ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=84)
-   -   تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=272151)

ابوالوليد المسلم 14-07-2025 01:00 PM

رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
 
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ المرسلات

من صــ 151 الى صــ160
الحلقة (741)






أي عسيرا شديدا كما قال : {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . أي يتركون الإيمان بيوم القيامة. وقيل : "ورائهم" أي خلفهم ، أي ويذرون الآخرة خلف ظهورهم ، فلا يعملون لها. وقيل : "نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته. وحبهم العاجلة : أخذهم الرشا على ما أراد المنافقين ؛ لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا. والآية تعم. واليوم الثقيل يوم القيامة. وإنما سمي ثقيلا لشدائده وأهواله. وقيل : للقضاء فيه بين عباده."
قوله تعالى : {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} أي من طين. {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} أي خلقهم ؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم. والأسر الخلق ؛ قال أبو عبيد : يقال فرس شديد الأسر أي الخلق. ويقال أسره الله جل ثناؤه إذا شدد خلقه ؛ قال لبيد :
ساهم الوجه شديد أسره ... مشرف الحارك محبوك الكتد
وقال الأخطل :
من كل مجتنب شديد أسره ... سلس القياد تخاله مختالا
وقال أبو هريرة والحسن والربيع : شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقال مجاهد في تفسير الأسر : هو الشرج ، أي إذا خرج الغائط والبول تقبض الموضع. وقال ابن زيد القوة. وقال ابن أحمر يصف فرسا :
يمشي بأوظفة شداد أسرها ... صم السنابك لا تقي بالجدجد
واشتقاقه من الأسار وهو القد الذي يشد به الأقتاب ؛ يقال : أسرت القتب أسرا أي شددته وربطه ؛ ويقال : ما أحسن أسر قتبه أي شده وربطه ؛ ومنه قولهم : خذه
بأسره إذا أرادوا أن يقولوا هو لك كله ؛ كأنهم أرادوا تعكيمه وشده لم يفتح ولم ينقص منه شيء. ومنه الأسير ، لأنه كان يكتف بالإسار. والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. أي سويت خلقك وأحكمته بالقوي ثم أنت تكفر بي. {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} قال ابن عباس : يقول لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وعنه أيضا : لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها. كذلك روى الضحاك عنه. والأول رواه عنه أبو صالح.
29-
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} .

30-
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} .

31-
{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}

قوله تعالى : {إِنَّ هَذِهِ} أي السورة {تَذْكِرَةٌ} أي موعظة {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي طريقا موصلا إلى طاعته وطلب مرضاته. وقيل : {سَبِيلاً} أي وسيلة. وقيل وجهة وطريقا إلى الجنة. والمعنى واحد. {وَمَا تَشَاءُونَ} أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ليس إليهم ، وأنه لا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم ، إلا أن تتقدم مشيئته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "وما يشاؤون" بالياء على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله سبحانه.
وقيل : إن الآية الأولى منسوخة بالثانية. والأشبه أنه ليس بنسخ ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته. قال الفراء : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} جواب لقوله : {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم فقال : {وَمَا تَشَاءُونَ} ذلك السبيل {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لكم. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً} بأعمالكم {حَكِيماً} في أمره ونهيه لكم. وقد مضى في غير موضع.
{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي يدخله الجنة راحما له {وَالظَّالِمِينَ} أي ويعذب الظالمين فنصبه بإضمار يعذب. قال الزجاج : نصب الظالمين لأن قبله منصوب ؛ أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون {أَعَدَّ لَهُمْ} تفسيرا لهذا المضمر ؛ كما قال الشاعر :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي أخشى الذئب أخشاه. قال الزجاج : والاختيار النصب وإن جاز الرفع ؛ تقول : أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا ، فيختار النصب ؛ أي وبررت عمرا أو أبر عمرا. وقوله في "الشورى" : {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ} ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى ؛ فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء. وها هنا قوله : {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً} يدل على ويعذب ، فجاز النصب. وقرأ أبان بن عثمان {وَالظَّالِمِينَ} رفعا بالابتداء والخبر {أَعَدَّ لَهُمْ} . {عَذَاباً أَلِيماً} أي مؤلما موجعا. وقد تقدم هذا في سورة "البقرة" وغيرها والحمد لله. ختمت السورة.
سورة المرسلات
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها ، وهي قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} مدنية. وقال ابن مسعود : نزلت {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن معه نسير ، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت ، فبينا نحن نتلقاها منه ، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حية ، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "وقيتم شرها كما وقيت شركم" . وعن كريب مولى ابن عباس قال : قرأت سورة {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} فسمعتني أم الفضل امرأة العباس ، فبكت وقالت : والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب. والله أعلم. وهي خمسون آية.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} . 2- {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً} .

3-
{وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً} . 4- {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} .

5-
{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} . 6- {عُذْراً أَوْ نُذْراً} .

7-
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} . 8- { فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} .

9-
{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} . 10- {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} .

11-
{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} . 12- {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} .

13-
{لِيَوْمِ الْفَصْلِ} . 14- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} .

15-
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .

قوله تعالى : {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} جمهور المفسرين على أن المرسلات الرياح. وروى مسروق عن عبدالله قال : هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله تعالى ونهيه والخبر والوحي. وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي. وقيل : هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله ؛ قاله ابن عباس. وقال أبو صالح : إنهم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وعن ابن عباس وابن مسعود : إنها الرياح ؛ كما قال تعالى : {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ} . وقال : {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} . ومعنى "عرفا" يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس ؛ تقول العرب : الناس إلى فلان عرف واحد : إذا توجهوا إليه فأكثروا. وهو نصب على الحال من {وَالْمُرْسَلاتِ} أي والرياح التي أرسلت متتابعة. ويجوز أن تكون مصدرا أي تباعا. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حرف الجر ، كأنه قال : والمرسلات بالعرف ، والمراد الملائكة أو الملائكة والرسل. وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات السحاب ، لما فيها من نعمة ونقمة ، عارفة بما أرسلت فيه ومن أرسلت إليه. وقيل : إنها الزواجر والمواعظ. و "عرفا" على هذا التأويل متتابعات كعرف الفرس ؛ قال ابن مسعود. وقيل : جاريات ؛ قال الحسن ؛ يعني في القلوب. وقيل : معروفات في العقول.
{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً} الرياح بغير اختلاف ؛ قال المهدوي. وعن ابن مسعود : هي الرياح العواصف تأتي بالعصف ، وهو ورق الزرع وحطامه ؛ كما قال تعالى : {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً} . وقيل : العاصفات الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها. وقيل : الملائكة تعصف بروح الكافر ؛ يقال : عصف بالشيء أي أباده وأهلكه ، وناقة عصوف أي تعصف براكبها ، فتمضى كأنها ريح في السرعة ، وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم. وقيل : يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً} الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها. وقال ابن مسعود ومجاهد : هي الرياح يرسلها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته ؛ أي تنشر السحاب للغيث.
وروي ذلك عن أبي صالح. وعنه أيضا : الأمطار ؛ لأنها تنشر النبات ، فالنشر بمعنى الإحياء ؛ يقال : نشر الله الميت وأنشره أي أحياه. وروى عنه السدي : أنها الملائكة تنشر كتب الله عز وجل. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. الضحاك : إنها الصحف تنشر على الله بأعمال العباد.
وقال الربيع : إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح. قال : "والناشرات" بالواو ؛ لأنه استئناف قسم آخر. {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل ؛ قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : الفارقات الرياح تفرق بين السحاب وتبدده. وعن سعيد عن قتادة قال : {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} الفرقان ، فرق الله فيه بين الحق والباطل والحرام والحلال. وقال الحسن وابن كيسان. وقيل : يعني الرسل فرقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه أي بينوا ذلك.
وقيل : السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق وهي الحامل التي تخرج وتند في الأرض حين تضع ، ونوق
وارق وفرق. [وربما] شبهوا السحابة التي تنفرد من السحاب بهذه الناقة ؛ قال ذو الرمة :
أو مزنة فارق يجلو غواربها ... تبوج البرق والظلماء علجوم
{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} الملائكة بإجماع ؛ أي تلقي كتب الله عز وجل إلى الأنبياء عليهم السلام ؛ قاله المهدوي. وقيل : هو جبريل وسمي باسم الجمع ؛ لأنه كان ينزل بها. وقيل : المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم ؛ قال قطرب. وقرأ ابن عباس "فالملقيات" بالتشديد مع فتح القاف ؛ وهو كقوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} {عُذْراً أَوْ نُذْراً} أي تلقى الوحي إعذارا من الله أو إنذارا إلى خلقه من عذابه ؛ قال الفراء. وروى عن أبي صالح قال : يعني الرسل يعذرون وينذرون. وروى سعيد عن قتادة "عذرا" قال : عذرا لله جل ثناؤه إلى خلقه ، ونذرا للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به. وروى الضحاك عن ابن عباس. "عذرا" أي ما يلقيه الله جل ثناؤه من معاذير أوليائه وهي التوبة "أو نذرا" ينذر أعداءه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص "أو نذرا" بإسكان الذال وجميع السبعة على إسكان ذال "عذرا" سوى ما رواه الجعفي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنه ضم الذال. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة "عذرا ونذرا" بالواو العاطفة ولم يجعلا بينهما ألفا. وهما منصوبان على الفاعل له أي للإعذار أو للإنذار. وقيل : على المفعول به ، قيل : على البدل من "ذكرا" أي فالملقيات عذرا أو نذرا. وقال أبو علي : يجوز أن يكون العذر والنذر بالثقيل على جمع عاذر وناذر ؛ كقوله تعالى : {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} فيكون نصبا على الحال من الإلقاء ؛ أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار. أو يكون مفعولا "لذكرا" أي "فالملقيات" أي تذكر "عذرا أو نذرا" . وقال المبرد : هما بالتثقيل جمع والواحد عذير ونذير.
قوله تعالى : {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} هذا جواب ما تقدم من القسم ؛ أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم.
ثم بين وقت وقوعه فقال : {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب ؛ يقال : طمس الشيء إذا درس وطمس فهو مطموس ، والريح تطمس الآثار فتكون الريح طامسة والأثر طامسا بمعنى مطموس. {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} أي فتحت وشقت ؛ ومنه قوله تعالى : {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} وروى الضحاك عن ابن عباس قال : فرجت للطي. {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} أي ذهب بها كلها بسرعة ؛ يقال : نسفت الشيء وأنسفته : إذا أخذته كله بسرعة. وكان ابن عباس والكلبي يقول : سويت بالأرض ، والعرب تقول : فرس نسوف إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه ؛ قال بشر :
نسوف للحزام بمرفقيها
ونسفت الناقة الكلأ : إذا رعته. وقال المبرد : نسفت قلعت من موضعها ؛ يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الأرض : أنسفت رجلاه. وقيل : النسف تفريق الأجزاء حتى تذروها للرياح. ومنه نسف الطعام ؛ لأنه يحرك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التبن. {وإذا الرسل أقتت} أي جمعت لوقتها ليوم القيامة ، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه ؛ فالمعنى : جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم ؛ كما قال تعالى : {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} . وقيل : هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفار ممهلون. وإنما تزول الشكوك يوم القيامة. والأول أحسن ؛ لأن التوقيت معناه شيء يقع يوم القيامة ، كالطمس ونسف الجبال وتشقيق السماء ولا يليق به. التأقيت قبل يوم القيامة. قال أبو علي : أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا. وقيل : أقتت وعدت وأجلت. وقيل : "أقتت" أي أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراد. والهمزة في "أقتت" بدل من الواو ؛ قال الفراء والزجاج. قال الفراء : وكل واو ضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن يبدل منها همزة ؛ تقول : صلى القوم إحدانا تريد وحدانا ، ويقولون هذه وجوه حسان و [أجوه] .
وهذا لأن ضمة الواو ثقيلة. ولم يجز البدل في قوله : {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} لأن الضمة غير لازمة.
وقرأ أبو عمرو وحميد والحسن ونصر. وعن عاصم ومجاهد "وقتت" بالواو وتشديد القاف على الأصل. وقال أبو عمرو : وإنما يقرأ "أقتت" من قال في وجوه أجوه. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج "وقتت" بالواو وتخفيف القاف. وهو فعلت من الوقت ومنه {كِتَاباً مَوْقُوتاً} . وعن الحسن أيضا : "ووقتت" بواوين ، وهو فوعلت من الوقت أيضا مثل عوهدت. ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفا لجاز. وقرأ يحيى وأيوب وخالد بن إلياس وسلام "أقتت" بالهمزة والتخفيف ؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف.
قوله تعالى : {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} أي أخرت ، وهذا تعظيم لذلك اليوم فهو استفهام على التعظيم. أي {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} أجلت. وروى سعيد عن قتادة قال : يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار. وفي الحديث : "إذا حشر الناس يوم القيامة قاموا أربعين عاما على رؤوسهم الشمس شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون الفصل" . {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أتبع التعظيم تعظيما ؛ أي وما أعلمك ما يوم الفصل ؟ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي عذاب وخزي لمن كذب بالله وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد. وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب ؛ لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم ، فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر ، ورب شيء كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه بغيره ؛ لأنه أقبح في تكذيبه ، وأعظم في الرد على الله ، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك ، وعلى قدر وفاقه وهو قوله : {جَزَاءً وِفَاقاً} . وروي عن النعمان بن بشير قال : ويل : واد في جهنم فيه ألوان العذاب. وقال ابن عباس وغيره. قال ابن عباس : إذا خبت جهنم أخذ من جمره فألقي عليها فيأكل بعضها بعضا. وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "عرضت علي جهنم فلم أر فيها واديا أعظم من الويل" وروي أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم ، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض وانفطر ، وقد علم العباد في الدنيا أن شر المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات من الجيف وماء الحمامات ؛ فذكر أن ذلك
الوادي. مستنقع صديد أهل الكفر والشرك ؛ ليعلم ذوو العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة ، ولا أنتن منه نتنا ، ولا أشد منه مرارة ، ولا أشد سوادا منه ؛ ثم وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تضمن من العذاب ، وأنه أعظم واد في جهنم ، فذكره الله تعالى في وعيده في هذه السورة.
16-
{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} .

17-
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} .

18-
{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} .

19-
{ويل يومئذ للمكذبين} .

قوله تعالى : {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} أي نلحق الآخرين بالأولين. {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي مثل ما فعلناه بمن تقدم نفعل بمشركي قريش إما بالسيف ، وإما بالهلاك. وقرأ العامة "ثم نتبعهم" بالرفع على الاستئناف ، وقرأ الأعرج "نتبعهم" بالجزم عطفا على {نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} كما تقول : ألم تزرني ثم أكرمك. والمراد أنه أهلك قوما بعد قوم على اختلاف أوقات المرسلين. ثم استأنف بقوله : {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} يريد من يهلك فيما بعد. ويجوز أن يكون الإسكان تخفيفا من "نتبعهم" لتوالي الحركات. وروي عنه الإسكان للتخفيف. وفي قراءة ابن مسعود "ثم سنتبعهم" والكاف من "كذلك" في موضع نصب ، أي مثل ذلك الهلاك نفعله بكل مشرك. ثم قيل : معناه التهويل لهلاكهم في الدنيا اعتبارا. وقيل : هو إخبار بعذابهم في الآخرة.
20-
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} .

21-
{فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} .

22-
{إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} .

23-
{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} .

24-
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .

قوله تعالى : {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} أي ضعيف حقير وهو النطفة وقد تقدم.وهذه الآية أصل لمن قال : إن خلق الجنين إنما هو من ماء الرجل وحده. وقد مضى القول فيه.
{فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} أي في مكان حريز وهو الرحم. {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} قال مجاهد : إلى أن نصوره. وقيل : إلى وقت الولادة. {فَقَدَرْنَا} وقرأ نافع والكسائي "فقدرنا" بالتشديد. وخفف الباقون ، وهما لغتان بمعنى. قاله الكسائي والفراء والقتبي. قال القتبي : قدرنا بمعنى قدرنا مشددة : كما تقول : قدرت كذا وقدرته ؛ ومنه قول النبي صلى الله علسه سلم في الهلال : "إذا غم عليكم فاقدروا له" أي قدروا له المسير والمنازل. وقال محمد بن الجهم عن الفراء : "فقدرنا" قال : وذكر تشديدها عن علي رضي الله عنه ، تخفيفها ، قال : ولا يبعد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحدا ؛ لأن العرب تقول : قدر عليه الموت وقدر : قال الله تعالى : {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} قرئ بالتخفيف ، والتشديد ، وقدر عليه رزقه وقدر. قال : واحتج الذين خففوا فقالوا ؛ لو كانت كذلك لكانت فنعم المقدرون. قال الفراء : وتجمع العرب بين اللغتين ؛ قال الله تعالى : {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} قال الأعشى :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وروي عن عكرمة "فقدرنا" مخففة من القدرة ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والكسائي لقوله : "فنعم القادرون" ومن شدد فهو من التقدير ، أي فقدرنا الشقي والسعيد فنعم المقدرون. رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : المعنى قدرنا قصيرا أو طويلا. ونحوه عن ابن عباس : قدرنا ملكنا. المهدوي : وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف.
قلت : هو صحيح فإن عكرمة هو الذي قرأ "فقدرنا" مخففا قال : معناه فملكنا فنعم المالكون ، فأفادت الكلمتان معنيين متغايرين ؛ أي قدرنا وقت الولادة وأحوال النطفة في التنقيل من حالة إلى حالة حتى صارت بشرا سويا ، أو الشقي والسعيد ، أو الطويل والقصير ، كله على قراءة التشديد. وقيل : هما بمعنى كما ذكرنا.
25-
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً} .

26-
{أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} .

27-
{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} .

28-
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .

https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif




ابوالوليد المسلم 14-07-2025 01:04 PM

رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
 
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ المرسلات

من صــ 161 الى صــ170
الحلقة (742)






فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً} أي ضامة تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه ، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. وقوله عليه السلام : "قصوا أظافركم وادفنوا قلاماتكم" وقد مضى. يقال : كفت الشيء أكفته : إذا جمعته وضممته ، والكفت : الضم والجمع ؛ وأنشد سيبويه :
كرام حين تنكفت الأفاعي ... إلى أجحارهن من الصقيع
وقال أبو عبيد : "كفاتا" أوعية. ويقال للنحي : كفت وكفيت ، لأنه يحوي اللبن ويضمه قال :
فأنت اليوم فوق الأرض حيا ... وأنت غدا تضمك في كفات
وخرج الشعبي في جنازة فنظر إلى الجبان فقال : هذه كفات الأموات ، ثم نظر إلى البيوت فقال : هذه كفات الأحياء.
والثانية- روى عن ربيعة في النباش قال تقطع يده فقيل له : لم قلت ذلك ؟ قال. إن الله عز وجل يقول : {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً } فالأرض حرز. وقد مضى هذا في سورة "المائدة" . وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفتة ، لأنه مقبرة تضم الموتى ، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض ، ثم اضطجاعهم عليها ، انضمام منهم إليها. وقيل : هي كفات للأحياء يعني دفن ما يخرج من الإنسان من الفضلات في الأرض ؛ إذ لا ضم في كون الناس عليها ، والضم يشير إلى الاحتفاف من جميع الوجوه. وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه : الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض ، أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت ، وإلى ميت
وهو الذي لا ينبت. وقال الفراء : انتصب ، {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} بوقوع الكفات عليه ؛ أي ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات. فإذا نونت نصبت ؛ كقوله تعالى : {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} . وقيل : نصب على الحال من الأرض ، أي منها كذا ومنها كذا. وقال الأخفش : "كفاتا" جمع كافتة والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل : التكفيت : تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر. ويقال : انكفت القوم إلى منازلهم أي انقلبوا. فمعنى الكفات أنهم يتصرفون على ظهرها وينقلبون إليها ويدفنون فيها. {وَجَعَلْنَا فِيهَا} أي في الأرض {رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} يعني الجبال ، والرواسي الثوابت ، والشامخات الطوال ؛ ومنه يقال : شمخ بأنفه إذا رفعه كبرا. {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} أي وجعلنا لكم سقيا. والفرات : الماء العذب يشرب ويسقى منه الزرع. أي خلقنا الجبال وأنزلنا الماء الفرات. وهذه الأمور أعجب من البعث. وفي بعض الحديث قال أبو هريرة : في الأرض من الجنة الفرات والدجلة ونهر الأردن. وفي صحيح مسلم : سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.
29-
{انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .

30-
{انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} .

31-
{لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} .

32-
{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} .

33-
{كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} .

34-
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .

