رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (20) سُورَةُ البلد من صــ 51 الى صــ60 الحلقة (761) توعد بذلك من الجبابرة ؛ فلله دره. أي أسد فراس كان بين يديه ؟ يدق الظلمة بإنكاره ، ويقمع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه 15- {فَأَمَّا الْإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} قوله تعالى : {فَأَمَّا الْإنْسَانُ} يعني الكافر. قال ابن عباس : يريد عتبة بن ربيعة وأبا حذيفة بن المغيرة. وقيل : أمية بن خلف. وقيل : أبي بن خلف. {إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} أي امتحنه واختبره بالنعمة. و {ما} : زائدة صلة. {فَأَكْرَمَهُ} بالمال. {وَنَعَّمَهُ} بما أوسع عليه. {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} فيفرح بذلك ولا يحمده. {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ} أي امتحنه بالفقر واختبره. {فَقَدَرَ} أي ضيق {عَلَيْهِ رِزْقَهُ} على مقدار البُلغة. {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} أي أولاني هوانا. وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث : وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته. فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه اللّه بطاعته وتوفيقه ، المؤدي إلى حظ الآخرة ، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره. قلت : الآيتان صفة كل كافر. وكثير من المسلمين يظن أن ما أعطاه اللّه لكرامته وفضيلته عند اللّه ، وربما يقول بجهله : لو لم أستحق هذا لم يعطينه اللّه. وكذا إن قتر عليه يظن أن ذلك لهوانه على اللّه. وقراءة العامة {فقدر} مخففة الدال. وقرأ ابن عامر مشددا ، وهما لغتان. والاختيار التخفيف ؛ لقوله : {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} . قال أبو عمرو : {قدر} أي قتر. و {قدر} مشددا : هو أن يعطيه ما يكفيه ، ولو فعل به ذلك ما قال {ربي أهانن} . وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو {ربي} بفتح الياء في الموضعين. وأسكن الباقون. وأثبت البزي وابن محيصن ويعقوب الياء من {أكرمن} ، و {أهانن} في الحالين ؛ لأنها اسم فلا تحذف. وأثبتها المدنيون في الوصل دون الوقف ، اتباعا للمصحف. وخير أبو عمرو في إثباتها في الوصل أو حذفها ؛ لأنها رأس آية ، وحذفها في الوقف لخط المصحف. الباقون بحذفها ، لأنها وقعت في الموضعين بغير ياء ، والسنة ألا يخالف خط المصحف ؛ لأنه إجماع الصحابة. 17- {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} 18- {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 19- {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً} 20- {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} قوله تعالى : {كَلَّا} ردّ ، أي ليس الأمر كما يُظَن ، فليس الغنى لفضله ، ولا الفقر لهوانه ، وإنما الفقر والغنى من تقديري وقضائي. وقال الفراء : {كلا} في هذا الموضع بمعنى لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا ، ولكن يحمد اللّه عز وجل على الغنى والفقر. وفي الحديث : "يقول اللّه عز وجل : كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا ، ولا أهين من أهنت بقلتها ، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي ، وأهين من أهنت بمعصيتي" . {بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} إخبار عن ما كانوا يصنعونه من منع اليتيم الميراث ، وأكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب {يكرمون} ، و {يحضون} و {يأكلون} ، و {يحبون} بالياء ، لأنه تقدم ذكر الإنسان ، والمراد به الجنس ، فعبر عنه بلفظ الجمع. الباقون بالتاء في الأربعة ، على الخطاب والمواجهة ؛ كأنه قال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه ، وأكل ماله كما ذكرنا. قال مقاتل : نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيما في حجر أمية بن خلف.قوله تعالى : {ولا تَحُضون على طعام المسكين} أي لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم. وقرأ الكوفيون {ولا تحاضون} بفتح التاء والحاء والألف. أي يحض بعضهم بعضا. وأصله تتحاضون ، فحذف إحدى التاءين لدلالة الكلام عليها. وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن إبراهيم والشيزري عن الكسائي والسلمي {تحاضون} بضم التاء ، وهو تفاعلون من الحض ، وهو الحث. {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ } أي ميراث اليتامى. وأصله الوراث من ورثت ، فأبدلوا الواو تاء ؛ كما قالوا في تجاه وتخمة وتكأة وتودة ونحو ذلك. وقد تقدم. {أَكْلاً لَمّاً} أي شديدا ؛ قاله السدي. قيل {لَمّاً} : جمعا ؛ من قولهم : لممت الطعام لما إذا أكلته جمعا ؛ قاله الحسن وأبو عبيدة. وأصل اللم في كلام العرب : الجمع ؛ يقال : لممت الشيء ألمه لما : إذا جمعته ، ومنه يقال : لم اللّه شعثه ، أي جمع ما تفرق من أموره. قال النابغة : ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب ومنه قولهم : إن دارك لَمُومَة ، أي تلم الناس وتربهم وتجمعهم. وقال المرناق الطائي يمدح علقمة ابن سيف : لأَحَبَّني حُبَّ الصبي ولَمَّني ... لمَّ الهُدِيّ إلى الكريم الماجد وقال الليث : اللم الجمع الشديد ؛ ومنه حجر ملموم ، وكتيبة ملمومة. فالآكل يلم الثريد ، فيجمعه لقما ثم يأكله. وقال مجاهد : يسفه سفا : وقال الحسن : يأكل نصيبه ونصيب غيره. قال الحطيئة : إذا كان لما يتبع الذم ربه ... فلا قدّس الرحمن تلك الطواحنا يعني أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم ونصيب غيرهم. وقال ابن زيد : هو أنه إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله ، ولا يفكر : أكل من خبيث أو طيب. قال : وكان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان ، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم ، وتراثهم مع تراثهم. وقيل : يأكلون ما جمعه الميت من الظلم وهو عالم بذلك ، فيَلُمُ في الأكل بين حرامه وحلاله. ويجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا ، مهلا ، من غير أن يعرق فيه جبينه ، فيسرف في إنفاقه ، ويأكله أكلا واسعا ، جامعا بين المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ، كما يفعل الوراث البطالون. قوله تعالى : {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} "أي كثيرا ، حلاله وحرامه. والجم الكثير. يقال : جم الشيء يجم جموما ، فهو جم وجام. ومنه جم الماء في الحوض : إذا اجتمع وكثر. وقال الشاعر :" إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما والجمة : المكان الذي يجتمع فيه ماؤه. والجموم : البئر الكثيرة الماء. والجمُومُ : المصدر ؛ يقال : جم الماء يجم جموما : إذا كثر في البئر واجتمع ، بعد ما استقي ما فيها. 21- {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} قوله تعالى : {كَلَّا} أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. فهو رد لانكبابهم على الدنيا ، وجمعهم لها ؛ فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الأرض ، ولا ينفع الندم. والدك : الكسر والدق ؛ وقد تقدم. أي زلزلت الأرض ، وحركت تحريكا بعد تحريك. وقال الزجاج : أي زلزلت فدك بعضها بعضا. وقال المبرد : أي ألصقت وذهب ارتفاعها. يقال ناقة دكاء ، أي لا سنام لها ، والجمع دُكٌ. وقد مضى في سورة "الأعراف" و "الحاقة" القول في هذا. ويقولون : دك الشيء أي هدم. قال : هل غير غار دك غارا فانهدم {دَكّاً دَكّاً} أي مرة بعد مرة ؛ زلزلت فكسر بعضها بعضا ؛ فتكسر كل شيء على ظهرها. وقيل : دكت جبالها وأنشازها حتى استوت. وقيل : دكت أي استوت في الانفراش ؛ فذهب دورها وقصورها وجبالها وسائر أبنيتها. ومنه سمي الدكان ، لاستوائه في الانفراش. والدك : حط المرتفع من الأرض بالبسط ، وهو معنى قول ابن مسعود وابن عباس : تمد الأرض مد الأديم. 22- {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 23- {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} قوله تعالى : {وَجَاءَ رَبُّكَ} أي أمره وقضاؤه ؛ قاله الحسن. وهو من باب حذف المضاف. وقيل : أي جاءهم الرب بالآيات العظيمة ؛ وهو كقوله تعالى : {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} ، أي بظلل. وقيل : جعل مجيء الآيات مجيئا له ، تفخيما لشأن تلك الآيات. ومنه قوله تعالى في الحديث : "يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني ، واستسقيتك فلم تسقني ، واستطعمتك فلم تطعمني" . وقيل : {وَجَاءَ رَبُّكَ} أي زالت الشبه ذلك اليوم ، وصارت المعارف ضرورية ، كما تزول الشبه والشك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه. قال أهل الإشارة : ظهرت قدرته واستولت ، واللّه جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان ، وأنى له التحول والانتقال ، ولا مكان له ولا أوان ، ولا يجري عليه وقت ولا زمان ؛ لأن في جريان الوقت على الشيء فوت الأوقات ، ومن فاته شيء فهو عاجز. قوله تعالى : {وَالْمَلَكُ} أي الملائكة. {صَفّاً صَفّاً} أي صفوفا. {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قال ابن مسعود ومقاتل : تقاد جهنم بسبعين ألف زمام ، كل زمام بيد سبعين ألف ملك ، لها تغيظ وزفير ، حتى تنصب عن يسار العرش. وفي صحيح ، مسلم عن عبداللّه بن مسعود قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "يؤتى بجهنم ، لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" . وقال أبو سعيد الخدري : لما نزلت {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} تغير لون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعرف في وجهه. حتى اشتد على أصحابه ، ثم قال : "أقرأني جبريل {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} ـ الآية ـ {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} " . قال علي رضي اللّه عنه : قلت يا رسول اللّه ، كيف يجاء بها ؟ قال : "تؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام ، يقود بكل زمام سبعون ألف ملك ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع" ثم تعرض لي جهنم فتقول : ما لي ولك يا محمد ، إن اللّه قد حرم لحمك علي "فلا يبقى أحد إلا قال نفسي نفسي إلا محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه يقول :" رب أمتي رب أمتي "" قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} أي يتعظ ويتوب. وهو الكافر ، أو من همته معظم الدنيا. {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} أي ومن أين له الاتعاظ والتوبة وقد فرط فيها في الدنيا. ويقال : أي ومن أين له منفعة الذكرى. فلا بد من تقدير حذف المضاف ، وإلا فبين {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ} وبين {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} أي تناف ، قاله الزمخشري. 24- {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} أي في حياتي. فاللام بمعنى في. وقيل : أي قدمت عملا صالحا لحياتي ، أي لحياةٍ لا موت فيها. وقيل : حياة أهل النار ليست هنيئة ، فكأنهم لا حياة لهم ؛ فالمعنى : يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار ، فأكون فيمن له حياة هنيئة. 25- {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} قوله تعالى : {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي لا يعذب كعذاب اللّه أحد ، ولا يوثق كوثاقه أحد. والكناية ترجع إلى اللّه تعالى. وهو قول ابن عباس والحسن. وقرأ الكسائي {لا يعذب} {ولا يوثق} بفتح الذال والثاء ، أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب اللّه الكافر يومئذ ، ولا يوثق كما يوثق الكافر. والمراد إبليس ؛ لأن الدليل قام على أنه أشد الناس عذابا ، لأجل إجرامه ؛ فأطلق الكلام لأجل ما صحبه من التفسير. وقيل : إنه أمية بن خلف ؛ حكاه الفراء. يعني أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد ؛ لتناهيه في كفره وعناده. وقيل : أي لا يعذب مكانه أحد ، فلا يؤخذ منه فداء. والعذاب بمعنى التعذيب ، والوثاق بمعنى الإيثاق. ومنه قول الشاعر : وبعد عطائك المائة الرتاعا وقيل : لا يعذب أحد ليس بكافر عذاب الكافر. واختار أبو عبيد وأبو حاتم فتح الذال والثاء. وتكون الهاء ضمير الكافر ؛ لأن ذلك معروف : أنه لا يعذب أحد كعذاب اللّه. وقد روى أبو قلابة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ بفتح الذال والثاء. وروي أن أبا عمرو رجع إلى قراءة النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو علي : يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءه الجماعة ؛ أي لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر ؛ فتكون الهاء للكافر. والمراد بـ {أحد} الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار. 27- {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} 28- {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} 29- {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} 30- {وادخلي جنتي} قوله تعالى : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} لما ذكر حال من كانت همته الدنيا فاتهم اللّه في إغنائه ، وإفقاره ، ذكر حال من اطمأنت نفسه إلى اللّه تعالى. فسلم لأمره ، واتكل عليه. وقيل : هو من قول الملائكة لأولياء اللّه عز وجل. {النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} الساكنة الموقنة ؛ أيقنت أن اللّه ربها ، فأخبتت لذلك ؛ قال مجاهد وغيره. وقال ابن عباس : أي المطمئنة بثواب اللّه. وعنه المؤمنة. وقال الحسن : المؤمنة الموقنة. وعن مجاهد أيضا : الراضية بقضاء اللّه ، التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها ، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال مقاتل : الآمنة من عذاب اللّه. وفي حرف أُبي بن كعب {يأيتها النفس الآمنة المطمئنة} . وقيل : التي عملت على يقين بما وعد اللّه في كتابه. وقال ابن كيسان : المطمئنة هنا : المخلصة. وقال ابن عطاء : العارفة التي لا تصبر عنه طرفة عين. وقيل : المطمئنة بذكر اللّه تعالى ؛ بيانه {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} . وقيل : المطمئنة بالإيمان ، المصدقة بالبعث والثواب. وقال ابن زيد : المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت ، وعند البعث ، ويوم الجمع. وروى عبداللّه بن بريدة عن أبيه قال : يعني نفس حمزة. والصحيح أنها عامة في كل نفس مؤمن مخلص طائع. قال الحسن البصري : إن اللّه تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن ، اطمأنت النفس إلى اللّه تعالى ، واطمأن اللّه إليها. وقال عمرو بن العاص : إذا توفي المؤمن أرسل اللّه إليه ملكين ، وأرسل معهما تحفة من الجنة ، فيقولان لها : اخرجي أيتها النفس المطمئنة راضية مرضية ، ومرضيا عنك ، اخرجي إلى ووح وريحان ، ورب راض غير غضبان ، فتخرج كأطيب ريح المسك وجَد أحد من أنفه على ظهر الأرض. وذكر الحديث. وقال سعيد بن زيد : قرا رجل عند النبي صلى اللّه عليه وسلم {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} ، فقال أبو بكر : ما أحسن هذا يا رسول اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إن الملك يقولها لك يا أبا بكر" . وقال سعيد بن جبير : مات ابن عباس بالطائف ، فجاء طائر لم ير على خلقته طائر قط ، فدخل نعشه ، ثم لم ير خارجا منه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر - لا يدري من تلاها - : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} . وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه حين وقف بئر رومة. وقيل : نزلت في خُبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة ، وجعلوا وجهه إلى المدينة ؛ فحول اللّه وجهه نحو القبلة. واللّه أعلم. قوله تعالى : {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} أي إلى صاحبك وجسدك ؛ قال ابن عباس وعكرمة وعطاء. واختاره الطبري ؛ ودليله قراءة ابن عباس {فادخلي في عبدي} على التوحيد ، فيأمر اللّه تعالى الأرواح غدا أن ترجع إلى الأجساد. وقرأ ابن مسعود {في جسد عبدي} . وقال الحسن : ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته. وقال أبو صالح : المعنى : ارجعي إلى اللّه. وهذا عند الموت. {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي في أجساد عبادي ؛ دليله قراءة ابن عباس وابن مسعود. قال ابن عباس : هذا يوم القيامة ؛ وقال الضحاك. والجمهور على أن الجنة هي دار الخلود التي هي مسكن الأبرار ، ودار الصالحين والأخيار. ومعنى {فِي عِبَادِي} "أي في الصالحين من عبادي ؛ كما قال : {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} وقال الأخفش : {فِي عِبَادِي} أي في حزبي ؛ والمعنى واحد. أي انتظمي في سلكهم. {وَادْخُلِي جَنَّتِي} مع عبادي." سورة البلد بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ مكية باتفاق. وهي عشرون آية 1- {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} يجوز أن تكون {لا} زائدة ، كما تقدم في {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ؛ قاله الأخفش. أي أقسم ؛ لأنه قال : "بهذا البلد" وقد أقسم به في قوله : {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} فكيف يَجْحَد القسم به وقد أقسم به. قال الشاعر : تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتقطع أي يتقطع ، ودخل حرف "لا" صلة ؛ ومنه قوله تعالى : {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} بدليل قوله تعالى في ص : {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} . وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير {لأقسم} من غير ألف بعد اللام إثباتا. وأجاز الأخفش أيضا أن تكون بمعنى {ألا} . وقيل : ليست بنفي القسم ، وإنما هو كقول العرب : لا والله لا فعلت كذا ، ولا والله ما كان كذا ، ولا والله لأفعلن كذا. وقيل : هي نفي صحيح ؛ والمعنى : لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه ، بعد خروجك منه. حكاه مكي. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : {لا} رد عليهم. وهذا اختيار ابن العربي ؛ لأنه قال : وأما من قال إنها رد ، فهو قول ليس له رد ، لأنه يصح به المعنى ، ويتمكن اللفظ والمراد. فهو رد لكلام من أنكر البعث ثم ابتدأ القسم. وقال القشيري : قوله "لا" رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة ، المغرور بالدنيا. أي ليس الأمر كما يحسبه ، من أنه لن يقدر عليه أحد ، ثم ابتدأ القسم. و {البلد} : هي مكة ، أجمعوا عليه. أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه ، لكرامتك علي وحبي لك. وقال الواسطي أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا ، وبركتك ميتا ، يعني المدينة. والأول أصح ؛ لأن السورة نزلت بمكة باتفاق. 2- {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} يعني في المستقبل ؛ مثل قوله تعالى : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} . ومثله واسع في كلام العرب. تقول لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو. وهو في كلام الله واسع ، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة ؛ وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال : أن السورة باتفاق مكية قبل الفتح. فروى منصور عن مجاهد : {وَأَنْتَ حِلٌّ} قال : ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل. وكذا قال ابن عباس : أحل له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما. ولم يحل لأحد من الناس أن يقتل بها أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى السدي قال : أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : أُحلت له ساعة من نهار ، ثم أُطبقت وحُرمت إلى يوم القيامة ، وذلك يوم فتح مكة. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، فلم" https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (20) سُورَةُ البلد من صــ 61 الى صــ70 الحلقة (762) تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار "الحديث. وقد تقدم في سورة" المائدة "ابن زيد : لم يكن بها أحد حلالا غير النبي صلى الله عليه وسلم : وقيل : وأنت مقيم فيه وهو محلك. وقيل : وأنت فيه محسن ، وأنا عنك فيه راض. وذكر أهل اللغة أنه يقال : رجل حل وحلال ومحل ، ورجل حرام ومحل ، ورجل حرام ومحرم. وقال قتادة : أنت حل به : لست بأثم. وقيل : هو ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه ، معرفة منك بحق هذا البيت ؛ لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه. أي أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته ، فأنت مقيم فيه معظم له ، غير مرتكب فيه ما يحرم عليك. وقال شرحبيل بن سعد : {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} أي حلال ؛ أي هم يحرمون مكة أن يقتلوا بها صيدا أو يعضدوا بها شجرة ، ثم هم مع هذا يستحلون إخراجك وقتلك." 3- {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح : {وَوَالِدٍ} آدم : عليه السلام. {وَمَا وَلَدَ} أي وما نسل من ولده. أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض ؛ لما فيهم من البيان والنطق والتدبير ، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى. وقيل : هو إقسام بآدم والصالحين من ذريته ، وأما غير الصالحين فكأنهم بهائم. وقيل : الوالد إبراهيم. وما ولد : ذريته ؛ قال أبو عمران الجوني. ثم يحتمل أنه يريد جميع ذريته. ويحتمل أنه يريد المسلمين من ذريته. قال الفراء : وصلحت {ما} للناس ؛ كقوله : {مَا طَابَ لَكُمْ} وكقوله : {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وهو الخالق للذكر والأنثى ، وقيل : {ما} مع ما بعدها في موضع المصدر ؛ أي ووالد وولادته ؛ كقوله تعالى : {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} . وقال عكرمة وسعيد بن جبير : {وَوَالِدٍ} يعني الذي يولد له ، {وَمَا وَلَدَ} يعني العاقر الذي لا يولد له ؛ وقال ابن عباس. و {ما} على هذا نفي. وهو بعيد ؛ ولا يصح إلا بإضمار الموصول ؛ أي ووالد والذي ما ولد ، وذلك لا يجوز عند البصريين. وقيل : هو عموم في كل والد وكل مولود ؛ قاله عطية العوفي. وروي معناه عن ابن عباس أيضا. وهو اختيار الطبري. قال الماوردي : ويحتمل أن الوالد النبي صلى الله عليه وسلم ، لتقدم ذكره ، وما ولد أمته : لقوله عليه السلام : "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم" . فأقسم به وبأمته بعد أن أقسم ببلده ؛ مبالغة في تشريفه عليه السلام. 4- {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} إلى هنا انتهى القسم ؛ وهذا جوابه. ولله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها ، كما تقدم. والإنسان هنا ابن آدم. {فِي كَبَدٍ} أي في شدة وعناء من مكابدة الدنيا. وأصل الكبد الشدة. ومنه تكبد اللبن : غلظ وخثر وأشتد. ومنه الكبد ؛ لأنه دم تغلظ واشتد. ويقال : كابدت هذا الأمر : قاسيت شدته : قال لبليد : يا عين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد قال ابن عباس والحسن : {فِي كَبَدٍ} أي في شدة ونصب. وعن ابن عباس أيضا : في شدة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه ، وغير ذلك من أحواله. وروى عكرمة عنه قال : منتصبا في بطن أمه. والكبد : الاستواء والاستقامة. فهذا امتنان عليه في الخلقة. ولم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم ، فإنه منتصب انتصابا ؛ وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما. ابن كبسان : منتصبا رأسه في بطن أمه ؛ فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعنه أيضا : يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء ؛ لأنه لا يخلو من أحدهما. ورواه ابن عمر. وقال يَمانٌ : لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم ؛ وهو مع ذلك أضعف الخلق. قال علماؤنا : أول ما يكابد قطع سرته ، ثم إذا قمط قماطا ، وشد رباطا ، يكابد الضيق والتعب ، ثم يكابد الارتضاع ، ولو فاته لضاع ، ثم يكابد نبت أسنانه ، وتحرك لسانه ، ثم يكابد الفطام ، الذي هو أشد من اللطام ، ثم يكابد الختان ، والأوجاع والأحزان ، ثم يكابد المعلم وصولته ، والمؤدب وسياسته ، والأستاذ وهيبته ، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه ، ثم يكابد شغل الأولاد ، والخدم والأجناد ، ثم يكابد شغل الدور ، وبناء القصور ، ثم الكبر والهرم ، وضعف الركبة والقدم ، في مصائب يكثر تعدادها ، ونوائب يطول إيرادها ، من صداع الرأس ، ووجع الأضراس ، ورمد العين ، وغم الدين ، ووجع السن ، وألم الأذن. ويكابد محنا في المال والنفس ، مثل الضرب والحبس ، ولا يمضى عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة ، ولا يكابد إلا مشقة ، ثم الموت بعد ذلك كله ، ثم مساءلة الملك ، وضغطة القبر وظلمته ؛ ثم البعث والعرض على الله ، إلى أن يستقر به القرار ، إما في الجنة وإما في النار ؛ قال الله تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد. ودل هذا على أن له خالقا دبره ، وقضى عليه بهذه الأحوال ؛ فليمتثل أمره. وقال ابن زيد : الإنسان هنا آدم.وقوله : {فِي كَبَدٍ} أي في وسط السماء. وقال الكلبي : إن هذا نزل في رجل من بني جمح ؛ كان يقال ل أبو الأشدين ، وكان يأخذ الأديم العكاظي فيجعله تحت قدميه ، فيقول : من أزالني عنه فله كذا. فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه ؛ وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه نزل {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} يعني : لقوته. وروي عن ابن عباس. "في كبد" أي شديدا ، يعني شديد الخلق ؛ وكان من أشد رجال قريش. وكذلك ركانة ابن هشام بن عبدالمطلب ، وكان مثلا في البأس والشدة. وقيل : {فِي كَبَدٍ} أي جريء القلب ، غليظ الكبد ، مع ضعف خلقته ، ومهانة مادته. ابن عطاء : في ظلمة وجهل. الترمذي : مضيعا ما يعنيه ، مشتغلا بما لا يعنيه. 5- {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} 6- {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} 7- {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} 8- {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} 9- {وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} قوله تعالى : {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أي أيظن ابن آدم أن لن يعاقبه الله عز وجل : {يَقُولُ أَهْلَكْتُ} أي أنفقت. {مَالاً لُبَداً} أي كثيرا مجتمعا. {أَيَحْسَبُ} أي أيظن. {أَنْ لَمْ يَرَهُ} أي أن لم يعاينه {أَحَدٌ} بل علم الله عز وجل ذلك منه ، فكان كاذبا في قوله : أهلكت ولم يكن أنفقه. وروى أبو هريرة قال : يوقف العبد ، فيقال ماذا عملت في المال الذي رزقتك ؟ فيقول : أنفقته وزكيته. فيقال : كأنك إنما فعلت ذلك ليقال سخي ، فقد قيل ذلك. ثم يؤمر به إلى النار. وعن سعيد عن قتادة : إنك مسؤول عن مالك من أين جمعت ؟ وكيف أنفقت ؟ وعن ابن عباس قال : كان أبو الأشدين يقول : أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا وهو في ذلك كاذب. وقال مقاتل : نَزَلتْ في الحارث بن عامر بن نوفل ، أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يُكَفِّر. فقال : لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات ، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق ، فيكون طغيانا منه ، أو أسفا عليه ، فيكون ندما منه. وقرأ أبو جعفر {مَالاً لُبَّداً} بتشديد الباء مفتوحة ، على جمع لا بد ؛ مثل راكع وركع ، وساجد وسجد ، وشاهد وشهد ، ونحوه. وقرأ مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا ، جمع لبود. الباقون بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا ، جمع لبدة ولبدة ، وهو ما تلبد ؛ يريد الكثرة. وقد مضى في سورة "الجن" القول فيه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ {أيحسُب} بضم السين في الموضعين. وقال الحسن : يقول أتلفت مالا كثيرا ، فمن يحاسبني به ، دعني أحسبه. ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته ، وأن الله عز وجل يرى صنيعه ، ثم عدد عليه نعمه فقال : {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} يبصر بهما {وَلِسَاناً} ينطق به. {وَشَفَتَيْنِ} يستر بهما ثغره. والمعنى : نحن فعلنا ذلك ، ونحن نقدر على أن نبعثه ونحصي عليه ما عمله. وقال أبو حازم : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى قال : يا ابن آدم ، إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك ، فقد أعنتك عليه بطبقين ، فأطبق ؛ وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك ، فقد أعنتك عليه بطبقين ، فأطبق ؛ وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك ، فقد أعنتك عليه بطبقين ، فأطبق" . والشفة : أصلها شفهة ، حذفت منها الهاء ، وتصغيرها : شفيهة ، والجمع : شفاه. ويقال : شفهات وشفوات ، والهاء أقيس ، والواو أعم ، تشبيها بالسنوات. وقال الأزهري : يقال هذه شفة في الوصل وشفه ، بالتاء والهاء. وقال قتادة : نعم الله ظاهرة ، يقررك بها حتى تشكر. 10- {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} يعني الطريقين : طريق الخير وطريق الشر. أي بيناهما له بما أرسلناه من الرسل. والنجد. الطريق في ارتفاع. وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وروى قتادة قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : "يا أيها الناس ، إنما هما النجدان : نجد الخير ، ونجد الشر ، فلم تجعل نجد الشر أحب إليك من نجد الخير" . وروي عن عكرمة قال : النجدان : الثديان. وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك ، وروي عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهما ؛ لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه. فالنجد : العلو ، وجمعه نجود ؛ ومنه سميت "نجد" ، لارتفاعها عن انخفاض تهامة. فالنجدان : الطريقان العاليان. قال امرؤ القيس : فريقان منهم جازع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع نجد كبكب 11- {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فهلا أنفق ماله الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد ، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن والاقتحام : الرمي بالنفس في شيء من غير روية ؛ يقال منه : قحم في الأمر قحوما : أي رمى بنفسه فيه من غير روية. وقحم الفرس فارسه. تقحيما على وجهه : إذا رماه. وتقحيم النفس في الشيء : إدخالها فيه من غير روية. والقُحمة بالضم المهلكة ، والسنة الشديدة. يقال : أصابت الأعراب القُحمة : إذا أصابهم قحط ، فدخلوا الريف. والقُحم : صعاب الطريق. وقال الفراء والزجاج : وذكر {لا} مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد {لا} مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع ، حتى يعيدوها في كلام آخر ؛ كقوله تعالى : {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه ؛ فيجوز أن يكون قوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} قائما مقام التكرير ؛ كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل : هو جار مجرى الدعاء ؛ كقوله : لا نجا ولا سلم. وقال : معنى {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فلم يقتحم العقبة ، كقول زهير : وكان طوى كشحا على مستكِنَّة ... فلا هو أبداها ولم يتقدم أي فلم يبدها ولم يتقدم. وكذا قال المبرد وأبو علي : {لا} : بمعنى لم. وذكره البخاري عن مجاهد. أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا ، فلا يحتاج إلى التكرير. ثم فسر العقبة وركوبها فقال {فَكُّ رَقَبَةٍ} وكذا وكذا ؛ فبين وجوها من القرب المالية. وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين : معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار ؛ تقديره : أفلا اقتحم العقبة ؛ أو هلا اقتحم العقبة. يقول : هلا أنفق ماله في فك الرقاب ، وإطعام السغْبَان ، ليجاوز به العقبة ، فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قيل : اقتحام العقبة ها هنا ضرب مثل ، أي هل تحمل عظام الأمور فغي إنفاق ماله في طاعة ربه ، والإيمان به. وهذا إنما يليق بقول من حمل {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} على الدعاء ؛ أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا. وقيل : شبه عظم الذنوب وثقلها وشدتها بعقبة ، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا ، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة ، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله. قال ابن عمر : هذه العقبة جبل في جهنم. وعن أبي رجاء قال : بلغنا أن العقبة مصعدها سبعة آلاف سنة ، ومهبطها سبعة آلاف سنة. وقال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر ، فاقتحموها بطاعة الله. وقال مجاهد والضحاك والكلبي : هي الصراط يضرب على جهنم كحد السيف ، مسيرة ثلاثة آلاف سنة ، سهلا وصعودا وهبوطا. واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء. وقيل : اقتحامه عليه قدر ما يصلي صلاة المكتوبة. وروي عن أبي الدرداء أنه قال : إن وراءنا عقبة ، أنجى الناس منها أخفهم حملا. وقيل : النار نفسها هي العقبة. فروى أبو رجاء عن الحسن قال : بلغنا أنه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداءه من النار. وعن عبدالله بن عمر قال : من أعتق رقبة أعتق الله عز وجل بكل عضو منها عضوا منه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار ، حتى فرجه بفرجه" . وفي الترمذي عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما ، كان فكاكه من النار ، يجزي كل عضو منه عضوا منه ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة ، كانت فكاكها من النار ، يجزي كل عضو منها عضوا منها" . قال : هذا حديث حسن صحيح غريب. وقيل : العقبة خلاصه من هول العرض. وقال قتادة وكعب : هي نار دون الجسر. وقال الحسن : هي والله عقبة شديدة : مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. وأنشد بعضهم : إني بليت بأربع يرمينني ... بالنبل قد نصبوا علي شراكا إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... من أين أرجو بينهن فكاكا يا رب ساعدني بعفو إنني ... أصبحت لا أرجو لهن سواكا 12- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} فيه حذف ، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة. وهذا تعظيم لالتزام أمر الدين ؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ليعلمه اقتحام العقبة. قال القشيري : وحمل العقبة على عقبه جهنم بعيد ؛ إذ أحد في الدنيا لم يقتحم عقبة جهنم ؛ إلا أن يحمل على أن المراد فهلا صير نفسه بحيث يمكنه اقتحام عقبة جهنم غدا. واختار البخاري قول مجاهد : إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا. قال ابن العربي : وإنما اختار ذلك لأجل أنه قال بعد ذلك في الآية الثانية : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} ؟ ثم قال في الآية الثالثة : {فَكُّ رَقَبَةٍ} ، وفي الآية الرابعة {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} ، ثم قال في الآية الخامسة : {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} ، ثم قال في الآية السادسة : {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} ؛ فهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا. المعنى : فلم يأت في الدنيا بما يسهل عليه سلوك العقبة في الآخرة. وقال سفيان ابن عيينة : كل شيء قال فيه "وما أدراك" ؟ فإنه أخبر به ، وكل شيء قال فيه "وما يدريك" ؟ فإنه لم يخبر به. 13- {فَكُّ رَقَبَةٍ} فيه ثلاث مسائل : الأولى- قوله تعالى : {فَكُّ رَقَبَةٍ} فكها : خلاصها من الأسر. وقيل : من الرق. وفي الحديث : "وفك الرقبة أن تعين في ثمنها" . من حديث البراء ، وقد تقدم في سورة "التوبة" . والفك : هو حل القيد ؛ والرق قيد. وسمي المرقوق رقبة ؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته. وسمي عنقها فكا كفك الأسير من الأسر. قال حسان : كم من أسير فككناه بلا ثمن ... وجز ناصية كنا مواليها وروى عقبة بن عامر الجُهَني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار" قال الماوردي : ويحتمل ثانيا أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه ، باجتناب المعاصي ، وفعل الطاعات ؛ ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل ، وهو أشبه بالصواب. الثانية- قوله تعالى : {رَقَبَةٍ} قال أصبغ : الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العتق من الرقبة المؤمنة القليلة الثمن ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل أي الرقاب أفضل ؟ قال : "أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" . ابن العربي : والمراد في هذا الحديث : من المسلمين ؛ بدليل قوله عليه السلام : "من أعتق امرأ مسلما" و "من أعتق رقبة مؤمنة" . وما ذكره أصبغ وهلة ؛ وإنما نظر إلى تنقيص المال ، والنظر إلى تجريد المعتق للعبادة ، وتفريغه للتوحيد ، أولى. الثالثة- العتق والصدقة من أفضل الأعمال. وعن أبي حنيفة : أن العتق أفضل من الصدقة. وعند صاحبيه الصدقة أفضل. والآية أدل على قول أبي حنيفة ؛ لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة : أيضعه في ذي قرابة أو يعتق رقبة ؟ قال : الرقبة أفضل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا من النار" . 14- {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} 15- {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} 16- {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} قوله تعالى : {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي مجاعة. والسغب : الجوع. والساغب الجائع. وقرأ الحسن {أو إطعام في يوم ذا مسغبة} بالألف في {ذا} - وأنشد أبو عبيدة : فلو كنت جارا يا ابن قيس بن عاصم ... لما بت شبعانا وجارك ساغبا وإطعام الطعام فضيلة ، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل. وقال النخعي في قوله تعالى : {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال : في يوم عزيز فيه الطعام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من موجبات الرحمة إطعام المسلم السغبان" . {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} أي قرابة. يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي. يعلمك أن الصدقة على القرابة أفضل منها على غير القرابة ، كما أن الصدقة على اليتيم الذي لا كافل له أفضل من الصدقة على اليتيم الذي يجد من يكفله. وأهل اللغة يقولون : سمي يتيما لضعفه. يقال : يتم الرجل يتما : إذا ضعف. وذكروا أن اليتيم في الناس من قبل الأب. وفي البهائم من قبل الأمهات. وقد مضى في سورة "البقرة" مستوفى ، وقال بعض أهل اللغة : اليتيم الذي يموت أبواه. وقال قيس بن الملوح : إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا ... إلى الله فقد الوالدين يتيم قوله تعالى : {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أي لا شيء له ، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر ، ليس له مأوى إلا التراب. قال ابن عباس : هو المطروح على الطريق ، الذي لا بيت له. مجاهد : هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة : إنه ذو العيال. عكرمة : المديون. أبو سنان : ذو الزمانة. ابن جبير : الذي ليس له أحد. وروى عكرمة عن ابن عباس : ذو المتربة البعيد التربة ؛ يعني الغريب البعيد عن وطنه. وقال أبو حامد الخارزنجي : المتربة هنا : من التريب ؛ وهي شدة الحال. يقال ترب : إذا افتقر. قال الهذلي : وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا ... سفكنا دماء البدن في تربة الحال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : {فكَ} بفتح الكاف ، على الفعل الماضي. {رقبة} نصبا لكونها مفعولا {أو أَطعم} بفتح الهمزة نصب الميم ، من غير ألف ، على الفعل الماضي أيضا ؛ لقوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} فهذا أشكل بـ {فك وأطعم} . وقرأ الباقون : {فك} رفعا ، على أنه مصدر فككت. {رقبة} خفض بالإضافة. {أو إطعام} بكسر الهمزة وألف ورفع الميم وتنوينها على المصدر أيضا. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لأنه تفسير لقوله تعالى : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} ؟ ثم أخبره فقال : {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} . المعنى : اقتحام العقبة : فك رقبة أو إطعام. ومن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى ؛ أي ولا فك رقبة ، ولا أطعم في يوم ذا مسغبة ؛ فكيف يجاوز العقبة. وقرأ الحسن وأبو رجاء : {ذا مسغبة} بالنصب على أنه مفعول {إطعام} أي يطعمون ذا مسغبة و {يتيما} بدل منه. الباقون {ذي مسغبة} فهو صفة لـ {يوم} . ويجوز أن يكون قراءة النصب صفة لموضع الجار والمجرور لأن قوله : {في يوم} ظرف منصوب الموضع ، فيكون وصفا له على المعنى دون اللفظ. https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (20) سُورَةُ الليل من صــ 71 الى صــ80 الحلقة (763) 17- {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} 18- {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} 19- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِْ} 20- {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} قوله تعالى : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يعني : أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة ، أو أطعم في يوم ذا مسغبة ، حتى يكون من الذين آمنوا ؛ أي صدقوا ، فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله. فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع ، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان ، قال الله تعالى في المنافقين : {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} . وقالت عائشة : يا رسول الله ، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم الطعام ، ويفك العاني ، ويعتق الرقاب ، ويحمل على إبله لله ، فعل ينفعه ذلك شيئا ؟ قال : "لا ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" . وقيل : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي فعل هذه الأشياء وهو مؤمن ، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة ؛ نظيره قوله تعالى : {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} وقيل : المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى. وقيل : أتى بهذه القرب لوجه الله ، ثم أمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد قال حكيم بن حزام بعدما أسلم ، يا رسول الله ، إنا كنا نتحنث بأعمال في الجاهلية ، فهل لنا منها شيء ؟ فقال عليه السلام : "أسلمت على ما أسلفت من الخير" . وقيل : إن {ثُمَّ} بمعنى الواو ؛ أي وكان هذا المعتق الرقبة ، والمطعم في المسغبة ، من الذين أمنوا. {وَتَوَاصَوْا} أي أوصى بعضهم بعضا. {بِالصَّبْرِ} أي بالصبر على طاعة الله ، وعن معاصيه ؛ وعلى ما أصابهم من البلاء والمصايب. {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} بالرحمة على الخلق ؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين. قوله تعالى : {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم ؛ قال محمد بن كعب القرظي وغيره. وقال يحيى بن سلام : لأنهم ميامين على أنفسهم. ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن. وقيل : لأن منزلتهم عن اليمين ؛ قاله ميمون بن مهران. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنَا أي كفروا بالقرآن. {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أي يأخذون كتبهم بشمائلهم ؛ قال محمد بن كعب. يحيى بن سلام : لأنهم مشائيم على أنفسهم. ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر. ميمون : لأن منزلتهم عن اليسار. قلت : ويجمع هذه الأقوال أن يقال : إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة ، وأصحاب المشأمة أصحاب النار ؛ قال الله تعالى : {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} ، في سدر مخضود "، وقال : {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} وما كان مثله. ومعنى {مُؤْصَدَةٌ} أي مطبقة مغلقة. قال :" تحن إلى جبال مكة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده وقيل : مبهمة ، لا يدري ما داخلها. وأهل اللغة يقولون : أوصدت الباب وأصدته ؛ أي أغلقته. فمن قال أوصدت ، فالاسم الوصاد ، ومن قال آصدته ، فالاسم الإصاد. وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة ويعقوب والشيزري عن الكسائي {موصدة} بالهمز هنا ، وفي "الهمزة" . الباقون بلا همز. وهما لغتان. وعن أبي بكر بن عياش قال : لنا إمام يهمز {مؤصدة} فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته. سورة الشمس بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ مكية باتفاق ، وهي خمس عشرة آية 1- {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} قال مجاهد : {وَضُحَاهَا} أي ضوءها وإشراقها. وهو قسم ثان. وأضاف الضحى إلى الشمس ، لأنه إنما يكون بارتفاع الشمس. وقال قتادة : بهاؤها. السدي : حرها. وروى الضحاك عن ابن عباس : {وَضُحَاهَا} قال : جعل فيها الضوء وجعلها حارة. وقال اليزيدي : هو انبساطها. وقيل : ما ظهر بها من كل مخلوق ؛ فيكون القسم بها وبمخلوقات الأرض كلها. حكاه الماوردي والضحا : مؤنثة. يقال : ارتفعت الضحا ، وهي فوق الضحو. وقد تذكر. فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة. ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل ، نحو صرد ونغر. وهو ظرف غير متمكن مثل سحر. تقول : لقيته ضحا وضحا ؛ إذا أردت به ضحا يومك لم تنونه. وقال الفراء : الضحا هو النهار ؛ كقول قتادة. والمعروف عند العرب أن الضحا : النهار كله ، فذلك لدوام نور الشمس ، ومن قال : إنه نور الشمس أو حرها ، فنور الشمس لا يكون إلا مع حر الشمس. وقد استدل من قال : إن الضحى حر الشمس بقوله تعالى : {وَلا تَضْحَى} أي لا يؤذيك الحر. وقال المبرد : أصل الضحا من الضح ، وهو نور الشمس ، والألف مقلوبة من الحاء الثانية. تقول : "ضحوة وضحوات ، وضحوات وضحا ، فالواو من ضحوة مقلوبة عن الحاء الثانية ، والألف في ضحا مقلوبة عن الواو. وقال أبو الهيثم : الضح : نقيض الظل ، وهو نور الشمس على وجه الأرض ، وأصله الضحا فاستثقلوا الياء مع سكون الحاء ، فقلبوها ألفا." 2- {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} أي تبعها : وذلك إذا سقطت رؤي الهلال. يقال : تلوت فلانا : إذا تبعته. قال قتادة : إنما ذلك ليلة الهلال ، إذا سقطت الشمس رؤي الهلال. وقال ابن زيد : إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر ، تلاها القمر بالطلوع ، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. القراء : تَلاهَا : أخذ منها ، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال قوم : {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} حين استوى واستدار ، فكان مثلها في الضياء والنور ؛ وقاله الزجاج. 3- {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} أي كشفها. فقال قوم : جلى الظلمة ؛ وإن لم يجر لها ذكر ؛ كما تقول : أضحت باردة ، تريد أضحت غداتنا باردة. وهذا قول الفراء والكلبي وغيرهما. وقال قوم : الضمير في {جَلَّاهَا} للشمس ؛ والمعنى : أنه يبين بضوئه جرمها. ومنه قول قيس بن الخطيم : تجلت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب وقيل : جلى ما في الأرض من حيوانها حتى ظهر ، لاستتاره ليلا وانتشاره نهارا. وقيل : جلى الدنيا. وقيل : جلى الأرض ؛ وإن لم يجر لها ذكر ؛ ومثله قوله تعالى : {حتى توارت بالحجاب} على ما تقدم آنفا. 4- {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} أي يغشى الشمس ، فيذهب بضوئها عند سقوطها ؛ قال مجاهد وغيره. وقيل : يغشى الدنيا بالظلم ، فتظلم الآفاق. فالكناية ترجع إلى غير مذكور. 5- {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} أي وبنيانها. فما مصدرية ؛ كما قال : {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} أي بغفران ربي ؛ قاله قتادة ، واختاره المبرد. وقيل : المعنى ومن بناها ؛ قاله الحسن ومجاهد ؛ وهو اختيار الطبري. أي ومن خلقها ورفعها ، وهو الله تعالى. وحكي عن أهل الحجاز : سبحان ما سبحت له ؛ أي سبحان من سبحت له. 6- {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} أي وطحوها. وقيل : ومن طحاها ؛ على ما ذكرناه آنفا. أي بسطها ؛ كذا قال عامة المفسرين ؛ مثل دحاها. قال الحسن ومجاهد وغيرهما : طحاها ودحاها : واحد ؛ أي بسطها من كل جانب. والطحو : البسط ؛ طحا يطحو طحوا ، وطحى يطحي طحيا ، وطحيت : اضطجعت ؛ عن أبي عمرو. وعن ابن عباس : طحاها : قسمها. وقيل : خلقها ؛ قال الشاعر : وما تدري جذيمة من طحاها ... ولا من ساكن العرش الرفيع الماوردي : ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز ؛ لأنه حياة لما خلق عليها. ويقال في بعض أيمان العرب : لا ، والقمر الطاحي ؛ أي المشرف المشرق المرتفع. قال أبو عمرو : طحا الرجل : إذا ذهب في الأرض. يقال : ما أدري أين طحا! ويقال : طحا به قلبه : إذا ذهب به في كل شيء. قال علقمة : طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب 7- {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} قيل : المعنى وتسويتها. {فما} : بمعنى المصدر. وقيل : المعنى ومن سواها ، وهو الله عز وجل. وفي النفس قولان : أحدهما آدم. الثاني : كل نفس منفوسة. وسوى : بمعنى هيأ. وقال مجاهد : سواها : سوى خلقها وعدل. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم. أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه. 8- {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} قوله تعالى : {فَأَلْهَمَهَا} أي عرفها ؛ كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد. أي عرفها طريق الفجور والتقوى ؛ وقال ابن عباس. وعن مجاهد أيضا : عرفها الطاعة والمعصية. وعن محمد بن كعب قال : إذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا ، ألهمه الخير فعمل به ، وإذا أراد به السوء ، ألهمه الشر فعمل به. وقال الفراء : "فألهمها" قال : عرفها طريق الخير وطريق الشر ؛ كما قال : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : ألهم المؤمن المتقي تقواه ، وألهم الفاجر فجوره. وعن سعيد عن قتادة قال : بين لها فجورها وتقواها. والمعنى متقارب. وروي عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} قال : "اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها" . ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية : {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} رفع صوته بها ، وقال : "اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ، وأنت خير من زكاها" . وفي صحيح مسلم ، عن أبي الأسود الدؤلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ، ويكدحون فيه ، أشيء قضي ومضى عليهم من قدر سبق ، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم ، وثبتت الحجة عليهم ؟ فقلت : بل شيء قضي عليهم ، ومضى عليهم. قال فقال : أفلا يكون ظلما ؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، وقلت : كل شيء خلق الله وملك يده ، فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. فقال لي : يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك ، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه : أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم. وثبتت الحجة عليهم ؟ فقال : "لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم . وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل :" ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها ". والفجور والتقوى : مصدران في موضع المفعول به." 9- {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} 10- {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} هذا جواب القسم ، بمعنى : لقد أفلح. قال الزجاج : اللام حذفت ، لأن الكلام طال ، فصار طول عوضا منها. وقيل : الجواب محذوف ؛ أي والشمس وكذا وكذا لتبعثن. الزمخشري : تقديره ليدمدمن الله عليهم ؛ أي على أهل مكة ، لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما دمدم على ثمود ؛ لأنهم كذبوا صالحا. وأما {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} فكلام تابع لأوله ؛ لقوله : {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء. وقيل : هو على التقديم والتأخير بغير حذف ؛ والمعنى : قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ، والشمس وضحاها. {أَفْلَحَ} فاز. {مَنْ زَكَّاهَا} أي من زكى الله نفسه بالطاعة. {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي خسرت نفس دسها الله عز وجل بالمعصية. وقال ابن عباس : خابت نفس أضلها وأغواها. وقيل : أفلح من زكى نفسه بطاعة الله ، وصالح الأعمال ، وخاب من دس نفسه في المعاصي ؛ قال قتادة وغيره. وأصل الزكاة : النمو والزيادة ، ومنه زكا الزرع : إذا كثر ريعه ، ومنه تزكية القاضي للشاهد ؛ لأنه يرفعه بالتعديل ، وذكر الجميل. وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة "البقرة" مستوفى. فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر ، شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الأرض ، ليشتهر مكانها للمعتفين ، وتوقد النار في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام ، ليخفى مكانها عن الطالبين. فأولئك علوا أنفسهم وزكوها ، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وكذا الفاجر أبدا خفي المكان ، زمر المروءة غامض الشخص ، ناكس الرأس بركوب المعاصي. وقيل : دساها : أغواها. قال : وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت ... حلائله منه أرامل ضيعا قال أهل اللغة : والأصل : دسسها ، من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء ، فأبدلت سينه ياء ؛ كما يقال : قصيت أظفاري ؛ وأصله قصصت أظفاري. ومثله قولهم في تقضض : تقضي. وقال ابن الأعرابي : {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم. 11- {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} 12- {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} 13- {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} 14- {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} قوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} أي بطغيانها ، وهو خروجها عن الحد في العصيان ؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس {بِطَغْوَاهَا} أي بعذابها الذي وعدت به. قال : وكان اسم العذاب الذي جاءها الطغوي ؛ لأنه طغى عليهم. وقال محمد بن كعب : {بِطَغْوَاهَا} بأجمعها. وقيل : هو مصدر ، وخرج على هذا المخرج ، لأنه أشكل برؤوس الآي. وقيل : الأصل بطغياها ، إلا أن "فعلى" إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واوا ، ليفصل بين الاسم والوصف. وقراءة العامة بفتح الطاء. وقرأ الحسن والجحدري وحماد بن سلمة (بضم الطاء) على أنه مصدر ؛ كالرجعي والحسني وشبههما في المصادر. وقيل : هما لغتان. {إِذِ انْبَعَثَ} أي نهض. {أَشْقَاهَا} لعقر الناقة. واسمه قدار بن سالف. وقد مضى في "الأعراف" بيان هذا ، وهل كان واحدا أو جماعة. وفي البخاري عن عبدالله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، وذكر الناقة والذي عقرها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدري من أشقى الأولين" قلت : الله ورسوله أعلم. قال : "قاتلك" . قوله تعالى : {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} "يعني صالحا. {نَاقَةَ اللَّهِ} {نَاقَةَ} منصوب على التحذير ؛ كقولك : الأسد الأسد ، والصبي الصبي ، والحذار الحذار. أي احذروا ناقة الله ؛ أي عقرها. وقيل : ذروا ناقة الله ، كما قال : {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . {وَسُقْيَاهَا} أي ذروها وشربها. وقد مضى في سورة" الشعراء "بيانه والحمد لله. وأيضا في سورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} . فإنهم لما اقترحوا الناقة ، وأخرجها لهم من الصخرة ، جعل لهم شرب يوم من بئرهم ، ولها شرب يوم مكان ذلك ، فشق ذلك عليهم." {فَكَذَّبُوهُ} أي كذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم : "إنكم تعذبون إن عقرتموها" . {فَعَقَرُوهَا} أي عقرها الأشقى. وأضيف إلى الكل ، لأنهم رضوا بفعله. وقال قتادة : ذكر لنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم. وقال الفراء : عقرها اثنان : والعرب تقول : هذان أفضل الناس ، وهذان خير الناس ، وهذه المرأة أشقى القوم ؛ فلهذا لم يقل : أشقياها. قوله تعالى : {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب والعقر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : دمدم عليهم قال : دمر عليهم ربهم بذنبهم ؛ أي بجرمهم. وقال الفراء : دمدم أي أرجف. وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده. ويقال : دممت على الشيء أي أطبقت عليه ، ودمم عليه القبر : أطبقه. وناقة مدومة : ألبسها الشحم. فإذا كررت الإطباق قلت : دمدمت. والدمدمة : إهلاك باستئصال ؛ قاله المؤرج. وفي الصحاح : ودمدمت الشيء : إذا ألزقته بالأرض وطحطحته. ودمدم الله عليهم : أي أهلكهم. القشيري : وقيل دمدمت على الميت التراب : أي سويت عليه. فقوله : {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ} أي أهلكهم ، فجعلهم تحت التراب. وقال ابن الأنباري : دمدم أي غضب. والدمدمة : الكلام الذي يزعج الرجل. وقال بعض اللغويين : الدمدمة : الإدامة ؛ تقول العرب : ناقة مدمدمة أي سمينة. {فَسَوَّاهَا} أي سوى عليهم الأرض. وعلى الأول {فَسَوَّاهَا} أي فسوى الدمدمة والإهلاك عليهم. وذلك أن الصيحة أهلكتهم ، فأتت على صغيرهم وكبيرهم. وقيل : {فَسَوَّاهَا} أي فسوى الأمة في إنزال العذاب بهم ، صغيرهم وكبيرهم ، وضيعهم وشريفهم ، وذكرهم وأنثاهم. وقرأ ابن الزبير {فدمدم} وهما ، لغتان ؛ كما يقال : امتقع لونه وانتقع. 15- {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي فعل الله ذلك بهم غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد ؛ قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. والهاء في "عقباها" ترجع إلى الفعلة ؛ كقوله : "من اغتسل يوم" الجمعة فبها ونعمت "أي بالفعلة والخصلة. قال السدي والضحاك والكلبي : ترجع إلى العاقر ؛ أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع. وقال ابن عباس أيضا. وفي الكلام تقديم وتأخير ، مجازه : إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها. وقيل : لا يخاف رسول الله صالح عاقبة إهلاك قومه ، ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم ؛ لأنه قد أنذرهم ، ونجاه الله تعالى حين أهلكهم. وقرأ نافع وابن عامر {فلا} بالفاء ، وهو الأجود ؛ لأنه يرجع إلى المعنى الأول ؛ أي فلا يخاف الله عاقبة إهلاكهم. والباقون بالواو ، وهي أشبه بالمعنى الثاني ؛ أي ولا يخاف الكافر عاقبة ما صنع. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالا : أخرج إلينا مالك مصحفا لجده ، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف ، وفيه : {ولا يخاف} بالواو. وكذا هي في في مصاحف أهل مكة والعراقيين بالواو ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، اتباعا لمصحفهم." سورة الليل بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ مكية. وقيل : مدنية. وهي إحدى وعشرون آية بإجماع 1- {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} 2- {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} 3- {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 4- {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} قوله تعالى : {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي يُغطي. ولم يذكر معه مفعولا للعلم به. وقيل : يغشى النهار. وقيل : الأرض. وقيل : الخلائق. وقيل : يغشى كل شيء بظلمته. وروى سعيد عن قتادة قال : أول ما خلق اللّه النور والظلمة ، ثم ميز بينهما ، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما ، والنور نهارا مضيئا مبصرا. {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أي إذا انكشف ووضح وظهر ، وبان بضوئه عن ظلمة الليل. {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} قال الحسن : معناه والذي خلق https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (20) سُورَةُ الضحى من صــ 81 الى صــ90 الحلقة (764) الذكر والأنثى ؛ فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل. وقيل : معناه وخلق الذكر والأنثى ؛ (فما) : مصدرية على ما تقدم. وأهل مكة يقولون للرعد : سبحان ما سبحت له (فما) على هذا بمعنى (من) ، وهو قول أبي عبيدة وغيره. وقد تقدم. وقيل : المعنى وما خلق من الذكر والأنثى ؛ فتكون "من" مضمرة ، ويكون القسم منه بأهل طاعته ، من أنبيائه وأوليائه ، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفا. وقال أبو عبيدة : "وما خلق" أي من خلق. وكذا قوله : {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} {ما} في هذه المواضع بمعنى من. وروي. ابن مسعود أنه كان يقرأ {والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى} ويسقط {وما خلق} . وفي صحيح مسلم عن علقمة قال : قدمنا الشام ، فأتانا أبو الدرداء ، فقال : فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبدالله ؟ فقلت : نعم ، أنا. قال : فكيف سمعت عبدالله يقرأ هذه الآية {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؟ قال : سمعته يقرأ {والليل إذا يغشى والذكر والأنثى} قال : وأنا واللّه هكذا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرؤها ، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ {وَمَا خَلَقَ} "فلا أتابعهم." قال أبو بكر الأنباري : وحدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله قال : أقرأني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "إني أنا الرازق ذو القوة المتين" ؛ قال أبو بكر : كل من هذين الحديثين مردود ؛ بخلاف الإجماع له ، وأن حمزة وعاصما يرويان عن عبدالله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين ، والبناء على سندين يوافقان الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه الإجماع والأمة ، وما يبني على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه ، أخذ برواية الجماعة ، وأبطل نقل الواحد ؛ لما يجوز عليه من النسيان والإغفال. ولو صح الحديث عن أبي الدرداء وكان إسناده مقبولا معروفا ، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي اللّه عنهم يخالفونه ، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة ، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد ، الذي يسرع إليه من النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة ، وجميع أهل الملة. وفي المراد بالذكر والأنثى قولان : أحدهما : آدم وحواء ؛ قاله ابن عباس والحسن والكلبي. الثاني : يعني جميع الذكور والإناث من بني آدم والبهائم ؛ لأن اللّه تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم. وقيل : كل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية اللّه وطاعته. {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} هذا جواب القسم. والمعنى : إن عملكم لمختلف. وقال عكرمة وسائر المفسرين : السعي : العمل ؛ فساع في فكاك نفسه ، وساع في عطبها ؛ يدل عليه قوله عليه السلام : "الناس غاديان : فمبتاع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها" . وشتى : واحده شتيت ؛ مثل مريض ومرضى. وإنما قيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه. أي إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض ؛ لأن بعضه ضلالة وبعضه هدى. أي فمنكم مؤمن وبر ، وكافر وفاجر ، ومطيع وعاص. وقيل : {لَشَتَّى} أي لمختلف الجزاء ؛ فمنكم مثاب بالجنة ، ومعاقب بالنار. وقيل : أي لمختلف الأخلاق ؛ فمنكم راحم وقاس ، وحليم وطائش ، وجواد وبخيل ؛ وشبه ذلك. 5- {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} 6- {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} 7- {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} 8- {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} 9- {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} 10- {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} فيه أربع مسائل : الأولى- قوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} قال ابن مسعود : يعني أبا بكر رضي اللّه عنه ؛ وقال عامة المفسرين. فروى عن عامر بن عبدالله بن الزبير قال : كان أبو بكر يعتق على الإسلام عجائز ونساء ، قال : فقال له أبوه قحافة : أي بني لو أنك أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون معك ؟ فقال : يا أبت إنما أريد ما أريد. وعن ابن عباس في قوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} أي بذل. {وَاتَّقَى} أي محارم اللّه التي نهى عنها. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي بالخلف من اللّه تعالى على عطائه. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا" . وروى من حديث أبي الدرداء : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "ما من يوم غربت شمسه إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق اللّه كلهم إلا الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا" فأنزل اللّه تعالى في ذلك في القرآن {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} ... الآيات. وقال أهل التفسير : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} المعسرين. وقال قتاده : أعطى حق اللّه تعالى الذي عليه. وقال الحسن : أعطى الصدق من قلبه. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي بلا إله إلا اللّه ؛ قاله الضحاك والسلمي وابن عباس أيضا. وقال مجاهد : بالجنة ؛ دليله قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ... الآية. وقال قتادة : بموعود اللّه الذي وعده أن يثيبه. زيد بن أسلم : بالصلاة والزكاة والصوم. الحسن : بالخلف من عطائه ؛ وهو اختيار الطبري. وتقدم عن ابن عباس ، وكله متقارب المعنى ؛ إذ كله يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة. الثانية- قوله تعالى : {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} أي نرشده لأسباب الخير والصلاح ، حتى يسهل عليه فعلها. وقال زيد بن أسلم : {لِلْيُسْرَى} للجنة. وفي الصحيحين والترمذي عن علي رضي اللّه عنه قال : كنا في جنازة بالبقيع ، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فجلس وجلسنا معه ، ومعه عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : "ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مدخلها" فقال القوم : يا رسول اللّه ، أفلا نتكل على كتابنا ؟ فمن كان من أهل السعادة فانه يعمل للسعادة ، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء. قال : "بل" اعملوا فكل ميسر ؛ أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر لعمل الشقاء - ثم قرأ - {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} لفظ الترمذي. وقال فيه : حديث حسن صحيح. وسأل غلامان شابان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا : العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ؟ أم في شيء يستأنف ؟ فقال عليه السلام : "بل فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير" قالا : ففيم العمل ؟ قال : "اعملوا ، فكل ميسر لعمل الذي خلق له" قالا : فالآن نجد ونعمل. الثالثة- قوله تعالى : {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} أي ضن بما عنده ، فلم يبذل خيرا. وقد تقدم بيانه وثمرته في الدنيا في سورة "آل عمران" . وفي الآخرة مآله النار ، كما في هذه الآية. روى الضحاك عن ابن عباس {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} قال : سوف أحول بينه وبين الإيمان باللّه وبرسوله. وعنه عن ابن عباس قال : نزلت في أمية بن خلف وروى عكرمة عن ابن عباس : "وأما من بخل واستغنى" يقول : بخل بماله ، واستغنى ربه. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي بالخلف. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} قال : بالجنة. وبإسناد عنه آخر قال {بِالْحُسْنَى} أي بلا إله إلا اللّه. {فَسَنُيَسِّرُهُ} أي نسهل طريقه... {لِلْعُسْرَى} أي للشر. وعن ابن مسعود : للنار. وقيل : أي فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها. وقد تقدم أن الملك ينادي صباحا ومساء : "اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا" . رواه أبو الدرداء. مسألة : قال العلماء : ثبت بهذه الآية وبقوله : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، وقوله : {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً } إلى غير ذلك من الآيات - أن الجود من مكارم الأخلاق ، والبخل من أرذلها. وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء ، ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع ، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء ، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء ، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا فهو الجواد. وكل من استحق بالمنع ذما أو عقابا فهو البخيل. ومن لم يستفد بالعطاء أجرا ولا حمدا ، وإنما استوجب به ذما فليس بجواد ، وإنما هو مسوف مذموم ، وهو من المبذرين الذين جعلهم اللّه إخوان الشياطين ، وأوجب الحجر عليهم. ومن لم يستوجب بالمنع عقابا ولا ذما ، واستوجب به حمدا ، فهو من أهل الرشد ، الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم ، بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم. قال الفراء : يقول القائل : كيف قال : {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} وهل في العسرى تيسير ؟ فيقال في الجواب : هذا في إجازته بمنزلة قوله عز وجل : {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} والبشارة في الأصل على المفرح والسار ، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر ، جاءت البشارة فيهما. وكذلك التيسير في الأصل على المفرح ، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر ، جاء التيسير فيهما جميعا. قال الفراء : وقوله تعالى : {فَسَنُيَسِّرُهُ} : سنهيئه. والعرب تقول : قد يسرت الغنم : إذا ولدت أو تهيأت للولادة. قال : هما سيدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا أن يسرت غنماهما 11- {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} 12- {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} 13- {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} قوله تعالى : {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} أي مات. يقال : ردي الرجل يردي ردي : إذا هلك. قال : صرفت الهوى عنهن من خشية الردى وقال أبو صالح وزيد بن أسلم : {إِذَا تَرَدَّى } : سقط في جهنم ؛ ومنه المتردية. ويقال : ردي في البئر وتردى : إذا سقط في بئر ، أو تهور من جبل. يقال : ما أدري أين ردي ؟ أي أين ذهب. و {ما} : يحتمل أن تكون جحدا ؛ أي ولا يغني عنه ماله شيئا ؛ ويحتمل أن تكون استفهاما معناه التوبيخ ؛ أيْ أيّ شيء يغني عنه إذا هلك ووقع في جهنم! {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة. فالهدى : بمعنى بيان الأحكام ، قاله الزجاج. أي على اللّه البيان ، بيان حلال وحرامه ، وطاعته ومعصيته ؛ قال قتادة. وقال الفراء : من سلك الهدى فعلى اللّه سبيله ؛ لقوله : {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} يقول : من أراد اللّه فهو على السبيل القاصد. وقيل : معناه إن علينا للهدى والإضلال ، فترك الإضلال ؛ كقوله : {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ، و {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} . وكما قال : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وهي تقي البرد ؛ عن الفراء أيضا. وقيل : أي إن علينا ثواب هداه الذي هديناه. {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} {لَلْآخِرَةَ} الجنة. {وَالْأُولَى} الدنيا. وكذا روى عطاء عن ابن عباس. أي الدنيا والآخرة لله تعالى. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : ثواب الدنيا والآخرة ، وهو كقوله تعالى : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق. 14- {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} 15- {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} 16- {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} قوله تعالى : {فَأَنْذَرْتُكُمْ} أي حذرتكم وخوفتكم. {نَاراً تَلَظَّى} أي تلهب وتتوقد وأصله تتلظى. وهي قراءة عبيد بن عمير ، ويحيى بن يعمر ، وطلحة بن مصرف. {لا يَصْلاهَا} أي لا يجد صلاها وهو حرها. {إِلَّا الْأَشْقَى} أي الشقي. {الَّذِي كَذَّبَ} نبي اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم. {وَتَوَلَّى} أي أعرض عن الإيمان. وروى مكحول عن أبي هريرة قال : كل يدخل الجنة إلا من أباها. قال : يا أبا هريرة ، ومن يأبىّ أن يدخل الجنة ؟ قال : الذي كذب وتولى. وقال مالك : صلى بنا عمر بن عبدالعزيز المغرب ، فقرأ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فلما بلغ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} وقع عليه البكاء ، فلم يقدر يتعداها من البكاء ، فتركها وقرأ سورة أخرى. وقال : الفراء : {إِلَّا الْأَشْقَى} إلا من كان شقيا في علم اللّه جل ثناؤه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} أمية بن خلف ونظراؤه الذين كذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم. وقال قتادة : كذب بكتاب اللّه ، وتولى عن طاعة اللّه. وقال الفراء : لم يكن كذب برد ظاهر ، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة ؛ فجعل تكذيبا ، كما تقول : لقي فلان العدو فكذب : إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال : وسمعت أبا ثروان يقول : إن بني نمير ليس لجدهم مكذوبة. يقول : إذا لقوا صدقوا القتال ، ولم يرجعوا. وكذلك قوله جل ثناؤه : {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} يقول : هي حق. وسمعت سلم بن الحسن يقول : سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول : هذه الآية التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء ، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر ؛ لقوله جل ثناؤه : {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وليس الأمر كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها ، لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى. ولأهل النار منازل ؛ فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ؛ واللّه سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب فجائز أن يعذب به. وقال جل ثناؤه : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فلو كان كل من لم يشرك لم يعذب ، لم يكن في قوله : {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فائدة ، وكان {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} كلاما لا معنى له. الزمخشري : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل : الأشقى ، وجعل مختصا بالصلى ، كأن النار لم تخلق إلا له وقيل : الأتقى ، وجعل مختصا بالجنة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له وقيل : هما أبو جهل أو أمية بن خلف. وأبو بكر رضي اللّه عنه. 17- {سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} 18- {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} قوله تعالى : {سَيُجَنَّبُهَا} أي يكون بعيدا منها. {الْأَتْقَى} أي المتقي الخائف. قال ابن عباس : هو أبو بكر رضي اللّه عنه ، يزحزح عن دخول النار. ثم وصف الأتقى فقال : "الذي يؤتي ماله يتزكى" أي يطلب أن يكون عند اللّه زاكيا ، ولا يطلب بذلك رياء ولا سمعة ، بل يتصدق به مبتغيا به وجه اللّه تعالى. وقال بعض أهل المعاني : أراد بقوله {الْأَتْقَى} و {الْأَشْقَى} أي التقي والشقي ؛ كقول طرفة : تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد أي واحد ووحيد ؛ وتوضع (أفعل) موضع فعيل ، نحو قولهم : اللّه أكبر بمعنى كبير ، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} بمعنى هين. 19- {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} 20- {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} 21- {وَلَسَوْفَ يَرْضَى } قوله تعالى : {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} أي ليس يتصدق ليجازي على نعمة ، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى ، أي المتعالي {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي بالجزاء. فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال : عذب المشركون بلالا ، وبلال يقول أحد أحد ؛ فمر به النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : "أحد - يعني اللّه تعالى - ينجيك" ثم قال لأبي بكر : "يا أبا بكر إن بلالا يعذب في اللّه" فعرف أبو بكر الذي يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فانصرف إلى منزله ، فأخذ رطلا من ذهب ، ومضى به إلى أمية بن خلف ، فقال له : أتبيعني بلالا ؟ قال : نعم ؛ فاشتراه فأعتقه. فقال المشركون : ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده ؛ فنزلت {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ} أي عند أبي بكر {مِنْ نِعْمَةٍ} ، أي من يد ومنة ، {تُجْزَى} بل {ابْتِغَاءَ} بما فعل {وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} . وقيل : اشترى أبو بكر من أمية وأبي بن خلف بلالا ، ببردة وعشر أواق ، فأعتقه لله ، فنزلت : {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} . وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر : أتبيعنيه ؟ فقال : نعم ، أبيعه بنسطاس ، وكان نسطاس عبدا لأبي بكر ، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش ، وكان مشركا ، فحمله أبو بكر على الإسلام ، على أن يكون ماله ، فأبىّ ، فباعه أبو بكر به. فقال المشركون : ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده ؛ فنزلت "وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء" أي لكن ابتغاء ؛ فهو استثناء منقطع ؛ فلذلك نصبت. كقولك : ما في الدار أحد إلا حمارا. ويجوز الرفع. وقرأ يحيى بن وثاب {إلا ابتغاء وجه ربه} بالرفع ، على لغة من يقول : يجوز الرفع في المستثنى. وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم : أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها ... إلا الجاذر والظلمان تختلف وقول القائل : وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس وفي التنزيل : {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ} وقد تقدم. {وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} أي مرضاته وما يقرب منه. و {الْأَعْلَى} من نعت الرب الذي استحق صفات العلو. ويجوز أن يكون {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} مفعولا له على المعنى ؛ لأن معنى الكلام : لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه ، لا لمكافأة نعمته. {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي سوف يعطيه في الجنة ما يرضي ؛ وذلك أنه يعطيه أضعاف ما أنفق. وروى أبو حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "رحم اللّه أبا بكر زوجني ابنته ، وحملني إلى دار الهجرة ، وأعتق بلالا من ماله" . ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال : هل اشتريتني لعملك أو لعمل اللّه ؟ قال : بل لعمل اللّه قال : فذرني وعمل اللّه ، فأعتقه. وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا رضي اللّه عنه. وقال عطاء - وروى عن ابن عباس - : إن السورة نزلت في أبي الدحداح ؛ في النخلة التي اشتراها بحائط له ، فيما ذكر الثعلبي عن عطاء. وقال القشيري عن ابن عباس : بأربعين نخلة ؛ ولم يسم الرجل. قال عطاء : كان لرجل من الأنصار نخلة ، يسقط من بلحها في دار جار له ، فيتناول صبيانه ، فشكا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم. "تبيعها بنخلة في الجنة" ؟ فأبى ؛ فخرج فلقيه أبو الدحداح فقال : هل لك أن تبيعنيها بـ "حسنى" : حائط له. فقال : هي لك. فأتى أبو الدحداح إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقال : يا رسول اللّه ، اشترها مني بنخلة في الجنة. قال : "نعم ، والذي نفسي بيده" فقال : هي لك يا رسول اللّه ؛ فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم جار الأنصاري ، فقال : "خذها" فنزلت {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} "يعني أبا الدحداح. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي بالثواب. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} : يعني الجنة." {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} يعني الأنصاري. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي بالثواب. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ، يعني جهنم. {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} أي مات. إلى قوله : {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} يعني بذلك الخزرجي ؛ وكان منافقا ، فمات على نفاقه. {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} يعني أبا الدحداح. {الذي يؤتي ماله يتزكى} في ثمن تلك النخلة. {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} يكافئه عليها ؛ يعني أبا الدحداح. {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} إذا أدخله اللّه الجنة. والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي اللّه عنه. وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبدالله بن الزبير وغيرهم. وقد ذكرنا خبرا آخر لأبي الدحداح في سورة "البقرة" ، عند قوله : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} . واللّه تعالى أعلم. https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (20) سُورَةُ الضحى من صــ 91 الى صــ100 الحلقة (765) سورة الضحى بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ مكية باتفاق. وهي إحدى عشر آية 1- {وَالضُّحَى} 2- {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} 3- {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} قوله تعالى : {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} قد تقدم القول في {الضُّحَى} ، والمراد به النهار ؛ لقوله : {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} فقابله بالليل. وفي سورة الأعراف {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي نهارا. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق : أقسم بالضحى الذي كلم اللّه فيه موسى ، وبليلة المعراج. وقيل : هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا. بيانه قوله تعالى : {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} . وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله : فيه إضمار ، مجازه ورب الضحى. و {سَجَى} معناه : سكن ؛ قال قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال : ليلة ساجية أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها : ساجية. يقال : سجا الليل يسجو سجوا : إذا سكن. والبحر إذا سجا : سكن. قال الأعشى : فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج ما يواري الدعامصا وقال الراجز : يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج وقال جرير : ولقد رمينك يوم رحن بأعين ... ينظرن من خلل الستور سواجي وقال الضحاك : {سَجَى} غطى كل شيء. قال الأصمعي : سجو الليل : تغطيته النهار ؛ مثلما يسجى الرجل بالثوب. وقال الحسن : غشى بظلامه ؛ وقال ابن عباس. وعنه : إذا ذهب. وعنه أيضا : إذا أظلم. وقال سعيد بن جبير : أقبل ؛ وروي عن قتادة أيضا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : {سَجَى} استوى. والقول الأول أشهر في اللغة : {سَجَى} سكن ؛ أي سكن الناس فيه. كما يقال : نهار صائم ، وليل قائم. وقيل : سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال : {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} : يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى ، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم. ويقال : {وَالضُّحَى} : يعني نور الجنة إذا تنور. {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} : يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال : {وَالضُّحَى} : يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} : يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل ؛ فأقسم اللّه عز وجل بهذه الأشياء. قوله تعالى : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال المشركون : قلاه اللّه وودعه ؛ فنزلت الآية. وقال ابن جريج : احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس : خمسة عشر يوما. وقيل : خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل : أربعين يوما. فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه ، ولو كان أمره من اللّه لتابع عليه ، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء. وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا ؛ فجاءت امرأة فقالت : يا محمد ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ؛ فأنزل اللّه عز وجل {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وفي الترمذي عن جندب البجلي قال : كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في غار فدميت إصبعه ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "هل أنت إلا إصبع دميت ،" وفي سبيل اللّه ما لقيت "! قال : وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون : قد ودع محمد ؛ فأنزل اللّه تبارك وتعالى : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي :" فلم يقم ليلتين أو ثلاثا "أسقطه الترمذي. وذكره البخاري ، وهو أصح ما قيل في ذلك. واللّه أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي ، قال : رُمي النبي صلى اللّه عليه وسلم في إصبعه بحجر ، فدميت ، فقال :" هل أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل اللّه ما لقيت "فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، لم اره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ؛ فنزلت {وَالضُّحَى} . وروى عن أبي عمران الجوني ، قال : أبطأ جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى شق عليه ؛ فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو ؛ فنكت بين كتفيه ، وأنزل عليه : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وقالت خولة - وكانت تخدم النبي صلى اللّه عليه وسلم - : إن جروا دخل البيت ، فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي. فقال :" يا خولة ، ما حدث في بيتي ؟ ما لجبريل لا يأتيني "قالت خولة فقلت : لو هيأت البيت وكنسته ؛ فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فإذا جرو ميت ، فأخذته فألقيته خلف الجدار ؛ فجاء نبي اللّه ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال :" يا خولة دثريني "فأنزل اللّه هذه السورة. ولما نزل جبريل سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن التأخر فقال :" أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ". وقيل : لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال :" سأخبركم غدا ". ولم يقل إن شاء اللّه. فاحتبس عنه الوحي ، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأخبره بما سئل عنه. وفي هذه القصة نزلت {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وقيل : إن المسلمين قالوا : يا رسول اللّه ، مالك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال :" وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم - وفي رواية براجمكم - ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ". فنزل" جبريل بهذه السورة ؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "ما جئت حتى اشتقت إليك" فقال جبريل : "أنا كنت أشد إليك شوقا ، ولكني عبد مأمور" ثم أنزل عليه {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} {وَدَّعَكَ} بالتشديد : قراءة العامة ، من التوديع ، وذلك كتوديع المفارق. وروي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرآه {ودعك} بالتخفيف ، ومعناه : تركك. قال : وثم ودعنا آل عمرو وعامر ... فرائس أطراف المثقفة السمر واستعماله قليل. يقال : هو يدع كذا ، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد : لا يكادون يقولون ودع ولا وذر ، لضعف الواو إذا قدمت ، واستغنوا عنها بترك. قوله تعالى : {وَمَا قَلَى} أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف ، لأنه رأس آية. والقلى : البغض ؛ فإن فتحت القاف مددت ؛ تقول : قلاه يقليه قلى وقلاء. كما تقول : قريت الضيف أقريه قرى وقراء. ويقلاه : لغة طيء. وأنشد ثعلب : أيام أم الغمر لا نقلاها أي لا نبغضها. ونقلي أي نبغض. وقال : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت وقال امرؤ القيس : ولست بمقلي الخلال ولا قال وتأويل الآية : ما ودعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لأنه رأس آية ؛ كما قال عز وجل : {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} أي والذاكرات اللّه. 4- {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} 5- {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} روى سلمة عن ابن إسحاق قال : {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} أي ما عندي في مرجعك إلي يا محمد ، خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا. وقال ابن عباس : أري النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يفتح اللّه على أمته بعده ؛ فسر بذلك ؛ فنزل جبريل بقوله : {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . قال ابن إسحاق : الفلج في الدنيا ، والثواب في الآخرة. وقيل : الحوض والشفاعة. وعن ابن عباس : ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. رفعه الأوزاعي ، قال : حدثني إسماعيل بن عبيدالله ، عن علي بن عبدالله بن عباس ، عن أبيه قال : أري النبي صلى اللّه عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته ، فسر بذلك ؛ فأنزل اللّه عز وجل {وَالضُّحَى - إلى قوله تعالى - وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، فأعطاه اللّه جل ثناؤه ألف قصر في الجنة ، ترابها المسك ؛ في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. وعنه قال : رضي محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال السدي. وقيل : هي الشفاعة في جميع المؤمنين. وعن علي رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "يشفعني اللّه في أمتي حتى يقول اللّه سبحانه لي : رضيت يا محمد ؟ فأقول يا رب رضيت" . وفي صحيح مسلم عن ، عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا قول اللّه تعالى في إبراهيم : {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقول عيسى : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ، فرفع يديه وقال : "اللهم أمتي أمتي" وبكى. فقال اللّه تعالى لجبريل : "اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فسله ما يبكيك" فأتى جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فسأل فأخبره. فقال اللّه تعالى لجبريل : "اذهب إلى محمد ، فقل له : إن اللّه يقول لك : إنا سنرضيك في أمتك" ولا نسوءك ".وقال علي رضي اللّه عنه لأهل العراق : إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب اللّه تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} قالوا : إنا نقول ذلك. قال : ولكنا أهل البيت نقول : إن أرجى آية في كتاب اللّه قوله تعالى : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . وفي الحديث : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم :" إذا واللّه لا أرضى وواحد من أمتي في النار "." 6- {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} عدد سبحانه مننه على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً} لا أب لك قد مات أبوك. {فَآوَى} أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب ، فكفلك. وقيل لجعفر بن محمد الصادق : لم أوتم النبي صلى اللّه عليه وسلم من أبويه ؟ فقال : لئلا يكون لمخلوق عليه حق. وعن مجاهد : هو من قول العرب : درة يتيمة ؛ إذا لم يكن لها مثل. فمجاز الآية : ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك ، فآواك اللّه بأصحاب يحفظونك ويحوطونك. 7- {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة ، فهداك : أي أرشدك. والضلال هنا بمعنى الغفلة ؛ كقوله جل ثناؤه : {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} أي لا يغفل. وقال في حق نبيه : {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} وقال قوم : {ضَالاً} لم تكن تدري القرآن والشرائع ، فهداك اللّه إلى القرآن ، وشرائع الإسلام ؛ عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. وهو معنى قوله تعالى : {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} ، على ما بينا في سورة الشورى. وقال قوم : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} أي في قوم ضلال ، فهداهم اللّه بك. هذا قول الكلبي والفراء. وعن السدي نحوه ؛ أي ووجد قومك في ضلال ، فهداك إلى إرشادهم. وقيل : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} عن الهجرة ، فهداك إليها. وقيل : {ضَالاً} أي ناسيا شأن الاستئناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح - فأذكرك ؛ كما قال تعالى : " {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} . وقيل : ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها ؛ بيانه : {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ...} الآية. ويكون الضلال بمعنى الطلب ؛ لأن الضال طالب. وقيل : ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك ، فهداك إليه ؛ فيكون الضلال بمعنى التحير ؛ لأن الضال متحير. وقيل : ووجدك ضائعا في قومك ؛ فهداك إليه ؛ ويكون الضلال بمعنى الضياع. وقيل : ووجدك محبا للهداية ، فهداك إليها ؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة. ومنه قوله تعالى : {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} أي في محبتك. قال الشاعر :" هذا الضلال أشاب مني المفرقا ... العارضين ولم أكن متحققا عجبا لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا وقيل : {ضَالاً} في شعاب مكة ، فهداك وردك إلى جدك عبدالمطلب. قال ابن عباس : ضل النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو صغير في شعاب مكة ، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه ، فرده إلى جده عبدالمطلب ؛ فمن اللّه عليه بذلك ، حين رده إلى جده على يدي عدوه. وقال سعيد بن جبير : خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر ، فأخذ إبليس بزمام الناقة في ليلة ظلماء ، فعدل بها عن الطريق ، فجاء جبريل عليه السلام ، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند ، ورده إلى القافلة ؛ فمن اللّه عليه بذلك. وقال كعب : إن حليمة لما قضت حق الرضاع ، جاءت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لترده على عبدالمطلب ، فسمعت عند باب مكة : هنيئا لك يا بطحاء مكة ، اليوم يرد إليك النور والدين والبهاء والجمال. قالت : فوضعته لأصلح ثيابي ، فسمعت هدة شديدة ، فالتفت فلم أره ، فقلت : معشر الناس ، أين الصبي ؟ فقال : لم نر شيئا ؛ فصحت : وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه ، فقال : اذهبي إلى الصنم الأعظم ، فإن شاء أن يرده عليك فعل. ثم طاف الشيخ بالصنم ، وقبل رأسه وقال : يا رب ، لم تزل منتك على قريش ، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل ، فرده إن شئت. فانكب هبل على وجهه ، وتساقطت الأصنام ، وقالت : إليك عنا أيها الشيخ ، فهلاكنا على يدي محمد. فألقى الشيخ عصاه ، وارتعد وقال : إن لابنك ربا لا يضيعه ، فاطلبيه على مهل. فانحشرت قريش إلى عبدالمطلب ، وطلبوه في جميع مكة ، فلم يجدوه. فطاف عبدالمطلب بالكعبة سبعا ، وتضرع إلى اللّه أن يرده ، وقال : يا رب رد ولدي محمدا ... اردده ربي واتخذ عندي يدا يا رب إن محمد لم يوجدا ... فشمل قومي كلهم تبددا فسمعوا مناديا ينادي من السماء : معاشر الناس لا تضجوا ، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه ، وإن محمدا بوادي تهامة ، عند شجرة السمر. فسار عبدالمطلب هو وورقة بن نوفل ، فإذا النبي صلى اللّه عليه وسلم قائم تحت شجرة ، يلعب بالأغصان وبالورق. وقيل : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} ليلة المعراج ، حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق ، فهداك إلى ساق العرش. وقال أبو بكر الوراق وغيره : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} : تحب أبا طالب ، فهداك إلى محبة ربك. وقال بسام بن عبدالله : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} بنفسك لا تدري من أنت ، فعرفك بنفسك وحالك. وقال الجنيدي : ووجدك متحيرا في بيان الكتاب ، فعلمك البيان ؛ بيانه : {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية. {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} . وقال بعض المتكلمين : إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض ، لا شجر معها ، سموها ضالة ، فيهتدي بها إلى الطريق ؛ فقال اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} أي لا أحد على دينك ، وأنت وحيد ليس معك أحد ؛ فهديت بك الخلق إلي. قلت : هذه الأقوال كلها حسان ، ثم منها ما هو معنوي ، ومنها ما هو حسي. والقول الأخير أعجب إلي ؛ لأنه يجمع الأقوال المعنوية. وقال قوم : إنه كان على جملة ما كان القوم عليه ، لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال ؛ فأما الشرك فلا يظن به ؛ بل كان على مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة. وقال الكلبي والسدي : هذا على ظاهره ؛ أي وجدك كافرا والقوم كفار فهداك. وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة "الشورى" . وقيل : وجدك مغمورا بأهل الشرك ، فميزك عنهم. يقال : ضل الماء في اللبن ؛ ومنه {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} أي لحقنا بالتراب عند الدفن ، حتى كأنا لا نتميز من جملته. وفي قراءة الحسن {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} أي وجدك الضال فاهتدى بك ؛ وهذه قراءة على التفسير. وقيل : {وَوَجَدَكَ ضَالاً} لا يهتدي إليك قومك ، ولا يعرفون قدرك ؛ فهدى المسلمين إليك ، حتى آمنوا بك. 8- {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} أي فقيرا لا مال لك. {فَأَغْنَى} أي فأغناك بخديجة رضي اللّه عنها ؛ يقال : عال الرجل يعيل عيلة : إذا افتقر. وقال أحيحة بن الجلاح : فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يغيل أي يفتقر. وقال مقاتل : فرضاك بما أعطاك من الرزق. وقال الكلبي : قنعك بالرزق. وقال ابن عطاء : ووجدك فقير النفس ، فأغنى قلبك. وقال الأخفش : وجدك ذا عيال ؛ دليله "فأغنى" . ومنه قول جرير : الله أنزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل وقيل : وجدك فقيرا من الحجج والبراهين ، فأغناك بها. وقيل : أغناك بما فتح لك من الفتوح ، وأفاءه عليك من أموال الكفار. القشيري وفي هذا نظر ؛ لأن السورة مكية ، وإنما فرض الجهاد بالمدينة. وقراءة العامة {عَائِلاً} وقرأ ابن السميقع {عيلا} بالتشديد ؛ مثل طبيب وهين. 9- {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَر} ْ 10- {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} 11- {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} فيه أربع مسائل : الأولى- قوله تعالى : {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} أي لا تسلط عليه بالظلم ، ادفع إليه حقه ، واذكر يتمك ؛ قال الأخفش. وقيل : هما لغتان : بمعنى. وعن مجاهد {فَلا تَقْهَرْ} فلا تحتقر. وقرأ النخعي والأشهب العقيلي {تكهر} بالكاف ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود. فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره ، بظلمه وأخذ ماله. وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير اللّه تعالى ؛ فغلظ في أمره ، بتغليظ العقوبة على ظالمه. والعرب تعاقب بين الكاف والقاف. النحاس : وهذا غلط ، إنما يقال كهره : إذا اشتد عليه وغلظ. وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي ، حين تكلم في الصلاة برد السلام ، قال : فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه - يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فواللّه ما كهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني... الحديث. وقيل : القهر الغلبة. والكهر : الزجر. الثانية- ودلت الآية على اللطف باليتيم ، وبره والإحسان إليه ؛ حتى قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم. وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قسوة قلبه ؛ فقال : "إن أردت أن يلين ، فامسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين" . وفي الصحيح عن أبي هريرة : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين" . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (20) سُورَةُ التين من صــ 101 الى صــ110 الحلقة (766) وأشار بالسبابة والوسطى. ومن حديث ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ، فيقول اللّه تعالى لملائكته : يا ملائكتي ، من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب ، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم ، فيقول اللّه تعالى لملائكته : يا ملائكتي ، اشهدوا أن من أسكته وأرضاه ؟ أن أرضيه يوم القيامة" . فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه ، وأعطاه شيئا. وعن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من ضم يتيما فكان في نفقته ، وكفاه مؤونته ، كان له حجابا من النار يوم القيامة ، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة" . وقال أكثم بن صيفي : الأذلاء أربعة : النمام ، والكذاب ، والمديون ، واليتيم. الثالثة- قوله تعالى : {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أي لا تزجره ؛ فهو نهى عن إغلاط القول. ولكن رده ببذل يسير ، أو رد جميل ، واذكر فقرك ؛ قال قتادة وغيره. وروي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "لا يمنعن أحدكم السائل ، وأن يعطيه إذا سأل ، ولو رأى في يده قلبين من ذهب" . وقال إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السُّؤَّال : يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي : السائل بريد الآخرة ، يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "ردوا السائل ببذل يسير ، أو رد جميل ، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن ، ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم اللّه" . وقيل : المراد بالسائل هنا ، الذي يسأل عن الدين ؛ أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة ، وأجبه برفق ولين ؛ قاله سفيان. قال ابن العربي : وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم ، على الكفاية ؛ كإعطاء سائل البر سواء. وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث ، ويبسط رداءه لهم ، ويقول : مرحبا بأحبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وفي حديث أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول : مرحبا بوصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "إن الناس لكم تبع" وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون ، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا ". وفي رواية" يأتيكم رجال من قبل المشرق "... فذكره. و {الْيَتِيمَ} و {السَّائِلَ} منصوبان بالفعل الذي بعده ؛ وحق المنصوب أن يكون بعد الفاء ، والتقدير : مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم ، ولا تنهر السائل. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :" سألت ربي مسئلة وددت أني لم أسألها : قلت يا رب اتخذت إبراهيم خليلا ، وكلمت موسى تكليما ، وسخرت مع داود الجبال يسبحن ، وأعطيت فلانا كذا ؛ فقال عز وجل : ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك ؟ ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أوتك ما لم أوت أحدا قبلك : خواتيم سورة البقرة ، الم أتخذك خليلا ، كما اتخذت إبراهيم خليلا ؟ قلت بلى يا رب "" الرابعة- قوله تعالى : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي أنشر ما أنعم اللّه عليك بالشكر والثناء. والتحدث بنعم اللّه ، والاعتراف بها شكر. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد "وأما بنعمة ربك" قال بالقرآن. وعنه قال : بالنبوة ؛ أي بلغ ما أرسلت به. والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، والحكم عام له ولغيره. وعن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما قال : إذا أصبت خيرا ، أو عملت خيرا ، فحدث به الثقة من إخوانك. وعن عمرو بن ميمون قال : إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به ، يقول له : رزق اللّه من الصلاة البارحة وكذا وكذا. وكان أبو فراس عبدالله بن غالب إذا أصبح يقول : لقد رزقني اللّه البارحة كذا ، قرأت كذا ، وصليت كذا ، وذكرت اللّه كذا ، وفعلت كذا. فقلنا له : يا أبا فراس ، إن مثلك لا يقول هذا قال : يقول اللّه تعالى : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وتقولون أنتم : لا تحدث بنعمة اللّه ونحوه عن أيوب السختياني وأبي رجاء العطاردي رضي اللّه عنهم. وقال بكر بن عبدالله المزني قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "من أعطي خيرا فلم ير عليه ، سمي بغيض اللّه ، معاديا لنعم اللّه" . وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "من لم يشكو القليل ، لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس ، لم يشكر اللّه ، والتحدث بالنعم شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب" . وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال : كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا ، فرآني رث الثياب فقال : "ألك مال ؟" قلت : نعم ، يا رسول اللّه ، من كل المال. قال : "إذا آتاك اللّه مالا فلير أثره عليك" . وروى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : "إن اللّه جميل يحب الجمال ، ويجب أن يرى أثر نعمته على عبده" . فصل : يُكبر القارئ في رواية البزي عن ابن كثير - وقد رواه مجاهد عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : إذا بلغ آخر {وَالضُّحَى} كبر بين كل سورة تكبيرة ، إلى أن يختم القرآن ، ولا يصل آخر السورة بتكبيره ؛ بل يفصل بينهما بسكتة. وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أياما ، فقال ناس من المشركين : قد ودعه صاحبه وقلاه ؛ فنزلت هذه السورة فقال : "اللّه أكبر" . قال مجاهد : قرأت على ابن عباس ، فأمرني به ، وأخبرني به عن أبيّ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ولا يكبر في قراءة الباقين ؛ لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن. قلت : القرآن ثبت نقلا متواترا سوره وآياته وحروفه ؛ لا زيادة فيه ولا نقصان ؛ فالتكبير على هذا ليس بقرآن. فإذا كان بسم اللّه الرحمن الرحيم المكتوب في المصحف بخط المصحف ليس بقرآن ، فكيف بالتكبير الذي هو ليس بمكتوب. أما أنه ثبت سنة بنقل الآحاد ، فاستحبه ابن كثير ، لا أنه أوجبه فخطأ من تركه. ذكر الحاكم أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحافظ في كتاب المستدرك له على البخاري ومسلم : حدثنا أبو يحيى محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن يزيد ، المقرئ الإمام بمكة ، في المسجد الحرام ، قال : حدثنا أبو عبدالله محمد بن علي بن زيد الصائغ ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة : سمعت عكرمة بن سليمان يقول : قرأت على إسماعيل بن عبدالله بن قسطنطين ، فلما بلغت {وَالضُّحَى} قال لي كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم ، فإني قرأت على عبدالله بن كثير فلما بلغت {وَالضُّحَى} قال : كبر حتى تختم. وأخبره عبدالله بن كثير أنه قرأ على مجاهد ، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك ، وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أمره بذلك ، وأخبره أبيّ بن كعب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمره بذلك. هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. سورة ألم نشرح بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ مكية في قول الجميع. وهي ثماني آيات 1- {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شرح الصدر : فتحه ؛ أي ألم نفتح صدرك للإسلام. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : ألم نلين لك قلبك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : قالوا يا رسول اللّه ، أينشرح الصدر ؟ قال : "نعم وينفسح" . قالوا : يا رسول اللّه ، وهل لذلك علامة ؟ قال : "نعم التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاعتداد للموت ، قبل نزول الموت" . وقد مضى هذا المعنى في "الزمر" عند قوله تعالى : {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وروي عن الحسن قال : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} قال : مُلئ حكما وعلما. وفي الصحيح عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة - رجل من قومه - أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول : أحد الثلاثة فأٌتيت بطست من ذهب ، فيها ماء زمزم ، فشرح صدري إلى كذا وكذا" قال قتادة قلت : ما يعني ؟ قال : إلى أسفل بطني ، قال : "فاستخرج قلبي ، فغسل قلبي بماء زمزم ، ثم أعيد مكانه ، ثم حشي إيمانا وحكمة" . وفي الحديث قصة. وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "جاءني ملكان في صورة طائر ، معهما ماء وثلج ، فشرح أحدهما صدري ، وفتح" الآخر بمنقاره فيه فغسله ". وفي حديث آخر قال :" جاءني ملك فشق عن قلبي ، فاستخرج منه عذرة ، وقال : قلبك وكيع ، وعيناك بصيرتان ، وأذناك سميعتان ، أنت محمد رسول اللّه ، لسانك صادق ، ونفسك مطمئنة ، وخلقك قثم ، وأنت قيم ". قال أهل اللغة : قوله [وكيع] أي يحفظ ما يوضع فيه. يقال : سقاء وكيع ؛ أي قوي يحفظ ما يوضع فيه. واستوكعت معدته ، أي قويت وقوله : [قثم] أي جامع. يقال : رجل قثوم للخير ؛ أي جامع له. ومعنى {أَلَمْ نَشْرَحْ} قد شرحنا ؛ الدليل ؛ على ذلك قوله في النسق عليه : {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} ، فهذا عطف على التأويل ، لا على التنزيل ؛ لأنه لو كان على التنزيل لقال : ونضع عنك وزرك. فدل هذا على أن معنى {أَلَمْ نَشْرَحْ} : قد شرحنا. و {لم} جحد ، وفي الاستفهام طرف من الجحد ، وإذا وقع جحد ، رجع إلى التحقيق ؛ كقوله تعالى : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} . ومعناه : اللّه أحكم الحاكمين. وكذا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} . ومثله قول جرير يمدح عبدالملك بن مروان :" ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح المعنى : أنتم كذا. 2- {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} 3- {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} قوله تعالى : {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} أي حططنا عنك ذنبك. وقرأ أنس {وحللنا ، وحططنا} . وقرأ ابن مسعود : {وحللنا عنك وقرك} . هذه الآية مثل قوله تعالى : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . قيل : الجميع كان قبل النبوة. والوزر : الذنب ؛ أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية ؛ لأنه كان صلى اللّه عليه وسلم في كثير من مذاهب قومه ، وإن لم يكن عبد صنما ولا وثنا. قال قتادة والحسن والضحاك : كانت للنبي صلى اللّه عليه وسلم ذنوب أثقلته ؛ فغفرها اللّه له {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أي أثقله حتى سمع نقيضه ؛ أي صوته. وأهل اللغة يقولون : أنقض ، الحمل ظهر الناقة : إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل. وكذلك سمعت نقيض الرحل ؛ أي صريره. قال جميل : وحتى تداعت بالنقيض حباله ... وهمت بواني زوره أن تحطما بواني زوره : أي أصول صدره. فالوزر : الحمل الثقيل. قال المحاسبي : يعني ثقل الوزر لو لم يعف اللّه عنه. {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أي أثقله وأوهنه. قال : وإنما وصفت ذنوب ، الأنبياء بهذا الثقل ، مع كونها مغفورة ، لشدة اهتمامهم بها ، وندمهم منها ، وتحسرهم عليها. وقال السدي : {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} أي وحططنا عنك ثقلك. وهي في قراءة عبدالله بن مسعود {وحططنا عنك وقرك} . وقيل : أي حططنا عنك ثقل آثام الجاهلية. قال الحسين بن المفضل : يعني الخطأ والسهو. وقيل : ذنوب أمتك ، أضافها إليه لاشتغال قلبه. بها. وقال عبدالعزيز بن يحيى وأبو عبيدة : خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بها ، حتى لا تثقل عليك. وقيل : كان في الابتداء يثقل عليه الوحي ، حتى كاد يرمي نفسه من شاهق الجبل ، إلى أن جاءه جبريل وأراه نفسه ؛ وأزيل عنه ما كان يخاف من تغير العقل. وقيل : عصمناك عن احتمال الوزر ، وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس ؛ حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر من الأدناس. 4- {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال مجاهد : يعني بالتأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت : أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وروي عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : يقول له لا ذُكِرتُ إلا ذُكِرتَ معي في الأذان ، والإقامة والتشهد ، ويوم الجمعة على المنابر ، ويوم الفطر ، ويوم الأضحى : وأيام التشريق ، ويوم عرفة ، وعند الجمار ، وعلى الصفا والمروة ، وفي خطبة النكاح ، وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلا عبد اللّه جل ثناؤه ، وصدق بالجنة والنار وكل شيء ، ولم يشهد أن محمدا رسول اللّه ، لم ينتفع بشيء وكان كافرا. وقيل : أي أعلينا ذكرك ، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك ، وأمرناهم بالبشارة بك ، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه. وقيل : رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء ، وفي الأرض عند المؤمنين ، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود ، وكرائم الدرجات. 5- {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} 6- {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} أي إن مع الضيقة والشدة يسرا ، أي سعة وغنى. ثم كرر فقال : {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ، فقال قوم : هذا التكرير تأكيد للكلام ؛ كما يقال : ارم ارم ، اعجل اعجل ؛ قال اللّه تعالى : {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ونظيره في تكرار الجواب : بلى بلى ، لا لا. وذلك للإطناب والمبالغة ؛ قاله الفراء. ومنه قول الشاعر : هممت بنفسي بعض الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها وقال قوم : إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه ، فهو هو. وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره. وهما اثنان ، ليكون أقوى للأمل ، وأبعث على الصبر ؛ قاله ثعلب. وقال ابن عباس : يقول اللّه تعالى خلقت عسرا واحدا ، وخلقت يسرين ، ولن يغلب عسر يسرين. وجاء في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه السورة : أنه قال : "لن يغلب عسر يسرين" . وقال ابن مسعود : والذي نفسي بيده ، لو كان العسر في حجر ، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ؛ ولن يغلب عسر يسرين. وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم ، وما يتخوف منهم ؛ فكتب إليه عمر رضي اللّه عنهما : أما بعد ، فإنهم مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة ، يجعل اللّه بعده فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن اللّه تعالى يقول في كتابه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وقال قوم منهم الجرجاني : هذا قول مدخول ؛ لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل : إن مع الفارس سيفا ، إن مع الفارس سيفا ، أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنان. والصحيح أن يقال : إن اللّه بعث نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم مقلا مخفا ، فعيره المشركون بفقره ، حتى قالوا له : نجمع لك مالا ؛ فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره ؛ فعزاه اللّه ، وعدد نعمه عليه ، ووعده الغنى بقوله : {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر ؛ فإن مع ذلك العسر يسرا عاجلا ؛ أي في الدنيا. فأنجز له ما وعده ؛ فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن ، ووسع ذات يده ، حتى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل ، ويهب الهبات السنية ، ويعد لأهله قوت سنة. فهذا الفضل كله من أمر الدنيا ؛ وإن كان خاصا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء اللّه تعالى. ثم ابتدأ فضلا آخرا من الآخرة وفيه تأسية وتعزية له صلى اللّه عليه وسلم ، فقال مبتدئا : {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فهو شيء آخر. والدليل على ابتدائه ، تعريه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف. فهذا وعد عام لجميع المؤمنين ، لا يخرج أحد منه ؛ أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة. والذي في الخبر : "لن يغلب عسر يسرين" يعني العسر الواحد لن يغلبهما ، وإنما يغلب أحدهما إن غلب ، وهو يسر الدنيا ؛ فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة ، ولن يغلبه شيء. أو يقال : "إن مع العسر" وهو إخراج أهل مكة النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة {يُسْراً} ، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل ، مع عز وشرف. 7- {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} 8- {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قوله تعالى : {فَإِذَا فَرَغْتَ} قال ابن عباس وقتادة : فإذا فرغت من صلاتك {فَانْصَبْ} أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك. وقال ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وقال الكلبي : إذا فرغت من تبليغ الرسالة {فَانْصَبْ} أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. وقال الحسن وقتادة أيضا : إذا فرغت من جهاد عدوك ، فانصب لعبادة ربك. وعن مجاهد : {فَإِذَا فَرَغْتَ} من دنياك ، {فَانْصَبْ} في صلاتك. ونحوه عن الحسن. وقال الجنيد : إذا فرغت من أمر الخلق ، فاجتهد في عبادة الحق. قال ابن العربي : "ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية {فانصب} بكسر الصاد ، والهمز من أوله ، وقالوا : معناه : انصب الإمام الذي تستخلفه. وهذا باطل في القراءة ، باطل في المعنى ؛ لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يستخلف أحدا. وقرأها بعض : الجهال {فانصب} بتشديد الباء ، معناه : إذا فرغت من الجهاد ، فجد في الرجوع إلى بلدك.. وهذا باطل أيضا قراءة ، لمخالفة الإجماع ، لكن معناه صحيح ؛ لقوله صلى اللّه عليه وسلم :" السفر قطعة من العذاب ، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه ، فإذا قضى أحدكم نهمته ، فليعجل ، الرجوع إلى أهله ". وأشد الناس عذابا وأسوأهم مباء ومآبا ، من أخذ معنى صحيحا ، فركب عليه من قبل نفسه قراءة أو حديثا ، فيكون كاذبا على اللّه ، كاذبا على رسول ؛" ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا ". قال المهدوي : وروي عن أبي جعفر المنصور : أنه قرأ {ألم نشرح لك صدرك} بفتح الحاء ؛ وهو بعيد ، وقد يؤول على تقدير النون الخفيفة ، ثم أبدلت النون ألفا في الوقف ، ثم حمل الوصل على الوقف ، ثم حذف الألف. وأنشد عليه :" اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرس أراد : اضربن. وروي عن أبي السمال {فإذا فرغت} بكسر الراء ، وهي لغة فيه. وقرئ {فرغب} أي فرغب الناس إلى ما عنده. قال ابن العربي : روي عن شريح أنه مر بقوم يلعبون يوم عيد ، فقال ما بهذا أمر الشارع. وفيه نظر ، فإن الحبش كانوا يلعبون بالدرق والحراب في المسجد يوم العيد ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ينظر. ودخل أبو بكر في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على عائشة رضي اللّه عنها وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيان ؛ فقال أبو بكر : أبمزمور الشيطان في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فقال : "دعهما يا أبا بكر ، فإنه يوم عيد" . وليس يلزم الدؤوب على العمل ، بل هو مكراه للخلق. سورة التين بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ مكية في قول الأكثر. وقال ابن عباس وقتادة : هي مدنية ، وهي ثماني آيات. 1- {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فيه ثلاث مسائل : الأولى- قوله تعالى : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي : هو تينكم الذي تأكلون ، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت ؛ قال اللّه تعالى : {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} . وقال أبو ذر : أهدي للنبي صلى اللّه عليه وسلم سل تين ؛ فقال : "كلوا" وأكل منه. ثم قال : "لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه ، لأن فاكهة الجنة بلا عجم ، فكلوها فإنها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس" . وعن معاذ : أنه استاك بقضيب زيتون ، وقال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : "نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة ، يطيب الفم ، ويذهب بالحفر ، وهي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي" . وروي عن ابن عباس أيضا : التين : مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي ، والزيتون : مسجد بيت المقدس. وقال الضحاك : التين : المسجد الحرام ، والزيتون المسجد https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (20) سُورَةُ العلق من صــ 111 الى صــ120 الحلقة (767) الأقصى. ابن زيد : التين : مسجد دمشق ، والزيتون : مسجد بيت المقدس. قتادة : التين : الجبل الذي عليه دمشق : والزيتون : الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقال محمد بن كعب : التين : مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون : مسجد إيلياء. وقال كعب الأخبار وقتادة أيضا وعكرمة وابن زيد : التين : دمشق ، والزيتون : بيت المقدس. وهذا اختيار الطبري. وقال الفراء : سمعت رجلا من أهل الشام يقول : التين : جبال ما بين حلوان إلى همذان ، والزيتون : جبال الشام. وقيل : هما جبلان بالشام ، يقال لهما طور زيتا وطور تينا بالسريانية سميا بذلك لأنهما ينبتانهما. وكذا روى أبو مكين عن عكرمة ، قال : التين والزيتون : جبلان بالشام. وقال النابغة : . ..أتين التين عن عرض وهذا اسم موضع. ويجوز أن يكون ذلك على حذف مضاف ؛ أي ومنابت التين والزيتون. ولكن لا دليل على ذلك من ظاهر التنزيل ، ولا من قول من لا يجوز خلافه ؛ قاله النحاس. الثانية- وأصح هذه الأقوال الأول ؛ لأنه الحقيقة ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل. وإنما أقسم اللّه بالتين ، لأنه كان ستر آدم في الجنة ؛ لقوله تعالى : {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} وكان ورق التين. وقيل : أقسم به ليبين وجه المنة العظمى فيه ؛ فإنه جميل المنظر ، طيب المخبر ، نشر الرائحة ، سهل الجني ، على قدر المضغة. وقد أحسن القائل فيه : انظر إلى التين في الغصون ضحى ... ممزق الجلد مائل العنق كأنه رب نعمة سلبت ... فعاد بعد الجديد في الخلق أصغر ما في النهود أكبره ... لكن ينادى عليه في الطرق وقال آخر : التين يعدل عندي كل فاكهة ... إذا انثنى مائلا في غصنه الزاهي مخمش الوجه قد سالت حلاوته ... كأنه راكع من خشية الله وأقسم بالزيتون لأنه مثل به إبراهيم في قوله تعالى : {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وهو أكثر أُدَم أهل الشام والمغرب ؛ يصطبغون به ، ويستعملونه في طبيخهم ، ويستصبحون به ، ويداوي به أدواء الجوف والقروح والجراحات ، وفيه منافع كثيرة. وقال عليه السلام : "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة" . وقد مضى في سورة "المؤمنون" القول فيه. الثالثة- قال ابن العربي ولامتنان البارئ سبحانه ، وتعظيم المنة في التين ، وأنه مقتات مدخر فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه. وإنما فرّ كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه ، تقية جور الولاة ؛ فإنهم يتحاملون في الأموال الزكاتية ، فيأخذونها مغرما ، حسب ما أنذر به الصادق صلى اللّه عليه وسلم. فكره العلماء أن يجعلوا لهم سبيلا إلى مال آخر يتشططون فيه ، ولكن ينبغي للمرء أن يخرج عن نعمة ربه ، بأداء حقه. وقد قال الشافعي لهذه العلة وغيرها : لا زكاة في الزيتون. والصحيح وجوب الزكاة فيهما. 2- {وَطُورِ سِينِينَ} روى ابن أبي نجيح عن مجاهد "وَطُور" قال : جبل. "سِينِينَ" قال : مبارك بالسريانية. وعن عكرمة عن ابن عباس قال : {طُور} جبل ، و {سِينِينَ} ، حسن. وقال قتادة : سينين هو المبارك الحسن. وعن عكرمة قال : الجبل الذي نادى اللّه جل ثناؤه منه موسى عليه السلام. وقال مقاتل والكلبي : {سِينِينَ} كل جبل فيه شجر مثمر ، فهو سينين وسيناء ؛ بلغة النبط وعن عمرو بن ميمون قال : صليت مع عمر بن الخطاب العشاء بمكة ، فقرأ والتين والزيتون. وطور سيناء. وهذا البلد الأمين قال : وهكذا هي في قراءة عبدالله ؛ ورفع صوته تعظيما للبيت. وقرأ في الركعة الثانية : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} و {لإيلاف قريش} جمع بينهما. ذكره ابن الأنباري. النحاس : وفي قراءة عبدالله {سناء} (بكسر السين) ، وفي حديث عمرو بن ميمون عن عمر (بفتح السين) . وقال الأخفش : {طُور} جبل. و {سِينِينَ} شجر واحدته سينينية. وقال أبو علي : {سِينِينَ} فعليل ، فكررت اللام التي هي نون فيه ، كما كررت في زحليل : للمكان الزلق ، وكرديدة : للقطعة من التمر ، وخنذيد : للطويل. ولم ينصرف {سِينِينَ} كما لم ينصرف سيناء ؛ لأنه جعل اسما لبقعة أو أرض ، ولو جعل اسما للمكان أو للمنزل أو اسم مذكر لانصرف ؛ لأنك سميت مذكرا بمذكر. وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام والأرض المقدسة ، وقد بارك اللّه فيهما ؛ كما قال : {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } . 3- {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} يعني مكة. سماه أمينا لأنه آمن ؛ كما قال : {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} فالأمين : بمعنى الآمن ؛ قال الفراء وغيره. قال الشاعر : ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني ... حلفت يمينا لا أخون أميني يعني : آمني. وبهذا احتج من قال : إنه أراد بالتين دمشق ، وبالزيتون بيت المقدس. فأقسم اللّه بجبل دمشق ، لأنه مأوى عيسى عليه السلام ، وبجبل بيت المقدس ، لأنه مقام الأنبياء عليهم السلام ، وبمكة لأنها أثر إبراهيم ودار محمد صلى اللّه عليه وسلم. 4- {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} 5- {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} فيه مسألتان : الأولى- قوله تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} هذا جواب القسم ، وأراد بالإنسان : الكافر. قيل : هو الوليد بن المغيرة. وقيل : كلدة بن أسيد. فعلى هذا نزلت في منكري البعث. وقيل : المراد بالإنسان آدم وذريته. {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وهو اعتداله واستواء شبابه ؛ كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون ؛ لأنه خلق كل شيء منكبا عل وجهه ، وخلقه هو مستويا ، وله لسان ذلق ، ويد وأصابع يقبض بها. وقال أبو بكر بن طاهر : مُزيناً بالعقل ، مُؤدياً للأمر ، مَهدياً بالتمييز ، مديد القامة ؛ يتناول مأكوله بيده. ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن اللّه خلقه حيا عالما ، قادرا مريدا متكلما ، سميعا بصيرا ، مدبرا حكيما. وهذه صفات الرب سبحانه ، وعنها عبر بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله : "إن اللّه خلق آدم على صورته" يعني عل صفاته التي قدمنا ذكرها. وفي رواية "على صورة الرحمن" ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة ، فلم يبق إلا أن تكون معاني. وقد أخبرنا المبارك بن عبدالجبار الأزدي قال : أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال : كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما : أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر ؛ فنهضت واحتجبت عنه ، وقالت : طلقتني. وبات بليلة عظيمة ، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور ، فأخبره الخبر ، وأظهر للمنصور جزعا عظيما ؛ فاستحضر الفقهاء واستفتاهم. فقال جميع من حضر : قد طلقت ؛ إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة ، فإنه كان ساكتا. فقال له المنصور : ما لك لا تتكلم ؟ فقال له الرجل : بسم اللّه الرحمن الرحيم : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . يا أمير المؤمنين ، فالإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه. فقال المنصور لعيسى ابن موسى : الأمر كما قال الرجل ، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل : أن أطيعي زوجك ولا تعصيه ، فما طلقك. فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللّه باطنا وظاهرا ، جمال هيئة ، وبديع تركيب الرأس بما فيه ، والصدر بما جمعه ، والبطن بما حواه ، والفرج وما طواه ، واليدان وما بطشتاه ، والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة : إنه العالم الأصغر ؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه. قوله تعالى : {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي إلى أرذل العمر ، وهو الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، حتى يصير كالصبي في الحال الأول ؛ قاله الضحاك والكلبي وغيرهما. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلى النار ، يعني الكافر ، وقال أبو العالية. وقيل : لما وصفه اللّه بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها ، طغى وعلا ، حتى قال : {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وحين علم اللّه هذا من عبده ، وقضاؤه صادر من عنده ، رده أسفل سافلين ؛ بأن جعله مملوءا قذرا ، مشحونا نجاسة ، وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا ، على وجه الاختيار تارة ، وعلى وجه الغلبة أخرى ، حتى ، إذا شاهد ذلك من أمره ، رجع إلى قدره. وقرأ عبدالله {أسفل السافلين} . وقال ؛ {أسفل سافلين} على الجمع ؛ لأن الإنسان في معنى جمع ، ولو قال : أسفل سافل جاز ؛ لأن لفظ الإنسان واحد. وتقول : هذا أفضل قائم. ولا تقول أفضل قائمين ؛ لأنك تضمر لواحد ، فإن كان الواحد غير مضمر له ، رجع اسمه بالتوحيد والجمع ؛ كقوله تعالى : {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وقوله تعالى : {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} وقد قيل : إن معنى {رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي رددناه إلي الضلال ؛ كما قال تعالى : {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي إلا هؤلاء ، فلا يردون إلى ذلك. والاستثناء على قول من قال {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} النار ، متصل. ومن قال : إنه الهرم فهو منقطع. 6- {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قوله تعالى : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنه تكتب لهم حسناتهم ، وتمحى عنهم سيئاتهم ؛ قاله ابن عباس. قال : وهم الذين أدركهم الكبر ، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم. وروى الضحاك عنه قال : إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة ، ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه ؛ أجرى اللّه عز وجل له ما كان يعمل في شبابه. وفي حديث قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إذا سافر العبد أو مرض كتب اللّه له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا" . وقيل : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنه لا يخرف ولا يهرم ، ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به. وعن عاصم الأحول عن عكرمة قال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وروي عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال "طوبى لمن طال عمره وحسن عمله" . وروي : إن العبد المؤمن إذا مات أمر اللّه ملكيه أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة ، ويكتب له ذلك. {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال الضحاك : أجر بغير عمل. وقيل مقطوع. 7- {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} قيل : الخطاب للكافر ؛ توبيخا وإلزاما للحجة. أي إذا عرفت أيها الإنسان أن اللّه خلقك في أحسن تقويم ، وأنه يردك إلى أرذل العمر ، وينقلك من حال إلى حال ؛ فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء ، وقد أخبرك محمد صلى اللّه عليه وسلم به ؟ وقيل : الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ؛ أي استيقن مع ما جاءك من اللّه عز وجل ، أنه أحكم الحاكمين. روي معناه عن قتادة. وقال قتادة أيضا والفراء : المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين. واختاره الطبري. كأنه قال : فمن يقدر على ذلك ؛ أي على تكذيبك بالثواب والعقاب ، بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان والدين والجزاء. قال الشاعر : دنا تميما كما كانت أوائلنا ... دانت أوائلهم في سالف الزمن 8- {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أي أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق. وقيل : {بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قضاء بالحق ، وعدلا بين الخلق. وفيه تقدير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم. وألف الاستفهام إذا دخلت عل النفي وفي الكلام معنى التوقيف صار إيجابا ، كما قال : ألستم خير من ركب المطايا وقيل : {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} : منسوخة بآية السيف. وقيل : هي ثابتة ؛ لأنه لا تنافي بينهما. وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما إذا قرأ : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قالا : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين ؛ فيختار ذلك. واللّه أعلم. ورواه الترمذي عن أبي هريرة قال : من قرأ سورة {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فقرأ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين. واللّه أعلم. سورة العلق وهي تسع عشرة آيات وهي مكية بإجماع ، وهي أول ما نزل من القرآن ، في قول أبي موسى وعائشة رضي الله عنهما. بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ 1- {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} هذه السورة أول ما نزل من القرآن ؛ في قول معظم المفسرين. نزل بها جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو قائم على حراء ، فعلمه خمس آيات من هذه السورة. وقيل : إن أول ما نزل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، قاله جابر بن عبدالله ؛ وقد تقدم. وقيل : فاتحة الكتاب أول ما نزل ؛ قاله أبو ميسرة الهمداني. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : أول ما نزل من القرآن {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} والصحيح الأول. قالت عائشة : أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا الصادقة ؛ فجاءه الملك فقال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} خرجه البخاري. وفي الصحيحين عنها قالت : أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، يتحنث فيه الليالي ذوات العدد ، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ؛ ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ؛ حتى فجئه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : {اقْرَأْ} فقال : "ما أنا بقارئ - قال - فأخذني فغطني ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني" فقال : {اقْرَأْ} فقلت : "ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني" ، فقال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} "الحديث بكامله. وقال أبو رجاء العطاردي : وكان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد : مسجد البصرة ، فيقعدنا حلقا ، فيقرئنا القرآن ؛ فكأني أنظر إليه بين ثوبين له أبيضين ، وعنه أخذت هذه السورة : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وكانت أول سورة أنزلها اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم. وروت عائشة رضي اللّه عنها أنها أول سورة أنزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم بعدها {نْ وَالْقَلَمِ} ، ثم بعدها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ثم بعدها {وَالضُّحَى} ذكره الماوردي. وعن الزهري : أول ما نزل سورة : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ - إلى قوله - مَا لَمْ يَعْلَمْ} فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجعل يعلو شواهق الجبال ، فأتاه جبريل فقال له : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فرجع إلى خديجة وقال :" دثروني وصبوا عليّ ماء باردا "فنزل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ." ومعنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اقرأ ما أنزل إليك من القرآن مفتتحا باسم ربك ، وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كل سورة. فمحل الباء من {بِاسْمِ رَبِّكَ} النصب على الحال. وقيل : الباء بمعنى على ، أي اقرأ على اسم ربك. يقال : فعل كذا باسم اللّه ، وعلى اسم اللّه. وعلى هذا فالمقروء محذوف ، أي اقرأ القرآن ، وافتتحه باسم اللّه. وقال قوم : اسم ربك هو القرآن ، فهو يقول : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } أي اسم ربك ، والباء زائدة ؛ كقوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} ، وكما قال : سود المحاجر لا يقرأن بالسور أراد : لا يقرأن السور. وقيل : معنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اذكر اسمه. أمره أن يبتدئ القراءة باسم اللّه. 2- {خلق الإنسان من علق} قوله تعالى : "خلق الإنسان" "خلق الإنسان" يعني ابن آدم. "من علق" أي من دم ؛ جمع علقة ، والعلقة الدم الجامد ؛ وإذا جرى فهو المسفوح. وقال : "من علق" فذكره بلفظ الجمع ؛ لأنه أراد بالإنسان الجمع ، وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة : قطعة من دم رطب ، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه ، فإذا جفت لم تكن علقة. قال الشاعر : تركناه يخر على يديه ... يمج عليهما علق الوتين وخص الإنسان بالذكر تشريفا له. وقيل : أراد أن يبين قدر نعمته عليه ، بأن خلقه من علقة مهينة ، حتى صار بشرا سويا ، وعاقلا مميزا. 3- {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} قوله تعالى : {اقْرَأْ} تأكيد ، وتم الكلام ، ثم استأنف فقال : {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي الكريم. وقال الكلبي : يعني الحليم عن جهل العباد ، فلم يعجل بعقوبتهم. والأول أشبه بالمعنى ، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه ، دل بها على كرمه. وقيل : {اقْرَأْ وَرَبُّكَ} أي اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك ، وإن كنت غير القارئ. و {الْأَكْرَمُ} بمعنى المتجاوز عن جهل العباد. 4- {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} فيه ثلاث مسائل : الأولى- قوله تعالى : {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يعني الخط والكتابة ؛ أي علم الإنسان الخط بالقلم. وروى سعيد عن قتادة قال : القلم نعمة من اللّه تعالى عظيمة ، لولا ذلك لم يقم دين ، ولم يصلح عيش. فدل على كمال كرمه سبحانه ، بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة ، لما فيه من المنافع العظيمة ، التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ، ولا كتب اللّه المنزلة إلا بالكتابة ؛ ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. وسمي قلما لأنه يقلم ؛ أي يقطع ، ومنه تقليم الظفر. وقال بعض الشعراء المحدثين يصف القلم : فكأنه والحبر يخضب رأسه ... شيخ لوصل خريدة يتصنع لم لا ألاحظه بعين جلالة ... وبه إلى الله الصحائف ترفع وعن عبدالله بن عمر قال : يا رسول اللّه ، أأكتب ما أسمع منك من الحديث ؟ قال : "نعم فاكتب ، فإن اللّه علم بالقلم" . وروى مجاهد عن أبي عمر قال : خلق اللّه عز وجل أربعة أشياء بيده ، ثم قال لسائر الحيوان : كن فكان : القلم ، والعرش ، وجنة عدن ، وآدم عليه السلام. وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه آدم عليه السلام ؛ لأنه أول من كتب ، قاله كعب الأحبار. الثاني : أنه إدريس ، وهو أول من كتب. قال الضحاك. الثالث : أنه أدخل كل من كتب بالقلم ؛ لأنه ما علم إلا بتعليم اللّه سبحانه ، وجمع بذلك نعمته عليه في خلقه ، وبين نعمته عليه في تعليمه ؛ استكمالا للنعمة عليه. https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (20) سُورَةُ القدر من صــ 121 الى صــ130 الحلقة (768) الثانية- صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من حديث أبي هريرة ، قال : "لما خلق اللّه الخلق كتب في كتابه - فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب عضبي" . وثبت عنه عليه السلام أنه قال : "أول ما خلق اللّه : القلم ، فقال له اكتب ، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة ، فهو عنده في الذكر فوق عرشه" . وفي الصحيح من حديث ابن مسعود : أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة ، بعث اللّه إليها ملكا فصورها ، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ، ثم يقول ، يا رب ، أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أجله ، فيقول ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول يا رب رزقه ، ليقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده ، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص ، وقال تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} " قال علماؤنا : فالأقلام في الأصل ثلاثة : القلم الأول : الذي خلقه اللّه بيده ، وأمره أن يكتب. والقلم الثاني : أقلام الملائكة ، جعلها اللّه بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والأعمال. والقلم الثالث : أقلام الناس ، جعلها اللّه بأيديهم ، يكتبون بها كلامهم ، ويصلون بها مآربهم. وفي الكتابة فضائل جمة. والكتابة من جملة البيان ، والبيان مما اختص به الآدمي. الثالثة- قال علماؤنا : كانت العرب أقل الخلق معرفة بالكتاب ، وأقل العرب معرفة به المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ؛ صرف عن علمه ، ليكون ذلك أثبت لمعجزته ، وأقوى في حجته ، وقد مضى هذا مبينا في سورة "العنكبوت" . وروى حماد بن سلمة عن الزبير بن عبدالسلام ، عن أيوب بن عبدالله الفهري ، عن عبدالله بن مسعود ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "لا تسكنوا نساءكم الغرف ، ولا تعلموهن الكتابة" . قال علماؤنا : وإنما حذرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك ، لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجل ؛ وليس في ذلك تحصين لهن ولا تستر. وذلك أنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجل ؛ فتحدث الفتنة والبلاء ؛ فحذرهم أن يجعلوا لهن غرفا ذريعة إلى الفتنة. وهو كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "ليس للنساء خير لهن من ألا يراهن الرجال ، ولا يرين الرجال" . وذلك أنها خلقت من الرجل ، فنهمتها في الرجل ، والرجل خلقت فيه الشهوة ، وجعلت سكنا له ، فغير مأمون كل واحد منهما في صاحبه. وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببا للفتنة ، وذلك إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى. والكتابة عين من العيون ، بها يبصر الشاهد الغائب ، والخط هو آثار يده. وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به اللسان ، فهو أبلغ من اللسان. فأحب رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن ينقطع عنهن أسباب الفتنة ؛ تحصينا لهن ، وطهارة لقلوبهن. 5- {عَلَّمَ الْإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} قيل : {الْإنْسَانَ} هنا آدم عليه السلام. علمه أسماء كل شيء ؛ حسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى : {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . فلم يبق شيء إلا وعلم سبحانه آدم اسمه بكل لغة ، وذكره آدم للملائكة كما علمه. وبذلك ظهر فضله ، وتبين قدره ، وثبتت نبوته ، وقامت حجة اللّه على الملائكة وحجته ، وامتثلت الملائكة الأمر لما رأت من شرف الحال ، ورأت من جلال القدرة ، وسمعت من عظيم الأمر. ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف ، وتناقلوه قوما عن قوم. وقد مضى هذا في سورة "البقرة" مستوفى والحمد لله. وقيل : {الْإنْسَانَ} هنا الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم ؛ دليله قوله تعالى : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} . وعلى هذا فالمراد بـ {وَعَلَّمَكَ} المستقبل ؛ فإن هذا من أوائل ما نزل. وقيل : هو عام لقوله تعالى : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} 6- {كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى} 7- {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} قوله تعالى : {كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى} ، قيل : إنه نزل في أبي جهل. وقيل : نزلت السورة كلها في أبي جهل ؛ نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الصلاة ؛ فأمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يصلي في المسجد ويقرأ باسم الرب. وعلى هذا فليست السورة من أوائل ما نزل. ويجوز أن يكون خمس آيات من أولها أول ما نزلت ، ثم نزلت البقية في شأن أبي جهل ، وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بضم ذلك إلى أول السورة ؛ لأن تأليف السور جرى بأمر من اللّه. ألا ترى أن قوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} آخر ما نزل ، ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل. و {كَلَّا} بمعنى حقا ؛ إذ ليس قبله شيء. والإنسان هنا أبو جهل. والطغيان : مجاوزة الحد في العصيان. {أَنْ رَآهُ} أي لأن رأى نفسه استغنى ؛ أي صار ذا مال وثروة. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون ، أتاه أبو جهل فقال : يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى ؛ فاجعل لنا جبال مكة ذهبا ، لعلنا نأخذ منها ، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال : "يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوه : فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة" . فعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن القوم لا يقبلون ذلك ؛ فكف عنهم إبقاء عليهم. وقيل : {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} بالعشيرة والأنصار والأعوان. وحذف اللام من قوله {أَنْ رَآهُ} كما يقال : إنكم لتطغون إن رأيتم غناكم. وقال الفراء : لم يقل رأى نفسه ، كما قيل قتل نفسه ؛ لأن رأى من الأفعال التي تريد اسما وخبرا ، نحو الظن والحسبان ، فلا يقتصر فيه على مفعول واحد. والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول : رأيتني وحسبتني ، ومتى تراك خارجا ، ومتى تظنك خارجا. وقرأ مجاهد وحميد وقنبل عن ابن كثير {أن رآه استغنى} بقصر الهمزة. الباقون {رآه} بمدها ، وهو الاختيار. 8- {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أي مرجع من هذا وصفه ، فنجازيه. والرجعى والمرجع والرجوع : مصادر ؛ يقال : رجع إليه رجوعا ومرجعا. ورجعى ؛ على وزن فعلى. 9- {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} 10- {عَبْداً إِذَا صَلَّى} قوله تعالى : {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} وهو أبو جهل {عَبْداً} وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم. فإن أبا جهل قال : إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه ؛ قاله أبو هريرة. فأنزل اللّه هذه الآيات تعجبا منه. وقيل : في الكلام حذف ؛ والمعنى : أمن هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة. 11- {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} 12- {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} أي أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على هذه الصفة ، أليس ناهيه عن التقوى والصلاة هالكا ؟ 13- {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 14- {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} يعني أبا جهل كذب بكتاب اللّه عز وجل ، وأعرض عن الإيمان. وقال الفراء : المعنى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} وهو على الهدى ، وأمر بالتقوى ، والناهي مكذب متول عن الذكر ؛ أي فما أعجب هذا! ثم يقول : ويله ألم يعلم أبو جهل بأن اللّه يرى ؛ أي يراه ويعلم فعله ؛ فهو تقرير وتوبيخ. وقيل : كل واحد من {أَرَأَيْتَ} بدل من الأول. و {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} الخبر. 15- {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} 16- {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} قوله تعالى : {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} أي أبو جهل عن أذاك يا محمد. {لَنَسْفَعاً} أي لنأخذن {بِالنَّاصِيَةِ} فلنذلنه. وقيل : لنأخذن بناصيته يوم القيامة ، وتطوى مع قدميه ، ويطرح في النار ، كما قال تعالى : {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} . فالآية - وإن كانت في أبي جهل - فهي عظة للناس ، وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة. وأهل اللغة يقولون : سفعت بالشيء : إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا. ويقال : سفع بناصية فرسه. قال : قوم إذا كثر الصياح رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع وقيل : هو مأخوذ من سفعته النار والشمس : إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد ؛ كما قال : أثافي سفعا في معرس مرجل ... ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع والناصية : شعر مقدم الرأس. وقد يعبر بها عن جملة الإنسان ؛ كما يقال : هذه ناصية مباركة ؛ إشارة إلى جميع الإنسان. وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته. وقال المبرد : السفع : الجذب بشدة ؛ أي لنجرن بناصيته إلى النار. وقيل : السفع الضرب ؛ أي لنلطمن وجهه. وكله متقارب المعنى. أي يجمع عليه الضرب عند الأخذ ؛ ثم يجر إلى جهنم. ثم قال على البدل : {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي ناصية أبي جهل كاذبة في قولها ، خاطئة في فعلها. والخاطئ معاقب مأخوذ. والمخطئ غير مأخوذ. ووصف الناصية بالكاذبة الخاطئة ، كوصف الوجوه بالنظر في قوله تعالى : {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . وقيل : أي صاحبها كاذب خاطئ ؛ كما يقال : نهاره صائم ، وليله قائم ؛ أي هو صائم في نهاره ، ثم قائم في ليله. 17- {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} 18- {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قوله تعالى : {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي أهل مجلسه وعشيرته ، فليستنصر بهم. {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} أي الملائكة الغلاط الشداد - عن ابن عباس وغيره - واحدهم زبني ؛ قاله الكسائي. وقال الأخفش : زابن. أبو عبيدة : زبنية. وقيل : زباني. وقيل : هو اسم للجمع ؛ كالأبابيل والعباديد. وقال قتادة : هم الشرط في كلام العرب. وهو مأخوذ من الزبن وهو الدفع ؛ ومنه المزابنة في البيع. وقيل : إنما سموا الزبانية لأنهم يعملون بأرجلهم ، كما يعملون بأيديهم ؛ حكاه أبو الليث السمرقندي - رحمه اللّه - قال : وروي في الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قرأ هذه السورة ، وبلغ إلى قوله تعالى : {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} قال أبو جهل : أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك. فقال اللّه تعالى : {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} فلما سمع ذكر الزبانية رجع فزعا ؛ فقيل له : خشيت منه قال لا ولكن رأيت عنده فارسا يهددني بالزبانية. فما أدري ما الزبانية ، ومال إلي الفارس ، فخشيت منه أن يأكلني. وفي الأخبار أن الزبانية رؤوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض ، فهم يدفعون الكفار في جهنم وقيل : إنهم أعظم الملائكة خلقا ، وأشدهم بطشا. والعرب تطلق هذا الاسم على من أشتد بطشه. قال الشاعر : مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى ... زبانية غلب عطام حلومها وعن عكرمة عن ابن عباس : {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "لو فعل لأخذته الملائكة عيانا" . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب. وروى عكرمة عن ابن عباس قال : مر أبو جهل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يصلي عند المقام ، فقال : ألم أنهك عن هذا يا محمد فأغلظ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛ فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني يا محمد ، واللّه إني لأكثر أهل الوادي هذا ناديا ؛ فأنزل اللّه عز وجل : {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال ابن عباس : واللّه لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب من ساعته. أخرجه الترمذي بمعناه ، وقال : حسن غريب صحيح. والنادي في كلام العرب : المجلس الذي ينتدي فيه القوم ؛ أي يجتمعون ، والمراد أهل النادي ؛ كما قال جرير : لهم مجلس صهب السبال أذلة وقال زهير : وفيهم مقامات حسان وجوههم وقال آخر : واستب بعدك يا كليب المجلس وقد ناديت الرجل أناديه إذا جالسته. قال زهير : وجار البيت والرجل المنادي ... أمام الحي عقدهما سواء 19- {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} قوله تعالى : {كَلَّا} أي ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل. {لا تُطِعْهُ} أي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة. {وَاسْجُدْ} أي صل لله {وَاقْتَرِبْ} أي تقرب إلى اللّه جل ثناؤه بالطاعة والعبادة. وقيل : المعنى : إذا سجدت فاقترب من اللّه بالدعاء. روى عطاء عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "أقرب ما يكون العبد من ربه ، وأحبه إليه ، جبهته في الأرض ساجدا لله" . قال علماؤنا : وإنما كان ذلك لأنها نهاية العبودية والذلة ؛ ولله غاية العزة ، وله العزة التي لا مقدار لها ؛ فكلما بعدت من صفته ، قربت من جنته ، ودنوت من جواره في داره. وفي الحديث الصحيح : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "أما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فإنه قمن أن يستجاب لكم" . ولقد أحسن من قال : وإذا تذللت الرقاب تواضعا ... منا إليك فعزها في ذلها وقال زيد بن أسلم : اسجد أنت يا محمد مصليا ، واقترب أنت يا أبا جهل من النار. قوله تعالى : {وَاسْجُدْ} هذا من السجود. يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة ، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة. قال ابن العربي : "والظاهر أنه سجود الصلاة" لقوله تعالى : {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى - إلى قوله - كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} ، لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم وغيره من الأئمة عن أبي هريرة أنه قال : سجدت مع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} سجدتين ، فكان هذا نصا على أن المراد سجود التلاوة. وقد روى ابن وهب ، عن حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، قال : عزائم السجود أربع : "ألم" و "حم تنزيل من الرحمن الرحيم" و "النجم" واقرأْ باسم ربك. وقال ابن العربي : وهذا إن صح يلزم عليه السجود الثاني من سورة "الحج" ، وإن كان مقترنا بالركوع ؛ لأنه يكون معناه اركعوا في موضع الركوع ، واسجدوا في موضع السجود. وقد قال ابن نافع ومطرف : وكان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة من {اقرأ باسم ربك} وابن وهب يراها من العزائم. قلت : وقد روينا من حديث مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن نافع عن ابن عمر قال : لما أنزل اللّه تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ : "اكتبها يا معاذ" فأخذ معاذ اللوح والقلم والنون - وهي الدواة - فكتبها معاذ ؛ فلما بلغ {كلا لا تطعه واسجد واقترب} سجد اللوح ، وسجد القلم ، وسجدت النون ، وهم يقولون : اللهم ارفع به ذكرا ، اللهم احطط به وزرا ، اللهم اغفر به ذنبا. قال معاذ : سجدت ، وأخبرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فسجد. ختمت السورة. والحمد لله على ما فتح ومنح وأعطى. وله الحمد والمنة. سورة القدر وهي مدنية في قول لأكثر المفسرين ؛ ذكره الثعلبي. وحكى الماوردي عكسه. قلت : وهي مدنية في قول الضحاك ، وأحد قولي ابن عباس. وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وهي خمس آيات. بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ 1- {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قوله تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} يعني القرآن ، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة ؛ لأن المعنى معلوم ، والقرآن كله كالسورة الواحدة. وقد قال : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقال : {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} يريد : في ليلة القدر. وقال الشعبي : المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل : بل نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر ، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، إلى بيت العزة ، وأملاه جبريل على السفرة ، ثم كان جبريل ينزله على النبي صلى اللّه عليه وسلم نجوما نجوما. وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة ؛ قاله ابن عباس ، وقد تقدم في سورة "البقرة" . وحكى الماوردي عن ابن عباس قال : نزل القرآن في شهر رمضان ، وفي ليلة القدر ، في ليلة مباركة ، جملة واحدة من عند اللّه ، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ؛ فنجمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة ، ونجمه جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم عشرين سنة. قال ابن العربي : "وهذا باطل ؛ ليس بين جبريل وبين اللّه واسطة ، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة" . قوله تعالى : {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قال مجاهد : في ليلة الحكم. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر} قال : ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير ؛ سمين بذلك لأن اللّه تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره ، إلى مثلها من السنة القابلة ؛ من أمر الموت والأجل والرزق وغيره. ويسلمه إلى مدبرات الأمور ، وهم أربعة من الملائكة : إسرافيل ، وميكائيل ، وعزرائيل ، وجبريل. عليهم السلام. وعن ابن عباس قال : يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت ، حتى الحاج. قال عكرمة : يكتب حاج بيت اللّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء أبائهم ، ما يغادر منهم أحد ، ولا يزاد فيهم. وقاله سعيد بن جبير. وقد مضى في أول سورة "الدخان" هذا المعنى. وعن ابن عباس أيضا : أن اللّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان ، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل : إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها ، من قولهم : لفلان قدر ؛ أي شرف ومنزلة. قال الزهري وغيره. وقيل : سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما ، وثوابا جزيلا. وقال أبو بكر الوراق : https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (20) سُورَةُ البينة من صــ 131 الى صــ140 الحلقة (769) سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها. وقيل : سميت بذلك لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر ، على رسول ذي قدر ، على أمة ذات قدر. وقيل : لأنه ينزل فيها ملائكة ذوي قدر وخطر. وقيل : لأن اللّه تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة. وقال سهل : سميت بذلك لأن اللّه تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين. وقال : الخليل : لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ؛ كقوله تعالى : {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق. 2- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر} 3- {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} قال الفراء : كل ما في القرآن من قوله تعالى : {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أدراه. وما كان من قوله : {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يدره. وقاله سفيان ، وقد تقدم. قوله تعالى : {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} بين فضلها وعظمها. وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل. وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر. واللّه أعلم. وقال كثير من المفسرين : أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقال أبو العالية : ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر. وقيل : عنى بألف شهر جميع الدهر ؛ لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء ؛ كما قال تعالى : {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني جميع الدهر. وقيل : إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدا حتى يعبد اللّه ألف شهر ، ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر ، فجعل اللّه تعالى لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم عبادة ليلة خيرا من ألف شهر كانوا يعبدونها. وقال أبو بكر الوراق : كان ملك سليمان خمسمائة شهر ، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر فصار ملكهما ألف شهر ؛ فجعل اللّه تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما. وقال ابن مسعود : إن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر ؛ فعجب المسلمون من ذلك ؛ فنزلت {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} الآية. {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل اللّه. ونحوه عن ابن عباس. وهب بن منبه : إن ذلك الرجل كان مسلما ، وإن أمه جعلته نذرا لله ، وكان من قرية قوم يعبدون الأصنام ، وكان سكن قريبا منها ؛ فجعل يغزوهم وحده ، ويقتل ويسبي ويجاهد ، وكان لا يلقاهم إلا بلحيي بعير ، وكان إذا قاتلهم وقاتلوه وعطش ، انفجر له من اللحيين ماء عذب ، فيشرب منه ، وكان قد أعطي قوة في البطش ، لا يوجعه حديد ولا غيره : وكان اسمه شمسون. وقال كعب الأحبار : كان رجلا ملكا في بني إسرائيل ، فعل خصلة واحدة ، فأوحى اللّه إلى نبي زمانهم : قل لفلان يتمنى. فقال : يا رب أتمنى أن أجاهد بمالي وولدي ونفسي ، فرزقه اللّه ألف ولد ، فكان يجهز الولد بماله في عسكر ، ويخرجه مجاهدا في سبيل ، اللّه ، فيقوم شهرا ويقتل ذلك الولد ، ثم يجهز آخر في عسكر ، فكان كل ولد يقتل في الشهر ، والملك مع ذلك قائم الليل ، صائم النهار ؛ فقتل الألف ولد في ألف شهر ، ثم تقدم فقاتل فقتل. فقال الناس : لا أحد يدرك منزلة هذا الملك ؛ فأنزل اللّه تعالى : {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} من شهور ذلك الملك ، في القيام والصيام والجهاد بالمال والنفس والأولاد في سبيل اللّه. وقال عليّ وعروة : ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم أربعة من بني إسرائيل ، فقال "عبدوا اللّه ثمانين سنة ، لم يعصوا طرفة عين" ؛ فذكر أيوب وزكريا ، وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون ؛ فعجب أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من ذلك. فأتاه جبريل فقال : يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا اللّه طرفة عين ، فقد أنزل اللّه عليك خيرا من ذلك ؛ ثم قرأ : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . فسر بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره : سمعت من أثق به يقول : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله ، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر ؛ فأعطاه اللّه تعالى ليلة القدر ، وجعلها خيرا من ألف شهر. وفي الترمذي. عن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أري بني أمية على منبره ، فساءه ذلك ؛ فنزلت {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، يعني نهرا في الجنة. ونزلت {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يملكها بعدك بنو أمية. قال القاسم بن الفضل الحداني : فعددناها ، فإذا هي ألف شهر ، لا تزيد يوما ، ولا تنقص يوما. قال : حديث غريب. 4- {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} قوله تعالى : {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} أي تهبط من كل سماء ، ومن سدرة المنتهى ؛ ومسكن جبريل على وسطها. فينزلون إلى الأرض ويؤمنون على دعاء الناس ، إلى وقت طلوع الفجر ؛ فذلك قوله تعالى : {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} {وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي جبريل عليه السلام. وحكى القشيري : أن الروح صنف من الملائكة ، جعلوا حفظة على سائرهم ، وأن الملائكة لا يرونهم ، كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل : هم أشرف الملائكة. وأقربهم من اللّه تعالى. وقيل : إنهم جند من جند اللّه عز وجل من غير الملائكة. رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعا ؛ ذكره الماوردي وحكى القشيري : قيل هم صنف من خلق اللّه يأكلون الطعام ، ولهم أيد وأرجل ؛ وليسوا ملائكة. وقيل : {وَالرُّوحُ} خلق عظيم يقوم صفا ، والملائكة كلهم صفا. وقيل : {وَالرُّوحُ} الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها ؛ دليله : {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي بالرحمة. {فِيهَا} أي في ليلة القدر. {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي بأمره. {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} أمر بكل أمر قدره اللّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل ؛ قاله ابن عباس ؛ كقوله تعالى : {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } أي بأمر اللّه. وقراءة العامة {تَنَزَّلُ} بفتح التاء ؛ إلا أن البزي شدد التاء. وقرأ طلحة بن مصرف وابن السميقع ، بضم التاء على الفعل المجهول. وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} . وروي عن ابن عباس أن معناه : من كل ملك ؛ وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة ، فيسلمون على كل امرئ مسلم. {فمن} بمعنى على. وعن أنس قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة ، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه تعالى" . 5- {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} قيل : إن تمام الكلام {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} ثم قال {سَلامٌ} . روي ذلك عن نافع وغيره ؛ أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي إلى طلوع الفجر. قال الضحاك : لا يقدر اللّه في تلك الليلة إلا السلامة ، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل : أي هي سلام ؛ أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وكذا قال مجاهد : هي ليلة سالمة ، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وروي مرفوعا. وقال الشعبي : هو تسليم الملائكة على أهل المساجد ، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر ؛ يمرون على كل مؤمن ، ويقولون : السلام عليك أيها المؤمن. وقيل : يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها. وقال قتادة : {سَلامٌ هِيَ} خير هي. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي إلى مطلع الفجر. وقرأ الكسائي وابن محيصن {مطلع} بكسر اللام ، الباقون بالفتح. والفتح والكسر : لغتان في المصدر. والفتح الأصل في فعل يفعل ؛ نحو المقتل والمخرج. والكسر على أنه مما شذ عن قياسه ؛ نحو المشرق والمغرب والمنبت والمسكن والمنسك والمحشر والمسقط والمجزر. حكى في ذلك كله الفتح والكسر ، على أن يراد به المصدر لا الاسم. وهنا ثلاث مسائل : الأولى : في تعيين ليلة القدر ؛ وقد اختلف العلماء في ذلك. والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين ؛ لحديث زر بن حبيش قال : قلت لأبي بن كعب : إن أخاك عبدالله ابن مسعود يقول : من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال : يغفر اللّه لأبي عبدالرحمن! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان ، وأنها ليلة سبع وعشرين ؛ ولكنه أراد ألا يتكل الناس ؛ ثم حلف لا يستثني : أنها ليلة سبع وعشرين. قال قلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال : بالآية التي أخبرنا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أو بالعلامة أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها. قال الترمذي : حديث حسن صحيح. وخرجه مسلم. وقيل : هي في شهر رمضان دون سائر العام ؛ قاله أبو هريرة وغيره. وقيل : هي في ليالي السنة كلها. فمن علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر ، لم يقع العتق والطلاق إلا بعد مضى سنة من يوم حلف. لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك ، ولم يثبت اختصاصها بوقت ؛ فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا بمضى حول. وكذلك العتق ؛ وما كان مثله من يمين أو غيره. وقال ابن مسعود : من يقم الحول يصبها ؛ فبلغ ذلك ابن عمر ، فقال : يرحم اللّه أبا عبدالرحمن! أما إنه علم أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان ، ولكنه أراد ألا يتكل الناس. وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة. وقيل عنه : إنها رفعت - يعني ليلة القدر - وأنها إنما كانت مرة واحدة ؛ والصحيح أنها باقية. وروي عن ابن مسعود أيضا : أنها إذا كانت في يوم من هذه السنة ، كانت في العام المقبل في يوم آخر. والجمهور على أنها في كل عام من رمضان. ثم قيل : إنها الليلة الأولى من الشهر ؛ قال أبو رزين العقيلي. وقال الحسن وابن إسحاق وعبدالله بن الزبير : هي ليلة سبع عشرة من رمضان ، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر. كأنهم نزعوا بقوله تعالى : {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} ، وكان ذلك ليلة سبع عشرة ، وقيل هي ليلة التاسع عشر. والصحيح المشهور : أنها في العشر الأواخر من رمضان ؛ وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي وأبي ثور وأحمد. ثم قال قوم : هي ليلة الحادي والعشرين. ومال إليه الشافعي رضي اللّه عنه ، لحديث الماء والطين ورواه أبو سعيد الخدري ، خرجه مالك وغيره. وقيل ليلة الثالث والعشرين ؛ لما رواه ابن عمر أن رجلا قال : يا رسول اللّه إني رأيت ليلة القدر في سابعة تبقى. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين ، فمن أراد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين" . قال معمر : فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيبا. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين" . قال عبدالله بن أنيس : فرأيته في صبيحة ليلة ثلاث وعشرين في الماء والطين ، كما أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : ليلة خمس وعشرين ؛ لحديث أبي سعيد الخدري : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "التمسوها في العشر. الأواخر في تاسعة تبقى ، في سابعه تبقى ، في خامسة تبقى" . رواه مسلم ، قال مالك : يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين ، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين ، والخامسة ليلة خمس وعشرين. وقيل : ليلة سبع وعشرين. وقد مضى دليله ، وهو قول علي رضي اللّه عنه وعائشة ومعاوية وأبيّ بن كعب. وروى ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "من كان متحريا ليلة القدر ، فليتحرها ليلة سبع وعشرين" . وقال أبيّ بن كعب : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين" . وقال أبو بكر الوراق : إن اللّه تعالى قسم ليالي هذا الشهر - شهر رمضان - على كلمات هذه السورة ، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال : هي وأيضا فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات ، وهي تسعة أحرف ، فتجيء سبعا وعشرين. وقيل : هي ليلة تسع وعشرين ؛ لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "ليلة القدر التاسعة" والعشرون - أو السابعة والعشرون - وأن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى ". وقد قيل : إنها في الأشفاع. قال الحسن : ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة ، فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها. يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة. وقيل إنها مستورة في جميع السنة ، ليجتهد المرء في إحياء جميع الليالي. وقيل : أخفاها في جميع شهر رمضان ، ليجتهدوا في العمل والعبادة ليالي شهر رمضان ، طمعا في إدراكها ، كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات ، واسمه الأعظم في أسمائه الحسنى ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة وساعات الليل ، وغضبه في المعاصي ، ورضاه في الطاعات ، وقيام الساعة في الأوقات ، والعبد الصالح بين العباد ؛ رحمة منه وحكمة." الثانية : في علاماتها : منها أن الشمس ، تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها. وقال الحسن قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في ليلة القدر : "إن من أماراتها : أنها ليلة سمحة بلجة ، لا حارة ولا باردة ، تطلع ، الشمس صبيحتها ليس لها شعاع" . وقال عبيد بن عمير : كنت ليلة السابع والعشرين في البحر ، فأخذت من مائه ، فوجدته عذبا سلسا. الثالثة : في فضائلها. وحسبك بقوله تعالى : {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وقوله تعالى : {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} وفي الصحيحين : "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه" رواه أبو هريرة. وقال ابن عباس : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إذا كان ليلة القدر ، تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى ، منهم جبريل ، ومعهم ألوية ينصب منها لواء على قبري ، ولواء على بيت المقدس ، ولواء على المسجد الحرام ، ولواء على طور سيناء ، ولا تدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا تسلم عليه ، إلا مدمن الخمر ، وآكل الخنزير ، والمتضمخ بالزعفران" : وفي الحديث : "إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها ، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل ولا شيء من الفساد ، ولا ينفذ فيها سحر ساحر" . وقال الشعبي : وليلها كيومها ، ويومها كليلها. وقال الفراء ؛ لا يقدر اللّه في ليلة القدر إلا السعادة والنعم ، ويقدر في غيرها البلايا والنقم ؛ وقد تقدم عن الضحاك. ومثله لا يقال من جهة الرأي ، فهو مرفوع. واللّه أعلم. وقال سعيد بن المسيب في الموطأ : "من شهد العشاء من ليلة القدر ، فقد أخذ بحظه منها" ، ومثله لا يدرك بالرأي. وقد روى عبيدالله بن عامر بن ربيعة : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : "من صلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر" ذكره الثعلبي في تفسيره. وقالت عائشة رضي اللّه عنها : قلت : يا رسول اللّه إن وافقت ليلة القدر فما أقول ؟ قال : "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" . سورة البينة "لم يكن" وهي مكية في قول يحيى بن سلام. ومدنية ؛ في قول ابن عباس والجمهور. وهي تسع آيات. وقد جاء في فضلها حديث لا يصح ، رويناه عن محمد بن محمد بن عبداللّه الحضرمي قال : قال لي أبو عبدالرحمن بن نمير : اذهب إلى أبي الهيثم الخشاب ، فاكتب عنه فإنه قد كتب ، فذهب إليه ، فقال : حدثنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه : "لو يعلم الناس ما في {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} لعطلوا الأهل والمال ، فتعلموها" فقال رجل من خزاعة : وما فيها من الأجر يا رسول اللّه ؟ قال : "لا يقرؤها منافق أبدا ، ولا عبد في قلبه شك في اللّه. واللّه إن الملائكة المقربين يقرؤونها منذ خلق اللّه السموات والأرض ما يفترون من قراءتها. وما من عبد يقرؤها إلا بعث اللّه إليه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ، ويدعون له بالمغفرة والرحمة" . قال الحضرمي : فجئت إلى أبي عبدالرحمن بن نمير ، فألقيت هذا الحديث عليه ، فقال : هذا قد كفانا مؤونته ، فلا تعد إليه. قال ابن العربي : "روى إسحاق بن بشر الكاهلي عن مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب : عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم :" لو يعلم الناس ما في {لم يكن} الذين كفروا لعطلوا الأهل والمال ولتعلموها ". حديث باطل ؛ وإنما الحديث الصحيح ما روي عن أنس : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بن كعب :" إن اللّه أمرني أن اقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال : وسماني لك قال : "نعم" فبكى. قلت : خرجه البخاري ومسلم. وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. قال بعضهم : إنما قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبيّ ، ليعلم الناس التواضع ؛ لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة. وقيل : لأن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛ فأراد بقراءته عليه ، أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه ، ويعلم غيره. وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ ؛ إذ أمر اللّه رسوله أن يقرأ عليه. قال أبو بكر الأنباري : وحدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد ؛ قال حدثنا علي بن الجعد ، قال حدثنا عكرمة عن عاصم عن زر بن حبيش قال : في قراءة أبيّ بن كعب : ابن آدم لو أعطي واديا من مال لالتمس ثانيا ولو أعطي واديين من مال لا لتمس ثالثا ، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب اللّه على من تاب. قال عكرمة. قرأ علي عاصم {لَمْ يَكُنِ} ثلاثين آية ، هذا فيها. قال أبو بكر : هذا باطل عند أهل العلم ، لأن قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متصلتان بأبيّ بن كعب ، لا يقرأ فيها هذا المذكور في {لَمْ يَكُنِ} مما هو معروف في حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، على أنه من كلام الرسول عليه السلام ، لا يحكيه عن رب العالمين في القرآن. وما رواه اثنان معهما الإجماع : أثبت مما يحكيه واحد مخالف مذهب الجماعة. بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ 1- {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} 2- {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً } 3- {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } قوله تعالى : {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} كذا قراءة العامة ، وخط المصحف. وقرأ ابن مسعود {لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين} وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربي : "وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة ؛ فقد قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم في رواية الصحيح {فطلقوهن لقبل عدتهن} وهو تفسير ؛ فإن التلاوة : هو ما كان في خط المصحف" . قوله تعالى : {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني اليهود والنصارى {وَالْمُشْرِكِينَ} في موضع جر عطفا على {أَهْلِ الْكِتَابِ} . قال ابن عباس {أَهْلِ الْكِتَابِ} : اليهود الذين كانوا بيثرب ، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع. والمشركون : الذين كانوا بمكة وحولها ، والمدينة والذين حولها ؛ وهم مشركو قريش. {مُنْفَكِّينَ} أي منتهين عن كفرهم ، مائلين عنه. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي أتتهم البينة ؛ أي محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا ، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء. وقيل : {مُنْفَكِّينَ} زائلين ؛ أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول : ما انفككت أفعل كذا : أي ما زلت. وما انفك فلان قائما. أي ما زال قائما. وأصل الفك : الفتح ؛ ومنه فك الكتاب ، وفك الخلخال ، وفك السالم. قال طرفة : فآليت لا ينفك كشحي بطانة ... لعضب رقيق الشفرتين مهند https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (20) سُورَةُ الزلزلة من صــ 141 الى صــ150 الحلقة (770) وقال ذو الرمة : حراجيج ما تنفك إلا مناخة ... على الخف أو نرمي بها بلدا قفرا يريد : ما تنفك مناخة ؛ فزاد "إلا" . وقيل : {مُنْفَكِّينَ} : بارحين ؛ أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا ، حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان : أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم ، حتى بعث ؛ فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ولهذا قال : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . .. الآية. وعلى هذا {وَالْمُشْرِكِينَ} أي ما كانوا يسيؤون القول في محمد صلى اللّه عليه وسلم ، حتى بعث ؛ فإنهم كانوا يسمونه. الأمين ، حتى أتتهم البينة على لسانه ، وبعث إليهم ، فحينئذ عادوه. وقال بعض اللغويين : {مُنْفَكِّينَ} هالكين من قولهم : أنفك صلا المرأة عند الولادة ؛ وهو أن ينفصل ، فلا يلتئم فتهلك المعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقال قوم في المشركين : إنهم من أهل الكتاب ؛ فمن اليهود من قال : عزير ابن اللّه. ومن النصارى من قال : عيسى هو اللّه. ومنهم من قال : هو ابنه. ومنهم من قال : ثالث ثلاثة. وقيل : أهل الكتاب كانوا مؤمنين ، ثم كفروا بعد أنبيائهم. والمشركون ولدوا على الفطرة ، فكفروا حين بلغوا. فلهذا قال : {وَالْمُشْرِكِينَ} وقيل : المشركون وصف أهل الكتاب أيضا ، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم ، وتركوا التوحيد. فالنصارى مثلثة ، وعامة اليهود مشبهة ؛ والكل شرك. وهو كقولك : جاءني العقلاء والظرفاء ؛ وأنت تريد أقواما بأعيانهم ، تصفهم بالأمرين. فالمعنى : من أهل الكتاب المشركين. وقيل : إن الكفر هنا هو الكفر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ؛ أي لم يكن الذين كفروا بمحمد من اليهود والنصارى ، الذين هم أهل الكتاب ، ولم يكن المشركون ، الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم - وهم الذين ليس لهم كتاب - منفكين. قال القشيري : وفيه بعد ؛ لأن الظاهر من {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أن هذا الرسول هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. فيبعد أن يقال : لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم منفكين حتى يأتيهم محمد ؛ إلا أن يقال : أراد : لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد - وإن كانوا من قبل معظمين له ، بمنتهين عن هذا الكفر ، إلى أن يبعث اللّه محمدا إليهم ويبين لهم الآيات ؛ فحينئذ يؤمن قوم. وقرأ الأعمش وإبراهيم {والمشركون} رفعا ، عطفا على {الذين} . والقراءة الأولى أبين ؛ لأن الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب. وفي حرف أبيّ : {فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين} . وفي مصحف ابن مسعود : {لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين} . وقد تقدم. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} قيل حتى أتتهم. والبينة : محمد صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى : {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أي بعيث من اللّه جل ثناؤه. قال الزجاج : {رَسُولٌ} رفع على البدل من {الْبَيِّنَةُ} . وقال الفراء : أي هي رسول من اللّه ، أو هو رسول من اللّه ؛ لأن البينة قد تذكر فيقال : بينتي فلان. وفي حرف أبيّ وابن مسعود {رسول} بالنصب على القطع. {يَتْلُو} أي يقرأ. يقال : تلا يتلو تلاوة {صُحُفاً} جمع صحيفة ، وهي ظرف المكتوب. {مُطَهَّرَةً} قال ابن عباس : من الزور ، والشك ، والنفاق ، والضلالة. وقال قتادة : من الباطل. وقيل : من الكذب ، والشبهات. والكفر ؛ والمعنى واحد. أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب ؛ ويدل عليه أنه كان يتلو عن ظهر قلبه ، لا عن كتاب ؛ لأنه كان أميا ، لا يكتب ولا يقرأ. و {مُطَهَّرَةً} : من نعت الصحف ؛ وهو كقوله تعالى : {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} ، فالمطهرة نعت للصحف في الظاهر ، وهي نعت لما في الصحف من القرآن. وقيل : {مُطَهَّرَةً} أي ينبغي ألا يمسها إلا المطهرون ؛ كما قال في سورة "الواقعة" حسب ما تقدم بيانه. وقيل : الصحف المطهرة : هي التي عند اللّه في أم الكتاب ، الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء من الكتب ؛ كما قال تعالى : {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} . قال الحسن : يعني الصحف المطهرة في السماء. {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي مستقيمة مستوية محكمة ؛ من قول العرب : قام يقوم : إذا استوى وصح. وقال بعض أهل العلم : الصحف هي الكتب ؛ فكيف قال في صحف فيها كتب ؟ فالجواب : أن الكتب هنا بمعنى الأحكام ؛ قال اللّه عز وجل : {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} بمعنى حكم. وقال صلى اللّه عليه وسلم : "واللّه لأقضين بينكما بكتاب اللّه" ثم قضى بالرجم ، وليس ذكر الرجم مسطورا في الكتاب ؛ فالمعنى : لأقضين بينكما بحكم اللّه تعالى. وقال الشاعر : وما الولاء بالبلاء فملتم ... وما ذاك قال الله إذ هو يكتب وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن ؛ فجعله كتبا لأنه يشتمل على أنواع من البيان. 4- {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} قوله تعالى : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي من اليهود والنصارى. خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين ؛ لأنهم مظنون بهم علم فاذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي أتتهم البينة الواضحة. والمعني به محمد صلى اللّه عليه وسلم ؛ أي القرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته. وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته ، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا ، فمنهم من كفر : بغيا وحسدا ، ومنهم من آمن ؛ كقوله تعالى : {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} وقيل : {الْبَيِّنَةُ} : البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل. قال العلماء : من أول السورة إلى قوله "قيمة" : حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين. وقوله : {وَمَا تَفَرَّقَ} : حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج. 5- {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} فيه ثلاث مسائل : الأولى- قوله تعالى : {وَمَا أُمِرُوا} أي وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} أي ليوحدوه. واللام في {لِيَعْبُدُوا} بمعنى "أن" ؛ كقوله : {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي أن يبين. و {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} و {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وفي حرف عبدالله : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا أن لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} . {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي العبادة ؛ ومنه قوله تعالى : {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} . وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات فإن الإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه اللّه تعالى لا غيره. الثانية- قوله تعالى : {حُنَفَاءَ} أي مائلين عن الأديان كلها ، إلى دين الإسلام ، وكان ابن عباس يقول : حنفاء : على دين إبراهيم عليه السلام. وقيل : الحنيف : من اختتن وحج ؛ قاله سعيد بن جبير. قال أهل اللغة : وأصله أنه تحنف إلى الإسلام ؛ أي مال إليه. الثالثة- قوله تعالى : {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} أي بحدودها في أوقاتها. {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أي يعطوها عند محلها. {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي ذلك الدين الذي أمروا به دين القيامة ؛ أي الدين المستقيم. وقال الزجاج : أي ذلك دين الملة المستقيمة. و {الْقَيِّمَةِ} : نعت لموصوف محذوف. أو يقال : دين الأمة القيمة بالحق ؛ أي القائمة بالحق. وفي حرف عبدالله {وذلك الدين القيم} . قال الخليل : "القيمة" جمع القيم ، والقيم والقائم : واحد. وقال الفراء : أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته ، لاختلاف اللفظين. وعنه أيضا : هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة. وقيل : الهاء راجعة إلى الملة أو الشريعة. وقال محمد بن الأشعث ، الطالقاني "القيمة" ها هنا : الكتب التي جرى ذكرها ، والدين مضاف إليها. 6- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} 7- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} {الْمُشْرِكِينَ} : معطوف على {الَّذِينَ} ، أو يكون مجرورا معطوفا على {أَهْلِ} {فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} قرأ نافع وابن ذكوان بالهمز على الأصل في الموضعين ؛ من قولهم : برأ اللّه الخلق ، وهو البارئ الخالق ، وقال : {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} . الباقون بغير همز ، وشد الياء عوضا منه. قال الفراء : إن أخذت البرية من البرى ، وهو التراب ، فأصله غير الهمز ؛ تقول منه : براه اللّه يبروه بروا ؛ أي خلقه. قال القشيري : ومن قال البرية من البرى ، وهو التراب ، قال : لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة. وقيل : البرية : من بريت القلم ، أي قدرته ؛ فتدخل فيه الملائكة. ولكنه قول ضعيف ؛ لأنه يجب منه تخطئة من همز. وقوله {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أي شر الخليقة. فقيل يحتمل أن يكون على التعميم. وقال قوم : أي هم شر البرية الذين كانوا في عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم ؛ كما قال تعالى : {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي على عالمي زمانكم. ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هو شر منهم ؛ مثل فرعون وعاقر ناقة صالح. وكذا {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} : إما على التعميم ، أو خير برية عصرهم. وقد استدل بقراءة الهمز من فضل بني آدم على الملائكة ، وقد مضى في سورة "البقرة" القول فيه. وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه : المؤمن أكرم على اللّه عز وجل من بعض الملائكة الذين عنده. 8- {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} قوله تعالى : {جَزَاؤُهُمْ} أي ثوابهم. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي خالقهم ومالكهم. {جَنَّاتُ} أي بساتين. {عَدْنٍ} أي إقامة. والمفسرون يقولون : {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بطنان الجنة ، أي وسطها ؛ تقول : عدن بالمكان يعدن [عدنا وعدونا] : أقام. ومعدن الشيء : مركزه ومستقره. قال الأعشى : وإن يستضافوا إلى حكمه ... يضافوا إلى راجح قد عدن {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} لا يظعنون ولا يموتون. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} أي رضي أعمالهم ؛ كذا قال ابن عباس. {وَرَضُوا عَنْهُ} أي رضوا هم بثواب اللّه عز وجل. {ذَلِكَ} أي الجنة. {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي خاف ربه ، فتناهى عن المعاصي. سورة الزلزلة مدنية ، في قول ابن عباس وقتادة. ومكبة ؛ في قول ابن مسعود وعطاء وجابر. وهي تسع آيات قال العلماء : وهذه السورة فضلها كثير ، وتحتوي على عظيم : روى الترمذي عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من قرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} عدلت له بنصف القرآن. ومن قرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عدلت له بربع القرآن ، ومن قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عدلت له بثلث القرآن" . قال : حديث غريب ، وفي الباب عن ابن عباس. وروي عن علي رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من قرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} أربع مرات ، كان كمن قرأ القرآن كله" . وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال : لما نزلت {إِذَا زُلْزِلَتِ} بكى أبو بكر ؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "لولا أنكم تخطئون وتذنبون ويغفر اللّه لكم ، لخلق أمة يخطئون ويذنبون ويغفر لهم ، إنه هو الغفور الرحيم" . بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ 1- {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} قوله تعالى : {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} أي حركت من أصلها. كذا روى عكرمة عن ابن عباس ، وكان يقول : في النفخة الأولى يزلزلها - وقال مجاهد - ؛ لقوله تعالى : {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ.تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} ثم تزلزل ثانية ، فتخرج موتاها وهي الأثقال. وذكر المصدر للتأكيد ، ثم أضيف إلى الأرض ؛ كقولك : لأعطينك عطيتك ؛ أي عطيتي لك. وحسن ذلك لموافقة رؤوس الآي بعدها. وقراءة العامة بكسر الزاي من الزلزال. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر بفتحها ، وهو مصدر أيضا ، كالوسواس والقلقال والجرجار. وقيل : الكسر المصدر. والفتح الاسم. 2- {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} قال أبو عبيدة والأخفش : إذا كان الميت في بطن الأرض ، فهو ثقل لها. وإذا كان قوقها ، فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد : {أَثْقَالَهَا} : موتاها ، تخرجهم في النفخة الثانية ، ومنه قيل للجن والإنس : الثقلان. وقالت الخنساء : أبعد ابن عمرو من آل الشر ... يد حلت به الأرض أثقالها تقول : لما دفن عمرو صار حلية لأهل القبور ، من شرفه وسؤدده. وذكر بعض أهل العلم قال : كانت العرب تقول : إذا كان الرجل سفاكا للدماء : كان ثقلا على ظهر الأرض ؛ فلما مات حطت الأرض عن ظهرها ثقلها. وقيل : {أَثْقَالَهَا} كنوزها ؛ ومنه الحديث : "تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة..." . 3- {وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا} قوله تعالى : {وَقَالَ الْأِنْسَانُ} أي ابن آدم الكافر. فروى الضحاك عن ابن عباس قال : هو الأسود بن عبد الأسد. وقيل : أراد كل إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى : من مؤمن وكافر. وهذا قول من جعلها في الدنيا من أشراط الساعة ؛ لأنهم لا يعلمون جميعا من أشراط الساعة في ابتداء أمرها ، حتى يتحققوا عمومها ؛ فلذلك سأل بعضهم بعضا عنها. وعلى قول من قال : إن المراد بالإنسان الكفار خاصة ، جعلها زلزلة القيامة ؛ لأن المؤمن معترف بها ، فهو لا يسأل عنها ، والكافر جاحد لها ، فلذلك يسأل عنها. {مَا لَهَا} أي ما لها زلزلت. وقيل : ما لها أخرجت أثقالها ، وهي كلمة تعجيب ؛ أي لأي شيء زلزلت. ويجوز أن يحيى اللّه الموتى بعد وقوع النفخة الأولى ، ثم تتحرك الأرض فتخرج الموتى وقد رأوا الزلزلة وانشقاق الأرض عن الموتى أحياء ، فيقولون من الهول : ما لها. 4- {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} 5- {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 6- {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} {يَوْمَئِذٍ} منصوب بقوله : {إِذَا زُلْزِلَتِ} . وقيل : بقوله {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ؛ أي تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر يومئذ. ثم قيل : هو من قول اللّه تعالى. وقيل : من قول الإنسان ؛ أي يقول الإنسان ما لها تحدث أخبارها ؛ متعجبا. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال : قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال : "أتدرون ما أخبارها" - قالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال : "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول عمل يوم كذا ، كذا وكذا. قال : فهذه أخبارها" . قال : هذا حديث حسن صحيح. قال الماوردي ، قوله : {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} : فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} بأعمال العباد على ظهرها ؛ قال أبو هريرة ، ورواه مرفوعا. وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة. الثاني : تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها ؛ قاله يحيى بن سلام. وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة. قلت : وفي هذا المعنى حديث رواه ابن مسعود عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنه قال : "إذا كان أجل العبد بأرض أوثبته الحاجة إليها ، حتى إذا بلغ أقصى أثره قبضه اللّه ، فتقول الأرض يوم القيامة : رب هذا ما استودعتني" . أخرجه ابن ماجه في سننه. وقد تقدم. الثالث : أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها ؟ قال ابن مسعود. فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى ، وأمر الآخرة قد أتى. فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم ، ووعيدا للكافر ، وإنذارا للمؤمن. وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل : أحدها : أن اللّه تعالى يقلبها حيوانا ناطقا ؛ فتتكلم بذلك. الثاني : أن اللّه تعالى يحدث فيها الكلام. الثالث : أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام. قال الطبري : تبين أخبارها بالرجة والزلزلة وإخراج الموتى. قوله تعالى : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي إنها تحدث أخبارها أوحي اللّه {لَهَا} ، أي إليها. والعرب تضع لام الصفة موضع "إلى" . قال العجاج يصف الأرض : وحى لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثبت وهذا قول أبي عبيدة : {أَوْحَى لَهَا} أي إليها. وقيل : {أَوْحَى لَهَا} أي أمرها ؛ قال مجاهد. وقال السدي : {أَوْحَى لَهَا} أي قال لها. وقال : سخرها. وقيل : المعنى يوم تكون الزلزلة ، وإخراج الأرض أثقالها ، تحدث الأرض أخبارها ؛ ما كان عليها من الطاعات والمعاصي ، وما عمل على ظهرها من خير وشر. وروي ذلك عن الثوري وغيره. قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} أي فرقا ؛ جمع شت. قيل : ءن موقف الحساب ؛ فريق يأخذ جهة اليمين إلى الجنة ، وفريق آخر يأخذ جهة الشمال إلى النار ؛ كما قال تعالى : {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} . وقيل : يرجعون عن الحساب بعد فراغهم من الحساب. {أَشْتَاتاً} يعني فرقا فرقا. {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يعني ثواب أعمالهم. وهذا كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : "ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه ، فإن كان محسنا فيقول : لم لا أزددت إحسانا ؟ وإن كان غير ذلك يقول : لم لا نزعت عن المعاصي" ؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب. وكان ابن عباس يقول : {أَشْتَاتاً} متفرقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حدة ، وأهل كل دين على حدة. وقيل : هذا الصدور ، إنما هو عند النشور ؛ يصدرون أشتاتا من القبور ، فيصار بهم إلى موقف الحساب ، ليروا أعمالهم في كتبهم ، أو ليروا جزاء أعمالهم ؛ فكأنهم وردوا القبور فدفنوا فيها ، ثم صدروا عنها. والوارد : الجائي. والصادر : المنصرف. {أَشْتَاتاً} أي يبعثون من أقطار الأرض. وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير ، مجازه : تحدث أخبارها ، بأن ربك أوحى لها ، ليروا أعمالهم. واعترض قوله {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} متفرقين عن موقف الحساب. وقراءة العامة {لِيُرَوْا} بضم الياء ؛ أي ليريهم اللّه أعمالهم. وقرأ الحسن والزهري وقتادة والأعرج ونصر بن عاصم وطلحة بفتحها ؛ وروي ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. 7- {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} 8- {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} فيه ثلاث مسائل : الأولى- قوله تعالى : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} كان ابن عباس يقول : من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا ، ولا يثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة ، مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات ، ويتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه ، ويضاعف له في الآخرة. وفي بعض الحديث : "الذرة لا زنة لها" وهذا مثل ضربه الله تعالى : أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة. وهو مثل قوله تعالى : https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
الساعة الآن : 08:06 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour