معطوفا على الاسم، الذي هو العاديات أو ما بعده، لأنها أسماء فاعلين تعطي معنى الفعل. وحكمة مجيء هذا المعطوف فعلا عن اسم فاعل، تصوير هذه الأفعال في النفس. فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف. وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة. وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي.
وقوله تعالى: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً أي فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء، ففرقنه وشتتنه. يقال: (وسطت القوم) بالتخفيف و (وسطته) بالتشديد و (توسطته) بمعنى واحد. وفي الضمير الوجوه المتقدمة.
قال الإمام رحمه الله: أقسم تعالى بالخيل متصفة بصفاتها التي ذكرها، آتية بالأعمال التي سردها لينوه بشأنها ويعلي من قدرها في نفوس المؤمنين أهل العمل والجد. ليعنوا بقنيتها وتدريبها على الكر والفر، وليحملهم أنفسهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل، والإغارة بها. ليكون كل واحد منهم مستعدا في أي وقت كان، لأن يكون جزءا من قوة الأمة إذا اضطرت إلى صدّ عدو. أو بعثها باعث على كسر شوكته. وكان في هذه الآيات القارعات، وفي تخصيص الخيل بالذكر في قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60] ، وفيما ورد من الأحاديث التي لا تكاد تحصر- ما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون في مقدمة فرسان الأرض مهارة في ركوب الخيل. ويبعث القادرين منهم على قنية الخيل على التنافس في عقائلها. وأن يكون فن السباق عندهم يسبق بقية الفنون إتقانا. أفليس أعجب العجب أن ترى أمما، هذا كتابها، قد أهملت شأن الخيل والفروسية، إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزؤ والسخرية؟ وأخذت كرام الخيل تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى.
ثم قال: يقسم الله بالخيل صاحبة تلك الصفات التي رفع ذكرها، ليؤكد الخبر الذي جاء في قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العاديات (100) : الآيات 6 الى 8]
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي لكفور. يكفر نعمه ولا يشكرها. أي لا يستعملها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه.
قال المهايميّ: أي لكفور، فيوجب قتله بهذه الخيول وقهره بهذا الغضب.
وعن أبي أمامة: الكنود الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أي وإن الإنسان على كنوده، لشهيد يشهد على نفسه به، لظهور أثره عليه. فالشهادة مستعارة لظهور آثار كفرانه وعصيانه بلسان حاله.
قال القاشانيّ: لشهادة عقله ونور فطرته إنه لا يقوم بحقوق نعم الله، ويقصر في جنب الله بكفرانه وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي وإنه لحب المال والدنيا وإيثارها، لقويّ. ولحب تقوى الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس وإنه لحب الخير الموصل إلى الحق، شديد منقبض، غير هش منبسط. أو اللام للتعليل. أي إنه لأجل حب المال بخيل. فلذلك يحتجب به غارزا رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه، مشغولا به عن الحق، معرضا به عن جنابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العاديات (100) : الآيات 9 الى 11]
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
أَفَلا يَعْلَمُ أي أبعد هذا الاحتجاب ومخالفة العقل، ولا يعلم بنور فطرته وقوة عقله إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أي بعث وأثير ما في القبور وإخراج موتاها وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي أظهر وأبرز ما في صدورهم ونفوسهم من أسرارهم ونياتهم المكتومة فيها، من خير أو شر إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أي عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم. فيجازيهم على حسبها يومئذ. وتقديم الظرف، إما لمكان نظم السجع ورعاية الفواصل، أو للتخصيص لوقوع علمه تعالى كناية عن مجازاته. وهي إنما تكون يومئذ.
قال الرازيّ: وإنما خص أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح، لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب. فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب، لما حصلت أفعال الجوارح. ولذلك جعلها تعالى الأصل في الذم فقال: آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283] ، والأصل في المدح فقال: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] ، و [الحج: 35] .
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القارعة
مكية وآيها إحدى عشرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ قال أبو السعود: القرع هو الضرب بشدة واعتماد، بحيث يحصل منه صوت شديد، وهي القيامة. سميت بها لأنها تفزع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال. وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال:
السماء بالانشقاق والانفطار، والشمس والنجوم وبالتكوير والانكدار والانتثار، والأرض بالزلزال والتبديل والجبال بالدك والنسف. وهي مبتدأ خبره قوله تعالى مَا الْقارِعَةُ على أن (ما) الاستفهامية خبر والقارعة مبتدأ، لا بالعكس. لأن محط الفائدة هو الخبر لا المبتدأ. ولا ريب في أن مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا. هو كلمة (ما) لا (القارعة) أي أيّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة؟ وقد وضع الظاهر موضع الضمير تأكيدا للتهويل. وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ تأكيد لهولها وفظاعتها، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق على معنى أن عظم شأنها ومدى شدتها، بحيث لا تكاد تناله دراية أحد، حتى يدريك بها. أي: وأي شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ولما كان هذا منبئا عن الوعد الكريم بإعلامها، أنجز ذلك بقوله تعالى:
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أي هي يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة والاضطراب، والتطاير إلى الداعي، كتطاير الفراش إلى النار. ف (يوم) خبر محذوف بني على الفتح. لإضافته إلى الفعل، أو هو منصوب. بإضمار (اذكر) كأنه قيل، بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة
والسلام إلى معرفتها: اذكر يوم يكون الناس وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي كالصوف المندوف في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو. ولما كان من المعلوم أن ذلك اليوم هو اليوم الذي تبتدئ فيه الحياة الآخرة، وفيها تعرف مقادير الأعمال وما تستحقه من الجزاء، رتب عليه قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القارعة (101) : الآيات 6 الى 11]
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10)
نارٌ حامِيَةٌ (11)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ قال ابن جرير: أي فأما من ثقلت موازين حسناته، يعني بالموازين الوزن. والعرب تقول (لك عندي درهم بميزان درهمك) ويقولون (داري بميزان دارك ووزن دارك) يراد حذاء دارك. قال الشاعر:
قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة ... عندي لكلّ مخاصم ميزانه
يعني بقوله (ميزانه) كلامه وما ينقض عليه حجته. وكان مجاهد يقول: ليس ميزان إنما هو مثل ضرب. انتهى وعليه، فالموازين جمع ميزان. وجوز كونه جمع موزون، وهو العمل الذي له خطر ووزن عند الله تعالى. ومعنى قوله: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي في عيشة قد رضيها في الجنة. ف (راضية) بمعنى مرضية على التجوز في الكلمة نفسها أو في إسنادها.
أو استعارة مكنية وتخييلية وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي وزن حسناته فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أي فمأواه ومسكنه الهاوية التي يهوي فيها على رأسه في جهنم.
قال الشهاب: فسمى المأوى (أمّا) على التشبيه تهكما. لأن أم الولد مأواه ومقره. وفي (التأويلات) : قيل المراد أم رأسه. أي يلقى في النار منكوسا على رأسه.
انتهى.
والأول هو الموافق لقوله: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ فإنه تقرير لها بعد إبهامها، والإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتهويل. أصل ما هِيَهْ ما هي، كناية عن الهاوية فأدخل في آخرها هاء السكت وقفا. وتحذف وصلا. وقد أجيز إثباتها مع الوصل.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التّكاثر
وهي مكية وآيها ثمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي شغلكم التباهي بالكثرة في المال والولد ونحوهما. فيقول هذا: أنا أكثر منك مالا، والآخر: أنا أكثر منك ولدا. وهكذا مما يصرف عن الجد في العمل، ويطفئ نور الاستعداد وصفاء الفطرة والعقل والكمالات المعنوية الباقية. ذهب بكم التفاخر والتباهي بهذه الأمور الفانية، من كثرة الأموال والأولاد، وشرف الآباء والأجداد كل مذهب حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي حتى هلكتم ومتم وصرتم من أصحاب القبور، فأفنيتم عمركم في الأعمال السيئة وما تنبّهتم طول حياتكم إلى ما هو سبب سعادتكم ونجاتكم. وزيارة القبور عبارة عن الموت.
روى الزمخشري شواهد لها. قال الشهاب: وفيها إشارة إلى تحقق البعث. لأن الزائر لا بد من انصرافه عما زاره. ولذا قال بعض الأعراب لما سمعها: بعثوا، ورب الكعبة! وقال ابن عبد العزيز: لا بد لمن زار، أن يرجع إلى جنة أو نار. وسمى بعض البلغاء المقبرة، دهليز الآخرة كَلَّا ردع عن الاشتغال بالتكاثر، وتوهم أن الفوز بالتفاخر. فإن الفوز بالتناصر على الحق والتحلي بالفضائل سَوْفَ تَعْلَمُونَ أي مغبة ما أنتم عليه، في الآخرة، من وخامة عاقبة الاشتغال بهذه الشهوات السريعة الزوال، العظيمة الوبال، لبقاء تبعاتها.
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تكرير للتأكيد و (ثم) للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأول. أو الأول عند الموت، والثاني عند النشور كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي لو تعلمون ما بين أيديكم من الجزاء، علم الأمر اليقين، لكان ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والتحسر على فوات العمر العزيز في التكاثر، والذهول عن الحق به.
واليقين بمعنى المتيقن، صفة لمحذوف، أو صفة للعلم، على أنه من إضافة الصفة للموصوف، وحذف جواب (لو) ليطلبه العقل من الشرط وما سبقه، ليستحكم فيه فضل استحكام. وقوله تعالى: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب قسم مضمر، أكد به الوعيد، وشدد به التهديد، وأوضح به ما أنذروه تفخيما ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أي الرؤية التي هي نفس اليقين، فالعين هنا بمعنى النفس، كما في (جاء زيد عينه) أي نفسه.
وإنما كانت نفس اليقين، لأن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة، فوق سائر الانكشافات.
فهو أحق بأن يكون عين اليقين. والتكرير للتأكيد.
قال الإمام: وكني برؤية الجحيم، عن ذوق العذاب فيها. وهي كناية شائعة في الكتاب العزيز. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أي عن النعيم الذي ألهاكم التكاثر به والتفاخر في الدنيا. ماذا عملتم فيه؟ ومن أين وصلتم إليه؟ وفيم أصبتموه؟ وماذا عملتم به؟ ويدخل في ذلك ما أنعم عليهم من السمع والبصر وصحة البدن.
قال ابن عباس: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار. قال: يسأل الله العباد فيم استعملوا وهو أعلم بذلك منهم. وهو قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: 36] ، قال ابن جرير: لم يخصص في خبره تعالى نوعا من النعيم دون نوع. بل عمّ. فهو سائلهم عن جميع النعيم. ولذا قال مجاهد: أي عن كل شيء من لذة الدنيا. وقال قتادة: إن الله عزّ وجلّ سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه.






ابوالوليد المسلم 23-06-2025 07:30 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الفيل
المجلد السابع عشر
صـ 6248 الى صـ 6260
الحلقة (633)






بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العصر
مكية، وقيل مدنية، وآيها ثلاث.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
وَالْعَصْرِ أي الدهر. أقسم تعالى به لانطوائه على تعاجيب الأمور القارّة والمارّة. ولذا قيل له (أبو العجب) . ولأنه يذكر بما فيه من النعم وأضدادها. فينبّه الإنسان على أنه مستعد للخسران والسعادة. وللتنويه به والتعظيم من شأنه، تعريضا ببراءته مما يضاف إليه من الخسران والذم. كما قيل:
يعيبون الزمان وليس فيه ... معيب غير أهل للزمان
وجوّز أن يراد بالعصر، الوقت المعروف الذي تجب فيه صلاة العصر.
قال الإمام: كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم. وقد يكون في حديثهم ما لا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضا. فيتوهم الناس أن الوقت مذموم. فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسبّ، كما اعتاد الناس أن يقولوا (زمان مشؤوم) و (وقت نحس) و (دهر سوء) وما يشبه ذلك. بل هو عادّ للحسنات كما هو عادّ للسيئات. وهو ظرف لشئوون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع. فكيف يذم في ذاته، وإنما قد يذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي خسران، لخسارته رأس ماله؟ الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية، بإيثار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر،
وإضاعة الباقي في الفاني إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أي بالله وبما أنزل من الحق، إيمانا ملك إرادتهم فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقاداتهم. كما قال: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال القاشانيّ: أي من الفضائل والخيرات. أي اكتسبوها فربحوا زيادة النّور الكماليّ على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم.
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ أي أوصى بعضهم بعضا بما أنزل الله في كتابه من أمره، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي على ما يبلو الله به عباده. أو على الحق، فإن الوصول إلى الحق سهل. وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة والجهاد لأجله، فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان وحقيقته.
تنبيهات:
الأول- قال الإمام ابن القيّم في (مفتاح دار السعادة) قال الشافعي رضي الله عنه: لو فكر الناس كلهم في هذه السورة، لكفتهم. وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله. إحداها معرفة الحق. الثانية عمله به.
الثالثة تعليمه من لا يحسنه. الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة. وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر، إلا الذين آمنوا. وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به، فهذه مرتبة.
وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى. وتواصوا بالحق، وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا، فهذه مرتبة ثالثة. وتواصوا بالصبر، صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات. فهذه مرتبة رابعة.
وهذا نهاية الكمال. فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه، مكملا لغيره. وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية. فصلاح القوة العلمية بالإيمان.
وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات. وتكميله غيره، بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. فهذه السورة، على اختصارها، هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره. والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه، شافيا من كل داء، هاديا إلى كل خير. انتهى.
الثاني: قال الرازي: هذه السورة فيها وعيد شديد. وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس، إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة. وهي: الإيمان.
والعمل الصالح. التواصي بالحق. والتواصي بالصبر. فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور. وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه، فكذلك يلزمه
في غيره أمور. منها الدعاء إلى الدين. والنصيحة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأن يحب له ما يحب لنفسه ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه. والأول الأمر بالمعروف، والثاني النهي عن المنكر. ومنه قوله تعالى: وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ [لقمان: 17] ، وقال عمر: رحم الله من أهدى إليّ عيوبي.
الثالث: قال الرازي: دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه. فلذلك قرن التواصي بالصبر.
الرابع: تخصص التواصي بالحق والصبر، مع اندراجهما في الأعمال الصالحة، لإبراز كمال الاعتناء بهما.
قال الإمام: من تلك الأعمال الدعوة إلى الحق والوصية بالصبر. لكنه أراد تخصيص هذين الأمرين بالذكر، لأنهما حفاظ كل خير ورأس كل أمر. والحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة. وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة. فشرط النجاة من الخسران، أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم، ويمكّنوه من قلوبهم، ثم يحمل الناس بعضهم بعضا عليه، بأن يدعو كلّ صاحبه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة، التي لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل. وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات، التي لا قرار للنفوس عليها، ولا دليل يهدي إليها. ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام. وهذا إطلاق للعقل من كل قيد، مع اشتراط التدقيق في النظر. لا الذهاب مع الطيش والانخداع للعادة والوهم. ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح بعد أن يعرفه فهو من الخاسرين. كما ترى في الآية بالنص الصريح الذي لا يقبل التأويل. والصبر قوة للنفس على احتمال المشقة في العمل الطيب، واحتمال المكروه من الحرمان من اللذة، إن كان في نيلها ما يخالف حقّا أو ما لا تأذن به الشريعة الصحيحة التي لا اختلاف فيها. واحتمال الآلام إذا عرضت المصائب بدون جزع ولا خروج في دفعها عن حدود الحق والشرع. فشرط النجاة من الخسران أن تصبر، وأن توصي غيرك بالصبر، وتحمله على تكميل قواه بهذه الفضيلة الشريفة، التي هي أم الفضائل بأسرها، ولا يمكنك حمله على ذلك، حتى تكون بنفسك متحلّيا بها. وإلا دخلت فيمن يقول، ولا يفعل كما يقول. فلم تكن ممن يعمل الصالحات. انتهى.
الخامس- قال الإمام: إنما قال وَتَواصَوْا ولم يقل (وأوصوا) ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق، ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق، ليوصي صاحبه بطلبه، يهمه أن يرى الحق فيقبله. فكأن في هذه العبارة الجزلة، قد نص على تواصيهم بالحق وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم.
السادس- قال ابن كثير: ذكر الطبرانيّ من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبيد الله ابن حصن قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها. ثم يسلم أحدهما على الآخر. قال الإمام: قد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك. وهو خطأ. وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صاحبه بما ورد فيها. خصوصا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر. حتى يجتلب منه قبل التفرق، وصية خير لو كانت عنده.
وقد فسر الإمام رحمه الله هذه السورة بتفسير على حدة لم يسبق إلى نظيره، فعلى من أراد التوسع في أسرارها، أن يرجع إليه.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الهمزة
مكية، وآيها تسع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أي لكل من يطعن في أعراض الناس ويغتابهم أصله من الهمز بمعنى الكسر، ومن اللمز بمعنى الطعن، الحقيقيين. ثم استعيرا لذلك ثم صارا حقيقة عرفية فيه. قال زياد الأعجم:
تدلى بودّ إذا لاقيتني كذبا ... وإن أغيّب فأنت الهامز اللّمزة
وبناء (فعلة) يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها، لأنه من صيغ المبالغة والآية عني بها من كان مع المشركين بمكة، همازا لمازا. كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ [المطففين:
29-
30]
، وقوله: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم: 11] الآيات، فالسبب، وإن يكن خاصّا، إلا أن الوعيد عام، يتناول كل من باشر ذلك القبيح. وسرّ وروده عامّا، ليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه.

الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ أي أحصى عدده ولم ينفقه في وجوه البر.
قال الإمام: أي أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس، هو جمعه المال وتعديده. أي عده مرة بعد أخرى، شغفا به وتلذذا بإحصائه. لأنه لا يرى عزّا ولا شرفا ولا مجدا في سواه. فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة، بحيث يكون كل ذي فضل ومزية دونه. فهو يهزأ به ويهمزه ويلمزه. ثم لا يخشى أن تصيبه عقوبة على الهمز واللمز وتمزيق العرض. لأن غروره بالمال أنساه الموت وصرف عنه ذكر المآل فهو يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن أن ماله الذي جمعه وأحصاه، وبخل بإنفاقه، مخلده في الدنيا، فمزيل عنه الموت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الهمزة (104) : الآيات 4 الى 9]
كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
كَلَّا أي فليرتدع عن هذا الحسبان، فإن الأمر ليس كما ظن. بل لا بد أن يفارق هذه الحياة إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيّئ الأعمال، كما قال: لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ أي ليلقين وليقذفن يوم القيامة في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها. أي تكسره، وكلمة (النبذ) تفيد التحقير والتصغير وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ استفهام عنها لتهويل أمرها. كأنها ليست من الأمور التي تدركها العقول نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ أي هي النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه، لأنه هو منشئها في عالم لا يعلمه سواه.
قال أبو السعود: وفي إضافتها إليه سبحانه، ووصفها بالإيقاد، من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ قال ابن جرير: أي التي يطلع ألمها ووهجها على القلوب والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى. حكي عن العرب سماعا (متى طلعت أرضنا) و (طلعت أرضي) بلغت.
وقال الزمخشري: يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب. ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى يمسه. فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه!! ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة. أو تطالع، على سبيل المجاز معادن موجبها إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي مغلقة مطبقة لا مخلص لهم منها فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ صفة لمؤصدة، أو حال من الضمير المجرور. وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله: والمعنى أنه يؤكد يأسهم من الخروج، وتيقنهم بحبس الأبد، فتؤصد عليهم الأبواب، وتمدد على العمد، استيثاقا في استيثاق. ويجوز أن يكون المعنى أنها عليهم مؤصدة، موثقين في عمد ممددة، مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص.
و (المقاطر) جمع (مقطرة) بالفتح، وهي جذع كبير فيه خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم (وتقطر) أي يجعل كلّ بجنب آخر و (عمد) قرئ بضم العين والميم وفتحهما.
قال ابن جرير: وهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من
القراء. ولغتان صحيحتان. والعرب تجمع العمود عمدا وعمدا، بضم الحرفين وفتحهما، كما تفعل في جمع إهاب تجمعه أهبا وأهبا.
تنبيه:
قال القاشاني في بيان آفات رذيلتي الهمز واللمز اللتين نزلت في وعيدهما السورة، ما مثاله: الهمز أي الكسر من أعراض الناس واللمز أي الطعن فيهم، رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكبر. لأنهما يتضمنان الإيذاء وطلب الترفع على الناس. وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس، ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها.
فينسب العيب والرذيلة إليهم، ليظهر فضله عليهم. ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة.
فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية.
ثم قال: وفي قوله تعالى: وَعَدَّدَهُ إشارة أيضا إلى الجهل. لأن الذي جعل المال عدة للنوائب، لا يعلم أن نفس ذلك المال يجر إليه النوائب. لاقتضاء حكمة الله تفريقه في النائبات، فكيف يدفعها؟ وكذا في قوله: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي لا يشعر أن المقتنيات المخلدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسانية الباقية، لا العروض والذخائر الجسمانية الفانية ولكنه مخدوع بطول الأمل، مغرور بشيطان الوهم عن بغتة الأجل. والحاصل أن الجهل الذي هو رذيلة القوة الملكية، أصل جميع الرذائل، ومستلزم لها. فلا جرم أنه يستحق صاحبه المغمور فيها، العذاب الأبديّ المستولي على القلب المبطل لجوهره.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفيل
مكية، وآيها خمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ يعني الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة، ورئيسهم أبرهة الحبشي الأشرم. كما سيأتي.
قال أبو السعود: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها. والرؤية علمية. أي ألم تعلم علما رصينا متاخما للمشاهدة والعيان، باستماع الأخبار المتواترة، ومعاينة الآثار الظاهرة. وتعليق الرؤية بكيفية فعله عزّ وجلّ لا بنفسه، بأن يقال ألم تر ما فعل ربك إلخ- لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن ذلك من الإرهاصات. لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سنأثره. وقوله تعالى: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ بيان إجمالي لما فعل بهم. أي ألم يجعل مكرهم وسعيهم لتخريب الكعبة في تضييع وإبطال لما حاولوا، وتدميرهم أشد تدمير.
قال الرازي: اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية (إن قيل) لم سماه كيدا وأمره كان ظاهرا، فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت؟ (قلنا) نعم لكن الذي
كان في قلبه شر مما أظهر. لأنه كان يضمر الحسد للعرب، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة، منهم ومن بلدهم، إلى نفسه وإلى بلدته وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ أي طوائف متفرقة، يتبع بعضها بعضا من نواح شتى و (أبابيل) جمع لا واحد له، على ما حكاه أبو عبيدة والفراء. وزعم أبو جعفر الرؤاسي- وكان ثقة- أنه سمع واحدها إبّالة بكسر الهمزة وتشديد الموحدة. وهي حزمة الحطب. استعير لجماعة الطير. وحكى الكسائي عن بعض النحويين في مفردها (أبول) وعن آخرين (أبيل) سماعا كما أثره ابن جرير. والتنكير في (طيرا) إما للتحقير، فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر. أو للتفخيم، كأنه يقول وأي طير ترمي بحجارة صغيرة فلا تخطئ المقتل. أفاده الرازي.
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ أي من طين متحجر. وروى ابن وهب عن ابن زيد أن المعنيّ بالسجيل السماء الدنيا لأن اسمها سجيل.
قال ابن جرير: وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجها في خبر ولا عقل ولا لغة. وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة أو خبر من الله تعالى ذكره فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ قال ابن جرير: كزرع أكلته الدواب فراثته، فيبس وتفرقت أجزاؤه. شبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم، وتفرق آراب أبدانهم بها، بتفرق أجزاء الروث، الذي حدث عن أكل الزرع.
قال الشهاب: ولم يذكر الروث لهجتنه. فجاء على الآداب القرآنية. وفيه إظهار تشويه حالهم.
وقال أبو مسلم: (العصف) التين، لقوله: ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ..
[الرحمن: 12] ، لأنه تعصف به الريح عند الذرّ، فتفرقه عن الحب وهو إذا كان مأكولا فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه. انتهى.
ومن الوجوه في الآية أن يكون المعنى: كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه، والتقدير كعصف مأكول الحب. كما يقال فلان حسن أي حسن الوجه. فأجرى (مأكول) على (العصف) من أجل أنه أكل حبه. لأن هذا المعنى معلوم. ومنها أيضا أن معنى (مأكول) مما يؤكل، يعني تأكله الدواب. يقال لكل ما يصلح للأكل (هو مأكول) والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب في التفرق والتفتت والهلاك. أشار له الرازي.






ابوالوليد المسلم 23-06-2025 07:34 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الماعون
المجلد السابع عشر
صـ 6261 الى صـ 6275
الحلقة (634)



تنبيهات:
الأول: كان السبب الذي من أجله حلت عقوبة الله تعالى لأصحاب الفيل،
مسير أبرهة الحبشي بجنده مع الفيل إلى بيت الله الحرام لتخريبه، وواقعة الفيل في ذاتها معروفة متواترة الرواية. حتى إنهم جعلوها مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث. فيقولون: ولد عام الفيل وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل ونحو ذلك.
وتفصيل نبئها على ما أثره ابن هشام: أن أبرهة الحبشي كان أمير صنعاء للنجاشي.
وكان ذا دين في النصرانية. فبنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها. ثم كتب للنجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك.
ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من كنانة فخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها (أي أحدث فيها) ثم خرج فلحق بأرضه. فأخبر بذلك أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة، لما سمع قولك (أصرف إليها حج العرب) غضب فجاء فقعد فيها. أي أنها ليست لذلك بأهل.
فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت. ثم سار وخرج معه بالفيل. وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر. فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه. فأجابه إلى ذلك من أجابه. ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأتى به أسيرا. فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك! لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي. فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق. وكان أبرهة رجلا حليما. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له.
حتى إذا كان بأرض خثعم عرض نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم: شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب. فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا. فأتى به.
فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك! لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب. وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم: شهران وناهس، بالسماع والطاعة. فخلى سبيله وخرج به معه يدله. حتى إذا مر بالطائف خرج له مسعد بن معتب الثقفي في رجاله ثقيف.
فقالوا له: أيها الملك! إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد- يعنون اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه. فتجاوز عنهم- واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة- فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة.
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمّس. فلما أنزله به مات أبو رغال هنا لك:
فرجمت قبره العرب. فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس. فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة.
فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم. وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب ابن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها. فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به. فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم. إنما جئت لهدم هذا البيت. فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب، فلا حاجة لي في دمائكم.
فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكة سأل من سيد قريش وشريفها. فقيل له عبد المطلب بن هاشم. فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة. فقال له عبد المطلب: والله! ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة. هذا بيت الله الحرام وبيت خليله عليه السلام (أو كما قال) فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه. وأن يخل بينه وبينه، فو الله! ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر. فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه وهو في محبسه. فقال له: يا ذا نفر! هل عندك من غناء فيما نزل ثبا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوّا أو عشيا. ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي. فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فيكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. فقال: حسبي.
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة.
يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال. وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت. فقال: أفعل. فكلم أنيس أبرهة فقال له:
أيها الملك! هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة، وهو يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال. فأذن له عليك فليكلمك في حاجته.
قال فأذن له أبرهة. قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم. فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته. وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه. فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتي
أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني. أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك. وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: وما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك، وكان، فيما يزعم أهل العلم، قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة- يعمر بن نفاثة سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل. فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم لا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم، أكان ذلك أم لا.
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له. فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب، تخوفا عليهم من معرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة. وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده.
فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا همّ إن العبد يم ... نع رحله، فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم، عدوا محالك
إن كنت تاركهم وقب ... لتنا فأمر ما بدا لك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة. وهيأ فيله وعبّأ جيشه، وأبرهة مجمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل فأخذ بأذنه. فقال له: ابرك أو ارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فبرك الفيل: وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل.
وضربوا الفيل ليقوم. فضربوا رأسه ليقوم فأبى. فأدخلوا محاجن لهم في مراقّه فبزغوه بها- أي أدموه- ليقوم فأبى. فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله تعالى طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك. وليس كلّهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق
الذي منه جاءوا. ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن. فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفرّ والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك. على كل منهل.
وأصيب أبرهة في جسده. وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة. كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمثّ- أي تسيل- قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر. فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة. أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب، ذلك العام.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان مما يعدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ. بِأَصْحابِ الْفِيلِ السورة.
ثم قال ابن إسحاق: فلما ردّ الله الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشا وقالوا: أهل الله قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم. فقالوا في ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة، وما ردّ عن قريش من كيدهم. ثم ساق القصائد في ذلك.
وإنما آثرت في سياقها ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق. لأنه أحسن اقتصاصا وأبلغ سبكا، لإثارته عن صميم العربية روايات نبغاء رجالها، فرحمه الله ورضي عنه.
التنبيه الثاني: إنما أضيف أمر القصة إلى الفيل، واشتهرت به، لاصطحابهم الفيل معهم للبطش والتخريب، فإنه لو تم لقائديه كيدهم، لكان الفيل يدهم العاملة وسهمهم النافذ. وذلك أن جبابرة البلاد التي يوجد فيها الفيل يتخذونه آلة بطش وانتقام. فإذا غضبوا على محارب وأسروه، أو وزير وأوثقوه، أو بلد ونازلوا حصنه- أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل، فنطح برأسه ونابه الصرح فيدكه.
وقواعد البنيان فيهدمها. فيكون أمضى من معاول وفؤوس. وأعظم رعبا ورهبة في النفوس. وربما ألقوا المسخوط عليه بين يديه، فأعمل فيه نابه، ولف عليه خرطومه وشاله، ومثل به تمثيلا، كان أشد بطشا وتنكيلا. وقد حدثني بغرائب هذه الفظائع الجاهلية بعض آل ملوك الأفغان لما أقام مدة بالشام.
الثالث: قال القاشاني: قصة أصحاب الفيل مشهورة، وواقعتهم قريبة من عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم وهي إحدى آيات قدرة الله، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه. وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الإنسان لكون نفوسهم ساذجة. وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها، ليس بمستنكر. ومن اطلع على عالم القدرة، وكشف له حجاب الحكمة، عرف لمية أمثال هذه.
قال: وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة أبيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون، وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شط نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر.
الرابع: قال الإمام الماوردي في (أعلام النبوة) : آيات الملك باهرة، وشواهد النبوات قاهرة. تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس بها كذب بصدق. ولا منتحل بمحق. وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها. ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاطرت آيات نبوته وظهرت آيات بركته. فكان من أعظمها شأنا، وأظهرها برهانا. وأشهرها عيانا وبيانا أصحاب الفيل. أنقذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه إلى مكة لقتل رجالها وسبي ذرارّيها وهدم الكعبة. وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانها حملا في بطن أمه بمكة. لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل. فكانت آيته في ذلك من وجهين: أحدهما أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا.
فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملا ووليدا. والثاني أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم. وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة. ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج.
فإن قيل. فكيف منع عن الكعبة قبله مصيرها قبلة ومنسكا، ولم يمنع الحجاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها؟
قيل: فعل الحجاج كان بعد استقرار الدين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس البنوة ومجيء الرسالة. على أن الرسول قد أنذر بهدمها فصار الهدم آية بعد أن كان المنع آية فلذلك اختلف حكمهما في الحالين والله تعالى أعلم.
ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل، تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم
كيد عدوهم، فزادوهم تشريفا وتعظيما، فصاروا أئمة ديانين، وقادة متبوعين. وصار أصحاب الفيل مثلا في الغابرين. وكان شأن الفيل رادعا لكل باغ ودافعا لك طاغ.
وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته، جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل. منهم حكيم بن حزام وحاطب بن عبد العزى ونوفل بن معاوية. لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة منها ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام، انتهى.
الخامس: ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة الإشارة إلى نبأ الفيل.
روى البخاري «1»
أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أظل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش، بركت ناقته فزجروها فألحت فقالوا: خلأت القصواء- أي حرنت- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل
، قال ابن الأثير في (النهاية) : هو فيل أبرهة الحبشي الذي جاء يقصد خراب الكعبة، فحبس الله الفيل فلم يدخل الحرم. ورد رأسه راجعا من حيث جاء. يعني أن الله حبس ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الحديبية. فلم تتقدم ولم تدخل الحرم. لأنه أراد أن يدخل مكة بالمسلمين.
وفي الصحيحين «2» أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين. وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. ألا فليبلغ الشاهد الغائب.
(1)
أخرجه في: الشروط، 15- باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، حديث 881، 882 عن المسور بن مخرمة ومروان. []

(2)
أخرجه البخاري في: العلم، 39- باب كتابة العلم، حديث رقم 96 عن أبي هريرة.

وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 447 و 448.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة قريش
مكية، وآيها أربع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ قال ابن هشام: إيلاف قريش إلفهم الخروج إلى الشام في تجارتهم. وكانت لهم خرجتان: خرجة في الشتاء وخرجة في الصيف. قال: أخبرني أبو زيد الأنصاري أن العرب تقول: ألفت الشيء إلفا، وآلفته إيلافا، في معنى واحد وأنشدني لذي الرمة:
من المؤلفات الرمل إدماء حرة ... شعاع الضّحى في لونها يتوضّح
والإيلاف أيضا أن يكون للإنسان ألف من الإبل أو البقر أو الغنم أو غير ذلك، ويقال آلف فلان إيلافا، قال الكميت بن زيد:
بعام يقول له المؤلفو ... ن هذا المعيم لنا المرجل
والمعيم العام الذي قل فيه اللبن. والإيلاف أيضا أن يصير القوم ألفا يقال آلف القوم إيلافا. قال الكميت:
وآل مزيقياء غداة لاقوا ... بني سعد بن ضبّة مؤلفينا
والإيلاف أيضا أن يؤلف الشيء، فيألفه ويلزمه. يقال: آلفته إياه إيلافا.
والإيلاف أيضا أن تصيّر ما دون الألف ألفا. يقال: آلفته إيلافا. انتهى. ولورود الإيلاف بهذه المعاني، ظهر سر إبداله بالمقيد منه بعد إطلاقه. مع ما في الإبهام، ثم التفسير من التفخيم والتقرير. روى ابن جرير عن عكرمة قال: كانت قريش قد ألفوا بصرى واليمن، يختلفون إلى هذه في الشتاء وإلى تلك في الصيف. وعن ابن زيد
قال: كانت لهم رحلتان: الصيف إلى الشام والشتاء إلى اليمن في التجارة. إذا كان الشتاء امتنع الشام منهم لمكان البرد. وكانت رحلتهم في الشتاء إلى اليمن. وعن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكة ويصيّفون بالطائف. والأكثرون على الأول. واللام في قوله (لإيلاف) متعلق بقوله تعالى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
أي فليعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين. ودخلت الفاء، لما في الكلام من معنى الشرط. إذ المعنى، أن نعم الله تعالى عليهم غير محصورة. فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة. والبيت هو الكعبة المشرفة الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي جوع شديد كانوا فيه قبل الرحلتين ف (من) تعليلية أي أنعم عليهم وأطعمهم لإزالة الجوع عنهم أو بدلية وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أي مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات والحروب والقتال والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها من بعض. قال ابن زيد:
كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضا. فأمنوا من ذلك لمكان الحرم وقرأ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] ، ونظيره أيضا قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .
تنبيه:
زعم بعض الناس أن اللام في (لإيلاف) متعلق بما قبله أي فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش. قال الشهاب: وعلى هذا لا بد من تأويله. والمعنى: أهلكهم ولم يسلط على أهل حرمه ليبقوا على ما كانوا عليه. أو أهلك من قصدهم ليعتبر الناس ولا يجترئ عليهم أحد، فيتم لهم الأمن في الإقامة والسفر. أو هي لام العاقبة.
انتهى.
ولا يخفى ما فيه من التكلف. ولذا قال ابن جرير في رده: وأما القول الذي قاله من حكينا قوله أنه من صلة قوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ فإن ذلك لو كان كذلك لوجب أن يكون (لإيلاف) بعض (ألم تر) وأن لا تكون سورة منفصلة من (ألم تر) وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامتان، كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى، ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك. ولو كان قوله:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ من صلة قوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لم تكن أَلَمْ تَرَ تامة حتى توصل بقوله: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ لأن الكلام لا يتم إلا بانقضاء الخبر الذي ذكر. انتهى.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الماعون
مدنية، وآيها سبع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أي بثواب الله وعقابه، فلا يطيعه في أمره ونهيه قال أبو السعود: استفهام أريد به تشويق السامع إلى معرفة من سيق له الكلام والتعجيب منه. والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم. أو لكل عاقل. والرؤية بمعنى العلم. والفاء في قوله تعالى: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ جواب شرط محذوف، على أن (ذلك) مبتدأ والموصول خبره. والمعنى: هل عرفت الذي يكذّب بالجزاء أو بالإسلام، إن لم تعرفه أو إن أردت أن تعرفه فهو الذي يدفع اليتيم دفعا عنيفا ويزجره زجرا قبيحا. يقال:
دفعت فلانا عن حقه: دفعت عنه وظلمته وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يحث غيره من ذوي اليسار على إطعام المحتاج وسدّ خلته. بل يبخل بسعيه عند الأغنياء لإغاثة البؤساء.
قال الشهاب: إن كان الطعام بمعنى الإطعام، كما قاله الراغب، فهو ظاهر. وإلا ففيه مضاف مقدر. أي بذل طعام المسكين. واختياره على الإطعام للإشعار بأنه كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله: فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 24- 25] ، فهو بيان لشدة الاستحقاق. وفيه إشارة للنهي عن الامتنان.
قال أبو السعود: وإذا كان حال من ترك حث غيره على ما ذكر، فما ظنك بحال من ترك ذلك مع القدرة؟.
قال الزمخشري: جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف. يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد، لخشي الله تعالى وعقابه، ولم يقدم على ذلك. فحين أقدم عليه علم أنه مكذب، فما أشده من كلام! وما أخوفه من مقام! وما أبلغه في التحذير من المعصية وإنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين، وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قال ابن جرير: أي لاهون يتغافلون عنها وذلك باللهو عنها والتشاغل بغيرها.
وتضييعها أحيانا وتضييع وقتها أخرى. وقال القاشاني: أي فويل لهم، أي للموصوفين بهذه الصفات، من دعّ اليتيم وعدم الحث على طعام المسكين. الذي إن صلّوا غفلوا عن صلاتهم لاحتجابهم عن حقيقتها بجهلهم وعدم حضورهم.
و (المصلين) من باب وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بأن أشرف أفعالهم وصور حسناتهم سيئات وذنوب، لعدم ما هي به معتبرة من الحضور والإخلاص، وأورد على صيغة الجمع لأن المراد بالذي يكذب هو الجنس الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ أي يراءون الناس بصلاتهم إذا صلوا لأنهم لا يصلّون رغبة في ثواب، ولا رهبة من عقاب. وإنما يصلونها ليراهم المؤمنون فيظنوهم منهم فيكفوا عنهم. وأصل المراءاة أن ترى غيرك ويراك. أريد به العمل عند الناس ليثنوا عليهم. أوضحه الشهاب.
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أي ما يعان به الخلق ويصرف في معونتهم من الأموال والأمتعة وكل ما ينتفع به، لكون الجهل حاكما عليهم بالاستئثار بالمنافع وحرمانهم عن النظر التوحيدي وعدم اعتقادهم بالجزاء. فلا محبة لهم للحق للركون إلى العالم الفاني، ولا عدالة في أنفسهم للاتصاف بالرذائل والبعد عن الفضائل، فلا يعاونون أحدا فلن يفلحوا أبدا. قاله القاشاني
تنبيه:
المعني بهذه الآيات أولا وبالذات المنافقون في عهد النبوة. ويدخل فيها ثانيا وبالعرض، كل من وجد فيهم تلك الخلال الذميمة اعتبارا بالعموم. فالسورة مدنية.
ونظيرها في المنافقين قوله تعالى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
[النساء: 142] ، ولذا قال ابن عباس فيما رواه ابن جرير:
هم المنافقون، كانوا يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العارية بغضا لهم، وهو الماعون.







ابوالوليد المسلم 23-06-2025 07:47 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة النصر
المجلد السابع عشر
صـ 6276 الى صـ 6288
الحلقة (635)




بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الكوثر
مكية، ويقال مدنية، وآيها ثلاث.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير من القرآن والحكمة والنبوة والدين الحقّ والهدى وما فيه سعادة الدارين. روى ابن جرير عن أبي بشر قال: سألت سعيد ابن جبير عن الكوثر، فقال: هو الخير الكثير الذي آتاه الله إياه. فقلت لسعيد: إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة. فقال: هو من الخير الذي أعطاه الله إياه فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال الإمام: أي فاجعل صلاتك لربك وحده، وانحر ذبيحتك مما هو نسك لك لله وحده، فإنه هو مربيك ومسبغ نعمه عليك دون سواه، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162- 163] ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ قال ابن جرير:
أي مبغضك يا محمد، وعدوك، هو الأبتر. يعني الأقل الأذل المنقطع دابره الذي لا عقب له.
روى ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له. فإذا هلك انقطع ذكره) فأنزل الله هذه السورة. وعن عطاء قال: نزلت في أبي لهب. وذلك حين مات ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال: بتر محمد الليلة. فأنزل الله، في ذلك، السورة. وقال شمر بن عطية: نزلت في عقبة بن أبي معيط. قال ابن كثير: والآية تعم جميع من اتصف بذلك، ممن ذكر وغيرهم.
وقال الإمام: كان المستهزئون من قريش كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط
وأبي لهب وأمثالهم، إذا رأوا أبناء النبيّ صلى الله عليه وسلم يموتون، ويقولون: بتر محمد، أي لم يبق له ذكر في أولاده من بعده، ويعدون ذلك عيبا يلمزونه به وينفرون به الناس من أتباعه وكانوا إذا رأوا ضعف المسلمين وفقرهم وقلتهم يستخفون بهم ويهونون أمرهم، ويعدّون ذلك مغمزا في الدين، ويأخذون القلة والضعف دليلا على أن الدين ليس بحق، ولو كان حقّا لنشأ مع الغنى والقوة، شأن السفهاء مع الحق في كل زمان أو مكان غلب فيه الجهل. وكان المنافقون إذا رأوا ما فيه المؤمنون من الشدة والبأساء يمنّون أنفسهم بغلبة إخوانهم القدماء من الجاحدين. وينتظرون السوء بالمسلمين لقلة عددهم وخلوّ أيديهم من المال. وكان الضعفاء من حديثي العهد بالإسلام من المؤمنين، تمرّ بنفوسهم خواطر السوء عند ما تشتد عليهم حلقات الضيق. فأراد الله سبحانه أن يمحص من نفوس هؤلاء، ويبكّت الآخرين، فأكد الخبر لنبيه، أن ما يخيله النظر القصير قليلا، هو الكثير البالغ الغاية في الكثرة، ليؤكد له الوعد بأنه هو الفائز وأن متبعه هو الظافر، وإن عدوه هو الخائب، الأبتر الذي يمحى ذكره ويعفى أثره.
تنبيه:
لما روي من سبب نزول هذه السورة مما رويناه، ذهب إمام اللغة ابن جنّي إلى تأويل الكوثر بالذرية الكثيرة. وهو معنى بديع فيه مناسبة لسبب النزول.
قال ابن جنّي في (شرح ديوان المتنبي) في قوله يمدح طاهر بن الحسين العلوّي:
وأبهر آيات التهامي أنه ... أبوك وأجدى ما لكم من مناقب
في جملة ما أملاه عليّ أبو الفضل العروضي: أن قريشا وأعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: إن محمدا أبتر لا عقب له. فإذا مات استرحنا منه فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي العدد الكثير، ولست بالأبتر الذي قالوه. ومراده بالعدد الكثير الذرية وهم أولاد فاطمة. قال العروضي: فإن قيل: الإنسان بالأبناء والآباء والأمهات.
قلنا: هذا خلاف حكم الله تعالى فإنه قد قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ، إلى قوله وَيَحْيى وَعِيسى [الأنعام: 84] ، فجعل عيسى من أولاد إبراهيم ومن ذريته.
ولا خلاف في أنه لم يكن لعيسى أب. انتهى.
وقد بسطنا أدلة انتساب الأسباط إلى أجدادهم في كتاب (شرف الأسباط) بما لا مزيد عليه. فراجعه.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الكافرون
مكية، وآيها ست.
قال ابن كثير: ثبت في صحيح مسلم: عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة وب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في ركعتي الطواف.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر.
وروى الإمام أحمد «1» عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
وروى الإمام أحمد «2» عن الحارث بن جبلة قال: قلت: يا رسول الله! علمني شيئا أقوله عند منامي. قال: إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ: قل يا أيها الكافرون، فإنها براءة من الشرك
وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن. قال في (اللباب) : ووجه ذلك أن القرآن مشتمل على الأمر والنهي، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بعمل القلوب وإلى ما يتعلق بعمل الجوارح، فحصل من ذلك أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن عبادة غير الله تعالى، وهي من الاعتقاد، وذلك من أفعال القلوب. فكانت هذه السورة ربع القرآن على هذا التقسيم. وسيأتي في تفسير الإخلاص سر آخر.
(1)
أخرجه في المسند 2/ 58. والحديث رقم 5215.

(2)
أخرجه عن فروة بن نوفل الأشجعي عن أبيه، 5/ 456.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ أي المشركون الجاحدون للحق، الذي وضحت حجته واتضحت محجته لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي من الآلهة والأوثان الآن وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي الآن وَلا أَنا عابِدٌ أي فيما أستقبل ما عَبَدْتُّمْ أي فيما مضى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ أي فيما تستقبلون أبدا ما أَعْبُدُ أي فيما أستقبل ما عَبَدْتُّمْ أي الآن وفيما أستقبل- هكذا فسره الإمام ابن جرير رحمه الله. ثم قال: وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذين طمعوا فيه وحدثوا به أنفسهم. وإن ذلك الغير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات. وآيس نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مع الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدا فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا. إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرا. ثم
روى رحمه الله عن ابن إسحاق عن سعيد ابن مينا قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! هلم، فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله. فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذ منه بحظك. فأنزل الله قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ
السورة
وفي رواية: وأنزل الله في ذلك هذه السورة، وقوله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64- 66] ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
انتهى.
وقيل: الجملتان الأخيرتان لنفي العبادة حالا كما أن الأوليين لنفسها استقبالا قال أبو السعود: وإنما لم يقل (ما عبدت) ليوافق (ما عبدتم) لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام وهو عليه السلام لم يكن حينئذ موسوما بعبادة الله تعالى.
وإيثار (ما) في ما أَعْبُدُ على (من) لأن المراد هو الوصف كأنه قيل: ما أَعْبُدُ من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته. وقيل: إن ما مصدرية. أي لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي. وقيل: الأوليان بمعنى (الذي) والأخريان مصدريتان. وقيل: قوله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ تأكيد لقوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ثانيا تأكيدا لمثله المذكور أولا. انتهى.
ونقل ابن كثير عن الإمام ابن تيمية أن المراد بقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي الفعل، لأنها جملة فعلية وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ نفي قبوله لذلك بالكلية، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلا لذلك. ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا وهو قول حسن.
واختار الإمام كون (ما) في الأوليين موصولة وفيما بعدهما مصدرية، قال:
فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود. ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة. فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة، لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزه عن الند والشفيع، المتعالي عن الظهور في شخص معين، الباسط فضله لكل من أخلص له، الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه. والذي تعبدونه على خلاف ذلك. وعبادتي مخلصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى، فلا تسمى على الحقيقة عبادة. فأين هي من عبادتي؟ وقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ تقرير لقوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ كما أن قوله تعالى: وَلِيَ دِينِ تقرير لقوله تعالى:
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ والمعنى أن دينكم، الذي هو الإشراك، مقصور على الحصول لكم، لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضا، كما تطمعون فيه. فإن ذلك من المحالات. وأن ديني الذي هو التوحيد، مقصور على الحصول لي، لا يتجاوزه إلى الحصول لكم، فلا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه.
تنبيه:
قال ابن كثير استدل الإمام الشافعيّ وغيره بهذه الآية الكريمة لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
على أن الكفر كله ملة واحدة فورّث اليهود من النصارى وبالعكس، إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به. لأن الأديان، ما عدا الإسلام، كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود، وبالعكس.
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يتوارث أهل ملّتين شتّى)
.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النصر
مدنية، وآيها ثلاث.
وهي آخر سورة نزلت في رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وروى البيهقي عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال، لما نزلت هذه السورة: إنه قد نعيت إليّ نفسي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ أي لدينه الحق على الباطل وَالْفَتْحُ أي فتح مكة الذي فتح الله به بينه وبين قومه صلوات الله عليه، فجعل له الغلبة عليهم وضعف أمرهم في التمسك بعقائدهم الباطلة وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أي ورأيت الناس من صنوف العرب وقبائلها عند ذلك يدخلون في دين الله، وهو دينك الذي جئتهم به لزوال ذلك الغطاء الذي كان يحول بينهم وبينه، وهو غطاء قوة الباطل فيقبلون عليه أفواجا طوائف وجماعات لا آحادا، كما كان في بدء الأمر أيام الشدة.
إذ حصل ذلك كله وهو لا ريب حاصل فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي فنزه ربك عن أن يهمل الحق ويدعه للباطل يأكله. وعن أن يخلف وعده في تأييده. وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين، فلن يضيع أجر العاملين ولا يصلح عمل المفسدين. والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المرائين وَاسْتَغْفِرْهُ أي اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن، لتأخر زمن النصر والفتح. والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة. والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر، ولكن الله علم أن نفس
نبيّه صلى الله عليه وسلم قد تبلغ ذلك الكمال. فلذلك أمره به، وكذلك تقاربه قلوب الكمّل من أصحابه وأتباعه عليه السلام. والله يتقبل منهم إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً أي إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة، لأنه ربّ يربي النفوس بالمحن. فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشددها بحسن الوعد. ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال. وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها. وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم. وكأن الله يقول: إذا حصل الفتح، وتحقق النصر، وأقبل الناس على الدين الحق، فقد ارتفع الخوف وزال موجب الحزن، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره، والنزوع إليه عما كان من خواطر النفس. فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص. ومن هذا أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الأمر قد تم ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه، فقال فيما روي عنه: إنه قد نعيت إليه نفسه. هذا ملخص ما أورده الإمام في تفسيره.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدا. فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة. يقولون إن ظهر على قومه، فهو نبيّ. فلما فتح الله عليه مكة، دخلوا في دين الله أفواجا، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا. ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة.
وقد روى البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة: كنا بماء ممرّ الناس. وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه (أو أوحى الله بكذا) فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يغرى في صدري. وكانت العرب تلوّم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه. فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيّ صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم ... الحديث.
الثاني- قال الرازي: إذا حملنا الفتح على فتح مكة، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان:
أحدهما- أن فتح مكة كان سنة ثمان. ونزلت هذه السورة سنة عشر. وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما. ولذلك سميت سورة التوديع.
ثانيهما- أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصره على أهل مكة، وأن يفتحها عليه. ونظيره: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] ، وقوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يقتضي الاستقبال، إذ لا يقال فيما وقع إِذا جاءَ و (إذا وقع) وإذا صح هذا القول صارت
هذه الآية من جملة المعجزات. من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقا له.
والإخبار عن الغيب معجزة. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : ولأبي يعلى، من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق، في حجة الوداع. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع.
ثم قال: وسئلت عن قول الكشاف: إن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق، فكيف صدرت ب (إذا) الدالة على الاستقبال؟ فأجبت بضعف ما نقله.
وعلى تقدير صحته، فالشرط لم يتكمل بالفتح. لأن مجيء الناس أفواجا لم يكن كمل، فبقية الشرط مستقبل.
وقد أورد الطيبي السؤال، وأجاب بجوابين:
أحدهما- أن (إذا) قد ترد بمعنى (إذ) كما في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً.. [الجمعة: 11] الآية.
ثانيهما- أن كلام الله قديم. وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى. انتهى. كلامه.
الثالث- قال الشهاب: المراد ب (الناس) العرب. ف (أل) عهدية. أو المراد الاستغراق العرفيّ. والمراد عبدة الأصنام منهم. لأن نصارى تغلب لم يسلموا في حياته صلى الله عليه وسلم وأعطوا الجزية.
الرابع-
روى البخاري «1» عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلا- يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.
وفيه عنها أيضا «2» : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده:
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن.
قال الحافظ ابن حجر: معنى (يتأول القرآن) يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار، في أشرف الأوقات والأحوال.
وقال ابن القيّم في (الهدى) كأنه أخذه من قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْهُ لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور. فيقول إذا سلم من الصلاة: أستغفر الله ثلاثا. وإذا خرج من الخلاء قال: غفرانك. وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ... [البقرة: 199] الآية.
(1)
أخرجه في: التفسير، سورة النصر، 1- حدثنا الحسن بن الربيع، حديث رقم 481.

(2)
أخرجه في: التفسير، سورة النصر، 2- حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حديث رقم 481.






ابوالوليد المسلم 23-06-2025 07:53 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الاخلاص
المجلد السابع عشر
صـ 6289 الى صـ 6303
الحلقة (636)




بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المسد
ويقال سورة أبي لهب، مكية وآيها خمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ أي خسرت يداه، وخسر هو. واليدان كناية عن الذات والنفس، لما بينهما من اللزوم في الجملة، أو مجاز من باب إطلاق الجزء على الكل. وجملة وَتَبَّ مؤكدة لما قبلها، أو المراد بالأولى خسرانه فيما كسبه وعمله بيديه، حيث لم يفده ولم ينفعه. وما بعده عبارة عن خسرانه في نفسه وذاته لأن سعي المرء لإصلاح نفسه وعمله. فأخبر بأن محروم منهما، كما تشير له الآيتان بعد: أعني هلاك عمله وهلاك نفسه. وقال ابن جرير: كان بعض أهل العربية يقول قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ دعاء عليه من الله. وأما قوله: وَتَبَّ فإنه خبر. أي عما سيحقق له في الدنيا والآخرة. وعبر عنه بالماضي لتحققه.
وأبو لهب أحد عمومة النبيّ صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزى. وقد اشتهر بكنيته وعرف بها لولد له يقال له لهب. أو لتلهب وجنتيه وإشراقهما. مع الإشارة إلى أنه من أهل النار، وأن مآله إلى نار ذات لهب. فوافقت حاله كنيته، فحسن ذكره بها.
قال الرواة: كان أبو لهب من أشد الناس عداوة للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وأذية له وبغضة له وازدراء به وتنقصا له ولدعوته. ومات على كفره بعد وقعة بدر ولم يحضرها. بل أرسل عنه بديلا. فلما بلغه ما جرى لقريش مات غما- وقد روى الشيخان عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، صعد النبيّ
صلى الله عليه وسلم على الصفا ونادى: يا بني فهر! يا بني عديّ! (لبطون من قريش) حتى اجتمعوا.
فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولا، لينظر ما هو. فجاء أبو لهب وقريش فقال:
أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟ قالوا:
نعم. ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟ فنزلت هذه السورة.
وروى الإمام أحمد «1» عن ربيعة بن عباد الديلي قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا.
والناس مجتمعون عليه. ووراءه رجل وضيء الوجه أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب. وفي رواية له: يتبعه من خلفه يقول: يا بني فلان! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة. فلا تسمعوا له ولا تتبعوه.
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ أي أيّ شيء أغنى عنه ماله وما كسبه من سخط الله عليه وخسرانه. فكسبه هو عمله الذي يظن أنه منه على شيء. وقيل: ولده. لقرن الأولاد بالأموال في كثير من الآيات. وكانت العرب تعد أولادها للنائبات كالأموال، فنفى إغناءهما عنه حين حل به التباب.
قال الشهاب: والذي صححه أهل الأثر أن أولاده، لعنه الله، ثلاثة: معتب وعتبة وهما أسلما. وعتيبة (مصغرا) وهذا هو الذي دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم جاهر بإيذائه وعداوته، ورد ابنته وطلقها.
وقال صلوات الله عليه وسلامه: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فأكله السبع في خرجة خرجها إلى الشام.
وفيه يقول حسان رضي الله عنه:
من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السّبع بالراجع
ثم قال. ولهب هو أحد هؤلاء فيما قيل، قال الثعالبيّ: ومنه يعلم أن الأسد يطلق عليه كلب. ولما أضيف إلى الله، كان أعظم أفراده سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي توقّد واشتعال، وهي نار الآخرة، جزاء ما كان يأتيه من مقاومة الحق ومجاحدته وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أي وسيصلاها معه امرأته أيضا: ف امْرَأَتُهُ مرفوع عطفا على الضمير في سَيَصْلى أو على الابتداء، وفِي جِيدِها الخبر. وقرئ
(1)
أخرجه في المسند 4/ 341.

حَمَّالَةَ بالنصب على الشتم والذم، وبالرفع نعتا أو بدلا أو عطف بيان. إنما قيل لها ذلك لأنها كانت تحطب الكلام وتمشي بالنميمة. كما قاله مجاهد وعكرمة وقتادة.
قال الزمخشري: ويقال للمشّاء بالنمائم المفسد بين الناس، يحمل الحطب بينهم، أي يوقد بينهم ويورث الشر، قال:
البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بين الحيّ بالحطب الرّطب
يمدحها بأنها من البيض الوجوه وأنها بريئة من أن تصطاد على سوء ولؤم فيها.
ومن أن تمشي بالسعاية والنميمة بين الناس. وإنما جعل رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة الشر. ويقال: فلان يحطب على فلان، إذا أغرى به.
قال الشهاب: وهي استعارة مشهورة لطيفة، كاستعارة حطب جهنم للأوزار.
قال ابن كثير: وكانت زوجته من سادات نساء قريش، وهي أم جميل، واسمها (أروى) بنت حرب بن أمية. وهي أخت أبي سفيان وعمة معاوية. وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قال الإمام رحمه الله:
أي في عنقها حبل من الليف. أي أنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة، للإفساد بين الناس وتأريث نيران العداوة بينهم، بمنزلة حامل الحطب الذي في عنقه حبل خشن، يشدّ به ما حمله إلى عنقه، حتى يستقل به. وهذه أشنع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب، وفي عنقها حبل من الليف، تشد به الحطب إلى كاهلها، حتى تكاد تختنق به.
وقال أيضا: قد أنزل الله في أبي لهب وفي زوجته هذه السورة، ليكون مثلا يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيه، مطاوعة لهواه وإيثارا لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال، واغترارا بما عنده من الأموال، وبما له من الصولة أو من المنزلة في قلوب الرجال، وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئا. وسيصلى ما يصلى.
نسأل الله العافية.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الإخلاص
مكية، وآيها أربع.
روى البخاري «1» عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية. وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب (قل هو الله أحد) .
فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك. فسألوه.
فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله تعالى يحبّه.
وروى الإمام أحمد «2» عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن. وأخرجه البخاريّ في قصة.
وروى الإمام أحمد «3» عن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا محمد! انسب لنا ربك. فأنزل الله تعالى هذه السورة.
(1)
أخرجه في: التوحيد، 1- باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، حديث رقم 2596.

(2)
أخرجه في المسند: 4/ 122.

(3)
أخرجه عن أبي سعيد الخدري في: التوحيد، 1- باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، حديث رقم 2081.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
قُلْ هُوَ أي الخبر الحق المؤيد بالبرهان الذي لا يرتاب فيه، وهو ما يعبر عنه النحويون بالقصة أو الحديث أو الشأن. قال أبو السعود: ومدار وضعه موضعه، مع عدم سبق ذكره، الإيذان بأنه من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد، وإليه يشير كل مشير، وإليه يعود كل ضمير اللَّهُ أَحَدٌ أي واحد في الألوهية والربوبية.
قال الزمخشري: أَحَدٌ بمعنى واحد. وقال ابن الأثير: (الأحد) في أسمائه تعالى، الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. والهمزة فيه بدل من الواو. وأصله (وحد) لأنه من الوحدة. وفي (المصباح) : يكون (أحد) مرادفا (لواحد) في موضعين سماعا:
أحدهما- وصف اسم البارئ تعالى فقال هو الواحد وهو الأحد، لاختصاصه بالأحدية. فلا يشركه فيها غيره. ولهذا لا ينعت به غير الله تعالى. فلا يقال (رجل أحد) ولا (درهم أحد) ونحو ذلك.
والموضع الثاني- أسماء العدد للغلبة وكثرة الاستعمال. فيقال أحد وعشرون، وواحد وعشرون. وفي غير هذين يقع الفرق بينهما في الاستعمال، بأن (الأحد) لنفي ما يذكر معه، فلا يستعمل إلا في الجحد، لما فيه من العموم، نحو ما قام أحد.
أو مضافا نحو (ما قام أحد الثلاثة) . و (الواحد) اسم لمفتتح العدد. ويستعمل في الإثبات، مضافا وغير مضاف. فيقال (جاءني واحد من القوم) . انتهى.
وقال الأزهري: الواحد من صفات الله تعالى، معناه أنه لا ثاني له. ويجوز أن ينعت الشيء بأنه واحد. فأما أَحَدٌ فلا ينعت به غير الله تعالى، لخلوص هذا الاسم الشريف له جل ثناؤه.
قال الإمام: ونكّر الخبر لأن المقصود أن يخبر عن الله بأنه واحد، لا بأنه لا واحد سواه. فإن الوحدة تكون لكل واحد. تقول (لا أحد في الدار) بمعنى لا واحد من الناس فيها. والذي كان يزعمه المخاطبون هو التعدد في ذاته. فأراد نفي ذلك بأنه أحد. وهو تقرير لخلاف ما يعتقد به أهل الأصلين من المجوس، وما يعتقده القائلون بالثلاثة، منهم ومن غيرهم. وسيأتي لابن تيمية كلام آخر في سر إيثاره بالتنكير اللَّهُ الصَّمَدُ أي الذي يصمد إليه في الحوائج، ويقصد إليه في الرغائب. إذ ينتهى إليه منتهى السؤدد، قاله الغزاليّ في (المقصد الأسنى) . وهكذا قال ابن جرير: الصمد عند العرب هو السيد الذي يصمد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمى أشرافها.
ومنه قول الشاعر:
ألا بكر النّاعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد
قال الشهاب: فهو (فعل) بمعنى مفعول. وصمد بمعنى قصد. فيتعدى بنفسه وباللام وإلى. وقال ابن تيمية رحمه الله: وفي الصمد للسلف أقوال متعددة، قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك بل كلها صواب. والمشهور منها قولان:
أحدهما- أن الصمد هو الذي لا جوف له.
والثاني- أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج.
والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة.
والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين.
تم توسع رحمه الله في مأخذ ذلك واشتقاقه والمأثور فيه، إلى أن قال:
وإنما أدخل اللام في الصَّمَدُ ولم يدخلها في أَحَدٌ لأنه ليس في الموجودات ما يسمى أحدا في الإثبات مفردا غير مضاف. ولم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده. وإنما يستعمل في غير الله في النفي وفي الإضافة وفي العدد المطلق. وأما اسم الصمد فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين، كما تقدم، فلم يقل صمد بل قال: اللَّهُ الصَّمَدُ فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه. فإنه المستوجب لغايته على الكمال. والمخلوق، وإن كان صمدا من بعض الوجوه، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه. فإنه يقبل التفرق والتجزئة. وهو أيضا محتاج إلى غيره. فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه، فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء، إلا الله. وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن
يتجزأ ويتفرق وينقسم وينفصل بعضه من بعض. والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة، لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه.
وقال أبو السعود. وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل من استحقاق الألوهية. وتعرية الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى. بيّن أولا ألوهيته عزّ وجلّ المستتبعة لكافة نعوت الكمال، ثم أحديّته الموجبة تنزهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجه من الوجوه، وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها.
ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتيّ عما سواه، وافتقار جميع المخلوقات إليه، في وجودها وبقائها وسائر أحوالها، تحقيقا للحق، وإرشادا لهم إلى سننه الواضح. ثم صرح ببعض ما يندرج فيما تقدم، بقوله سبحانه لَمْ يَلِدْ نصيبا على إبطال زعم المفترين في حق الملائكة والمسيح. ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي. أي لم يصدر عنه ولد، لأنه لا يجانسه شيء ليمكن أن يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا.
كما نطق به قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ [الأنعام: 101] ، ولا يفتقر إلى ما يعينه أو يخلفه، لاستحالة الحاجة والفناء عليه، سبحانه. انتهى.
وقال ابن تيمية. وقد شمل ما أخبر به سبحانه من تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة، كل أفرادها. سواء سموها حسية أو عقلية، كما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها، هل هي جواهر أو أعراض؟ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوس بمنزلة الإناث، ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة. وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم، الذين جعلوا له بنين وبنات، قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ [الأنعام: 100] ، وقال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الصافات: 151- 152] ، وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله. كما يزعم هؤلاء أن النفوس هي الملائكة، وهي متولدة عن الله، فقال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ [النحل: 57] ، والآيات في هذا كثيرة.
وقوله: وَلَمْ يُولَدْ نفي لإحاطة النسب من جميع الجهات. فهو الأول الذي لم يتقدمه والد كان منه، وهو الآخر الذي لم يتأخر عنه ولد يكون عنه. قال الإمام:
قوله: وَلَمْ يُولَدْ يصرح ببطلان ما يزعمه بعض أرباب الأديان من أن ابنا لله يكون
إلها. ويعبد عبادة الإله، ويقصد فيما يقصد فيه الإله. بل لا يستحي الغالون منهم أن يعبروا عن والدته بأم الإله القادرة، فإن المولود حادث ولا يكون إلا بمزاج، وهو لا يسلم من عاقبة الفناء، ودعوى أنه أزلي مع أبيه، مما لا يمكن تعقله. فهو سبحانه منزه عن ذلك وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي ولم يكن أحد يكافئه أي يماثله من صاحبة أو غيرها. وقال الإمام: الكفؤ معناه المكافئ والمماثل في العمل والقدرة.
وهو نفي لما يعتقده بعض الوثنيين في الشيطان مثلا. فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الإشراك. وقرر جميع أصول التوحيد والتنزيه. وقال ابن جرير: الكفؤ والكفئ والكفاء، في كلام العرب، واحد. وهو المثل والشّبه.
وقرئ كُفُواً بضم الكاف والفاء وقلب الهمزة واوا. وقرئ بتسكين الفاء وهمزها، وهما قراءتان معروفتان، ولغتان مشهورتان. و (له) صلة ل كُفُواً قدمت عليه، مع أن حقها التأخر عنه، للاهتمام بها، لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى. وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل.
فوائد من هذه السورة:
الأولى- قال الشهاب: فإن قلت المأمور: قُلْ من شأنه إذا امتثل أن يتلفظ بالمقول وحده، فلم كانت قُلْ من المتلوّ فيه وفي نظائره في القراءة؟ قلت:
المأمور به سواء كان معينا أم لا، مأمور بالإقرار بالمقول. فأثبت القول ليدل على إيجاب مقوله ولزوم الإقرار به على مرّ الدهور.
الثانية: قال الإمام ابن تيمية: احتج بقوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ من أهل الكلام المحدث من يقول الرب تعالى جسم. كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم ومحمد بن كرام وغيرهما. قالوا: هو صمد، والصمد الذي لا جوف له. وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة، فإنها لا جوف لها، كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة. ولهذا قيل في تفسيره إنه الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء ولا يأكل ولا يشرب. ونفي هذا لا يعقل إلا عما هو جسم. وقالوا: أصل الصمد:
الاجتماع. ومنه تصميد المال. وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع. وأما النفاة فقالوا: الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام. وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام. وقالوا أيضا: الأحد الذي لا يقبل التجزؤ والانقسام. وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزؤ والانقسام. وقالوا: إذا قلتم هو جسم كان مركبا مؤلفا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة. وما كان مركبا مؤلفا من غيره
كان مفتقرا إليه، وهو سبحانه صمد. والصمد الغني عما سواه، فالمركب لا يكون صمدا. انتهى.
وقال الرازي: قد استدل قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم، وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحدا ينافي كونه جسما. فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغطة. وتعالى الله عن ذلك. فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه. وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك، يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير، وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجبا لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته. انتهى.
وأقول: التصحيح في تأويل الصمد ما ذكرناه أولا. وهو ما حكاه ابن جرير وغيره عن العرب في معناه. وإذا تحقق هذا، فلا يعول على هذا الثاني ولا لوازمه.
الثالثة- قال ابن تيمية: كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب، يجب تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات. في شيء من صفات الكمال الثابتة له.
وهذان النوعان يجمعان التنزيه الواجب لله. وهذه السورة دلت على النوعين. فقوله:
أَحَدٌ من قوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ينفي المماثلة والمشاركة. وقوله:
(صمد) يتضمن جميع صفات الكمال. فالنقائص جنسها منفيّ عن الله تعالى.
وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها. بخلاف ما يوصف به الرب. ويوصف العبد بما يليق به مثل العلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك.
فإن هذه ليست نقائص بل ما ثبت لله من هذه المعاني، فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات، فضلا عن أن يماثله فيه. بل ما خلقه الله في الجنة من المآكل والمشارب والملابس لا يماثل ما خلقه في الدنيا وإن اتفقا في الاسم، وكلاهما مخلوق. فالخالق تعالى أبعد في مماثلة المخلوقات من المخلوقات إلى المخلوق. وقد سمى الله نفسه عليما حليما رؤوفا رحيما سميعا بصيرا عزيزا ملكا جبارا متكبرا، وسمى أيضا بعض مخلوقاته بهذه الأسماء. مع العلم أنه ليس المسمى بهذه الأسماء من المخلوقين مماثلا للخالق جل جلاله في شيء من الأشياء.
الرابعة- قدمنا ما ورد في الحديث من أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن.
وقد ذكروا في ذلك وجوها- منها ما قاله أبو العباس بن سريج: أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام. ثلث منها الأحكام، وثلث منها وعد ووعيد، وثلث منها الأسماء والصفات. وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات.
وقال الغزالي في (جواهر القرآن) : مهمات القرآن هي معرفة الله ومعرفة الآخرة ومعرفة الصراط المستقيم. فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة. والباقي توابع. وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث، وهي معرفة الله وتقديسه وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع. وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفؤ.
قال: والوصف بالصمد يشعر بأنه السيد الذي لا يقصد في الوجود للحوائج سواه. نعم، ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم. فلذلك تعدل ثلث القرآن أي ثلث الأصول من القرآن كما قال (الحج عرفة) أي هو الأصل والباقي تبع.
وقال ابن القيّم في (زاد المعاد) : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص والكافرون.
وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد. فسورة الإخلاص متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة بوجه من الوجوه. والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه. ونفي الولد والوالد الذي هو من لازم الصمدية وغناه وأحديته ونفي الكفؤ المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير: فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفي إثبات شبيه أو مثل له في كماله ونفي مطلق الشريك عنه، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك. ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن. فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء. والإنشاء ثلاثة: أمر، ونهي، وإباحة. والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه- فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عنه وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن. وخلصت قارئها المؤمن من الشرك العلمي. كما خلصت سورة قل يا أيها الكافرون من الشرك العملي الإرادي القصدي. ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنزله منازله، كانت سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر. وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ تعدل ربع القرآن، وفي الترمذي «1» :
من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، يرفعه: إِذا زُلْزِلَتِ تعدل نصف القرآن وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ تعدل ربع القرآن.
رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد.
(1)
أخرجه في: ثواب القرآن، 10- باب ما جاء في إِذا زُلْزِلَتِ.

ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه، لما لها فيه من نيل الأغراض. وإزالته وقلعه منها أصعب وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته. لأن هذا يزول بالعلم والحجة ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه، بخلاف شرك الإرادة والقصد، فإن صاحبه يرتكب ما يدلّه العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه واستيلاء سلطان الشهوة والغضب على نفسه. فجاء من التأكيد والتكرار في سورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ المتضمنة لإزالة الشرك العمليّ ما لم يجيء مثله في سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
ولما كان القرآن شطرين: شطرا في الدنيا وأحكامها ومتعلقاتها والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها. وشطرا في الآخرة وما يقع فيها. وكانت سورة (إذا زلزلت) قد أخلصت من أولها وآخرها لهذا الشطر، فلم يذكر فيها إلا الآخرة، وما يكون فيها من أحوال الأرض وسكانها، كانت تعدل نصف القرآن. فأحر بهذا الحديث أن يكون صحيحا. والله أعلم.
الخامسة- قال ابن تيمية: سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أكثرهم على أنها مكية.
وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة. ولا منافاة. فإن الله أنزلها بمكة أولا. ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى. وهذا مما ذكر طائفة من العلماء. وقالوا: إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك. فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقّا. والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها، نزل جبريل فقرأها عليه، ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب. وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك. انتهى.
وقد تقدم في مقدمة هذا التفسير، ومواضع أخر منه، تحقيق البحث في معنى سبب النزول، بما يدفع المنافاة في أمثال هذا، فراجعه. ولهذه السورة الشريفة تفاسير على حدة. من أمثلها كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية: أحدهما في تفسيرها، والثاني في سر كونها تعدل ثلث القرآن،. فاحتفظ بهما. والله الهادي.



ابوالوليد المسلم 23-06-2025 08:01 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الناس
المجلد السابع عشر
صـ 6304 الى صـ 6316
الحلقة (637)



بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفلق
مكية، وآيها خمس:
روى الإمام مسلم «1» عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة، لم ير مثلهن قط: قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس.
وروى الإمام أحمد «2» وأبو داود والترمذيّ والنسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهما في سفر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أي ألوذ به وألتجئ إليه. والفلق فعل بمعنى المفعول.
كقصص بمعنى مقصوص. قال ابن تيمية: كل ما فلقه الرب فهو فلق. قال الحسن:
الفلق كل ما انفلق عن شيء كالصبح والحب والنوى. قال الزجاج: وإذا تأملت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر. وقد قال كثير من المفسرين: الفلق الصبح. فإنه يقال: هذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح.
وقال بعضهم: الفلق الخلق كله. وأما من قال إنه واد في جهنم أو شجرة في جهنم أو أنه اسم من أسماء جهنم. فهذا أمر لا نعرف صحته. لا بدلالة الاسم عليه، ولا بنقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا في تخصيص ربوبيته بذلك حكمة، بخلاف ما إذا قال:
رب الخلق أو رب كل ما انفلق أو رب النور الذي يظهره على العباد بالنهار. فإن في تخصيصه هذا بالذكر. ما يظهر به عظمة الرب المستعاذ به. انتهى.
(1)
أخرجه في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 264.
(2)
أخرجه بالصفحة رقم 4/ 144.
وقوله تعالى: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ أي من شر ما خلقه من الثقلين وغيرهم. كائنا ما كان من ذوات الطبائع والاختيار. وقوله سبحانه وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ قال أبو السعود: تخصيص لبعض الشرور بالذكر، مع اندراجه فيما قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه، لكثرة وقوعه. ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاعتقاد بالاستعاذة، وأدعى إلى الإعاذة. وقال الإمام ابن تيمية: وإذا قيل الفلق يعم ويخص، فبعمومه أستعيذ من شر ما خلق، وبخصوصه للنور النهاريّ أستعيذ من شر غاسق إذا وقب. فإن الغاسق قد فسر بالليل كقوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء: 78] ، وهذا قول أكثر المفسرين وأهل اللغة قالوا: ومعنى وَقَبَ دخل في كل شيء. قال الزجاج: الغاسق البارد. وقيل لليل غاسق، لأنه أبرد من النهار.
وقد روى الترمذي «1» والنسائي عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة! تعوّذي بالله من شره، فإنه الغاسق إذا وقب.
وروي من حديث أبي هريرة مرفوعا: الغاسق النجم
.
وقال ابن زيد: هو الثريا. وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها. وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل فجعلوه قولا آخر، ثم فسروا وقوبه بسكونه. قال ابن قتيبة: ويقال الغاسق القمر إذا كسف واسودّ. ومعنى وقب دخل في الكسوف. وهذا ضعيف فإن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقوله غيره، وهو لا يقول إلا الحق. وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه بل مع ظهوره. وقد قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الإسراء: 12] ، فالقمر آية الليل.

وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل. فأمره بالاستعاذة من ذلك أمر بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته. والدليل مستلزم للمدلول. فإذا كان شر القمر موجودا، فشر الليل موجود. وللقمر من التأثير ما ليس لغيره. فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى. ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى «2» (هو مسجدي) هذا مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعا. وكذلك قوله عن أهل الكساء «3» (هؤلاء أهل بيتي) مع أن القرآن يتناول نساءه فالتخصيص لكون المخصوص أولى بالوصف.
فالقمر أحق ما يكون بالاستعاذة، والليل مظلم منتشر فيه شياطين الإنس والجن، ما لا تنتشر بالنهار. ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك. فالشر دائما مقرون بالظلمة. ولهذا
(1)
أخرجه في: التفسير، 113 و 114 سورة المعوّذتين.