قوله تعالى : {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي يقال للكفار سيروا {إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} من العذاب يعني النار ، فقد شاهدتموها عيانا. {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ} أي دخان {ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} يعني الدخان الذي يرتفع ثم يتشعب إلى ثلاث شعب. وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب. ثم وصف الظل فقال : {لا ظَلِيلٍ} أي ليس كالظل الذي يقي حر الشمس {وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} أي لا يدفع من لهب جهنم شيئا. واللهب
ما يعلو على النار إذ اضطرمت ، من أحمر وأصفر وأخضر. وقيل : إن الشعب الثلاث هي الضريع والزقوم والغسلين ؛ قاله الضحاك. وقيل : اللهب ثم الشرر ثم الدخان ؛ لأنها ثلاثة أحوال ، هي غاية أوصاف النار إذا أضطرمت واشتدت. وقيل : عنق يخرج من النار فيتشعب ثلاث شعب. فأما النور فيقف على رؤوس المؤمنين ، وأما الدخان فيقف على رؤوس المنافقين ، وأما اللهب الصافي فيقف على رؤوس الكافرين. وقيل : هو الرادق ، وهو لسان من نار يحيط بهم ، ثم يتشعب منه ثلاث شعب ، فتظللهم حتى يفرغ من حسابهم إلى النار. وقيل : هو الظل من يحموم ؛ كما قال تعالى : {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} على ما تقدم. وفي الحديث : "إن الشمس تدنو من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ولا لهم أكفان فتلحقهم الشمس وتأخذ بأنفاسهم ومد ذلك اليوم ، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله" فهنالك يقولون : {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} ويقال للمكذبين : {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} من عذاب الله وعقابه {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} . فيكون أولياء الله جل ثناؤه في ظل عرشه أو حيث شاء من الظل ، إلى أن يفرغ من الحساب ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار. ثم وصف النار فقال : {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} الشرر : واحدته شررة. والشرار : واحدته شرارة ، وهو ما تطاير من النار في كل جهة ، وأصله من شررت الثوب إذا بسطته للشمس ليجف. والقصر البناء العالي. وقراءة العامة "كالقصر" بإسكان الصاد : أي الحصون والمدائن في العظم وهو واحد القصور ". قاله ابن عباس وابن مسعود. وهو في معنى الجمع على طريق الجنس. وقيل : القصر جمع قصرة ساكنة الصاد ، مثل جمرة ، وجمر وتمرة وتمر. والقصرة : الواحدة من جزل الحطب الغليظ."
وفي البخاري عن ابن عباس أيضا : {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قال كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل ، فترفعه للشتاء ، فنسميه القصر ، وقال سعيد بن جبير والضحاك : هي
أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع. وقيل : أعناقه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد والسلمي "كالقصر" بفتح الصاد ، أراد أعناق النخل. والقصرة العنق ، جمعها قصر وقصرات. وقال قتادة : أعناق الإبل. قرأ سعيد بن جبير بكسر القاف وفتح الصاد ، وهي أيضا جمع قصرة مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع وحلقة وحلق ، لحلق الحديد. وقال أبو حاتم : ولعله لغة ، كما قالوا حاجة وحوج. وقيل : القصر : الجبل ، فشبه الشرر بالقصر في مقاديره ، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر ، وهي الإبل السود ؛ والعرب تسمي السود من الإبل صفرا ؛ قال الشاعر :
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب
أي هن سود. وإنما سميت السود من الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة ؛ كما قيل لبيض الظباء : الأدم ؛ لأن بياضها تعلوه كدرة : والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود ، لما ينوبها من صفرة. وفي شعر عمران بن حطان الخارجي :
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى
وضعف الترمذي هذا القول فقال : وهذا القول محال في اللغة ، أن يكون شيء يشوبه شيء قليل ، فنسب كله إلى ذلك الشائب ، فالعجب لمن قد قال هذا ، وقد قال الله تعالى : {جِمَالَاتٌ صُفْرٌ} فلا نعلم شيئا من هذا في اللغة. ووجهه عندنا أن النار خلقت من النور فهي نار مضيئة ، فلما خلق الله جهنم وهي موضع النار ، حشا ذلك الموضع بتلك النار ، وبعث إليها سلطانه وغضبه ، فاسودت من سلطانه وازدادت حدة ، وصارت أشد سوادا من النار ومن كل شيء سوادا ، فإذا كان يوم القيامة وجيء بجهنم في الموقف رمت بشررها على أهل الموقف ، غضبا لغضب الله ، والشرر هو أسود ، لأنه من نار سوداء ، فإذا رمت النار بشررها فإنها ترمي الأعداء به ، فهن سود من سواد النار ، لا يصل ذلك إلى الموحدين ؛ لأنهم
في سرادق الرحمة قد أحاط بهم في الموقف ، وهو الغمام الذي يأتي فيه الرب تبارك وتعالى ، ولكن يعاينون ذلك الرمي ، فإذا عاينوه نزع الله ذلك السلطان والغضب عنه في رأي العين منهم حتى يروها صفراء ؛ ليعلم الموحدون أنهم في رحمة الله لا في سلطانه وغضبه. وكان ابن عباس يقول : الجمالات الصفر : حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال. ذكره البخاري. وكان يقرؤها "جمالات" بضم الجيم ، وكذلك قرأ مجاهد وحميد "جمالات" بضم الجيم ، وهي الحبال الغلاط ، وهي قلوس السفينة أي حبالها. وواحد القلوس : قلس. وعن ابن عباس أيضا على أنها قطع النحاس. والمعروف في الحبل الغليظ جمل بتشديد الميم كما تقدم في "الأعراف" . و "جمالات" بضم الجيم : جمع جمالة بكسر الجيم موحدا ، كأنه جمع جمل ، نحو حجر وحجارة ، وذكر وذكارة ، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري "جُمالة" بضم الجيم موحدا وهي الشيء العظيم المجموع بعضه إلى بعض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي "جمالة" وبقية السبعة "جمالات" قال الفراء : يجوز أن تكون الجمالات جمع جمال كما يقال : رجل ورجال ورجالات. وقيل : شبهها بالجمالات لسرعة سيرها. وقيل : لمتابعة بعضها بعضا. والقصر : واحد القصور. وقصر الظلام : اختلاطه ويقال : أتيته قصرا أي عشيا ، فهو مشترك ؛ قال :
كأنهم قصرا مصابيح راهب ... بموزن روى بالسليط ذبالها
مسألة : في هذه الآية دليل على جواز ادّخار الحطب والفحم وإن لم يكن من القوت ، فإنه من مصالح المرء ومغاني مفاقره. وذلك مما يقتضي النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته ؛ ليكون أرخص وحالة وجوده أمكن ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه ومال ، وكل شيء محمول عليه. وقد بين ابن عباس هذا بقوله : كنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه وندخره للشتاء وكنا نسميه القصر. وهذا أصح ما قيل في ذلك والله أعلم.
35-
{هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} .

36-
{وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} .

37-
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .

قوله تعالى : {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} أي لا يتكلمون {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت ، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ، ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل. وعن عكرمة عن ابن عباس قال : سأل ابن الأزرق عن قوله تعالى : {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} و {فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} وقد قال تعالى : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فقال له : إن الله عز وجل يقول : {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} فإن لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان. وقيل : لا ينطقون بحجة نافعة ، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق. قال الحسن : لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. وقيل : إن هذا وقت جوابهم {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} وقد تقدم. وقال أبو عثمان : أسكتتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب. وقال الجنيد : أي عذر لمن أعرض عن منعمه وجحده وكفر أياديه ونعمه ؟ و "يوم" بالرفع قراءة العامة على الابتداء والخبر ؛ أي تقول الملائكة : "هذا يوم لا ينطقون" ويجوز أن يكون قوله : "انطلقوا" من قول الملائكة ، ثم يقول الله لأوليائه : هذا يوم لا ينطق الكفار. ومعنى اليوم الساعة والوقت. وروى يحيى بن سلطان. عن أبي بكر عن عاصم "هذا يوم لا ينطقون" بالنصب ، ورويت عن ابن هرمز وغيره ، فجاز أن يكون مبنيا لإضافته إلى الفعل وموضعه رفع. وهذا مذهب الكوفيين. وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تكون الإشارة إلى غير اليوم. وهذا مذهب البصريين ؛ لأنه إنما بني عندهم إذا أضيف إلى مبني ، والفعل ها هنا معرب. وقال الفراء في قوله تعالى : {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} الفاء نسق أي عطف على "يؤذن" وأجيز ذلك ؛ لأن أواخر الكلام بالنون. ولو قال : فيعتذروا لم يوافق الآيات. وقد قال :
{لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} بالنصب وكله صواب ؛ ومثله : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ} بالنصب والرفع.
38-
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} .

39-
{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} .

40-
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .

قوله تعالى : {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي ويقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق ؛ فيتبين المحق من المبطل. {جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} قال ابن عباس : جمع الذين كذبوا محمدا والذين كذبوا النبيين من قبله. رواه عنه الضحاك. {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ} أي حيلة في الخلاص من الهلاك {فَكِيدُونِ} أي فاحتالوا لأنفسكم وقاووني ولن تجدوا ذلك. وقيل : أي {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ} أي قدرتم على حرب {فَكِيدُونِ} أي حاربوني. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال : يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمدا صلى الله عليه وسلم وتحاربونني فاليوم حاربوني. وقيل : أي إنكم كنتم في الدنيا تعملون بالمعاصي وقد عجزتم الآن عنها وعن الدفع عن أنفسكم. وقيل : إنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون كقول هود : {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ}
41-
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} .

42-
{وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} .

43-
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

44-
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .

45-
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}

قوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} أخبر بما يصير إليه المتقون غدا ، والمراد بالظلال ظلال الأشجار وظلال القصور مكان الظل في الشعب الثلاث. وفي سورة يس {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي يتمنون. وقراءة العامة "ظلال" . وقرأ الأعرج والزهري وطلحة "ظلل" جمع ظلة يعني
في الجنة. {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي يقال لهم غدا هذا بدل ما يقال للمشركين {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} فـ {كُلُوا وَاشْرَبُوا} في موضع الحال من ضمير {الْمُتَّقِينَ} في الظرف الذي هو {فِي ظِلالٍ} أي هم مستقرون "في ظلال" مقولا لهم ذلك. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا.
46-
{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} .

47-
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .

قوله تعالى : {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين ، وهو وعيد وتهديد وهو حال من "المكذبين" أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم : {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} أي كافرون. وقيل : مكتسبون فعلا يضركم في الآخرة ، من الشرك والمعاصي.
48-
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} .

49-
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .

50-
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}

قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} أي إذا قيل لهؤلاء المشركين : {ارْكَعُوا} أي صلوا {لا يَرْكَعُونَ} أي لا يصلون ؛ قال مجاهد. وقال مقاتل : نزلت في ثقيف ، امتنعوا من الصلاة فنزل ذلك فيهم. قال مقاتل : قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "أسلموا" وأمرهم بالصلاة فقالوا : لا ننحني فإنها مسبة علينا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود" . يذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر ، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر ، فجلس ولم يركع ، فقال له صبي : يا شيخ قم فاركع. فقام فركع ولم يحاجه بما يراه مذهبا ، فقيل له في ذلك ، فقال : خشيت أن أكون من الذين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} . وقال ابن عباس : إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. قتادة : هذا في الدنيا. ابن العربي : هذه الآية
سورة عَمَّ "النبأ"
حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركنا في الصلاة وقد أنعقد الإجماع عليه ، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب ، وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا ، فمن كان لله يسجد يمكن من السجود ، ومن كان يسجد رثاء لغيره صار ظهره طبقا واحدا. وقيل : أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون ، فهو عام في الصلاة وغيرها وإنما ذكر الصلاة ، لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد. وقيل : الأمر بالإيمان لأنها لا تصح من غير إيمان.
قوله تعالى : {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام ، فبأي شيء يصدقون! وكرر : {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} لمعنى تكرير التخويف والوعيد. وقيل : ليس بتكرار ، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر ؛ كأنه ذكر شيئا فقال : ويل لمن يكذب بهذا ، ثم ذكر شيئا آخر فقال : ويل لمن يكذب بهذا ، ثم ذكر شيئا آخر فقال : ويل لمن يكذب بهذا. ثم كذلك إلى آخرها. ختمت السورة ولله الحمد.
سورة "عَمَّ"
مكية وتسمى سورة "النبأ" وهي
أربعون أو إحدى وأربعون آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} .

2-
{عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} .

3-
{الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} .

4-
{كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} .

5-
{ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}

قوله تعالى : {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ؟ {عَمَّ} لفظ استفهام ؛ ولذلك سقطت منها ألف "ما" ، ليتميز الخبر عن الاستفهام. وكذلك (فيم ، ومم) إذا استفهمت. والمعنى عن أي شيء
يسأل بعضهم بعضا. وقال الزجاج : أصل "عم" عن ما فأدغمت النون في الميم ، لأنها تشاركها في الغنة. والضمير في "يتساءلون" لقريش. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ؟ وقيل : "عم" بمعنى : فيم يتشدد المشركون ويختصمون.
قوله تعالى : {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} أي يتساءلون "عن النبأ العظيم" فعن ليس تتعلق بـ "يتساءلون" الذي في التلاوة ؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون "عن النبأ العظيم" كقولك : كم مالك أثلاثون أم أربعون ؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه "بيتساءلون" الذي في التلاوة ، وإنما يتعلق بيتساءلون آخر مضمر. وحسن ذلك لتقدم يتساءلون ؛ قال المهدوي. وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله : "عن" مكرر إلا أنه مضمر ، كأنه قال عم يتساءلون أعن النبأ العظيم ؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الأولى. و "النبأ العظيم" أي الخبر الكبير. {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} أي يخالف فيه بعضهم بعضا ، فيصدق واحد ويكذب آخر ؛ فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو القرآن ؛ دليله قوله : {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} فالقرآن نبأ وخبر وقصص ، وهو نبأ عظيم الشأن.
وروى سعيد عن قتادة قال : هو البعث بعد الموت صار الناس فيه رجلين : مصدق ومكذب. وقيل : أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وروي الضحاك عن ابن عباس قال : وذلك أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة ، فأخبره الله جل ثناؤه باختلافهم ، ثم هددهم فقال : {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} أي سيعلمون عاقبة القرآن ، أو سيعلمون البعث : أحق هو أم باطل. و "كلا" رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن ، فيوقف عليها. ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو "ألا" فيبدأ بها. والأظهر أن سؤالهم إنما كان عن البعث ؛ قال بعض علمائنا : والذي يدل عليه قوله عز وجل : {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث. {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} أي حقا ليعلمن صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت. وقال الضحاك : "كلا"
https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif




ابوالوليد المسلم 14-07-2025 01:07 PM

رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
 
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ النبأ

من صــ 171 الى صــ180
الحلقة (743)



سيعلمون "يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم." ثم كلا سيعلمون "يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم. وقيل : بالعكس أيضا. وقال الحسن : هو وعيد بعد وعيد. وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر ؛ لقوله تعالى : {يَتَسَاءَلُونَ} وقوله :" هم فيه مختلفون ". وقرأ الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما."
6-
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} .

7-
{وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} .

8-
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} .

9-
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} .

10-
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} .

11-
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} .

12-
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} .

13-
{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} .

14-
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} .

15-
{لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} .

16-
{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} .

قوله تعالى : {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} دلهم على قدرته على البعث ؛ أي قدرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة. والمهاد : الوطاء والفراش. وقد قال تعالى : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} وقرئ "مهدا" . ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها. {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أي أصنافا : ذكرا وأنثى. وقيل : ألوانا. وقيل : يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن ، وطويل وقصير ؛ لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار ، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} "جعلنا" معناه صيرنا ؛ ولذلك تعدت إلى مفعولين. {سُبَاتاً} المفعول الثاني ، أي راحة لأبدانكم ، ومنه يوم السبت أي يوم الراحة ؛ أي قيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ، فلا تعملوا فيه شيئا. وأنكر ابن الأنباري هذا وقال : لا يقال للراحة سبات. وقيل : أصله التمدد ؛ يقال : سبتت المرأة شعرها : إذا حلته وأرسلته ، فالسبات كالمد ، ورجل مسبوت الخلق : أي ممدود. وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد ، فسميت الراحة سبتا.
وقيل : أصله القطع ؛ يقال : سبت شعره سبتا : حلقه ؛ وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال ، فالسبات يشبه الموت ، إلا أنه لم تفارقه الروح. ويقال : سير سبت : أي سهل لين ؛ قال الشاعر :
ومطوية الأقراب أما نهارها ... فسبت وأما ليلها فذميل
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} أي تلبسكم ظلمته وتغشاكم ؛ قال الطبري. وقال ابن جبير والسدي : أي سكنا لكم. {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} فيه إضمار ، أي وقت معاش ، أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما معاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك فـ "معاشا" على هذا اسم زمان ، ليكون الثاني هو الأول. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف. {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} أي سبع سموات محكمات ؛ أي محكمة الخلق وثيقة البنيان. {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} أي وقادا وهي الشمس. وجعل هنا بمعنى خلق ؛ لأنها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له وهج ؛ يقال : وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا. ويقال للجوهر إذا تلألأ توهج. وقال ابن عباس : وهاجا منيرا متلألئا. {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} قال مجاهد وقتادة : والمعصرات الرياح. وقاله ابن عباس : كأنها تعصر السحاب. وعن ابن عباس أيضا : أنها السحاب. وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك : أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد ، كالمرأة المعصر التي قددنا حيضها ولم تحض ، قال أبو النجم :
تمشي الهوينى مائلا خمارها ... قد أعصرت أوقد دنا إعصارها
وقال آخر :
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
وقال آخر :
وذي أشر كالأقحوان يزينه ... ذهاب الصبا والمعصرات الروائح
فالرياح تسمى معصرات ؛ يقال : أعصرت الريح تعصر إعصارا : إذا أثارت العجاج ، وهي الإعصار ، والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر. وقال قتادة أيضا : المعصرات السماء ، النحاس : هذه الأقوال صحاح ؛ يقال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات ، والرياح تلقح السحاب ، فيكون المطر ، والمطر ينزل من الريح على هذا. ويجوز أن تكون الأقوال واحدة ، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات "ماء ثجاجا" وأصح الأقوال أن المعصرات ؛ السحاب. كذا المعروف أن الغيث منها ، ولو كان (بالمعصرات) لكان الريح أولى. وفي الصحاح : والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر. وأعصر القوم أي أمطروا ؛ ومنه قرأ بعضهم "وفيه يعصرون" والمعصر : الجارية أول ما أدركت وحاضت ؛ يقال : قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته ؛ قال الراجز :
جارية بسفوان دارها ... تمشي الهوينى ساقطا خمارها
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
والجمع : معاصر ، ويقال : هي التي قاربت الحيض ؛ لأن الإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. سمعته من أبي الغوث الأعرابي. قال غيره : والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر ؛ يقال أجن الزرع فهو مجن : أي صار إلى أن يجن ، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر. وقال المبرد : يقال سحاب معصر أي ممسك للماء ، ويعتصر منه شيء بعد شيء ، ومنه العصر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه ، والعصرة بالضم أيضا الملجأ. وقد مضى هذا المعنى في سورة "يوسف" والحمد لله. وقال أبو زبيد :
صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
ومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر ؛ لأنها تحبس في البيت ، فيكون البيت لها عصرا. وفي قراءة ابن عباس وعكرمة "وأنزلنا بالمعصرات" . والذي في المصاحف "من المعصرات" قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان : "من المعصرات" أي من السموات. "ماء ثجاجا" صبابا متتابعا ؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال : ثججت دمه فأنا أثجه ثجا ، وقد ثج الدم يثج ثجوجا ، وكذلك الماء ، فهو لازم ومتعد. والثجاج في الآية المنصب. وقال الزجاج : أي الضباب ، وهو متعد كأنه يثج : نفسه أي يصب. وقال عبيد بن الأبرص :
فثج أعلاه ثم ارتج أسفله ... وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الحج المبرور فقال : "العج والثج" فالعج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إراقة الدماء وذبح الهدايا. وقال ابن زيد : ثجاجا كثيرا. والمعنى واحد.
قوله تعالى : {لِنُخْرِجَ بِهِ} أي بذلك الماء {حَبّاً} كالحنطة والشعير وغير ذلك {وَنَبَاتاً} من الأب ، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش. {وَجَنَّاتٍ} أي بساتين {أَلْفَافاً} أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها ، ولا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل : واحد الألفاف لف بالكسر ولف بالضم. ذكره الكسائي ، قال :
جنة لُفٌّ وعيشٌ مغدِق ... وندامى كلهم بيض زُهُرْ
وعنه أيضا وأبي عبيدة : لفيف كشريف وأشراف. وقيل : هو جمع الجمع. حكاه الكسائي. يقال : جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام مثل حمر ، ثم يجمع اللف ألفافا. الزمخشري : ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيها. ويقال : شجرة لفاء وشجر لف وامرأة
لفاء : أي غليظة الساق مجتمعة اللحم. وقيل : التقدير : ونخرج به جنات ألفافا ، فحذف لدلالة الكلام عليه. ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة ، فالأغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها.
17-
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} .

18-
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} .

19-
{وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} .

20-
{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً}

قوله تعالى : {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} أي وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين ، لما وعد الله من الجزاء والثواب. وسمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه. {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} أي للبعث {فَتَأْتُونَ} أي إلى موضع العرض.
{أَفْوَاجاً} أي أمما ، كل أمة مع إمامهم. وقيل : زمرا وجماعات. الواحد : فوج. ونصب يوما بدلا من اليوم الأول. وروي من حديث معاذ بن جبل قلت : يا رسول الله! أرأيت قول الله تعالى : {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا معاذ" بن جبل "لقد سألت عن أمر عظيم" ثم أرسل عينيه باكيا ، ثم قال : "يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين ، وبدل صورهم ، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون : أرجلهم أعلاهم ، ووجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي يتردون ، وبعضهم صم بكم لا يعقلون ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم ، فهي مدلاة على صدورهم ، يسيل القيح من أفواههم لعابا ، يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم ؛ فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس - يعني النمام - وأما الذين على صورة الخنازير ، فأهل"
السحت والحرام والمكس. وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم ، فأكلة الربا ، والعمي : من يجور في الحكم ، والصم البكم : الذين يعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون ألسنتهم : فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم. والمقطعة أيديهم وأرجلهم : فالذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع النار : فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ، ويمنعون حق الله من أموالهم. والذين يلبسون الجلابيب : فأهل الكبر والفخر والخيلاء "."
قوله تعالى : {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} أي لنزول الملائكة ؛ كما قال تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} . وقيل : تقطعت ، فكانت قطعا كالأبواب فانتصاب الأبواب على هذا التأويل بحذف الكاف. وقيل : التقدير فكانت ذات أبواب ؛ لأنها تصير كلها أبوابا. وقيل : أبوابها طرقها. وقيل : تنحل وتتناثر ، حتى تصير فيها أبواب. وقيل : إن لكل عبد بابين في السماء : بابا لعمله ، وبابا لرزقه ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب. وفي حديث الإسراء : "ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت قال : جبريل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه. ففتح لنا" . {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} أي لا شيء كما أن السراب كذلك : يظنه الرائي ماء وليس بماء.
وقيل : "سيرت" نسفت من أصولها. وقيل : أزيلت عن مواضعها.
21-
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} . 22- {لِلطَّاغِينَ مَآباً} .

23-
{لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} . 24- {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} .

25-
{إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} . 26- {جَزَاءً وِفَاقاً} .

27-
{إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً} . 28- {وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً} .

29-
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} . 30- {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً}

قوله تعالى : {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} مفعال من الرصد والرصد : كل شيء كان أمامك. قال الحسن : إن على النار رصدا ، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجيء بجواز حبس. وعن سفيان رضي الله عنه قال : عليها ثلاث قناطر. وقيل "مرصادا" ذات أرصاد على النسب ؛ أي ترصد من يمر بها. وقال مقاتل : محبسا. وقيل : طريقا وممرا ، فلا سبيل إلى الجنة حتى يقطع جهنم.
وفي الصحاح : والمرصاد : الطريق. وذكر القشيري : أن المرصاد المكان الذي يرصد فيه الواحد العدو ، نحو المضمار : الموضع الذي تضمر فيه الخيل. أي هي معدة لهم ؛ فالمرصاد بمعنى المحل ؛ فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم. وذكر الماوردي عن أبي سنان أنها بمعنى راصدة ، تجازيهم بأفعالهم. وفي الصحاح : الراصد الشيء : الراقب له ؛ تقول : رصده يرصده رصدا ورصدا ، والترصد : الترقب. والمرصد : موضع الرصد. الأصمعي : رصدته أرصده : ترقبته ، وأرصدته : أعددت له. والكسائي : مثله.
قلت : فجهنم معدة مترصدة ، متفعل من الرصد وهو الترقب ؛ أي هي متطلعة لمن يأتي. والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار ، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار.
{لِلطَّاغِينَ مَآباً} بدل من قوله : "مرصادا" والمآب : المرجع ، أي مرجعا يرجعون إليها ؛ يقال : آب يؤوب أوبة : إذا رجع. وقال قتادة : مأوى ومنزلا. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر ، أو في دنياه بالظلم.
قوله تعالى : {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، فكلما مضى حقب جاء حقب. والحقب بضمتين : الدهر والأحقاب الدهور. والحقبة بالكسر : السنة ؛ والجمع حقب ؛ قال متمم بن نويرة التميمي :
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والحقب بالضم والسكون : ثمانون سنة. وقيل : أكثر من ذلك وأقل ، على ما يأتي ، والجمع : أحقاب. والمعنى في الآية ؛ [لابثين] فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها ؛ فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه ؛ إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة ؛ أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية ، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم ، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها ، وهي كناية عن التأبيد ، أي يمكثون فيها أبدا. وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام ؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب ، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب ؛ وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب. وقيل : الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق ، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب ؛ ولهذا قال : {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً. لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} . و {لابِثِينَ} اسم فاعل من لبث ، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالإسكان ، كالشرب. وقرأ حمزة والكسائي "لبثين" بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، وهما لغتان ؛ يقال : رجل لابث ولبث ، مثل طمع وطامع ، وفره وفاره. ويقال : هو لبث بمكان كذا : أي قد صار اللبث شأنه ، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو حذر وفرق ؛ لأن باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشيء في الأغلب ، وليس كذلك اسم الفاعل من لابث.
والحقب : ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة ، والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما ، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا ، قاله ابن عباس. وروي ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة : والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا. وعن ابن عمر أيضا : الحقب : أربعون سنة. السدي : سبعون سنة. وقيل : إنه ألف شهر. رواه أبو أمامة مرفوعا. بشير بن كعب : ثلاثمائة سنة. الحسن : الأحقاب لا يدري أحدكم هي ، ولكن ذكروا أنها مائة حقب ، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة ، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. وعن أبي أمامة أيضا ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الحُقُب الواحد ثلاثون ألف سنة" ذكره المهدوي. والأول الماوردي. وقال قطرب : هو الدهر الطويل غير المحدود.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا ، الحقب بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة مما تعدون ؛ فلا يتكلن أحدكم على أن يخرج من النار" . ذكره الثعلبي. القُرظي : الأحقاب : ثلاثة وأربعون ، حقبا كل حقب سبعون خريفا ، كل خريف سبعمائة سنة ، كل سنة ثلثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة.
قلت : هذه أقوال متعارضة ، والتحديد في الآية للخلود ، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر ، وليس ذلك بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما المعنى - والله أعلم - ما ذكرناه أولا ؛ أي لابثين فيها أزمانا ودهورا ، كلما مضى زمن يعقبه زمن ، ودهر يعقبه دهر ، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع. وقال ابن كيسان : معنى {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} لا غاية لها انتهاء ، فكأنه قال أبدا. وقال ابن زيد ومقاتل : إنها منسوخة بقوله تعالى : "فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا" يعني أن العدد قد انقطع ، والخلود قد حصل.
قلت : وهذا بعيد ؛ لأنه خبر ، وقد قال تعالى : {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} على ما تقدم. هذا في حق الكفار ، فأما العصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص. والله أعلم. وقيل : المعنى {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} أي في الأرض ؛ إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} لجهنم. وقيل : واحد الأحقاب حقب وحقبة ؛ قال :
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها ... فأنت بما أحدثته بالمجرب
وقال الكميت :
مر لها بعد حقبة حقب
قوله تعالى : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا} أي في الأحقاب {بَرْداً وَلا شَرَاباً} البرد : النوم في قول أبي عبيدة وغيره ؛ قال الشاعر :
ولو شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نُقاخا ولا بردا
وقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي ؛ وأنشدوا قول الكندي :
بردت مراشفها علي فصدني ... عنها وعن تقبيلها البرد
يعني النوم. والعرب تقول : منع البرد البرد ، يعني : أذهب البرد النوم.
قلت : وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل في الجنة نوم. فقال : "لا ؛ النوم أخو الموت ، والجنة لا موت فيها" فكذلك النار ؛ وقد قال تعالى : {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} وقال ابن عباس : البرد : برد الشراب. وعنه أيضا : البرد النوم : والشراب الماء. وقال الزجاج : أي لا يذوقون فيها برد ريح ، ولا ظل ، ولا نوم. فجعل البرد برد كل شيء له راحة ، وهذا برد ينفعهم ، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به ، فلا ينفعهم ، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به. وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بردا : أي روحا وراحة ؛ قال الشاعر :
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء أوقات العشي تذوق
قوله تعالى : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} جملة في موضع الحال من الطاغين ، أو نعت للأحقاب ؛ فالأحقاب ظرف زمان ، والعامل فيه "لابثين" أو "لبثين" على تعدية فعل. {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم ، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه. والحميم : الماء الحار ؛ قاله أبو عبيدة. وقال ابن زيد : الحميم : دموع أعينهم ، تجمع في حياض ثم يسقونه. قال النحاس : أصل الحميم : الماء الحار ، ومنه اشتق الحمام ، ومنه الحمى ، ومنه وَظِلٍّ مِنْ
https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif




ابوالوليد المسلم 14-07-2025 01:10 PM

رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
 
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ النبأ

من صــ 181 الى صــ190
الحلقة (744)






يَحْمُومٍ : إنما يراد به النهاية في الحر. والغساق : صديد أهل النار وقيحهم. وقيل الزمهرير. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين ، وقد مضى في "ص" القول فيه. {جَزَاءً وِفَاقاً} أي موافقا لأعمالهم. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ؛ فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال بمعنى المقاتلة. و "جزاء" نصب على المصدر ، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم ؛ قال الفراء والأخفش. وقال الفراء أيضا : هو جمع الوفق ، والوفق واللفق واحد. وقال مقاتل. وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة ، فأتاهم الله بما يسوءهم. {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ} أي لا يخافون {حِسَاباً} أي محاسبة على أعمالهم. وقيل : معناه لا يرجون ثواب حساب. الزجاج : أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم. {وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً} أي بما جاءت به الأنبياء. وقيل : بما أنزلنا من الكتب. وقراءة العامة "كذابا" بتشديد الذال ، وكسر الكاف ، على كذب ، أي كذبوا تكذيبا كبيرا. قال الفراء : هي لغة يمانية فسيحة ؛ يقولون : كذبت [به] كذابا ، وخرقت القميص خراقا ؛ وكل فعل في وزن (فعل) فمصدره فعال مشدد في لغتهم ؛ وأنشد بعض الكلابيين :
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ... وعن حوج قضاؤها من شفائنا
وقرأ علي رضي الله عنه "كذابا" بالتخفيف وهو مصدر أيضا. وقال أبو علي : التخفيف والتشديد جميعا : مصدر المكاذبة ، كقول الأعشى :
فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه
أبو الفتح : جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا. الزمخشري : "كذابا" بالتخفيف مصدر كذب ؛ بدليل قوله :
فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه
وهو مثل قوله : {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} يعني وكذبوا بآياتنا أفكذبوا كذابا. أو تنصبه بـ "كذبوا" . لأنه يتضمن معنى كذبوا ؛ لأن كل مكذب بالحق كاذب ؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين ، فبينهم مكاذبة. وقرأ ابن عمر "كذابا" بضم الكاف والتشديد ، جمع كاذب ؛ قاله أبو حاتم. ونصبه على الحال الزمخشري. وقد يكون الكذاب : بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال : رجل كذاب ، كقولك حسان وبخال ، فيجعله صفة لمصدر "كذبوا" أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه. وفي الصحاح : وقوله تعالى : {وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً} وهو أحد مصادر المشدد ؛ لأن مصدره قد يجيء على (تفعيل) مثل التكليم وعلى (فعال) كذاب وعلى (تفعلة) مثل توصية ، وعلى (مفعل) ؛ {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} . {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} "كل" نصب بإضمار فعل يدل عليه "أحصيناه" أي وأحصينا كل شيء أحصيناه. وقرأ أبو السمال "وكل شيء" بالرفع على الابتداء. "كتابا" نصب على المصدر ؛ لأن معنى أحصينا : كتبنا ، أي كتبناه كتابا. ثم قيل : أراد به العلم ، فإن ما كتب كان أبعد من النسيان. وقيل : أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة. وقيل : أراد ما كتب على العباد من أعمالهم. فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة ؛ دليله قوله تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ} . "فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا" قال أبو برزة : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن ؟ فقال : قوله تعالى : {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} أي {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} و {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}
31-
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} .

32-
{حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} .

33-
{وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} .

34-
{وَكَأْساً دِهَاقاً} .

35-
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} .

36-
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً}

قوله تعالى : {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} ذكر جزاء من اتقى مخالفة أمر الله "مفازا" موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار. ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها : مفازة ، تفاؤلا بالخلاص منها. {حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} هذا تفسير الفوز. وقيل : {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} إن للمتقين حدائق ؛ جمع حديقة ، وهي البستان المحوط عليه ؛ يقال أحدق به : أي أحاط. والأعناب : جمع عنب ، أي كروم أعناب ، فحذف. {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} كواعب : جمع كاعب وهي الناهد ؛ يقال : كَعَبت الجارية تكعَب كُعوبا ، وكعَّبت تُكَعِّب تكعيبا ، ونهدت تنهد نهودا. وقال الضحاك : ككواعب العذارى ؛ ومنه قول قيس بن عاصم :
وكم من حصان قد حوينا كريمة ... ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر
والأتراب : الأقران في السن. وقد مضى في سورة "الواقعة" الواحد : ترب. {وَكَأْساً دِهَاقاً} قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس : مترعة مملوءة ؛ يقال : أدهقت الكأس : أي ملأتها ، وكأس دهاق أي ممتلئة ؛ قال :
ألا فاسقني صِرفا سقاني الساقي ... من مائها بكأسك الدهاق
وقال خداش بن زهير :
أتانا عامر يبغي قِرانا ... فأترعنا له كأسا دهاقا
وقال سعد بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا : متتابعة ، يتبع بعضها بعضا ؛ ومنه ادهقت الحجارة أدهاقا ، وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض ؛ فالمتتابع كالمتداخل. وعن عكرمة أيضا وزيد بن أسلم : صافية ؛ قال الشاعر :
لأنت إلى الفؤاد أحب قربا ... من الصادي إلى كأس دهاق
وهو جمع دهق ، وهو خشبتان [يغمز] بهما [الساق] . والمراد بالكأس الخمر ، فالتقدير : خمرا ذات دهاق ، أي عصرت وصفيت ؛ قاله القشيري. وفي الصحاح : وأدهقت الماء : أي أفرغته
إفراغا شديدا : قال أبو عمرو : والدهق - بالتحريك : ضرب من العذاب. وهو بالفارسية دأشكنجه. المبرد : والمدهوق : المعذب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه. ابن الأعرابي : دهقت الشيء كسرته وقطعته ، وكذلك دهدقته : وأنشد لحجر بن خالد :
ندهدق بضع اللحم للباع والندى ... وبعضهم تغلي بذم مناقعه
ودهمقته بزيادة الميم : مثله. وقال الأصمعي : الدهمقة : لين الطعام وطيبه ورقته ، وكذلك كل شيء لين ؛ ومنه حديث عمر : لو شئت أن يدهمق لي لفعلت ، ولكن الله عاب قوما فقال : {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا }
قوله تعالى : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي في الجنة {لَغْواً وَلا كِذَّاباً} اللغو : الباطل ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح ؛ ومنه الحديث : "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم ، ولم يتكلموا بلغو ؛ بخلاف أهل الدنيا. "ولا كذابا" تقدم ، أي لا يكذب بعضهم بعضا ، ولا يسمعون كذبا. وقرأ الكسائي "كذابا" بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة. وقيل : هما مصدران للتكذيب ، وإنما خففها ها هنا لأنها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له ، وشدد قوله : {وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً} لأن كذبوا يقيد المصدر بالكذاب. {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} نصب على المصدر. لأن المعنى جزاهم بما تقدم ذكره ، جزاءه وكذلك {عَطَاءً} لأن معنى أعطاهم وجزاهم واحد. أي أعطاهم عطاء. {حِسَاباً} أي كثيرا ، قاله قتادة ؛ يقال : أحسبت فلانا : أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي. قال :
ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع
وقال القتبي : ونرى أصل هذا أن يعطيه حتى يقول حسبي. وقال الزجاج : "حسابا" أي ما يكفيهم. وقاله الأخفش. يقال : أحسبني كذا : أي كفاني. وقال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا. مجاهد : حسابا لما عملوا ، فالحساب بمعنى العد. أي بقدر ما وجب له في وعد الرب ، فإنه وعد للحسنة عشرا ، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف ، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدارا ؛ كما قال تعالى : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . وقرأ أبو هاشم "عطاء حسابا" بفتح الحاء ، وتشديد السين ، على وزن فعال أي كفافا ؛ قال الأصمعي : تقول العرب : حسبت الرجل بالتشديد : إذا أكرمته ؛ وأنشد قول الشاعر :
إذا أتاه ضيفه يحسِّبه
وقرأ ابن عباس. "حسانا" بالنون.
37-
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} .

38-
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} .

39-
{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} .

40-
{إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً}

قوله تعالى : {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب ، والمفضل عن عاصم : "رب" بالرفع على الاستئناف ، "الرحمن" خبره. أو بمعنى : هو رب السموات ، ويكون "الرحمن" مبتدأ ثانيا. وقرأ ابن عامر ويعقوب وابن محيصن كلاهما بالخفض ، نعتا لقوله : {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} أي جزاء من ربك رب السموات الرحمن. وقرأ ابن عباس وعاصم وحمزة والكسائي : "رب السموات"
خفضا على النعت ، "الرحمن" رفعا على الابتداء ، أي هو الرحمن. واختاره أبو عبيد وقال : هذا أعدلها ؛ خفض "رب" لقربه من قوله : "من ربك" فيكون نعتا له ، ورفع "الرحمن" لبعده منه ، على الاستئناف ، وخبره {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه. وقال الكسائي : "لا يملكون منه خطابا" بالشفاعة إلا بإذنه. وقيل : الخطاب : الكلام ؛ أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه ؛ دليله : {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . وقيل : أراد الكفار {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} ، فأما المؤمنون فيشفعون. قلت : بعد أن يؤذن لهم ؛ لقوله تعالى : {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} .
قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} "يوم" نصب على الظرف ؛ أي يوم لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح. واختلف في الروح على أقوال ثمانية : الأول : أنه ملك من الملائكة. قال ابن عباس : ما خلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا ، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم. ونحو منه عن ابن مسعود ؛ قال : الروح ملك أعظم من السموات السبع ، ومن الأرضين السبع ، ومن الجبال. وهو حيال السماء الرابعة ، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة ؛ يخلق الله من كل تسبيحة ملكا ، فيجيء يوم القيامة وحده صفا ، وسائر الملائكة صفا.
الثاني : أنه جبريل عليه السلام. قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس : إن عن يمين العرش نهرا من نور ، مثل السموات السبع ، والأرضين السبع ، والبحار السبع ، يدخل جبريل كل يوم فيه سحرا فيغتسل ، فيزداد نورا على نوره ، وجمالا على جماله ، وعظما على عظمه ، ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة
تقع من ريشه سبعين ألف ملك ، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور ، والكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة. وقال وهب : إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله تعالى ترعد فرائصه ؛ يخلق الله تعالى من كل رعدة مائة ألف ملك ، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رؤوسهم ، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا : لا إله إلا أنت ؛ وهو قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} في الكلام {وَقَالَ صَوَاباً} يعني قوله : "لا إله إلا أنت" . الثالث : روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الروح في هذه الآية جند من جنود الله تعالى ، ليسوا ملائكة ، لهم رؤوس وأيد وأرجل ، يأكلون الطعام" . ثم قرأ {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} فإن هؤلاء جند ، وهؤلاء جند. وهذا قول أبي صالح ومجاهد. وعلى هذا هم خلق على صورة بني آدم ، كالناس وليسوا بناس. الرابع : أنهم أشراف الملائكة ؛ قاله مقاتل بن حيان. الخامس : أنهم حفظة على الملائكة ؛ قال ابن أبي نجيح. السادس : أنهم بنو آدم ، قاله الحسن وقتادة. فالمعنى ذوو الروح. وقال العوفي والقرظي : هذا مما كان يكتمه ابن عباس ؛ قال : الروح : خلق من خلق الله على صور بني آدم ، وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح. السابع : أرواح بني آدم تقوم صفا ، فتقوم الملائكة صفا ، وذلك بين النفختين ، قبل أن ترد إلى الأجساد ؛ قال عطية. الثامن : أنه القرآن ؛ قاله زيد بن أسلم.
وقرأ {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} و "صفا" : مصدر أي يقومون صفوفا. والمصدر ينبئ عن الواحد والجمع ، كالعدل ، والصوم. ويقال ليوم العيد : يوم الصف. وقال في موضع آخر : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} هذا يدل على الصفوف ، وهذا حين العرض والحساب. قال معناه القتبي وغيره. وقيل : يقوم الروح صفا ، والملائكة صفا ، فهم صفان. وقيل : يقوم الكل صفا واحدا. {لا يَتَكَلَّمُونَ} أي لا يشفعون {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} في الشفاعة {وَقَالَ صَوَاباً} يعني حقا ؛ قاله الضحاك ومجاهد. وقال أبو صالح : لا إله إلا الله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : يشفعون لمن قال لا إله إلا الله.
وأصل الصواب. السداد من القول والفعل ، وهو من أصاب يصيب إصابة ؛ كالجواب من أجاب يجيب إجابة. وقيل : "لا يتكلمون" يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا ، لا يتكلمون هيبة وإجلالا "إلا من أذن له الرحمن" في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا ، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه. وقال الحسن : إن الروح يقول يوم القيامة : لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة ، ولا النار إلا بالعمل. وهو معنى قوله تعالى : {وَقَالَ صَوَاباً} .
قوله تعالى : {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} أي الكائن الواقع {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} أي مرجعا بالعمل الصالح ؛ كأنه إذا عمل خيرا رده إلى الله عز وجل ، وإذا عمل شرا عده منه. وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام : "والخير كله بيديك ، والشر ليس إليك" . وقال قتادة : "مآبا" : سبيلا.
قوله تعالى : {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} يخاطب كفار قريش ومشركي العرب ؛ لأنهم قالوا : لا نبعث. والعذاب عذاب الآخرة ، وكل ما هو آت فهو قريب ، وقد قال تعالى : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} قال معناه الكلبي وغيره. وقال قتادة : عقوبة الدنيا ؛ لأنها أقرب العذابين. قال مقاتل : هي قتل قريش ببدر. والأظهر أنه عذاب الآخرة ، وهو الموت والقيامة ؛ لأن من مات فقد قامت قيامته ، فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة ، وإن كان من أهل النار رأى الخزي والهوان ؛ ولهذا قال تعالى : {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} بين وقت ذلك العذاب ؛ أي أنذرناكم عذابا قريبا في ذلك اليوم ، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، أي يراه ، وقيل : ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى. والمرء ها هنا المؤمن في قول الحسن ؛ أي يجد لنفسه عملا ، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا ، فيتمنى أن يكون ترابا. ولما قال : {وَيَقُولُ الْكَافِرُ} علم أنه أراد بالمرء المؤمن. وقيل : المرء ها هنا : أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط. "ويقول الكافر" أبو جهل. وقيل : هو عام في كل أحد وإنسان يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسب. وقال مقاتل : نزلت قوله : {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي : وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ
تُرَاباً : في أخيه الأسود بن عبد الأسد. وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر : ها هنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب ، وافتخر بأنه خلق من نار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ، والرحمة ، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب ، تمنى أنه يكون بمكان آدم ، فيقول : {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} قال : ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر. وقيل : أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم. وعن ابن عمر : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، وحشر الدواب والبهائم والوحوش ، ثم يوضع القصاص بين البهائم ، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها ، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها : كوني ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : "يا ليتني كنت ترابا" . ونحوه عن أبي هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة ، بأحوال الموتى وأمور الآخرة" ، مجودا والحمد لله. ذكر أبو جعفر النحاس : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع ، قال حدثنا سلمة بن شبيب ، قال حدثنا عبدالرازق ، قال حدثنا معمر ، قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة ، قال : إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان ، ثم يقال للبهائم والطير كوني ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} . وقال قوم : {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} : أي لم أبعث ، كما قال : {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} . وقال أبو الزناد : إذا قضي بين الناس ، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن : عودوا ترابا ، فيعودون ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} . وقال ليث بن أبي سليم : مؤمنوا الجن يعودون ترابا. وقال عمر بن عبدالعزيز والزهري والكلبي ومجاهد : مؤمنوا الجنة حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها. وهذا أصح ، وقد مضى في سورة "الرحمن" بيان هذا ، وأنهم مكلفون : يثابون ويعاقبون ، فهم كبني آدم ، والله أعلم بالصواب.
سورة النازعات
مكية بإجماع. وهي خمس أو ست وأربعون آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} . 2- {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} .

