رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
إذا اشترك اثنان في قتل وسقط القصاص عن أحدهما قال رحمه الله: [وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفردا لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك] . من باب ترتيب الأفكار: فقد ذكر رحمه الله مسألة إذا اشترك اثنان، فعرفنا متى يقتص من الاثنين معا، ومتى يقتص من الآمر دون المأمور، ومتى يكون القصاص بالصورة العكسية، والسؤال الآن: لو أنه اشترك اثنان، أحدهما يجب القصاص عليه، والثاني لا يجب القصاص عليه، وقال أولياء المقتول: لا نريد القصاص، بل نريد الدية، وكنا قد ذكرنا أنه إذا اشترك اثنان يجب القصاص على أحدهما دون الآخر، فيقتص من الذي يجب القصاص منه، فلو عفا أولياء المقتول عن الدم فهل تجب الدية عليهما، أو تجب على الذي يجب عليه القصاص؟ بين المصنف رحمه الله أنها تجب عليهما، وبناء على ذلك يكون عليه نصف الدية، فقال رحمه الله: (وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفردا لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك) . فقوله: (فالقود على الشريك) إذا اشترك اثنان لا يجب القصاص على أحدهما، كما لو اشترك -والعياذ بالله- مع شخص أجنبي وقال له: أريد أن أقتل ولدي هذا، فساعدني على قتله، فاشترك الاثنان، وقتل هذا الولد، وحصل الزهوق بفعلهما بالشروط المعتبرة في اشتراك الجماعة، ففي هذه الحالة الأب لا يجب عليه القصاص، كما سيأتي إن شاء الله وسنذكر دليل ذلك، والأجنبي يجب عليه القصاص؛ لأن الأب سقط عنه القود لمعنى يخصه، وهذا المعنى لا يؤثر في السببية؛ لأن الإزهاق والقتل حصل بفعل الاثنين، وكان أحدهما عنده عذر يخصه لم يسر العذر إلى غيره، والقصاص في الأصل واجب على الاثنين، فإذا تعلق الإسقاط وتعلقت الرخصة بأحدهما لم تسر إلى الآخر وهو الأجنبي، فيجب القصاص على الأجنبي دون الوالد، هذا أصل المسألة. قال رحمه الله: [فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية] . أي: إذا عفا الأولياء فإن الأجنبي يدفع نصف الدية؛ لأن الدية مشطرة بينهما. إذا: المصنف رحمه الله بين حكم اشتراك الجماعة في قتل الواحد اشتراكا على وجه لو انفرد كل واحد منهم لقتله، فكل منهم قاتل، ويجب القصاص على الجميع، وإن عفي لزمتهم دية واحدة، وانتقل بعد ذلك للاشتراك بالسببية في مسألة الإكراه ومسألة الأمر بالقتل، وفصل رحمه الله في هذا، ثم شرع في مسألة اشتراك من يعذر ومن لا يعذر، فبين أن سقوط القصاص والقود عمن يعذر لا يوجب سقوطه عمن لا يعذر؛ لأنه لو انفرد فعل كل واحد منهما لأوجب الزهوق، وبناء على ذلك فكل منهما قاتل، فإذا عفي عن أحدهما أو أسقطت الشريعة القصاص عن أحدهما لمعنى لا يوجد في الآخر؛ فإن الرخص لا يتجاوز بها محالها. وهذا أصل في الشريعة: أن الشيء الذي يكون معذورا يختص العذر به ولا يتجاوزه لغيره ممن لا يوجد فيه هذا العذر، وإلا ضاعت أحكام الشريعة، فهذا الأجنبي مع هذا الوالد قاتل، وإذا سقط القصاص عن الوالد لمكان الأبوة لم يسقط عن الأجنبي، وكذلك لو مات أحد الشركاء في القتل قبل أن يقتص منهم، فإنه يقتص من الباقين، فلو أن ثلاثة قتلوا زيدا من الناس، فمات أحد الثلاثة قبل القصاص، وقال أولياء المقتول: نريد القصاص؛ فإنه يقتص من الاثنين الباقين، وموت أحدهم لا يسقط كون البقية قتلة. ومن هنا إذا كان الخلل مرتبطا بسببية القتل، ويوجب التأثير فيها، فحينئذ يكون مؤثرا، أما هنا فإنه ليس من هذا الباب، ولذلك لا يوجب إسقاط القصاص عن الأجنبي، فيقتص من الأجنبي ويترك الوالد ولا يقتص منه؛ لأن القصاص لا يجب في حقه. الأسئلة حكم سقوط الجنين نتيجة الحمل الثقيل على الحامل السؤال امرأة كانت حاملا، فرفعت ثقيلا، ثم سقط الجنين، فهل عليها كفارة أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أولا: لا بد للإنسان أن يذكر بعظمة الله سبحانه وتعالى، فقد كنا في صلاة المغرب وخلال دقائق يسيرة نظر الإنسان إلى عظمة الله جل جلاله، وحقارة الناس أمام رب الجنة والناس، لحظات يسيرة لو شاء الله أن يهلك من على الأرض لأهلكهم، يذكر الله سبحانه وتعالى الغافلين، ويوقظ النائمين، وهذه الأشياء التي يحتاجها الإنسان ليكون قلبه حيا دائما، وإذا أرى الله عبده الآيات والنذر فاتعظ قلبه وانكسر فؤاده؛ أصلح الله حاله، وعرف الله عز وجل، ومن عرف الله نال سعادة في الدنيا والآخرة. وليس هناك شيء في الدنيا أعز ولا أكرم ولا أعظم من المعرفة بالله عز وجل من عرف جبار السماوات والأرض الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، من أسلم له من في السماوات والأرض طوعا وكرها، الكهرباء تقف أمام عظمته ذليلة فتنطفئ، والسيارات تتعطل، والطرقات تتوقف، ولا يستطيع أحد أن يقدم شيئا أخره الله أو يؤخر شيئا قدمه الله؛ لأن الأمر أمره، والملك ملكه، والتدبير تدبيره جل جلاله. ثم لو خرج الإنسان إلى الدول التي فيها الجنات والنعيم، لرأى أشياء تهز القلوب، وهذا الذي نراه يسيرا، ففي بعض الأحيان يأتيهم الإعصار -أعاذنا الله وإياكم- دقائق معدودة فلا يبقي ولا يذر، وتجد الخلق عاجزين لا يستطيع أحد أن يتحرك، والعجب كل العجب أن الله لا يسلط مثل هذه الأمور إلا على أقوى دول الأرض، حتى يعلموا أن الله فوقهم، وأن الله قاهر لهم، وأنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وأن الأمر أمره، والكون كونه، والتدبير تدبيره، ولكن ما أغفل الخلق عن الخالق سبحانه وتعالى! كل شيء يتحدث عنه الناس، وكل شيء يذكره الناس إلا الله جل جلاله، فما أغفلهم عن ربهم! الواحد منا لو حصل له ظرف أو نكبة أو كربة فوجد أحدا يقف بجنبه وقوف العاجز مع العاجز، وضعف الطالب والمطلوب، وإذا أجرى الله على يد هذا العاجز فرجا، وفتح له بابا ومخرجا، جعل يتحدث بهذه الحسنات، ويفتخر لهذا الرجل بمآثره، ويزين قبيحه، ويرفع وضيعه، ويزكي فاسده، كل هذا من أجل هذا المعروف، فأين الله جل جلاله؟! أين الله سبحان وتعالى الذي ما من طرفة عين ولا أقل من ذلك إلا وهي نعمة مرسلة عليك، وألطافه، ورحمته، وحلمه، وإحسانه وبره، كيف لو أن هذا البلاء وهذا المطر الشديد لو أن الله سبحانه وتعالى أذن أن يستمر ليلة واحدة، كيف سيكون حال الناس؟! كيف لو أن الله أرسل هذه الصواعق التي يصيب بها من يشاء! وقف رجل ملحد ذات مرة من المرات يقول لشخص أثناء نزول المطر: من هو الله -أعوذ بالله- الذي تدعوني إلى عبادته؟ فما انتهى من كلامه حتى أصابته صاعقة قسمته قصمته نصفين، وصدق الله في وصفه: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال} [الرعد:13] . فالسعادة التي يبحث عنها كل سعيد، وسيجدها كل موفق، هي المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فلا تمر عليك لحظة إلا وقد ازددت معرفة بملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، وعرفت من الذي بيده الأمر كله {وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} [هود:123] . تعرف على ملك الملوك، تعرف على جبار السماوات والأرض، تعرف على من لا تخفى عليه خافية، تعرف على الذي {بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه} [المؤمنون:88] . لقد كان الناس في شدة وضيق وفقر، والشخص تراه يسافر في خوف وفقر وجوع، وأحوال شديدة، لكن كانت قلوبهم عامرة بالله جل جلاله، فكان خوفهم أمنا، وجوعهم سبعا، مما يجدون من لذة المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فلن تضيق الدنيا على عبد عرف الله، ولن تضيق الدنيا على عبد أخذ من هذه الدلائل والشواهد زادا للقاء الله، وعرف من ربه ومن خالقه، فالناس تعتريهم الغفلات، وتحيط بهم من كل جانب الملهيات، وتجدهم بعيدا عن التفكر في ملكوت الأرض والسماوات، ولكن يرسل الله الآيات تخويفا، فتقرع قلوب المؤمنين فتزيدهم توحيدا وتحقيقا، وصدقا وإحسانا وبرا له سبحانه وتعالى، ويقينا بعظمته، والعبد من لحظة إلى لحظة ومن فكرة إلى فكرة تقربه إلى ربه، وتزيده إيمانا بخالقه؛ فعندها يطمئن القلب بالله عز وجل. فكيف لو كشف الله للعبد ملكوت السماوات والأرض! وكيف لو كشف الله له أخذه بأزمة الأمور ومقاليدها! فرسول الأمة صلى الله عليه وسلم لما جاءه عام الحزن، وأراد الله عز وجل أن يملأ قلبه بأعز الأشياء وأحبها إليه، أسري به صلوات الله وسلامه عليه، ثم عرج به إلى أطباق السماوات العلى، ومن بعدها ما عرف خوفا إلا من الله، عرف من هو الله سبحانه وتعالى: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم) ، فكان أخشى الخلق وأتقاهم صلى الله عليه وسلم لماذا؟ للنظر في هذه الآيات والدلائل، ولذلك كان إذا هبت الريح دخل وخرج، وعرف في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يخشى أن تكون كريح عاد التي أخذهم الله بها أخذ عزيز مقتدر. ثم إذا أحس المؤمن أن الكون لهذا الرب الذي يرسل الرياح، ويجري الأنهار والبحار، وله الليل والنهار؛ علم أنه مهما طغى في هذه الأرض طاغية فإن الله سيقصم ظهره، وسيشتت أمره، وسيتأذن الله عز وجل بنهايته إن عاجلا أو آجلا، ولذلك عرف الموحدون ربهم فاطمأنوا، تجد الناس في قلق وهم في طمأنينة، في خوف وهم في أمن للمعرفة بالله عز وجل، والمعرفة بعظمته في لحظة واحدة، في شدة الحر والصيف ينزل المطر، وقد يكون نزوله في هذه الدقائق يمكن من خلال فصل ما مر مطر بهذا الشكل؛ لأن الله أذن له أن ينزل. ثم انظر كيف سبحانه، وهذه من أعظم الدلائل التي ينبغي للمؤمن أن يتفكر فيها، أن الله أخلف السنن والعادات، وأجرى أشياء تناقضها حتى يتفكر الناس، ويعلم أن الأمر له سبحانه لا لغيره، ولذلك فمن عادة الصيف ألا يوجد فيه المطر، ولذلك قال القائل: سحابة صيف عن قريب تقشع لكن الله قال لها: كوني فكانت، وقال لها: أفرغي ما فيك فأفرغت، وأسلمت واستسلمت، وذلت لله عز وجل، وحق لها أن تذل، فهذا كله بأمره، ويرينا هذه الآيات والدلائل ليس في فصل الشتاء بل في عز الحر، قبل ساعات ونحن نكتوي بلظى الحر، كل منا يريد شيئا يبرد عليه، مكيفا أو غيره، وإذا به سبحانه وتعالى يري عباده عظمته وجلاله. ثم انظر كيف إذا جاءت آيات الله عز وجل -في غير ما اعتاده الناس- فتهز قلوب العباد هزا، والله ما من إنسان ملأ عينه من عظيم في الدنيا -أيا كان هذا العظيم- إلا احتقره في جنب الله جل جلاله، من عظمة الله سبحانه وتعالى. فالناس صنعت الطائرات، وفعلت بأمر الله عز وجل وبقدرته، ولكن الطائرات إذا هبت الرياح لا تطير، وإذا طارت سقطت، وأصبحت في كرب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يمسكها بين السماء والأرض أن تسقط، ولو صنعوا ما صنعوا من القوى العاتية التي مهما بلغت فلابد أن تجدهم يذلون له سبحانه وتعالى، وحق لهم أن يذلوا له وحده لا شريك له. لكن من الذي يتعظ؟! ومن الذي يتفكر ويتدبر؟! البراكين تنفجر، فإذا انفجرت لو اجتمع أهل الأرض على أن يخمدوا بركانا لما استطاعوا، هل سمعتم بما يسمونه بالعلم الحديث؟ لا علم حديث ولا قديم، هذا كله تعليم من الله عز وجل: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم} [الأنعام:6] ، فلا ينفع علم حديث ولا غيره، فهل وجدتم علما حديثا أطفأ بركانا إذا انفجر؟ هل وجدتم علما حديثا أمسك إعصارا أمر الله له أن يجري؟ هل وجدتموه يتحرك ويفعل شيئا؟ يقفون مستسلمين؛ لأن الله جعل لهم حدودا معينة إنهم يقفون عندها يذلون له سبحانه وتعالى. فهذه كلها دلائل لا ينبغي للمؤمن أن يتغافل عنها، فإن المؤمن إذا أرسل الله له الآيات وأصبح في غفلة ولا يتعظ ولا يتفكر؛ قد يطبع -والعياذ بالله- على قلبه فيكون من الغافلين. فسعادة الدنيا وسرورها بالتفكر في عظمة الله جل جلاله، والتفكر والتدبر في عظمة الله جنة فهنيئا لمن دخلها، وهنيئا لمن عاش بينها، حيث يجعل الله بها لوليه المؤمن ما لا يخطر له على بال، فمتى ما عرفت ربك هان عليك كل شيء سوى الله سبحانه وتعالى، ومن جهل بالله سلط الله عز وجل عليه نقمة الدنيا والآخرة، ولذلك تجد أضعف الناس وأخوف الناس وأجبن الناس من كان جاهلا بالله {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم:7] ، فهؤلاء هم أخوف الناس، وأتعس الناس، ولذلك فإن الشخص منهم يحسب حسابات مادية، إذا قعد على كرسيه ربط حزامه وجلس يحسب الأشياء حسابا دقيقا من الخوف والذل {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} [البقرة:96] ، ولكنه لن يستطيع أن يفلت من عظمة الله جل جلاله ومن أمره. فهذه كلها دلائل واضحة على عظمة الله سبحانه وتعالى، ينبغي للإنسان ألا يغفل عنها، وهذه الآيات التي نراها أشياء جعلها الله عز وجل حتى نتفكر ونتدبر ونتعظ بها، ونقول ملء قلوبنا وملء ألسنتنا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، ولا معبود غيره سبحانه وتعالى جل جلاله فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يزيدنا من الإيمان به، والتصديق والتسليم له، وأن يملأ قلوبنا بالمعرفة به، وأن يجعلنا من المحسنين والموقنين، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء المفلحين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين. أما الجواب عن السؤال: فهذه المسألة فيها تفصيل: إذا مات أحد القاتلين بعد العدول إلى الدية السؤال إذا مات أحد الشريكين في القتل بعد العدول إلى الدية، فهل تجب كل الدية على الحي كاملة أثابكم الله؟ الجواب يجب نصف الدية على الشريك، ثم الآخر الذي مات قبل القصاص تجب نصف الدية في ماله، وحكمها حكم الدين، والله تعالى أعلم. ما يقال بين خطبتي الجمعة السؤال نرجو توضيح ما يجب فعله ما بين الخطبتين: هل ندعو أم نستغفر أثابكم الله؟ الجواب الأمر واسع في هذا، لكن جرت العادة بالاستغفار، وهذا له أصل من فعل بعض السلف رضي الله عنهم من الصحابة، لكن إذا أمر الخطيب بالاستغفار فالأفضل أن يستغفر ولو مرة واحدة؛ لأنه كولي الأمر، فيسمع له لأنه ولي أمر المسجد، فالعالم في حلقته ولي أمرها، والخطيب في خطبته ولي أمرها، فينصت له ولا يتكلم إلا معه، والإمام في مسجده ولي أمره، فإذا أمر بالاستغفار فيطاع أمره، وهذا الموضع -ما بين الخطبتين- مذهب بعض العلماء أنه مظنة الساعة التي يستجاب فيها الدعاء، وقالوا: إن قوله: (وهو قائم يصلي) يشكل على هذا القول، لكن أجاب بعض العلماء بأن قائما يصلي من الإقامة في المكان والموضع، ومن جلس ينتظر الصلاة فهو في حكم من يصلي، وقالوا: إن الخطبتين في حكم الركعتين الأوليين من الظهر، ولذلك منع الكلام فيهما، وهذا مما خرجوا به، فأحد الأقوال: أنه موضع الساعة التي يجاب فيها الدعاء، فيجتهد فيه بالدعاء، وأما الأصل فإنه فلا بأس ولا حرج على المسلم أن يدعو فيما بين الخطبتين، وهذا محفوظ من فعل السلف، كما في صحيح البخاري من فعل الصحابة مع عمر رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن الجميع وأرضاهم، والله تعالى أعلم. حكم القود من الجد إذا قتل ولد ابنه السؤال إذا قتل الجد ولد ابنه فهل يقتل أثابكم الله؟ الجواب الأصل عدم قتل الوالد بولده، وهذه المسألة ستأتي -إن شاء الله- وأحب أن الأسئلة التي ستأتي تترك، وعلى كل حال هذه المسألة جمهور السلف على أنه لا يقتل الوالد بالولد، والجد والد لولده، ومن هنا يقولون: يشمل الوالد المباشر، والوالد بواسطة، وهناك بعض العلماء يرى أنه يقتل الجد إذا قتل إعمالا للأصل، ويرون أن القود مختص بالوالد، ولكن ظاهر أثر علي رضي الله في السنن أنه لا يقاد الوالد بولده، والله تعالى أعلم. حكم النفث مع قراءة المعوذات دبر الصلوات السؤال هل من السنة النفث عند قراءة المعوذات دبر الصلوات المفروضة أثابكم الله؟ الجواب السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نفث قبل القراءة عند النوم، كما في حديث عائشة في الصحيح: أنه كان يجمع كفيه فينفث فيهما ثم يقرأ المعوذات فيمسح، ثم يرجع مرة ثانية، ثم مرة ثالثة، هذه هي السنة، ولا يكون النفث بعد القراءة إلا عند النوم خاصة، ولم يحفظ نفث إلا في هذا الموضع، فيقتصر على الوارد، لكن إذا كان يريد أن يرقي نفسه فنفث ومسح على جسمه فلا بأس، فقد جاء في الحديث الصحيح: (فكنت أقرأ الفاتحة ثم أجمع بريقي وأتفل عليه) ، فالرقية لا بأس فيها بالنفث وأيضا التفل اليسير؛ لأن لها أصلا، أما بالنسبة لقراءة المعوذات فإن الثابت في حديث السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أدبار الصلوات أنه لا نفث فيه، ويقتصر فيه على الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مجرد القراءة، والله تعالى أعلم. حدود قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) السؤال يتوسع البعض في فهم قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، فكلما احتاج إلى أمر قال هذه العبارة، فما هو حد الضرورة المقصودة هنا أثابكم الله؟ الجواب أولا: ما هو حد الذي يقول: الضرورات تبيح المحظورات؟ من هو العالم أو الشيخ أو الشخص المؤهل لكي يحكم بالضرورة واعتبارها؟ الضرورات بحر لا ساحل له، لكن نحن نبين الأصول أولا وقبل كل شيء ليعلم كل إنسان أن الله لا يخادع. وثانيا: أن أي حكم شرعي يأخذه الإنسان ويدين الله به ويعمل به، سيسأل أمام الله عز وجل عمن أخذه، فلا يجوز أن يأخذ حكما إلا ممن ترضى ديانته وأمانته ويرضاه حجة له بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإلا زلت قدمه وهلك وأهلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) ، فوصفهم بالضلال، نسأل الله السلامة والعافية. والضرورات تبيح المحظورات قاعدة شرعية دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وأجمع عليها علماء الأمة، وهي أن الإنسان عند الاضطرار يباح له فعل المحرم، وكما في الأصول قال تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119] ، فاستثنى سبحانه وتعالى المضطر؛ ولأن الضرورة فيها حرج، قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78] ، ولأن الضرورة عسر والله يقول: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة:185] ، فإذا ثبت أن الشريعة تخفف عن المضطر فالضرورة عند العلماء بالمصطلح الخاص: هي خوف فوات النفس، فإذا خاف الإنسان أنه إذا لم يفعل هذا الشيء فإنه سيموت، فهو مضطر، مثل من جاع ولم يجد طعاما إلا ميتا، فإنه إذا بقي على حكم الشرع بالتحريم فإنه سيموت، وحينئذ يرخص له بأكل الميتة اضطرارا لا اختيارا؛ لأنه لو لم يأكلها لهلكت نفسه. إذا ثبت هذا فالضرورة هي خوف فوات النفس، وهذا القول فيه خلاف: هل يشترط في المضطر أن يرى أمارات الموت عليه حتى يحكم باضطراره؟ أو يحكم بغالب ظنه؟ اختار بعض الأئمة رحمهم الله أن الضرورة هي الخوف، فإذا غلب على ظنه أنه سيموت فهو مضطر، وإن لم ير أمارات الموت، وقال بعض العلماء: لا ضرورة حتى يقف الموقف الذي يشرف فيه على الهلاك؛ لأنه ربما جعل الله له فرجا ومخرجا قبل أن يشرف على الهلاك، والصحيح في الضرورة: أنها الخوف الذي هو غلبة الظن، والغالب كالمحقق. واختلف أيضا في الخوف على الأعضاء، فلو خاف على عضو من أعضائه أن يقطع أو يفسد، أو يشل، فهل يدخل هذا في باب الضرورة؟ أيضا اختار بعض المحققين أن الخوف على الأعضاء من الجسم ضرورة تبيح المحظور كالخوف على النفس، ولذلك ضبطها علماء القواعد كـ السبكي والسيوطي وابن نجيم في الأشباه أنها: الخوف على النفس والأطراف والأعضاء. أما بالنسبة لغير هذا فيسمونه: إذا كان يوجد الحرج، فمثلا: ألم الرأس إذا اشتد شدة عظيمة على الإنسان، فلا هو خوف موت ولا هو خوف على عضو أن يتلف، لكنه يوجب حرجا شديدا، فهذا يسمونه حاجة، فإذا وصل إلى درجة العنت والمشقة فيسمونه: حاجة، والقاعدة عندهم: أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة. وكذلك ألم الضرس، فإن الضرس إذا اشتد ألمه فيضطر الإنسان أن يستعمل المخدر، والمخدر محرم، فلا يجوز استعمال المخدرات، لكن إذا كان ألمه شديدا جدا بحيث يصل إلى مقام الحرج فنقول: يجوز له؛ لأنها حاجة تنزل منزلة الضرورة، إذا: الحاجيات تكون في مقام الضروريات إن كانت أخف من جهة السبب الموجب للتأثير في الحكم. أما بالنسبة لكل شخص يفتي نفسه بأنه مضطر فلا، فإن الله عز وجل حف الجنة بالمكاره، والمكاره فيها آلام ومشاق، وفيها متاعب، والرجل قد يكون نائما في فراشه في شدة البرد، فيسمع أذان الفجر فيقوم من فراشه ويتوضأ في شدة البرد، وهذه مشقة، لكن الله كلفنا بها وأمرنا بها، فلا يقل: أنا مضطر، ويترك الصلاة، هذه ليست بضرورة، بل هذا عبث بالأحكام. ومن هنا ينبغي أن ينتبه لمسألة فتح أبواب الرخص والترخيص للناس، فلا يقبل ذلك إلا من عالم يوثق بدينه وعلمه، وكذلك أيضا مسألة الضرورة حينما يفتى بها فتاوى عامة، فيقال: اتركوا الناس يخرجون قبل غروب الشمس يوم عرفة، فنقول: لماذا؟ قالوا: هذه ضرورة؛ لأن الناس ازدحموا! هذه أحكام شرعية لا أنا ولا أنت نعبث بها، هذه أشياء مرتبة وأحكام مؤصلة ليست محلا للعبث، أن يأتي إنسان ويفتي فيها فتوى عامة ويرخص فيها للناس أنهم يتركون ما شرع الله ويقول: باسم الضرورة، فإن هذا شيء شرعه الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وكذلك أيضا الرمي بعد الزوال، هناك من يقول: دعه يرمي قبل الزوال ضرورة!! العيب يا إخوة! ليس في الشريعة، هذا من الخلط والجهل الذي يصيب البعض، وقد ذكر بعض العلماء أنه أضر ما يكون على المسلمين أنصاف المتعلمين، يمسك قاعدة وعنده نص علمي يستطيع أن يفتح به أبواب المحرمات -والعياذ بالله- فيجعل الحرام حلالا والحلال حراما، إما أن يذهب مع المتساهلين فينسلخ من الدين رويدا رويدا، حتى لا يبقى له من الدين -والعياذ بالله- إلا اسمه، من تتبع الرخص والتساهل، وإما أن يذهب مع المتزمتين فيضيق ما وسع الله على عباده باسم نصف العلم الذي عنده، فيشدد حتى يضيق على العباد ما وسع الله عليهم، ولكن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، لا إفراط ولا تفريط، تطبق القواعد حيث أذن الله لك أن تطبقها، وتترك العبث بشرائع الإسلام وأحكامه الثابتة الواضحة والسنن المحكمة التي لم تنسخ يوما من الأيام، وتبقيها كما حفظتها نصيحة لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فلا تغش المسلمين؛ لأنك إن قلت: الرمي قبل الزوال ضرورة! وما هو ضرورة، والعيب ليس في الشريعة، العيب في أخلاق الناس، ليس العيب أن الناس ترمي قبل الزوال أو بعد الزوال، هذا خلط في الأحكام، العيب جاء من سلوكيات وتصرفات الناس، ومعناه أن عندنا تقصيرا في توجيه الناس، وفي تعليم الناس، مما يؤدي إلى أن تحمل الشريعة أكثر مما تتحمل. ونأتي ونقول لهم: ادفعوا قبل غروب الشمس؛ لأن الناس يزحم بعضهم بعضا لا، علم الناس آداب الحج، علم الناس هذه الآداب التي في كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام، وأقم الحجة على عباد الله عز وجل، وبعد هذا لست مكلفا أن تبحث عما وراء ذلك حتى لا تحل حراما ولا تحرم حلالا، وهذا هو الفقه. وهناك سنة وحدود، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها) قال لك: لا تخرج قبل غروب الشمس، معناه أنه حرم عليك الخروج قبل غروب الشمس، ورسول الأمة صلى الله عليه وسلم كان معه مائة ألف. النقطة الثانية: مسألة الضرورة في أشياء هي من طبيعتها وتكييفها ومقصود الشرع فيها؛ فيها نوع من المقصود الشرعي، فتعطله بمخالفة الشرع. الآن الحج إذا نظر الإنسان فيه، يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (عليهن - يعني النساء- جهاد لا قتال فيه) ، فهل معنى ذلك أن الحج لليسر أو للامتحان والاختبار؟ للشدة والامتحان والاختبار حتى يخرج الإنسان عن حياة الترف والبذخ ويأتي إلى حياة المحن، ولذلك تجد الغني والثري ما يصهر بين الناس ويقهر على أشياء مثل أيام الحج، خاصة إذا لم تجد بجوارك من يفتي بالرخص، إذا وجدته يمشي على السنة وجدته يختلف حاله تماما بالحج، ويصبح الحج له مدرسة حقيقية، فإذا جاء الشخص ينظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم يقول الراوي: (كاد أن يقتل بعضهم بعضا) ، وهذه ثابتة، ولما جاء في يوم الحديبية وحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ماذا فعل الصحابة؟ قال: (كادوا أن يقتتلوا على الحلاق) ! الصحابة رضوان الله عليهم كادوا أن يقتتلوا على الحلاق؛ لأن طبيعة الشيء يستلزم هذا. ولما ترى طلاب العلم يزدحمون عند عالم أو عند شيخ، فهذه طبيعة هذا الشيء، فلا تحمل الأشياء ضدها وما لم تتحمله، فالحج طبيعته هذا الشيء من الازدحام وغيره، وأنت تريد أن تغير الحج عن طبيعته، ليس ذلك لك ولا هو لي، هذا أمر من الله سبحانه وتعالى، فانظر إذا خفف الشرع فخفف، وإذا ضيق الشرع فيضيق، فإن ضيقه رحمة وسعة بالناس؛ لأن الله يقول: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] . وكم من إنسان ثري غني لم يشاهد يوما من الأيام ضيقا يذكره بالله، فجاء إلى الحج فضيق عليه في الحج حتى رجع إلى ربه، ولربما رأى الموت في الزحام، وتشهد ورأى الشهادة فتاب توبة نصوحا، وما وجد هذا إلا في الحج، فهذه أشياء وحكم وأسرار لا يعلمها كل أحد. ولذلك ينبغي علينا أن نقف عند الحدود، فلا يتوسع الإنسان في الرخص تحت مقام الضرورات تبيح المحظورات، وأحذر كل طالب علم تعلم علما لم يستوفه ولم يعطه حقه عن أن يرخص لنفسه ما لم يعلم طبيعة المرخص فيه، وحقيقته، وهل مثله يوجب الرخصة أو لا يوجبها، حتى يكون على بينة من أمره وسداد وصواب في حاله وشأنه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وقد اجتمعنا في هذا البيت من بيوتك يا واسع الرحمة أن تلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مغيرين ولا مبدلين، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو يضل بنا، أو نزل أو يزل بنا، يا حي يا قيوم! اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، لا إله إلا أنت توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الرحمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (495) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - باب شروط القصاص لابد من وجود شروط معتبرة حتى يتحقق ويجب القصاص على القاتل، وهذه الشروط منها ما يتعلق بالقاتل ومنها ما يتعلق بالمقتول، وهي: أن يكون القاتل مكلفا، وأن يكون المقتول معصوم الدم، وأن يتكافأ القاتل مع المقتول، وألا يكون بينهما ولادة، كالوالد مع ولده، فإن تحققت هذه الشروط وجب تنفيذ القصاص، وإن تخلف واحد منها سقط القصاص عن القاتل. شروط القصاص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب شروط القصاص] . بعد أن بين المصنف رحمه الله الأمور التي ينبغي توفرها للحكم بقتل العمد الذي يوجب القصاص من القاتل، شرع رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توفرها لكي يحكم لولي المقتول بالقصاص من القاتل، وهذا ما ترجم له رحمه الله بهذه الترجمة: (باب شروط القصاص) ، أي: في هذا الموضع سأذكر لك العلامات والأمارات التي نصبها الشرع لكي يحكم الفقيه ويقضي القاضي ويفتي المفتي بثبوت استيفاء القصاص، وتمكين ولي المقتول من الأخذ بحقه. قوله: (شروط القصاص) ، تقدم معنا تعريف الشروط أكثر من مرة، وأن الشرط: هو العلامة، وأما في الاصطلاح: فما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود. وجمعها رحمه الله فقال: (شروط) ؛ لتعددها واختلافها، فهناك شروط تتعلق بالمقتول، وهناك شروط تتعلق بالقاتل، فلا بد من توفر هذه الشروط حتى يحكم بالقصاص. والقصاص مأخوذ من قولهم: قص الأثر إذا تتبعه: {وقالت لأخته قصيه} [القصص:11] أي: تتبعي أثره، فلما كان حكم الشريعة بالقود -وهو القصاص- يتتبع فيه ولي المقتول القاتل لكي يفعل به مثل ما فعل بالمقتول وصف بهذا الوصف، وهو وصف شرعي وردت به نصوص الشرع، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] ، فهو مصطلح شرعي، والمصطلحات منها ما هو مستقى من نص الكتاب والسنة، ومنها ما هو مفهوم من الشرع، فهذا مصطلح مستقى لفظا من الشرع. قال رحمه الله: [وهي أربعة] . إجمال قبل البيان والتفصيل، وقد تقدم أن هذا منهج العلماء رحمهم الله. وقد ذكر المصنف رحمه الله أربعة شروط، شرطا منها يتعلق بالمقتول، وشرطين يتعلقان بالقاتل، وإن شئت قلت: شرطا يتعلق بالقاتل وهو كونه مكلفا، وشرطين مجتمعين يتصل بهما القاتل بالمقتول، وهي قضية المكافأة والمساواة، وقضية عدم البعضية أو عدم الولادة، أو ألا يكون القاتل والدا للمقتول، سواء كان ذكرا أو أنثى، فيشمل الأب ويشمل الأم، وسواء كان مباشرا كالأب المباشر أو بواسطة كجده وإن علا. الشرط الأول: عصمة المقتول قال رحمه الله: [عصمة المقتول] . المراد بهذا الشرط أننا لا نحكم بوجوب القصاص إلا إذا كان المقتول معصوم الدم، وهذه العصمة يحكم بها الشرع، بمعنى: أن الشريعة حرمت قتل هذا المقتول، فإذا ثبتت العصمة للمقتول؛ فإن من قتله بدون حق يجب عليه القصاص. والأصل في هذا: أن الله حرم قتل المعصوم، كما قال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] ، فبين أن الإيمان عصمة للإنسان، وأنه لا يجوز قتل المؤمن إلا على وجه الحق. وقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] قيل: (( ولا تقتلوا أنفسكم )) أي: لا تقتلوا إخوانكم، فدل هذا على أن الإيمان عصمة. ودلت السنة أيضا على هذا، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ، فقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم) يدل على أن هناك عصمة للمسلم، ولذلك قال: (لا يحل) فعبر بهذه الصيغة المقتضية للتحريم. واتفق العلماء على هذا المصطلح، وهو ما يسمونه بمصطلح العصمة، وهو مستقى من قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحسابهم على الله) ، فهذا يدل على العصمة. والعصمة تكون للدم، وللمال، وللعرض، وهذا ما أشار إليه عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع حينما قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد) ، فجعل العصمة شاملة للنفس والعرض والمال. والعلماء يسوون بين عصمة الدم وعصمة النفس فالمعنى واحد، فهذه العصمة تكون مستحقة بالشرع وتكون بالأمان، فلا يجوز أن يقتل من له عصمة في الشرع مثل: المستأمن والذمي والمعاهد، وإن كان مثله لا يقتص له على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى. فهذه العصمة لا بد من توفرها في المقتول، فإن كان المقتول مهدور الدم أو مباح الدم، مثل الحربي، فإنه لا يقتص من المسلم في قتل الحربي؛ لأن الحربي لا عصمة له في الشرع، وليس بمعصوم الدم، فالقتل ليس واقعا في غير موقعه، بل واقع في موقعه؛ لأن الحربي يقتل، وكذلك إذا كان المقتول غير معصوم الدم كالكافر والمرتد والحربي والمسلم المستحق الدم، فمثلا: لو أن إنسانا قتل ظلما وعدوانا، وفر القاتل وهرب، وعلم شخص أنه قاتل، فجاء وأراد أن يأخذه ففر عنه، فقتله بنية القصاص لمن قتله، وهذا سيأتينا -إن شاء الله تعالى- بيانه، ففي هذه الحالة ليس بمعصوم الدم. وأما إذا كان محصنا وزنى -والعياذ بالله- فاستحق القتل، ففيه خلاف بين العلماء فيمن قتله، فبعض العلماء يرى أن المحصن مهدر الدم، وأنه إذا قتله القاتل فلا قصاص عليه، قالوا: لأن دمه مستحق بالشرع، فإذا قتل فإنه لا عصمة له حتى نقتل من قتله، فأسقطوا القصاص لعدم وجود العصمة. ومن أهل العلم من قال: إن قتل الزاني المحصن أمر إلى ولي الأمر والقاضي، فهو مستحق بحكم الشرع، وليس لأحد أن يأتي ويقتله؛ لأن هذا لا يستند إلى ولاية بالقتل، وقد جعل الله عز وجل ولاية للسلطان ومن يقوم مقامه. وفي بعض الأحيان يكون قتله حمية، كما لو جاء ووجده مع زوجته وهو محصن فقتله، أو شهد الشهود الأربعة على أنه زنى بزوجته فقتله، قالوا في هذه الحالة: يكون قتله أشبه بالغيرة، وليس قياما بحق الشرع، قالوا: فإنه يقتل به، وفي هذه الحالة لا يقال: إن هذا قتل شرعي؛ لأنه ليس على الصفة المعتبرة شرعا. ومن أهل العلم من قال كما اختاره الحنابلة وطائفة: إن الزاني المحصن إذا قتل أو مهدر الدم إذا قتله من قتله؛ فإنه يكون مهدر الدم، ولا قصاص على قاتله، وهذا أشبه من جهة الأصول. أما في مسألة المرتد فالأمر يختلف، فلو أن رجلا سب الله عز وجل -والعياذ بالله- أو سب الدين، أو تهكم واستهزأ استهزاء بينا موجبا للكفر، فهذا كافر مرتد، ومن قال الكفر أو عمل به وقيل له: هذا كفر، وقامت عليه الحجة، فأبى وأصر على ما هو؛ فهو كافر مرتد مباح ومهدر الدم، فإذا قتله فإنه في الأصل ليس هنا حمية إلا حمية الدين، ولا عصبية إلا عصبية الدين، فإذا قتله فإنه مأجور على قتله، لكنه -كما ذكر العلماء رحمهم الله- افتيات على حق السلطان والوالي، لكن مثل هذا مهدر الدم لا يقتص له بوجه، فلا يقتص ممن قتله لما سب الله عز وجل، أو سب الدين، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، فيكون مهدر الدم. وفي هذه الحالة لا يكون القصاص على من قتله، فإن قتل به فهو شهيد، إذا ثبت على هذا الوجه أنه مرتد. قال رحمه الله: [فلو قتل مسلم أو ذمي حربيا أو مرتدا لم يضمنه بقصاص ولا دية] . المسلم إذا قتل حربيا، فإنه مهدر الدم، وإذا حارب المسلمون الكفار سقطت الحرمة لدمائهم، إلا إذا كان بينهم وبين المسلمين ذمة، على تفصيل سبق أن بيناه في باب العهد والأمان. ولكن من حيث الأصل أنه لو قتل المسلم الحربي فلا يقتل به، لكن لو قتل الذمي الحربي، كما كان في القديم عندما كان أهل الكتاب تحت ذمة المسلمين، فلو خرج رجل من أهل الكتاب أو كتابي فوجد حربيا فقتله، فإن هذا الحربي مهدر الدم، مع أن قاتله كافر مثله، لكن هذا له أمان، وله ذمة الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة) ، فله ذمة المسلمين، فإذا قتل فله حرمة في بلاد الإسلام، فلا يقتل بمن قتله؛ لأنه في حكم الشريعة، وفي حكم من أعطاه الأمان والذمة أن هذا الدم مهدر، ولذلك لا يقتل به. وقوله: (فلو قتل مسلم أو ذمي حربيا) هذا تمثيل على الدم المهدر وهو دم الحربي. وقوله: (أو مرتدا) أي: لو قتل مسلما مرتدا، فإن هذا بإجماع العلماء على أن المرتد مباح الدم، لكن عندهم تفصيل هل تشترط الاستتابة أو لا تشترط؟ فمن أهل العلم من قال: إن المرتد لا يستتاب بل يقتل كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أن امرأة وجدت مقتولة في المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم: أحرج بالله من كان عنده خبر منها أن يقوم. فقام زوجها -وكان كفيف البصر أعمى- وقال: يا رسول الله! إنها كانت تسبك وتتكلم في دينك، فما هو إلا أن قمت عليها وهي نائمة بمعول -وهو الفأس- فبقرت بطنها فقتلتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا أن دمها هدر) ، فأسقط عليه الصلاة والسلام هذا الدم؛ لعدم عصمتها بالردة. وهذا يدل على أن من سب الله وسب الدين وسب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مهدر الدم، ولا يقتص من قاتله. قوله: (أو مرتدا) الردة سواء كانت بالأقوال أو بالأفعال الموجبة للخروج من الإسلام، فهذا كله سيأتي تفصيله -إن شاء الله- في ضوابطه، والأحوال التي يحكم فيها بالردة. ومن أهل العلم من يشترط الاستتابة، واحتجوا بما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاءه معاذ رضي الله عنه وقال: (إن رجلا اختار دين اليهودية بعد أن أسلم، قال: فقربناه فقتلناه، فقال عمر رضي الله عنه: هلا أدريتموه وأطعمتموه ثلاثا وعرضتم عليه، وإن أبى قتلتموه، اللهم إني أبرأ إليك، لم أشهد ولم آمر، اللهم إني أبرأ إليك، لم أشهد ولم آمر) ، فـ عمر رضي الله عنه برئ من قتله بدون استتابة. وعلى كل حال الأصل الشرعي يقتضي أن المرتد مباح الدم، والنص في هذا واضح في قضية الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يبقى النظر في تعزير من افتات على السلطان وقتل بدون بإذنه، وهذا يحتاج إلى نظر وتفصيل. وقوله: (لم يضمنه بقصاص) فلا يقتص من الذي قتله، فلو كان مرتدا في الحقيقة، ولم يوجد شهود يثبتون ردته، وجاء رجل وقتله، فالأصل أن نقول: إنه مسلم، فهذا القاتل إذا أخذه أولياء المقتول، وقالوا: نريد القصاص، فاقتص منه وقتل فهو شهيد؛ لأنه في هذه الحالة قتل بغير حق، وقتله للمرتد هو على وجه شرعي. وبناء على ذلك لا يكون دمه مباحا في الأصل الشرعي، فإذا قتل به فإنه مقتول ظلما، ولكنه في حكم الشرع يقتل؛ لأنه لو فتح هذا الباب لكان أي شخص يقتل شخصا ويقول: هذا مرتد، ولذلك لا بد من إثبات الردة، وعدم وجود دليل يدل على توبته من الردة؛ لأنه يمكن لأي شخص -والعياذ بالله- أن يرتد ثم يتوب. وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من زنى -والعياذ بالله- وهو محصن، ثم قتله القاتل فيقتل به، ما لم يثبت عند القاضي زناه وعدم توبته؛ لأن أصل القضية أنه إذا كان زانيا محصنا فيحتمل أنه تاب، وإذا تاب لم يقتل؛ لأن الزاني إذا زنى وتاب ولو بعد الزنا مباشرة، ولو زنى مليون مرة -والعياذ بالله- فما دام أنه تاب إلى الله توبة نصوحا؛ فإن الله يتوب عليه. والله عز وجل لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وإنما يريد التقوى من القلوب، فالعبد الذي يفعل الذنب ثم يتوب يتوب الله عليه، وهذا وعد من الله عز وجل قطعه على نفسه: {لا يخلف الميعاد} [آل عمران:9] ، أما من تاب صادقا من قلبه بعد ذنبه فالله يغفر ذنبه. فقالوا: يحتمل أنه زنى ورآه يزني، وعلم أنه محصن، وتاب الرجل بينه وبين الله، فحينئذ لا يستحق دمه؛ لأنه في الأصل قد تاب وأناب إلى الله عز وجل، فقالوا: لشبهة التوبة ولاحتمال أن يكون تاب بينه وبين الله لا يفتح هذا الباب. فقالوا: إذا قتله فيحتمل أنه تاب قبل قتله، ومثل هذه الذنوب تنفع فيها التوبة، وحينئذ قتل معصوما، وأكدوا هذا بالدليل في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أن سعدا رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أرأيت لو وجد لكع قد تفخذها رجل، فيذهب فيحضر الشهود، إذا يفرغ الرجل من حاجته، وإذا قتله قتلتموه) . وفي الصحيحين من ح الشرط الثاني: أن يكون القاتل مكلفا قال رحمه الله: [الثاني: التكليف] . الشرط الثاني: التكليف، والتكليف يقوم على أساسين: البلوغ والعقل، قال الناظم: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولا ظهر فلابد في التكليف من البلوغ والعقل، فإذا كان القاتل غير مكلف، كصبي قتل رجلا أو قتل صبيا، فإنه لا يقتص من هذا الصبي؛ لأنه مرفوع عنه القلم وغير مكلف وغير مؤاخذ. وكذلك أيضا إذا قتل مجنون رجلا أو قتل جماعة، فإنه لا يقتص منه؛ لأنه غير مؤاخذ، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، وفي الصبي خلاف إذا كان مميزا، والقول بأنه يكون في حكم المكلف قول معارض للنصوص القوية، والأدلة الواضحة، والإجماع السابق لهذا القول يدل على أنه إن كان مميزا أو غير مميز فإنه لا تكليف عليه، والتفريق بين الصبي المميز وغير المميز قول ضعيف. والنصوص واضحة، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم) ، فهذا نص واضح ليس فيه إشكال، وإن كان بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فرقوا بين الصبي المميز وغير المميز، وهو تفريق بدون دليل، ومعارض لما ذكرناه من الأصول الشرعية وإجماع السلف قبل حدوث هذا القول. قال رحمه الله: [فلا قصاص على صغير ولا مجنون] . ولذلك فعندهم قاعدة تقول: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالصبي إذا قتل فلا يجب القصاص ولكن تجب الدية، وهكذا لو أن الصبي قطع عضوا أو ضرب شخصا فأتلف له عضوا أو نحو ذلك، فإنه يجب ضمان هذه الجناية، ولا يجب القصاص والقود. الشرط الثالث: المكافأة قال رحمه الله: [الثالث: المكافأة] . الشرط الثالث: المكافأة، وهي المساواة، أي: أن يساوي القاتل المقتول، وألا يكون أزيد منه، وتحقق بمسألة الديانة والحرية، والأصل في ذلك أن الله تعالى قال في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [البقرة:178] ، فجعل الله عز وجل المقابلة، والقصاص في الأصل يقتضي المساواة؛ لأن المقاصة تحتاج إلى مماثلة، وعدم وجود فضل في القاتل على المقتول من جهة الدين أو من جهة الحرية مما يعتبر في المكافأة، قالوا: لأنه إذا كان القاتل فوق المقتول حرية مثلا، فإننا إذا قتلنا القاتل وهو حر، لم نساوه بمن قتله، وكان هذا ليس قصاصا؛ بل كان زيادة في القصاص، والله عز وجل يقول: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} [الإسراء:33] ، فحرم الله الزيادة في القصاص عن الأصل. وقول الله عز وجل: {الحر بالحر} [البقرة:178] هذا يسمى عند العلماء: مفهوم الحصر، أي: لا تقتلوا الحر إلا بالحر، والسبب في ذلك بيناه في غير مرة: أن مسألة الرق والحرية مبنية على أصول شرعية، ولذلك فإن الإسلام لا يحكم بالرق في الأصل والأساس إلا في حالة مقاتلة المسلمين للكفار وضرب الرق عليهم، فالرق مستفاد من الكفر؛ لأنه عرض عليه الإسلام فأبى، ثم قاتل المسلمين، فلما أخذوه في الأسر ضرب عليه الرق وصار في مستوى البهيمية، قال تعالى: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] ، فهو كافر بالله، ثم حمل السلاح على دين الله وشرع الله عز وجل مانعا من كلمة الله عز وجل؛ فنزل إلى مستوى أحط من مستوى البهيمية، وهذا المستوى لا يمكن أن يكافئ به المسلم. ولذلك فإن القول المعتبر عند جماهير السلف والخلف، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان رضي الله عنهم، وجمهرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضائهم: أنه لا يقتل حر بعبد، سواء كان العبد عبده أو عبد غيره، وهذا يستفاد منه الشرط الذي ذكرناه وهو المساواة، وأنه ينبغي أن يكون مكافئا لمن قتله. خلاف العلماء في قتل المسلم بالذمي قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين] . أي: أن يساوي المقتول القاتل في الدين، فلا يقتل المسلم بكافر؛ لأن الكافر لا يكافئ المسلم، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السنن: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم حرب على من سواهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا يقتل ذو عهد في عهده) . فقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) ، هذا حصر يدل على أن غير المسلمين لا يكافئ المسلمين، فلا تتكافأ دماء المسلمين مع غير المسلمين. ومن هنا قال جمهور العلماء رحمهم الله: إن المسلم لا يقتل بغير المسلم إذا كان حربيا إجماعا، وإذا كان ذميا على خلاف، فالجمهور يرون أن المسلم لا يقتل بالذمي، فلو أن يهوديا أو نصرانيا دخل إلى بلاد المسلمين ذميا، وبينه وبين المسلمين عهد الذمة، فجاء مسلم فقتله، فالجمهور يرون أنه لا يقتل به. وذهب الإمام أبو حنيفة والنخعي وطائفة من السلف إلى أنه يقتل المسلم إذا قتل هذا الذمي، واحتجوا بعموم الأدلة في قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة:179] ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] . واحتجوا بحديث مشهور وهو حديث ابن البيلمان وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال: أنا أحق من وفى بذمته) ، وهذا الحديث ضعيف، حتى إن أئمة الحديث رحمهم الله ردوه سندا، وقال أبو عبيد رحمه الله مقالة مشهورة: إنه من رواية عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن البيلمان، وبمثله لا تستباح دماء المسلمين. يعني أنه راو ضعيف، ومثله ليس بحجة حتى يحكم بما تضمنه حديثه فنستبيح دماء المسلمين بدماء الكفار، وهذا لا إشكال في بطلانه ورده. أما بالنسبة لأدلة الجمهور فقد استدلوا بالآتي: أولا: استدلوا بما ثبت في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه، أن أبا جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه سأل عليا رضي الله عنه، وقال: (هل خصكم صلى الله عليه وسلم بشيء؟ -لأن الغلاة في علي رضي الله عنه كانوا يقولون: إن آل البيت خصوا بأشياء- فقال علي رضي الله عنه: لا والذي برأ النسمة وخلق الحبة، ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، إلا فهما يعطيه الله لرجل منا في كتابه وما في هذه الصحيفة، ثم نشرها، وفيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، ومن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا يوم القيامة، وفيها: لا يقتل مسلم بكافر) . فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر) هذا نص عام، سواء كان المسلم ذكرا أو أنثى، وسواء كان الكافر ذميا أو معاهدا أو مستأمنا أو حربيا أو مرتدا، فقال: بكافر، وكافر نكرة، والنكرة تفيد العموم، وهذا أصل عند العلماء، فلما قال: بكافر، ولم يستثن كافرا من هذا العموم؛ دل على أن المسلم إذا قتل الكافر لا يقتل به ألبتة. إذا: أدلة الذين قالوا: إنه لا يقتل، صحيحة وصريحة واضحة على أن المسلم لا يقتل بالكافر. أما ما استدل به الإمام أبو حنيفة رحمه الله من عموم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] فنجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أن هذا يشمل الكافر؛ لأن الله صدر الآية بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة:178] ، والخطاب بين المؤمنين في قتل المؤمنين بعضهم لبعض، وبقي ما عداهم على الأصول. ثانيا: أن قوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] يدل على وجوب المساواة، وإذا كانت الآية تدل على وجوب المساواة في قوله: {كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] فمعنى ذلك أنه لابد أن يساويه ديانة، والمسلم لا يساوي الكافر ديانة. وهناك جواب آخر يختاره جمع من العلماء رحمهم الله والمحققين وهو أن يقال: إن آية: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] عامة، وحديث: (لا يقتل مسلم بكافر) خاص، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص. هذا بالنسبة لقول الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، بل إن بعض أصحابه كالقاضي أبي يوسف رحمه الله أجاز قتل المسلم بالمستأمن، وأنه لو قتل مسلم مستأمنا فإنه يقتل به. وعند المالكية مسألة غريبة وهي: قالوا: يقتل المسلم بالكافر إذا قتله غيلة، والغيلة هي الجريمة المنظمة التي تكون بترتيب وتنظيم، وفيها نوع من الافتيات على المسلمين والأذية والإضرار بالمسلمين، ففي هذه الحالة أجازوا، مثل أن يستدرج ذميا ويخرجه إلى خارج المدينة ويخدعه أن عنده شيئا أو حاجة، فيخرجه عنها ثم يقتله. وقتل الغيلة من أسوأ أنواع القتل، ولذلك يشدد فيه العلماء رحمهم الله، ومذهب مالك رحمة الله عليه أيضا من المذاهب التي راعت مثل هذا النوع من الجرائم المنظمة، سواء كانت بشخص أو أشخاص متعددين، فهذه مستثناة؛ لأن فيها نوعا من المحاربة، والقتل فيها ليس من جهة القصاص إنما من جهة المحاربة، كأنهم حينما نظموا قتل الذميين داخل بلاد المسلمين خرجوا عن مطلق أمان المسلمين، لا من جهة أنهم يقتلون قصاصا. والفرق بين القولين: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يجعل الحق في قتل من قتل الذمي لأولياء الذمي، ولكن عند المالكية يكون الحق في قتله للسلطان. وبناء على ذلك: لو عفا أولياء الذمي في قتل الغيلة؛ فإن الإمام أبا حنيفة يسقط القصاص مع الجمهور، ولكن الإمام مالكا لا يسقط القصاص؛ لأن الحق ليس لأولياء الذمي، ولم يره من جهة الدم، أي أن دم الكافر يكافئ دم المسلم، وللإمام مالك رحمه الله مسائل عجيبة جدا في مسائل القتل، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام رحمة الله عليه في القواعد النورانية؛ لأن مذهبه مستقى من مذاهب الصحابة رضوان الله عليهم، ومن فهم أصول الشريعة، ومذهبه من أشد المذاهب -كما بينا غير مرة- في مسألة القتل؛ لأنه ينظر إلى أصول في الشريعة لا بد من مراعاتها وتحقيق مقصود الشرع الذي وردت من أجل تحقيقه، فقال: إن هذه المسألة وحدها وهي مسألة الغيلة تستثنى في قتل المسلم بالكافر. وعلى كل حال: فالذي يظهر من خلال النصوص أنه لا يستباح دم المسلم بالكافر، سواء كان الكافر مرتدا أو حربيا أو ذميا أو مستأمنا، لكن إذا كان هناك افتيات وأذية ومحاربة لجماعة المسلمين بالخروج عليهم، فهذا أمر يرجع تقديره إلى الوالي، فإن رأى المصلحة في هذا قتله من باب الحرابة لا من باب القصاص فلا بأس، أما من باب القصاص فالنصوص واضحة على أن دم الكافر لا يكافئ دم المسلم بحال. وعلى هذا فإنه يترجح مذهب الجمهور من حيث الأصل، ويخرج باب الغيلة عن باب القصاص من الوجه الذي ذكرناه. خلاف العلماء في قتل الحر بالعبد قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين والحرية والرق] . أي: يساويه في الدين والحرية، فإذا قتل حر حرا قتل به، وهذا نص القرآن: {الحر بالحر} [البقرة:178] وهذا يسميه العلماء: مفهوم الحصر، وهو أحد أنواع المفاهيم العشرة المشهورة، وهي: مفهوم الصفة، والشرط، والعلة، واللقب، والاستثناء، والعدد، وظرف الزمان، وظرف المكان، والحصر والغاية. وقد أشار إليها الناظم بقوله: صف واشترط علل ولقب ثنيا وعد ظرفين وحصر إغيا فلما قال: {الحر بالحر} [البقرة:178] يعني: اقتلوا الحر بالحر، وأيضا لا تقتلوا الحر إلا بالحر. وبناء على ذلك: لا يقتل الحر بالعبد، وهذا مبني على أن الحر أرفع درجة من العبد، كما بين الله تعالى أن العبد المملوك لا يقدر على شيء، وأن الحر أرفع منه درجة بأصل الإسلام كما ذكرنا: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [الحج:18] . إذا ثبت هذا فإن الناقص لا يقتل به الكامل؛ لأن ذلك لا يعتبر قصاصا ولا عدلا، والشريعة جاءت بالعدل، كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام:115] ، فالشريعة جاءت بالعدل، فالحر لا يقتل بالعبد. وخالف في هذه المسألة داود الظاهري رحمه الله فقال: الحر يقتل بالعبد، وجماهير السلف والخلف على غير ذلك، وفيه حديث مرفوع عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه لا يقتل حر بعبد) ، وحديث السنن عند ابن ماجة وغيره، وحسن بعض العلماء إسناده. فهذا يدل على أن الأصل ألا يقتل الحر بالعبد، سواء كان العبد مملوكا كامل الملك، وسواء كان مملوكا للقاتل، أو كان مملوكا لغيره، وسواء كان الرق فيه كاملا كالرقيق الكامل، أو مبعضا، كما لو كان نصفه حرا ونصفه عبدا، فإنه لا يقتل به إلا إذا كان حرا كامل الحرية. وعلى هذا فلو قتل العبد العبد قتل به: {والعبد بالعبد} [البقرة:178] ، فهذا يدل على أن العبد يقتل بالعبد، وإذا قتل الحر العبد؛ فإنه لا يقتل به، ولكن هل يدفع قيمته أو الدية؟ وجهان للعلماء: قيل: يدفع قيمته بالغا ما بلغ، وفي بعض الأحيان تكون قيمة العبد أضعاف أضعاف قيمة الدية، مثل أن يكون عبدا عنده صنعة وهو غالي الثمن، فتكون قيمته مثلا ثلاثمائة ألف، والدية مائة ألف؛ لأنه صاحب صنعة. فحينئذ اختلف العلماء -وسيأتينا إن شاء الله في باب الديات-: هل الرقيق ملحق بالأموال فتقدر قيمته عند الجناية، أو ملحق بالآدمية؛ لأنه في الأصل آدمي، ولا يعامل معاملة الأموال في البيع والشراء بل يبقى على آدميته على الأصل؟ نقول: إن العبد تكون ديته نصف دية الحر، وحينئذ تكون خمسين ألف مثلا، إذا كانت الدية مائة ألف، وإذا قلنا: يدفع قيمته بالغة ما بلغت فقد تكون ثلاثة أضعاف الدية كما ذكرنا، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذا في باب الديات. قال رحمه الله: [فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد] . (الفاء) للتفريع، وهذا هو التفصيل والبيان، فإذا كان قد ثبت أنه لا بد من المكافأة في الدين والحرية والرق فينبني على هذا، ويتفرع عليه ألا يقتل مسلم بكافر، وهذا عام، كما ذكرنا في الردة، ولو أن شخصا -والعياذ بالله- ثبت بالشهود أنه سب الدين وسب الله عز وجل، فإنه يحكم بردته، فإذا قتله بعد سبه لله عز وجل مباشرة؛ فإنه قد قتل كافرا، فلا يقتل مسلم بكافر. ولا يقتل حر بعبد كما ذكرنا، سواء كان عبده أو عبدا لغيره. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم قتل الذمي بالمسلم قال رحمه الله: [وعكسه يقتل] . فلو أن ذميا كان بين المسلمين، وجاء وقتل مسلما، أو قتل امرأة مسلمة، قتل بها، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة وجدت وقد رض رأسها بين حجرين، وكانت من الأنصار، فسئلت: من فعل بك هذا؟ فلان فلان حتى ذكروا يهوديا) ، وقال بعض أهل العلم: إنه كان اليهودي يتربص بها من قبل، فلما ذكر اسمه هزت برأسها وأومأت، وهذا ما يسميه بعض العلماء بالتدمية البيضاء، فعند مالك رحمه الله من مسائله في القتل هذه المسألة: أن الشخص إذا وجد في آخر رمق من حياته وقيل له: من الذي قتلك: فلان؟ وهز رأسه، قلنا: هذا تدمية بيضاء موجبة للقسامة ومؤثرة في الحكم؛ لأن الشخص في هذه الحالة أقرب ما يكون إلى الصدق, وأبعد ما يكون عن الكذب؛ لأنه مقبل على آخرته وقد ترك الدنيا، ولا مصلحة له أن يكذب، ولذلك يرى أن قوله هنا يؤخذ به لما ذكر، وستأتي -إن شاء الله- هذه المسألة. وفي هذه الحالة سئلت المرأة فقيل: من فعل بك؟ فلان فلان؟ فأخذ اليهودي فأقر واعترف، والحقيقة أن هذا الحديث ليس فيه حجة على ثبوت الدم، بل فيه حجة على ثبوت التهمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بقولها، وإنما أخذ اليهودي فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، فأخذ ووضع رأسه بين حجرين ورض كما رض رأس الجارية. وهذا يدل على أن الكافر يقتل بالمسلم، وعلى ذلك إجماع العلماء رحمة الله عليهم، أنه إذا قتل كافر مسلما؛ فإنه قد أسقط العهد الذي بينه وبين المسلمين فيقتل قصاصا، ويقتل أيضا لخروجه عن العهد الذي بينه وبين المسلمين. أقوال العلماء في قتل الذكر بالأثنى قال رحمه الله: [ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر] . الذكر أرفع درجة من الأنثى، ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في أن الرجل لا يساوي المرأة من حيث الأصل، وهذا أمر واضح جلي في الشرع، وعلى المسلم أن يكون على بينة من أمره، وأن يترك هذا الخلط الذي يدعيه أعداء الإسلام من مساواة الرجل بالمرأة من كل وجه، فهذا قول باطل معارض لنصوص الكتاب والسنة. والله تعالى يقول: {وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران:36] ، والله عز وجل خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم بعد هذا التكريم خلق منه حواء، فجاءت خلقة الأنثى بنصوص الشرع تبعا ولم تأت أصلا، وجاء التكريم استقلالا للإنسان الذكر، وجاءت خلقة الأنثى بنص الكتاب أنه خلق منها زوجها ليسكن إليها، فهي تبع للرجل، ولحكمة من الله سبحانه وتعالى أن جعلها على هذا الوجه، ولم يسو بينها وبين الذكر، والله عز وجل يخلق الضعيف والقوي، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الضعيف كالقوي، فهذه خلقة الله عز وجل، ولا يمكن أن تستقيم أمور الحياة إلا بوجود قوي وضعيف. وهذا ليس فيه ظلم ولا جور، بل هذه خلقة الله عز وجل، فلا تستطيع أن تستدرك على الخالق، حاشا وكلا! تعالى الله عز وجل. فالله عز وجل في أصل الخلقة خلق المرأة على هذا التكوين: {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف:18] خلقها على هذا الضعف لحكمة بينها تعالى فقال: {ليسكن إليها} [الأعراف:189] ، فلو خلقت قوية لما استقامت أمور الحياة، ولتنكد العيش، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الأمر على هذه السنن {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم:30] ، فلا يستطيع أحد أن يبدل خلق الله. نعم في الشريعة جاءت التشريعات تخاطب الرجال وتخاطب الإناث، ومع ذلك خصت الرجال بما خصتهم، وخصت الإناث بما خصصتهن، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنها قد جعلت الرجل مثل المرأة سواء بسواء أبدا، هذا أمر واضح جدا في التكاليف الشرعية وفي الأحكام والمسائل، فلا يخلط الأمر، بل ينبغي على المسلم أن يكون على بينة من أمره، وأن تكون الأمور واضحة. ولذلك متى ما خرجت المرأة عن هذه الفطرة استرجلت، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لعن المسترجلات من النساء، أي: أنها خرجت عن هذا المقام الذي فطرها الله عز وجل عليه، وأرادت أن تساوي الرجل، والله يقول: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة:228] . فهذه أمور خلطت على المسلمين، ودخلت من الأفكار الوافدة من أعداء الإسلام؛ لأنهم يعلمون أنهم يناقضون كثيرا من أصول الشريعة، وتستقيم أمور المسلمين كثيرا إذا عرفت المؤمنة الصالحة مكانتها وعرف الرجل مكانه، وكمل كل منهما الآخر، وحاول كل منهما أن يكون على السنن والفطرة التي خلقه الله عز وجل عليها ولا يخرج عنها ألبتة. ولذلك الذين يقولون: حقوق المرأة، هؤلاء والله يعذبون المرأة ويحملونها ما لا تطيق، وفوق ما تطيق، فهل يستطيعون أن يجعلوا فيها من القوة مثل ما في الرجل؟ إذا كانوا لا يستطيعون أن يجعلوا فيها من القوة مثل ما في الرجل فلا يكلفوها، ولا يحملوها ما لا تتحمل. ومن هنا لما خرج الناس عن هذه الفطرة تنكدت الحياة، وتعذبت المرأة وأهينت وأذلت، حتى إن بعض أعداء الإسلام انتصر لحقوق المرأة، فلما خرجت المرأة في الدول الشيوعية للاتحاد السوفيتي تكنس الشوارع، وتعمل مثلما يعمل الرجل، صارت مهانة ذليلة ورجعت على العكس، فقد كانت تظن أن مسألة حقوق المرأة أنها مسألة يراد بها تكريم المرأة حقيقة، فتبين أنها إهانة للمرأة وإذلال لها. وأقسم بالله الذي فطر السماوات والأرض لن تجد المرأة تكريما غير الذي كرمها الله به، وأنها إذا ظنت أنها تجد التكريم في غير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلتعلم أنها لن تزداد عند الله إلا مهانة وذلا، ولتقدم على ما أقدمت أو تحجم. فعليها أن تعلم أن التكريم الحق إنما هو حينما تكون في مكانتها الطبيعية الجبلية التي فطرها الله عز وجل عليها، قائمة على أسرتها، وربة لبيتها، ومحافظة على أولادها، وراعية لزوجها، فقادت العالم أجمع بعدل وإنصاف وحكمة وقدرة من الله واقتدار، ومع ذلك ما تخلفت ولا تقاعست وكانت في أوج الحضارة، وكانت المرأة في قعر بيتها قائمة لحقوق أولادها وزوجها. وهل معنى ذلك أننا لن نتقدم إلا إذا كانت المرأة مثل الرجل؟ أبدا، هذه كلها أمور مخلوطة، وأوراق مغالط فيها ومكابر فيها، فعلى الإنسان أن ينظر إلى الحقيقة. وعلينا أن نفهم الكتاب والسنة لنرد على كل من يأتي ويروج ويقول: المرأة مثل الرجل، وقد خاطبها الله كما خاطب الرجل، فهذه أمور لو جئنا نفصل فيها وأمسكنا من باب الطهارة إلى نهاية أبواب الفقه الإسلامي، لوجدت من المسائل ما لا يحصى كثرة من التفريق بين الرجل والمرأة، وتجد أن هناك أصلا شرعيا يرضى به من يرضى ويسخط من يسخط. وعلى كل حال: الأمر في هذا واضح، وليس هذا مقامه، لكن نقول: إن الرجل إذا قتل المرأة قتل بها، وإذا قتلت المرأة الرجل قتلت به. لكن إذا قتلت به فبعض العلماء يرى أنه يأخذ أولياء المقتول نصف الدية من أولياء المرأة أو من مال المرأة، قالوا: لأن المرأة نصف الرجل كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها) ، فهذا يدل على أنها على النصف، فإذا كانت على النصف فديتها نصف دية الرجل كما سيأتي إن شاء الله، وإذا ثبت أنها على النصف فمعنى هذا أنها لا تساوي الرجل، فلو قتل رجل امرأة وحكمنا بالقصاص، فإنه إذا قتل أولياء المرأة الرجل، فقال بعض العلماء: يدفع أولياء المرأة نصف الدية؛ لأنها لا تكافئ الرجل من كل وجه. والصحيح: أن المرأة تقتل بالرجل، والرجل يقتل بالمرأة، ولا دفع للفرق بينهما. الشرط الرابع: انتفاء التوالد بين القاتل والمقتول قال المصنف رحمه الله: [الرابع: عدم الولادة] . الشرط الرابع: عدم الولادة وعدم البعضية، وهو ألا يكون المقتول بعضا من القاتل، أو ألا يكون القاتل والدا للمقتول، سواء كان ذكرا كأبيه أو أنثى كأمه، فلا يقتل الأب إذا قتل ابنه، ولا تقتل الأم إذا قتلت بنتها أو ابنها، وقد ثبت هذا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى عليه العمل، وفيه حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الحافظ ابن عبد البر: إن الأمة تلقته بالقبول، يقصده حديث: (لا يقتل الوالد بالولد) ، وهو حديث تلقته الأمة بالقبول، وأغنت شهرته عن طلب إسناده. ولـ شيخ الإسلام رحمه الله كلام نفيس في مجموع الفتاوى، وكذلك الإمام ابن القيم تكلم على هذه المسألة في الإعلام، في مسألة الأحاديث التي اشتهرت فأغنت شهرتها عن طلب إسنادها وتلقتها الأمة بالقبول، وهذا الذي درج عليه أئمة الإسلام والسلف الصالح. والمنبغي للمسلم أن يسعه ما وسع السلف، وما جرى عليه العمل وأجمعت عليه الأمة، وكانوا فيه على السنن؛ فإن المسلم يلزمه ذلك، وهو أولى بالصواب وأحرى به إن شاء الله. ولماذا لا نقتل الوالد بالولد؟! قالوا: لأن الوالد سبب وجود الولد، فلا يكون الولد سببا في موته وهلاكه, هذه علة. وبعضهم قال: لأن الولد جزء من الوالد، وهذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، فجعلهم كجزء من الإنسان. وقال بعض العلماء: العلة في عدم قتل الوالد بولده: أن الوالد يؤدب ولده، والغالب ألا يقتل والد ولده عمدا وعدوانا لكن هناك شبهة التربية والتأديب، وأنه لا يقدم على ضربه حتى يموت، لما جبل عليه الوالد من الرحمة والعطف عليه، فالشبهة قائمة، والشبهة تسقط القصاص. وعلى هذا الوجه الأخير استثنى المالكية المسألة المشهورة، وهي أن يضجع الوالد ولده ويقتله، مثل أن يذكيه تذكية مثل البهيمة، ففي هذه الحالة قالوا: تسقط شبهة التربية، ويقوى أن الوالد يريد إزهاق الروح عمدا وعدوانا، فيقتص منه. وعلى كل حال: فجمهور العلماء على عدم قتل الوالد بالولد مطلقا، ويشمل هذا الحكم الوالد المباشر والجد والجدة سواء من جهة الوالد أو من جهة الوالدة، أي: سواء تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث. قال رحمه الله: [فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل] وذلك كما ذكرنا. قال رحمه الله: [ويقتل الولد بكل منهما] . أي: العكس، يقتل الولد بكل منهما، فلو قتل الولد -والعياذ بالله- والده، وهذا من أسوأ ما يكون؛ لأنه جمع بين العقوق والقتل -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا من الشقاء المتناهي -والعياذ بالله- فإذا قتله فإنه يقتل به. الأسئلة السؤال لو قتل ذمي عبدا مسلما فهل يقتص منه أم لا، أثابكم الله؟ حكم الذمي إذا قتل رقيقا مسلما الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا قتل الذمي رقيقا مسلما فإنه يقتل به، والجارية الأنصارية قيل: إنها كانت مولاة، ومن هنا يقتل به من جهة الكفر، والكافر ليس له فضل على الرقيق، ولذلك قال: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} [البقرة:221] . وعلى كل حال ليس هذا مما يمنع القصاص من الذمي، بل يقتص منه ويقتل، والله تعالى أعلم. حكم القصاص من السكران إذا قتل السؤال هل هناك قصاص على السكران إذا قتل، أثابكم الله؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل السكران مكلف أو غير مكلف؟ ومن حيث الأدلة والأصول قد سبق أن ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطلاق، وأن السكر موجب للحكم بزوال العقل، ونص الله عز وجل على أن السكران لا يعلم ما يقول، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء:43] . فمن حيث الأصل لا شك أن مذهب الظاهرية ومن وافقهم في أن السكران غير مكلف قوي جدا. وفي مسألة القتل هنا استثنى بعض العلماء فقالوا: لو فتح الباب لكان لا يسع الإنسان إلا أن يسكر ثم يقتل. وعلى كل حال: فإن قضاء الصحابة هو الأولى، كما ذكرنا في قضاء علي رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه حينما جمع الصحابة، وقد اشتكى إليه خالد بن الوليد أن الناس قد انهمكوا في شرب الخمر، فقال علي: هذا أصل يقتضي أنه يعامل معاملة الصاحي. والذي يظهر والله أعلم أنه من حيث الأصل في الحكم أنه غير مكلف، لكن لا مانع في بعض الأحوال المستثناة إذا استشرى الأمر وعظم الفساد أن يستثنى كما استثنى الصحابة، فإن الصحابة زادوا في الحد وزادوا في العقوبة عند الانهماك في شرب الخمر. ولذلك رجح شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه الزيادة راجعة إلى تقدير الظرف، لا من باب أن الزيادة تعزيرية، وليست زيادة نصية حدية، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس إن شاء الله، وهو الأقرب، والله تعالى أعلم. حكم الأكل والتعامل مع تارك الصلاة السؤال هل يجوز قبول مال الذي لا يصلي أو الأكل من طعامه أو محادثته إن كان من الأقرباء، أثابكم الله؟ الجواب أما بالنسبة للأكل من طعامه فلا شك أن فيه خلافا: هل هو كافر أو ليس بكافر؟ فإن ترك الصلاة كلية وحكمنا بكفره؛ فإنه يجوز الأكل من مال الكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، واستضافه يهودي على خبز وإهالة سنخة، كما في مسند أحمد، ولأنه طعم من شاة اليهودية كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على قبول ضيافة الكافر، خاصة إذا رجي تأليفه وكسبه للإسلام، وبشرط أن يؤمن مكره وضرره. وأما قبول هديته ففيها تفصيل: فبعض العلماء يقول: إذا كان فيها منة وأذية على المسلم؛ فإنه لا يقبل هديته، ولا يقبل منه شيئا، فلا يقبل منه مالا، ولا يجيب له دعوة، فإذا كان فيه خبث وله أغراض سيئة، أو يريد مثلا أن يدعو إنسانا طيبا وحاله طيب حتى يغري غير الطيبين، أو نحو ذلك من المداخل التي قد يفعلها أصحاب الكفر لأذية المسلمين، فإنه لا يجوز في هذه الحالة قبول الدعوة؛ لأن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، والله عز وجل أمرنا معهم أن نأخذ الحذر، والواجب على المسلم أن يأخذ الحذر، وهذا من الحذر، وفيه استجابة لأمر الله عز وجل، وتحقيق لمقصود الشرع، والله تعالى أعلم. بيان من هم أهل الذمة السؤال هل أهل الذمة هل هم أهل الكتاب فقط، أم يشمل حتى المجوس وأهل الشرك أثابكم الله؟ الجواب الذمة تختص بأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، واختلف في السامرة والصابئة، هل كانت لهم أصول سماوية أم لا؟ على وجهين مشهورين عند العلماء رحمهم الله. فالذمة خاصة بالكتابيين كما قدمنا في باب العهد وأحكام الذمة، وقد فصلنا في هذه المسألة وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله، وأن الصحيح أن الكتابي من كان له أصل من دين سماوي، كما قال تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} [الأنعام:156] ، فخص الكتب السماوية بهاتين الملتين، وهذا هو الأصل فيهم أنهم هم اليهود والنصارى. وأما المجوس فإنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب في شيء، ويبقون على الأصل في شيء آخر، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) ، فتضرب عليهم الجزية ويعاملون كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، ومن هنا فإنه يختلف أهل الذمة عن المجوس من وجه، ويوافقونهم في وجه. وأما المشركون فإنهم لا ذمة لهم عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عند المسلمين، فإن المشرك إما أن يعرض عليه الإسلام وإما أن يقتل، إما أن يسلم وإما أن يقتل. أما أهل الكتاب فلأن لهم دينا سماويا، وقد اختلفوا عن غيرهم من هذا الوجه، فالإسلام يقر الشرك ولا يقر الوثنية، فعباد الأشجار والأحجار وعباد الأوثان إذا هجم عليهم المسلمون فإنهم لا يخيرونهم إلا بين أمرين: أن يسلموا أو أن يقاتلوا. وأما إذا كانوا من اليهود والنصارى فيخيرون بين الثلاثة الأمور: الإسلام، أو القتال، أو دفع الجزية: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة:29] ، وقد تقدم تفصيل هذه المسائل في كتاب أحكام الذمة، والله تعالى أعلم. حكم الجمع بين صلاة الجمعة والعصر في السفر السؤال هل يجوز جمع صلاة الجمعة والعصر للمسافر، أثابكم الله؟ الجواب هذه المسألة الأصول الشرعية تقتضي جواز الجمع بين الجمعة والعصر، وهذا لا إشكال فيه من جهة الأصول، أي: لا فرق بين الجمعة وبين الظهر. لكن الأصل أن المسافر لا يصلي الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل جمعة في سفره ألبتة، وهذا أمر واضح وجلي، حتى إنه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع كان معه مائة ألف نفس في عرفات، وكان بالإمكان أن يجمع ولو مراعاة لأهل مكة، ومع ذلك لم يصل الظهر جمعة. ومن هنا نص العلماء على أن المسافر في الأصل لا تجب عليه الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر ومعه العدد الذي تصح به الجمعة وما صلى جمعة واحدة. ومن هنا كان يشدد بعض مشايخنا رحمة الله عليهم في خروج الإنسان وهو مسافر يجمع بالغير؛ لأنه لا يجمع بهم إلا من كان منهم، من أجل تحقيق هذه السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام. والجمع بين الصلاتين يشدد فيه بعض الحنابلة، وبعض المتأخرين يقول: دليلنا أنا وجدنا العلماء يقولون: يجمع بين الظهر والعصر، وما وجدناهم يقولون: يجمع بين الجمعة والعصر، لكن هذا ليس بدليل، فالعلماء رحمهم الله يذكرون الأصل وينبهون به على ما حل محله، ولذلك الجمعة إذا صلاها فإنه يصح له أن يجمع بعدها العصر، ولكن إذا أراد أن يخرج من الخلاف ويحتاط فهذا شيء آخر. أما من حيث الأصل فإنه لا إشكال في جواز أن يجمع العصر إلى الجمعة، وليس هناك دليل بمنع ذلك، بل الرخصة التي أحل بها الجمع هي وجود السفر، ووجود السفر موجب للرخصة، ولا فرق بين الجمعة وبين غيرها، ولذلك إذا فرق المفرق فعليه بالدليل. لكننا نقول: إذا احتاط وصلى الظهر وجمع إليه العصر فلا بأس. وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقولون: يحضر الجمعة فينوي بها الظهر ولا ينويها جمعة, فإذا نواها ظهرا فلا إشكال، ووجه واحد أنه يجمع العصر إليها؛ لأنه يصلي وراء الإمام بنية الظهر، ويصح أن يصلي الظهر لاتحاد صورة الصلاتين، واختلاف النية مخرج على حديث معاذ رضي الله عنه؛ لأن الشرط ألا تختلف صورة الصلاتين، فإذا أراد أن يخرج من الإشكال فينوي المسافر الظهر، ويستفيد من حضور الجمعة للذكرى. والفرق: أنه إذا حضرها بنية الظهر جاز له أن يتكلم، وجاز له أن يتحرك، وجاز له أن يفعل؛ لأنه ليس بمجمع أصلا، وهذا مبني على أصل عند العلماء رحمهم الله، وخاصة أن المسافر لا تجب عليه الركعتان الأوليان من الظهر، وقد قالوا: إن الخطبتين منزلة منزلة الركعتين خاصة في الحاضر. فإذا ثبت هذا فإنه يدخل بنية الظهر، ثم يحضر الجمعة ويستفيد، ويصلي العصر جمعا، وإن أراد أن يدخل بنية الجمعة طلبا لفضيلة الجمعة فلا بأس؛ لأنه يحصل له فضيلة أفضل من الظهر، إلا أن الوالد رحمة الله عليه كان يختار أن تكون نيته للظهر؛ لأن اتباع السنة بعدم التجميع أولى وأقوى، وإن كان الأصل في ظاهره أن الجمعة أفضل من الظهر، والله تعالى أعلم. حكم تعدد النية في صلاة وصيام النافلة السؤال هل يجوز أداء صلاة السنة الراتبة وتحية المسجد في الصلاة الواحدة؟ وأيضا في نية الصوم هل يجمع بين صيام الإثنين إذا وافق يوما من أيام البيض، أثابكم الله؟ الجواب يجوز أن يدخل المسجد وينوي الراتبة وتندرج تحتها التحية، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) ، فلما قال: (يركع ركعتين) دل هذا على أنها إذا كانت مقصودة أو غير مقصودة أجزأت، وأن مراد الشرع ألا يجلس في المسجد حتى يصلي، وعلى هذا فإنه تجزيه عن الراتبة. وأما بالنسبة للصوم فإنه إذا كان يصوم يوما ويفطر يوما ووافق الإثنين والخميس؛ أجزأه عن صيامه المعتاد للإثنين والخميس، وهكذا لو وافقت الأيام البيض يوم الخميس أو يوم الإثنين، فإنه ينوي في قرارة قلبه الإثنين, كونها من البيض، وكونه يوما مستقلا من عادته أن يصومه، فيكتب الله له أجر اليومين، الأول بنيته والثاني بعمله. وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله: أن من اعتاد الشيء من الطاعة وحال بينه وبين تحقيقه العذر؛ كتب له الأجر، فهو اعتاد أن يصوم أيام البيض، واعتاد أن يصوم الإثنين، ولا وجه للفصل بينهما، إذا وافق يوم الرابع عشر يوم الإثنين فلا يستطيع أن يجعل أيام البيض في غير يوم الإثنين، ومن هنا يكتب له أجر اليومين، وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة. وهكذا إذا كان يصوم يوما ويفطر يوما؛ شرع له أن يدخل زيادة الإثنين والخميس؛ لأنها مقصودة لليومين، فلو كان يصوم يوما ويفطر يوما، فصام الأحد، شرع له أن يصوم الإثنين؛ لأنه لمعنى مستقل، كما لو صام يوما وأفطر يوما، ووافق يوم فطره يوم عاشوراء أو يوم عرفة؛ فإنه يشرع له أن يصومه؛ لأنه لمعنى خاص، والله تعالى أعلم. نصيحة لزوج يسيء الظن بزوجته السؤال زوجي رجل مستمسك بدينه والحمد لله، وحسن الخلق مع الآخرين، ولكنه يشد علي، ويسيء الظن بي، ويتلمس أخطائي، ولا يرعى كوني امرأة ضعيفة أمانة بين يديه، فهل يحق لي طلب الطلاق منه، أرجو منكم توجيه النصيحة لزوجي أثابكم الله؟ الجواب الله المستعان! أولا وقبل كل شيء: احمدي نعمة الله عز وجل أن رزقك الله زوجا بهذه المثابة، ما دام أنه يخاف الله عز وجل وفيه حسن خلق، وما كان من إساءة الظن، ففي بعض الأحيان قد يقسو الرجل على زوجته من باب الغيرة، وحب الخير لها، وفي قرارة قلبه هو يحبها ويجلها ويكرمها، فيدخل الشيطان على المرأة بالظنون، فأوصيك دائما أن تجعلي احتمالا مضادا لهذا الاحتمال حتى يضعف سلطان الشيطان على قلبك. ثانيا: أرجو لك عند الله أجرا عظيما، وثوابا جليلا كريما إن صبرت على هذا الزوج، وأرجو لك من الله أن يعوضك على صبرك في دينك ودنياك وآخرتك؛ لأن لله سننا لا تتبدل ولا تتحول، والله لا يضيع أجر الصابرين، ولا يخيب أمة أو عبدا صبر لوجهه. فأنت إذا صبرت على عبد صالح ترجين رحمة الله؛ فأنت على خير، وأما الحدة والشدة فلا خير فيها، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه في الإحرام يضرب عبده وهو محرم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (انظروا إلى هذا المحرم) يعني: هو في إحرامه وهو يضرب. فكان عند الصحابة قسوة، حتى إنه لما دخل على ابنه عبد الرحمن قسا عليه قسوة شديدة في قصة الضيف المعروفة، وقال له: اخرج غدر. فقد يكون الإنسان صالحا وفيه حدة، فالصبر على هذا الصالح المحتد أجره عظيم عند الله عز وجل وثوابه عظيم. فأوصيك بالصبر، فإذا جاوز حدوده فبالإمكان الاستعانة بمن يوثق فيهم، فإذا كان له عم أو والد أو أخ كبير، فتعرضين الأمر عليه عن طريق أخيك، وإذا لزم الأمر تكلميه مباشرة أو عن طريق الهاتف أن فلانا يقسو زيادة عن اللازم، وتحددي الأمور التي تضايقك ولا تستطيعين الصبر عليها. أما الطلاق فليس هو الحل، بل هو نهاية الحلول، وما دام أنه رجل يخاف الله عز وجل؛ فأوصيك إذا جاوز الحد أن تقولي له: اتق الله عز وجل، فإن المؤمن إذا قيل له: اتق الله؛ رعدت فرائصه من الله عز وجل خوفا من الله سبحانه، فأنت عندك سلاح متين. وأخاف عليك -لا قدر الله- إن طلقك ألا يبدلك الله خيرا منه، وقد تجدين من يهش لك ويبش، ولكن تجدين منه من الشؤم والبلاء ما لا يخطر لك على بال، وهذه سنة الله عز وجل، أنه إذا أنعم على العبد أو الأمة بنعمة ونظر إلى غيرها أنه يصرفها عنه ويذيقه الويلات فيما انصرف إليه. ولا أقول لك: أنه كامل، ولا أحملك فوق طاقتك، أنا أقول: ما دام أنه يخاف الله، فبيدك سلاح عظيم وهو التذكير بالله عز وجل، ولذلك قولي له: اتق الله؛ لأن التقي يخاف من الله عز وجل. فعندك أمر تستطيعين أن تحلي به مشاكلك وهو تذكيره بالله، وإذا كان لا يسمع منك فكما ما ذكرنا تنظرين إلى العاقل من قرابته وتعرضين الأمر عليه، وثقي ثقة تامة وليثق كل إنسان في هذه الحياة أنه لن يجد شيئا كاملا، وأن الحياة جبلت على النكد والبلاء والكد: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} [البلد:4] ، فالله عز وجل الذي خلق كل شيء، وقدر كل شيء، وعلم بكل شيء سبحانه، وأحاط بكل شيء رحمة وعلما, ووسع كل شيء رحمة وعلما يقول: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} [البلد:4] ، فأقسم سبحانه وتعالى بالبلد الأمين، وأقسم برسوله وهو حال فيه، وبكل ما خلق: {ووالد وما ولد * لقد خلقنا الإنسان في كبد} [البلد:3 - 4] أي: في تعب وعناء. فإذا كان التعب والعناء تستطيعين أن تصبري عليه فهذا خير لك، والحكماء والعقلاء على مر العصور والدهور ما كانت حياتهم إلا صبرا وتجلدا، فتجلدي واصبري يا أمة الله، فإن الله يصبرك. وما يدريك فلعل الله أن يخرج منك من هذا الرجل ذرية صالحة، واحمدي الله عز وجل أن زوجك لم يبتل بالمخدرات، ولم يبتل بالمحرمات، واحمدي الله عز وجل أنه لا يأتيك آخر الليل سكران، ولا يأتيك آخر الليل -والعياذ بالله- من عند مومسة، أو من بعد حرام أو من بعد فحش وآثام، فاحمدي الله عز وجل، وقولي: بعض الشر أهون من بعض، وكم من امرأة أقض مضجعها زوج يقلقها بالمحرمات، ويسبها ويسب أهلها وذويها وقرابتها، واحمدي الله عز وجل أنه لم يظلمك في مال، ولم يظلمك في فراش، واحمدي الله عز وجل على أشياء كثيرة. ولابد من وجود النقص، فالإنسان ضعيف، وأنت ضعيفة وأضعف منه، لكن الله سبحانه وتعالى يجبر كسرك ويعينك إن صبرت، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر) . فما طابت الحياة إلا بالصبر، والصبر لا يكون إلا بالأذية والتعب والعناء، وأشد ما تكون الأذية والتعب والعناء من القريب، ولذلك إذا أراد الله بعبده خيرا ابتلاه، وإذا أراد أن يعظم له الأجر في البلاء جعل بلاءه من أقرب الناس إليه. الزوجة يؤذيها زوجها، وابن العم يؤذيه ابن عمه وقريبه، والشيخ يؤذيه طالبه، قد يعلم طالبا ثم يوما من الأيام يرميه بنبله، أو يسييء الظن به، أو يتهجم عليه، فلابد من الأذية والبلاء. وإذا أتتك الأذية من أقرب الناس إليك؛ رفع الله درجتك، وأعظم أجرك، وأجزل مثوبتك، وجعل عاقبتك لك. يا أمة الله! إن الله وعدك وعدا لا يخلفه والله لا يخلف الميعاد، بشيء واحد إن حققتيه وقمت بحقوقه وآمنت به وصدقتيه، فإن الله سبحانه وتعالى سيجعل أمره بين يديه: {والعاقبة للمتقين} [الأعراف:128] . فلا تنظري إلى ما أنت فيه اليوم، ولا تنظري إلى الهم والغم، فإن هذا من الشيطان، ولذلك كل امرأة تأتيها الهموم والغموم وتنظر فيها وتتأملها؛ تزداد عليها الهموم، ويدخل الشيطان عليها، ولكن إذا نظرت إلى أن الله معها، وأن هذا ابتلاء، وأنها سنة الحياة؛ والله ثم والله لو أن زوجك صفا لك من الكدر، ونعمت حياتك معه؛ إذا بك تفاجئيه بأولادك قد خرجوا عليك, وإذا سلمت من الأولاد؛ سلط الله عليك صويحباتك، فلن تسلمي من البلاء، وما يزال المؤمن في هم وغم وكرب وبلاء، ومن بلاء إلى بلاء حتى يقف على أبواب الجنة، ويطأ بقدمه أعتابها، فيقول كما قال تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} [فاطر:34] ؛ لأن الدنيا سجن المؤمن. أتظنين أن زوجك إن طلقك أنك ستعيشين حياة هنية سعيدة؟! أتظنين أنه لو جاءك زوج آخر أنك ستعيشين معه حياة سعيدة، وأنك ستجدين فيه الكمال والخير الموجود في زوجك، ثم هذا النقص الموجود فيه يكمل؟! يا أمة الله! الصبر الصبر، وقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (ومن يصبر يصبره الله) ، تذكري ثم تأملي وتفكري في الأيام التي مضت والسنين التي انقضت وأنت في الهم والغم، كم لك من درجات وحسنات وأجور وخيرات وبركات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى!! فاحمدي الله، واصبري بصبر الله. أما الكلمة الأخيرة فأوصي هذا الزوج أن يتقي الله، وأوصي الإخوان والصالحين دائما أن يتواصوا بحقوق الأهلين والزوجات، وإذا جلس الصديق مع صديقه ينبه لمثل هذا، سواء في حقوق السهر، أو الفراش، أو حقوق المال والنفقة، فإذا رأيت صديقك أو قريبك مقصرا في ولده، كأن يكون بخيلا، فهو رجل صالح طيب ولكنه لا ينفق على ولده، بل يقتر على ولده وعلى نفسه، فعليك أن تقول له: اتق الله. فأوصي الصالحين أن يوصي بعضهم بعضا بالله عز وجل، ويقول: اتق الله عز وجل في أهلك وولدك. ففي بعض الأحيان تراه يسهر إلى ساعات متأخرة ولا يأتي إلى زوجته إلا في ساعات متأخرة، وهذا لا يأمن على زوجه الحرام، وقد لا يأمن عليها الآثام, فلينصح بعضنا بعضا، وليذكر بعضنا بعضا. وأوصي هذا الأخ أن يتقي الله في أمة الله، وأن يرحم ضعفها، وأن يرفق بها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم) . فالله الله في حقها، وليتذكر ما أمره الله عز وجل به: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وآخر دعوانا أن الحمد لله |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (496) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب استيفاء القصاص إذا تحققت الشروط المطلوبة لتنفيذ القصاص فإن من حق أولياء المقتول أن يستوفوا حقهم بطلب القصاص وتنفيذه، فإذا أرادوا استيفاء القصاص فلابد من شروط لذلك، وهي: أن يكون ولي المقتول مكلفا، وأن يتفق أولياء المقتول على طلب القصاص، وأن يؤمن التعدي في القصاص على الجاني، فإذا تحققت هذه الشروط فإنه يحكم بالقصاص، وإذا تخلف منها شرط لم يحكم به. ولابد من حضور السلطان أو القاضي أو نائبه عند تنفيذ الحكم واستيفاء القصاص، ويجوز أن يكون القصاص بالمماثلة أو بالسيف على خلاف في ذلك. المراد باستيفاء القصاص بسم الله الرحم الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب استيفاء القصاص] . الاستيفاء: استفعال من (وفى الشيء) ، والمراد به: حصول الإنسان على حقه كاملا، يقال: استوفى حقه، إذا أخذه كاملا ولم يترك منه شيئا، ولما كان أولياء المقتول لهم حق عند القاتل، والله سبحانه وتعالى مكنهم من هذا الحق، وجعل لهم سلطانا أن يطلبوه؛ وصف العلماء رحمهم الله تعالى أخذهم لهذا الحق بالاستيفاء، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله تعالى أن يذكروا باب الاستيفاء بعد بيان شروط القصاص؛ لأنه لا يمكن أولياء المقتول من قتل القاتل إلا إذا استوفيت الشروط وتمت الشروط المعتبرة شرعا للقصاص، فإذا ثبت أنه يجب القصاص والقود قلنا لأولياء المقتول: هذا حقكم، فإن شئتم استوفيتموه، وإن شئتم تنازلتم عنه إلى عوض وهو الدية، أو تنازلتم بدون عوض وهو العفو المطلق، فقد خيرهم الله عز وجل بين هذه الثلاثة الأمور: بين أن يأخذوا بالقود والقصاص، وبين أن يأخذوا الدية، فيكون منهم العفو عن القتل ولكن تثبت لهم الدية، وبين أن يعفوا عفوا مطلقا بدون دية وبدون أخذ شيء. وهذا القصاص واستيفاء القصاص هو جوهر القضية ومحور الأمر؛ لأنه عن طريق استيفاء القصاص تسكن النفوس، وتصل الحقوق إلى أهلها، ويشفى الغليل، فإن أولياء المقتول في حنق وغيض بسبب ظلم القاتل وسفكه لدم وليهم. وسفك الدماء لا شك أن مرارته مؤلمة في النفوس، حتى إن المرأة قد تذهل عن عقلها، والرجل يذهل عن نفسه حتى يقتص من قاتل أبيه أو قاتل أخيه، وقد كانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء يشتط الغضب بالواحد منهم فيقتل بالواحد العشرة، ولا تسكن نفسه إلا بقتل العظيم، فإذا قتل له أخ، أو ابن، أو قريب، التمس أعز الناس في عشيرة القاتل فقتله بوليه، ولربما قتل أضعاف العدد، كل ذلك من أجل أن يشفي غليله، حتى قال القائل: فساغ لي الشراب وكنت قبلا أكاد أغص بالماء الفرات أي: أنه كان إذا شرب الشراب لا يستطيع أن يستطيبه، وهذا جبلة في النفوس، ولذلك حكم الله تعالى بالقصاص من أجل قطع أسباب التشفي وقطع بوادر الشر، والتوسع في إزهاق الأنفس، كما قال تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} [الإسراء:33] . وهذا الاستيفاء له ضوابط في الشريعة الإسلامية، حيث يمكن أولياء المقتول من قتل القاتل، ولكن لا بد من وجود شروط إذا توفرت حكمنا بأن لهم حق الاستيفاء، وقد تأتي عوارض وموانع تمنع من الاستيفاء مباشرة، وحينئذ ينبغي أن ينتظر حتى يمكن صاحب الحق من حقه كاملا ويمكن من النظر في أمره على الوجه المعتبر وعلى السنن والرشد. فقوله رحمه الله تعالى: (باب استيفاء القصاص) أي: في هذا الموضع سأذكر لك الأمور المعتبرة للحكم باستيفاء أولياء المقتول حقهم من القاتل، وذلك بالقصاص والقود. شروط استيفاء القصاص قال رحمه الله تعالى: [يشترط له ثلاثة شروط] . أي: يشترط لاستيفاء القصاص ثلاثة شروط لابد من توفرها حتى يحكم بالقصاص: الشرط الأول: أن يكون طالب القصاص مكلفا، فلا يستوفى القصاص إذا طلبه مجنون أو صبي، أو نحوهم ممن ليس بأهل. الشرط الثاني: أن يتفق أولياء المقتول على القتل، فإذا كان للمقتول وليان فعفا أحدهما والآخر طلب القصاص، فلا قصاص، إذ لا بد أن يتفق الاثنان على القصاص، ولو كانوا عشرة فلا بد من اتفاق العشرة، فلو تنازل أحدهم عن القصاص، وقال: أريد الدية، فحينئذ لا قصاص؛ لأننا لو حكمنا بالقصاص لأسقطنا حقه في الدية، وهو يريد حق الدية ولا يريد حق القصاص. الشرط الثالث: أن يؤمن الحيف، ومحل ذلك في المرأة الحامل، فلا يقتص من امرأة حامل، فلو قتلت امرأة امرأة ثم حملت القاتلة أو كان بها حمل، لم يقتص منها حتى تضع ما في بطنها، ثم ينظر هل تنتظر إلى أن تتم الرضاعة أو لا؟ فهذه ثلاثة شروط، قصد منها تحقيق العدل، وتمكين صاحب الحق من حقه على الوجه المعتبر. فالشرط الأول: التكليف، والشرط الثاني: اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص والقود، والشرط الثالث: الأمن من الحيف، وهذه أصول في الاستيفاء سواء في القصاص في الأنفس أم في الأطراف. الشرط الأول: أن يكون ولي المقتول مكلفا قال رحمه الله تعالى: [أحدها: كون مستحقه مكلفا] . قوله: (كون مستحقه) ، الضمير عائد إلى القصاص، (مكلفا) أي: بالغا عاقلا، فالمستحق للقصاص هو ولي المقتول الذي له حق طلب القصاص، وله حق العفو عن القصاص، كأبيه وابنه وأخيه من عصبته، وهل يدخل في هذا النساء؟ فيه قولان لأهل العلم: فمنهم من قال: حق القصاص للقرابة الوارثين سواء أكانوا من جهة النسب أم من جهة السبب، فتدخل الزوجة، وهو الذي عليه الأصحاب في المذهب، وهناك رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهي مذهب المالكية، واختارها الإمام العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى إمام العلماء، أنها للعصبة، والذين قالوا: إنها لأهل الميراث ذكورا وإناثا، فعلى قولهم يكون للزوج الحق، وأما على القول الثاني فليس للأخت ولا للبنت ولا للزوجة حق، وإنما هو حق للرجال العصبة، وهذا هو الصحيح الذي تميل إليه النفس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (أما أنتم يا خزاعة فقد قتلتم القتيل وأنا عاقله) ، ومن جهة قال: (من قتل له قتيل فأهله بخير النظرين) . فقوله عليه الصلاة والسلام في هذه القضية: (من قتل له قتيل فأهله) ، و (أهل) : أصلها في لغة العرب آل؛ ولذلك فإن المراد بهم آل الرجل، وهم عصبته المتعصبون حوله، وهذا يشمل الرجال دون النساء، يقال: آل الرجل في العصبة، وقال الناظم: قال الإمام سيبويه العدل أصل آل لديهم أهل فالأهل في قوله: (فأهله بخير النظرين) أي: قرابته وعصبته. والذين قالوا: إن النساء يدخلن، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأهله) ، والأهل يشمل الزوجة، وهذا ضعيف؛ لأن إطلاق الأهل إذا جاء في جانب العصبة والقتل فالأشبه به الآل والقرابة، تقول: آل فلان، بمعنى قرابته من جهة الرجال لا من جهة النساء. وإما إطلاق الأهل على الزوجة فهذا معروف في لسان العرب، كما قال تعالى: {فقال لأهله امكثوا} [طه:10] ، أي: لزوجته، لكن هنا الأهل بمعنى: الآل، وليس الأهل بمعنى الزوجة والقرابة، وإلا لضاق معنى الحديث: (فأهله بخير النظرين) ، والأشبه في هذا أن يليه الرجال، وهذا صحيح؛ لأن النساء الغالب فيهن الشفقة وفيهن الضعف، وهذا لا تسكن به تارة النفوس، ولا تستقر به الأحوال غالبا، ولذلك فولاية الرجال فيه أحظ وأقوى، وهو الأشبه إن شاء الله تعالى. إذا: يشترط في الولي أن يكون مكلفا، والتكليف فيه جانبان لا بد من توفرهما في الإنسان ليحكم بكونه مكلفا: أولهما: البلوغ، والثاني: العقل. قال الناظم: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولا ظهر وإن كان الصحيح في البلوغ في السن أنها خمسة عشر حولا، لكن المراد أن التكليف له شرطان: أحدهما: البلوغ، والثاني: العقل، فإذا كان ولي المقتول مجنونا فلا يستوفي القصاص حتى يفيق من جنونه، وإن كان صغيرا دون البلوغ فإنه ينتظر إلى بلوغه. فرع: إذا كان الولي صبيا أو مجنونا قال رحمه الله تعالى: [فإن كان صبيا أو مجنونا لم يستوف] . أي: لم يستوف القصاص، فلو أن هذا الصبي قال: اقتلوا قاتل أبي، فنقول: لا يقتص، ولا يستوفى القصاص حتى يبلغ؛ لأنه وهو صغير ضعيف ربما خوف وهدد، وربما عطف على القاتل لضعفه وصغره؛ لأن الله تعالى وصف الذرية من الصغار بأنها ذرية ضعيفة، فلذلك ينظر في أمره تمام النظر، إلا إذا كان بالغا عنده حلم وعقل يميز فيه بين محاسن الأمور وضدها. فلو قال: اقتلوه، وهو صغير، فإنه لا يقتل حتى يبلغ، ولو طلب فإنه لا يقتل، ولو قال: لقد عفوت، فلا يقبل عفوه حتى يبلغ. ولو كان وليه مجنونا، فقال: قد عفوت عنه، لم يقبل عفوه، ولو قال: اقتلوه، لم يقبل طلبه، ولم يستوف القصاص، والسبب في هذا أننا لا نثق بعقله، ومن هنا لا يقتص لصبي ولا لمجنون، فينتظر بلوغ الصبي وإفاقة المجنون. ولكن اختلف في الوالد: فلو أن هذا الصبي قتلت أمه وكانت غير زوجة الوالد؛ إذ لو كانت زوجة الوالد لحمله الحنق والغيظ على أن يطلب القصاص، فالوالد هو وليه، فهل يلي الوالد لابنه القاصر؟ هناك رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه يلي، وقال بها بعض أهل العلم، والصحيح المشهور عند أهل العلم: أنه لا يلي، إنما يلي مصلحة الصبي في تدبير أموره، وأما هذا الأمر فإنه متعلق بالصبي بعينه حتى يبلغ وينظر الأحض، هل يطالب بالقصاص أو يعفو؟ وهناك مسألة ثانية: إذا كان الصبي والمجنون فقيرين محتاجين إلى المال حاجة ماسة، وفي عفو أب الأب عن القصاص مصلحة من حيث وجود الدية، وهذا أرفق بالصبي والمجنون، فهل يعفو ويقبل عفوه؟ من أهل العلم من قبل عفوه في المجنون ولم يقبل في الصبي، والسبب في هذا: أن المجنون يطول انتظاره، ويتضرر بهذا الانتظار، هذا قول. القول الثاني: أن الحكم كما تقدم، وهذا القول أشبه بالأصل وأقوى، فينتظر إلى إفاقة المجنون وبلوغ الصبي، ولو طال انتظار إفاقة المجنون زمنا. قال رحمه الله تعالى: [وحبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة] . حبس الجاني: أن يمنع من الخروج، أو يوضع في موضع لا يمكنه الفرار؛ لأننا لا نأمن من فراره وهربه، حتى ولو جاء بوكيل وكفيل فلا يقبل؛ لأنه لو فر فلا نستطيع أن نقتص من الكفيل، بخلاف الأموال، فيمكننا أن نأخذ من مال الكفيل ونستوفي الحق، فإذا قبل الوكيل والكفيل في هذا غرر بحق أولياء المقتول، ومن هنا لا يقبل كفيل، ولو قال: سيرجع ويأتي عند بلوغه، وهذا كفيل يتكفل بحضوري بعد ثلاث سنوات، أو بعد أربع سنوات، لم يطلق ويبقى في السجن، وأما المعسر في المال فإنه يطلق، والسبب في هذا واضح: وهو أن استحقاق الحق بالقتل ليس كاستحقاقه في المال، والكفيل في المال ليس كالكفيل في النفس، فإنه لو فر القاتل وكان قد وضع كفيلا فبالإجماع لا يقتص من الكفيل؛ لأن الكفيل لم يقتل، ومن هنا لا يقبل قوله: خذوا مني كفيلا، بل يحبس حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون، ولو طال الانتظار إلى عشرات السنين فيبقى في سجنه، فهذه جريمته والحق لصاحبه، إلا إذا عفا من يشارك الصبي والمجنون، فإذا كان مع الصبي والمجنون ورثة وطال الانتظار، فقالوا: ما دام الأمر فيه انتظار فنحن قد عفونا؛ سقط القصاص، ففي أحكام الشريعة إن وجدت فيها تشددا وجدت فيها رحمة من وجه آخر. فقد ينتظر إلى إفاقة المجنون فتلين قلوب أولياء القتيل، وقد لا تلين والله تعالى أعلم بخلقه، وأحكم في تدبيره، فإن طال الأمر إلى إفاقته عذب بجريمته، وإن لم يطل فإنه قد يعفو الأولياء، ويتذمرون من طول الانتظار فيعدلون إلى الدية ويعفون. وحينئذ لا بد من الانتظار سواء أكان المجنون فقيرا أم كان الصبي فقيرا، ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون، والدليل على حبس القاتل: إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فإن هدبة بن خشرم وهو الصحابي المعروف الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم المال بالنهد، قتل، ورفع الأمر إلى معاوية رضي الله عنهما، وكانت الحادثة في عهد معاوية رضي الله تعالى عنه، وكان ولي المقتول يتيما، فحبس هدبة إلى بلوغ اليتيم، وشفع الحسن والحسين رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة في أمره فلم يشفعوا، وقتل بمن قتله، وانتظر إلى البلوغ، ولم ينكر أحد من الصحابة فعل معاوية رضي الله تعالى عن الجميع، ولذلك قالوا: في هذه المسألة إجماع سكوتي، فلم ينكره أحد، وجرى عليه عمل السلف أنه إذا كان ولي المقتول صبيا لم يبلغ ينتظر إلى بلوغه، ويحبس القاتل ضمانا لحق المقتول ووليه. الشرط الثاني: اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص قال رحمه الله تعالى: [الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه] . قوله: (اتفاق الأولياء المشتركين فيه) أي: في حق القصاص والقود، (على استيفائه) : أي على طلب القتل، فلو أن المقتول له عشرة من الأولياء، وهم قرابته الذين لهم حق القصاص، فسامح واحد منهم، أو عفا واحد منهم، سواء عفا إلى دية أم عفا بدون دية، فإنه يسقط القصاص ويعدل إلى الدية، فإذا عدل إلى الدية وقال: أنا سامحت عن كل شيء، ولا أريد دية ولا أريد شيئا، فقد سقط عشر الدية، وتبقى التسعة الأعشار للباقين، فإن أرادوا أن يعفوا أيضا سقطت الدية كلها وسقط القصاص، وإن قالوا: نريد حقنا من الدية، أخذ كل واحد حقه ونصيبه، وعلى كل حال هناك تفصيل في هذه المسألة، لكن الأصل أن عفو بعض الأولياء يسقط القصاص، والسبب في هذا: أن له حقا، والقصاص لا يتبعض؛ لأن الآخر يريد الدية، فإذا أراد الدية وقتل القاتل لم نستطع دفع الدية إليه. ومن هنا فلا قصاص مع عفو بعض الأولياء، وليعدل إلى الدية ولا بد بناء على هذا، وهذا الأمر بإجماع عند العلماء أنه لا بد من اتفاق الأولياء على طلب القصاص، وهو القتل. قال رحمه الله تعالى: [وليس لبعضهم أن ينفرد به] . قوله: (وليس لبعضهم) أي: بعض المستحقين للقصاص إذا طالب بالقتل فليس له ذلك، فلو أنه قتل رجل آخر وكان له ثلاثة أولياء مستحقون للقود والقصاص، فقام أحدهم وقتله قبل أن يحكم بقضيته، وقبل أن يحكم القاضي بالاستيفاء، فإذا قتله فإما أن يقتله قبل عفو الباقين، وإما أن يقتله على اتفاق الباقين على القتل، أو يقتله وقد عفا بعضهم وطالب الآخرون، فهذه ثلاث حالات: أما الحالة الأولى: فإذا قتله وقد اتفق الجميع على قتله فلا إشكال أنه لا قصاص؛ لأنه سيقتل أصلا، لكن يؤدب ويعزر؛ لأنه كان ينبغي أن يناط الأمر بولي الأمر حتى يمكنه من حقه، فلما استعجل وقتل كان هذا منه افتياتا على الحاكم والقاضي كما يسمونه، فحينئذ يعزر بما يناسبه. وأما الحالة الثانية والثالثة: فهي أن يعفو الجميع، أو يعفو بعض الأولياء، كاثنين شريكين في القصاص، فقام أحدهما وقال: عفوت، فغضب الآخر وأخذ سلاحه وقتله، فإذا ثبت العفو عند القاضي، فإنه حينئذ يقتص من هذا الثاني؛ لأنه إذا ثبت العفو حقن دم المقتول الذي هو القاتل في الأصل، فإذا جاءه وقتله فقد قتله بدون وجه حق؛ لأنه ليس له حق في القتل، وحينئذ يقتص منه في قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى؛ لأنه في هذه الحالة لا حق له في القصاص؛ لكن إذا لم يعلم بعفوه وجاء وقتله، وهو لا يعلم أن شريكه قد عفا، فحينئذ تكون شبهة، ويدرأ عنه الحد ولا يقتص منه. إذا: إذا اتفقوا على طلب القصاص، ولم يحكم القاضي بالاستيفاء، وقتل بعضهم، فإنه لا قود ولا قصاص على هذا القاتل؛ لأنه طلب حقه، وهو مقتول لا محالة، وحينئذ لم يتعد، وإن عفا بعضهم وثبت عفوه عند القاضي وعلم شريكه، فأخذه الحنق وقتل، فقد قتل معصوما، وحينئذ ليس له حق في هذا القصاص؛ لأنه بعفو شريكه سقط القصاص، وحينئذ يكون كأنه قتل معصوما، فإذا استوفيت الشروط يقتل به ويقتص منه، وأما إذا لم يعلم بعفوه وقتله، أو قتله قبل أن يسأل هل عفا أم لم يعف؟ فإنه لا يقتص منه لوجود الشبهة. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان من بقي غائبا أو صغيرا أو مجنونا انتظر القدوم والبلوغ والعقل] . أي: إذا قال بعض الورثة: نريد القصاص، ولهم شركاء فيه كصبي أو مجنون أو غائب؛ فإننا ننتظر الغائب حتى يأتي، وننتظر المجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ، كما قدمنا في مسألة المستحق، ففي هذه الحالة لا يقتص بقول بعضهم. فلو كانوا عشرة، وطالب الأكثرون كتسعة مثلا، وبقي يتيم قاصر دون البلوغ، فإننا نقول: لا حق لكم حتى يبلغ هذا اليتيم، فإن طلب القصاص اقتص، وإن لم يطلب القصاص فلا إشكال أنه يعدل إلى الدية أو العفو المطلق على حسب الحال. وبناء على ذلك: لا ننظر إلى الأكثرية، ولا ننظر إلى نوعية الذين عفوا والذين هم غائبون، إنما ينظر إلى إجماعهم واتفاقهم، وهذا الذي عبر به المصنف باتفاق أوليائه، فلابد أن يتفق المطالبون بالقصاص على طلب القصاص. الشرط الثالث: أن يؤمن التعدي في القصاص على الجاني قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أن يؤمن الاستيفاء أن يتعدى الجاني] . لو قال: (أن يعتدى على الجاني) لكان ممكنا، لكن مراده: أن يؤمن في القصاص التعدي، فالأصل أن يؤمن الحيف، فبعضهم يقول: أن يؤمن الحيف، وبعضهم يقول: أن يؤمن الاعتداء والزيادة، والمراد بهذا: أن نأمن عند حكمنا بالقصاص الزيادة على الحق. وتوضيح ذلك: أن القاتل يقتل، ولا يقتل معه غيره، فلا يؤخذ بجريمته من لا جريمة له، وتبرز هذه الصورة وتتضح أكثر شيء في المرأة الحامل، ففي بطنها الجنين الذي لا ذنب له، وحينئذ لو قتلناها قتلنا نفسين بنفس واحدة، والله عز وجل يقول: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] . وبناء على ذلك: لا يقتل هذا الجنين؛ لأنه لا ذنب له، فينتظر إلى وضعها، فذكر العلماء هذا الشرط تنبيها على هذه المسألة: أنه لا تقتل المرأة الحامل حتى تضع ما في بطنها، والأصل في ذلك في الحدود: قصتا المرأتين اللتين زنتا وأتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما محصنتان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولي المرأة أن يبقى معها حتى تضع ما في بطنها ثم يأتي بها إليه، وفي الثانية قال: حتى ترضعه؛ لأنه لم يوجد من يقوم به ويرضعه، فهذا يدل على أنه لا يجوز التعدي على المرأة الحامل؛ لأن الجنين لا ذنب له، ثم ينظر إذا وضعت ما في بطنها أمرت بسقيه اللبأ؛ لأنه يكون به أوده وحياته، ولا بد له منه، وهو اللبن الذي يكون بعد الولادة، ثم ننظر في رضاعته، فإن وجدت امرأة بدلها ترضعه وتقوم عليه أخذت أمه واقتص منها وقتلت، وإن لم يوجد امرأة ترضعه والولد متعلق بأمه لا يريد إلا أمه ولا يرتضع إلا من أمه، مثل ما وقع لموسى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} [القصص:12] ، فبعض الأولاد فيهم حساسية لا يمكن أن يقبل إلا ثدي أمه، فإذا أبى أن يقبل إلا ثدي أمه، فإنه في هذه الحالة لو قتلنا أمه لقتلناه معها؛ لأنه سيمتنع من الرضاعة وسيموت، أو يتضرر في صحته، فحينئذ يكون قد حصل القصاص من الجاني وزيادة، وهي زيادة الضرر على الجنين، فننتظر إلى أن ترضعه وتفطمه، ثم بعد ذلك يقتص من هذه الأم. إذا: الشرط أن يؤمن الحيف، كما يعبر بعض العلماء، وأن تؤمن الزيادة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل} [الإسراء:33] ، فقتل الأم مع جنينها إسراف في القتل؛ لأن معنى (لا يسرف في القتل) أي: لا يزيد على قتل القاتل، وأخذ الجاني بجنايته دون أن يستتبع من لا حق في قتله، أو يستتبع في الحق الضرر به كالجنين بعد وضعه. ومن هنا فجمهرة العلماء رحمهم الله تعالى نصوا على أن الجنين لا يقتل مع أمه، فلا تقتل الأم وهي حامل بجنينها، حتى لا يكون إزهاقا لنفسين بنفس واحدة، فليس بالعدل أن تقتل النفس البريئة مع النفس القاتلة في مقابل نفس واحدة، هذا هو وجهه. فيشترط الأمن من الحيف، والأمن من التعدي على الجاني، وذلك التعدي على الجاني بقتل ولده معه ونحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ] . قوله: (إذا وجب) ، أي: القصاص على امرأة في بطنها جنينها، فهذا لا إشكال فيه مثل ما ذكرنا. فلو أنها كانت حائلا قبل الحكم، فعند جنايتها كانت حائلا، ثم جامعها زوجها، وحملت، وظهر الحمل بعد حكم القاضي بالقصاص والاستيفاء، وثبت عند القاضي، وطالب أولياء المقتول واستحق القصاص، ولم يبق إلا التنفيذ، وعند التنفيذ وجدت حاملا، فإنه لا يقتص منها، فليست العبرة بحالها أثناء القتل؛ لأنها أثناء القتل كانت حائلا، فالعبرة وجود الضرر والتعدي أثناء القصاص والاستيفاء، ويستوي في هذا أن تكون حاملا في بداية حملها، أو أن تكون حاملا في نهاية حملها، أو وسطا بين ذلك؛ لأن العلة هي أن لا يتعدى في القصاص، وهذا يشمل هذه الأحوال كلها. وإذا قالت: إني حامل، فقال أولياء المقتول: ليست بحامل، بل هي حائل، عرضت على أهل الخبرة، فإن قالوا: إنها حامل انتظرت، وإن قالوا: إنها حائل اقتص منها، والآن في زماننا يمكن اكتشاف ذلك والتثبت منه على وجه بين. قال رحمه الله تعالى: [ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه] . قوله: (ثم إن وجد من يرضعه) أي: يرضع هذا الصبي الذي وضعته، فإن وجد من يرضعه فلا إشكال، وحينئذ يدفع إليها وترضعه، وإن لم توجد من ترضعه، أو وجدت امرأة ترضعه ولكنه لا يقبلها، ولم يرض بها، فحينئذ وجودها وعدمها على حد سواء فينتظر حتى تفطمه. قال رحمه الله تعالى: [ولا يقتص منها في الطرف حتى تضع] . ذكر المصنف رحمه الله تعالى القصاص في الطرف وألحقه بالقصاص في النفس في هذه المسألة؛ لأن المرأة الحامل إذا قطعت يدها ففي الغالب أنها تسقط جنينها، ولا تتحمل، بل تسقط ما هو أخف وأقل من هذا، وبناء على هذا ينتظر إلى أن تضع الجنين، وبعد أن تضع الجنين يقتص منها، وهكذا لو كانت زانية وحملت من الزنا، فإذا كانت بكرا وأريد جلدها انتظر حتى تضع، وإن كانت محصنة ففي هذه الحالة ينتظر وضعها للجنين ولو كان من الزنا، ثم بعد ذلك يقام عليها الحد. والقصاص في الأطراف وإقامة الحدود حكمهما حكم القصاص في النفس، فالمسألة تدور حول أصل واحد، بل إن الحد وتنفيذ الحد هو الأصل في تأخير تنفيذه على المرأة الحامل، كما ذكرنا في قصة المرأتين اللتين زنتا، والحديث في أمرهما صحيح وثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وذكر المصنف رحمه الله تعالى مسألة القصاص في الأطراف من باب التنبيه بالنظير على نظيره، وهذه يسميها العلماء: مسائل النظائر، وإذا جاءوا يبحثون يقولون: المظان، فهناك مسائل تذكر تبعا ليست في أصل الباب؛ لأن الباب القصاص في النفس. وقد يقول قائل: كان ينبغي أن يؤخر مسألة القصاص في الأطراف من الحامل إلى باب القصاص في الأطراف، ولكن المصنف ذكر هذا من باب المظان، ومن هنا يعتني العلماء بذكر المسائل بأقربها شبها، وتعرف هذه بالمظان، بمعنى: تذكر في أقرب المواضع وتجمع المسائل مع أنها ليست تحت الباب. ولذلك قال رحمه الله تعالى: [والحد في ذلك كالقصاص] . وهذا هو الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من تنفيذ الحد لخوف الضرر على الجنين، وهو أصل المسألة، والحد في ذلك كالقصاص؛ بل هو أصل مسألة القصاص، فلو شربت الخمر -والعياذ بالله تعالى- امرأة حامل، أو زنت، أو قذفت، فإنه ينتظر إلى أن تضع ما في بطنها، ثم يقام عليها حد الزنا وحد القذف وحد الخمر، وهكذا لو سرقت فلا تقطع يدها، بل ينتظر حتى تضع ما في بطنها، ثم بعد ذلك تقطع يدها، للعلة التي ذكرناها. حضور السلطان أو نائبه وشرط آله القتل في استيفاء القصاص قال رحمه الله تعالى: [فصل: ولا يستوفى قصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه وآلة ماضية] . هناك مراحل للقصاص: المرحلة الأولى: أن يحكم القاضي بثبوت القصاص. المرحلة الثانية: مرحلة التنفيذ للقصاص، ولا يمكن أن ينفذ القصاص إلا بعد ثبوت الحق وحكم القاضي به، فإذا قضى القاضي بتنفيذ القصاص، فينبغي أنه ثبت لفلان حق القصاص، فالتنفيذ يفتقر إلى أمور لا بد من وجودها: أولها: أنه لا يستوفى إلا بحضرة السلطان، أو الحاكم، أو القاضي، أو من ينيبه، وذلك لأنه قد تطرأ أمور أثناء تنفيذ الحد لا بد من الرجوع فيها إلى رأي القاضي وحكمه، وهذا أصل حتى في الحدود، والسبب في ذلك: تلافي الضرر بعدم وجود القاضي والحاكم. وبعض العلماء يقول: لا يشترط، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لولي الدم: (اذهب فاقتله) ، فأمره أن يذهب ويقتله، ولم ينصب وكيلا عنه عليه الصلاة والسلام، ولأن ماعزا لما آذته الحجارة وأدرك حرها فر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه لعله يرجع فيتوب فيتوب الله عليه) ، وفي رواية: (يراجع نفسه) . وأصحاب القول الأول قالوا: إنه إذا أقر بالزنا، وكان القاضي موجودا، وقال: لقد رجعت عن إقراري، أوقف التنفيذ؛ لأنه لا يوقف التنفيذ إلا بحكم القاضي، ومن هنا يمكن أن يحتاط لدماء الناس وحقوقهم؛ لأن هذا يسمونه: حق الجاني بعد صدور الحكم، فللجاني حقوق بعد صدور الحكم عليه، ولا يمكن الاحتياط فيها بالشيء على الوجه المعتبر إلا بوجود القاضي أو الحاكم أو كل منهما. والحمد لله تعالى فهذا موجود في زماننا، وقد جرت العادة في المملكة -ولله الحمد- أنه يوجد من يكون وكيلا عن القاضي، وهذا على الحقيقة فيه احتياط، وهو أحوط المذهبين؛ لما فيه من صيانة لحق الجاني، وخوف أن تطرأ أمور يحتاج فيها إلى النظر، وحينئذ تحقن دماء الناس وتحفظ، ولا ينفذ القصاص على الوجه المعتبر إلا بحضور الحاكم أو نائبه، وحضور الحاكم لا شك أنه أبلغ في الزجر، وأبلغ في تنفيذ حكم الله عز وجل، وأكثر تعظيما لشعائر الله عز وجل، ولذلك حضر الخلفاء الراشدون، وكان بعضهم يحضر تنفيذ الحد وتنفيذ القصاص؛ لما في ذلك من إعلاء كلمة الله عز وجل وحصول الهيبة أكثر وأبلغ. أما كون الآلة حادة، فهذا أصل في الشريعة أنه لا يعذب عند القتل، وعند إزهاق الروح، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) ، وهذا في البهائم فالآدمي من باب أولى، فإذا أريد القصاص فيجوز أن يمكن القاضي ولي المقتول من الجاني، ويقول له: هذا قاتل أبيك فاقتله إن شئت. فيكون ولي المقتول معه سلاحه أو سيفه، وهذا في القديم كان موجودا، فإذا قال: أريد أن أقتله بنفسي، ينظر في سيفه والآلة التي يريد أن يقتل بها، فإنه ربما كانت كالة -أي: لم يحدها كما ينبغي- فيضر بالقاتل إذا قتله، فإذا كانت كالة ليست ماضية عذب بها الجاني؛ لأن هذا لا ينفذ الإزهاق بسرعة فيتعذب، وهذا لا يجوز. وكذلك أيضا ربما وضع السم في آلته، وهذا كان يفعله بعضهم، وهو زيادة في التعذيب؛ لأن القاتل ما قتل بهذا الوجه، وحينئذ لابد أن تتفقد آلة القاتل، لكن في زماننا وضع من يقوم بالتنفيذ من بيت مال المسلمين، وهذا نص عليه بعض العلماء، وأريح الناس من هذه الأمور، وكفوا فيه، وحصل بحمد لله عز وجل الرفق في كثير من هذه الدواخل والاعتبارات التي ربما يفعلها بعض الأولياء احتيالا لحقه، ومبالغة في التشفي، لكنهم نصوا على هذا الأصل أن على القاضي أن يتفقد آلة القاتل وينظر فيها. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
المماثلة في القصاص وخلاف العلماء فيها قال رحمه الله تعالى: [ولا يستوفى في النفس إلا بضرب العنق بسيف] . هذه المسألة في الحقيقة فيها تفصيل، والذي اختاره المصنف رحمه الله تعالى أنه لا قود إلا بالسيف، وحينئذ إذا قتل المقتول قلنا لأوليائه أو لمن يقوم بالتنفيذ: خذ السيف واضرب عنق القاتل، فهذا ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى. لكن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء حاصله: أن القاتل إذا قتل بطريقة، وطالب أولياء المقتول وعصبته أن يقتل بنفس الطريقة؛ كان من حقهم ذلك، فإذا أخذ المقتول وقطع يده، ثم قطع يده الثانية حتى نزف ومات، فنقول لأوليائه: اقطعوا يديه بالطريقة التي قطع بها يدي المقتول. ولو أنه أخذه وضربه بحجر على رأسه، فرضخ رأسه فمات، قلنا لهم: خذوا حجرا كالحجر الذي قتل به، واضربوه مثلما ضربه، هذا هو الأصل في القصاص، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن جارية من الأنصار وجدت قد رض رأسها بين حجرين -أي: أخذت المسكينة بين حجرين وضرب رأسها حتى ماتت- فقيل لها: من فعل بك؟ فلان فلان؟ حتى ذكروا يهوديا، فأشارت برأسها: أن نعم، فأخذ اليهودي فأقر واعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ رأسه ويرض بين حجرين، وفعل به مثل ما فعل بالجارية) ، ولأن الله تعالى يقول: {كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] ، والقصاص: من قص الأثر إذا تتبعه، فنتتبع جناية الجاني، ونفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه، وهذا في الحقيقة يختاره غير واحد من العلماء، أي: أن يفعل بالجاني مثلما فعل، إذا طلب ذلك أولياء المقتول، فلو قال أولياء المقتول: لا نريد أن نقتص بالسيف، بل نريد أن نشفي غليلنا وأن نأخذ حقنا كاملا بأن نفعل به مثلما فعل بالمجني عليه؛ كان من حقهم هذا، ويمكنون من هذا الحق. ولو أنه أخذه فغمسه في الماء حتى غرق ومات، قلنا لهم: خذوه فاغمسوه في الماء مثلما غمسه، ولو ربطه ورماه في بركة حتى مات، قلنا لهم: اربطوه كما ربط المقتول، وارموه في بركة مثلها يموت غرقا كما قتل غرقا، ولو أنه أحرقه فوضع الوقود عليه، ثم أشعل عليه النار فأحرقه، قلنا لهم: خذوا الوقود وافعلوا به مثل ما فعل بالمجني عليه. وهذا أبلغ في زجر الناس، وأشد هيبة في زجر المجرمين والعصاة، ولو أن ولي الأمر في بعض الأحوال المستثناة يفعل هذا عند استشراء القتل في الناس؛ لكان أبلغ في زجرهم، وهو أبلغ في إسكان الثائرة، وهدأة النفوس، ولكن العبرة بالقتل، فإذا قتل يقتل وقد جاء في حديث ابن ماجة رحمه الله تعالى: (لا قود إلا بالسيف) ، ولكنه حديث ضعيف، ولو حسن لعارض ما هو أصح منه، فإن حديث الجارية في الصحيحين. ولكن لو أنه قتله بطريقة محرمة، مثل أن يسقيه خمرا -والعياذ بالله تعالى-، ويبالغ في سقيه حتى يموت، فإذا سقي الجاني الخمر سكر، وحينئذ لا يجوز لنا أن نسقيه الخمر؛ لأن هذا يفضي إلى حرام، فلا يفعل به مثلما فعل في هذه الحالة، ولا يوجر الخمر في حلقه حتى يموت؛ لأنه يؤدي إلى حرام، فهذا يستثنى، ولذلك قالوا: يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه ولأوليائه الحق في طلب ذلك، ويمكنهم السلطان والقاضي من ذلك، بشرط ألا يكون الفعل محرما ولا يمكن الاستيفاء به مثل ما ذكرنا في الخمر. ومن أمثلتها في زماننا المخدرات، حيث يحقنه بكمية كبيرة من المخدر تقضي عليه، فإنه لا يمكن أن نقول لأوليائه: احقنوه؛ لأنه في هذه الحالة سيسكر، وستؤثر عليه قبل الإزهاق، ولا يجوز تعاطي المسكرات والمخدرات، فحينئذ يعدل إلى السيف وتدق عنقه ويقتص منه بالسيف. قال رحمه الله تعالى: [ولو كان الجاني قتله بغيره] . أي: ولو كان الجاني قتله بغير السيف كما ذكرنا، فالمصنف يرى أنه لا قصاص إلا بالسيف، لحديث: (لا قود إلا بالسيف) ، وهذا مرجوح، والصحيح أن لأولياء المقتول أن يطالبوا بالقصاص مماثلة، وهذا ما يسميه العلماء: القتل بالمماثل، فإن أخذ حديدة عريضة فضربه في رأسه فشق رأسه نصفين، قلنا لهم: خذوا نفس الحديدة أو مثلها، واضربوه بمثل ما ضرب به وليكم، وإن أخذه فغطه وكتم نفسه، أو فعل به أي فعل محرم فنقول لهم: خذوه وافعلوا به مثل ما فعل، وهذا هو الأصل، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كتاب الله القصاص، كتاب الله القصاص، كتاب الله القصاص) ، فنحن نقتص من الجاني بأخذه بجنايته مماثلة. الأسئلة حكم القصاص داخل حدود الحرم السؤال ما حكم القصاص داخل حدود الحرم؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالقصاص في الحرم فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى، فمن أهل العلم من قال: يقاد في الحرم، خاصة إذا حصل الإزهاق في الحرم، فمن قتل في الحرم قتل في الحرم، وهذا للأصل الذي ذكرنا؛ لقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] ، ولأن القاتل لم يعظم الحرم فيؤخذ بجنايته وجريمته، ولأننا لو لم نقتص ممن يجني في الحرم، أو لا نقتص من الشخص إذا كان داخل الحرم، فمعنى ذلك أن نجعل الحرم محلا للمجرمين والمفسدين، فكل قاتل إذا قتل لا يسعه إلا أن يدخل البلد الحرام حتى لا يتعرض له، وفي هذا من الشر والبلاء ما الله تعالى به عليم، بل تصبح هذه البقعة المفضلة المشرفة بقعة أهل الفساد وأهل الشر، وهذا كله يناقض شرع الله عز وجل، وبناء على ذلك قالوا: يقتص من الجاني ولو كان في الحرم، وهذا أقرب إلى الأصول وأوفق، والله تعالى أعلم. الجمع بين شرعية المماثلة في القصاص تحريقا وبين النهي عن التعذيب بالنار السؤال إذا قلنا بالمماثلة في القصاص لو قتل بالتحريق، فكيف يجمع بين ذلك وبين النهي عن التعذيب بالنار؟ الجواب لا تعارض بين عام وخاص، فالنهي عن التعذيب بالنار عام، والمماثلة في التحريق قصاصا خاصة؛ لقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] ، فهذه مسائل مستثناة، والفقه أن تنظر إلى الأصول العامة وما استثني منها، فتجعل الأصل العام كما هو، وتبقي المستثنى على استثنائه، وبهذا تكون عملت بشرع الله عز وجل وطبقته، فالله تعالى قال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] . فالنهي عن التحريق نهي عن عقوبة مبتدأة وعقوبة منشأة، فلا ننشئ العقوبة بالتحريق، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، ولكن هذا أخذ بالجناية والجريرة، وأمرنا الله عز وجل أن نعاقب بمثل ما عوقبنا به، ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ينهى عن التمثيل، وقال لأميره على السرية: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، لا تقتلوا شيخا ولا صغيرا ولا امرأة، ولا تمثلوا، ولا تغدروا) ، فقوله: (ولا تمثلوا) ، نهي عن التمثيل بالقتلى، ولما خرج العرنيون إلى إبل الصدقة، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا المسامير من النار فسملوا بها عين الراعي، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل بهم مثلما فعلوا بالراعي، فسمل أعينهم، وفي رواية: (سمل وسمر) ، والله تعالى يقول: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] ، فهذه أمور وأحوال مستثناة لوجود الموجب بصفائهم. وبناء على ذلك: يجوز في هذه الحالة أن يقتص من الجاني بمثل جنايته، ومن باب المماثلة ما يوجد الآن عندنا من الأكسيد -أعاذانا الله تعالى وإياكم- والمواد الحارقة، والمواد الكيماوية، حيث يؤخذ المقتول ظلما ويصب على رأسه وبدنه من هذه المواد، أو يربط ويقتل بأبشع الصور، فيؤخذ مثل هؤلاء المجرمون ويوضعون أمام الناس، ويفعل بهم مثل ما فعلوا بالمجني عليهم، ليكون فيه من الزجر والردع، خاصة في هذه الأمور من القتل الذي توسع فيه بعض الناس، وفي الجرائم المنظمة، فهذا لا شك أنه يردع، ويكون وقعه في النفوس بليغا، فالجاني يكبت بجنايته، ومن تسول له نفسه ذلك يرتدع عن الإقدام في فعله، وهذا هو مقصود الشرع أن يرتدع الناس، قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، قالها أصدق القائلين وأحكم الحاكمين، بل الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى، فإذا اقتص من الجناية بمثلها، أيا كانت هذه الجناية ما لم تكن محرمة، فلا إشكال أن هذا أبلغ وأوجب في حصول المقصود شرعا، والله تعالى أعلم. حكم الرجوع في العفو عن القصاص السؤال إذا طالب أبناء المقتول بالقصاص، وعفا أحدهم فطلب الدية، فقال إخوته: نحن نعطيه حقه من الدية من أموالنا، ونريد أن نمضي القصاص، فهل يمضي؟ الجواب لا يمضي، وهذا حكم جديد، فلو أعطوه ملء الأرض ذهبا فلا يمضي القصاص، فإن قال: قد عفوت، فقد عفا، وبناء على ذلك يسقط القصاص، وهذا أصل. فإن كانوا يريدون أن يرضوه بالمال فإنهم لم يرضوا المقتول الذي سيقتل؛ لأن الحق للمقتول الذي هو الجاني في الأصل، أما إذا اتفقوا فيما بينهم وقالوا: ما دام أنك فقير ومحتاج، وتريد المال، فنحن نعطيك المال ولا تعف، فهذا شيء آخر، إذ قد يكون الشخص مجرما مفسدا، وفي القرابة رجل ضعيف، أو فيهم من عنده حنق وغيض، وخافوا أنه إذا لم يقتل الجاني بالقصاص أن يذهب ويقتله، فيحصل ضرر، فأرادوا أن يضغطوا على قريبهم أن لا يعفو، فلهم الحق أن يضغطوا على قريبهم حتى لا يعفو، وهذا شيء يتفاهمون فيه بينهم. أما من ناحية شرعية فإذا قال: قد عفوت، فقد عفا وسقط الحق، ويصبح الحق مشتركا؛ لأنه حق للقاتل أن لا يقتل، وحق لهذا الذي عفا، وهو أن يكون له حق في الدية، والله تعالى أعلم. الآداب الإسلامية تجاه من حد واقتص منه السؤال يسمع من بعض الناس إذا تم تنفيذ القصاص على القاتل الشتم والسب واللعن، فهل يجوز هذا؟ أم أنه تطهر من جنايته بهذا الحد؟ الجواب لا يجوز أن يسب ويشتم ويلعن القاتل، ولا من طبق عليه الحد؛ كالزاني وشارب الخمر، فلا يجوز لأحد أن يلعنهم، أو يسبهم، أو يشتمهم، فالله تعالى أقامهم أمام العباد اعتبارا، ولم يقمهم شماتة، ولم يقمهم من أجل أن يعيرهم الناس، أو يسبوهم وينتقصوهم، فلا يجوز هذا، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما جلد شارب الخمر، قال بعض الصحابة: تبا له، وزجروه، فقال عليه الصلاة والسلام: مه! لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله) ، فرجل تقطر لحيته من الخمر وقالوا: تبا له، ومع ذلك قال: (لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله) ، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} [الحجرات:11] ، فاحمد الله تعالى على العافية، واشكره أن عافاك. وقد يكون الإنسان مبتلى بذنوب ويفضحه الله تعالى بها لكي يرفع درجته؛ لأنه يطهره بها في الدنيا، ثم يصلح له حاله ويحسن له خاتمته، وقد يكون غيره ممن يراه يحد يفعل الذنب ويستره الله عز وجل، فيتراكم عليه الذنب تلو الذنب تلو الذنب، حتى يهلك، وقد يكون ذلك سببا في سوء خاتمته والعياذ بالله تعالى، فلا يدخلن أحد بين الخالق والمخلوق، وهذا ربهم وهو أعلم بهم سبحانه وتعالى، قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون} [الشعراء:113] ، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل. وهكذا في أهل الجرائم وأهل الفسوق وأهل الجنايات، لا يسخر الإنسان منهم، ولكن يقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به ويشعر بالضعف والمسكنة والحاجة إلى ربه تعالى، فإن الله تعالى إذا أراك عورة من أخيك لم يركها لكي تشمت به، ولكن أراكها لكي تعرف مقدار نعمة الله تعالى عليك، وفضله وجميل إحسانه وجليل كرمه عليك، فلا تسئ إلى عباد الله تعالى، والله تعالى يقول: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} [الحجرات:11] . ومن هنا قال بعض العلماء: إن المظاهر ليست قطيعة الدلالة على الجواهر، وقد تجد الرجل لحيته إلى نصف صدره، وهو من أكثر الناس حقدا وحسدا وكراهية للناس واحتقارا للناس، وقد تجد الرجل حليقا وترى حاله فتزدريه، كأنه غير صالح، ولكنه من أبر الناس بوالديه، وأوصلهم لرحمه، وأكثرهم جودا وكرما وسخاء، فالمظاهر ليس فيها كل شيء، والعبرة بالجواهر والحقائق، وصحيح أن المظاهر تتبع الجواهر، لكن لا يسخر من الإنسان. وقد ترى الإنسان مبتلى بشرب الخمر، وهو من أحسن الناس في أشياء يفعلها في جوده وكرمه، وستره لعورات المسلمين، وتفريجه لكرباتهم، وما يكون منه من الخير قل أن يوجد له نظير، ولكن الله تعالى ابتلاه بشرب الخمر، وليس معنى هذا أنه قد انتهى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب) ، والتثريب: الملامة، فنهاه أن يلومها بعد إقامة الحد، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه القاذروات فأبدى لنا صفحة وجهه أقمنا عليه حد الله) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أقيم عليه الحد فهو كفارة له في الدنيا) ، فهذا أصل، فلا تحتقر أهل الجرائم ولا تشمت بهم، ولا تتبع الحديث عنهم، فإذا أقيم عليهم الحد فهو كفارة لهم وطهارة لهم، خاصة في الحدود التي هي غير القتل، أما القتل ففيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله، لكن ينبغي للإنسان أن يخاف، وكم من معافى ابتلاه الله تعالى بتعييره للغير. والتعيير والانتقاص يكون على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون في الجنان والقلب، والصورة الثانية: أن يكون في اللسان. فإذا رأيت عاصيا، أو رأيت مبتلى، أو رأيت أحدا يفعل معصية، فلا تشمت به ولا تتكلم عليه، ولا تقل: كيف يفعل هذا؟ وما يليق به أن يفعل هذا، ولماذا يفعل هذا؟ فهذا ليس من شغلك ولا من شأنك. وإنما من شغلك وشأنك أن يتفطر قلبك بين يدي الله تعالى، وتقول: يا رب! لك الحمد على العافية، اللهم عافه ولا تبتلني، واسأل الله تعالى لأخيك وادع له بظاهر الغيب، فهذه نصيحة المؤمن لأخيه المؤمن، أما أن يذهب ويشمت به، ويشهر به، ويكون حديثه في المجالس أرأيتم فلانا كيف فعلوا به؟ وفلانا الذي فعل؟ ولربما يتوب هذا المسكين، ويأتي هذا يعيره ويتابعه وهذه هي المصيبة العظمى التي ابتلي بها المسلمون، خاصة في هذه الأزمنة الأخيرة، فالعصاة والمجرمون إذا دخلوا السجون قضي عليهم، وانتهى أمرهم، وإذا أقيمت عليهم الحدود أصبحوا محل نبذ من الناس، وهذا لا ينبغي، فإذا أقيم الحد على الإنسان فلتفتح له أبواب التوبة وأبواب الصلاح، وأبواب الاستقامة، وليزره أهل الخير، ويقولون له: لعل الله عز وجل أن يبارك لك فيما بقي من عمرك، ولا تيأس، وكلنا خطاء وكلنا مذنبون، والأمل في الله تعالى كبير، فإن الله تعالى يحب أن يهدى عبده، ويحب أن يتوب عبده إليه. فانظر إذا جعل الله تعالى توبته على يدك، وانظر كم يكون من الخير للأمة حينما يفتح لمثل هؤلاء أبواب الأمل، وهم مكروبون منكوبون منبوذون، يحتاجون إلى من يرحمهم، ويحتاجون إلى من يحتويهم، ويحتاجون إلى من يريهم بارقة الأمل لكي تصلح أحوالهم، وما أرسل الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام عذابا على العباد، وإنما أرسله رحمة للعالمين، وأرسله سعة لا ضيقا، وأرسله رحمة لا عذابا، ويسرا لا عسرا، وقد قال بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) ، وقال: (إن منكم منفرين) . فهذا الذي ينصب نفسه للدخول بين الناس وبين ربهم، والاطلاع على أعمال العباد والتشهير بهم، قد فعل سوءا بنفسه وبالناس، ولا والله ما اتقى الله تعالى في نفسه ولا في عباد الله تعالى. وعلى الإنسان أن يذكر نفسه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق، فالمرأة أمة عند سيدها، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (فليجلدها الحد ولا يثرب) ، وهو سيدها الذي يعير بها ويؤذى بها، ومع ذلك يقول: (ولا يثرب) ، قالوا: لأن التثريب يحطم الإنسان، ويقتل معاني الأمل في نفسه، ويجعله كأنه انتهى، وهذا هو الذي نجده كثيرا خاصة في هذه الأزمنة. وعلى الهداة والدعاة والمصلحين والأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس على هذا، ويبينوا لهم أن هؤلاء مكروبون، وأن هؤلاء معذبون ويحتاجون إلى من يذكرهم، وكل منا يسأل نفسه: هل هو سالم من الذنوب؟ لربما يكون الشخص عنده صغيرة من صغائر الذنوب يداوم عليها يبلغ بها ما بلغته كبائر الذنوب، وقد تزيد بأضعاف أضعاف، ولربما يكون الواحد منا يحتقر بعض الصالحين، أو يتكلم في مناهجهم أو أفكارهم، فيبوء بالذنوب والسيئات التي لم تخطر له على بال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من غضب الله لا يلقي لها بالا، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرف والمغرب، أو سبعين خريفا) ، فالاستقامة الحقيقية والملتزم الحقيقي هو الذي يشفق على نفسه، ويعلم أن الهداية ما كانت له ولا لأبيه ولا لجده، ولا حكرا عليه ولا حكرا على آله، وإنما هي من الله تعالى يهدي بها من يشاء، سبحانه وتعالى، وليعلم أن الله تعالى رحمه، وأن الله تعالى لطف به بهذه الهداية، فلا يتخد من هدايته وصلاحه وسيلة لتعيير الغير وانتقاصه. عليك نفسك فاشغتل بمعيبها ودع عيوب الناس للناس وطوبى لمن شغله ربه تعالى عن نفسه، وشغلته نفسه عن الناس، فأقبل عليها فاستكمل نواقصها، وطوبى لمن جعله الله تعالى رحمة للعالمين، فآوى إلى الناس وآوى الناس إليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون) ، فهم المبشرون لا المنفرون، وهم الميسرون لا المعسرون، جعلنا الله تعالى وإياكم منهم بمنه وكرمه ورحمته، والله تعالى أعلم. حكم صلاة الجماعة الثانية في المسجد السؤال إذا دخلت المسجد ووجدت الإمام قد سلم من الصلاة، فهل أعود إلى المنزل؟ أم أصلي وحدي؟ أم أنتظر أحدا وأصلي معه؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فهذه المسألة تعرف بالجماعة الثانية، وقد اختلف العلماء فيها، والجمهور على جواز إحداث الجماعة الثانية بعد الجماعة الأولى في المسجد، وذلك لما ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده، فقال عليه الصلاة والسلام: من يتصدق على هذا؟ فقام أبو بكر فتصدق عليه فصلى معه) ، وهذا الحديث فيه مسائل: المسألة الأولى: بطلان مذهب من يقول: إنه يذهب إلى بيته؛ لأن الرجل صلى في المسجد فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه. وأما الاستدلال بحديث قباء حينما تأخر عليه الصلاة والسلام ودخل المسجد ووجدهم قد صلوا فرجع إلى بيته، فالجواب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو صلى جماعة ثانية لوقع الحرج للصحابة، ولكان فيه مما لا يخفى بالنسبة للصحابة حينما يرون أنهم سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام يطيب خواطر أصحابه، وكان نعم الصاحب لصحبه صلوات ربي وسلامه عليه، وهل كان ذهابه ليجدد وضوءه؟ أم هل ذهب عليه الصلاة والسلام لأجل أن لا يكسر خواطر الصحابة؟ فليس هناك دليل صريح يبين علة تركه للجماعة، ثم إن حديث أبي بكر قوي الدلالة من وجوه: أولا: أنه قال: (من يتصدق على هذا) ، فجعل سر المسألة أن يحصل الفرد على الجماعة، ولا يختلف اثنان أن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم حصول جماعة ثانية، وإلا فلماذا يقول: (من يتصدق على هذا) بأسلوب الترغيب والتحديد؟ فهذا واضح الدلالة على مشروعية طلب الجماعة الثانية، وتحصيل الجماعة الثانية. ثانيا: أن هذا الدليل دليل قول، وفعله عليه الصلاة والسلام دليل فعل، والأصل أن أدلة الأقوال أقوى؛ لأنها تشريع للأمة، ومخاطبة للأمة، ودليل الأفعال تدخلها الخصوصية، وإلا فكله من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا مسلك أصولي، فيقولون: إنه إذا جاءنا دليل يحتمل مع دليل لا يحتمل؛ قدم غير المحتمل على المحتمل، فدلالة الفعل تحتمل خصوصيته، وتحتمل العارض، أي: أنه عرض له عليه الصلاة والسلام عارض، مع أنه ليس عندنا جزم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بعد، وإن كان هذا يسمونه: دلالة ظاهر. فالشاهد: أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه في كونه يذهب إلى بيته ولم يعرج، تدخله كثير من الاعتراضات، بخلاف حديث: (من يتصدق على هذا) . هذا جانب. والجانب الثاني في القضية: أن القاعدة عند العلماء: أنه إذا تعارض نصان -وهب هنا أن النصين بمرتبة واحدة- فإنه إذا تعارض النصان رجع إلى الأصل، فهل الأصل أن يصلى في المسجد أو لا؟ والجواب: أن الأصل أن تصلي في المسجد، وأن تكسب أجر الصلاة في المسجد بالجماعة. وعلى كل حال: فالقول بأنه يصلي الجماعة الثانية هو الصحيح، وهو الأولى بالأصول الدالة على مشروعية الصلاة في المسجد، وأما تحريم أن يصلي في المسجد ومنعه من ذلك فبعيد. ثم العجيب أنهم قالوا: لا يصلي جماعة ثانية، أي: نهوا وحرموا، ودلالة الفعل ليس فيها نهي، فنفس الدليل الذي استدلوا به أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى حجرته، ليس فيه دليل نهي، وهذا مسلك ننبه عليه طلاب العلم، وهو أنه إذا استدل أحد بدليل طبق وجه الدلالة على الحديث، فالحديث الذي استدلوا به أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى بيته ولم يعرج على المسجد، هل فيه: (لا تصلوا) ؟ وهل فيه نهي ينقل عن الأصل الذي جعلت المساجد من أجله وهي الصلاة؟ فالواضح من هذا أن مذهب المالكية ومن وافقهم بأنه لا تعاد الجماعة الثانية ولا تكرر مذهب ضعيف مرجوح أمام ما هو أرجح منه قوة ودلالة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخيرا: فعند العلماء أصل في النصوص، وهو أنه ربما نبه بالأدنى على ما هو أعلى منه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل يصلي وحده قال: (من يتصدق على هذا) ؟ فندب من صلى أن يصلي مرة ثانية، وهذا يدل على أنه إذا وجد من لم يصل أصلا فمن باب أولى وأحرى، وهذا ما يسميه العلماء: الدلالة بالأدنى على ما هو أعلى منه، والله تعالى أعلم. وقت صلاة الجمعة السؤال متى يبتدئ وقت صلاة الجمعة، هل بعد طلوع الشمس أم بعد الزوال؟ الجواب الصحيح مذهب الجمهور أن الجمعة تبدأ بعد الزوال، وأما حديث: (نقيل قائلة الضحى ونرجع ونتتبع الفيء) ، فإنه ليس بصريح في أن الجمعة تصلى قبل الزوال، وهذا الأمر حرره بعض العلماء بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة بعد الزوال مباشرة، بحيث إنه عليه الصلاة والسلام كانت خطبته قصيرة صلوات الله وسلامه عليه، وقراءته مرتلة، فالبعض يطبق واقعه على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى الجمعة في زمانه فيقوم الخطيب يخطب قرابة نصف ساعة، ثم يقوم يصلي، وربما يطيل قراءته، وقد يقرأ: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] ، و {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية:1] فيما لا يقل عن عشر دقائق، فهذه ساعة إلا ثلث، فلا يتصور في ساعة إلا ثلث امتداد الفيء، فيقول: كيف كان الصحابة يتتبعون الفيء؟ والواقع أن هذا معروف في المدينة، ومن يعرف سمت الظل في الجدران والحيطان يجد هذا، وهذا يقع إذا كان أوقع الجمعة عند بداية الزوال، وخفف الخطبة، فإنه بإمكانه أن يدرك هذا القدر، ثم إن الأمر يختلف صيفا وشتاء بحسب بعد الشمس عن خط الاستواء وقربها، والحديث: أنه يتتبع الفيء، لا يدل على أن الجمعة وقعت قبل الزوال. وأيا ما كان فالأشبه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقعها بعد الزوال مباشرة، وكانت خطبته قصيرة عليه الصلاة والسلام. ثم انظر رحمك الله تعالى إذا كان يقرأ بالجمعة والمنافقون، أو بـ {سبح اسم ربك الأعلى} ، و {هل أتاك حديث الغاشية} ، فهاتان السورتان صفحة ونصف، وخطبته أقصر من صلاته، فكم وقتا تتوقع؟ وكانت كلماته تعد عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فالأمر يحتاج إلى نظر، فقد كان عليه الصلاة والسلام كلامه محدودا وقليلا، فلا يبعد أنه إذا كان بعد الزوال مباشرة وصلى بالناس وقراءته مرتلة أن يخرجوا ويتتبعوا الفيء وانتهى الإشكال، أما إن يقال: أنه صلاها قبل الزوال، ويبنى على ذلك أن الجمعة عيد، ثم تأتي الأقيسة: والعيد تصح صلاته من بعد طلوع الشمس قيد رمح، ثم ركب من هذا أن من صلى العيد سقطت عنه الجمعة، فهذا كله بالاحتمالات والاجتهادات، والأصل أن الجمعة بدل عن الظهر، والبدل يأخذ حكم مبدله، وحديث أنس رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بعد زوال الشمس) هو الأصل، وهو الذي عليه المعول. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (497) صـــــ(1) إلى صــ(21) العفو عن القصاص إلى الدية قال رحمه الله تعالى: [يجب بالعمد القود أو الدية] . قوله: (يجب بالعمد القود) أي: القصاص، وقد تقدم؛ لأن الله تعالى يقول: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقاد وإما أن يودى) ، فقوله: (إما أن يقاد) يدل على مشروعية القود، والإجماع على هذا، وقد تقدم. وقوله: (أو الدية) أي: يخير فيقال له: إما أن تقتص وتأخذ بحقك بقتل من قتل وليك، كما قال تعالى: {فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} [الإسراء:33] ، فيقال له: اقتل من قتل أباك، أو اقتل من قتل أخاك، فإن الله تعالى أعطاك هذا الحق، فإن قال: لا أريد أن أقتله، وقد عفوت عن القاتل، فنقول: لك الدية؛ لأن الله عز وجل أمر إذا عفا ولي الدم عن الدم والقصاص بإعطاء الدية له، وقد صحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فإذا قتل وعفا ولي المقتول فإنه ينتقل إلى الدية، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: [فيخير الولي بينهما] . أي: يخير الولي بين أن يقتل قصاصا وبين أن يأخذ الدية -وسيأتينا في باب الديات توضيح الدية وضوابطها وأحوالها- فهذا بإجماع أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم؛ لانعقاد نصوص الكتاب والسنة على أنه بالخيار بين الأمرين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا، وهو ظاهر الكتاب، فإن الله عز وجل أمر بالقصاص فقال: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:178] ، فهذا يدل على أنه يخير بين القصاص وبين أخذ حقه وهو الدية، فإذا كان لا يريد القصاص يأخذ حقه من المال وهو الدية. العفو عن القصاص والدية جميعا قال رحمه الله تعالى: [وعفوه مجانا أفضل] . أي: وعفوه بدون أن يأخذ شيئا أفضل؛ لأنه إذا فعل ذلك تولى الله تعالى أجره وثوابه، ولأن غاية الإحسان أن يعفو عمن ظلمه وعمن آذاه، ولا يأخذ منه شيئا، وإنما ينتظر من ربه العوض والخلف، ولو أنه عفا ثم أخذ الدية فلا يلام. ومن أدران الجاهلية والعصبيات الممقوتة عند بعض الناس: أن أولياء المقتول إذا قالوا: لا نريد القصاص ونريد الدية، فإنه يعتب عليهم، ويأتي أولاد العم والقرابة ويقولون: أنتم لا تقدرون أباكم، وأبوكم لا يقدر بثمن، وما هذه الدية؟ أترضون بالمال دون دم أبيكم؟ أنتم كذا أنتم كذا ولربما هددوهم بالقطيعة -والعياذ بالله تعالى- وهذا من مضادة شرع الله عز وجل، ومن المحادة، ومن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. فإن الله تعالى يحب العفو ويقول: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237] ، وهؤلاء -نسأل الله تعالى السلامة والعافية- بخلاء على أنفسهم، ويأمرون غيرهم بالبخل، فهؤلاء لا يجوز طاعتهم؛ لأنهم لا يريدون الخير لمن عفا أو أراد أن يعفو، فالذي يريد أن يعفو ويقول: أسامح لوجه الله تعالى، فأجره على الله عز وجل، والأفضل أن لا يأخذ شيئا. أخذ الدية والصلح على أكثر منها قال رحمه الله تعالى: [فإن اختار القود أو عفا عن الدية فقط فله أخذها والصلح على أكثر منها] . إذا اختار القود مكن منه، وإذا قال: أريد أن أقتص، فحاول معه أولياء القاتل، وقالوا له: اعف عنه، ورضي بالدية، فلا إشكال، لكن في بعض الأحيان لا يرضى بالدية، فيبذلون أكثر من الدية، وهذا البذل لأكثر من الدية على سبيل الصلح، فيقولون له: إن تنازلت نعطك ديتين، أو إن عفوت نعطك ثلاث ديات، أو إن عفوت نعطك أربع ديات، أو خمس ديات، فهذا من باب الصلح. وفي الحقيقة من حيث الأصول أن الدم له دية مقدرة شرعا لا يزاد عليها، لكنه يزاد عليها صلحا، وقد كنا نميل إلى الوجه الأول، ثم تبين في الأخير بعد تصحيح حديث الترمذي صحة الوجه الثاني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن صالحوا فلهم ما أخذوا) أي: ما اصطلحوا عليه، وهذه الزيادة حسنها غير واحد، وملنا إلى تحسينها في الأخير في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا يجوز الصلح بأكثر من الدية، ولكن من حيث الأصل ينبغي أن ننبه على مسألة ستأتينا في الديات وهي: أن القرابة والعصبة هم الذين يتحملون دية الخطأ في الأصل، فإذا صالحوا بأكثر من الدية ألزموا القرابة أن يدفعوا ثلاث ديات أو أربع ديات، ويقع فيها من الإحراج والأخذ بسيف الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلا يجوز إحراج القرابة بمثل هذا، وإذا أراد أحد أن يتبرع بدية ثانية أو ثالثة فلا يضر بقرابة القاتل؛ لأنهم لا ذنب لهم، والأصل أنهم يحملون ما في طاقتهم، فتحميلهم فوق طاقتهم وتحميلهم الديون من أجل جان قد لا يستحق أن يبذل له ذلك، وقد يكون شريرا كما ذكرنا؛ كل هذا لا يجوز. فالمقصود: أن الأصل يقتضي أن يقتصر على الدية، وإن حصل صلح فيجوز أن يصالح على أكثر من الدية، وفي هذا قصة هدبة بن خشرم المعروفة أنه قتل رجلا، وكان أولياء المقتول يتامى قاصرون، منهم ابن المقتول، فحبس هدبة، ووقعت الحادثة في زمان معاوية رضي الله تعالى عنهما، فشفع سعيد بن العاص وكذلك الحسن والحسين رضي الله عنهم من أجل أن يعفو ولي المقتول، وبذلوا لابن القتيل سبع ديات حتى يعفو، فأبى إلا القتل، فقتل به، والشاهد في كون هؤلاء الصحابة بذلوا أكثر من الدية، فاجتمع دليل السنة ودليل الأثر عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وعلى هذا فجمهور العلماء رحمهم الله تعالى على أنه يجوز في الصلح في الديات بأكثر من الدية. إذا اختار الدية أو عفا مطلقا أو هلك القاتل فليس له إلا الدية قال رحمه الله تعالى: [وإن اختارها أو عفا مطلقا أو هلك الجاني فليس له غيرها] . أي: إن اختار الدية فليس له إلا الدية، بمعنى أنه لو قال: عفوت، ثم رجع وقال: أريد القصاص، فإنه لا يمكن من القصاص؛ لأنه إذا قال: عفوت؛ سقط حقه في القصاص إلى الأبد، ولا رجوع عن هذا الحكم، وليس له إلا الدية إن اختارها. قوله: (أو عفا مطلقا) إذا قال: عفوت عنه، ثم رجع إلى القاضي وقال: أريد القصاص، فقال بعض العلماء: لا قصاص ولا دية، وقيل: لا قصاص ولكن له الدية؛ لأنه إذا عفا عن الدية ثم رجع فيكون مثل الهبة إذا وهب شيئا ثم رجع فيه، فكأنه وهب الدية للقاتل، ثم رجع عن هبته، وهذا مذموم شرعا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يأكل قيأه) . وقوله: (أو هلك الجاني) أي: لو أن شخصا قتل عمدا عدوانا، ثم جاءته نقمة من الله تعالى فأخذه الله تعالى وأهلكه، فحينئذ لا يمكننا القصاص، لكن يبقى حق أولياء المقتول في الدية، وحينئذ تثبت لهم في تركته الدية، فتؤخذ من تركته. وقوله: (فليس له غيرها) أي: ليس لولي المقتول غير الدية، وليس له القصاص، ولو قال: رجعت، وأريد أن أقتص، فإنه لا يعطى القاتل ولا يمكن من قتله. السراية وأحكامها قال رحمه الله: [وإذا قطع أصبعا عمدا فعفا عنها، ثم سرت إلى الكف أو النفس، وكان العفو على غير شيء فهدر] . هذه المسألة صورتها: لو وقعت مخاصمة بين اثنين، فقام أحدهما وقطع أصبع الآخر عمدا وعدوانا، فثبت القصاص أن تقطع أصبعه بأصبعه، فعفا المجني عليه، فلما عفا سرت الجناية -والعياذ بالله تعالى- حتى أتت على يده، ثم سرت على جسمه حتى مات، فالموت وقع بسبب سراية الجروح؛ لأن الجروح تسري في البدن، إما بسبب التلوث، أو بسبب قوة الجناية، أو بسبب الجراثيم التي تدخل، فإذا سرت الجناية فقد تسري على عضو لكون الجناية في جزء العضو، مثل الأصبع والأصبعين، ثم تسري إلى العضو كاملا، وقد تسري إلى البدن بكماله، وقد تسري إلى نصف البدن كأن تشل نصفه -والعياذ بالله تعالى-، فهذا يسميه العلماء: السراية، وهي في الأصل جناية في موضع، ثم تتوسع حتى تسري إلى مواضع، وقد تأتي على النفس فتهلك صاحبها. فلو أنه جنى عليه جناية في الطرف الذي هو الأصبع، أو قطع يده، فلما قيل له: إن شئت أخذت بالقصاص وإن شئت عفوت، قال: قد عفوت، فلما عفا سرت الجناية وأتت على نفسه، فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة، فقال بعض العلماء وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى: يجب القصاص، فإذا عفا عن الأصبع وسرت الجناية إلى البدن كله فالعفو عن الجزء ليس عفوا عن الكل، وهو إنما عفا عن جناية قاصرة متعلقة بجزء من البدن، ولم يسأل عن بدنه كله، وبعبارة أدق: أن الجناية لم تتضح بعد، بمعنى أنه سبق عفوه حقيقة الجناية؛ لأن الجناية وقعت على البدن كله، وهي في الأصل على الأصبع، لكنها سرت إلى البدن كله، فهذا الإتلاف إزهاق للنفس أتى على النفس بكاملها، وقد جاء من فعل الجناية، والجناية عمد، فيثبت القصاص في البدن كله. وخالفه جمهور العلماء فقالوا: ليس هذا موجبا للقصاص، حتى لو قلنا: إنه يقتص منه فإن الشبهة قائمة، فهذا لم يرد إزهاق روحه كلها، وإنما اعتدى على جزء بدنه، فكيف ينزل منزلة من اعتدى على البدن كله، فهناك فرق بين الاثنين، ثم إن القتل لم يحصل بالقطع، أي: أن القطع نفسه للعضو ليس مما يوجب الإزهاق في الأصل، ومن هنا رد الجمهور هذا القول، وقولهم أقوى. فإذا قطع الأصبع وقال المعتدى عليه: أريد الدية، وأعطي دية أصبعه، ثم سرت إلى بدنه كله فقال أولياؤه: نريد الدية كاملة، فإنهم يعطون الدية كاملة، فإذا لم يعف وأخذ الدية عن الأصبع، وسرت الجناية إلى البدن كله، وجب ضمان الدية كاملة إذا طالبوا بها ولا إشكال في هذا، لكن الإشكال إذا طالبوا بالقصاص، فـ مالك رحمه الله تعالى يقول: يمكنون من القصاص، والجمهور يقولون: لا يمكنون، لكن لو أنه أخذ الدية عن أصبعه ثم سرت الجناية إلى بدنه كله وطالب أولياؤه بالدية، كان من حقهم أن يأخذوا الدية؛ لأنه ليس هناك عفو والولي لم يعف. ومما وقع فيه الخلاف بين العلماء: أنه لما قطعت أصبعه فعفا عن الأصبع، وإذا بالجناية تسري فتأتي على النفس، ف السؤال هل يلزم بالدية كاملة؟ أو يلزم بالدية إلا ما عفا عنه وهو الأصبع؟ فمذهب طائفة من العلماء وفي مذهب الحنابلة أيضا أنه تؤخذ الدية كاملة ما عدا القدر الذي عفا عنه وهو الأصبع؛ لأنه قد عفا عن أصبعه، وحينئذ يؤخذ من الجاني بقية الدية وهي تسعة أعشار الدية، وعلى هذا يقولون: إن الجناية في سرايتها مضمونة. وهذا أصل عند العلماء، على تفصيل سنذكره -إن شاء الله تعالى- في باب الديات. ولعل الأشبه أن الذي عفا عنه -وهو الأصبع- يسقط حقه فيه، ويبقى الضمان فيما عداه، والقائلون بوجوب الدية كاملة يقولون: يجب ضمان الدية كاملة؛ لأن الجناية على الأصبع جناية، والجناية على البدن جناية ثانية، وحينئذ يكون كأنه قتل مباشرة؛ لأنه قتل بسببية هنا؛ فتسبب الجرح في إتلاف البدن كله، فقالوا: ما عفا عنه فهو عفو، وكتب الله تعالى له أجره، ولكن لأوليائه أن يأخذوا الدية كاملة. على أن السراية إذا كانت بالسلاح فهي أقوى، فإذا كان السلاح آلة كالة، مثل أن يقطعه بسكين ملوثة، أو يقطعه بسكين مسمومة، فالقطع بالسكين المسموم قوي جدا في مذهب القصاص؛ لأن السكين المسمومة معروف أنها مما يفضي إلى إزهاق الروح، فمذهب مالك رحمه الله تعالى فيها قوي، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمه الله تعالى يستثني هذه الحالة، وهي: أن يقع القطع بآلة أو بطريقة تفضي إلى السريان، ويكون السريان غالبا، وحينئذ تكون سببية على العضو ولكن المراد بها كل البدن. العفو في السراية قوله: (وكان العفو على غير شيء فهدر) . إذا قال: عفوت عن الأصبع، فهذه صورة، وكل الذي ذكرناه فيما إذا قال: عفوت عن هذه الأصبع، ويبقى قوله: عفوت عن هذه الجناية، فإذا قال: عفوت عن الجناية فلا شيء له، حتى ولو سرت إلى البدن كله؛ لأنه لما قال: عفوت عن الأصبع، حدد عفوه بالعضو، وحينما قال: عفوت عن الجناية، فقد عفا عن الشيء وما يترتب عليه، ومن هنا لا يعطى ولا يضمن، ولا يطالب الجاني بضمان سراية الجناية؛ لأنه عفا عن الجناية كلها، فلما قال: عفوت عن هذه الجناية يسقط حقه، وإذا قال: عفوت عن هذه الأصبع، فالتفصيل الذي ذكرناه، والخلاف الذي بيناه بين أهل العلم رحمهم الله تعالى في تلك المسألة. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان العفو على مال فله تمام الدية] . المصنف رحمه الله تعالى اختار أن العفو عن الأصبع عفو عن جزء، ولكن إذا سرت إلى البدن فهو إتلاف مستأنف، وحينئذ تجب فيه الدية كاملة، فهذا الذي اختاره رحمه الله تعالى، واختاره أيضا غيره من أئمة المذاهب رحمهم الله تعالى، وهو قوي جدا من حيث الحجة والدليل. التوكيل في القصاص قال رحمه الله تعالى: [وإن وكل من يقتص ثم عفا فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما]حكم التوكيل في القصاص إثباتا واستيفاء هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل: أولا: هل يشرع التوكيل في إثبات القصاص، والقصاص؟ جماهير العلماء وأئمة السلف على أنه من حق أولياء المقتول أن يوكلوا شخصا يتولى في القضاء إثبات الجناية، فإذا وكلوا شخصا وقالوا له: أثبت جناية فلان على عمنا، أو أثبت جناية فلان على أبينا، فإن هذا مشروع، والدليل على مشروعيته عموم الأدلة الواردة على مشروعية الوكالة، وقد بينا في باب الوكالة ذلك، وذكرنا أدلة النقل والعقل، فيشرع للإنسان أن يوكل غيره في إثبات حق من حقوقه، فإذا قالوا له: وكلناك فعلى صورتين: الصورة الأولى: أن يوكلوه في إثبات الجناية التي هي القتل العمد العدوان الموجب للقصاص. الصورة الثانية: أن يوكلوه في استيفاء حقهم، أي: في القصاص وقتل القاتل. ففي الصورة الأولى يقوم هذا الشخص بإحضار الأدلة والشهود على أن فلانا قتل فلانا، فهذا يسميه العلماء: التوكيل في الإثبات، والتوكيل في الإثبات مشروع فيما قاله جمهور العلماء والأئمة من المذاهب الأربعة وغيرهم، إلا القاضي أبا يوسف رحمهم الله تعالى من فقهاء الحنفية رحمهم الله تعالى، فيقول: لا يشرع أن يوكل شخص لإثبات الجناية، فالإثبات يكون على أولياء المقتول، وهم الذين يحضرون عند القاضي، وهم الذين يكون عليهم عبء الإثبات. والصحيح هو مذهب جمهور العلماء وأئمة السلف وأهل العلم رحمه الله تعالى أجمعين؛ أنه يشرع لأولياء المقتول أن يقوموا بأنفسهم، وأن يوكلوا غيرهم لإثبات حقهم، شأنه في ذلك شأن سائر الحقوق. هذه المسألة الأولى. المسألة الثانية: إذا وكله على الإثبات فهل من حق الوكيل إذا أثبت أن فلانا قتل فلانا أن يطالب بالقصاص؟ أي: هل التوكيل في الإثبات توكيل في الاستيفاء؟ جمهور العلماء يقولون: ليس التوكيل في الإثبات توكيلا في الاستيفاء، وهذا الوكيل ليس من حقه إلا الإثبات فقط، فيحضر الأدلة ويثبت أن فلانا هو القاتل، فإذا أثبت وحكم القاضي بصحة إثباته انتهت الوكالة. وخالف في هذه المسألة ابن أبي ليلى من أئمة السلف رحمه الله تعالى فقال: إذا وكل في إثبات الجريمة وإثبات القصاص، كان من حقه أن يطالب بالقصاص؛ لأن المقصود من الإثبات هو القصاص، فإذا وكل في الإثبات فمعناه أنه موكل في القصاص، كما لو وكل في البيع فله حق القبض. والصحيح هو مذهب الجمهور؛ أنه إذا وكل في الإثبات فقد اختصت الوكالة بالإثبات، فهي وكالة خاصة، ولا يكون من حقه أن يطالب بالاستيفاء. فإذا ثبتت مشروعية الوكالة على الإثبات، فيبقى الكلام على الاستيفاء فنقول وبالله التوفيق: الاستيفاء: هو تنفيذ الحكم، فقد نص العلماء على جواز أن ينصب ولي الأمر شخصا، أو جهة معينة تقوم بتنفيذ هذه الحدود والحقوق، وارتاح الناس من كثير من الإشكالات الموجودة في الفقه بهذه الطريقة والحمد لله تعالى. لكن الأصل أن استيفاء القصاص حق لولي القتيل، وله أن يوكل في ذلك كشأن سائر الحقوق، وهنا يجيء الكلام على مسألة الوكالة في القصاص. فقد كان في القديم إذا ثبت عند القاضي أن رجلا قتل رجلا، فيقول القاضي لولي القتيل: هذا قاتل وليك فاقتله إن أردت، ويمكنه من قتله، فيأخذ الولي سيفه ويقتله، فيكون ولي الدم هو الذي يباشر القتل، كما ذكرناه في الاستيفاء. إلا أن ولي الدم قد لا يستطيع أن يقتل قاتل وليه، إما لصغر سنه، كصغير بلغ ولا يحسن الضرب بالسيف، أو يكون رجلا كبيرا في السن، أو مشلولا، أو مقعدا، أو زمنا، أو مريضا، فقد تكون هناك أعذار في ولي المقتول، فحينئذ يحتاج إلى شخص يقيمه مقامه من أجل تنفيذ القصاص، فهذه مسألة التوكيل في الاستيفاء. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
عفو ولي الدم بعد التوكيل في الاستيفاء فإذا وكل شخص شخصا من أجل أن يقتل قاتل وليه، فلهذه الوكالة صور: الصورة الأولى: أن يوكله ولا يرجع عن الوكالة، ويذهب الوكيل ويقتص، فهذه الصورة لا إشكال فيها، فالوكالة صحيحة والتنفيذ صحيح، ولم يرجع الموكل عن وكالته حتى حصل التنفيذ، وكما أن الأصيل له حق الاستيفاء فقد قام الوكيل مقامه، والقاعدة: أن الوكيل ينزل منزلة الأصيل أو من وكله. الصورة الثانية: أن يرجع الموكل عن وكالته، وهذه هي التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى، فيقول الموكل لوكيله: اقتل من قتل أبي، أو وكلتك في قتل من قتل أبي، أو وكلتك في استيفاء حقي في القصاص من فلان، فخرج هذا الوكيل من أجل أن ينفذ الوكالة، فلما خرج رجع الموكل عن وكالته، رجوعا بالعفو لا رجوعا مطلقا؛ لأن الرجوع المطلق الأمر فيه أخف، لكنه رجع بالعفو بقوله: قد عفوت عمن قتل أبي، فالوكيل ذهب، والعفو وقع من صاحب الحق، وحنيئذ فلذلك حالتان: الحالة الأولى: أن يقع العفو بعد التنفيذ، كما لو خرج الوكيل وطالب بالدم وقتل القاتل الساعة الواحدة ظهرا، والموكل عفا عن الدم الساعة الثانية ظهرا، أو الواحدة والنصف، فمعنى ذلك أن العفو وقع بعد استيفاء الحق، فلا شيء على الوكيل ولا على الموكل؛ لأن العفو لم يصادف محلا، فإن الوكيل حينما قتل القاتل قتله وعنده مستند شرعي؛ لأن الوكالة شرعية، وصاحب الحق لا زال على حقه، فقتله بدون أي شبهة، ولا غبار على قتله، لأن عفو ولي الدم بعد القتل، وإذا قتل القاتل سقط حق الموكل؛ لأنه لم يعد للموكل حق، فقوله: (عفوت) عفو عن شيء غير موجود أصلا؛ لأن حقه قد انتهى بتنفيذ القصاص. ففي هذه الحالة إذا حصل العفو بعد التنفيذ فإنه لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل الذي عفا، أما الوكيل فقد نفذ الوكالة، وقتله لمن قتل وقع في محله، وإذن صاحب الحق مستصحب، وأما عفو من عفا -وهو صاحب الدم- فقد وقع في غير موقعه؛ لأنه وقع بعد الاستيفاء، ولما وقع بعد الاستيفاء فقد سقط الحق لولي المقتول بالكلية، وحينئذ فقد عفا عن شيء غير موجود أصلا؛ لأنه قد انتهى حقه. الحالة الثانية: أن يقع العفو قبل التنفيذ، فيقول ولي القتيل: اشهدوا أني قد عفوت عن القاتل، سواء قال: أريد الدية، أم قال: عفوت مطلقا، فلهذه الحالة صورتان: الصورة الأولى: أن يبلغ الوكيل رجوع من وكله، فحينئذ لا يجوز له شرعا أن يقتل القاتل بإجماع العلماء، إذا بلغه أناس عدول رجوع موكله، وقالوا له: إن فلانا رجع عن وكالته لك، وقد عفا عن الدم، فإن ماطل وكابر وقتل القاتل، وهو عالم أن الوكيل قد رجع؛ فحينئذ يكون قاتلا عمدا عدوانا فيقتص منه. هذا إذا علم وثبت عنده الرجوع. الصورة الثانية: إذا لم يعلم، كأن يكون بين الوكيل والموكل مسافة أيام، وبلوغ الوكيل لمكان القصاص لم يبق عليه سوى يومين، فالمسافة ما بين الموكل والوكيل لا يمكن أن يتوصل بها إلى إبلاغ الوكيل رجوع موكله، فقتل، ثم علم أن موكله رجع قبل تنفيذ القتل، فهل يتحمل المسئولية الوكيل بناء على أنه بعفو الموكل سقط حق القصاص، والذي نفذ القصاص هو الوكيل؟ أم أنه يكون الاستحقاق على الموكل؛ لأنه هو الذي عفا وغرر بالوكيل، وكان المفروض أن يتعاطى الأسباب لإعلام الوكيل؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله تعالى، وبعض أهل العلم رحمهم الله تعالى يقول: لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل، أما الوكيل فلأنه يستند إلى أصل شرعي، والأصل مستصحب وهو الإذن، فلما كان العفو على وجه لا يمكن فيه البلوغ كان ضربا من العبث، فوجود هذا العفو وعدمه على حد سواء؛ لأنه لم يبلغ الوكيل، فصار عفو الموكل في هذه الحالة واقعا في غير موقعه؛ لأنه قد انتهى الأمر، وإنما يكون مؤثرا لو كان هناك مجال لإعلام الوكيل وتنبيهه وتلافي القتل، فلما أصبح الأمر على هذا الوجه الذي لا يمكن فيه التدارك سقط، وأما بالنسبة للموكل فلا شيء عليه؛ لأنه حينما وكل كان معذورا شرعا، وحينما عفا عفا على وجه لا يؤثر؛ لأنه لا يمكن تدارك الوكيل وإعطاؤه الخبر بالرجوع، وهو معذور؛ لأنه يتعذر عليه إعلام الوكيل. وهناك وجه ثان للعلماء رحمهم الله تعالى: أنه يضمن الموكل؛ لأنه يعلم أنه لا يبلغ عفوه الوكيل لو عفا، فخاطر بالوكيل، والوكيل معذور في تنفيذ ما أمر به، ولما عفا تحمل عاقبة عفوه؛ لأن كلا الأمرين وقع بسببه، فالوكالة بسببه والعفو جاء بسببه، ففي هذه الحالة إذا رجع تحمل مسئولية الرجوع؛ لأن الرجوع منه، فهو متحمل لتبعة ما نجم عن عفوه، وهذا القول الثاني في الحقيقة من القوة بمكان، فيتحمل الموكل عن الوكيل في الضمان. حقوق الرفيق في الحد والقصاص قال رحمه الله تعالى: [وإن وجب لرقيق قود أو تأثير قذف فطلبه وإسقاطه إليه] . هذه مسألة أخيرة يختم بها هذا الفصل، وهي: مسألة حقوق العبد إذا كانت في قتل أو قذف، فإذا كان للعبد حق معنوي، فإنه يتولى الأخذ والعفو، فله أن يطالب وله أن يعفو، ولا أحد يستطيع أن يجبره على أمر خيره الله عز وجل فيه؛ لأن هذه الأمور لا يملكها السيد، فليس للسيد أن يقول: أنا أتولى أمر عبدي في هذا؛ لأن الحق للعبد، فإذا قذفه شخص فإنه حق ليس بمادي وإنما هو معنوي، والحقوق المعنوية مردها إلى صاحبها، فيتولى العبد أمر نفسه، وليس لسيده عليه سلطان، فبين المصنف رحمه الله تعالى بهذا أن الحق في القصاص في النفس والأطراف راجع إلى العبد وليس إلى السيد، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق كما في القذف ونحوه. قال رحمه الله تعالى: [فإن مات فلسيده] . أي: فإن مات فإنه ينتقل الحق إلى سيده؛ لأنه وليه، ومعلوم أن الولاء لحمة كلحمة النسب، وهذا في حال العتق، فإذا لم يعتق فمن باب أولى وأحرى، وكما أن النسيب والقريب يرث نسيبه وقريبه في الحقوق، فكذلك السيد يرث حق عبده في هذا، كورثة المقذوف ينزلون منزلة المقذوف بعد موته. الأسئلة الأفضل في الدية من أخذها وصرفها في وجوه الخير، وإسقاطها بالعفو السؤال إذا أراد بالدية صرفها في وجوه الخير فهل هذا أفضل أم العفو؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالحقيقة أن هذا أمر يحتاج فيه أن ينظر الإنسان في الثواب المترتب على عفوه، والثواب المترتب على توزيع هذه الصدقات، وهذا أمر غيبي لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن عند العلماء نظائر من هذه المسائل، وهي: الحكم النسبي، ففي بعض الصور الأحكام النسبية معتبرة، كما إذا كان القاتل غنيا ثريا لا تهمه الدية، والمال عنده كثير، وهناك ضعفاء وفقراء محتاجون، وقد يكون بعضهم من قرابة المقتول نفسه، فأحب وليه أن يأخذ الدية وأن يتصدق بها على رحمه، وأن يعيل بها أيتاما وضعفاء وفقراء، فهذا لا شك أن أجره عند الله تعالى عظيم، ولكن هذا شيء نسبي، ومن الخطأ تطبيق هذه الصورة عموما، كما تجد في بعض الفتاوى: أن الأفضل أن يأخذها ويتصدق بها، وذلك أنه إذا أخذها وتصدق بها على الضعفاء والفقراء فهذا أعظم. فهذا لا ينبغي تعميمه؛ إذ قد يكون أولياء القاتل ضعفاء وفقراء لا يستطيعون الدية، وإذا حملوا الدية تحملوا مشقة كبيرة، وإن كانوا في العمد لا يتحملون، لكن ما جرت به العادة أنه يضغط عليهم ويحملون هذه الدية، فإذا كان القاتل سيتحمل عناء الدية ومشقتها، وكان ضعيفا، فلا تستطيع أن تطبق عليه هذا الأصل. ولذلك نقول: من حيث الأصل الأمر غيبي، فلا يستطيع أحد أن يقول: ثواب العفو أعظم من ثواب إنفاق الدية على الضعفاء؛ لأن الناس تتفاوت أحوالهم وتختلف، ما لم يرد نص يبين أيهما أفضل، لكن في الأحوال الخاصة -كما ذكرنا- إذا كان أولياء القاتل لا يهمهم المال، ودفع المال يسير عليهم، ويمكن أخذ هذا المال والتصدق به، فهذا لا شك أنه أفضل وأحسن وأكمل، والتصدق بالمال فيه ثواب عظيم عند الله عز وجل، ولذلك لما باع حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه داره -دار الأرقم- قيل له: بعت مفخرة قريش! قال: ستعلمون من هو المغبون. ثم نزل ونادى في الناس: من كان عليه دين فليأتني، فما بقي أحد إلا قضى دينه، فكان ربحه عند الله تعالى أعظم، وثوابه أجل من أن يمسك دارا على أنها مفخرة، فرضي بمفخرة الآخرة على مفخرة الدنيا، ورضي بربح الآخرة على ربح الدنيا، ورضي بعز الآخرة على عز الدنيا. فالأمور النسبية والأحوال النسبية معتبرة، لكنها لا تعتبر قواعد في الفتوى، أي: لا تعتبر أصولا يحكم بها حكما عاما في الفتاوى، بل يقال: يمكن نسبيا أن يقع هذا، ولذلك نترك الأمر، فإذا نظر الشخص إلى مصلحة قرابته وجماعته وأوليائه، ورأى أن يصل رحمه وأن يحسن إليهم بهذه الدية، وتأول أن يكون ذلك له أفضل عند الله تعالى فأرجو، والله تعالى أعلم. ما يصح فيه الصلح على أكثر من الدية من أنواع القتل السؤال هل الصلح على أكثر من الدية في العمد فقط أو في جميع أنواع القتل؟ الجواب من حيث الخطأ فليس لهم إلا الدية المقدرة شرعا، ولا يجوز أن يزيدوا عليها إذا كان القتل خطأ، أما في العمد إذا استحق أولياء المقتول القصاص، فيحتاج إلى ترغيبهم ترغيبا أكثر، أما القتل خطأ فلا يحتاج فيه إلى الترغيب بأكثر من الدية؛ إذ ليس لهم إلا الدية، ولا يستطيع القاضي أن يحكم بثلاث ديات أو ديتين؛ لأن هذه مخالفة مضادة لشرع الله عز وجل؛ لأن الله تعالى جعل للنفس حق الدية الواحدة، ومن هنا كنا نستشكل الصلح في قتل العمد على أكثر من الدية؛ لأن هذا وجهه أن الله تعالى قدر المقادير، فلا يجوز لأحد أن يزيد عليها، والله تعالى أعلم. حكم الصرف من الزكاة لمن وجبت عليه الدية السؤال هل يجوز صرف أموال الزكاة لمن وجبت عليه الدية وكان فقيرا لا يستطيع السداد؟ الجواب الغارم وهو المدين يستحق الزكاة، لكن ينبغي أن ينتبه إلى أن الدين فيه نظر، فإن كان سبب الدين يعذر به شرعا فإنه يعطى من الزكاة سداد دينه، كشخص يعول أسرة، ويسكن في شقة تكفيه وتكفي عياله دون بذخ ودون إسراف، فسكن في هذه الشقة بعشرة آلاف في السنة، وأصبح مديونا، فنعطيه العشرة آلاف كاملة؛ لأن الغارم يعطى سداد دينه، بشرط أن يكون دينه على الوجه المعروف، لكن لو كان دينه في الحرام، كمن يسافر للحرام والفساد -والعياذ بالله تعالى- ثم أصابته ديون، فحينئذ نقول: إنه لا يعطى؛ لأن سبب غرمه محرم، وكذلك لو أنه تزوج وهو فقير، وتكلفة زواجه في فرضنا ثمانون ألفا، فكانت مؤنة زواجه بمائتي ألف، فيعطى في حدود الثمانين. أما في هذه المسألة ففيها نظر؛ إذ القتل إما أن يكون عمدا، وإما أن يكون خطأ، فإذا كان عمدا فهو جناية وجريمة، ومثلها لا يساعد فيها؛ لأن أصل الجناية لا تجوز شرعا، ولو أننا كلما قتل قاتل وعفي عن قتله أعطيناه من الزكاة؛ لذهب المعنى من زجر الناس، وتحملهم لمشقة الدية حتى يجدوا العناء فيحجموا عن الدماء المحرمة وعن سفك الدم الحرام. أما إذا كان القتل خطأ، كشخص عنده حافلة ووقع عليه حادث، فمات معه شخصان وتحمل ديتهما، فالأصل أن العصبة هم الذين يتحملون من الدية ما كان فوق الثلث، كما سيأتي معنا إن شاء الله تعالى، وهذا نظام معروف في الإسلام بنظام العاقلة، ففي الحديث الصحيح: (وقضى بديتها على عاقلتها) ، فالعاقلة نظام شرعي، وهو موجود والحمد لله وعند كثير من القبائل جزاهم الله تعالى خيرا، ولا يزال ما يسمى بصندوق القبائل يفعل حقيقة العقل الشرعي في كثير من الصور تشبه الأصول الشرعية، وهذا أمر محمود ينبغي بقاؤه. فإذا كانت عاقلته غنية وامتنعت فالواجب أن يشتكيهم إلى القاضي حتى يدفعوا ما عليهم، والقاضي يلزم عاقلته بما يلزمه هو، فهذا هو الأصل، فإن كانت العاقلة فقيرة، أو كانت مديونة، فحينئذ يشرع إعطاء الزكاة له سدادا لهذا الدين، وسواء أكانت الجناية خطأ بالقتل أم كانت الجناية على الأطراف، كما لو وقع عليه حادث فقطعت يد راكب من ركاب سيارته فعليه نصف دية، ففي هذه الحالة إذا كانت عاقلته قادرة على السداد فلا إشكال، وإذا كانت غير قادرة على السداد فإنه يعطى من الزكاة على قدر دينه. وعلى كل حال: ينبغي على من يتولى الزكاة أن يتقي الله عز وجل، وأن يحذر من حرمان أهل الحقوق حقوقهم، فهناك فقراء، وهناك مساكين، وهناك أيتام وأرامل لهم حق في هذه الزكوات دون غيرهم، حتى ولو وجدت بعض الفتاوى المتوسعة مثل إجازة طبع الكتب من أموال الزكاة، ومثل إعانة المتزوج من أموال الزكاة، بناء على قوله تعالى: {وفي سبيل الله} [التوبة:60] ، فهذا مذهب مرجوح وضعيف عند أهل العلم، إذ الصحيح أن قوله تعالى: {وفي سبيل الله} ، مختص بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وحتى لو قيل بهذه الفتوى فينبغي أن ننظر إلى من هو أحوج وأحق، وبدل أن يعطى هؤلاء القتلة يعطى من هو أحوج، وقد تطبع بعض الكتب وتدفع فيها عشرات الألوف، ثم توزع هدرا، فتعطى للذي يستطيع أن يشتري والذي لا يستطيع أن يشتري، وهناك من هو في أشد الحاجة إلى مثل هذا المال. فينبغي الانضباط، وينبغي تحديد هذه الأمور بالضوابط الشرعية، فهناك من هو أحق وأحوج، فهناك اليتيم، وهناك الأرملة، وهناك الأسر التي تكتوي بنار الفقر والمسكنة، فهؤلاء جعل الله تعالى لهم حقا في الزكاة، فلا يتوسع في هذه الأمور على حساب من هو أحق وأحوج، وإن كنت طالب علم فانظر كم في مكتبتك من الكتب، فأسألك بالله تعالى كم من كتاب قرأت؟ وتؤخذ المنشورات وتطوى وترمى في الصناديق، ولربما ترمى في المكاتب ولا ينظر إليها إلا قليلا، وهذا كله على حساب من هو أحوج وأحق، فينبغي أن ينتبه لهذه الأمور في الزكوات وتوزيعها؛ إذ يخشى على من يتولاها أن يصلى بنار جهنم. فالزكاة أمرها عظيم، وليس من السهل بمكان أن الشخص يحرم صاحب الحق حقه ويذهبه في أمور مختلف فيها، بل يصرفه بدون ضوابط. وأذكر أن رجلا ذات مرة طبع مطوية في أمر قد نوقش في أكثر من رسالة، وقتله أهل العلم بحثا، وهو طويلب علم مبتدئ ليس من أهل العلم وليس من أهل التأليف، فجاء وقال: أبشرك أن بعض المحسنين دفع لي مالا فوزعت منها بتسعين ألف ريال!! فهذه التسعون ألف ريال كم من أسرة لو أعطيت أنقذتها! وكم من نساء قد يتعرضن للحرام بسبب الفقر والجوع والمسكنة لو أعطين لامتنعت من ذلك! وليس معنى هذا أن نحجم أمور الدعوة، فالدعوة لها وسائل كثيرة ولها طرق كثيرة، ولا تقتصر على المطوية ولا على الشريط. ولا شك أن من دفع في الشريط والمطوية مأجور ومثاب، ولكن ليس على حساب الحقوق الواجبة في الزكوات، وإنما تكون من بابها المعروف، فإذا جئنا لغني نريد أن نصرفه لمقام أفضل، فهناك مدينون في السجون، وهناك أناس أصحاب أسر وعوائل مدينون في حقوق ومسجونون؛ لأن الدائن من حقه سجن الغريم، فمثل هذا الذي عليه عشرون ألفا أو عشرة آلاف أو خمسة آلاف ربما وقع أولاده في الحرام، وربما وقعت زوجته في الحرام، فهؤلاء هم الذين يوجه الناس لإعانتهم والرفق بهم. ونريد من هذا أن يتنبه إلى أن الخير ينبغي أن يصرف في بابه، وأمور المعونة والزكوات والصدقات ينبغي أن تصرف في بابها، وأعظم ما يكون في هذا الباب الزكوات إذا صرفت في غير حقها، وكذلك الصدقات، فقد تجد شخصا يتبرع لجمعية خيرية من أجل أن تنفق هذا المال على الأيتام والفقراء والضعفاء والمساكين، فتقوم الجمعية وتفعل مسابقة، وتوزع الجوائز والنثريات بعشرات الآلاف! ولا نشك أن أهل الجمعية يريدون الخير، ولا نشك أنهم يريدون الطاعة ويريدون البر، ولكنه الجهل وعدم الرجوع إلى العلماء، وعدم ضبط الأمور بضوابطها الشرعية، إذا وضعت جمعية للصدقات، فضع صندوقا للمسابقات، وانظر من الذي يتبرع لك من أجل المسابقات، ومن أجل الأمور الزائدة التي تكون على حساب من هو أحق؟ فأنت مؤتمن، فمن دفع لك هذا المال لكي تدفعه للمحتاج فعليك أن تدفعه للمحتاج، وتنضبط بضوابط شرعية، أما الأمور الفاضلة فتوضع لها صناديق خاصة، وهي أمور خير، كتوزيع شريط، أو كتيب، أو منشور، لكن لا تكون عمية وبدون ضوابط شرعية، فلابد من التقيد بهذا، ولا بد من الرجوع إلى أهل العلم. وأكثر ما ضر الدعوة اليوم وهو الاجتهاد الذي لا يرجع إلى فتوى من أهل العلم المعتبرين، فكل يجتهد، وكل يرى أنه على حق، وإذا جئت تنبهه على ملاحظة ظن بك ظن السوء -نسأل الله تعالى العافية- وهذا لا يجوز، فلابد من بيان هذه الحقوق، ولابد من التوجيه فيها، ولابد من ضبطها بالضوابط الشرعية. ولذلك ينبغي صرف الزكاة في مجالها، والله جل وعلا لم يكل أمر قسمة الزكاة إلى ملك مقرب وإلا إلى نبي مرسل، ولكن تولى قسمتها من فوق سبع سماوات؛ لأن فيها الحق المعلوم للسائل والمحروم، وجعل هذه الزكاة لا منة فيها للغني على الفقير، حتى كان بعض أهل العلم يقول: ينبغي على الغني إذا أعطى الفقير أن لا يشعره المن؛ لأن الله تعالى يقول: {والذين في أموالهم حق معلوم} [المعارج:24] ، فليست فيها منة للغني على الفقير، وهذا يدلك على عظم أمرها، فتولى الله تعالى قسمتها من فوق سبع سماوات، وأنزل جبريل الأمين على نبيه بقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة:60] ، فعددها وبينها وجعلها آيات تتلى إلى يوم القيامة، إنصافا لهم في حقوقهم، وتنبيها للأمة على خطر هذا الباب. فإذا كان الشخص محتاجا ومن أهل المساعدة في قتل الخطأ لا قتل العمد، فعند عجز أوليائه وعاقلته عن تحمل الدية يعطى من الزكاة من باب سداد الدين عن العاقلة؛ لأنهم أصبحوا مدينين، فيندرجون تحت القسم الذي ذكره الله عز وجل في قوله: {والغارمين} [التوبة:60] ، والغارمون: جمع غارم، وهو المدين الذي عليه دين، ويشترط عند العلماء أن لا يكون دينه في سفه، كما ذكرنا. فهؤلاء المدينون من أحق الناس بالزكاة، فينبغي تفقدهم والسعي في قضاء حوائجهم، وتفريج كرباتهم، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتح الخير، وأن يجد الخير على أيدينا وأيديكم إنه سميع مجيب، والله تعالى أعلم. معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله. مائة مرة ... ) السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومه مائة مرة ... ) الحديث، هل تقال المائة مرة مجتمعة أم تقال متفرقة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالأصل أنها تقال مجتمعة، والتفريق الذي لا يطول لا يضر، ولكن الأصل أنها تقال مجتمعة في حين المساء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قالها حين يمسي. ومن قالها حين يصبح) ، وهذا يدل على أنها تكون في حين الإمساء وحين الإصباح، وأما أن تكون متفرقة طيلة اليوم فهذا ليس ذكرا للمساء والصباح؛ لأن هذا ذكر مقيد من أجل الحفظ والحرز صباحا ومساء، فينبغي أن يكون عند أول المساء وعند أول الصباح. والمساء يبتدئ من بعد العصر، فلو أنه قالها بعد العصر خمسين مرة، ثم جلس ساعة يرتاح، ثم قالها بعد ذلك، فما زال في حين المساء ولا يضره، كما لا يضره أن يقولها عشرين مرة، ثم يرتاح، أو يقوم ليقضي عملا، ثم يرجع ويقولها عشرين مرة، ثم يتكلم بكلام، ثم يقولها عشرين مرة وهكذا؛ لأنه في حين الإمساء، أما أن يفرقها خلال اليوم كله فلا؛ لأن الفضل هو الحفظ والحرز، وهذا يقتضي أن تكون في أول النهار حتى يحفظ إلى مسائه، أو في أول المساء حتى يحفظ إلى صباحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قالها حين يمسي. ومن قالها حين يصبح) فالمراد بها الحينية والوقت، وهذا يتقيد بالبداية. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تقول: قل هو الله أحد، والمعوذتين إذا أمسيت وإذا أصبحت ثلاثا تكفيك من كل شيء) ، فهل معنى ذلك أنه يقولها ثلاث مرات طيلة اليوم؟ فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمسيت وإذا أصبحت) يقتضي أنها تكون حرزا في حين المساء وحرزا في حين الصباح، ومن هنا فلابد أن تكون مجتمعة، بمعنى أنها في الحينية والظرفية التي يبتدأ بها المساء، أو الحينية والظرفية التي يبتدأ بها الصباح. تحويل النية في السنة من ركعتين إلى أربع السؤال شخص كان يؤدي سنة الظهر بعد الصلاة، فجاء شخص وائتم به، فحول نيته من السنة إلى أربع ركعات، فما الحكم؟ الجواب هذه المسألة فيها جوانب: الجانب الأول: يجوز الانتقال من الأدنى عددا إلى الأكثر، كما لو كان في قيام الليل وصلى الركعة الأولى والثانية، ثم رأى أنه يحتاج إلى كسب الوقت، فبدل أن يجلس في التشهد ويسلم، أتى بالأربع متصلة، فلا بأس به، وليس فيه حرج، لكن المشكلة أن الانتقال هنا سيشبه النافلة بالفريضة، وهذا أصل منع منه طائفة من أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم، ولذلك نهي في الوتر أن يجلس بين الركعة الثالثة والثانية إذا قصد الوصل، حتى لا يتشبه بصلاة المغرب، وهو الأمر الذي اختلف فيه الجمهور مع الحنفية رحمهم الله تعالى، فالشاهد من هذا: أن الأفضل أن يصلي ركعتين ويسلم، ثم يقوم هذا الشخص ويتم الركعتين الباقيتين عليه، والله تعالى أعلم. النذر بعبادة الله تعالى حق عبادته السؤال كنت مريضا ونذرت إن شفاني الله تعالى أن أعبده سبحانه وتعالى، وقلت مرة: أعبده حق عبادته، فشفاني الله عز وجل، ولكنني قلق جدا؛ لأنني نذرت بما لا أستطيع؟ الجواب تعبده حق عبادته بما تستطيع، فتكون عابدا لله عز وجل، وهذا يستلزم ثلاثة أمور: الأول: أن تكون في عقيدتك أخلص الناس قلبا لله عز وجل، وأصدقهم حبا لله سبحانه وتعالى، وأخوفهم لله تعالى، وأشدهم خشية من الله تعالى، وأكملهم رضا عن الله عز وجل، وتستجمع معاني العقيدة في الله عز وجل في قلبك، فتوحده في ألوهيته، وتوحده في ربوبيته، وتوحده في أسمائه وصفاته على أكمل وأتم ما يكون التوحيد. الثاني: أن تعبد الله تعالى بقولك حق عبادته، باستدامه قراءة القرآن، والذكر لله عز وجل. الثالث: أن تعبده سبحانه حق عبادته في جوارحك وأركانك، وتسخرها في طاعة الله تعالى ومرضاته، وما الذي يمنعك من هذا؟ ما الذي يمنعك أن تعبد ربك حق عبادته؟ إذ الأصل أن المسلم يعبد الله تعالى حق العبادة، وما خلق إلا من أجل هذا، فهذا خير عظيم فتح الله تعالى عليك بابه، فإن استغللت وجوب النذر والإلزام عليك، وصدقت مع الله تعالى صدق الله تعالى معك. فإذا كان الإنسان في بعده عن الله عز وجل يجد من التيسير، ويجد من الأمور ما لم يخطر له على بال، فكيف بمن أحب الله تعالى وتقرب إلى الله عز وجل؟! وما الذي يحول بينك وبين عبادة الله تعالى حق عبادته؟ ولا شك أنه لا يستطيع أحد أن يبلغ المقام الكامل في العبادة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له) ، ولم يقل: إني خشيت الله تعالى كمال الخشية، ولم يقل: عبدته كمال العبادة، وإنما هذا أمر نسبي؛ لأنك تعبده حق العبادة بالنسبة لما تستطيع، وأنت مكلف بما تستطيع لا بما لا تستطيع، ولو قلت: أعبده عبادة الأنبياء، أو أعبده عبادة الملائكة، فهذا أمر ليس بيدك، ونذر فيما لا تملك، ولا نذر على الإنسان فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك، كما في السنن. فقولك: أعبده حق عبادته، أمر نسبي معروف بالنسبة لك، والنذور تدخلها الحقيقة الشرعية، وتدخلها الحقيقة العرفية، وتدخلها الحقيقة اللغوية، والأصل أن المكلف إذا تلفظ بهذا اللفظ فإنما يقصد الأمر النسبي، أي: إذا نذر أن يكون ملتزما بالإسلام حقا، وأن يكون مؤمنا صدقا، وأن يكون موحدا كما يحب الله تعالى ويرضى، فاستعن بالله عز وجل ولا تعجزن، (ومن تقرب إلى الله شبرا تقرب الله منه ذراعا، ومن تقرب إلى الله ذراعا تقرب الله منه باعا، ومن أتى يمشي أتاه الله هرولة) ، ففي أي مقام حين تفكر أن تقبل على الله تعالى، وحين تفكر أن تكون مع الله عز وجل، تجد من نفحاته ورحماته وبركاته ما لم يخطر لك على بال! فالله أكرم من أن تسيء الظن به أن يجعلك من العاجزين، فاستعن بالله تعالى ولا تعجز. ومما أوصى به العلماء والأئمة: أن تكون في هذه الحياة مستشعرا أن الله تعالى خلقك لعبادته، وأن الله تعالى أوجدك لطاعته، وهو أغنى ما يكون عنك، وأنت أفقر ما تكون إليه، وأنك لو بلغت مقام العابدين في غاية المقامات فلن تنفع الله تعالى شيئا، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا) ، ولا تحسب أن الله بحاجة لهذا، وإنما هي أعمال منفعتها للعبد، فالمسلم إذا أراد الله تعالى به الخير، وأراد أن يجعله من الصالحين، وأن يهيأه لمراتب المفلحين، جعل في قرارة قلبه أنه لا يرضى لنفسه إلا بالمقام الأعلى في طاعة الله تعالى ومرضاته، فإذا دخل المسجد تمنى من الله تعالى وسأل الله تعالى أن يكون أحب العباد إليه، وإذا جلس في مجلس الذكر تمنى ورجا من الله عز وجل أن يكون أكثر الناس فوزا برحمة الله عز وجل، وإذا قال أو عمل أو سلك أي طريق من الخير دخله وفي قلبه من حسن الظن بالله تعالى وحسن الرجاء في الله تعالى ما يبلغ به مقامات الخير، فإذا لم يكن بعمله فبنيته. والشخص قد يدخل في حلقة، أو يفعل طاعة، أو يأتي في أمر من أمور الخير والطاعة والبر ويشترك مع الأمة، فيدخل المسجد ويصلي مع الجماعة، ويخرج من المسجد حينما يدخل وهو يرجو أن يكون أفلح الناس، وكأنه حينما يدخل المسجد منكسر القلب يقول: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، اللهم لا تحل بيني وبين رحمتك بسبب ما كان من ذنبي وتقصيري، فيدخل منكسر القلب، فيرفعه الله تعالى بهذا الانكسار، ويفتح عليه من الخشوع والقرب والدنو والإنابة إلى الله عز وجل الخير الكثير، فإذا أراد أن يخرج خرج بالانكسار أيضا، وخرج وهو يظن أنه أحقر الناس، وأنه أقل الناس، فلا يزال بهذا الاحتقار يرفع إلى درجات. والعكس، فربما دخل -والعياذ بالله تعالى- وهو لا يفكر في شيء إلا أن يؤدي الصلاة، فيدخل وقلبه خاو -والعياذ بالله تعالى-، ثم إذا خرج ظن أنه كطالب علم، أو كأنه بلغ منزلة من منازل العبادة، وأنه ليس بالحال التي يعتقد فيها البعد عن الله تعالى، فلا يزال في سفال من الله عز وجل. فإذا جئت للعبادة قائلا: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، فمعناه: أنك تستشعر أن لله تعالى عليك حقا، أن تقف بين يديه أكمل الوقوف، وأن تخشع بين يديه كمال الخشوع، فلما استشعرت أن لله تعالى عليك هذا الحق جاهدت نفسك قبل العبادة، ثم احتقرت نفسك وانتقصتها بعد العبادة، فبلغك الله تعالى بهذا مقام العابدين. وإذا لم يكن عندك هذا الشعور كإنسان صالح تقي، فقد جاءك بالنذر، فأنت حينما تحس أنه نذر عليك، وبينك وبين الله عز وجل أن تكون في هذا المقام الصالح على أكمل ما يكون عليه أهل العبادة قولا وعملا واعتقادا، فكلما قصرت احتقرت نفسك، فنحن نريد هذا الشعور أن يبقى معك، ونريد أن هذا الأمر يبقى ملزما لك لتكون في أعلى المقامات، واستعن بالله تعالى ولا تعجز، فإنه ليس بينك وبين الجنة شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، وليس بينك وبين النار شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا الأعمال والأقوال تدني إلى ذي العزة والجلال، أو تنتهي إلى خسارة ووبال، والمعصوم من عصمه ذو العزة والجلال. فعلى العبد أن يتقي الله عز وجل، وأن يحرص دائما -سواء نذر أم لم ينذر- على أن يكون في أكمل المقامات، فإذا دخل بيته رجا من الله تعالى أن يكون أبر الناس بوالديه، وأكمل والد لولد، وأعطفهم وأرحمهم على ذريته ومن ولاه الله تعالى عليه من رعيته، ثم إذا جاء إلى عمله طمع من ربه أن يجعله في وظيفته وعمله ومكتبه على أحسن ما يكون من تحمل الأمانة والقيام بها، فيرعاها حق رعايتها، ويسأل الله تعالى أن يجعله موفقا مسددا، وهكذا ينتقل من بر إلى بر، ومن خير إلى خير، فيخوض في الرحمات، ويفوز بأعالي الدرجات، حتى ينتهي به الحال والأمر إلى الجنات. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل إنه ولي ذلك والقادر عليه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (498) صـــــ(1) إلى صــ(28) شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [1] ينقسم القصاص إلى: ما يتعلق بالنفس، وما يتعلق بما دون النفس، ومما يتعلق بما دون النفس: القصاص في الأطراف؛ كاليد والرجل والعين والأذن ونحوها، فإذا جنى الجاني على المجني عليه بقطع شيء من ذلك قطع منه مثل الذي قطع سواء بسواء، وهناك شروط لابد من توافرها حتى يحكم بالقصاص في الأطراف. أقسام القصاص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس] . ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة، والتي قصد بها أن يبين أن هذا الموضع مختص بالقصاص فيما دون النفس، وقد تقدم معنا أن القصاص ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالقصاص في الأنفس، وذلك بالاعتداء على الأرواح بإزهاقها. القسم الثاني: يتعلق بالقصاص فيما دون النفس. والذي دون النفس ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الجناية على الأطراف، ويكون القصاص في الأطراف. القسم الثاني: أن تكون الجناية في غير الأطراف من الجروح والكسور ونحو ذلك. فإن كانت الجناية في الأطراف فتنقسم إلى قسمين أيضا: الأول: أن تكون الجناية على الأطراف بقطعها وبترها، مثل أن يقطع يده، أو يقطع رجله، أو يقطع أذنه، أو يفقأ عينه، ونحو ذلك. الثاني: أن تكون الجناية على الطرف بإتلاف منفعته، مثل أن يجني عليه فيضربه ويلطمه لطمة تذهب نور بصره، فلا يبصر ويصبح كفيف البصر، أو يزول الإبصار من إحدى عينيه دون الأخرى، فهنا العين موجودة، ولكن الجناية أثرت في منفعة العين وهي الرؤية، أو يضربه على أذنه فيذهب السمع والأذن موجودة، فالطرف لم يتضرر ولم يذهب بل هو موجود، ولكن الجناية أثرت في منفعة هذا الطرف، فهذا مجمل الجنايات. فالمصنف رحمه الله بعد أن فرغ من بيان القصاص في النفس أراد أن يبين القصاص فيما دون النفس، وهذا ترتيب منطقي عند العلماء، وهو التدرج من الأعلى إلى الأدنى، وهذا له دليل من الكتاب، فإن الله تعالى يقول: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن} [المائدة:45] ، فابتدأ الله بالأنفس، ثم بعد ذلك بالأطراف، فابتدأ بما هو أعظم. ومن هنا سلك الفقهاء رحمهم الله هذا المسلك، فابتدءوا بالقصاص في النفوس، وبيان متى يجب القتل قصاصا ويثبت القود لمستحقه، ثم بعد ذلك شرعوا فيما يتعلق بالأطراف والجنايات بالجروح، والله عز وجل جاء بالثلاثة الأنواع فقال تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة:45] ، فجعل القصاص في هذه الأمور إما في النفس، وإما في الأطراف، وإما في الجروح، وهذا من بديع القرآن، وهو تدرج من الأعلى إلى ما هو أدنى منه. فالمصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا في هذا الموضع القصاص في الأطراف وفي الجروح، فقال رحمه الله: (باب القصاص فيما دون النفس) ، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بثبوت القصاص في الجناية إذا كانت لا تصل إلى حد إزهاق النفس، ويستوي في ذلك أن تكون جناية بإتلاف الأطراف أو منافعها، أو جناية بالكسر، أو جناية بالجروح. ما يقاد به في النفس يقاد به في الأطراف والجراحات قال رحمه الله تعالى: [من أقيد بأحد في النفس أقيد به في الطرف والجراح] . هذه قاعدة في القصاص في الأطراف، وعلى هذا فلا بد من وجود -أولا- العمد والعدوان، فلا نحكم بالقصاص على رجل قطع يد رجل إلا إذا كان القاطع قاصدا للجناية وقاصدا للإتلاف. فلو أن شخصا أغلق باب بيته ولم ينتبه لمن كان واقفا، فقطع الباب يد رجل، فهذا خطأ لا قصاص فيه؛ لأنه ليس هناك موجب القصاص وهو العمد العدوان، وقد تقدم معنا هذا، وبينا متى تكون الجناية عمدا، ومتى تكون خطأ، ومتى تكون شبه عمد، وبينا الضوابط في هذا من خلال الأدلة النقلية والعقلية. ولو جنى عليه جناية أضرت بالطرف أو منفعته، أو أوجبت جرحا أو كسرا، فإننا لا نحكم بالقصاص إلا إذا كان الجاني مكلفا، فلو أن مجنونا أقدم على ضرب شخص فقطع رجله، أو قطع يده، أو فقأ عينه، أو قطع أذنه فلا قصاص؛ لأن المجنون غير مكلف، ولو أن صبيا اعتدى على بالغ فقطع رجله، أو قطع يده، فعمد الصبي والمجنون خطأ، وقد تقدم معنا هذا. وكذلك يشترط أن يكون المجني عليه معصوما، فإذا قطع المسلم يد المسلم عمدا عدوانا قطعت يد الجاني، وإذا قطع أذنه قطعت أذنه، ولو أن كافرا قطع يد مسلم عمدا عدوانا قطعت يده، ولو أن رقيقا قطع يد الحر عمدا عدوانا قطعت يده، على تفصيل عند الفقهاء رحمهم الله. فما تقدم معنا في شروط القصاص في النفس كذلك هو شرط في القصاص في الأطراف والجروح، فلابد من وجود العصمة للمجني عليه، ووجود التكليف في الجاني، وقصد العمد والعدوان في الجناية، وألا يكون المجني عليه بعضا مثلما ذكرنا، وألا يوجد موجب لسقوط القصاص، وبناء على ذلك: لو أن امرأة قطعت يد رجل قطعت يدها، ولو أن رجلا قطع يد امرأة قطعت يده، ولو أن جماعة قطعوا يد رجل ظلما وعدوانا، واشترك الجميع في فعل القطع قطعت أيديهم، لكن لو أن أحدهم قطع أصبعا، والثاني قطع الأصبع الثاني، والثالث قطع الأصبع الثالث، والرابع والخامس. قطعنا من كل واحد مثل الأصبع الذي قطعها. إذا: لابد من وجود الأصول التي قررناها في القصاص في النفس، واستيفاء الشروط المعتبرة للحكم بثبوت القصاص؛ لأن الله عز وحل شرع لعباده القصاص، وهذه الشرعية من الله سبحانه وتعالى جاءت بغاية العدل الذي تمت كلمة الله عز وجل به كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] . فلا بد من تحقق هذه الأمور لكي نوجب القصاص في الجناية على الأطراف، مثلما قررنا في الأنفس كذلك نقرر في الأطراف. قال رحمه الله: [ومن لا فلا] . أي: لو أن والدا قطع يد ولده، لم تقطع يد الوالد، كما أنه إذا قتله لم يقتل به، على التفصيل الذي تقدم معنا، ولو أن مسلما قطع يد كافر لم تقطع يد المسلم؛ لأن الذي قطعت يده ليس بمعصوم. قال رحمه الله: [ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس] . أي: ولا يجب القصاص إلا بما يوجب القود في النفس، وقصده في الأول من جهة الأفراد، وفي الثاني من جهة الشروط، من وجود العصمة، وثبوت الجناية العمد العدوان، والمكافأة. إلى غير ذلك مما ذكرناه في القصاص في النفس. القصاص في الأطراف قال رحمه الله: [وهو نوعان: أحدهما في الطرف] . أي: القصاص فيما دون النفس نوعان، وهذان النوعان منتزعان من القرآن؛ لأن القرآن قسم الجناية على ما دون النفس إلى قسمين: الأول: جناية على الأطراف. الثاني: جناية على الجسد بالجروح والشجاج والكسور، وجمع الله النوعين في قوله: {والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة:45] فمن قوله تعالى: (والعين بالعين) يبدأ القصاص في الأطراف، ثم قوله تعالى: (والعين بالعين) ، جمع فيه الجناية على العين بالذات، والجناية على منفعتها بإذهاب البصر، ومن هنا يقتص بإتلاف العضو قائما، وإتلاف منفعته، على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله تعالى. القصاص في ذهاب العين كلها أو منفعتها قال رحمه الله: [فتؤخذ العين والأنف والأذن والسن والجفن والشفة واليد والرجل والأصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والإلية والشفر كل واحد من ذلك بمثله] . قوله: (فتؤخذ العين) أي: فتؤخذ العين بالعين؛ لأن الله تعالى يقول: {والعين بالعين} [المائدة:45] ، فالعين الأولى عين الجاني، تؤخذ بالعين الثانية التي هي عين المجني عليه، فالله عز وجل أوجب علينا أن نفقأ عين الجاني كما فقأ عين المجني عليه، وأن نتلف بصر عين الجاني كما أتلف بصر عين المجني عليه، وأن يكون هذا على سبيل المماثلة بالشروط التي سيبينها المصنف رحمه الله، بما يتحقق به العدل وتتحقق به المساواة، وأن لا يكون فيه جور ولا ظلم. والعين: العضو المعروف، ويستوي أن تكون العين المقتص منها مماثلة للعين وغير مماثلة، فالعين الكبيرة بالعين الصغيرة، والعين الصغيرة بالكبيرة، والعين الجميلة بالعين ناقصة الجمال، والعين الكحلاء بالزرقاء، والزرقاء بالكحلاء، وتؤخذ العين بالعين على العموم الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، لكنه مقيد بضوابط تتحقق بها المساواة ويحصل بها التماثل. فإذا جنى الجاني على عين المجني عليه كلا، فقلع العين كلها، قلعت عينه كما قلع عين المجني عليه، بشرط أن يؤمن الحيف، على تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله في الشروط. ولو أنه ضربه ضربة أذهبت منفعة العين وأبقت العين، مثل اللطمة، ففي هذه الحالة يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، ومن العلماء من قال: يلطم، فإن ذهب نور بصره حصل العدل، وإن لم يذهب نور بصره أذهب هذا النور بالعلاج، فيقطر في عينه من الدواء ما يذهب نور البصر، كما أذهب نور بصر غيره. وهذه المسألة فيها قضاء عن الصحابة وشبه إجماع؛ لأنه لم يخالف فيها أحد، وحاصله: أن عثمان رضي الله عنه كان عنده مولى، فجاء رجل من الأعراب بجلب إلى السوق يريد أن يبيعه، فأخذ وأعطى مع هذا المولى، وكان المولى شديدا، فوقعت بينهما خصومة، فقام المولى وضرب الأعرابي ضربة أذهبت نور عينه، وأضرت بالمنفعة والعين قائمة، فوصل الخبر إلى عثمان رضي الله عنه، فنادى الأعرابي، وعرض عليه أن يعطيه ضعف الدية حتى يسامح ويتنازل، فأصر الرجل على حقه، فلما أصر على حقه رفعهما إلى علي رضي الله عنه، فأمر علي أن تحمى حديدة فأحميت، وأمر أن تكف العين الثانية التي هي خارج الجناية وأن تستر، ثم وضع الحديدة أمام العين حتى سالت وذهب بصرها، ففعل به مثلما فعل بالجاني من إذهاب بصره. وهذا الفعل من علي رضي الله عنه شبه إجماع لم ينكره أحد من الصحابة، وهو خليفة راشد وبمحضر عثمان رضي الله عنه، وفي حال حياته، ولم ينكره أحد. ولذلك فبعض الفقهاء يقول: إنه إذا لطمه وأذهب بصر العين فإنه لا يلطمه؛ لأن اللطم لا يؤمن معه الحيف، واللطمة عن اللطمة تختلف، ولا نستطيع أن نضبط اللطمة بقدر تتحقق به المساواة، فقالوا: في هذه الحالة ذهاب المنفعة، فنذهب منفعة عينه كما أذهب منفعة عين أخيه. فمنهم من قال بالدواء، مثلما ذكر بعض الأئمة من تقطير الكافور ونحوه مما يذهب البصر، ولكن يشترط إذا عولجت العين بالدواء ألا يؤذي هذا الدواء داخل البدن؛ لأنه زيادة على الجناية فلا يجوز. وفعل علي رضي الله عنه أخرج الأمر عن الإشكال؛ لأنه جاء بالحديدة محماة ثم وضعت أمام العين حتى سالت وذهب نور الإبصار فيها، وما أحرق بها العين، وحينئذ تلافى الضرر بتقطير الدواء؛ لأن تقطير الدواء لا يؤمن معه الضرر كما لا يخفى. وعلى هذا انعقدت كلمة الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لا يعرف مخالف لـ علي رضي الله عنه في هذا، ولـ عثمان في سكوته على هذا القضاء. ويستوي في ذلك أن تكون العين المجني عليها قوية الإبصار والجانية ضعيفة، أو العكس، فتؤخذ العين قوية الإبصار بالعين الضعيفة، ما دام أنه يبصر بها، ومنفعة الإبصار موجودة، فتؤخذ منفعة عينه كما أخذ منفعة عين أخيه، هذا بالنسبة للعين. القصاص في الجناية على الأنف قوله: (والأنف) الأنف: هو العضو المعروف في الوجه، فلو جنى على الأنف جناية فقطع بها الأنف، كما لو اختصما فأخذ الجاني سكينا فقطع أنف الآخر، والقطع يكون لما لان من الأنف وهو المارن، فإذا جدع الأنف وقطعه جدع أنفه بأنف أخيه، لقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف} [المائدة:45] . ويستوي في ذلك أن يكون الأنف كبيرا وأنف المجني عليه صغيرا، أو أن يكون الأنف طويلا والآخر أفطس أو قصيرا، فما دام أنه قد أخذ هذا العضو وجدعه من أخيه جدع أنفه، سواء ماثله في صفات الكمال أم لم يماثله، ولو كان المجني عليه لا يشم بأنفه، فحاسة الشم عنده غير موجودة، وجاء جان فقطع أنفه، والجاني يشم وحاسة الشم عنده موجودة، فيقطع أنفه؛ لأن العبرة بالجرم، ومسألة أن يشم أو لا يشم أمر متعلق بالدماغ في تلك المنفعة، لكن الجناية وقعت على الطرف نفسه، فمادام قد قطع الأنف يقطع أنفه، بغض النظر عن كون الأنف المقطوع يشم به أو لا يشم، وإنما المراد أنه مثل بأخيه المسلم، ثم إنه إذا قطع أنفه لم تذهب حاسة الشم من كل وجهه؛ لأن حاسة الشم متعلقة بالدماغ، فيقطع أنفه كما قطع أنف أخيه، ويجدع أنفه كما جدع أنف أخيه. وهذا لقوله تعالى: {والأنف بالأنف} [المائدة:45] ، فأمر الله بالقصاص في الأنف، سواء استوى الأنفان في الطول والقصر -كما ذكرنا- أم اختلفا، فكما أنه أزال العضو بكامله يزال عضو الأنف منه بكماله وتمامه. الأذن والخلاف في القصاص بالمتحشفة قوله: (والأذن) أي: يجب القصاص في الأذن، فتؤخذ أذن الجاني إن قطع أذن المجني عليه، وذلك لقوله تعالى: {والأذن بالأذن} [المائدة:45] ، فأمر الله بالقصاص في طرف الأذن، وأوجب علينا أن نقطع أذن الجاني كما قطع أذن المجني عليه، سواء اتفقت صفات الأذن طولا وقصرا وجمالا ونقصا في الجمال أم اختلفت. ولكن عند العلماء خلاف في الأذن المتحشفة، وهي التي تيبست من المرض حتى صارت مثل خسف التمر، فإذا جنى الجاني على أذن متحشفة، وأذن الجاني سليمة، فهل تقطع أذن الجاني أو لا؟ في ذلك وجهان للعلماء رحمهم الله تعالى: فمنهم من قال: إن كونها متحشفة لا يمنع منفعة السمع؛ لأن صوان الأذن يحفظ الأصوات ويعين على السماع، فقطع أذن الجاني مثلما قطع أذن المجني عليه؛ لأن المعنى فيهما واحد، وهذا في الحقيقة أقوى الوجهين وأصحهما وأولاهما بالصواب إن شاء الله؛ لأن العبرة بصوان الأذن كما لا يخفى، وهذا معروف؛ لأن الأذن إذا تحشفت يبست، ولكن الجرم موجود والسماع موجود، والانتفاع بالمتحشفة موجود كالانتفاع بغير المتحشفة. وكما أننا نقتص من صاحب الأذن الكبيرة بالأذن الصغيرة لوجود الخلقة، فالمتحشفة في حكم الأذن الصغيرة، ولكن المنفعة موجودة وهي السماع، ولأن الله عمم فقال: {والأذن بالأذن} [المائدة:45] ، وهذا عام يدل على أننا نقتص ممن قطع الأذن على الصفات التي ذكرناها. فإذا نظرنا إلى الأذن ففيها منفعة وهي السمع، وفيها الجرم والذات المتعلقة بالطرف، فإذا كانت الجناية على طرف الأذن أخذت أذن الجاني بأذن المجني عليه. القصاص في الجناية على السن قوله: (والسن) . أي: وتؤخذ السن بالسن، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أن الربيع بنت النضر رضي الله عنها وعن أبيها، اختصمت مع امرأة فاعتدت على سنها، فبلغت القضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أنس بن النضر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: كتاب الله القصاص -أي: تكسر ثنية الربيع كما كسرت ثنية أختها في الإسلام-، فقال أنس بن النضر رضي الله عنه: لا والله لا تكسر ثنية الربيع، -قالها من محبته، والإنسان تدركه الشفقة، وقد كان رجلا صالحا، ومن خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطمع من الله أن لا تكسر ثنية الربيع - فتنازل أهل المجني عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) فما ذهبت يمينه. فالشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، والله يقول في كتابه: {والسن بالسن} [المائدة:45] . وعلى هذا فلو أنه اعتدى على سن أو أكثر فقلعها من المجني عليه قلع مثلها من الجاني، وأخذ بجنايته مثلا بمثل، كما أمر الله تعالى. القصاص في الجناية على الجفن والشفة قوله: [والجفن] أي: جفن عين الجاني يؤخذ بجفن عين المجني عليه، فنأخذ من الجاني جفنه، ولو أنه اعتدى فقطع الجفن الأعلى والجفن الأسفل من المجني عليه قطعنا من عينه مثلما قطع، وهذا -كما ذكرنا- بشرط أمن الحيف، وكما يقع القصاص في الطرف كاملا يقع في جزء الطرف، فلو أن الجاني قطع يد المجني عليه كاملة من المنكب، فإننا نقطع يد الجاني من مفصل الكتف، مثلما قطع يد المجني عليه. ولو أنه قطع جزء اليد فقطع الأصابع قطعنا أصابعه، ولو قطع من مفصل الكف مع الساعد قطعنا يده من مفصل الكف مع الساعد، ولو أنه قطع من مفصل المرفقين قطعنا من مفصل المرفقين، فيكون القصاص في كل الطرف وفي جزء الطرف، لكن بشرط أمن الحيف -كما سيأتي-، ويكون له موضع يمكن أن تتحقق به المساواة ويتحقق به العدل. قوله: [والشفة] أي: لو أنه قطع شفة المجني عليه السفلى أو العليا قطعنا شفته السفلى إن كانت الجناية في السفلى، وإن كانت في العليا قطعنا العليا، وإن قطعهما قطعناهما منه، مثلا بمثل سواء بسواء؛ لأن الله أمرنا بالقصاص، فلما ذكر الله عز وجل العين والأنف والأذن والسن نبه بما ذكر على بقية الأعضاء، فلا يأتي شخص ويقول: القصاص في هذه الأعضاء المذكورة فحسب، فإن الله عز وجل ينبه بالمثل على مثيله، وبالشيء على نظيره وشبيهه، فكما أن الجاني إذا جنى على الأذن قطعنا أذنه، كذلك إذا جنى على اليد قطعنا يده، وإذا جنى على الرجل قطعنا رجله مثلا بمثل سواء بسواء؛ لأن الله قال: {كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] ، وقال: {والجروح قصاص} [المائدة:45] ، فجعل الأمر راجعا إلى المقاصة والمماثلة، فكما أنها تقع في الأنفس تقع كذلك في الأطراف. القصاص في الجناية على اليد قوله: (واليد) أي: تقطع يد الجاني باليد وهي يد المجني عليه، وننظر في جنايته على اليد، فإن كانت على اليد كلا بأن قطع بالسكين يد المجني عليه من مفصل الكتف -والعياذ بالله- فإننا نفعل به مثلما فعل بالمجني عليه، سواء أكانت يده طويلة أم قصيرة، وسواء كانت يده ذات قيمة أم لم تكن، كيد الصناع الذي له حرفة، فيده لها أثر ولها قيمة. فإذا قطع رجل أو ذو صنعة يد رجل لا صنعة له فقالوا: تقطع أيدي أصحاب الحرف بأيدي من لا حرفة له؛ لأن الإسلام سوى بينهم، وتقطع يد الجاهل بالعالم، وتقطع يد الوضيع بالشريف، والضعيف بالشريف، ويد القوي تقطع بيد الضعيف، عدلا من الله عز وجل، فمثلما فعل بأخيه يفعل به، وقد سوى الإسلام بينهما، فإذا قطعها كلا قطعت يده كلها، وإذا قطعها من مفصل يمكن القطع منه دون حيف وجور، قطع من مفصل الكف، وكذلك من مفصل المرفق، وهكذا. القصاص في الجناية على الرجل قوله: (والرجل) أي: تقطع الرجل بالرجل، فلو أنه اعتدى على رجل المجني عليه فقطعها من الكعبين، قطعنا رجله من الكعبين، أو قطع رجله اليمنى قطعنا رجله اليمنى، أو قطع رجله اليسرى قطعنا رجله اليسرى، مثلا بمثل سواء بسواء، سواء أكانت الرجلان على صفة واحدة طولا وقصرا أم لا، فلو كانت رجل الجاني طويلة ورجل المجني عليه صغيرة، قطعنا الرجل الطويلة بالصغيرة، والعكس؛ لأن المراد الاتحاد في العضو وقد حصل، والعدل يتحقق بأخذ هذا العضو بمثله ممن اعتدي عليه. القصاص في الجناية على الأصبع قوله: (والأصبع) : أي: ولو قطع الأصبع قطعنا أصبعه، فيقطع أصبع الجاني بأصبع المجني عليه، سواء أكان من أصابع اليد أم من أصابع الرجل، ولا بد من العدل في هذا، فإذا قطع الخنصر قطعنا خنصره بخنصر المجني عليه، ولو قطع البنصر قطعنا بنصره، ولو قطع الوسطى قطعنا الوسطى منه مثلا بمثل، ولو اجتمع جماعة -كما ذكرنا- فقطع بعضهم الخنصر والثاني البنصر والثالث الوسطى والرابع السبابة والخامس الإبهام، قطعنا من كل شخص مثلما قطع. فإن اجتمعوا كلهم وأخذوا حديدة، أو قاموا بتحريك جهاز كلهم اشتركوا في تحريكه وإدارة الفعل الذي يكون به قطع الرجل، فحسمت الرجل كلها، أو حسمت الأصابع كلها، أو حسمت اليد كلها، حسمنا من الجماعة جميعا أيديهم، وحسمنا أرجلهم مثلما يقع من الجناية على المجني عليه؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد ففعله موجب للقطع. وهذا كما ذكرنا في القصاص في النفس أن الجماعة لو اشتركوا في فعل لو انفرد الواحد منهم به قتل، فإنهم كلهم قتلة فيقتلون بالمقتول، وبينا دليل ذلك، والأصل في هذا قضاء الصحابة رضوان الله في السنة العمرية من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الراشد رضي الله عنه، وإقرار الصحابة على هذا. القصاص في الجناية على الكف والمرفق قوله: (والكف) أي: وكذلك الكف، والكف سمي كفا؛ لأنه تكف به الأشياء، وحد الكف من أطراف الأصابع إلى الزندين، فهذا يمسى كفا، وبطنه تسمى الراحة، فلو أنه قطع الكف قطعنا كفه، فإن قطع كف اليمنى قطعنا كفه اليمنى، وإن قطع كفه اليسرى قطعتا كفه اليسرى. وقوله: (والمرفق) سمي المرفق مرفقا؛ لأنه يرتفق عليه، أي: يتكأ عليه، والمرفق: هو مفصل الساعد مع العضد، فالعظم الذي بين زند الكف وبين العضد يقال له: الساعد، وما بين مفصل المرفق ومفصل الكتف يقال له: العضد، فإذا قطع اليد إلى المرفقين قطعنا يده إلى المرفقين، وإذا قطعها إلى الكوع قطعناها إلى الكوع، وهكذا. قطع الذكر والخصية أو تعطيل منافعها قوله: (والذكر) إذا جنى عليه بقطع ذكره، فقد أجمع العلماء رحمهم الله كلهم على أنه يقتص من الجاني، فيقطع ذكره كما قطع ذكر المجني عليه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {والجروح قصاص} [المائدة:45] ، وهذا بإجماع العلماء، كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني؛ أنه يجب القصاص بإجماع أهل العلم في قطع الذكر، سواء أقطعه كاملا مع الخصيتين، أم قطع العضو وحده دون الخصيتين، فيقطع منه مثلما قطع من المجني عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، فكما أنه جنى هذه الجناية على أخيه المسلم فإنه يفعل به مثلما فعل به. وقوله: (والخصية) كذلك لو أنه جنى على خصيته، فإذا جنى على خصيته فقطعها قطعنا منه مثلما قطع، وهذا كله بشرط أمن الحيف، أي: أن يكون القطع بطريقة يمكن أن يقتص منه فيها، ولا تكون هناك زيادة عند القصاص، أما إذا لم تؤمن الزيادة فلا، وهذا سيأتي إن شاء الله تعالى في الشروط. ولو جنى عليه جناية في خصيته عطلت منافعه فأصبح عقيما، فيفعل به مثلما فعل بالمجني عليه إذا أمكن ذلك وأمن الحيف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، وكذلك لو اعتدى عليه فعطل منفعة الذكر فأصبح لا ينتشر، فيفعل به من الدواء ما يمنع انتشار ذكره، فيستعمل منه مثلما استعمل من أخيه. القصاص في الجناية على الإلية قوله: (والألية) وكذلك لو أنه قطع إلية أخيه، فإنه تقطع إليته، ولو قطع الإليتان قطعت منه الإليتان، ويستوي أن يتفقا في حجم الإلية أو يختلفا، كما لو كان أحدهما سمينا ذا شحم فإنه يؤخذ النحيف بالسمين والسمين بالنحيف؛ لأن المراد المساواة في العضو، فما دام أن هذا الجزء قطع فيقطع من الجاني مثله، وهذا كله -كما ذكرنا- بشرط أمن الحيف، وهذه المواضع ليست كالكف، وليست كالمرفق لها مفصل معين، بل تحتاج إلى نظر في الجناية، والرجوع إلى أهل الخبرة والأطباء في تقرير المماثلة والقصاص. فإن قالوا: تمكن المماثلة حكمنا بالقصاص، وإن قالوا: لا يمكن، فحينئذ لها شأن آخر يأتينا إن شاء الله في حال عدم أمن الحيف. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
القصاص في الجناية على شفر المرأة وشرط اتحاد الجنسين في الأعضاء التناسلية قوله: (والشفر) الشفر في فرج المرأة، فإذا اعتدت امرأة على امرأة فقطعت شفريها قطع منها الشفران، ولو قطعت أحد الشفرين الذي هو جانب الفرج الأيمن أو الأيسر قطع منها مثلما قطعت من أختها، وهذا بالنسبة لاتحاد الجنس. أما إذا كان الجاني رجلا فلا يمكن أن يتحقق التماثل، ومثل هذا لا تستطيع أن تحكم فيه بالقصاص، فيشترط اتحاد الجنسين -أي الجاني والمجني عليه- بالنسبة للأعضاء التناسلية. ولكن هنا مسألة أخرى وهي: لو أنه اعتدت امرأة على خنثى مشكل، فإن الخنثى إذا أشكل فرجه فليس أصليا، وحينئذ فهناك نزاع بين العلماء رحمهم الله، أما إذا تبين وكان فرجا أصليا، فبعض العلماء يرى أن الخنثى إذا صار ذكرا صار الشفر وفرج الأنثى فيه عضوا زائدا، وحينئذ تأتينا مسألة قطع الأصلي بالزائد، والزائد بالأصلي، وسيكون تفصيله -إن شاء الله- في موضعه. وكذلك إذا استبانت أنثى وكانت الجناية على عضو الذكر فنفس الحكم؛ لأنها لما تمحضت أنثى وتبين أن الخنثى وجدت فيه علامات على كونه امرأة، فحينئذ عضو الذكر فيها زائد، فيكون كالجناية على العضو الزائد. وقوله: (كل واحد من ذلك بمثله) أي: يؤخذ كل واحد مما تقدم من العين والأنف والأذن والسن والذكر والخصية والإلية والجفن وغيرها مما ذكره رحمة الله عليه بمثله، وعلى هذا فلابد من اتحاد الأعضاء، فلا تؤخذ اليد بالرجل، ولا تؤخذ العين بالأذن، ولو كان المأخوذ أقل منفعة مما أخذ، فلابد من الاتحاد والتماثل، ولا يجوز اختلاف الموضعين، وهذا محل إجماع، فلو اعتدى على يده وكانت يدي الجاني مقطوعة بأن قطعت بعد الجناية، سقط القصاص؛ لأنه لا يمكن الاتحاد والتماثل. وكذلك لو اعتدى على رجله فقطعت رجله قبل أن يقتص منه، فلا يمكن القصاص، ولا يجوز أن يقتص من يده مثلا. ومن هنا قال رحمه الله: (كل واحد من ذلك بمثله) ، فلابد من وجود التماثل بين عضو الجاني وعضو المجني عليه. شروط القصاص في الأطراف قال رحمه الله: [وللقصاص في الطرف شروط] الشروط: جمع شرط، وهذه الشروط إذا وجدت حكمنا بالقصاص، وإذا فقدت أو فقد بعضها لا يحكم به. الشرط الأول: الأمن من الحيف قال رحمه الله تعالى: [الأول: الأمن من الحيف] معنى الأمن من الحيف أي: من الزيادة في القصاص على مقدار الجناية، والدليل على ذلك أن الله تعالى أوجب القصاص؛ كما نص على ذلك دليل الكتاب، ودليل السنة الصحيحة في قوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، ولا يمكن أن يتحقق القصاص مع وجود الزيادة؛ لأن الجاني حينها يكون مظلوما، ومن هنا قالوا: لو أنه قلع عينه، وغلب على الظن أننا لو قلعنا عينه بالطريقة التي قلعها الجاني أننا سنزيد ولا نأمن أن تحدث مضاعفات، وقد يموت الجاني، ففي هذه الحالة لا يقتص؛ لأن الجناية التي فعلها الجاني لا يمكننا أن نفعل مثلها بالجاني، وحينئذ لا يتحقق القصاص الذي أوجب الله عز وجل وفرضه. وعلى هذا إذا لم تؤمن الزيادة، ولم يؤمن الحيف، فإنه لا يجب القصاص. قال رحمه الله: [بأن يكون القطع من مفصل] . هذا تفصيل وتفسير لما تقدم، فالأمن من الحيف يتحقق بوجود نهاية للعضو المجني عليه، فيمكننا عند القطع أن نصل إليها، فإذا قطع كفه فعندنا مفصل الكف، وإذا جئنا نقطع كف الجاني فإننا نأمن الزيادة؛ لأن عندنا حدا واضحا نقف عنده، فحينئذ القطع فيه أمن من الحيف والزيادة، فيجب حينئذ القصاص ويثبت، ولذلك قال رحمه الله: [أو له حد ينتهي إليه] ، وذلك مثل أن يكون له مفصل كالكف والأصابع، فلو أنه أخذ أنملة من أصبع فإنه يمكن أن تؤخذ نفس الأنملة من الجاني؛ لأن لها مفصلا، فيمكن تحقق المساواة، وحصول العدل المطلوب بالقطع والبتر والإبانة من هذا المفصل. قال رحمه الله: [كما رن الأنف وهو ما لان منه] . أي: كما في مارن الأنف، فلو أخذه بسكين فجدعه جدعنا المارن من الجاني، وحينئذ يتحقق العدل وتحقق المساواة. الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع قال رحمه الله: [الثاني: المماثلة في الاسم والموضع] . أي: يشترط أن يتماثلا في الاسم ويتماثلا في الموضع؛ لأن أصل القصاص المساواة والتماثل، فإذا اختلف الاسم واختلف الموضع فإنه لا قصاص، فإذا أخذ الجاني يد المجني عليه اليسرى فيجب أن نأخذ يده اليسرى، وحينما يأخذها من مفصل الكف نأخذ من مفصل الكف، وهكذا. ولا يجوز أن تؤخذ اليسرى باليمنى ولا اليمنى باليسرى؛ إذ لابد من التماثل في الاسم والموضع. ولذلك قال رحمه الله: [فلا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين] . ولو أنهما تراضيا على ذلك، فنقول: لا، حتى ولو تراضيا، فلا تؤخذ اليد إلا بمثلها مستوية في الاسم والموضع؛ لأن موضع اليد اليمين ليس كموضع اليد الشمال، والجناية في موضع اليمين ليست كالجناية في موضع الشمال، وأخطر ما تكون الجناية في اليسار؛ لأنها جهة النزف للقلب، وأكثر المنافع في اليمين؛ لأن اليمين غالبا يكتب بها، ويتعاطى بها الأشياء المنتفع بها الصالحة والطيبة. فعلى كل حال موضع اليمين ليس كموضع اليسار، واسم اليمين ليس كاسم اليسار، فلا تؤخذ يد يسرى بيد يمنى ولا العكس. قال رحمه الله: [ولا خنصر ببنصر] : أي: ولا يؤخذ الخنصر بالبنصر، فلو قطع الخنصر - وهو الأصبع الصغير- من المجني عليه، فقال الجاني: اقطعوا بنصري، فنقول: لا يقطع إلا الخنصر الذي قطعت مثله، وسواء أوجد الخنصر أو أم يوجد، فإن لم يوجد الخنصر وقال: اقطعوا البنصر، فنقول: لا يقطع إلا ما قطعت، ولا يبتر إلا ما بترت، ولا يجدع إلا ما جدعت. قال رحمه الله تعالى: [ولا أصلي بزائد ولا عكسه] . هذه المسألة سبقت الإشارة إليها، فلو كان عنده أصبع زائد، فجاء الجاني وقطع الأصبع الزائد، فلا نقول: اقطعوا أصبعا من أصابعه؛ لأن الجاني ليس له أصبع زائد، والأصبع الزائد ليس كالأصبع الأصلي. ومن هنا تفرعت مسألة الخنثى المشكل، فقالوا: إنه إذا قطع من الخنثى المستبين الذكر شيء من فرج الأنثى وقطعته الأنثى، لم يقتص منها؛ لأنها لم تقطع عضوا أصليا، والشفر في حق الجانية شفر أصلي، وبناء على ذلك لو أننا حكمنا بالقصاص في هذه الحالة فقد ظلمنا الجانية؛ لأن المجني عليه لا ينتفع بهذا العضو، وليس هناك مساواة بين هذا العضو ومثله في الجاني. ومن هنا فرق بين العضو الزائد والعضو الأصلي، فلا ينظر إلى كونه عضوا أصبعا، أو شفرا، أو ذكرا فحسب، فإذا كانت أنثى فقطع منها الذكر فإنه لا يقطع الأصلي بالزائد، إذا فالجناية إذا كانت متعلقة بالزوائد يعدل فيها إلى الضمان. قال رحمه الله: [ولا عكسه] . أي: لو أن الجاني خنثى استبانت امرأة فقطعت ذكر رجل، فإن الذكر بالنسبة لها زائد، ولا يقال: إن القصاص تحقق من كل وجه، ولذلك لو بتر فلا تتحقق المساواة. قال رحمه الله: [ولو تراضيا لم يجز] . قوله هذا إشارة إلى خلاف بين العلماء، فقد قال بعضهم: إذا تراضيا جاز، كما أنه من حق المجني عليه أن يتنازل عن حقه، فلو جنى على أصبع أصلي فقال المجني عليه: اقطعوا الزائد، أو جنى على زائد فقال المجني عليه: اقطعوا الأصلي. وتراضيا على ذلك، فإنه جائز عند هذا الفريق من العلماء؛ لأن هذا حق المجني عليه، فإذا رضي جاز، ولكن اختار المصنف رحمه الله وهو مذهب طائفة من العلماء أنه لا يجوز وإن تراضيا، والمنصوص عليه عند الجمهور أنه لا يؤخذ الأصلي بالزائد ولا الزائد بالأصلي. وبعضهم فرق وقال: إن أخذ الزائد بالأصلي فله وجه إذا رضي صاحب الأصلي؛ لأنه دون حقه، فإذا رضي به كان له ذلك. الشرط الثالث: استواء الطرفين في الصحة والكمال قال رحمه الله: [الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال] أي: الشرط الثالث، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أوجب في القصاص المماثلة؛ لأنه إذا كان العضو الذي يقتص منه مماثلا للعضو الذي اعتدي عليه تحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فالمقصود من القصاص: العدل بين الجاني والمجني عليه، ومن هنا اشترط الأئمة رحمهم الله اقتباسا من النصوص استواء الطرفين في الصحة والكمال، فلا يؤخذ طرف صحيح بطرف مريض، ولا يؤخذ طرف كامل بطرف ناقص؛ وذلك لأننا لو أخذنا طرفا كاملا بطرف ناقص فقد ظلمنا الجاني. فلو أنه اعتدى عليه فقطع يده، وكانت يد المجني عليه مقطوعة الأصابع، والجاني يده كاملة الأصابع، فإننا لو قطعنا يد الجاني فقد ظلمناه، ومن هنا لابد من وجود العدل في القصاص في الأطراف، كما يجب العدل في القصاص في الأنفس، ولذلك قال رحمه الله: (استواؤهما) أي: وجود التماثل، وعدم وجود التفاوت بين العضوين في القصاص في الأطراف. قال رحمه الله: [فلا تؤخذ صحيحة بشلاء] . أي: لا تؤخذ اليد الصحيحة باليد الشلاء، واليد المشلولة مسلوبة الحركة، وهذا الخلل في اليد يقتضي نقصها، ومن هنا لو اعتدى على يد مشلولة فقطعها لم نقطع يده الصحيحة؛ لأننا لو قطعنا يده الصحيحة فقد ظلمناه؛ لأن الجناية التي فعلها لا تماثل ما نفعله به، ومن هنا لا بد من وجود العدل، فلا تؤخذ يد صحيحة بيد شلاء، كما لا تؤخذ رجل صحيحة برجل شلاء، ولا أصبع صحيحة بأصبع شلاء، فهذا من العدل، والدليل على هذا قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] ، وهذا يقتضي أن يكون هناك تماثل، وهذا أصل منتزع من قوله سبحانه وتعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن. [المائدة:45] إلى آخر الآية، فإن من تأمل هذه الآية الكريمة وجد أن المقصود العدل بين الجاني والمجني عليه، فإذا كان طرف الجاني المماثل للطرف المجني عليه أكمل، فإنه لا يمكن أن يتحقق العدل بقطع ذلك الطرف الكامل بالطرف الناقص. فلا تقطع يد صحيحة -أي كاملة- بيد شلاء، سواء أكانت مشلولة بكاملها أم كان الشلل في بعضها، وسواء أكان الشلل في أكثر اليد أم في بعض اليد، فلابد من وجود التماثل، ولكن لو اعتدى على يد مشلولة الكف، ويده هو مشلولة الكف، فإنه تؤخذ يد الجاني بيد المجني عليه، ويقتص منهما؛ لأن العدل يتحقق بهذا. قال رحمه الله: [ولا كاملة الأصابع بناقصة] أي: ولا تؤخذ يد كاملة الأصابع بيد ناقصة الأصابع، واليد الناقصة الأصابع تكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكون النقص في أصابعها خلقة، كأن خلقها الله عز وجل بثلاث أصابع، أو خلقها الله بأصبعين، أو خلقها الله بأربع أصابع، فهذا نقص في الأصابع خلقة. الضرب الثاني: أن تكون الأصابع موجودة في الأصل، ولكن قطعت أو بترت، كشخص قطع منه أصبعان في حادث، ثم جاء الجاني وقطع يده، أو قطع كفه، فإذا قطع كفه وكف الجاني كاملة الأصابع، فلا يمكن أن تقطع كف الجاني الكاملة الأصابع بهذه الكف الناقصة الأصابع، فيستوي أن يكون نقص الأصابع خلقة، أو أن يكون نقص الأصابع عارضا لحادث أو أمر اقتضى بتر هذه الأصابع، فإنه لا تؤخذ الكاملة بالناقصة. قال رحمه الله: [ولا عين صحيحة بقائمة] أي: ولا يجوز أن تؤخذ عين صحيحة يبصر بها صاحبها، سواء أكان إبصاره كاملا أم كان إبصاره ناقصا، بعين قائمة، وهي التي فيها البياض والسواد، ولكن صاحبها لا يبصر بها، ولا يعتبر في قيامها بالبياض والسواد من ناحية الشكل أنها تماثل العين الصحيحة؛ لأن عين الجاني فيها صفتان: كونها قائمة في الصورة والشكل، وكونه يبصر بها، فمنفعة العين موجودة غير مفقودة، وعين المجني عليه منفعتها مفقودة، فلو أننا قلعنا عين الجاني ظلمناه؛ لأنه قلع عينا ناقصة، ولا يمكن حينئذ أن يتحقق العدل لو قلعنا عينه؛ لأن الكامل لا يتحقق العدل فيه بالناقص، ومن هنا لا تؤخذ ولا تقلع العين الصحيحة بالعين القائمة، وهي التي لا يبصر بها صاحبها. وهكذا في العينين، فلو جنى الجاني على أعمى، وكانت عيناه قائمتين، فإنه لا يقتص من الصحيح المبصر؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق العدل، فلو اقتلعنا عين الجاني الصحيحة بعين المجني عليه القائمة فقد أخذنا كاملا بناقص، وهذا لا تأذن به الشريعة، ولذلك يعدل عن القصاص. قال رحمه الله: [ويؤخذ عكسه ولا أرش] هذه حالة ما إذا كان الأمر عكسيا، بحيث تكون يد الجاني شلاء، وقطع يد المجني عليه وهي صحيحة، فحينئذ نقول: إن يد الجاني يد مشلولة، ويد المجني عليه يد كاملة، واليد الكاملة فيها صفتان: الصفة الأولى: صورة اليد وذاتها. الصفة الثانية: منفعة اليد، وهي كونه يحركها ويقوم بها. فالجاني وجد في يده أحد الأمرين؛ لأن الحركة غير موجودة في المشلولة، والعضو الذي هو ذات اليد موجود، فإذا رضي صاحب الحق -وهو المجني عليه- بقطع يد الجاني المشلولة، فإننا نقطع يده؛ لأنه رضي بالأقل، ومن حقه أن يرضى بهذا؛ لأن القصاص في مثل هذه الحالة يقتضي قطع يد فيها الصفتان، وهذا حقه كاملا، وللإنسان أن يأخذ حقه كاملا، وله أن يأخذ حقه ناقصا، وله أن يعفو، فلو قال: اقطعوا يده، فإني أريد أن يكون مقطوع اليد كما عذبني بقطع يدي؛ قطعنا يد الجاني. وكذلك لو كانت كفه مشلولة، واعتدى على ذي كف صحيحة، فقال صاحب الكف الصحيحة: أريد أن تقطعوا كفه، كما أنه بتر كفي، لأراه مبتور الكف فأشفي غليلي، قطعت كفه؛ لأنه وإن كانت كفه مشلولة لا يتحرك بها فالصورة قائمة في ذات اليد، والاعتداء على العضو كان صورة ومعنى؛ لأن المقصود من العضو المنافع، فإذا تعطلت المنفعة فلا يمنع أن يقتص الإنسان من الصورة وهي بعض حقه، ولذلك قال رحمه الله: (ويؤخذ عكسه) ، وهكذا لو كانت كف الجاني فيها ثلاث أصابع وكف المجني عليه فيها أربع أصابع، أو كف الجاني فيها أصبعان، وكف المجني عليه فيها ثلاث أصابع، أو كانت كف المجني عليه كاملة فيها خمس أصابع، وكف الجاني فيها أربع أصابع، أو كانت كف الجاني فيها بعض الأصابع مشلولة، فقال المجني عليه: أريد أن تقطعوا كفه كما قطع كفي، أعطي حقه، ووجب أن يقتص من الجاني، فيؤخذ الناقص من طرفه بالطرف الكامل؛ لأنه يجوز للإنسان أن يأخذ بعض حقه. وقوله رحمه الله: (ولا أرش) إذا اقتص من العضو الناقص في الجاني، فإن بعض العلماء قال: يضمن له الأرش، أي: أرش الفرق بين اليدين، فلو كان الأرش ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال، قطعت يد الجاني الناقصة، ويقال له: ادفع للمجني عليه الفرق بين اليدين وهو العشرة آلاف ريال، وستأتينا -إن شاء الله تعالى- مسائل الأروش، وسنبين كيف يرجع فيها إلى أهل الخبرة في تقديرها وضابطها. الأسئلة حكم استعمال المخدر حال القصاص في الأطراف السؤال: هل يجوز استعمال المخدر أو ما يسمى بالبنج عند القصاص في الأطراف؟ الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد: فعند القصاص لا يجوز استخدام المخدر؛ لأن المجني عليه تألم بالقطع، فيجب أن يتألم الجاني كما تألم المجني عليه، فالجريمة مشتملة على الألم ومشتملة على الضرر، فالألم بالحسم ووجود الألم الذي تضرر به المجني عليه بعد الجناية، والحسم: هو قطع العضو، فإذا خدرناه وقطعنا يده حصل الحسم ولم يحصل الألم، والمقصود: أن يتألم كما تألم المجني عليه، فعندها يمتنع ويحرم على نفسه أن يقدم على قطع يد مسلم بعد ذلك. ولذلك قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179] ، فبين سبحانه وتعالى أن الأرواح تصان، وأن الأعضاء تحفظ، والأطراف تصان عن الاعتداء عليها بحصول الألم، فإذا ذاق مرارة الألم كما ذاق غيره، فإنه حينئذ يتحقق العدل، وثم شرع الله الذي كتبه الله عز وجل. ومن هنا فحصول الروع للجاني مثلما فعل بالمجني هو العدل، ولابد أن يتألم كما تألم المجني عليه، ولكن لو أنه أراد أن يقطع يد المجني عليه فخدرها ثم قطعها، خدرت يده، وفعل به مثلما فعل بالمجني عليه. والله تعالى أعلم. العدول إلى الدية حال تعذر القصاص الجواب هذا سيأتي تفصيله -إن شاء الله- في الكلام على مسائل الديات ولزوم الأرش في حال تعذر القصاص. حكم المسح على الجورب السؤال ما حكم المسح على الجوارب التي نلبسها اليوم ولا ترى البشرة من خلالها، ولكن بلل الماء الممسوح ينفذ من حلال الجورب ويصل إلى البشرة؟ الجواب المسح على الجوربين سنة محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين) ، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله، لكن يشترط في الجورب -وهو الشراب- أن يكون ثخينا، وأما الرقيق فالصحيح أنه لا يمسح عليه، وهو مذهب جماهير العلماء رحمهم الله تعالى. والدليل لمن قال بجواز المسح عليه هو: القياس على الثخين؛ لأنه ما كان موجودا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقيس على الثخين، والقياس في الرخص ضيق وضعيف، هذا أولا. ثانيا: أن هذا القياس مع الفارق، فإن الرقيق إذا مسحته كأنك تمسح ظاهر القدم، ومذهب مسح ظاهر القدم يمكن أن يكون أرحم وأفضل من مسح الرقيق. والثخين ينزل منزلة الخف؛ لأن الخف من الجلد ساتر حافظ للقدم، وأما الرقيق فإنه لا يستر ولا ينزل منزلة الجورب ولا منزلة الخف. وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يستبرأ لدينه، وأن يحتاط لدينه، خاصة أمر الصلاة، فإن أمرها عظيم، ومن هنا قال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: إن الله فرض علينا غسل الرجلين بيقين، ولما جاءت أحاديث الخفين متواترة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها وانتقلنا إلى هذه الرخصة. وعلى هذا فكذلك لما جاءتنا رخصة الجوربين نقول: إنها جاءتنا بحديث صحيح بجوربين كانا ساترين لمحل الفرض، ولم تكن الجوارب كهذه الجوارب الموجودة الآن الشفافة الرقيقة، التي لو وضع الإنسان أصبعه لربما وجد حرارته على بدنه من رقتها، فهي حوائل ضعيفة جدا، لا تنزل منزلة الحوائل الثخينة في الجلد -كما في الخف- ولا في الجوربين. ومن هنا اشترط بعض العلماء أن يكون الجورب منعلا؛ لأن الرواية في الجوربين المنعلين؛ كل هذا تحقيقا لمماثلة الجورب للخف حتى يكون أشبه بالخف. وعليه فإنه لا يجوز المسح إلا على شراب ثخين لا ترى البشرة من تحته. والله تعالى أعلم. كيفية قضاء الفائت من ركعات الصلاة السؤال إذا دخل المصلي في الركعة الثالثة لصلاة العشاء، فهل يأتي بالركعتين المتبقيتين جهرا ويقرأ الفاتحة وسورة سواها، على أساس قضاء الركعة الأولى والثانية، أم يأتي بهما سرا ويقرأ الفاتحة فحسب، على أساس أنهما الثالثة والرابعة بالنسبة له؟ أثابكم الله. الجواب هذه المسألة الصحيح فيها أن صلاة المأموم مع الإمام هي الأولى، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أتموا) أي: ابنوا على صلاتكم مع الإمام. وعلى هذا يعتبر صلاته مع الإمام هي الأولى في الأقوال والأفعال، وأما رواية: (وما فاتكم فاقضوا) ، فيجاب عنها من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند، فإن رواية الإتمام أصح، ومن رواة أقوى؛ لأنهم أصحاب الزهري رحمه الله، فهم الأوثق والأقوى والأضبط ممن روى القضاء. ثانيا: من ناحية المتن، فالقضاء يستعمل بمعنى الإتمام، ومنه قوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} [الجمعة:10] ، أي: أتمت، وقوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} [البقرة:200] ، أي: أتممتموها، ومن هنا قويت رواية الإتمام، وصارت هي الأصل؛ لاحتمال أن رواية القضاء جاءت بالمعنى، خاصة وأن رواتها أقل ضبطا من رواية الإتمام. وعلى هذا فالأرجح أن صلاتك مع الإمام هي الأولى، وعليه فإنك تصلي بركعتين لا تجهر فيهما في العشاء، وتصلي ركعتين لا تقرأ مع الفاتحة سورة كما في العصر؛ لأن الصحيح أنها لا تقاس على الظهر بقراءة سورة الإخلاص. والله تعالى أعلم. نية الغسل والوضوء داخل الحمام السؤال بالنسبة للنية للغسل أو الوضوء، إذا كانت المغسلة داخل دورة المياه، فهل يشترط أن ينوي قبل دخول الدورة، أو عند إرادة الشروع في الوضوء أو الغسل؟ الجواب النية ليست كلاما فيمتنع داخل الحمام، بل النية في القلب، ولا علاقة لها بداخل الحمام أو خارجه، فإذا كان يغتسل داخل الحمام فلا يضره أن ينوي الغسل أو ينوي الوضوء، فينوي في قرارة قلبه ويجزيه ذلك. والله تعالى أعلم. انتقاض الوضوء أثناء الغسل السؤال إذا توضأت قبل الغسل ثم غسلت البدن، وفي أثناء غسل البدن لمست الفرج أو خرج الريح، فهل يجب إعادة الوضوء عقب الغسل؟ الجواب من مس ذكره أثناء الغسل فغسله صحيح وترتفع جنابته، ولكن لا يصلي بهذا الغسل إلا إذا عمم بدنه بعد هذا اللمس، حتى يندرج الوضوء تحت الغسل أو توضأ بعد غسله؛ لأنه بلمسه للذكر انتقضت طهارته الصغرى دون طهارته الكبرى، فيشترط بعد لمسه للذكر أن يتوضأ وضوءا كاملا، أو يعمم بدنه بالماء. والله تعالى أعلم. استيعاب غسل الرجلين ثلاثا السؤال ما المراد بغسل الرجلين ثلاثا، هل استيعابها بالغسل ثلاث مرات، أم المراد ثلاث غرفات؟ الجواب المراد به الاستيعاب ثلاث مرات، وهذا هو الإسباغ، وذلك أن يتوضأ فيغسل رجليه ثلاث مرات، ويغسل وجهه ثلاث مرات، ويغسل يديه ثلاث مرات، وأما رأسه فيمسحه مرة واحدة على الصحيح من أقوال العلماء، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مرة واحدة، فهذه هي السنة، ولأنه لو مسح رأسه ثلاث مرات لأصبح الرأس مغسولا؛ لأنه بتكرار المسح يصير في حكم المغسول، ومن هنا فرق بين مسح الرأس وبقية الأعضاء، فلا يشرع التثليث في مسح الرأس وحده. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (499) صـــــ(1) إلى صــ(9) شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [2] من أنواع القصاص فيما دون النفس: القصاص في الجراح، وهناك جراح يمكن فيها القصاص، مثل الموضحة التي توضح العظم، وكجرح العضد والساق والفخذ والقدم ونحوها، وهناك جروح لا يمكن القصاص فيها، ويرجع فيها إلى الأرش والضمان، وذلك مثل الشجاج كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، ويقتص من الجماعة إذا قطعوا طرف شخص أو جرحوه بما يمكن فيه القصاص. القصاص في الجراح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: النوع الثاني الجراح] القصاص فيما دون النفس إما أن يكون في الأطراف؛ كالعين والأنف والأذن والسن، وإما أن يكون في الجروح؛ لأن الجاني ربما قطع عضوا كاليد، وربما طعن بسكين، أو جرح بها، أو خدش بها، ولربما ضرب بحديدة فكسر العظم أو هشمه، فالجنايات فيما دون النفس على هذين النوعين، فإما جناية على الأطراف والأعضاء، وإما جناية بالجروح والكسور، والكلام هنا عن النوع الثاني وهو الجناية بالجروح، والجناية بالجروح يتبعها الجناية بالكسور. والجناية بالجروح كأن يأخذ سكينا فيضربه على كتفه، أو يأخذ سكينا فيضربه على عضده، أو يأخذ سكينا فيضربه بها في بطنه فتظهر جوفه وأحشاءه، وهي الجائعة، وربما ضربه على موضع من بدنه فتكون موضحة، وربما كانت مأمومة تبين أم الدماغ، وربما كانت الجناية على العظام بهشمها وهي الهاشمة، أو كسرها كسرا ينقل العظم وهي المنقلة، فهذه كلها جنايات في الجروح، وهذا من كمال الشريعة وسعتها، وعظمة هذا الدين في تفصيله لهذه الأشياء، ولذلك لم يقتصر في الجناية على وضع الضوابط العامة، دون دخول إلى تفصيلات، وبيان أنواع هذه الجنايات وأحوالها المختلفة، فرحمة الله على أئمة الإسلام وفقهائه الأعلام، الذين أظهروا مكنونات هذه الشريعة بفضل الله عز وجل الذي لا فضل إلا فضله وحده لا شريك له، والذي علمهم وفهمهم فبينوا هذه الأحوال والظروف. ما يقتص فيه من الجراح قال رحمه الله تعالى: [فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم] . أي: يتقص من الجاني في كل جرح ينتهي إلى عظم، وهذا مبني على أن الجناية بالجروح أضيق من الجناية على الأعضاء والأطراف، فإن الجناية على الأطراف والأعضاء يستطاع فيها أن يستوفى من الجاني حق المجني عليه؛ لأنه يستطاع تحديد موضع الجناية على الطرف وعلى منفعته، أما الجناية بالجروح فمقيدة، ولذلك لا يقتص فيها إلا بحدود، والسبب في هذا: أن الجناية بالجروح لا يؤمن معها الحيف، ولا تؤمن معها الزيادة. ومدار القصاص على العدل والمساواة، ولذلك يكون أمر القصاص هنا أضيق منه في القصاص في الأطراف، ولذلك قال رحمه الله: (فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم) ، وذلك مثل الجروح التي تكون في العضد، والجروح التي تكون في الساعد، والجروح التي تكون في الساق، ونحوها؛ لأنه يمكن ذلك، فلو قيل للخبير في القصاص أن يجرحه جرحا مثل الجرح الذي فعله بالمجني عليه لأمكنه ذلك، ولكن إذا كان في موضع لا ينتهي إلى عظم، والجناية إن لم تنته إلى عظم فلا تستطيع أن تحدد غور الجرح، بحيث تجرحه مثل جرحه، وتبضع اللحم مثلما بضع لحم المجني عليه، ومن هنا يضيق القصاص في الجروح ويكون صعبا؛ لأنه لا يؤمن معه الحيف، فإذا أراد المقتص أن يقطع مثل قطع الجاني فلن يستطيع أن يزن السكين، أو يزن القطع بنفس الوزن الذي وزنه به الجاني، أو يضربه نفس الضربة، أو يطعنه نفس الطعنة، والقاعدة أن كل ما لا يؤمن معه الحيف فإنه لا قصاص فيه؛ لأنه إذا لم نأمن الحيف فإننا لا نأمن التعدي، والأصل أن الجاني له حرمة، وإنما يؤخذ منه بقدر جنايته، فإذا لم نظمن أن نأخذ بقدر جنايته، فحينئذ لا يكون ظلمه للمجني عليه داعيا لنا أن نظلمه هو، وحتى يتحقق بين الطرفين فقد وضعوا ضابطا هو القصاص في الجرح الذي ينتهي إلى عظم. قال رحمه الله تعالى: [كالموضحة] . الوضوح: ضد الخفاء، ووضح النهار إذا بان ضوؤه، والموضحة: هي التي توضح العظم، كما لو وقعت خصومة بين الجاني والمجني عليه فأخذ السكينة -والعياذ بالله- فضربه على كتفه، فوجدنا أن الجرح الذي جرحه به أبان العظم وأوضحه، وما أضر بالعظم ولا كسره ولا هشمه، لكنه جرح يظهر العظم، فحينئذ انتهى الجرح إلى حد معين وواضح، فتستطيع أن تفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه، سواء أكان هذا في العضد، أم في الساعد، أم في الساق، فهذه كلها يمكن فيها الجرح مماثلا لجرح الجاني، فحينئذ يقدر الجرح ويسبر، ثم بعد ذلك يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه. قال رحمه الله تعالى: [وجرح العضد] . العضد: ما بين مفصل المرفق إلى مفصل الكتف، وما بين مفصل المرفق ومفصل الكف يقال له: الساعد، ومثل هذا يقع أيضا في جرح الساعد، فإنه إذا ضربه بالسكين على ساعده وأوضح العظم، وظهر العظم من ضربته، فيمكن أن يفعل به مثلما فعل بالمجني عليه. قال رحمه الله تعالى: [والساق] . الساق: ما بين مفصل القدم ومفصل الركبة، فلو أنه ضربه بسكين، أو بآلة جارحة فأظهرت عظم ساقه، ولم تؤثر في العظم؛ اقتص منه في الموضحة، ولو أنها هشمت العظم وكسرت عظم المجني عليه، فقال: أريد أن تفعلوا بالجاني موضحة، فإنه يقتص منه بالأقل؛ إذ لا يستطاع أن يكسر عظمه نفس ما كسر، فيقتص بالأقل، وسيأتينا هذا إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: [والفخذ] . أي: والفخذ كذلك، وعظم الفخذ ما بين مفصل الركبة ومفصل الورك الذي في الأعلى، وسواء ما أقبل منه أم أدبر، فإذا ضربه بالسكين عليه فأوضح عظم الفخذ فعل به مثلما فعل بالمجني عليه، واقتص منه موضحة. قال رحمه الله تعالى: [والقدم] . إذا أتت الجروح في نفس القدم من مفصل الكعبين إلى أطراف الأصابع، فإنها تنتهي إلى عظم، فلو جرحه جرحا أوضح عظم قدمه فعل به مثله، فلو كان جرحا طويلا جرحناه جرحا طويلا، ولو كان وضوح العظم في نصف الجرح أوضحنا عظمه في نصف الجرح، فخدشناه الخدش ثم أوضحنا فيه، ولو كان الوضح في نفس العضو كاملا فعل به مثلما يفعل بالمجني، سواء بسواء، والدليل على هذا كله قوله تعالى: {والجروح قصاص} [المائدة:45] ، فإن هذه الآية الكريمة أصل عند أهل العلم في القصاص في الجروح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نقتص من الجارح إذا جنى على المجني عليه بجرح، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن القصاص يقع في الجروح كما يقع في الأنفس والأطراف. ما لا يقتص فيه من الجراح وأنواع جناياتها قال رحمه الله: [ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح] . تقدم معنا أن القصاص إما أن يكون في النفس، فيما دون النفس، والذي دون النفس: إما أن يكون في الأطراف -وقد ذكرنا مسائله-، وإما أن يكون في غير الأطراف، والذي في غير الأطراف يشمل: القصاص في الجروح، والقصاص في الشجاج، وهي جمع شجة، ويعبر بها عن الجنايات المتعلقة بالرأس والوجه. ثم هذه الشجاج والجروح تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يمكن فيه القصاص، وتتحقق فيه المماثلة، ويؤمن فيه الحيف، بمعنى أننا لو أردنا أن نمكن المجني عليه من فعل جناية بالجاني كجنايته عليه أمكن ذلك. القسم الثاني: أن يتعذر ذلك، بحيث يغلب على ظننا أننا لو أردنا القصاص فلابد من حصول الزيادة -التي هي الحيف-، أو عدم حصول التماثل، ومن هنا بين المصنف رحمه الله أن الموضحة، وجرح العضد، وجرح الساق، وسائر ما سمى رحمه الله أنه يقتص فيها، والموضحة -كما تقدم معنا- هي التي توضح العظم. ومن حيث الأصل فالجنايات إذا كانت جروحا ففي الجسم ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: الجلد، والطبقة الثانية: اللحم، والطبقة الثالثة: العظم. فهذه ثلاثة مواضع تقع عليها الجنايات، وإذا حصلت الجناية على الجلد فإنها تأتي على طبقات، وإذا حصلت الجناية على اللحم فإنها تأتي على طبقات، وإذا حصلت الجناية على العظم فإنها -كذلك- تأتي على طبقات ومراتب. وبناء على هذا بين المصنف رحمه الله أنه لا يقتص في غير الموضحة، وهي التي توضح العظم، فإذا أوضحت العظم فمعنى ذلك أن الآلة وصلت إلى كشف العظم دون أذيته، فهذا النوع من الجنايات له حد ينتهي إليه، بخلاف جرح الجلد، وبخلاف جرح اللحم، فإنه ليس له حد ينتهي إليه. وتوضيح ذلك: أن الجناية غير الموضحة إما أن تكون أقل من الموضحة، وإما ان تكون فوق الموضحة. أما الجنايات دون الموضحة فأولها يسمى: بالقاصرة والحاصرة، وهي التي تقشر الجلد، ولا يخرج معها الدم، ثم يلي ذلك البازلة، ويقال لها: الدافعة، والبازلة: هي التي تكشط الجلد، ويخرج معها دم، فالجناية بها أقوى من الجناية الأولى، ثم بعد ذلك الباضعة، والباضعة: هي التي تنتهي من الجلد، وتدخل في اللحم، ولكنها لا تتوغل في اللحم، وإنما تجرح اللحم فتبضعه، ثم بعد ذلك المتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم، ولكن لا تصل إلى العظم، ثم بعد ذلك السمحاق، والسمحاق: هي التي ليس بينها وبين العظم إلا القشرة الرقيقة. فهذه الجنايات الأول كلها قبل الموضحة، ولا قصاص فيها على ما اختاره المصنف رحمه الله. وبناء على ذلك: فلو اختصم اثنان، فجرح أحدهما الآخر بسكين، فكشط لحم جلده، ولم يخرج دم، فهي حاصرة، ولا قصاص فيها، ويعدل إلى الأرش، وفيها حكومة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- كيف تقدر، وكيف يعطى حقه في هذه الجناية. وإذا ضربه بالسكين، فنفذ من الجلد إلى اللحم، وغاص في اللحم، ولم يصل إلى العظم، فهي متلاحمة، أو قطع اللحم، ولكن ضربة السكين لم تدخل في اللحم، فهذه باضعة، وكلها لا قصاص فيها على ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى. إلا أن بعض العلماء يرى القصاص في الباضعة، ويرى القصاص في المتلاحمة، ويرى القصاص في البازلة، التي تكشط الجلد ثم يخرج منها دم، وهو مذهب المالكية وأهل الرأي، وقالوا: إنه بالإمكان إذا جني على شخص جناية بمثل البازلة أن نقيس الجرح الذي جرح طولا، ونحدد مكان الجناية، ثم نبضعه، ونفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه، وبهذا يمكن القصاص. والذي دعا الحنابلة والشافعية رحمة الله عليهم إلى منع القصاص في هذا هو قولهم: إنه يتعذر أو يصعب التماثل، ومن شرط ثبوت القصاص في الجروح: حصول التماثل وأمن الحيف، والناس يختلفون من حيث اللحم نحافة وسمنا، ثم طبيعة العضو طولا وقصرا، وهذا يؤثر في الجناية نفسها، ولا يمكن أو لا يستطاع -غالبا- أن يأتي القصاص مثل الجناية سواء بسواء، وإذا لم يؤمن الحيف سقط القصاص. وفي الحقيقة مذهب الحنابلة ومن وافقهم أقوى؛ إذ إن هذه الجنايات والجروح لا يؤمن معها الحيف في الغالب، خاصة لاختلاف أحوال الناس، ومن هنا فالأحوط مذهبهم الذي يقول: لا قصاص في هذه الأشياء. هذا بالنسبة لما هو أقل من الموضحة. وأما ما فوق الموضحة: فالهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، فإذا دخلت الضربة في العظم وكسرته فقد هشمته، فالهاشمة توضح العظم وتهشمه وتكسره، والمنقلة -وهي فوق الهاشمة- توضح العظم، وتهشمه، وتنقله، فإذا جاءت الشجة في الرأس، أو في جهة الدماغ، وكسرت العظم ونقلته عن موضعه فهي منقلة، والمأمومة: وهي الدامغة التي تكسر العظم، وتنفذ حتى تظهر لنا خريطة دماغ الشخص، وتسميتها قديمة من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وفيها ثلث الدية، وهي أعلى أنواع الجنايات بالنسبة لما يتعلق بالرأس. فهذه الثلاث، وهي: الهاشمة، والمنقلة، والمأمومة؛ لا قصاص فيها، ويكاد يكون شبه إجماع على أنه لا قصاص فيها؛ لأننا لا نأمن الحيف، ولا يستطيع أحد أن يكسر عظما مثل كسر الآخر؛ لأن العظم إذا انكسر تهشم، ولا يمكن أن تكسره كسرا يساوي كسر الجاني، ومن هنا قالوا: يتعذر القصاص، ويمتنع الحكم به. وقد حفظ عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه أنه قضى بالقصاص في المأمومة، وأنكر عليه الناس ذلك، وقالوا: ما عرفنا أحدا يقتص في المأمومة، وهذا الأثر اختلف فيه، وإن كان نص غير واحد من الأئمة على أنه لا يثبت عن عبد الله بن الزبير، فإن لم يثبت فالأمر واضح، والإجماع محكي على أنه لا قصاص في الهاشمة والمنقلة والمأمومة، والسبب في هذا: أنه لا يمكن تحقيق المساواة، كما لا يؤمن الحيف والزيادة، وهذان عذران موجبان لسقوط القصاص. و (من) في قوله: (ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح) بيانية، والشجاج: جمع شجة، وهي التي تكون في الوجه، وتكون في الرأس، والجروح: هي التي تكون في سائر البدن، فبين رحمه الله تعالى أن القصاص فيما دون النفس، سواء أكان في الشجاج، أم كان في الجروح، لا يقتص فيه إذا كان على هذا الوجه الذي ذكرناه. القصاص في كسر السن قال رحمه الله: [غير كسر سن] . استثنى رحمه الله السن، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وكلهم متفقون على أنه لو قلع سن أخيه قلعت سنه، إذا أتلف السن كلية، فتتلف سنه كما أتلف سن المجني عليه، وتؤخذ نفس السن التي جنى عليها، سواء أكانت من الأضراس، أم كانت نابا، أم كانت غير ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {والسن بالسن} [المائدة:45] ، أي: كتبنا عليهم أخذ السن -وهي سن الجاني- بالسن، والباء للبدلية، أي: بدلا عن السن، وهي سن المجني عليه الذي ظلم بالاعتداء على سنه، سواء أكان ذكرا أم أنثى، وسواء أكانت السن زائدة، أم أصلية، فلو أنه جنى على سن زائدة في أخيه وقلعها، وهو له سن زائدة مثلها، فإنه تقلع سنه بسن أخيه، ولو قلع سنا أصلية من أخيه؛ فإنه تقلع منه مثل السن التي قلعها من أخيه، والدليل على ذلك ظاهر الآية، وما ورد في السنة في حديث أنس بن النضر في قصة الربيع رضي الله عنها لما كسرت سن الجارية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) . أما إذا جنى عليه جناية دون القلع، فكسر له نصف سنه، أو كسر ربع سنه، ففي القصاص حينئذ وجهان للعلماء رحمهم الله: أصحهما وأقواهما أنه يقتص من سن الجاني بمثل وبقدر ما اعتدى على سن المجني عليه، بشرط أمن الحيف، فلو كسر سن المجني عليه، فقال الأطباء: هذا الكسر نصف السن، أخذ من سن الجاني بقدر ما جنى، وكانوا في القديم يبردونها بالمبرد الحديد، فيأخذون نصف السن بردا، أو ربعها، أو نحو ذلك على قدر جنايته. فالصحيح أنه يقتص من السن، والدليل على ذلك الحديث الصحيح في قصة الربيع، فإنها كسرت سن الجارية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، فأمر بالقصاص، فدل على أن السن يقتص منها بأخذ جزء معادل للجزء الذي جني عليه. فإن كان الكسر على صفة لا نستطيع أن نفعل بالجاني قدرها، أو قال الأطباء: لا نأمن أن السن تتهشم، أو أن السن التي كانت في الجاني ضعيفة، بحيث لو بردت تكسرت وتشهمت، سقط القصاص وعدل عنه إلى الضمان. القصاص بموضحة في أعظم منها قال رحمه الله تعالى: [إلا أن يكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، فله أن يقتص موضحة، وله أرش الزائد] . أي: إلا أن تكون الجناية أعظم من الموضحة، وهنا مسألتان: المسألة الأولى: لو أنه جني عليه بجناية فوق الموضحة، وأراد أن يقتص بها موضحة، فهل يجوز له ذلك؟ المسألة الثانية: إذا اقتص وأذن بالقصاص، فهل يضمن الجاني الباقي ويدفع الأرش. فهاتان المسألتان اختلف فيهما العلماء رحمهم الله، والصحيح: أنه إذا جنى عليه جناية هشمت عظامه، أو نقلت العظم، فإنه يمكن جرحه موضحة، ثم يؤمر الجاني بدفع الفرق بين الموضحة وبين الجناية، فالموضحة فيها خمس من الإبل، فإذا كانت الجناية هاشمة ففيها عشر من الإبل، فيدفع خمسا من الإبل باقية عليه، وهذا المذهب هو الذي اختاره المصنف رحمه الله. والدليل على ذلك: أنه جنى عليه جناية يتعذر القصاص فيها، فأخذ بعض حقه، وبقي له الآخر، كما لو قطع له أصبعين، فاقتص من أحدهما وأخذ قيمة الثاني، كما لو كان الأصبع الثاني مشلولا فقال المجني عليه: أريد أن تقطعوا منه مثل ما قطع مني، وآخذ أرش الباقي لي من الأصبع المشلول، فلا أريد القصاص فيه، فله ذلك، وبناء على ذلك فإن الأصل يقتضي أن يطالب بحقه كاملا، وهو القصاص، فلما تعذر أن يأخذ بالقصاص في الهاشمة والمنقلة والمأمومة لما ذكرناه كان من حقه أن يقتص موضحة. لكن هناك ملاحظة دقيقة لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم في هذا، حاصلها أنه يقول: إن هذه المسألة ينبغي أن يفرق فيها بين الهاشمة والمنقلة إذا كان معهما جرح وإذا لم يكن معهما جرح؛ لأن الهاشمة قد تهشم عظامه دون جرح، كأن يضربه بحديدة فتتهشم العظام ولا يحصل جرح، وحينئذ فالجناية في العظم، وليست في الجلد، وكذلك المنقلة فقد ينتقل العظم بالضرب بدون جرح، فلو فصل بين ما إذا كانت الجناية قد جرحت، وأوضحت، ثم هشمت أو نقلت، وبين أن يكون الهشم أو النقل بدون جرح؛ لأن الجرح فيه إيلام زائد على الجناية؛ لأن الجناية قد تكون بالضرب والرض فقط، وفرق بين الجرح وبين الرض. وهذا الملحظ أستسيفه, وأرى له قوة ووجاهة؛ لأن أصل القصاص المماثلة، ومن هنا فلو ضربه بحديدة، فلم تجرح، ولكنها كسرت العظام فهشمتها، أو كانت الجناية منقلة نقلت العظام ولكنها لم تجرح، فحينئذ لو حكمنا بجرح الجاني فمعنى ذلك أننا آلمنا الجاني بغير جنايته؛ لأن جنايته بالرض، وليست بالجرح، فالأشبه أن ينبه على هذا، ويفرق بين أن تكون المنقلة والهاشمة بجرح الجلد واللحم والنفوذ إلى العظم، وبين أن تكون رضا بدون جرح. القصاص من الجماعة بالواحد في الأطراف والجروح قال رحمه الله تعالى: [وإذا قطع جماعة طرفا، أو جرحوا جرحا يوجب القود، فعليهم القود] . هذه المسألة فيها نفس التفصيل الذي تقدم معنا في القصاص من الجماعة، والحاصل: أنه إذا اعتدى على الشخص جماعة، فلهم صورتان، والكلام عن إحداهما: وهي إذا كان فعل كل واحد منهم جناية لوحده، بحيث لو انفرد لحصل به القطع، ومن أمثلة ذلك: أن يعتدي ثلاثة أشخاص على شخص، فيقوم أحدهم ويجرحه موضحة في آخر رأسه، ثم يضربه الثاني موضحة في منتصف الرأس، ثم يضربه الثالث موضحة في وجهه، فهذه ثلاث جنايات من جماعة، فيقال له: افعل بكل واحد مثل ما فعل بك في نفس الموضع الذي ضربك فيه، فالأول يقتص منه موضحة في آخر الرأس، والثاني يقتص منه موضحة في منتصف الرأس، والثالث يقتص منه موضحة في وجهه، ولو أراد أن يقتص من بعضهم ويعفو عن بعضهم، أو يقتص من بعضهم، ويأخذ الدية من بعضهم، فذلك من حقه، فلو قال: فلان أقتص منه، وفلان أريد منه المال، وفلان عفوت عنه لوجه الله تعالى؛ فله ذلك، كما لو اعتدوا عليه متفرقين. وبناء على ذلك: فإذا اعتدى عليه جماعة، فإننا نظر إلى فعل كل واحد منهم، وإذا كان فعلهم جميعا في موضع لو انفرد كل واحد منهم بالفعل لأبان ذلك الموضع، فإنه يثبت القصاص على كل واحد منهم منفردا مستقلا، كما تقدم معنا تفصيله في القتل. فالخلاصة: أن الجماعة يقتص منهم، وهذا هو الذي جرى عليه عمل السلف، ونصوص الشريعة تدل عليه. أما عمل السلف: فإن عمر بن الخطاب لما قتل جماعة رجلا باليمن أمر بقتلهم، وقال قولته المشهورة: (والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم) ، فلا يفرق بين أن تكون الجناية على الواحد من شخص أو أشخاص، وأما نصوص الشريعة فعموم الكتاب في قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] يدل على أنه يقتص من الجاني، وهؤلاء كل واحد منهم جان، وكل واحد منهم يوصف بكونه في فعله جانيا، فيمكن المجني عليه من أخذ حقه من كل واحد بحسبه، وهذا هو المذهب الصحيح، والذي دلت عليه الأدلة، واقتضته قواعد الشريعة، ولو أننا لا نقتص من الجماعة فما على المجرمين-إذا أرادوا أن يفعلوا جريمتهم- إلا أن يفعلوها مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص، وبهذا يحصل الشر والبلاء على الأمة، فقطع الله دابر أهل الفساد، فجعل كتابه وشرعه وحكمه: القصاص من الظلمة والجناة مجتمعين ومنفردين. الأسئلة السؤال هل تسن تعزية أهل القاتل إذا اقتص منه؟ حكم تعزية أهل المقتول قصاصا الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فيجوز تعزية أهل القاتل؛ لأنه لا ذنب لهم، والمسلم يعزى في مصيبته، والأصول الشرعية دالة على مواساة المسلم لأخيه المسلم، فيشرع إذا قتل القاتل أن يعزى أهله في مصيبتهم، ولا بأس في ذلك ولا حرج، وكونه يجني هذه الجناية لا يقتضي إسقاط حق أهله، فواجب على المسلم أن يعزي أخاه المسلم في مصيبته، وهكذا بالنسبة لأهل الجرائم، فلو كان قتل في جريمة المخدرات أو نحوها، فيشرع أن يعزى أهله، فما دام أنه من المسلمين فإنه يشرع تعزية أهله فيه، وبعض الناس يظن أنه إذا قتل في مخدرات، أو قتل في قصاص، أو في جريمة؛ أنه لا يزار أهله ولا يعزون. وبعضهم يبالغ في هذا فيقول: مثل هذا لا تعزونا فيه. وهذا لا يجوز شرعا؛ لأنه إذا أقيم الحد على العبد طهر من ذنبه، والدليل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقام الحد على المرأة التي زنت تكلموا فيها، وتكلموا في ماعز حينما أقيم عليه الحد رضي الله تعالى عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام في ماعز: إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة) ، وهذا يدل على سعة رحمة الله عز وجل، ويدل على أن من أعظم نعم الله على الإنسان ألا يشتغل بالناس، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله كلمة عظيمة في كتابه الفوائد -وكلامه رحمة الله عليه درر- قال: (أخسر الناس صفقة من اشتغل بنفسه عن الله، وأخسر منه صفقة من اشتغل بالناس عن نفسه) . فأخسر الناس صفقة من اشتغل بنفسه عن الله فجلس في الشهوات والملهيات يلذذ نفسه، ونسي ربه -والعياذ بالله- فاشتغل بنفسه عن الله، فهذا على الأقل متع نفسه، وأخسر منه صفقة من اشتغل بالناس عن نفسه، فقد يبدأ الإنسان بغيبة الناس حسبة أو طاعة أو قربة فيزل لسانه، ثم يستدرج حتى تصبح الغيبة في لسانه تأكل من حسناته ما لم يخطر له على بال، ولذلك فالاشتغال بالناس لا خير فيه، ومن هنا قال تعالى: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن} [الحجرات:11] . ولما تكلم بعض الصحابة في الذي شرب الخمر رضي الله تعالى عنه، وقالوا: فلان تقطر لحيته خمرا، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم، ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) ، فظاهره ذنوب وخطايا ولكنه مبتلى، وعندها شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله. عليك نفسك فاشتغل بمعيبها ودع عيوب الناس للناس ولذلك ترى الرجل الصالح التقي الورع شغلته ذنوبه، وألهته عيوبه، وأقبل على نفسه فاستكمل نواقصها، وقال: أنا المسيء، وأنا المذنب، وأنا الذي عندي عورات، وأنا الذي عندي سيئات. وأذكر أن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم كان لا يجلس أحد عنده فيذكر أحدا بسوء إلا نفر وقام كالأسد، فإما أن يطرده، وإما أن يوبخه، وإما أن يسكته، ويقول له: أنا الذي عندي العيوب، ونحن المخطئون، ونحن المذنبون، فدع الناس عنك، ومع ذلك تجده في نعمة محبوبا من الناس، ومقربا من الناس، ومهابا عند الناس، ومحفوظ العرض بين الناس، وفي الحديث: (قيل: يا رسول الله! من المسلم؟ قال: الذي سلم المسلمون من لسانه ويده) . وكثيرا ما يجر الإنسان بسبب الغرور، فإذا التزم نسي أنه لا حول له ولا قوة، ثم يبدأ بنفسه وكأنه قد وصل إلى أعتاب الجنة بل إلى درجاتها العلا، ثم يبلغ به الشيطان استدراجا وأخذا حتى يقف على أبواب الجنة -والعياذ بالله- ليدخل من شاء ويخرج من شاء، فهذه زلات القدم، ولذلك على الإنسان أن يتفقد نفسه، ومن سرته حسنته وأبكته أو ساءته سيئته، فهذا هو المؤمن الحق. فمن نعم الله على العبد، بل من أجل النعم أن ينظر إلى نفسه وإلى عيوبه وإلى خطاياه، ويزدري نفسه في جنب الله عز وجل، وعندها إذا سمع عن مؤمن أو مسلم أخطاء أو عيوبا رفع كفه إلى الله، وقال: اللهم عافه ولا تبتلنا، اللهم اهد فلانا، اللهم تب على فلان، وإذا بالملك يؤمن، بينما تجد البعض -نسأل الله السلامة- يتتبع العثرات، حتى يبلغ به الأمر أن لو قيل له: فلان تاب، فإنه يشكك في توبته -نسأل الله العافية والسلامة- والله تعالى يقول: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} [فاطر:8] ، وهذا كله بالاستدراج، ووالله لو أن العبد الواعي الفاهم درس نصوص الشرع في بيان كيفية استدراج الله للعبد في معصيته، خاصة في حقوق عباده وأوليائه؛ لتعجب كيف أن الله سبحانه وتعالى يخذل من يؤذي عباده. وإنما نقول هذا ونؤكد عليه؛ لأننا درسنا نصوص الكتاب والسنة فوجدنا الوعيد الشديد، والتقريع والتوبيخ على ازدراء المسلم؛ لأنه لا يتكلم في الناس إلا من يزدريهم، ولا يتكلم في الناس إلا من يحتقرهم، وانظر كيف عاتب الله نبيه عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات بسبب ما حدث من عبد ضعيف جاء يريد أن يستفيد، فقال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} [الأنعام:52] ، مع أنه عليه الصلاة والسلام تأول واجتهد، ومع هذا جاء الخطاب من فوق سبع سماوات. فحرمة المسلم عظيمة، وليعلم كل إنسان أن أعراض الناس ليست رخيصة، وليعلم كل إنسان أنه إذا جاء ينظر إلى الناس بأحسابها وأنسابها وألونها، وفقرها ومناصبها؛ فذلك لا يغني عند الله شيئا، وقد قال الله لكل عبد مؤمن بالله واليوم الآخر: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات:13] ، فويل لك إذا تكلمت في عبد كريم عند الله عز وجل. والتقوى في القلوب، والله يقول: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم:32] ، فإذا أصبح الإكرام من الله لعبده وكرامة العبد عند الله عز وجل موقوفة على التقوى، فإن التقوى ليس لك سبيل إلى علمها، وغيب القلوب لا يعلمه إلا الله تعالى نعم، لك أن تحكم على الظاهر، وكلامنا إذا لم توجد حاجة، وإنما في الاسترسال في أعراض المسلمين. والعجيب أن تجد الشخص ملتزما، وربما يمسي الليل قائما، ويصبح بالنهار صائما، ثم إذا به يقول كلمة واحدة عن الجنس الفلاني، والقبيلة الفلانية، فإذا به يبوء بالسيئات العظام؛ لأنه اغتاب جنسا، أو جماعة فلان، أو قوم فلان، وفي الحديث: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالا -وفي لفظ: ما يتبين فيها- يهوي بها في النار سبعين خريفا، أو أبعد مما بين المشرق والمغرب) . فلا يظن أحد أن أعراض المسلمين عند الله رخيصة، وأن المسلم سهل أن يلاك عرضه باللسان، وليعلم أن له ربا يحاسبه، وأنه كما يستشعر عظم عرضه ومكانته، فلربما يكون مرقع الثوب عند الله بمكان أفضل من مكانه، وله عند الله حرمة أعظم من حرمته. فهنيئا لمن قدر نفسه قدرها، وأذل نفسه وعرف حقها، هنيئا لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس، وتوطن بالتقوى، وتسربل بسربالها، وسلم المسلمون من يده ولسانه، وزلات جوارحه وأركانه، وجماع الخير كله في الخوف من الآخرة، وما كف المسلم عن الوقيعة في المسلمين واحتقارهم والكلام فيهم شيء مثل ذكر الآخرة، فوالله لو استشعر الإنسان أنه قائم بين يدي الله، موقوف بين يدي جبار السماوات والأرض؛ لهانت عليه الدنيا وما فيها، ولم يستطع أن يذكر مسلما إلا بكل خير. وكم رأينا والله من الصالحين والأخيار من العلماء والأئمة وطلاب العلم الفضلاء من شغلته نفسه عن الناس، فوجدناه في عافية من أمر دينه عجيبة، فقل أن تجده مفتونا، وقل أن تجده يشتكي فتنة؛ لأن الذي بينه وبين الله صالح، فأصلح الله سريرته، وأصلح ما بينه وبين الناس، فزكت روحه وسمت نفسه، فالمؤمن دائما يبحث عن هذا، وثق ثقة تامة أنك إن وطنت نفسك على أنك المقصر، وعلى أنك الذي تطلق لسانك، وأنه ينبغي أن تكبح هذا اللسان، وأن تكبح جماحه، وأن تمنعه بمانع التقوى، حفظك الله، وذلك كله بفضل الله، ثم الدعاء، ثم ذكر الآخرة. فما هذب أخلاق الإنسان وسلوكه شيء مثل ذكر الآخرة، والعلم بأنه لا مكان له بين يدي الله إلا بالعمل الصالح، وأن الله لم يجعله حكما على عباده، وأن الله لم ينصبه من أجل أن يدخل من شاء في جنة الله، ويخرج من شاء عن رحمة الله عز وجل، وإنما هو عبد مربوب، وليس برب يحاسب، وليس برب مطلع على ضمائر الناس في سرائرهم. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا لمحاسن الأخلاق، وأن يصرف عنا شرها وسيئها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد، والسلام عليكم. |
| الساعة الآن : 07:37 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour