رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
قبول شاهدين عدلين في بقية الحدود والقصاص قال رحمه الله: [ويقبل في بقية الحدود والقصاص، وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالبا؛ كنكاح وطلاق ورجعة وخلع ونسب وولاء وإيصاء إليه يقبل فيه رجلان] . هذا كله بالنسبة للحدود من غير الزنا حتى ولو كان قتلا، فإذا شهد اثنان أن فلانا قتل فلانا، فتقبل شهادتهما بالشروط المعتبرة، وكذلك أيضا السرقة تقبل شهادة اثنين على السرقة، وكذلك على شخص أنه شرب الخمر والعياذ بالله! هذا بالنسبة للجرائم. أما بالنسبة للحقوق فإذا شهد اثنان على بيع أو إجارة أو هبة أو صدقة أو وصية أو نكاح أو غير ذلك، فكل هذا تقبل فيه شهادة الاثنين. قبول شهادة المرأة في الأموال دون الحدود والحكمة من ذلك قال رحمه الله: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه ونحوه رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي] . بالنسبة للحدود لا تقبل فيها شهادة النساء، ولا يقبل فيها شاهد ويمين، بل لا بد فيها من شهادة رجلين، كالسرقة، فإنه لا تثبت بشهادة أربع نسوة، ولا بامرأتين مع رجل، فلا تقبل فيها شهادة النساء، وهذا له حكمة، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له طلاب العلم؛ لأن كثيرا من أعداء الإسلام يتكلمون على الشريعة الإسلامية أنها تظلم المرأة، وشاهت وجوههم! فليس هناك شرع أتم ولا أكمل من شرع الله عز وجل، وهو الذي أعطى كل ذي حق حقه، ولذلك لا تقبل شهادة المرأة في الحدود لسبب، وتقبل شهادتها في الأموال وغيرها لسبب، ولو كان المراد أذية المرأة لما قبلت شهادتها مطلقا، ولكن قبلت شهادتها حيث غلب على الظن الوثوق بقولها، وردت حيث كان العكس. والمرأة في طبيعتها وجبلتها ليست كالرجل، يرضى من يرضى ويسخط من يسخط، والله تعالى يقول: {وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران:36] ، فهذا شرع الله ونص الله عز وجل على أن الذكر ليس كالأنثى، لا في التكاليف ولا في القدرة والتحمل والصفات، ولذلك جعل الله من الشرائع ما يختص بالرجال دون النساء، وهذا لا ينقص المرأة أبدا؛ بل هذا جاء من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، حيث لم يكلف ولم يحمل الإنسان إلا ما يطيق. والمرأة فيها ضعف، فقد خلقها الله ضعيفة، والله يخلق ما يشاء، يخلق القوي ويخلق الضعيف، وليس من حق الضعيف أن يقول: يا رب! لم خلقتني ضعيفا؟ بل عليه أن يرضى ويسلم، فقد خلق الرجل في الأصل، وخلق المرأة من الرجل، وجعل التكريم للرجل، فلا يستطع أحد أن يقول: لماذا فضل الله الرجل على المرأة؟ فإن فضله بتفضيل الله، فقد خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته. فالأصل في الخلقة هو الرجل، ثم جاءت المرأة تبعا للرجل، قال تعالى: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] ، وهذا يرضى به من يرضى ويسخط من يسخط؛ لأن هذا نص القرآن، وعلى الإنسان أن ينتبه وأن لا يجامل في دين الله، ولا بد أن يقول الحق، ولا يزال الإسلام غريبا، وسيأتي ما هو أغرب من ذلك، فهذا نص القرآن يبين أن الأصل في الخلقة هو الرجل، وأن المرأة خلقت من الرجل، وحق الرجل على المرأة عظيم. إذا ثبت هذا فالصفات الموجودة في المرأة ليست كالصفات الموجودة في الرجل، ولذلك تقدم معنا في القضاء وبيناه: أن من شروط القضاء: أن يكون رجلا؛ لأن المرأة ضعيفة فلا تتحمل القضاء؛ وذلك لقوله تعالى: {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف:18] أي: من الذي يتحلى ويتزين؟ إنه المرأة، وهذه طبيعتها، وهكذا خلقها الله لأجل أن يسكن إليها الرجل. {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف:18] ، فإذا حصلت خصومة فإنها لا تستطيع أن تبين عن نفسها، فكيف نجعلها قاضية تبين عن غيرها، وتتولى حقوق الناس وتقف فيها، وتجابه هذه المشاكل والمعضلات؟ قال تعالى: {وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف:18] انظر إلى طبيعة المرأة، إذا جاءت مشكلة، ووقفت في وجه زوجها ليس في وجه أجنبي، وأرادت أن تبين حجتها، فلا تستطيع أن تكمل كلامها، بمجرد أن تدخل في الحجة تجدها تقول: أنت ما تفهم، أنت ما تريدني، طلقني، لا أريدك، وإذا بها تدخل في أشياء خارجة عن المشكلة، فهي لا تستطيع أن تبين عن نفسها. وعندما نتكلم عن نقص المرأة قد يظن ظان أننا نريد أن نشمت بها لا؛ فإن هذه طبيعة تكوينها، وهكذا خلقت بالضعف الذي فيه رقة الأنوثة، وحنان الأنوثة؛ لكي تحتوي الرجل، وتكون للرجل كما شاء الله عز وجل بشيء يشرفها ولا يشينها؛ لأنها خلقة الله، فهي لا تلام على شيء خلقت له، ولو أن شخصا ضعيف لا يستطيع أن يبين، وعبناه، فهل نعيب المخلوق أم الخالق؟ معناه: أننا إذا عبناه كأننا نعيب الخالق والعياذ بالله! ولذلك لا نستهزئ ولا يجوز لأحد أن يستهزئ بهذا، إنما هذا شرع الله، وهذه النصوص وهذه الحقائق من الله عز وجل. فإذا كانت المرأة لا تستطيع أن تبين عن نفسها، فكيف نقبل شهادتها في الحدود؟! فالمرأة من طبيعتها لو أنها جاءت في حادثة قتل مثلا، فإنها بمجرد أن ترى أي شيء يزعجها تراها تصرف وجهها، وإذا لم تستطع أن تصرف وجهها وضعت يديها على وجهها، وهذا أمر واقع، ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا، فما تستطيع المرأة أن تتحمل، قال تعالى حاكيا عن زوجة إبراهيم عليه السلام: {فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم} [الذاريات:29] ، وقال تعالى حاكيا عنها أيضا: {قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا} [هود:72] ، فقوله: (فصكت وجهها) وهي سارة، ومع أنها زوجة نبي فما استطاعت أن تتحمل لا في فرح ولا في حزن، فها هي في الفرح قالت: (يا ويلتا) فلم تستطع أن تتحمل ذلك. فالمرأة هذا تحملها وهذه طاقتها، ويأتي شخص ويقول: نريد أن نجعلها قاضية!! المرأة مكرمة في ديننا، والإسلام أعطاها حقها، وبين الله طاقتها وقدرتها، هذا هو الشيء الذي جبل الله عز وجل المرأة عليه، وهذه هي الفطرة، فإذا كانت المرأة لا تتحمل هذا الشيء، فلماذا تحملونها ما لا تطيق؟! ولذلك نجد أن من طبيعة المرأة إذا حدث شيء وبجوارها رجل فلا يمكن أن توجه ذلك الشيء لوحدها، بل مباشرة تنطلق إلى الرجل، ومن العجيب أن بعض الأطباء يقول: والله إن المرأة الطبيبة حتى في توليدها