(2)
أخرجه الترمذي في: التفسير، 9- سورة التوبة، 14- حدثنا قتيبة، عن أبي سعيد الخدري. []

(3)
أخرجه الترمذي في: المناقب، 60- باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم حدثنا محمود بن غيلان.

إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم. لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار. ويتوسلون بالقمر وبدعوته وعبادته. وأبو معشر البلخيّ له (مصحف القمر) يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ثم خص تعالى مخلوقات أخر بالاستعاذة من شرها، لظهور ضررها وعسر الاحتياط منها. فلا بد من الفزع إلى الله والاستنجاد بقدرته الشاملة على دفع شرها، فقال سبحانه: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ قال ابن جرير: أي ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها، وبه قال أهل التأويل. فعن مجاهد:
الرقي في عقد الخيط. وعن طاوس: ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين.
ومثله عن قتادة والحسن. وقال الزمخشري: النفاثات النساء أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين. والنفث النفخ مع ريق. ولا تأثير لذلك، اللهم إلا إذا كان ثمّ إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه ولكن الله عزّ وجلّ قد يفعل عند ذلك فعلا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام، فينسبه الحشوية والرعاع إليهن وإلى نفثهن. والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به.
فإن قلت: فما معنى الاستعاذة من شرهن؟ قلت: فيها ثلاثة أوجه:
أحدها- أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر، ومن إثمهن في ذلك.
والثاني- أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخد عنهم به من باطلهن.
الثالث- أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن. انتهى.
وفي الآية تأويل آخر. وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله. قال: النفاثات النساء.
والعقد عزائم الرجال وآراؤهم، مستعار من عقد الحبال. والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبله سهلا. فمعنى الآية: إن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة. فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن. كقوله: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] ، فكذلك عظم الله كيدهن فقال: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 28] .
تنبيه:
قال الشهاب: نقل في (التأويلات) عن أبي بكر الأصم أنه قال: إن حديث سحره صلوات الله عليه، المرويّ هنا، متروك لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور. وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه. ونقل الرازيّ عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلة. وكيف يمكن القول بصحتها، والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ، وقال وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: 69] ، ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوّة. ولأنه، لو صح ذلك، لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكل ذلك باطل. ولكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور. فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة، ولحصل فيه، عليه السلام، ذلك العيب. ومعلوم أن ذلك غير جائز. انتهى. ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه، وإن كان مخرّجا في الصحاح. وذلك لأنه ليس كل مخرّج فيها سالما من النقد، سندا أو معنى. كما يعرفه الراسخون. على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة.
قال الإمام الغزالي في (المستصفى) : ما من أحد من الصحابة إلا وقد ردّ خبر الواحد. كردّ عليّ رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة (بروع بنت واشق) وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث. وكردّ عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وأمثال ذلك مما ذكر. أورد ذلك الغزالي في مباحث (خبر الآحاد في شبه المخالفين فيه) وذكر رحمه الله في (مباحث الإجماع) إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد، لأدلة ظاهرة قامت عندهم.
وقال الإمام ابن تيمية في (المسوّدة) : الصواب أن من ردّ الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه، لاعتقاد الرادّ أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا. فإن هذا لا يكفر ولا يفسق. وإن لم يكن اعتقاده مطابقا، فقد ردّ غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث. انتهى.
وقال العلامة الفناري في (فصول البدائع) : ولا يضلل جاحد الآحاد. والمسألة
معروفة في الأصول. وإنما توسعت في نقولها لأني رأيت من متعصبة أهل الرأي من أكبر رد خبر رواه مثل البخاري، وضلل منكره. فعلمت أن هذا من الجهل بفن الأصول، لا بل بأصول مذهبه. كما رأيت عن الفناري. ثم قلت: العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاري وزنا. وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ. فمتى صادقوه حتى يضللوا من ردّ خبرا فيه؟ وقد برهن على مدعاه. وقام يدافع عن رسول الله ومصطفاه.
وبعد، فالبحث في هذا الحديث شهير قديما وحديثا. وقد أوسع المقال فيه شراح (الصحيح) وابن قتيبة في شرح (تأويل مختلف الحديث) والرازي. والحق لا يخفى على طالبه، والله أعلم.
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ قال الزمخشري: أي إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود. لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره، فلا ضرر يعود منه على من حسده بل هو الضارّ لنفسه، لاغتمامه بسرور غيره.
يتبع


ابوالوليد المسلم 23-06-2025 08:01 PM

رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
 
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الناس
مكية، وهي ست آيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ أي ألجأ إليه وأستعين به، وبِرَبِّ النَّاسِ الذي يربيهم بقدرته ومشيئته وتدبيره. وهو رب العالمين كلهم والخالق للجميع مَلِكِ النَّاسِ أي الذي ينفذ فيهم أمره وحكمه وقضاؤه ومشيئته دون غيره إِلهِ النَّاسِ أي معبودهم الحق وملاذهم إذا ضاق بهم الأمر. دون كل شيء سواه. والإله المعبود الذي هو المقصود بالإرادات والأعمال كلها مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ أي الشيطان ذي الوسوسة. وقد زعم الزمخشري ومن تبعه أن الوسواس مصدر أريد به الموسوس أو بتقدير (ذي) . وحقق غير واحد أنه صفة كالثرثار، وأن فعلالا (مصدر فعلل) بالكسر والمفتوح شاذ، وقد بسط الكلام في ذلك الإمام ابن القيّم في (بدائع الفوائد) الْخَنَّاسِ أي الذي عادته أن يخنس- أي يتأخر- إذا ذكر الإنسان ربه، لأنه لا يوسوس إلا مع الغفلة وكلما تنبه العبد فذكر الله، خنس الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أي بالإلقاء الخفيّ في النفس. إما بصورة خفيّ لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت.
قال ابن تيمية: و (الوسوسة) من جنس (الوشوشة) بالشين المعجمة. يقال
(فلان يوسوس فلانا) و (قد وشوشه) إذا حدثه سرّا في أذنه. وكذلك الوسوسة. ومنه وسوسة الحليّ. لكن هو بالسين المهملة، أخص.
وقال الإمام: إنما جعل الوسوسة في الصدور، على ما عهد في كلام العرب من أن الخواطر في القلب، والقلب مما حواه الصدر عندهم، وكثيرا ما يقال (إن الشك يحوك في صدره) وما الشك إلا في نفسه وعقله. وأفاعيل العقل في المخ، وإن كان يظهر لها أثر في حركات الدم وضربات القلب وضيق الصدر أو انبساطه.
وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس، على أنه ضربان: ضرب من الجنّة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم، وإنما نجد في أنفسنا أثرا ينسب إليهم. وضرب من الإنس كالمضلين من أفراد الإنسان، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] ، وإيحاؤهم هو وسوستهم.
قال ابن تيمية: فإن قيل: فإن كان أصل الشر كله من الوسواس الخناس، فلا حاجة إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس، فإنه تابع لوسواس الجن. قيل: بل الوسوسة نوعان: نوع من الجن، ونوع من نفوس الإنس. كما قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16] ، فالشر من الجهتين جميعا. والإنس لهم شياطين كما للجن شياطين.
وقال أيضا: الذي يوسوس في صدور الناس نفسه لنفسه، وشياطين الجن وشياطين الإنس. فليس من شرط الموسوس أن يكون مستترا عن البصر، بل قد يشاهد.
لطائف:
الأولى- قال ابن تيمية: إنما خص الناس بالذكر، لأنهم المستعيذون.
فيستعيذون بربهم الذي يصونهم، وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحل بينهم وبين عبادته. ويستعيذون أيضا من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس منهم ومن الجنّة. فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم والذي يرد عليهم.
وقال الناصر: في التخصيص جرى على عادة الاستعطاف، فإنه معه أتمّ.
الثانية- تكرر المضاف إليه وهو (الناس) باللفظ الظاهر، لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة. فإن الإظهار أنسب بالإيضاح المسوق له عطف البيان.
وأدل على شرف الإنسان. وقيل: لا تكرار. لجواز أن يراد بالعام بعض أفراده.
ف (الناس) الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية. والثاني الكهول والشبان، لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم. والثالث الشيوخ لأنهم المتعبدون المتوجهون لله.
قال الشهاب: وفيه تأمّل.
الثالثة: في تعداد الصفات العليا هنا، إشارة إلى عظم المستعاذ منه. وأن الآفة النفسانية أعظم من المضار البدنية، حيث لم يكرر ذلك المستعاذ به في السورة قبل، وكرره هنا إظهارا للاهتمام في هذه دون تلك. نقله الشهاب.
الرابعة: قال ابن تيمية: الوسواس من جنس الحديث والكلام. ولهذا قال المفسرون في قوله: ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ قالوا: ما تحدث به نفسه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم «1» : إن الله تجاوز لأمتي ما تحدّث به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به.
وهو نوعان: خبر وإنشاء فالخبر إما عن ماض وإما عن مستقبل. فالماضي يذكره والمستقبل يحدثه، بأن يفعل هو أمورا، أو أن أمورا ستكون بقدر الله أو فعل غيره.
فهذه الأمانيّ والمواعيد الكاذبة. والإنشاء أمر ونهي وإباحة.
الخامسة- قال ابن تيمية: الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة هو الكتاب والسنة. فإن كان مما ألقى في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنه تقوى لله، فهو من الإلهام المحمود. وإن كان مما دلّ على أنه فجور، فهو من الوسواس المذموم. وهذا الفرق مطرد لا ينقض.
وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان، فقال: ما كرهته نفسك لنفسك فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه. وما أحبته نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنه.
السادسة- قال الإمام الغزالي في (الإحياء) في بيان تفصيل ما ينبغي أن يحضر
(1)
أخرجه البخاري في: العتق، 6- باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، حديث رقم 1242، عن أبي هريرة.

في القلب عند كل ركن وشرط من أعمال الصلاة، ما مثاله: وإذا قلت (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فاعلم أنه عدوك ومرصد لصرف قلبك الله عزّ وجلّ، حسدا لك على مناجاتك مع الله عزّ وجلّ، وسجودك له. مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها ولم يوفق لها. وإن استعاذتك بالله سبحانه منه، بترك ما يحبه، بما يحب الله عزّ وجلّ ولا بمجرد قولك. فإن من قصده سبع أو عدو ليفترسه أو ليقتله فقال (أعوذ منك بهذا الحصن الحصين) وهو ثابت على مكانه ذلك لا ينفعه، بل لا يفيده إلا بتبديل المكان. فكذلك من يتبع الشخوات التي هي محاب الشيطان ومكاره الرحمن، فلا يغنيه مجرد القول، فليقترن قوله بالعزم على التعوذ بحصن الله عزّ وجلّ عن شر الشيطان. وحصنه (لا إله إلا الله) إذ قال عزّ وجلّ فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم- ولا إله إلا الله حصني. فمن دخل حصني أمن من عذابي. والمتحصن به من لا معبود له سوى الله سبحانه. فأما من اتخذ إلهه هواه، فهو في ميدان الشيطان لا في حصن الله عزّ وجلّ. انتهى.
وملخصه أن التعوّذ ليس هو مجرد القول، بل القول عبارة عما كان للمتعوذ من ابتعاده بالفعل عما يتعوذ منه، فكان ترجمة لحالهم. وهذا المعنى كان يلوح لي من قبل أن أراه في كلام حجة الإسلام، حتى رأيته، فحمدت الله على الموافقة.
السابعة- قال الإمام الغزالي في (الإحياء) أيضا، في بيان تسلط الشيطان على القلب بالوسواس. ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها، ما مثاله:
أعلم أن القلب في مثال قبة مضروبة لها أبواب تنصبّ إليه الأحوال من كل باب. ومثاله أيضا مثال هدف تنصبّ إليه السهام من الجوانب. أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف السور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة ولا يخلو عنها. أو مثال حوض نصبّ فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه. وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال، إما من الظاهر فالحواس الخمس. وإما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان. فإنه إذا أدرك بالحواس شيئا حصل منه أثر في القلب. وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلا بسبب كثرة الأكل وسبب قوة من المزاج، حصل منها في القلب أثر. وإن كف عن الإحساس، فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر.
والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائما من هذه الأسباب، وأخص الآثار الحاصلة في الخواطر- وأعني الخواطر ما يحصل فيه من الأفكار والأذكار- وأعني به إدراكاته علوما، إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر. فإنها تسمى خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلا عنها.
والخواطر هي المحركات للإرادات. فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة. فمبدأ الأفعال الخواطر. ثم الخاطر يحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم، والعزم يحرك النية، والنية تحرك الأعضاء. والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو للشر، أعنى إلى ما يضر في العاقبة. وإلى ما يدعو إلى الخير، أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة. فهما خاطران مختلفان. فافتقرا إلى اسمين مختلفين. فالخاطر المحمود يسمى إلهاما والخاطر المذموم، أعني الداعي إلى الشر، يسمى وسواسا. ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة. ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث. ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب. هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب. فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار، وأظلم سقفه واسودّ بالدخان، علمت أن سب السواد غير سبب الاستنارة.
وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان. فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا. وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا. واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقا. والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانا. فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسام مختلفة. والملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف. وقد خلقه وسخره لذلك. والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك. وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف، عند الهم بالخير، بالفقر.
فالوسوسة في مقابلة الإلهام. والشيطان في القابلة الملك، والتوفيق في مقابلة الخذلان.
ثم قال الغزالي: ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به. لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان من قبل. ولكن كل شيء سوى الله تعالى، وسوى ما يتعلق به، فيجوز أيضا أن يكون مجالا للشيطان.
وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال. ولا يعالج الشيء
إلا بضده. وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبرؤ عن الحول والقوة، وهو معنى قولك: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى. وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] .
ثم قال: فالوسوسة هي هذه الخواطر. والخواطر معلومة. فإذن، الوسواس معلوم بالمشاهدة. وكل خاطر فله سبب. ويفتقر إلى اسم يعرّفه. فاسم سببه الشيطان. ولا يتصور أن ينفك عنه آدميّ. وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته. فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام، والملك والشيطان والتوفيق والخذلان. انتهى.
وإلى هنا وقف القلم بالمؤلف رضي الله تعالى عنه. وبه تم كتاب (محاسن التأويل) والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا، وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ.
فهرس الجزء التاسع
سورة ق الآية 1 5 الآيتان 2 و 3 6 الآيات 4- 6 7 الآيات 7- 11 8 الآيات 12- 14 9 الآية 15 10 الآية 16 11 الآية 17 17 الآية 18 18 الآيات 19- 21 19 الآية 22 20 الآيتان 23 و 24 21 الآية 25 22 الآية 26 23 الآيتان 27 و 28 24 الآية 29 25 الآية 30 27 الآية 31 28 الآيات 32- 36 29 الآية 37 30 الآيات 38- 42 31 الآيات 43- 45 32 سورة الذاريات الآيتان 1 و 2 33 الآيتان 3 و 4 34 الآيات 5- 9 35 الآيات 10- 13 36 الآيات 14- 19 37 الآية 20 39 الآيات 21- 23 40 الآيات 24- 30 41 الآيات 31- 40 42 الآيات 41- 46 43 الآيات 47- 49 44 الآيات 50- 54 45 الآيات 55- 58 46 الآيتان 59 و 60 47 سورة الطور الآيات 1- 6 49 الآيات 7- 16 50 الآيات 17- 24 51 الآيات 25- 31 52 الآيات 32- 43 53 الآيات 44- 47 54 الآية 48 55 الآية 49 56 سورة النجم الآيات 1- 4 58 الآيات 5- 7 59
الآيتان 8 و 9 63 الآية 10- 18 64 الآيتان 19 و 20 70 الآيتان 21 و 22 73 الآية 23 75 الآيات 24- 26 76 الآيات 27- 29 77 الآيات 30- 32 78 الآيات 33- 39 80 الآيات 40- 49 82 الآيات 50- 56 83 الآيات 57- 62 84 سورة القمر الآيتان 1 و 2 86 الآيات 3- 5 89 الآيات 6- 9 90 الآيات 10- 16 91 الآيات 17- 28 92 الآيات 28- 32 93 الآيات 33- 40 94 الآيات 41- 46 95 الآيات 47- 50 96 الآيات 51 و 53 97 الآيتان 54 و 55 98 سورة الرحمن الآيات 1- 4 99 الآيات 5- 9 101 الآيات 10- 13 102 الآيات 14- 16 103 الآيات 17- 21 104 الآيات 22- 25 105 الآيات 26- 30 106 الآيتان 31 و 32 107 الآيتان 33 و 34 108 الآيتان 35 و 36 109 الآيات 37- 40 110 الآيات 41- 45 111 الآيات 46- 59 112 الآيات 60- 78 113 سورة الواقعة الآيات 1- 11 119 الآية 12 120 الآيات 13- 26 121 الآيات 27- 43 123 الآيات 44- 56 124 الآيات 57- 62 125 الآيات 63- 70 126 الآيات 71- 74 127 الآيات 75- 79 128 الآيات 80- 82 132 الآيات 83- 85 133 الآيات 86- 96 134 سورة الحديد الآيات 1- 3 137 الآية 4 138 الآيات 5- 8 141 الآيتان 9 و 10 142 الآيتان 11 و 12 144
الآية 13 145 الآيتان 14 و 15 146 الآية 16 147 الآيات 17- 19 148 الآيتان 20 و 21 151 الآيات 22- 24 152 الآية 25 153 الآيتان 26 و 27 156 الآية 28 159 الآية 29 160 سورة المجادلة الآية 1 161 الآيات 2- 4 162 الآية 5 165 الآية 6 و 7 167 الآية 8 168 الآيتان 9 و 10 169 الآية 11 170 الآيتان 12 و 13 174 الآيات 14- 19 177 الآيات 20- 22 178 سورة الحشر الآيتان 1 و 2 182 الآيات 3- 5 183 الآيتان 6 و 7 185 الآية 8 186 الآية 9 187 الآية 10 189 الآية 11 190 الآيات 12- 14 191 الآية 15 192 الآيات 16- 18 193 الآيتان 19 و 20 194 الآية 21 195 الآيات 22- 24 196 سورة الممتحنة الآية 1 199 الآيتان 2 و 3 200 الآية 4 204 الآية 5 205 الآيات 6- 9 206 الآية 10 208 الآيتان 11 و 12 210 الآية 13 213 سورة الصف الآيات 1- 3 215 الآية 4 216 الآية 5 219 الآية 6 220 الآيات 7- 9 223 الآيات 10- 13 224 الآية 14 225 سورة الجمعة الآيتان 1 و 2 227 الآية 3 228 الآيتان 4 و 5 229 الآيات 6- 10 230 الآية 11 231
سورة المنافقون الآيتان 1 و 2 234 الآيتان 3 و 4 235 الآيات 5- 7 236 الآية 8 237 الآيات 9- 11 240 سورة التغابن الآيات 1- 3 242 الآيات 4- 6 243 الآيتان 7 و 8 244 الآية 9 245 الآيات 10- 14 246 الآية 15 247 الآيات 16- 18 248 سورة الطلاق الآية 1 249 الآية 2 255 الآية 3 256 الآية 4 257 الآيتان 5 و 6 258 الآيات 7- 9 262 الآيات 10- 12 263 سورة التحريم الآية 1 266 الآية 2 269 الآية 3 274 الآيتان 4 و 5 275 الآية 6 277 الآيات 7- 9 278 الآيات 10- 12 279 سورة الملك الآية 1 284 الآيتان 2 و 3 285 الآية 4 286 الآية 5 288 الآيات 6- 11 289 الآية 12 290 الآيتان 13 و 15 291 الآيات 16- 19 292 الآيات 20- 22 293 الآيات 23- 28 294 الآيتان 29 و 30 295 سورة القلم الآيات 1- 4 296 الآيات 5- 16 297 الآيتان 17 و 18 299 الآيات 19- 27 300 الآيات 28- 33 301 الآيات 34- 43 302 الآيات 44- 47 305 الآيات 48- 52 306 سورة الحاقة الآيات 1- 8 308 الآيات 9- 12 309 الآيات 13- 17 310 الآيات 18- 24 311 الآيات 25- 37 312 الآيات 38- 43 313
الآيات 44- 47 314 الآيات 48- 52 315 سورة المعارج الآيات 1- 3 316 الآيات 4- 14 317 الآيات 15- 21 318 الآيات 22- 35 319 الآيات 36- 44 320 سورة نوح الآيات 1- 14 322 الآيات 15- 20 323 الآيات 21- 25 224 الآيات 26- 28 226 سورة الجن الآيتان 1 و 2 328 الآيات 3- 6 330 الآيات 7- 10 332 الآيات 11- 17 333 الآيتان 18 و 19 334 الآيات 20- 27 335 الآية 28 338 سورة المزمل الآيات 1- 4 340 الآيتان 5 و 6 341 الآيات 7- 14 342 الآيات 15- 19 343 الآية 20 344 سورة المدثر الآيات 1- 7 350 الآيات 8- 17 353 الآيات 18- 25 354 الآيات 26- 31 356 الآيات 32- 37 358 الآيات 38- 48 359 الآيات 49- 56 360 سورة القيامة الآيات 1- 4 362 الآيات 5- 13 363 الآيات 14- 19 364 الآيات 20- 25 367 الآيات 26- 30 368 الآيات 31- 40 369 سورة الإنسان الآيتان 1 و 2 373 الآيات 3- 6 374 الآيات 7- 9 375 الآيات 10- 16 376 الآيات 17- 22 377 الآيات 23- 26 378 الآيات 27- 31 379 سورة المرسلات الآيات 1- 7 381 الآيات 8- 15 382 الآيات 16- 26 383 الآيات 27- 29 384 الآيات 30- 40 385 الآيات 41- 50 386
سورة النبأ الآيات 1- 5 388 الآيات 6- 11 389 الآيات 12- 18 390 الآيات 19- 26 391 الآيات 27- 36 392 الآيات 37- 39 393 الآية 40 394 سورة النازعات الآيات 1- 5 395 الآيات 6- 10 396 الآيات 11- 14 397 الآيتان 15 و 16 398 الآيات 17- 26 399 الآيات 27- 33 401 الآيات 34- 46 402 سورة عبس الآيتان 1 و 2 404 الآيات 3- 10 405 الآيات 11- 17 406 الآيات 18- 21 408 الآيات 22- 32 409 الآيات 33- 42 410 سورة التكوير الآيات 1- 9 412 الآيات 10- 21 418 الآيات 22- 25 419 الآيات 26- 29 421 سورة الانفطار الآيات 1- 5 422 الآيات 6- 8 423 الآيات 9- 12 424 الآيات 13- 19 425 سورة المطففين الآيات 1- 3 428 الآيات 4- 11 429 الآيات 12- 14 430 الآيات 15- 17 431 الآيات 18- 26 433 الآيتان 27 و 28 434 الآيات 29- 31 435 الآيات 32- 36 436 سورة الانشقاق الآيات 1- 5 439 الآيات 6- 15 440 الآيات 16- 21 441 الآيات 22- 25 442 سورة البروج الآيات 1- 9 443 الآية 10 445 الآيات 11- 16 446 الآيات 17- 22 447 سورة الطارق الآيات 1- 4 449 الآيات 5- 10 450 الآيات 11- 17 452
سورة الأعلى الآيات 1- 5 454 الآيات 6- 13 456 الآيات 14- 19 459 سورة الغاشية الآيات 1- 9 460 الآيات 10- 20 461 الآيات 21- 26 463 سورة الفجر الآيات 1- 5 464 الآيات 6- 8 466 الآيات 9- 14 468 الآيتان 15 و 16 469 الآيات 17- 20 470 الآيات 21- 26 471 الآيات 27- 30 473 سورة البلد الآيات 1- 3 475 الآيات 4- 7 476 الآيات 8- 16 477 الآيتان 17 و 18 478 الآيتان 19 و 20 479 سورة الشمس الآيات 1- 8 480 الآيات 9- 15 482 سورة الليل الآيات 1- 4 484 الآيات 5- 11 485 الآيات 12- 21 486 سورة الضحى الآيات 1- 5 490 الآيات 6- 11 492 سورة الشرح الآيات 1- 4 494 الآيات 5- 8 496 سورة التين الآيات 1- 3 498 الآيات 4- 8 503 سورة العلق الآيات 1- 5 507 الآيات 6- 8 511 الآيات 9- 14 512 الآيات 15- 19 513 سورة القدر الآيات 1- 5 516 سورة البينة الآيات 1- 3 520 الآيتان 4 و 5 521 الآيات 6- 8 523 سورة الزلزلة الآيات 1- 5 525 الآيات 6- 8 526 سورة العاديات الآيات 1- 5 528 الآيات 6- 8 529 الآيات 9- 11 530
سورة القارعة الآيات 1- 5 531 الآيات 6- 11 532 سورة التكاثر الآيات 1- 8 533 سورة العصر الآيات 1- 3 535 سورة الهمزة الآيات 1- 3 539 الآيات 4- 9 540 سورة الفيل الآيات 1- 5 542 سورة قريش الآيات 1- 4 550 سورة الماعون الآيات 1- 7 552 سورة الكوثر الآيات 1- 3 554 سورة الكافرون الآيات 1- 6 557 سورة النصر الآيات 1- 3 560 سورة المسد الآيات 1- 5 563 سورة الإخلاص الآيات 1- 4 567 سورة الفلق الآيات 1- 5 574 سورة الناس الآيات 1- 6 579

تم الانتهاء من النقل يوم
الإثنين 23 يونيو 2025 ميلادي - 27 ذو الحجة 1446 هــــ









الساعة الآن : 02:04 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 217.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 217.55 كيلو بايت... تم توفير 0.43 كيلو بايت...بمعدل (0.20%)]