3-
{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} . 4- {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} .

5-
{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} . 6- {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} .

7-
{تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} . 8- {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} .

9-
{أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} . 10- {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} .

11-
{أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} . 12- {قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} .

13-
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} . 14- {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}

قوله تعالى : {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها ، على أن القيامة حق. و "النازعات" : الملائكة التي تنزع أرواح الكفار ؛ قاله علي رضي الله عنه ، وكذا قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد : هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم. قال ابن مسعود : يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم ، من تحت كل شعرة ، ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعا كالسفود ينزع من الصوف الرطب ، يغرقها ، أي يرجعها في أجسادهم ، ثم ينزعها فهذا عمله بالكفار. وقاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير : نزعت أرواحهم ، ثم غرقت ، ثم حرقت ؛ ثم قذف بها في النار. وقيل : يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرق. وقال السدي : و "النازعات" هي النفوس حين تغرق في الصدور. مجاهد : هي الموت ينزع النفوس. الحسن وقتادة : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق ؛ أي تذهب ، من قولهم : نزع إليه أي ذهب ، أو من قولهم : نزعت الخيل أي جرت. {غَرْقاً}


https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif


ابوالوليد المسلم 14-07-2025 01:13 PM

رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
 
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ النازعات

من صــ 191 الى صــ200
الحلقة (745)


أي إنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر. وقاله أبو عبيدة وابن كيسان والأخفش. وقيل : النازعات القسي تنزع بالسهام ؛ قاله عطاء وعكرمة. و {غَرْقاً} بمعنى إغراقا ؛ وإغراق النازع في القوس أن يبلغ غاية المد ، حتى ينتهي إلى النصل. يقال : أغرق في القوس أي استوفي مدها ، وذلك بأن تنتهي إلى العقب الذي عند النصف الملفوف عليه. والاستغراق الاستيعاب. ويقال لقشرة البيضة الداخلة : "غِرقِئ" . وقيل : هم الغزاة الرماة.
قلت : هو والذي قبله سواء ؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد النازعون بها تعظيما لها ؛ وهو مثل قوله تعالى : {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} والله أعلم. وأراد بالإغراق : المبالغة في النزع وهو سائر في جميع وجوه تأويلها. وقيل : هي الوحش تنزع من الكلأ وتنفر. حكاه يحيى ابن سلام. ومعنى "غرقا" أي إبعادا في النزع.
قوله تعالى : {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} قال ابن عباس : يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير : إذا حل عنه. وحكى هذا القول الفراء ثم قال : والذي سمعت من العرب أن يقولوا أنشطت وكأنما أنشط من عقال. وربطها نشطها والرابط الناشط ، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته ، فأنت ناشط ، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط. وعن ابن عباس أيضا : هي أنفس المؤمنين عند الموت تنشط للخروج ؛ وذلك أنه ما من مؤمن "يحضره الموت" إلا وتعرض عليه الجنة قبل أن يموت ، فيرى فيها ما أعد الله له من أزواجه وأهله من الحور العين ، فهم يدعونه إليها ، فنفسه إليهم نشطة أن تخرج فتأتيهم. وعنه أيضا قال : يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب ، الذي يعقب به السهم. والعقب بالتحريك : العصب الذي تعمل منه الأوتار ، الواحدة عقبة ؛ تقول منه : عقب السهم والقدح والقوس عقبا : إذا لوى شيئا منه عليه. والنشط : الجذب بسرعة ، ومنه الأنشوطة : عقدة يسهل أنحلالها إذا جذبت مثل عقدة التكة. وقال أبو زيد : نشطت
الحبل أنشطة نشطا : عقدته بأنشوطة ، وأنشطته أي حللته ، وأنشطت الحبل أي مددته حتى ينحل. وقال الفراء : أنشط العقال أي حل ، ونشط : أي ربط الحبل في يديه. وقال الليث : أنشطته بأنشوطة وأنشوطتين أي أوثقته ، وأنشطت العقال : أي مددت أنشوطته فانحلت. قال : ويقال نشط بمعنى أنشط ، لغتان بمعنى ؛ وعليه يصح قول ابن عباس المذكور أولا. وعنه أيضا : الناشطات الملائكة لنشاطها ، تذهب وتجيء بأمر الله حيثما كان. وعنه أيضا وعن علي رضي الله عنهما : هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ، ما بين الجلد والأظفار ، حتى تخرجها من أجوافهم نشطا بالكرب والغم ، كما تنشط الصوف من سفود الحديد ، وهي من النشط بمعنى الجذب ؛ يقال : نشطت الدلو أنشطها بالكسر ، وأنشطها بالضم : أي نزعتها.
قال الأصمعي : بئر أنشاط : أي قريبة القعر ، تخرج الدلو منها بجذبة واحدة. وبئر نشوط ؛ قال : وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى تنشط كثيرا. وقال مجاهد : هو الموت ينشط نفس الإنسان. السدي : هي النفوس حين تنشط من القدمين. وقيل : النازعات : أيدي الغزاة أو أنفسهم ، تنزع القسي بإغراق السهام ، وهي التي تنشط الأوهاق. عكرمة وعطاء : هي الأوهاق تنشط السهام. وعن عطاء أيضا وقتادة والحسن والأخفش : هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق : أي تذهب. وكذا في الصحاح. {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} يمني النجوم من برج إلى برج ، كالثور الناشط من بلد إلى بلد. والهموم تنشط بصاحبها ؛ قال هميان بن قحافة :
أمست همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طورا وطورا واسطا
أبو عبيدة وعطاء أيضا : الناشطات : هي الوحش حين تنشط من بلد إلى بلد ، كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد ؛ وأنشد قول هميان :
أمست همومي... (البيت) .
وقيل : "والنازعات" للكافرين "والناشطات" للمؤمنين ، فالملائكة يجذبون روح المؤمن برفق ، والنزع جذب : شدة ، والنشط جذب برفق. وقيل : هما جميعا للكفار والآيتان بعدهما للمؤمنين عند فراق الدنيا.
قوله تعالى : {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} قال علي رضي الله عنه : هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. الكلبي : هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين ، كالذي يسبح في الماء ، فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع ، يسلونها سلا رفيقا بسهولة ، ثم يدعونها حتى تستريح. وقال مجاهد وأبو صالح : هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأم الله ، كما يقال للفرس الجواد سابح : إذا أسرع في جريه. وعن مجاهد أيضا : الملائكة تسبح في نزولها وصعودها. وعنه أيضا : السابحات : الموت يسبح في أنفس بني آدم. وقيل : هي الخيل الغزاة ؛ قال عنترة :
والخيل تعلم حين تسـ ... ــــبح في حياض الموت سبحا
وقال امرؤ القيس :
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن غبارا بالكديد المركل
قتادة والحسن : هي النجوم تسبح في أفلاكها ، وكذا الشمس والقمر ؛ قال الله تعالى : {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . عطاء : هي السفن تسبح في الماء. ابن عباس : السابحات أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى لقاء الله ورحمته حين تخرج.
قوله تعالى : {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} قال علي رضي الله عنه : هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء عليهم السلام. وقاله مسروق ومجاهد. وعن مجاهد أيضا وأبي روق : هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقيل : تسبق بني آدم إلى العمل الصالح فتكتبه. وعن مجاهد أيضا : الموت يسبق الإنسان. مقاتل : هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. ابن مسعود : هي أنفس المؤمنين تسبق ، إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور ، شوقا إلى لقاء الله تعالى ورحمته. ونحو عن الربيع ، قال : هي النفوس تسبق بالخروج عند الموت. وقال قتادة والحسن ومعمر : هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير. عطاء : هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل : يحتمل أن تكون
السابقات ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار ؛ قال الماوردي. وقال الجرجاني : ذكر "فالسابقات" بالفاء لأنها مشتقة من التي قبلها ؛ أي واللائي يسبحن فيسبقن ، تقول : قام فذهب ؛ فهذا يوجب أن يكون القيام سببا للذهاب ، ولو قلت : قام وذهب ، لم يكن القيام سببا للذهاب.
قوله تعالى : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} قال القشيري : أجمعوا على أن المراد الملائكة. وقال الماوردي : فيه قولان : أحدهما : الملائكة ؛ قال الجمهور. والقول الثاني : هي الكواكب السبعة. حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وفي تدبيرها الأمر وجهان : أحدهما- تدبير طلوعها وأفولها. الثاني- تدبيرها ما قضاه الله تعالى فيها من تقلب الأحوال. وحكى هذا القول أيضا القشيري في تفسيره ، وأن الله تعالى علق كثيرا من تدبير أم العالم بحركات النجوم ، فأضيف التدبير إليها وإن كان من الله ، كما يسمى الشيء باسم ما يجاوره. وعلى أن المراد بالمدبرات الملائكة ، فتدبيرها نزولها بالحلال والحرام وتفصيله ؛ قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وهو إلى الله جل ثناؤه ، ولكن لما نزلت الملائكة به سميت بذلك ؛ كما قال عز وجل : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} . وكما قال تعالى : {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} . يعني جبريل نزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، والله عز وجل هو الذي أنزل.
وروى عطاء عن ابن عباس : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} : الملائكة وكلت بتدبير أحوال الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك. قال عبدالرحمن بن ساباط : تدبير أمر الدنيا إلى أربعة ؛ جبريل وميكائيل وملك الموت واسمه عزرائيل وإسرافيل ، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود ، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس في البر والبحر ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم ، وليس من الملائكة أقرب من إسرافيل ، وبينه وبين العرش مسيرة خمسمائة عام. وقيل : أي وكلوا بأمور عرفهم الله بها. ومن أول السورة إلى هنا قسم أقسم الله به ، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لنا ذلك إلا به عز وجل. وجواب القسم مضمر ، كأنه قال : والنازعات وكذا وكذا لتبعثن ولتحاسبن. أضمر لمعرفة السامعين
بالمعنى ؛ قاله الفراء. ويدل عليه قوله تعالى : {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} ألست ترى أنه كالجواب لقولهم : {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً } نبعث ؟ فاكتفى بقول : {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} ؟ وقال قوم : وقع القسم على قوله : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} وهذا اختيار الترمذي بن علي. أي فيما قصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى وفرعون "لعبرة لمن يخشى" ولكن وقع القسم على ما في السورة مذكورا ظاهرا بارزا أحرى وأقمن من أن يؤتي بشيء ليس بمذكور فيما قال ابن الأنباري : وهذا قبيح ، لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل : جواب القسم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} لأن المعنى قد أتاك.
وقيل : الجواب {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} على تقدير ليوم ترجف ، فحذف اللام. وقيل : فيه تقديم وتأخير ، وتقديره يوم ترجف الراجفة وتتبعها الرادفة والنازعات غرقا. وقال السجستاني : يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير ، كأنه قال : فإذا هم بالساهرة والنازعات. ابن الأنباري : وهذا خطأ ؛ لأن الفاء لا يفتح بها الكلام ، والأول الوجه. وقيل : إنما وقع القسم على أن قلوب أهل النار تجف ، وأبصارهم تخشع ، فانتصاب "يوم ترجف الراجفة" على هذا المعنى ، ولكن لم يقع عليه.
قال الزجاج : أي قلوب واجفة يوم ترجف ، وقيل : انتصب بإضمار اذكر و "ترجف" أي تضطرب. والراجفة : أي المضطربة كذا قال عبدالرحمن بن زيد ؛ قال : هي الأرض ، والرادفة الساعة. مجاهد : الراجفة الزلزلة {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} الصيحة. وعنه أيضا وابن عباس والحسن وقتادة : هما الصيحتان. أي النفختان. أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله تعالى ، وأما الثانية فتحيي كل شيء بإذن الله تعالى. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "بينهما أربعون سنة" وقال مجاهد أيضا : الرادفة حين تنشق السماء وتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة ، وذلك بعد الزلزلة. وقيل : الراجفة تحرك الأرض ، والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين ". فالله أعلم. وقد مضى في آخر" النمل "ما فيه كفاية في النفخ في الصور. وأصل الرجفة الحركة ، قال الله تعالى : {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ} وليست الرجفة هاهنا من"
الحركة فقظ ، بل من قولهم : رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا : أي أظهر الصوت والحركة ، ومنه سميت الأراجيف ، لاضطراب الأصوات بها ، وإفاضة الناس فيها ؛ قال :
أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا
وعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب ربع الليل قام ثم قال : "يا أيها الناس أذكروا الله ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه" . {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي خائفة وجلة ؛ قاله ابن عباس وعليه عامة المفسرين. وقال السدي : زائلة عن أماكنها. نظيره {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} .
وقال المؤرج : قلقة مستوفزة ، مرتكضة غير ساكنة. وقال المبرد : مضطربة. والمعنى متقارب ، والمراد قلوب الكفار ؛ يقال وجف القلب يجف وجيفا إذا خفق ، كما يقال : وجب يجب وجيبا ، ومنه وجيف الفرس والناقة في العدو ، والإيجاف حمل الدابة على السير السريع ، قال :
بدلن بعد جرة صريفا ... وبعد طول النفس الوجيفا
و "قلوب" رفع بالابتداء و "واجفة" صفتها. و {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} خبرها ؛ مثل قول {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} . ومعنى "خاشعة" منكسرة ذليلة من هول ما ترى. نظيره : {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} . والمعنى أبصار أصحابها ، فحذف المضاف. "يقولون أئنا لمردودون في الحافرة" أي يقول هؤلاء المكذبون المنكرون للبعث ، إذا قيل لهم إنكم تبعثون ، قالوا منكرين متعجبين : أنرد بعد موتنا إلى أول الأم ، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت ؟ وهو كقولهم : {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} يقال : رجع فلان في حافرته ، وعلى حافرته ، أي رجع من حيث جاء ؛ قال قتادة. وأنشد ابن الأعرابي :
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار
يقول : أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا بعد أن شبت وصلعت! ويقال : رجع على حافرته : أي الطريق الذي جاء منه. وقولهم في المثل : النقد عند الحافرة. قال يعقوب : أي عند أول كلمة. ويقال : ألتقي القوم فاقتتلوا عند الحافرة. أي عند أول ما التقوا. وقيل : الحافرة العاجلة ؛ أي أئنا لمردودون إلى الدنيا فنصبر أحياء كما كنا ؟ قال الشاعر :
آليت لا أنساكم فاعلموا ... حتى يرد الناس في الحافرة
وقيل : الحافرة : الأرض التي تحفر فيها قبورهم ، فهي بمعنى المحفورة ؛ كقوله تعالى : {مَاءٍ دَافِقٍ} و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} . والمعنى أثنا لمردودون في قبورنا أحياء. قال مجاهد والخليل والفراء. وقيل : سميت الأرض الحافرة ؛ لأنها مستقر الحوافر ، كما سميت القدم أرضا ؛ لأنها على الأرض. والمعنى أثنا لراجعون بعد الموت إلى الأرض فنمشي على أقدامنا. وقال ابن زيد : الحافرة : النار ، وقرأ "تلك إذا كرة خاسرة" . وقال مقاتل وزيد بن أسلم : هي اسم من أسماء النار. وقال ابن عباس : الحافرة في كلام العرب : الدنيا. وقرأ أبو حيوة : "الحفرة" بغير ألف ، مقصور من الحافر. وقيل : الحفرة : الأرض المنتنة بأجساد موتاها ؛ من قولهم : حفرت أسنانه ، إذا ركبها الوسخ من ظاهرها وباطنها. يقال : في أسنانه حفر ، وقد حفرت تحفر حفرا ، مثل كسر يكسر كسرا إذا فسدت أصولها. وبنو أسد يقولون : في أسنانه حفر بالتحريك. وقد حفرت مثال تعب تعبا ، وهي أردا اللغتين ؛ قاله في الصحاح.
قوله تعالى : {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} أي بالية متفتتة. يقال : نخر العظم بالكسر : أي بلي وتفتت ؛ يقال : عظام نخرة. وكذا قرأ الجمهور من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة ، واختاره أبو عبيد ؛ لأن الآثار التي تذكر فيها العظام ، نظرنا فيها فرأينا نخرة لا ناخرة. وقرأ أبو عمرو وابنه عبدالله وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وحمزة والكسائي وأبو بكر "ناخرة" بألف ، واختاره الفراء والطبري وأبو معاذ النحوي ؛ لوفاق رؤوس الآي. وفي الصحاح : والناخر من العظام
التي تدخل الريح فيه ثم تخرج منه ولها نخير. ويقال : ما بها ناخر ، أي ما بها أحد. حكاه يعقوب عن الباهلي.
وقال أبو عمرو بن العلاء : الناخرة التي لم تنخر بعد ، أي لم تبل ولا بد أن تنخر. وقيل : الناخر المجوفة. وقيل : هما لغتان بمعنى ؛ كذلك تقول العرب : نخر الشيء فهو نخر وناخر ؛ كقولهم : طمع فهو طمع وطامع ، وحذر وحاذر ، وبخل وباخل ، وفره وفاره ؛ قال الشاعر :
يظل بها الشيخ الذي كان بادنا ... يدب على عوج له نخرات
عوج : يعني قوائم. وفي بعض التفسير : ناخرة بالألف : بالية ، ونخرة : تنخر فيها الريح أي تمر فيها ، على عكس الأول ؛ قال :
من بعد ما صرت عظاما ناخره
وقال بعضهم : الناخرة : التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها. والنخرة : التي فسدت كلها. قال مجاهد : نخرة أي مرفوتة ؛ كما قال تعالى : {عِظَاماً وَرُفَاتاً} ونخرة الريح بالضم : شدة هبوبها. والنخرة أيضا والنخرة مثال الهمزة : مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير ؛ يقال : هشم نخرته : أي أنفه. {قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} أي رجعة خائبة ، كاذبة باطلة ، أي ليست كائبة ؛ قاله الحسن وغيره. الربيع بن أنس : "خاسرة" على من كذب بها. وقيل : أي هي كرة خسران. والمعنى أهلها خاسرون ؛ كما يقال : تجارة رابحة أي يربح صاحبها. ولا شيء أخسر من كرة تقتضي المصير إلى النار.
وقال قتادة ومحمد بن كعب : أي لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنحشرن بالنار ، وإنما قالوا هذا لأنهم أو عدوا بالنار. والكر : الرجوع ؛ يقال : كرة ، وكر بنفسه ، يتعدى ولا يتعدى. والكرة : المرة ، والجمع الكرات.
قوله تعالى : {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} ذكر جل ثناؤه سهولة البعث عليه فقال : {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : نفخة واحدة {فَإِذَا هُمْ} أي الخلائق أجمعون {بِالسَّاهِرَةِ} أي على وجه الأرض ، بعد ما كانوا في بطنها. قال الفراء : سميت بهذا الاسم ؛ لأن فيها نوم
الحيوان وسهرهم. والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة ، بمعنى ذات سهو ؛ لأنه يسهر فيها خوفا منها ، فوصفها بصفة ما فيها ؛ واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية ابن أبي الصلت :
وفيها لحمُ ساهرةٍ وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم
وقال آخر يوم ذي قار لفرسه :
أقدم محاج إنها الأساوره ... ولا يهولنك رجل نادره
فإنما قصرك ترب الساهره ... ثم تعود بعدها في الحافره
من بعد ما صرت عظاما ناخره
وفي الصحاح. ويقال : الساهور : ظل الساهرة ، وهي وجه الأرض. ومنه قوله تعالى : {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} ، قال أبو كبير الهذلي :
يرتدن ساهرة كان جميمها ... وعميمها أسداف ليل مظلم
ويقال : الساهور : كالغلاف للقمر يدخل فيه إذا كسف ، وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت :
قمر وساهور يسل ويغمد
وأنشدوا الآخر في وصف امرأة :
كأنها عرق سام عند ضاربه ... أو شقة خرجت من جوف ساهور
يريد شقة القمر. وقيل : الساهرة : هي الأرض البيضاء. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : أرض من فضة لم يعص الله جل ثناؤه عليها قط خلقها حينئذ. وقيل : أرض جددها
الله يوم القيامة. وقيل : الساهرة اسم الأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق ، وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال الثوري : الساهرة : أرض الشام. وهب بن منبه : جبل بيت المقدس. عثمان بن أبي العاتكة : إنه اسم مكان من الأرض بعينه ، بالشام ، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمده الله كيف يشاء. قتادة : هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم. وإنما قيل لها ساهرة ؛ لأنهم لا ينامون عليها حينئذ. وقيل : الساهرة : بمعنى الصحراء على سفير جهنم ؛ أي يوقفون بأرض القيامة ، فيدوم السهر حينئذ. ويقال : الساهرة : الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك ، لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة : جارية الماء ، وفي ضدها : نائمة ؛ قال الأشعث بن قيس :
وساهرة يضحي السراب مجللا ... لأقطارها قد جئتها متلثما
أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة.
15-
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} .

16-
{إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} .

17-
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}

18-
{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} .

19-
{وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}

20-
{فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} .

21-
{فَكَذَّبَ وَعَصَى} .

22-
{ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} .

23-
{فَحَشَرَ فَنَادَى} .

24-
{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} .

25-
{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} .

26-
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} .

قوله تعالى : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} أي قد جاءك وبلغك {حَدِيثُ مُوسَى} وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. أي إن فرعون






ابوالوليد المسلم 14-07-2025 04:23 PM

رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
 
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ النازعات

من صــ 201 الى صــ210
الحلقة (746)



كان أقوى من كفار عصرك ، ثم أخذناه ، وكذلك هؤلاء. وقيل : "هل" بمعنى "ما" أي ما أتاك ، ولكن أخبرت به ، فإن فيه عبرة لمن يخشى. وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية. وفي "طوى" ثلاث قراءات : قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون "طوى" منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم. الباقون بغير تنوين ؛ لأنه معدول مثل عمر وقثم
قال الفراء : طوى : واد بين المدينة ومصر. قال : وهو معدول عن طاو ، كما عدل عمر عن عام. وقرأ الحسن وعكرمة "طوى" بكسر الطاء ، وروي عن أبي عمرو ، على معنى المقدس مرة بعد مرة ؛ قال الزجاج ؛ وأنشد :
أعاذل إن اللوم في غير كنهه ... علي طوى من غيك المتردد
أي هو لوم مكرر علي. وقيل : ضم الطاء وكسرها لغتان ، وقد مضى في "طه" القول فيه. {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} أي ناداه ربه ، فحذف ، لأن النداء قول ؛ فكأنه ؛ قال له رب "أذهب إلى فرعون" . {إِنَّهُ طَغَى} أي جاوز القدر في العصيان. وروي عن الحسن قال : كان فرعون علجا من همدان. وعن مجاهد قال : كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا قال : من أهل أصبهان ، يقال له ذو ظفر ، طول أربعة أشبار. {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} أي تسلم فتطهر من الذنوب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله. {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} أي وأرشدك إلى طاعة ربك {فَتَخْشَى} أي تخافه وتتقيه. وقرأ نافع وبن كثير "تزكى" بتشديد الزاي ، على إدغام التاء في الزاي لأن أصلها تتزكى. الباقون : "تزكى" بتخفيف الزاي على معنى طرح التاء. وقال أبو عمرو : "تزكى" بالتشديد [تتصدق بـ] الصدقة ، و "تزكى" يكون زكيا مؤمنا. وإنما دعا فرعون ليكون زكيا مؤمنا. قال : فلهذا اخترنا التخفيف. وقال صخر بن جويرية :
لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} إلى قول {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} ولن يفعل ، فقال : يا رب ، وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لا يفعل ؟ فأوحى الله إليه أن أمض إلى ما أمرتك به ، فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر ، فلم يبلغوه ولا يدركوه. {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} أي العلامة العظمى وهي المعجزة وقيل : العصا. وقيل : اليد البيضاء تبرق كالشمس. وروى الضحاك عن ابن عباس : الآية الكبرى قال العصا. الحسن : يده وعصاه. وقيل : فلق البحر. وقيل : الآية : إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته. {فَكَذَّبَ} أي كذب نبي الله موسى {وَعَصَى} أي عصى ربه عز وجل. {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} أي ولى مدبرا معرضا عن الإيمان "يسعى" أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل : يعمل في نكاية موسى. وقيل : "أدبر يسعى" هاربا من الحية. {فَحَشَرَ} أي جمع أصحابه يمنعوه منها. وقيل : جمع جنوده للقتال والمحاربة ، والسحرة للمعارضة. وقيل : حشر الناس للحضور. {فَنَادَى} أي قال لهم بصوت عال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أي لا رب لكم فوقي. ويروى : إن إبليس تصور لفرعون في صورة الإنس بمصر في الحمام ، فأنكره فرعون ، فقال له إبليس : ويحك! أما تعرفني ؟ قال : لا. قال : وكيف وأنت خلقتني ؟ ألست القائل أنا ربكم الأعلى. ذكره الثعلبي في كتاب العرائس. وقال عطاء : كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها ، فقال أنا رب أصنامكم. وقيل : أراد القادة والسادة. هو ربهم ، وأولئك ، هم أرباب السفلة. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ فنادى فحشر ؛ لأن النداء يكون قبل الحشر. {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} أي نكال قوله : {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وقوله بعد : {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وكان بين الكلمتين أربعون سنة ؛ قال ابن عباس. والمعنى : أمهله في الأولى ، ثم أخذه في الآخرة ، فعذبه بكلمتيه. وقيل : نكال الأولى : هو أن أغرقه ، ونكال الآخرة : العذاب في الآخرة. وقال قتادة وغيره. وقال مجاهد : هو عذاب أول عمره وأخره. وقيل : الآخرة قوله "أنا ربكم الأعلى" والأولى تكذيبه لموسى. عن قتادة أيضا.
و "نكال" منصوب على المصدر المؤكد في قول الزجاج ؛ لأن معنى أخذه الله : نكل ، الله به ، فأخرج [نكال] مكان مصدر من معناه ، لا من لفظه. وقيل : نصب بنزع حرف الصفة. أي فأخذه الله بنكال الآخرة ، فلما نزع الخافض نصب. وقال الفراء : أي أخذه الله أخذا نكالا ، أي للنكال. والنكال : اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. يقال : نكل فلان بفلان : إذا أثخنه عقوبة. والكلمة من الامتناع ، ومنه النكول عن اليمين ، والنكل القيد. وقد مضى في سورة "المزمل" والحمد لله. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} أي اعتبارا وعظة. {لِمَنْ يَخْشَى} أي يخاف الله عز وجل.
27-
{ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} .

28-
{رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} .

29-
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} .

30-
{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} .

31-
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} .

32-
{وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} .

33-
{مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}

قوله تعالى : {ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} يريد أهل مكة ، أي أخلقكم بعد الموت أشد في تقديركم {أَمِ السَّمَاءُ} فمن قدر على السماء قدر على الإعادة ؛ كقوله تعالى : {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقوله تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} ، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ. ثم وصف السماء فقال : {بَنَاهَا} أي رفعها فوقكم كالبناء. {رَفَعَ سَمْكَهَا} أي أعلى سقفها في الهواء ؛ يقال : سمكت الشيء أي رفعته في الهواء ، وسمك الشيء سموكا : ارتفع. وقال الفراء : كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك. وبناء مسموك وسنام سامك تامك أي عال ، والمسموكات : السموات. ويقال : أسمك في الديم ، أي أصعد في الدرجة.
قوله تعالى : {فَسَوَّاهَا} أي خلقها خلقا مستويا ، لا تفاوت فيه ، ولا شقوق ، ولا فطور.
قوله تعالى : "وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا" أي جعله مظلما ؛ غطش الليل وأغطشه الله ؛ كقولك : ظلم [الليل] وأظلمه الله. ويقال أيضا : أغطش الليل بنفسه. وأغطشه الله كما يقال : أظلم الليل ، وأظلمه الله. والغطش والغبش : الظلمة. ورجل أغطش : أي أعمى ، أو شبيه به ، وقد غطش ، والمرأة غطشاء ؛ ويقال : ليلة غطشاء ، وليل أغطشى وفلاة غطشى لا يهتدى لها ؛ قال الأعشى :
ويهماء بالليل غطشى الفلا ... ة يؤنسني صوت فيادها
وقال الأعشى أيضا :
عقرت لهم موهنا ناقتي ... وغامرهم مدلهم غطش
يعني بغامرهم ليلهم ، لأنه غمرهم بسواده. وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس ، والشمس مضاف إلى السماء ، ويقال : نجوم الليل ، لأن ظهورها بالليل.
قوله تعالى : {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها. وأضاف الضحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل ؛ لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها. {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في أول "البقرة" عند قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} مستوفى. والعرب تقول : دحوت الشيء أدحوه دحوا : إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أُدحِي ؛ لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت :
وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم قطانها حتى التنادي
وأنشد المبرد :
دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا
وقيل : دحاها سواها ؛ ومنه قول زيد بن عمرو :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا
وعن ابن عباس : خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان ، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أن "بعد" في موضع "مع" كأنه قال : والأرض مع ذلك دحاها ؛ كما قال تعالى : {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} . ومنه قولهم : أنت أحمق وأنت بعد هذا سيء الخلق ، قال الشاعر :
فقلت لها عني إليك فإنني ... حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي مع ذلك لبيب. وقيل : بعد : بمعنى قبل ؛ كقوله تعالى : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أي من قبل الفرقان ، قال أبو خراش الهذلي :
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعض
وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة. وقيل : "دحاها" : حرثها وشقها. قال ابن زيد. وقيل : دحاها مهدها للأقوات. والمعنى متقارب وقراءة العامة "والأرض" بالنصب ، أي دحا الأرض. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون "والأرض" بالرفع ، على الابتداء ؛ لرجوع الهاء. ويقال : دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا ؛ كقولهم : طغى يطغي ويطغو ، وطغي يطغي ، ومحا يمحو ويمحي ، ولحى العود يلحى ويلحو ، فمن قال : يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت "أخرج منها" أي أخرج من الأرض {مَاءَهَا} أي العيون المتفجرة بالماء. {وَمَرْعَاهَا} أي النبات الذي يرعى. وقال القتبي : دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح ؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء. {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} قراءة العامة "والجبال" بالنصب ، أي وأرسى الجبال
"أرساها" يعني : أثبتها فيها أوتادا لها. وقرأ
الحسن وعمرو بن ميمون وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم "والجبال" بالرفع على الابتداء. ويقال : هلا أدخل حرف العطف على "أخرج" فيقال : "إنه حال بإضمار قد ؛ كقوله تعالى : {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} . {مَتَاعاً لَكُمْ} أي منفعة لكم {وَلِأَنْعَامِكُمْ} من الإبل والبقر والغنم. و" متاعا "نصب على المصدر من غير اللفظ ؛ لأن معنى" أخرج منها ماءها ومرعاها "أمتع بذلك. وقيل : نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعا."
34-
{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} .

35-
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} .

36-
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى}

قوله تعالى : {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} أي الداهية العظمى ، وهي النفخة الثانية ، التي يكون معها البعث ، قال ابن عباس في رواية الضحاك عنه ، وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضا والضحاك : أنها القيامة ؛ سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء ، فتعم ما سواها لعظم هولها ؛ أي تقلبه. وفي أمثالهم :
جرى الوادي فطمَّ على القريِّ
المبرد : الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع ، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم : طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في الجري ، وطم الماء إذا ملأ النهر كله. غيره : هي مأخوذة من طم السيل الركية أي دفنها ، والطم : الدفن والعلو. وقال القاسم بن الوليد الهمداني : الطامة الكبري حين يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. وهو معنى قول مجاهد : وقال سفيان : هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار إلى الزبانية. أي الداهية التي طمت وعظمت ؛ قال :
إن بعض الحب يعمي ويصم ... وكذاك البغض أدهى وأطم
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} أي ما عمل من خير أو شر. {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} أي ظهرت. {لِمَنْ يَرَى} قال ابن عباس : يكشف عنها فيراها تتلظى كل ذي بصر. وقيل : المراد الكافر لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب. وقيل : يراها المؤمن ليعرف قدر النعمة ويصلي الكافر بالنار. وجواب "فإذا جاءت الطامة" محذوف أي إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة. وقرأ مالك بن دينار : "وبرزت الجحيم" . عكرمة : وغيره : "لمن ترى" بالتاء ، أي لمن تراه الجحيم ، أو لمن تراه أنت يا محمد. والخطاب له عليه السلام ، والمراد به الناس.
37-
{فَأَمَّا مَنْ طَغَى} .

38-
{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} .

39-
{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} .

40-
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} .

41-
{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .

قوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ طَغَى. وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي تجاوز الحد في العصيان. قيل : نزلت في النضر وابنه الحارث ، وهي عامة في كل كافر أثر الحياة الدنيا على الآخرة.
وروى عن يحيى بن أبي كثير قال : من اتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طغى. وروى جويبر عن الضحاك قال : قال حذيفة : أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون. ويروى أنه وجد في الكتب : إن الله جل ثناؤه قال "لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته ، إلا بثثت عليه همومه وضيعته ، ثم لا أبالي في أيها هلك" . {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء.
قوله تعالى : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي حذر مقامه بين يدي ربه. وقال الربيع : مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول : إن لله عز وجل مقاما قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد : هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب
فيقلع. نظيره : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} . {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل : ترك الهوى مفتاح الجنة ؛ لقوله عز وجل : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} قال عبدالله بن مسعود : أنتم في زمان يقود الحق الهوى ، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان. {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه عامر بن عمير ؛ فروى الضحاك عن ابن عباس قال : أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر ، فأخذته الأنصار فقالوا : من أنت ؟ قال : أنا أخو مصعب بن عمير ، فلم يشدوه في الوثاق ، وأكرموه وبيتوه عندهم ، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه ؛ فقال : ما هو لي بأخ ، شدوا أسيركم ، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه. {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} فمصعب بن عمير ، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه ، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام ، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطا في دمه قال : "عند الله أحتسبك" وقال لأصحابه : "لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب" . وقيل : إن مصعب بن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر. وعن ابن عباس أيضا قال : نزلت هذه الآية في رجلين : أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري. وقال السدي : نزلت هذه الآية {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام ، وكان يسأله من أين أتيت بهذا ، فأتاه يوما بطعام فلم يسأل وأكله ، فقال له غلامه : لم لا تسألني اليوم ؟ فقال : نسيت ، فمن أين لك هذا الطعام. فقال : تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه. فتقايأه من ساعته وقال : يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} . وقال الكلبي : نزلت في من هم بمعصية وقدر عليها في خلوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مقامه بين يدي الله ، فانتهى عنها. والله أعلم.
42-
{يسألونك عن الساعة أيان مرساها} .

43-
{فيم أنت من ذكراها} .

44-
{إلى ربك منتهاها} .

45-
{إنما أنت منذر من يخشاها} .

46-
{كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}

قوله تعالى : {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} قاله ابن عباس : سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون الساعة استهزاء ، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عروة بن الزبير في قوله تعالى : {فيم أنت من ذكراها} ؟ لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة ، حتى نزلت هذه الآية {إلى ربك منتهاها} . ومعنى "مرساها" أي قيامها. قال الفراء : رسوها قيامها كرسو السفينة. وقال أبو عبيدة : أي منتهاها ، ومرسى السفينة حيث ، تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس : متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في "الأعراف" بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تقوم الساعة إلا بغضبة يغضبها ربك" . {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} أي في أي شيء أن يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها ؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير قال : لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى نزلت : {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} أي منتهى علمها ؛ فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك ، فقيل له : لا تسأل ، فلست في شيء من ذلك. ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له ؛ أي فيم أنت من ذلك حتى يسألونك بيانه ، ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس. والذكرى بمعنى الذكر.
قوله تعالى : {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} أي منتهى علمها ، فلا يوجد عند غيره علم الساعة ؛ وهو كقوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} . {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} :
أي مخوف ؛ وخص الإنذار بمن يخشى ، لأنهم المنتفعون به ، وإن كان منذرا لكل مكلف ؛ وهو كقوله تعالى : {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} .
وقراءة العامة "منذر" بالإضافة غير منون ؛ طلب التخفيف ، وإلا فأصله التنوين ؛ لأنه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء : يجوز التنوين وتركه ؛ كقوله تعالى : {بَالِغُ أَمْرِهِ} ، و {بَالِغٌ أَمْرِهِ} و {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} و {مُوهِنٌ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} والتنوين هو الأصل ، وبه قرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن محيصن وحميد وعياش عن أبي عمرو "منذر" منونا ، وتكون في موضع نصب ، والمعنى نصب ، إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة. وقال أبو علي : يجوز أن تكون الإضافة للماضي ، نحو ضارب زيد أمس ؛ لأنه قد فعل الإنذار ، الآية رد على من قال : أحوال الآخرة غير محسوسة ، وإنما هي راحة الروح أو تألمها من غير حس. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} يعني الكفار يرون الساعة {لَمْ يَلْبَثُوا} أي في دنياهم ، {إِلَّا عَشِيَّةً} أي قدر عشية {أَوْ ضُحَاهَا} أي أو قدر الضحا الذي يلي تلك العشية ، والمراد تقليل مدة الدنيا ، كما قال تعالى : {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} . وروى الضحاك عن ابن عباس : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا. وقيل : "لم يلبثوا" في قبورهم {إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} ، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول. وقال الفراء : يقول القائل : وهل للعشية ضحا ؟ وإنما الضحا لصدر النهار ، ولكن أضيف الضحا إلى العشية ، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب ؛ يقولون : آتيك الغداة أوعشيتها ، وآتيك العشية أو غداتها ، فتكون العشية في معنى آخر النهار ، والغداة في معنى أول النهار ؛ قال : وأنشدني بعض بني عقيل :
نحن صبحنا عامرا في دارها ... جردا تعادي طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها
أراد : عشية الهلال ، أو سرار العشية ، فهو أشد من آتيك الغداة أو عشيها.
https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif




ابوالوليد المسلم 14-07-2025 04:27 PM

رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
 
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ عبس

من صــ 211 الى صــ220
الحلقة (747)



سورة عَبَس
مكية في قول الجميع ، وهي إحدى وأربعون آية

بَسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} .

2-
{أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} .

3-
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} .

4-
{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}

فيه ست مسائل :
الأولى- {عَبَسَ} أي كلح بوجهه ؛ يقال : عبس وبسر. وقد تقدم. {وَتَوَلَّى} أي أعرض بوجهه {أَنْ جَاءَهُ} "أن" في موضع نصب لأنه مفعول له ، المعنى لأن جاءه الأعمى ، أي الذي لا يبصر بعينيه. فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد طمع في إسلامهم ، فأقبل عبدالله بن أم مكتوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عبدالله عليه كلامه ، فأعرض عنه ، ففيه نزلت هذه الآية. قال مالك : إن هشام بن عروة حدثه عن عروة ، أنه قال : نزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم ؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : يا محمد استدنني ، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ، ويقول : "يا فلان ، هل ترى بما أقول بأسا" ؟ فيقول : "لا والدمي ما أرى بما تقول بأسا" ؛ فأنزل الله : "عبس وتولى" . وفي الترمذي مسندا قال : حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، حدثني أبي ، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : نزلت "عبس وتولى" في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجعل ، يقول : يا رسول الله أرشدني ، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : "أترى بما أقول بأسا" فيقول : لا ؛ ففي هذا نزلت ؛ قال : هذا حديث غريب.
الثانية- الآية عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في إعراضه وتوليه عن عبدالله بن أم مكتوم. ويقال : عمرو بن أم مكتوم ، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم ، وعمرو هذا : هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم ، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها. وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين ، يقال كان الوليد بن المغيرة. قال ابن العربي : أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين ، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ، ما حضر معهما ولا حضرا معه ، وكان موتهما كافرين ، أحدهما قبل الهجرة ، والآخر ببدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر عنده مفردا ، ولا مع أحد.
الثالثة- أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى ، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم ، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، وجعل يناديه ويكثر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل بغيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء : إنما أتباعه العميان والسفلة
والعبيد ؛ فعبس وأعرض عنه ، فنزلت الآية. قال الثوري : فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول : "مرحبا بمن عاتبني فيه ربي" . ويقول : "هل من حاجة" ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما. قال أنس : فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء.
الرابعة- قال علماؤنا : ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول بغيره ، وأنه يرجو إسلامهم ، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة ؛ أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني ، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الأمر الآخر ، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم ، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة ، وعلى هذا يخرج قوله تعالى : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} الآية على ما تقدم. وقيل : إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل ، ثقة بما كان في قلب ابن مكتوم من الإيمان ؛ كما قال : "إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه" .
الخامسة- قال ابن زيد : إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وأعرض عنه ؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه ، فدفعه ابن أم مكتوم ، وأبى إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه ، فكان في هذا نوع جفاء منه. ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صلى الله عليه وسلم : {عَبَسَ وَتَوَلَّى} بلفظ الإخبار عن الغائب ، تعظيما له ولم يقل : عبست وتوليت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال : {وَمَا يُدْرِيكَ} أي يعلمك {لَعَلَّهُ} يعني ابن أم مكتوم {يَزَّكَّى} بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين ، بأن يزداد طهارة في دينه ، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل : الضمير في "لعله" للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر ، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق
وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرأ الحسن "آأن جاءه الأعمى" بالمد على الاستفهام فـ "أن" متعلقة بفعل محذوف دل عليه "عبس وتولى" التقدير : آأن جاءه أعرض عنه وتولى ؟ فيوقف على هذه القراءة على "وتولى" ، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر ، وهي قراءة العامة.
السادسة- نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الأنعام : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وكذلك قول في سورة الكهف : {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وما كان مثله ، والله أعلم.
{أَوْ يَذَّكَّرُ} يتعظ بما تقول {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} أي العظة. وقراءة العامة "فتنفعه" بضم العين ، عطفا على "يزكى" . وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وعيسى "فتنفعه" نصبا. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش ، على جواب لعل ، لأنه غير موجب ؛ كقوله تعالى : {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} ثم قال : {فَاطَّلَعَ} .
5-
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} .

6-
{فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} .

7-
{مَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} .

8-
{وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} .

9-
{وَهُوَ يَخْشَى} .

10-
{فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} .

قوله تعالى : {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} أي كان ذا ثروة وغنى {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أي تعرض له ، وتصغي لكلامه. والتصدي : الإصغاء ؛ قال الراعي :
تصدي لو ضاح كأن جبينه ... سراج الدجي يحني إليه الأساور
وأصله تتصدد من الصد ، وهو ما استقبلك ، وصار قبالتك ؛ يقال : داري صدد داره أي قبالتها ، نصب على الظرف. وقيل : من الصدى وهو العطش. أي تتعرض له كما يتعرض العطشان للماء ، والمصاداة : المعارضة. وقراءة العامة "تصدى" بالتخفيف ، على طرح التاء
الثانية تخفيفا. وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام. {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} أي لا يهتدي هذا الكافر ولا يؤمن ، إنما أنت رسول ، ما عليك إلا البلاغ. {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} يطلب العلم لله {وَهُوَ يَخْشَى} أي يخاف الله. {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أي تعرض عنه بوجهك وتشغل بغيره. وأصله تتلهى ؛ يقال : لهيت عن الشيء ألهى : أي تشاغلت عنه. والتلهي : التغافل. ولهيتُ عنه وتليتُ : بمعنى.
11-
{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} .

12-
{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} .

13-
{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} .

14-
{مرفوعة مطهرة} .

15-
{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} .

16-
{كِرَامٍ بَرَرَةٍ} .

قوله تعالى : {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} "كلا" كلمة ردع وزجر ؛ أي ما الأمر كما تفعل مع الفريقين ؛ أي لا تفعل بعدها مثلها : من إقبالك على الغني ، وإعراضك عن المؤمن الفقير. والذي جرى من النبي صلى الله عليه وسلم كان ترك الأولى كما تقدم ، ولو حمل على صغيرة لم يبعد ؛ قاله القشيري. والوقف على "كلا" على هذا الوجه : جائز. ويجوز أن تقف على "تلهي" ثم تبتدئ "كلا" على معنى حقا. {إِنَّهَا} أي السورة أو آيات القرآن {تَذْكِرَةٌ} أي موعظة وتبصرة للخلق {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي اتعظ بالقرآن. قال الجُرجاني : "إنها" أي القرآن ، والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة ، أخرجه على لفظ التذكرة ، ولو ذكره لجاز ؛ كما قال تعالى في موضع آخر : "كلا إنه تذكرة" . ويدل على أنه أراد القرآن قوله : "فمن شاء ذكره" أي كان حافظا له غير ناس ؛ وذكر الضمير ، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وروى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} قال من شاء الله تبارك وتعالى ألهمه. ثم أخبر عن جلالته فقال : {فِي صُحُفٍ} جمع صحيفة {مُكَرَّمَةٍ} أي عند الله ؛ قاله السدي. الطبري : "مكرمة" في الدين لما فيها من العلم والحكم. وقيل : "مكرمة" لأنها نزل بها كرام الحفظة ، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ. وقيل : "مكرمة"
لأنها نزلت من كريم ؛ لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه. وقيل : المراد كتب الأنبياء ؛ دليله : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . {مَرْفُوعَةٍ} رفيعة القدر عند الله. وقيل : مرفوعة عنده تبارك وتعالى. وقيل : مرفوعة في السماء السابعة ، قاله يحيى بن سلام. الطبري : مرفوعة الذكر والقدر. وقيل : مرفوعة عن الشبه والتناقض. {مُطَهَّرَةٍ} قال الحسن : من كل دنس. وقيل : مصانة عن أن ينالها الكفار. وهو معنى قول السدي. وعن الحسن أيضا : مطهرة من أن تنزل على المشركين. وقيل : أي القرآن أثبت للملائكة في صحف يقرؤونها فهي مكرمة مرفوعة مطهرة. {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله ، فهم بررة لم يتدنسوا بمعصية. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها "بأيدي سفرة" قال : كتبة. وقاله مجاهد أيضا. وهم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد في الأسفار ، التي هي الكتب ، وأحدهم : سافر ؛ كقولك : كاتب وكتبة. ويقال : سفرت أي كتبت ، والكتاب : هو السفر ، وجمعه أسفار.
قال الزجاج : وإنما قيل للكتاب سفر ، بكسر السين ، وللكاتب سافر ؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه. يقال : أسفر الصبح : إذا أضاء ، وسفرت المرأة : إذا كشفت النقاب عن وجهها. قال : ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة : أصلحت بينهم. وقال الفراء ، وأنشد :
فما أدع السفارة بين قومي ... ولا أمشي بغش إن مشيت
والسفير : الرسول والمصلح بين القوم والجمع : سفراء ، مثل فقيه وفقهاء. ويقال للوراقين سفراء ، بلغة العبرانية. وقال قتادة : السفرة هنا : هم القراء ، لأنهم يقرؤون الأسفار. وعنه أيضا كقول ابن عباس. وقال وهب بن منبه : {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ} هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربي : لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة ، كراما بررة ، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية ، ولا قاربوا المرادين بها ، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق ، ولا يشاركهم فيها سواهم ، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم. وروي
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له ، مع السفرة الكرام البررة ؛ ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده ، وهو عليه شديد ، فله أجران" متفق عليه ، واللفظ للبخاري. {كِرَامٍ} أي كرام على ربهم ؛ قال الكلبي. الحسن : كرام عن المعاصي ، فهم يرفعون أنفسهم عنها. وروى الضحاك عن ابن عباس في "كرام" قال : يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته ، أو تبرز لغائطه. وقيل : أي يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. {بَرَرَةٍ} جمع بار مثل كافر وكفرة ، وساحر وسحرة ، وفاجر وفجرة ؛ يقال : بر وبار إذا كان أهلا للصدق ، ومنه بر فلان في يمينه : أي صدق ، وفلان يبر خالقه ويتبرره : أي يطيعه ؛ فمعنى "بررة" مطيعون لله ، صادقون لله في أعمالهم. وقد مضى في سورة "الواقعة" قولة تعالى : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنهم الكرام البررة في كتاب مكنون. {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنهم الكرام البررة في هذه السورة.
17-
{قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} .

18-
{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} .

19-
{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} .

20-
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} .

21-
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} .

22-
{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} .

23-
{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} .

قوله تعالى : {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} ؟ "قتل" أي لعن. وقيل : عذب. والإنسان الكافر. روى الأعمش عن مجاهد قال : ما كان في القرآن {قُتِلَ الْأِنْسَانُ} فإنما عني به الكافر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، وكان قد أمن ، فلما نزلت "والنجم" آرتد ، وقال : أمنت بالقرآن كله إلا النجم ، فأنزل الله جل ثناؤه فيه "قتل الإنسان" أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن ، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : "اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة" فخرج من فوره بتجارة إلى الشام ، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا ، فجعلوه في وسط الرفقة ، وجعلوا المتاع حول ، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد ، فلما دنا من الرحال وثب ، فإذا هو فوقه فمزقه ، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال : ما قال محمد شيئا قط إلا كان. وروى أبو صالح عن ابن عباس "ما أكفره" : أي شيء أكفره ؟ وقيل : "ما" تعجب ؛ وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا : قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه ؛ والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل : ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا ؛ قال ابن جريج : أي ما أشد كفره! وقيل : "ما" استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر ؛ فهو استفهام توبيخ. و "ما" تحتمل التعجب ، وتحتمل معنى أي ، فتكون استفهاما. {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر فيتكبر ؟ أي اعجبوا لخلقه. {مِنْ نُطْفَةٍ} أي من ماء يسير مهين جماد {خَلَقَهُ} فلم يغلط في نفسه ؟ ! قال الحسن : كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. {فَقَدَّرَهُ} في بطن أمه. كذا روى الضحاك عن ابن عباس : أي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه ، وحسنا ودميما ، وقصيرا وطويلا ، وشقيا وسعيدا. وقيل : "فقدره" أي فسواه كما قال : {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} . وقال : {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} . وقيل : "فقدره" أطوارا أي من حال إلى حال ؛ نطفة ثم علقة ، إلى أن تم خلقه. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل : يسره للخروج من بطن أمه. مجاهد : يسره لطريق الخير والشر ؛ أي بين له ذلك. دليله : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} و {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضا في رواية أبي صالح عنه. وعن مجاهد أيضا قال : سبيل
الشقاء والسعادة. ابن زيد : سبيل الإسلام. وقال أبو بكر بن طاهر يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه ؛ دليله قوله عليه السلام : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" .
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما ، ولم يجعله مما يلقي على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي ؛ قال الفراء. وقال أبو عبيدة : "أقبره" : جعل له قبرا ، وأمر أن يقبر. قال أبو عبيدة : ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبدالرحمن ، قالت بنو تميم ودخلوا عليه : أقبرنا صالحا ؛ فقال : دونكموه. وقال : "أقبره" ولم يقل قبره ؛ لأن القابر هو الدافن بيده ، قال الأعشى :
لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
يقال : قبرت الميت : إذا دفنته ، وأقبره الله : أي صيره بحيث يقبر ، وجعل له قبرا ؛ تقول العرب : بترت ذنب البعير ، وأبتره الله ، وعضبت قرن الثور ، وأعضبه الله ، وطردت فلانا ، والله أطرده ، أي صيره طريدا. {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} أي أحياه بعد موته. وقراءة العامة "أنشره" بالألف. وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة "شاء نشره" بغير ألف ، لغتان فصيحتان بمعنى ؛ يقال : أنشر الله الميت ونشره ؛ قال الأعشى :
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر
قوله تعالى : {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} قال مجاهد وقتادة : "لما يقض" : لا يقضي أحد ما أمر به. وكان ابن عباس يقول : {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم. ثم قيل : "كلا" ردع وزجر ، أي ليس الأمر : كما يقول الكافر ؛ فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال : {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} ربما يقول قد قضيت ما أمرت به. فقال : كلا لم يقض شيئا بل هو كافر بي وبرسولي. وقال الحسن : أي حقا لم يقض : أي لم يعمل بما أمر به. و "ما" في قوله : "لما" عماد للكلام ؛ كقوله تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} وقول : {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} .
وقال الإمام ابن فورَك : أي : كلا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له. ابن الأنباري : الوقف على "كلا" قبيح ، والوقف على "أمره" و "نشره" جيد ؛ فـ "كلا" على هذا بمعنى حقا.
24-
{فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} .

25-
{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} .

26-
{ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} .

27-
{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} .

28-
{وَعِنَباً وَقَضْباً} .

29-
{وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} .

30-
{وَحَدَائِقَ غُلْباً} .

31-
{وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} .

32-
{مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} .

قوله تعالى : {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان ، ذكر ما يسر من رزقه ؛ أي فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر ؛ أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته ، وكيف هيأ له أسباب المعاش ، ليستعد بها للمعاد. وروي عن الحسن ومجاهد قالا : {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} أي إلى مدخله ومخرجه. وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : "يا ضحاك ما طعامك" قلت : يا رسول الله! اللحم واللبن ؛ قال : "ثم يصير إلى ماذا" قلت إلى ما قد علمته ؛ قال : "فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا" . وقال أبي بن كعب : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير" . وقال أبو الوليد : سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه ؛ قال : يأتيه الملك فيقول أنظر ما بخلت به إلى ما صار ؟


https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif


ابوالوليد المسلم 14-07-2025 04:31 PM

رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
 
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ التكوير

من صــ 221 الى صــ230
الحلقة (748)





قوله تعالى : {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} قراءة العامة "إناء" بالكسر ، على الاستئناف ، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب "أنا" بفتح الهمزة ، فـ "أنا" في موضع خفض على الترجمة عن الطعام ، فهو بدل منه ؛ كأنه قال : "فلينظر الإنسان إلى طعامه" إلى "أنا صببنا" فلا يحسن الوقف على "طعامه" من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت "أنا" بإضمار هو أنا صببنا ؛ لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام. وقيل : المعنى : لأنا صببنا الماء ، فأخرجنا به الطعام ، أي كذلك كان. وقرأ الحسين بن علي "أني" فقال ، بمعنى كيف ؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال : الوقف على "طعامه" تام. ويقال : معنى "أني" أين ، إلا أن فيها كناية عن الوجوه ؛ وتأويلها : من أي وجه صببنا الماء ؛ قال الكميت :
أني ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
"صببنا الماء صبا" : يعني الغيث والأمطار. {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} أي بالنبات {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} أي قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يقصد ويدخر {وَعِنَباً وَقَضْباً} وهو القت والعلف ، عن الحسن : سمو ، بذلك لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القتبي وثعلب : وأهل مكة يسمون القت القضب. وقال ابن عباس : هو الرطب لأنه يقضب من النخل : ولأنه ذكر العنب قبله. وعنه أيضا : أنه الفصفصة وهو القت الرطب. وقال الخليل : القضب الفِصْفِصْة الرطبة. وقيل : بالسين ، فإذا يبست فهو قت. قال : والقضب : اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة ، ليتخذ منها سهام أو قسي. ويقال : قضبا ، يعني جميع ما يقضب ، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها. وفي الصحاح : والقضة والقضب الرطبة ، وهي الإسفست بالفارسية ، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. {وَزَيْتُوناً} وهي شجرة الزيتون {وَنَخْلاً} يعني النخيل {وَحَدَائِقَ} أي
بساتين وأحدها حديقة. قال الكلبي : وكل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حداقة ، وما لم يحط عليه فليس بحديقة. {غُلْباً} عظاما شجرها ؛ يقال : شجرة غلباء ، ويقال للأسد : الأغلب ؛ لأنه مصمت العنق ، لا يلتفت إلا جميعا ؛ قال العجاج :
ما زلت يوم البين ألوي صَلَبي ... والرأس حتى صرت مثل الأغلب
ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة. والأصل في الوصف بالغلب : الرقاب فاستعير ؛ قال قال عمرو بن معدي كرب :
يمشي بها غُلب الرقاب كأنهم ... بزل كُسِين من الكحيل جِلالا
وحديقة غلباء : ملتفة وحدائق غلب. وأغلولب العشب : بلغ وألتف البعض بالبعض.
قال ابن عباس : الغلب : جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ. وعنه أيضا الطوال. قتادة وابن زيد : الغلب : النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة : عظام الأوساط والجذوع. مجاهد : ملتفة. {وَفَاكِهَةً} أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما {وَأَبّاً} هو ما تأكله البهائم من العشب ، قال ابن عباس والحسن : الأب : كل ما أنبتت الأرض ، مما لا يأكله الناس ، ما يأكله الآدميون هو الحصيد ؛ ومنه قول الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وقيل : إنما سمي أبا ؛ لأنه يؤب أي يوم وينتجع. والأب والأم : أخوان ؛ قال :
جذمنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأب به والمكرع
وقال الضحاك : والأب : كل شيء ينبت على وجه الأرض. وكذا قال أبو رزين : هو النبات. يدل عليه قول ابن عباس قال : الأب : ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام.
وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة : الأب : الثمار الرطبة. وقال الضحاك : هو التين خاصة. وهو محكي عن ابن عباس أيضا ؛ قال الشاعر :
فما لهم مرتع للسوا ... م والأب عندهم يقدر
الكلبي : هو كل نبات سوى الفاكهة. وقيل : الفاكهة : رطب الثمار ، والأب يابسها.
وقال إبراهيم التيمي : سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت : في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال أنس : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأب ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال : هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأب ؟ ثم قال : اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "خلقتم من سبع ، ورزقتم من سبع ، فاسجدوا لله على سبع" . وإنما أراد بقول : "خلقتم من سبع" يعني {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} الآية ، والرزق من سبع ، وهو قوله تعالى : {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} إلى قوله : "وفاكهة" ثم قال : "وأبا" وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم ، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. {مَتَاعاً لَكُمْ} نصب على المصدر المؤكد ، لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم ، كنبات الزرع بعد دثوره ، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن آمتنانا عليهم بما أنعم به ، وقد مضى في غير موضع أيضا.
33-
{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} .

34-
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}

35-
{وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} .

36-
{وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} .

37-
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .

38-
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} .

39-
{ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} .

40-
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} .

41-
{تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} .

42-
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}

قوله تعالى : {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد ، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة ، وبالإنفاق مما أمتن به عليهم. والصاخة : الصيحة التي تكون عنها القيامة ، وهي النفخة الثانية ، تصخ الأسماع : أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا : تصيخ لها الأسماع ، من قولك : أصاخ إلى كذا : أي استمع إليه ، ومنه الحديث : "ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس" . وقال الشاعر :
يصيخ للنبأة أسماعه ... إصاخة المنشد للمنشد
قال بعض العلماء : وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء ، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول ، قال الخليل : الصاخة : صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة : الصك الشديد. وقيل : هي مأخوذة من صخه بالحجر : إذا صكه قال الراجز :
يا جارتي هل لك أن تجالدي ... جلادة كالصك بالجلامد
ومن هذا الباب قول العرب : صختهم الصاخة وباتتهم البائتة ، وهي الداهية. الطبري : وأحسبه من صخ فلان فلانا : إذا أصماه. قال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم ، وإنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان :
أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا
وقال آخر :
أَضَمَّني سِرُّهم أيام فرقتهم ... فهل سمعتم بسر يورث الصمما
لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا ، وتسمع أمور الآخرة.
قوله تعالى : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} أي يهرب ، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه ؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته ؛ لأنه لا يتفرغ لذلك ، لاشتغاله بنفسه ؛ كما قال بعده : {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي يشغله عن غيره. وقيل : إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه ، لما بينهم من التبعات. وقيل : لئلا يروا ما هو
فيه من الشدة. وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا ؛ كما قال : {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً} . وقال عبدالله بن طاهر الأبهري : يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم ، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه ، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى.
وذكر الضحاك عن ابن عباس قال : يفر قابيل من أخيه هابيل ، ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه ، وإبراهيم عليه السلام من أبيه ، ونوح عليه السلام من ابنه ، ولوط من امرأته ، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن : أول من يفر يوم القيامة من ، أبيه : إبراهيم ، وأول من يفر من ابنه نوح ؛ وأول من يفر من امرأته لوط. قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} . في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول : "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" قلت ، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : "يا عائشة ، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" . خرجه الترمذي. عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يحشرون حفاة عراة غرلا" فقالت امرأة : أينظر بعضنا ، أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال : "يا فلانة" "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" . قال : حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة ؛ أي حال يشغله عن الأقرباء. وقرأ ابن محيصن وحميد "يعنيه" بفتح الياء ، وعين غير معجمة ؛ أي يعنيه أمره. وقال القتبي : يعنيه : يصرفه ويصده عن قرابته ، ومنه يقال : أعن عني وجهك : أي أصرفه واعن عن السفيه ؛ قال خفاف :
سيعنيك حرب بني مالك ... عن الفحش والجهل في المحفل
قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} أي مشرقة مضيئة ، قد علمت مالها من الفوز والنعيم ، وهي وجوه المؤمنين. "ضَاحِكَةٌ" أي مسرورة فرحة. "مُسْتَبْشِرَةٌ" : أي بما
آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخراساني : "مسفرة" من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم. الضحاك : من آثار الوضوء. ابن عباس : من قيام الليل ؛ لما روي في الحديث : "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" يقال : أسفر الصبح إذا أضاء. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي غبار ودخان {تَرْهَقُهَا} أي تغشاها {قَتَرَةٌ} أي كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس. وعنه أيضا : ذلة وشدة. والقتر في كلام العرب : الغبار ، جمع القترة ، عن أبي عبيد ؛ وأنشد الفرزدق :
متوج برداء الملك يتبعه ... موج ترى فوقه الرايات والقترا
وفي الخبر : إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار. وقال زيد بن أسلم ، القترة : ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرة : ما انحطت إلى الأرض ، والغبار والغبرة : واحد. {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ} جمع كافر {الْفَجَرَةُ} جمع فاجر ، وهو الكاذب المفتري على الله تعالى. وقيل : الفاسق ؛ [يقال] : فجر فجورا : أي فسق ، وفجر : أي كذب. وأصله : الميل ، والفاجر : المائل. وقد مضى بيانه والكلام فيه. والحمد لله وحده.
سورة التكوير
مكية في قول الجميع. وهي تسع وعشرون آية
وفي الترمذي : عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سره أن ينظر إلي يوم القيامة" كأنه رأي عين "فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت" . قال : هذا حديث حسن [غريب] .
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} . 2- {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} .

3-
{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} . 4- {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} .

5-
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} . 6- {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} .

7-
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} . 8- {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} .

9-
{بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} . 10- {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} .

11-
{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} . 12- {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} .

13-
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} . 14 - {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} .

قوله تعالى : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} قال ابن عباس : تكويرها : إدخالها في العرش. والحسن : ذهاب ضوئها. وقاله قتادة ومجاهد : وروي عن ابن عباس أيضا. سعيد بن جبير : عورت. أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة ، تلف فتمحى. وقال الربيع بن خيثم : "كورت رمي بها ؛ ومنه : كورته فتكور ؛ أي سقط."
قلت : وأصل التكوير : الجمع ، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها وجمعها فهي تكور ويمحى ضوءها ، ثم يرمى بها في البحر. والله أعلم. وعن أبي صالح : كورت : نكست. {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} أي تهافتت وتناثرت. وقال أبو عبيدة : أنصبت كما تنصب العقاب إذا انكسرت. قال العجاج يصف صقرا :
أبصر خربان فضاء فانكدر ... تقضِّيَ البازي إذا البازي كسر
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يبقى في السماء يومئذ نجم إلا سقط في الأرض ، حتى يفزع أهل الأرض السابعة مما لقيت وأصاب العليا" ، يعني الأرض. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : تساقطت ؛ وذلك أنها قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور ، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور ، فإذا جاءت النفخة الأولى مات ، من في الأرض ومن في السموات ، فتناثرت تلك الكواكب وتساقطت السلاسل من أيدي الملائكة ؛ لأنه مات من كان يمسكها. ويحتمل أن يكون انكدارها طمس آثارها. وسميت النجوم نجوما لظهورها في السماء بضوئها. وعن ابن عباس أيضا : انكدرت تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها. والمعنى متقارب.
قوله تعالى : {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} يعني قلعت من الأرض ، وسيرت في الهواء ؛ وهو مثل قوله تعالى : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} . وقيل : سيرها تحولها عن منزلة الحجارة ، فتكون كثيبا مهيلا أي رملا سائلا وتكون كالعهن ، وتكون هباء منثورا ، وتكون سرابا ، مثل السراب الذي ليس بشيء. وعادت الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمنا. وقد تقدم في غير موضع والحمد لله. {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} أي النوق الحوامل التي في بطونها أولادها ؛ الواحدة عشراء أو التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع ، وبعدما تضع أيضا. ومن عادة العرب أن يسموا الشيء باسمه المتقدم وإن كان قد جاوز ذلك ؛ يقول الرجل لفرسه وقد قرح : هاتوا مهري وقربوا مهري ، ويسميه بمتقدم اسمه ؛ قال عنترة :
لا تذكري مهري وما أطمعته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
وقال أيضا :
وحملت مهري وسطها فمضاها
وإنما خص العشار بالذكر ؛ لأنها أعزما تكون على العرب ، وليس عطلها أهلها إلا حال القيامة. وهذا على وجه المثل ؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء ، ولكن أراد به المثل ؛ أن هول
يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه. وقيل : إنهم إذا قاموا من قبورهم ، وشاهد بعضهم بعضا ، ورأوا الوحوش والدواب محشورة ، وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم ، لم يعبؤوا بها ، ولم يهمهم أمرها. وخوطبت العرب بأمر العشار ؛ لأن مالها وعيشها أكثره من الإبل. وروى الضحاك عن ابن عباس : عطلت : عطلها أهلها ، لاشتغالهم بأنفسهم. وقال الأعشى :
هو الواهب المائة المصطفا ... ة إما مخاضا وإما عشارا
وقال آخر :
ترى المرء مهجورا إذا قل ماله ... وبيت الغني يهدي له ويزار
وما ينفع الزوار مال مزورهم ... إذا سرحت شول له وعشار
يقال : ناقة عشراء ، وناقتان عشراوان ، نوق عشار وعشراوات ، يبدلون من همزة التأنيث واوا. وقد عشرت الناقة تعشبوا : أي صارت عشراء. وقيل : العشار : السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر ؛ والعرب تشبه السحاب بالحامل. وقيل : الديار تعطل فلا تسكن. وقيل : الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. والأول أشهر ، وعليه من الناس الأكثر. {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي جمعت والحشر : الجمع. عن الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس : حشرها : موتها. رواه عنه عكرمة. وحشر كل شيء : الموت غير الجن والإنس ، فإنهما يوافيان يوم القيامة. وعن ابن عباس أيضا قال : يحشر كل شيء حتى الذباب. قال ابن عباس : تحشر الوحوش غدا : أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض ، فيقتص للجماء من القرناء ، ثم يقال لها كوني ترابا فتموت. وهذا أصح مما رواه عنه عكرمة ، وقد بيناه في كتاب "التذكرة" مستوفى ، ومضى في سورة "الأنعام" بعضه. أي إن الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم. وقيل : عني بهذا أنها مع نفرتها اليوم من الناس وتنددها
في الصحاري ، تنضم غدا إلى الناس من أهوال ذلك اليوم. قال معناه أبي بن كعب. {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي ملئت من الماء ؛ والعرب تقول : سجرت الحوض أسجره سجرا : إذا ملأته ، وهو مسجور والمسجور والساجر في اللغة : الملآن. وروى الربيع بن خيثم : سجرت : فاضت وملئت. وقاله الكلبي ومقاتل والحسن والضحاك. قال ابن أبي زمنين : سجرت : حقيقته ملئت ، فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا. وهو معنى قول الحسن. وقيل : أرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها ، حتى امتلأت. عن الضحاك ومجاهد : أي فجرت فصارت بحرا واحدا. القشيري : وذلك بأن يرفع الله الحاجز الذي ذكره في قوله تعالى : {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} ، فإذا رفع ذلك البرزخ تفجرت مياه البحار ، فعمت الأرض كلها ، وصارت البحار بحرا واحدا. وقيل : صارت بحرا واحدا من الحميم لأهل النار. وعن الحسن أيضا وقتادة وابن حيان : تيبس فلا يبقى من مائها قطرة. القشيري : وهو من سجرت التنور أسجره سجرا : إذا أحميته وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرطوبة وتسير الجبال حينئذ وتصير البحار والأرض كلها بساطا واحدا ، بأن يملأ مكان البحار بتراب الجبال. وقال النحاس : وقد تكون الأقوال متفقة ؛ يكون تيبس من الماء بعد أن يفيض ، بعضها إلى بعض ، فتقلب نارا. قلت : ثم سير الجبال حينئذ ، كما ذكر القشيري ، والله أعلم. وقال ابن زيد وشمر وعطية وسفيان ووهب وأبي وعلي بن أبي طالب وابن عباس في رواية الضحاك عنه : أوقدت فصارت نارا. قال ابن عباس : يكور الله الشمس والقمر والنجوم في البحر ، ثم يبعث الله عليها ريحا دبورا ، فتنفخه حتى يصير نارا. وكذا في بعض الحديث : "يأمر الله جل ثناؤه الشمس والقمر والنجوم فينتثرون في البحر ، ثم يبعث الله جل ثناؤه الدبور فيسجرها نارا ، فتلك نارا ، فتلك نار الله الكبرى ، التي يعذب بها الكفار" . قال القشيري : قيل في تفسير قول ابن عباس "سجرت" أوقدت ، يحتمل أن تكون جهنم في قعور من البحار ، فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا ، فإذا أنقضت الدنيا سجرت ، فصارت كلها نارا يدخلها الله أهلها. ويحتمل أن تكون تحت البحر نار ، ثم يوقد الله البحر كله فيصير نارا. وفي الخبر : البحر نار. في نار.


https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif


ابوالوليد المسلم 14-07-2025 04:34 PM

رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
 
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ التكوير

من صــ 231 الى صــ240
الحلقة (749)






وقال معاوية بن سعيد : بحر الروم وسط الأرض ، أسفله آبار مطبقة بنحاس يسجر نارا يوم القيامة. وقيل : تكون الشمس في البحر ، فيكون البحر نارا بحر الشمس. ثم جميع ما في هذه الآيات يجوز أن يكون في الدنيا قبل يوم القيامة ويكون من أشراطها ، ويجوز أن يكون يوم القيامة ، وما بعد هذه الآيات فيكون في يوم القيامة. قلت : روي عن عبدالله بن عمرو : لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال أبي بن كعب : ست آيات من قبل يوم القيامة : بينما الناس في أسواقهم ذهب ضوء الشمس وبدت النجوم فتحيروا ودهشوا ، فبينما هم كذلك ينظرون إذ تناثرت النجوم وتساقطت ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت واحترقت ، فصارت هباء منثورا ، ففزعت الإنس إلى الجن والجن إلى الإنس ، واختلطت الدواب والوحوش والهوام والطير ، وماج بعضها في بعض ؛ فذلك قوله تعالى : {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} ثم قالت الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجج ، فبينما هم كذلك تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلي ، وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم. وقيل : معنى "سجرت" : هو حمرة مائها ، حتى تصير كالدم ؛ مأخوذ من قولهم : عين سجراء : أي حمراء. وقرأ ابن كثير "سجرت" وأبو عمرو أيضا ، إخبارا عن حالها مرة واحدة. وقرأ الباقون بالتشديد إخبارا عن حالها في تكرير ذلك منها مرة بعد أخرى.
قوله تعالى : {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قال النعمان بن بشير : قال النبي صلى الله عليه وسلم "وإذا النفوس زوجت" قال : "يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله" . وقال عمر بن الخطاب : يقرن الفاجر مع الفاجر ، ويقرن الصالح مع الصالح. وقال ابن عباس : ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة ، السابقون زوج - يعني صنفا - وأصحاب اليمين زوج ، وأصحاب الشمال زوج. وعنه أيضا قال : زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرن الكافر
بالشياطين ، وكذلك المنافقون وعنه أيضا : قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار ، فيضم المبرز في الطاعة إلى مثله ، والمتوسط إلى مثله ، وأهل المعصية إلى مثله ؛ فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله ؛ والمعنى : وإذا النفوس قرنت إلى أشكالها في الجنة والنار. وقيل : يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان ، كما قال تعالى : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} . وقال عبدالرحمن بن زيد : جعلوا أزواجا على أشباه أعمالهم ليس بتزويج ، أصحاب اليمين زوج ، وأصحاب الشمال زوج ، والسابقون زوج ؛ وقد قال جل ثناؤه : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي أشكالهم. وقال عكرمة : {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قرنت الأرواح بالأجساد ؛ أي ردت إليها. وقال الحسن : ألحق كل امرئ بشيعته : اليهود باليهود ، والنصارى بالنصارى ، والمجوس بالمجوس ، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض ، والمنافقون بالمنافقين ، والمؤمنون بالمؤمنين. وقيل : يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان ، على جهة البغض والعداوة ، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين. وقيل : قرنت النفوس بأعمالها ، فصارت لاختصاصها به كالتزويج.
قوله تعالى : {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} الموؤودة المقتولة ؛ وهي الجارية تدفن وهي حية ، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب ، فيوءدها أي يثقلها حتى تموت ؛ ومنه قوله تعالى : {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يثقله ؛ وقال متمم بن نويرة :
وموؤودة مقبورة في مفازة ... بآمتها موسودة لم تمهد
وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين : إحداهما كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات به. الثانية إما مخافة الحاجة والإملاق ، وإما خوفا من السبي والاسترقاق. وقد مضى
في سورة "النحل" هذا المعنى ، عند قوله تعالى : {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} مستوفى. وقد كان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ، ويمنعون منه ، حتى افتخر به الفرزدق ، فقال :
ومنا الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يوأَد
يعني جده صعصعة كان يشتريهن من آبائهن. فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موؤودة. وقال ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة ، وتمخضت على رأسها ، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وردت التراب عليها ، وإن ولدت غلاما حبسته ، ومنه قول الراجز :
سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهر ضامن زميت
الزميت الوقور ، والزميت مثال الفسيق أوقر من الزميت ، وفلان أزمت الناس أي أوقرهم ، وما أشد تزمته ؛ عن الفراء. وقال قتادة : كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ، ويغذو كلبه ، فعاتبهم الله على ذلك ، وتوعدهم بقوله : {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} قال عمر في قوله تعالى : {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} قال : جاء قيس بن عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله! إني وأدت ثماني بنات كن لي في الجاهلية ، قال : "فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة" قال : يا رسول الله إني صاحب إبل ، قال : "فأهد عن كل واحدة منهن بدنة إن شئت" .
وقوله تعالى : {سُئِلَتْ} سؤال الموؤودة سؤال توبيخ لقاتلها ، كما يقال للطفل إذا ضرب : لم ضربت ؟ وما ذنبك ؟ قال الحسن : أراد الله أن يوبخ قاتلها ؛ لأنها قتلت بغير ذنب. وقال ابن أسلم : بأي ذنب ضربت ، وكانوا يضربونها. وذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى : {سُئِلَتْ} قال : طلبت ؛ كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل. قال : وهو كقوله : {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} أي مطلوبا. فكأنها طلبت منهم ، فقيل أين أولادكم ؟ وقرأ الضحاك وأبو الضحا عن جابر بن زيد وأبي صالح "وإذا الموؤودة سألت" فتتعلق الجارية بأبيها ، فتقول : بأي ذنب
قتلتني ؟ ! فلا يكون له عذر ؛ قال ابن عباس وكان يقرأ "وإذا الموؤودة سألت" وكذلك هو في مصحف أبي. وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بثدييها ، ملطخا بدمائه ، فيقول يا رب ، هذه أمي ، وهذه قتلتني" . والقول الأول عليه الجمهور ، وهو مثل قوله تعالى لعيسى : {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} على جهة التوبيخ والتبكيت لهم ، فكذلك سؤال الموؤودة توبيخ لوائدها ، وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها ؛ لأن هذا مما لا يصح إلا بذنب ، فبأي ذنب كان ذلك ، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها ، كان أعظم في البلية وظهور الحجة على قاتلها. والله أعلم. وقرئ "قتلت" بالتشديد ، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بذنب.
قوله تعالى : {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} أي فتحت بعد أن كانت مطوية ، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر ، تطوي بالموت ، وتنشر في يوم القيامة ، فيقف كل إنسان على صحيفته ، فيعلم ما فيها ، فيقول : {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} . وروى مرثد بن وداعة قال : إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش ، فتقع صحيفة المؤمن في يده {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} إلى قوله : {الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} وتقع صحيفة الكافر في يده {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} إلى قوله {وَلا كَرِيمٍ} . وروي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة" فقلت : يا رسول الله فكيف بالنساء ؟ قال : "شغل الناس يا أم سلمة" . قلت : وما شغلهم ؟ قال : "نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل" . وقد مضى في سورة "الإسراء" قول أبي الثوار العدوي : هما نشرتان وطية ، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت ، فإذا مت طويت ، حتى إذا بعثت نشرت {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} . وقال مقاتل : إذا مات المرء طويت صحيفة عمله ، فإذا كان يوم القيامة نشرت. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال : إليك يساق
الأمر يا ابن آدم. وقرأ نافع وابن عام وعاصم وأبو عمرو "نشرت" مخففة ، على نشرت مرة واحدة ، لقيام الحجة. الباقون بالتشديد ، على تكرار النشر ، للمبالغة في تقريع العاصي ، وتبشير المطيع. وقيل : لتكرار ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه.
قوله تعالى : {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} الكشط : قلع عن شدة التزاق ؛ فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن الكبش وغيره والقشط : لغة فيه. وفي قراءة عبدالله "وإذا السماء قشطت" وكشطت البعير كشطا : نزعت جلده ولا يقال سلخته ؛ لأن العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته ، وانكشط : أي ذهب ؛ فالسماء تنزع من مكانها كما ينزع الغطاء عن الشيء. وقيل : تطوى كما قال تعالى : {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِْ} فكأن المعنى : قلعت فطويت. والله أعلم.
قوله تعالى : {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} أي أو قدت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها. يقال : سعرت النار وأسعرتها. وقراءة العامة بالتخفيف من السعير. وقرأ نافع وابن ذكوان ورويس بالتشديد لأنها أوقدت مدة بعد مرة. قال قتادة : سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أوقد على النار ألف سنة حتى أحمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أسودت ، فهي سوداء مظلمة" وروي موقوفا.
قوله تعالى : {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} أي دنت وقربت من المتقين. قال الحسن : إنهم يقربون منها ؛ لا أنها تزول عن موضعها. وكان عبدالرحمن بن زيد يقول : زينت : أزلفت ؟ والزلفى في كلام العرب : القربة قال الله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وتزلف فلان تقرب.
قوله تعالى : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} يعني ما عملت من خير وشر. وهذا جواب {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وما بعدها. قال عمر رضي الله عنه لهذا أجري الحديث. وروي
عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما قرآها ، فلما بلغا {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} قالا لهذا أجريت القصة ؛ فالمعنى على هذا إذا الشمس كورت وكانت هذه الأشياء ، علمت نفس ما أحضرت من عملها. وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ما بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه" وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم "بين يديه ، فتستقبله النار ، فمن استطاع منكم أن : يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل" وقال الحسن : "إذ الشمس كورت" وقع على قوله : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} كما يقال : إذا نفر زيد نفر عمرو. والقول الأول أصح. وقال ابن زيد عن ابن عباس في قوله تعالى : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } إلى قوله : {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} اثنتا عشرة خصلة : ستة في الدنيا ، وستة في الآخرة ؛ وقد بينا الستة الأولى بقول أبي بن كعب.
15-
{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} .

16-
{الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} .

17-
{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} .

18-
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} .

19-
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} .

20-
{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} .

21-
{مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} .

22-
{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}

قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ} أي أقسم ، و "لا" زائدة ، كما تقدم. {بِالْخُنَّسِ ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} هي الكواكب الخمسة الدراري : زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة ، فيما ذكر أهل التفسير. والله أعلم. وهو مروي عن علي كرم الله وجهه. وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان : أحدهما : لأنها تستقبل الشمس ؛ قاله بكر بن عبدالله المزني. الثاني : لأنها تقطع المجرة ؛ قال ابن عباس. وقال الحسن وقتادة : هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت ، وقاله علي رضي الله عنه ، قال : هي النجوم تخنس
بالنهار ، وتظهر بالليل ؛ وتكنس في وقت غروبها ؛ أي تتأخر عن البصر لخفائها ، فلا ترى. وفي الصحاح : "الخنس" : الكواكب كلها. لأنها تخنس في آن قيب ، أو لأنها تخنس نهارا. ويقال : هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة. وقال الفراء في قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} : إنها النجوم الخمسة ؛ زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد ؛ لأنها تخنس في مجراها ، وتكنس ، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار ، وهو الكناس. ويقال : سميت خنسا لتأخرها ، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم ، يقال : خنس عنه يحنس بالضم خنوسا : تأخر ، وأخنسه غيره : إذا خلفه ومضى عنه. والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة ، والرجل أخنس ، والمرأة خنساء ، والبقر كلها خنس. وقد روي عن عبدالله بن مسعود في قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} هي بقر الوحش. روى هشيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : قال لي عبدالله بن مسعود : إنكم قوم عرب فما الخنس ؟ قلت : هي بقر الوحش ؛ قال : وأنا أرى ذلك. وقال إبراهيم وجابر بن عبدالله. وروي عن ابن عباس : إنما أقسم الله ببقر الوحش. وروى عنه عكرمة قال : "الخنس" : البقر و "الكنس" : هي الظباء ، فهي خنس إذا رأين الإنسان خنسن وأنقبضن وتأخرن ودخلن كناسهن. القشيري : وقيل على هذا "الخنس" من الخنس في الأنف ، وهو تأخرن الأرنبة وقصر القصبة ، وأنوف البقر والظباء خنس. والأصح الحمل على النجوم ، لذكر الليل والصبح بعد هذا ، فذكر النجوم أليق بذلك.
قلت : لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد ، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك. وقد جاء عن ابن مسعود وجابر بن عبدالله وهما صحابيان والنخعي أنها بقر الوحش. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنها الظباء. وعن الحجاج بن منذر قال : سألت جابر بن زيد عن الجواري الكنس ، فقال : الظباء والبقر ، فلا يبعد أن يكون المراد
النجوم. وقد قيل : إنها الملائكة ؛ حكاه الماوردي. والكنس الغيب ؛ مأخوذة من الكناس ، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه. قال أوس بن حجر :
ألم تر أن الله أنزل مزنه ... وغفر الظباء في الكناس تقمع
وقال طرفة :
كأن كناسي ضالة يكنفانها ... وأطرقسي تحت صلب مؤيد
وقيل : الكنوس أن تأوي إلى مكانسها ، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء. قال الأعشى في ذلك :
فلما أتينا الحي أتلع أنس ... كما أتلعت تحت المكانس ربرب
يقال : تلع. النهار ارتفع وأتلعت الظبية من كناسها : أي سمت بجيدها. وقال أمرو القيس :
تعشى قليلا ثم أنحى ظلوفه ... يثير التراب عن مبيت ومكنس
والكنس : جمع كانس وكانسة ، وكذا الخنس جمع خانس وخانسة. والجواري : جمع جارية من جرى يجري. "والليل إذا عسعس" قال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر ؛ حكاه الجوهري. وقال بعض أصحابنا : إنه دنا من أوله وأظلم وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض. المهدوي : "والليل إذا عسعس" أدبر بظلامه ؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وروي عنهما أيضا وعن الحسن وغيره : أقبل بظلامه. زيد بن أسلم : "عسعس" ذهب. الفراء : العرب تقول عسعس وسعسع إذا لم يبق منه إلا اليسير. الخليل وغيره : عسعس الليل إذا أقبل أو أدبر. المبرد : هو من الأضداد ، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد ، وهو ابتداء الظلام في أوله ، وإدباره في آخره ؛ وقال علقمة بن قرط :
حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وأنجاب عنها ليلها وعسعسا
وقال رؤبة :
يا هند ما أسرع ما تسعسعا ... من بعد ما كان فتى سرعرعا
وهذه حجة الفراء. وقال امرؤ القيس :
عسعس حتى لو يشاء ادَّنا ... كان لنا من ناره مقبس
فهذا يدل على الدنو. وقال الحسن ومجاهد : عسعس : أظلم ، قال الشاعر :
حتى إذا ما ليلهن عسعسا ... ركبن من حد الظلام حندسا
الماوردي : وأصل العس الامتلاء ؛ ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه ، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه ؛ وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه على ظلامه ؛ لاستكمال امتلائه به. وأما قول امرئ القيس :
ألما على الربع القديم بعسعسا
فموضع بالبادية. وعسعس أيضا اسم رجل ؛ قال الرجز :
وعسعس نعم الفتى تبياه
أي تعتمده. ويقال للذئب العسعس والعسعاس والعساس ؛ لأنه يعس بالليل ويطلب. ويقال للقنافذ العساعس لكثرة ترددها بالليل. قال أبو عمرو : والتعسعس الشم ، وأنشد :
كمنخر الذنب إذا تعسعسا
والتعسعس أيضا : طلب الصيد [بالليل] .
قوله تعالى : {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي امتد حتى يصير نهارا واضحا ؛ يقال للنهار إذا زاد : تنفس. وكذلك الموج إذا نضح الماء. ومعن التنفس : خروج النسيم من الجوف. وقيل : "إذا تنفس" أي انشق وانفلق ؛ ومنه تنفست القوس أي تصدعت. {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا جواب القسم. والرسول الكريم جبريل ؛ قال الحسن وقتادة والضحاك. والمعنى "إنه لقول رسول" عن الله "كريم" على الله. وأضاف الكلام إلى جبريل عليه السلام ، ثم عداه عنه بقول {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ليعلم أهل التحقيق في التصديق ، أن الكلام لله عز وجل. وقيل : هو محمد عليه الصلاة والسلام {ذِي قُوَّةٍ} من جعله جبريل فقوته ظاهرة فروى الضحاك عن ابن عباس قال : من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه. {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} أي عند الله جل ثناؤه {مَكِينٍ} أي ذي منزلة ومكانة ؛ فروي عن أبي صالح قال : يدخل سبعين سرادقا بغير إذن. {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي في السموات ؛ قال ابن عباس : من طاعة الملائكة جبريل ، أنه لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان : افتح له ، ففتح ، فدخل ورأى ما فيها ، وقال لمالك خازن النار : افتح له جهنم حتى ينظر إليها ، فأطاعه وفتح له. {أَمِينٍ} أي مؤتمن على الوحي الذي يجيء به. ومن قال : إن المراد محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى "ذي قوة" على تبليغ الرسالة "مطاع" أي يطيعه من أطاع الله جل وعز. {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بمجنون حتى يتهم في قول. وهو من جواب القسم. وقيل : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى جبريل في الصورة التي يكون بها عند ربه جل وعز فقال : ما ذاك إلي ؛ فإذن له الرب جل ثناؤه ، فأتاه وقد سد الأفق ، فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه ، فقال المشركون : إنه مجنون ، فنزلت : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وإنما رأى جبريل على صورته فهابه ، وورد عليه ما لم تحتمل بنيته ، فخر مغشيا عليه.


https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif


ابوالوليد المسلم 14-07-2025 04:38 PM

رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
 
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ الإنفطار

من صــ 241 الى صــ250
الحلقة (750)



23-
{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} .

24-
{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} .

25-
{وما هو بقول شيطان رجيم} .

26-
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} .

27-
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .

28-
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} .

29-
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

قوله تعالى : {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} أي رأى جبريل في صورته ، له ستمائة جناح . {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} أي بمطلع الشمس من قبل المشرق ؛ لأن هذا الأفق إذا كان منه تطلع الشمس فهو مبين. أي من جهته ترى الأشياء. وقيل : الأفق المبين : أقطار السماء ونواحيها ؛ قال الشاعر :
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
الماوردي : فعلى هذا ، فيه ثلاثة أقاويل أحدها : أنه رآه في أفق السماء الشرقي ؛ قاله سفيان. الثاني : في أفق السماء الغربي ، حكاه ابن شجرة. الثالث : أنه رآه نحو أجياد ، وهو مشرق مكة ؛ قاله مجاهد. وحكى الثعلبي عن ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل : "إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء" قال : لن تقدر على ذلك. قال : "بلى" قال : فأين تشاء أن أتخيل لك ؟ قال : "بالأبطح" قال : لا يسعني. قال : "فبمنى" قال : لا يسعني. قال : "فبعرفات" قال : ذلك بالحري أن يسعني. فواعده فخرج صلى الله عليه وسلم للوقت ، فإذا هو قد أقبل بخشخشة وكلكلة من جبال عرفات ، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه ، فتحول جبريل في صورته ، وضمه إلى صدره. وقال : يا محمد لا تخف ؛ فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وإن العرش على كاهله ، وإنه ليتضاءل أحيانا من خشية الله ، حتى يصير مثل الوصع - يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل : إن محمدا
عليه السلام رأى ربه عز وجل بالأفق المبين. وهو معنى قول ابن مسعود. وقد مضى القول في هذا في "والنجم" مستوفى ، فتأمله هناك. وفي "المبين" قولان : أحدهما- أنه صفة الأفق ؛ قال الربيع. الثاني- أنه صفة لمن رآه ؛ قاله مجاهد. "وما هو على الغيب بظنين" : بالظاء ، قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ، أي بمتهم ، والظنة التهمة ؛ قال الشاعر :
أما وكتاب الله لا عن سناءة ... هجرت ولكن الظنين ظنين
واختاره أبو عبيد ؛ لأنهم لم يبخلوه ولكن كذبوه ؛ ولأن الأكثر من كلام العرب : ما هو بكذا ، ولا يقولون : ما هو على كذا ، إنما يقولون : ما أنت على هذا بمتهم. وقرأ الباقون "بضنين" بالضاد : أي ببخيل من ضننت بالشيء أضن ضنا [فهو] ضنين. فروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : لا يضن عليكم بما يعلم ، بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه. وقال الشاعر :
أجود بمكنون الحديث وإنني ... بسرك عمن سالني لضنين
والغيب : القرآن وخبر السماء. ثم هذا صفة محمد عليه السلام. وقيل : صفة جبريل عليه السلام. وقيل : بظنين : بضعيف. حكاه الفراء والمبرد ؛ يقال : رجل ظنين : أي ضعيف. وبئر ظنون : إذا كانت قليلة الماء ؛ قال الأعشى :
ما جعل الجد الظنون الذي ... جنب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر
والظنون : الدين الذي لا يدري أيقضيه آخذه أم لا ؟ ومنه حديث علي عليه السلام في الرجل يكون له الدين الظنون ، قال : يزكيه لما مضى إذا قبضه إن كان صادقا. والظنون : الرجل السيء الخلق ؛ فهو لفظ مشترك. {وَمَا هُوَ} يعني القرآن {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي مرجوم ملعون ، كما قالت قريش. قال عطاء : يريد بالشيطان الأبيض الذي كان
يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه. {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} قال قتادة : فإلى أين تعدلون عن هذا القول وعن طاعته. كذا روى معمر عن قتادة ؛ أي أين تذهبون عن كتابي وطاعتي. وقال الزجاج : فأي طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم. ويقال : أين تذهب ؟ وإلى أين تذهب ؟ وحكى الفراء عن العرب : ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق : أي إليها. قال : سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة ؛ وأنشدني بعض بني عقيل :
تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا ... وأي الأرض تذهب بالصياح
يريد إلى أي أرض تذهب ، فحذف إلى. وقال الجنيد : معنى الآية مقرون بآية أخرى ؛ وهي قوله تعالى : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} المعنى : أي طريق تسلكون أبين من الطريق الذي بينه الله لكم. وهذا معنى قول الزجاج. "إِنْ هُوَ" يعني القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي موعظة وزجر. و "إن" بمعنى "ما" . وقيل : ما محمد إلا ذكر. {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} أي يتبع الحق ويقيم عليه. وقال أبو هريرة وسليمان بن موسى : لما نزلت {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} قال أبو جهل : الأمر إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم - وهذا هو القدر ؛ وهو رأس القدرية - فنزلت : "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين" ، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله ، ولا شرا إلا بخذلانه. وقال الحسن : والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها. وقال وهب بن منبه : قرأت في سبعة وثمانين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء : من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر. وفي التنزيل : {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . وقال تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . وقال تعالى : {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} والآي في هذا كثير ، وكذلك الأخبار ، وأن الله سبحانه هدى بالإسلام ، وأضل بالكفر ، كما تقدم في غير موضع. ختمت السورة والحمد لله.
سورة الانفطار
مكية عند الجميع ، وهي تسع عشرة آية

بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} .

2-
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} .

3-
{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} .

4-
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} .

5-
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}

قوله تعالى : {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} أي تشققت بأمر الله ؛ لنزول الملائكة ؛ كقول : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} . وقيل : تفطرت لهيبة الله تعالى. والفطر : الشق ؛ يقال : فطرته فانفطر ؛ ومنه فطر ناب البعير : طلع ، فهو بعير فاطر ، وتفطر الشيء : شقق ، وسيف فطار أي فيه شقوق ؛ قال عنترة :
وسيفي كالعقيقة وهو كمعي ... سلاحي لا أفل ولا فطارا
وقد تقدم في غير موضع. {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} أي تساقطت ؛ نثرت الشيء أنثره نثرا ، فانتثر ، والاسم النثار. والنثار بالضم : ما تناثر من الشيء ، ودر منثر ، شدد للكثرة. {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} أي فجر بعضها في بعض ، فصارت بحرا واحدا ، على ما تقدم. قال الحسن : فجرت : ذهب ماؤها ويبست ؛ وذلك أنها أولا راكدة مجتمعة ؛ فإذا فجرت تفرقت ، فذهب ماؤها. وهذه الأشياء بين يدي الساعة ، على ما تقدم في {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} . {وإذا القبور بعثرت} أي قلبت وأخرج ما فيها من أهلها أحياء ؛ يقال : بعثرت المتاع : قلبته ظهرا لبطن ، وبعثرت الحوض وبحثرته : إذا هدمته وجعلت أسفله أعلاه. وقال قوم منهم الفراء : "بعثرت" : أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة. وذلك من أشراط الساعة : أن تخرج الأرض
ذهبها وفضتها. {علمتْ نفسٌ ما قدَّمتْ وأخَّرتْ} مثل : {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} . وتقدم. وهذا جواب {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} لأنه قسم في قول الحسن وقع على قوله تعالى : {عَلِمَتْ نَفْسٌ} يقول : إذا بدت هذه الأمور من أشراط الساعة ختمت الأعمال فعلمت كل نفس ما كسبت ؛ فإنها لا ينفعها عمل بعد ذلك. وقيل : أي إذا كانت هذه الأشياء قامت القيامة ، فحوسبت كل نفس بما عملت ، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها ، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها. وقيل : هو خبر ، وليس بقسم ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
6-
{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} .

7-
{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} .

8-
{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} .

9-
{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} .

قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ} خاطب بهذا منكري البعث. وقال ابن عباس : الإنسان هنا : الوليد بن المغيرة. وقال عكرمة : أبي بن خلف. وقيل : نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي. عن ابن عباس أيضا : "ما غرك بربك الكريم" أي ما الذي غرك حتى كفرت ؟ "بربك الكريم" أي المتجاوز عنك. قال قتادة : غرة شيطانه المسلط عليه. الحسن : غرة شيطانه الخبيث. وقيل : حمقه وجهله. رواه الحسن عن عمر رضي الله عنه. وروى غالب الحنفي قال : لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} قال : "غره الجهل" وقال صالح بن مسمار : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه قرأ {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ؟ فقال : "غره جهله" . وقال عمر رضي الله عنه : كما قال الله تعالى {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} . وقيل : غره عفو الله ، إذ لم يعاقبه في أول مرة. قال إبراهيم بن الأشعث : قيل : للفضيل بن عياض : لو أقامك الله تعالى
يوم القيامة بين يديه ، فقال لك : {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ؟ ماذا كنت تقول ؟ قال : كنت أقول غرني ستورك المرخاة ، لأن الكريم هو الستار. نظمه ابن السماك فقال :
يا كاتم الذنب أما تستحي ... والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله ... وستره طول مساويكا
وقال ذو النون المصري : كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر.
وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري :
يا من غلا في العجب والتيه ... وغره طول تماديه
أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غب معاصيه
وروي عن علي رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب ، فقال : مالك لم تجبني ؟ فقال. لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه فأعتقه. وناس يقولون : ما غرك : ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك ؟ وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة ، فيقول له : يا ابن آدم ماذا غرك بي ؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ {الَّذِي خَلَقَكَ} أي قدر خلقك من نطفة {فَسَوَّاكَ} في بطن أمك ، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك {فَعَدَلَكَ} أي جعلك معتدلا سوى الخلق ؛ كما يقال : هذا شيء معدل. وهذه قراءة العامة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ؛ قال الفراء : وأبو عبيد : يدل عليه قوله تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . وقرأ الكوفيون : عاصم وحمزة والكسائي : "فعدلك" مخففا أي : أمالك وصرفك إلى أي صورة شاء ، إما حسنا وإما قبيحا ، وإما طويلا وإما قصيرا. وقال [موسى بن علي بن أبي رباح اللخمي عن أبيه عن جده] قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "إن النطفة"
إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ". أما قرأت هذه الآية {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} فيما بينك وبين آدم ، وقال عكرمة وأبو صالح :" في أي صورة ما شاء ركبك "إن شاء في صورة إنسان ، وإن شاء في صورة حمار ، وإن شاء في صورة قرد ، وإن شاء في صورة خنزير. وقال مكحول : إن شاء ذكرا ، وإن شاء أنثى. قال مجاهد :" في أي صورة "أي في أي شبه من أب أو أم أو عم أو خال أو غيرهم. و" في "متعلقة بـ" ركب "، ولا تتعلق بـ" عدلك "، على قراءة من خفف ؛ لأنك تقول عدلت إلى كذا ، ولا تقول عدلت في كذا ؛ ولذلك منع الفراء التخفيف ؛ لأنه قدر" في "متعلقة بـ" عدلك "، و" ما "يجوز أن تكون صلة مؤكدة ؛ أي في أي صورة شاء ركبك. ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة قرد أو حمار أو خنزير ، فـ" ما "بمعنى الشرط والجزاء ؛ أي في صورة ما شاء يركبك ركبك."
قوله تعالى : {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} يجوز أن تكون "كلا" بمعنى حقا و "ألا" فيبتدأ بها. ويجوز أن تكون بمعنى "لا" ، على أن يكون المعنى ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقون. يدل على ذلك قوله تعالى : {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } وكذلك يقول الفراء : يصير المعنى : ليس كما غررت به. وقيل : أي ليس الأمر كما يقولون ، من أنه لا بعث. وقيل : هو بمعنى الردع والزجر. أي لا وقتروا بحلم الله وكرمه ، فتتركوا التفكر في آياته. ابن الأنباري : الوقف الجيد على "الدين" ، وعلى "ركبك" ، والوقف على "كلا" قبيح. {بَلْ تُكَذِّبُونَ} يا أهل مكة {بِالدِّينِ} أي بالحساب ، و "بل" لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره. وإنكارهم للبعث كان معلوما ، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة.
10-
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} .

11-
{كِرَاماً كَاتِبِينَ} .

12-
{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}

قوله تعالى : "وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ" أي رقباء من الملائكة {كِرَاماً} أي علي ؛ كقوله : {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس : 16] . وهنا ثلاث مسائل :
الأولى : روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند حدى حالتين : الخراءة أو الجماع ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم [حائط] أو بغيره ، أو ليستره أخوه" . وروي عن علي رضي الله عنه قال : "لا يزال الملك موليا عن العبد ما دام بادي العورة" وروي "إن العبد إذا دخل الحمام بغير مئزر لعنه ملكاه" .
الثانية : واختلف الناس في الكفار هل عليهم حفظة أم لا ؟ فقال بعضهم : لا ؛ لأن أمرهم ظاهر ، وعملهم واحد ؛ قال الله تعالى : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} . وقيل : بل عليهم حفظة ؛ لقوله تعالى : {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} . وقال : {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} وقال : {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} ، فأخبر أن الكفار يكون لهم كتاب ، ويكون عليهم حفظة. فإن قيل : الذي على يمينه أي شيء يكتب ولا حسنة له ؟ قيل له : الذي يكتب عن شمال يكون بإذن صاحبه ، ويكون شاهدا على ذلك وإن لم يكتب. والله أعلم.
الثالثة : سئل سفيان : كيف تعلم الملائكة أن العبد قد هم بحسنة أو سيئة ؟ قال : إذا هم العبد بحسنة وجدوا منه ريح المسك ، وإذا هم بسيئة وجدوا منه ريح النتن. وقد مضى في "ق" قوله : {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} زيادة بيان لمعنى هذه الآية. وقد كره العلماء الكلام عن الغائط والجماع ، لمفارقة الملك العبد عند ذلك. وقد مضى في آخر "آل عمران" القول في هذا. وعن الحسن : يعلمون لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم. وقيل : يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم. والله أعلم.
13-
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} .

14-
{وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} .

15-
{يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} .

16-
{وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} .

17-
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} .

18-
{ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} .

19-
{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}

قوله تعالى : {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} تقسيم مثل قوله : {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} وقال : {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} الآيتين. "يصلونها" أي يصيبهم لهبها وحرها "يوم الدين" أي يوم الجزاء والحساب ، وكرر ذكره تعظيما لشأنه ؛ نحو قوله تعالى : {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} وقال ابن عباس فيما روي عنه : كل شيء من القرآن من قوله : "وما أدراك" فقد أدراه. وكل شيء من قوله "وما يدريك" فقد طوي عنه. {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو "يوم" بالرفع على البدل من "يوم الدين" أو ردا على اليوم الأول ، فيكون صفة ونعتا لـ "يوم الدين" . ويجوز أن يرفع بإضمار هو. الباقون بالنصب على أنه في موضع رفع إلا أنه ، نصب ، لأنه مضاف غير متمكن ؛ كما تقول : أعجبني يوم يقوم زيد. وأنشد المبرد :
من أي يومي من الموت أفر ... أيومَ لم يقدر أم يوم قدر
فاليومان الثانيان مخفوضان بالإضافة ، عن الترجمة عن اليومين الأولين ، إلا أنهما نصبا في اللفظ ؛ لأنهما أضيفا إلى غير محض. وهذا اختيار الفراء والزجاج. وقال قوم : اليوم الثاني منصوب على المحل ، كأنه قال في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا. وقيل : بمعنى : إن هذه الأشياء تكون يوم ، أو على معنى يدانون يوم ؛ لأن الدين يدل عليه ، أو بإضمار اذكر. {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} لا ينازعه فيه أحد ، كما قال : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} . تمت السورة والحمد لله.
سورة المطففين
مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل
ومدنية في قول الحسن وعكرمة وهي ست وثلاثون آية

قال مقاتل : وهي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة : مدنية إلا ثماني آيات من قوله : "إن الذين أجرموا" إلى آخرها ، مكي. وقال الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} .

2-
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} .

3-
{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}

فيه أربع مسائل :
الأولى- روى النسائي عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله تعالى : {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك. قال الفراء : فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. وعن ابن عباس أيضا قال : هي : أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة نزل المدينة ، وكان هذا فيهم ؛ كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح ، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان ، فلما نزلت هذه السورة انتهوا ، فهم أو في الناس كيلا إلى يومهم هذا. وقال قوم : نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة ، واسمه عمرو ؛ كان له صاعان يأخذ بأحدهما ، ويعطي بالآخر ؛ قاله أبو هريرة رضي الله عنه.
الثانية- قوله تعالى : {وَيْلٌ} أي شدة عذاب في الآخرة. وقال ابن عباس : إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد. أهل النار ، فهو قوله تعالى : {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم. وروي عن ابن عمر قال : المطفف : الرجل يستأجر المكيال
https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif





الساعة الآن : 07:45 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 325.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 325.32 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.15%)]