للنساء، إذا حدثت مشكلة وعندها رجل طبيب، فإنها تترك كل شيء وتذهب إلى الرجل، فلا تستطع أن تتحمل. إذا: إذا منعت من القضاء ومنعت من الشهادة، فهذا عين العدل، وعين الحق أن تعطي المخلوق قدرته وطاقته، ثم إذا كانت الشريعة قالت: إنه لا تشهد المرأة لوجود خلل، إذا كانت المرأة لا تتحمل أن ترى الدماء، ولا تتحمل أن ترى القتل والضرب والأذية، وكذلك في الحدود، حتى في الزنا لو أنها رأت المرأة فإن فيها شدة الغيرة، حتى ولو كان من رجل أجنبي مع امرأة فإنه يحدث منها الغيرة، وهذه طبيعة الفطرة وطبيعة الخلقة، وحينئذ يكون هناك نوع من الاعتداء في الشهادة، ووجود الخلل في شهادتها على الدماء، وفي شهادتها على الحدود، وفي شهادتها على الزنا، وكل هذا بسبب وجود الضعف الخلقي الذي لا تلام فيه. فالأصل يدل على هذا، وإذا ثبت هذا فإننا نقول: إن المرأة لا تقبل شهادتها إلا في الأموال، ثم لما قبلت في الأموال قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما} [البقرة:282] ، فقوله: (أن تضل) أي: تنسى، قالوا: لأن المرأة لما ركبت من الشهوة في طبيعتها وفطرتها، وهذا له تأثير على العقل، والعقل نور من الله عز وجل، ومن أقوى ما يضعف العقل الشهوة، ومن تورع في الشهوات وصان نفسه عنها حفظ الله له نور عقله، ولذلك أعقل الناس هو أورعهم عن الشهوات، ومن هنا قالوا: إن الله عز وجل لما نهى عن قربان الفواحش ختم بقوله: {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} [الأنعام:151] ، فهذه وصية من أجل أن يحصل العقل. فالمرأة من حيث هي مركبة من الشهوة، ووجود الشهوة فيها من طبيعتها وجبلتها، وهذا يؤثر في تركيزها وفي ضبطها، ومن هنا قالوا: لأجل هذه الجبلة وهذه الطبيعة جعل الله شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد، وهذا من أصل خلقتها، فإذا ثبت هذا فلا تقبل شهادتها إلا في الأموال، أو ما يئول إلى الأموال، فيستشهد رجل وامرأتان، ولو استشهدنا النساء منفردات على المال، لجاز ذلك؛ مثاله: لو باع رجل أرضا لابن عمه وأشهد أربع نسوة؛ صحت وقبلت الشهادة؛ لأنها مال، وهكذا بالنسبة لغير الحدود مما تقبل فيها شهادة النساء. ما تقبل فيه شهادة النساء خاصة قال رحمه الله: [وما لا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والاستهلال ونحوه تقبل فيه شهادة امرأة عدل، والرجل فيه كالمرأة] . والأصل في هذا حديث في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قبل شهادة المرأة على الرضاع، وفرق عليه الصلاة والسلام بين الرجل وامرأته بهذا، فقد جاءت أمة سوداء وقالت: إنها أرضعت رجلا وامرأته وهو عقبة رضي الله عنه، وامرأته بنت أبي إهاب بن عزيز، فقال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟) ، وقبل شهادة المرأة الواحدة. ومن هنا قالوا: إن الرضاع يخفى على الرجال غالبا؛ لأنه يكون بين النساء، وهذا يسمونه: الشهادة الخاصة، فتقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه إلا النساء، وفيما لا يطلع عليه الرجال غالبا، كعيوب المرأة تحت الثياب، من البكارة والثيوبة، فإذا اختلف هل هي ثيب أو بكر؟ فتطلع امرأة عليها وتقبل شهادتها عند القاضي، حتى تبين للقاضي هل هي ثيب أو بكر؟ إذا: تقبل شهادة المرأة في العيوب الموجودة في المرأة التي لا يطلع عليها إلا النساء؛ قالوا: لأن اطلاع الجنس على الجنس أخف وأقل ضررا وفطرة من الاطلاع مع اختلاف الجنس. إذا: المرأة لا تقبل شهادتها في غير هذه الأشياء التي ذكرها: أولا: قوله: (ويقبل في المال) أي: ما يقصد به المال، وما يئول إلى الأموال. ثانيا: قوله: (والخيار فيه ونحوه) . فيلتحق بالمال مثل الخيار، فتقبل شهادة المرأة على إثبات الخيار، كأن قال: بعتك العمارة ولم أجعل لك خيارا، فقال: بل بعتني واشترطت عليك الخيار، فقال: لم تشترط علي الخيار، فقال: بل اشترطت عليك الخيار ثلاثة أيام، وعندي شهود، فجاء بنسوة، تقبل شهادة النسوة على المال وما يئول للمال. ثالثا: قوله: (وما لا يطلع عليه الرجال) . أي: ما لا يطلع عليه الرجال من الأمور الخفية، كما ذكرنا في شهادة المرأة الواحدة. عدم ثبوت القود والدية بشهادة النساء قال رحمه الله: [ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود؛ لم يثبت به قود ولا مال] لم يثبت فيه القود؛ لأن القود في القصاص يشترط فيه الرجال، أما النساء فلا تقبل شهادتهن في الدماء، ولا تثبت الدية على شهادتهن أيضا؛ لأن الدية مبنية على ثبوت القود؛ لأنه قد يعترض معترض ويقول: إذا أسقطوا القود وأثبتوا الدية، لو قال مثلا: إنه يثبت له ضمان الجناية أو شهدوا خطأ فإنه لا تقبل؛ لأنه إذا ثبت القود بني عليه ثبوت المال، وإذا لم يثبت القود لم يثبت استحقاق المال. ثبوت المال دون القطع في شهادة النساء بالسرقة قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع] . هنا مسألة من صنفين، اجتماعهما على أصل واحد بأن يكون أحدهما بدلا عن الآخر، وافتراقهما كنوعين، والقود يشترط فيه الرجال، وإذا شهدت المرأة قبلت شهادتها فيما تقبل، وهو ثبوت المال دون القطع، أي: تقبل شهادة رجل وامرأتين، وتقبل شهادة أربع نسوة على السرقة، ونضمن المشهود عليه المسروق، ونقول: يجب عليه الضمان، لكن لا نثبت الحد؛ لماذا؟ لأن المال ليس هو بدلا عن السرقة، بخلاف القود، فإن الدية بدل عن القود، وحينئذ الفرع تابع لأصله، لكن هنا استقل ولم يصبح مندرجا تحت الأصل، بحيث لو شهدت المرأة بأنه سرق ردت شهادتها في الحد دون المال، وكذلك لو سرقت سيارة من نوع كذا وكذا، أو أن سيارة فلان من نوع كذا وكذا سرقت، وشهد أربع نسوة أنه سرقها فلان، فحينئذ يثبت عليه ضمان هذه السيارة؛ لأنها مال، وفي السرقة ثبوت الحد وثبوت الضمان، فإذا لم يثبت الحد لوجود شهادة النساء بقي ثبوت الضمان. قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في خلع ثبت له العوض وتثبت البينونة بمجرد دعواه] . قوله: (ثبت له العوض) كما ذكرنا في الخلع، أن امرأة قالت: ما خالعتك، أنت الذي طلقتني، وافترقنا بطلاق، فقال: لا، بل افترقنا بخلع؛ لأنه إذا قال: افترقنا بخلع يستحق أن يرد له المهر، فهي تقول: أنت طلقتني وافترقنا بالطلاق، وارتفعوا إلى القاضي، فجاء بالنسوة، قبلت شهادة النسوة ليشهدن على إثبات المهر، وحينئذ يثبت المال وهو منفصل عن الخلع. وصية جامعة لما ينبغي على طالب العلم تجاه العلماء نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم. وأحب أن أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وخاصة طالب العلم الذي يجب عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يستشعر المسئولية والأمانة، فإن هذه المسائل وهذه الأحكام حجة للإنسان أو على الإنسان، وما من شيء أفضل ولا أعظم بعد الإيمان بالله من العلم النافع، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا العلم لأوليائه وصفوته من خلقه بعد أنبيائه، فما من أحد يأخذه بحقه ويقوم بحقوقه، إلا رفع الله شأنه وأعزه، ويسر أمره، وشرح صدره، وجعل له من حسن العاقبة والتوفيق ما لم يخطر له على بال. ووالله إن في العلم جنة في الدنيا قبل جنة الآخرة يعرفها من يعرفها، وهم الذين استقاموا على الطريقة، واستقاموا على طاعة الله، ووفوا بعهد الله عز وجل. واعلم رحمك الله! أن أي مجلس علم تجلسه أو تسمع فيه، أول ما يجب عليك أن تحمد الله وتشكره أن قيض لك هذا العلم. الأمر الثاني: أن تعتقد فضل أهل العلم أحياء وأمواتا، فتترحم على علماء المسلمين، وتترضى عليهم، وتذكرهم بالجميل، وتعلم أنه ما وقف عالم بين يديك ولا معلم بين يديك إلا بفضل الله ثم بفضل هؤلاء الأئمة من دواوين السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان، نفعا لهذه الأمة وتعليما لها، فاحفظ حق العلماء عليك، فإن الله سبحانه وتعالى نزع البركة ممن لا يحفظ حق من علمه، وبالأخص علماء السلف، فاعتقد حبهم وتعظيمهم وإجلالهم. وعلى المسلم أن لا يصغي بسمعه إلى من ينتقصهم ويذمهم ويتتبع عثراتهم؛ بل ينظر إلى كنوز العلم كيف تناثرت بين يديه، وكلمات هؤلاء العلماء شموس الدجى وأنوارها بفضل الله عز وجل كيف كانت بين يديك، ووالله ثم والله ما صيغت هدرا ولا عبثا، ولو علمت كم كابدوا من المشاق، وكم عانوا من المتاعب والصعاب؛ لعلمت أن فضلهم عليك بعد فضل الله عظيم. يا هذا! أي علم ينثر بين يديك، وأي قول يقال لك فتصغي إليه بسمعك أو يعيه قلبك، لو علمت فضله وعلمت حقه وعلمت منزلته، لقمت بحقوقه، وحفظت نفسك وصنتها، وكنت كما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم من الوفاء. فلابد أن يفي المسلم لعلماء المسلمين، وأن يعتقد فضلهم، وأن يتعود دائما على ذكرهم بالخير، ووالله ثم والله أن من أعظم الأسباب التي وجدناها بعد توفيق الله هو فهم كلام العلماء وضبطه وإتقانه، وسأشهد بين يدي الله بتعظيم أهل العلم، فطالب العلم الذي يتعود احترام كلام العلماء، ويقرأ الكلمة أو يسمع في مجلس عالم يوثق بعلمه كلاما، ويتلقاه بالقبول، ويبدأ بتفكيك هذا الكلام وفهمه، فإنه يفتح عليه ويبارك له، ويبدأ من منطلق القبول لا من منطلق الرفض؛ لأن الأصل أن الجاهل يتقبل، بخلاف طالب العلم بمجرد أن يجلس يقول: لماذا هذا؟ أو لماذا قال هذا؟ فأولا: افهم ما يقال لك، وابحث عن دليله، وينبغي عليك أن تتلقى العلم بالوعي والفهم، ثم بعد ذلك يؤهلك الله إلى مرتبة المناقشة؛ لأن الجاهل يتعلم قبل أن يتكلم، فليحفظ كل طالب علم مكانته، وننبه على هذا؛ لأن من طلاب العلم من إذا تعلم شيئا تكلم على أهل العلم، فتجده يقرأ في الكتب، ويقول: لقد حضرت زاد المستقنع، ثم بمجرد أن يقرأ شيئا لا يعرفه ولم يقرأه على شيخه يبدأ بنقضه وهدمه، فعليه أن يتقي الله عز وجل حتى لا يكون علمه وبالا عليه، ومن جاء ناقدا رجع فاقدا، والمحروم من حرم، وأعظم الحرمان حرمان العلم، وأعظم النفحة والمنحة والعطية عطية العلم، ولذلك فعلى المسلم أن يعتقد فضل العلماء من السلف الصالح، فهذه الكتب لو كنت تعلم أي زمان كتبت فيه، لقد كتبت حينما كانوا يتغربون ويسافرون عن أوطانهم وبلدانهم، وهم في جوع وشدة وخوف ورهبة وضنك لا يعلمه إلا الله عز وجل. يا هذا! إن وجدت شرحا واضحا لعبارة فاعلم أنها ما صدرت من العالم إلا ووراء ذلك أمور، وراءها مرضات الله عز وجل، فما وضعها لك في الكتاب إلا وهو يرجو رحمة الله، وما وضعها لك في الكتاب إلا وهو ناصح لك، وما وضعها لك في الكتاب إلا لعلك أن تذكره بعد موته فتترحم عليه، وتستغفر له، لعلك أن تذكره بالجميل، فهذا الكتاب الذي تحمله لكل درس، وهذا المتن الذي نشرحه، أسألك بالله كم ترحمت على العالم الذي ألفه؟ وكم ذكرته؟! فالله الله، إن من أهل العلم من كان لا يجلس مجلسا إلا استغفر لمن كان له فضل في علمه، ولو كان كلمة أو حرفا، ومن حفظ العهد بورك له، وإذا أردت أن ترى ذلك فافعل وسترى، وهذا شيء وصى به العلماء رحمهم الله. وهذا الذي تراه من الاحتقار لأهل العلم، وهذا الذي تراه من الغفلة في حمل الكتب إلى مجالس العلماء والجلوس بين أيديهم، إنما هي غفلة الغافلين، وسهو الساهين، فلا تكن من الذين لا يوقنون، ولا تكن من الذين لا يعلمون، بل عليك أن تحس بالحق الذي عليك، إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد المعروف بأفضل منه: (من صنع إليكم معروفا فكافئوه) ، فكيف بمعروف يقود إلى جنات عدن؟! وكيف بمعروف ترقى به أعلى المنازل؟! وكيف بمعروف تتكلم به فيسكت الناس لك؟! وكيف بمعروف تتبوأ به الدرجات العلى من الجنة؟! كيف تكافئ أهله؟! أقل ما يكون بالدعاء والترحم، والذكر بالجميل، والترضي. وما أدركنا أهل العلم إلا على الأدب، ما أدركناهم إلا على حفظ العهد. ووالله ثم والله كم يتقرح قلبي وكم يتألم حينما أرى أناسا من خيار طلبة العلم تمنيت أن لو عاشوا الأزمنة التي عشناها، ورأوا من رأينا من أهل العلم، وكيف كان أهل العلم على الترحم والترضي وذكر العلماء بالجميل، وما كنا نسمع اللمز والغمز والاحتقار ونسيان أهل الفضل، فهذه الجرأة العظيمة، والكلمات الساقطة الهابطة التي تنزع ثقة الناس من علمائها، أعرض عنها؛ لأن الله أمرك بالإعراض عن الجاهلين. وإياك ثم إياك أن تستخف بحقوق العلماء، خاصة سلف الأمة، وإياك أن تضيق عليك الدنيا حتى لا تجد إلا مثالب العلماء، ومناقص العلماء، وعيوب العلماء، ووطن نفسك إن أحسن الناس أن تحسن، وإن أساءوا أن تجتنب الإساءة وتترفع، وليكن هذا العلم قائدا لك إلى مرضات الله، لكن الثمن غاليا، وذلك أنك لن تكون بإذن الله على ذلك إلا بعد توفيق الله عز وجل أولا وآخرا. وثانيا: أن تحرص على أن تستشعر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) بهذه المشاعر نحب ولكن ليس هناك دلائل تدل على الحب، نحب السلف لكن ما الذي قدمناه؟ ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يكون غيورا، فلا يقبل من أحد أن ينتقص علماء الأمة، وأن يزري بهم، ولا يتقبل ذلك أبدا؛ لأن الزمان قد فسد وأصبحت هناك غربة، ولن يكون الدين غريبا إلا إذا أصبح العلماء غرباء، فطوبى للغرباء، اللهم ارحم غربتنا! اللهم ارحم غربتنا! نسأل الله بعزته وجلاله أن يتولانا برحمته، وأن يشملنا بعفوه ومنه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت نسألك في هذه الساعة أن تسبغ رحمتك ومغفرتك التامة الكاملة على قبور من علمنا وأدبنا، وأحسن إلينا من مشايخنا ومن علماء المسلمين وممن استفدنا من علمه، اللهم اغفر لهم وارحمهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، اللهم نور قبورهم، اللهم نور قبورهم، اللهم نور قبورهم، وكفر سيئاتهم، وتجاوز عن خطيئاتهم، اللهم اجعلهم في الفردوس الأعلى في الجنة، بفضلك العظيم لا إله إلا أنت، اللهم فاجزهم عنا خير ما جزيت معلما في تعليمه، ومؤدبا في تأديبه، ومرشدا في دلالته، يا حي يا قيوم ارفع درجاتهم، وكفر خطيئاتهم، واجعل لهم أعظم الأجر والثواب في العقبى والمآب، يا سريع الحساب، يا من لا إله إلا أنت. اللهم عظم حقهم، ولا نستطيع الوفاء بحقوقهم فأعنا ويسر لنا ذلك، اجعلنا ممن وفى وبر، اللهم اجعلنا ممن وفى وبر، اللهم اجعلنا ممن وفى وبر، اللهم أحسن الخاتمة لأحيائهم، اللهم أحسن خاتمة أحيائهم، اللهم أحسن خاتمة أحيائهم، واجعل لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، وأجزهم عنا أحسن الجزاء يا فاطر الأرض والسماء. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم فرج كروبهم، اللهم نفس كروبهم، وفرج همومهم وغمومهم، واشرح صدورهم، ويسر أمورهم، (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) ، نستغفر الله ونتوب إليه، نستغفر الله ونتوب إليه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الشهادات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (553) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - باب موانع الشهادة وعدد الشهود [2] لابد من اكتمال العدد المطلوب شرعا في الشهادة؛ فلا يقبل في الزنا إلا شهادة أربعة ذكور عدول، وفي بقية الحدود والقصاص وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يطلع عليه إلا الرجال غالبا تقبل فيه شهادة رجلين، ومن الأموال أو ما يئول إلى الأموال تقبل شهادة رجل وامرأتين أو شهادة رجل ويمين المدعي، وتقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، ولا يثبت قود ولا مال بشهادة المرأة، وفي السرقة تقبل شهادة المرأة في المال دون الحد. مقدمة في بيان النصاب في الشهادات ومواضع شهادة الرجل والمرأة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة] : من عادة العلماء رحمهم الله عند بيانهم لأحكام الشهادة، أن يبينوا النصاب المعتبر في شهادة الشهود، وذلك أن النصوص في الكتاب والسنة اعتنت بذلك، فبين الله سبحانه وتعالى اشتراط العدد، كما سنذكره في الآيات الكريمات في سورة البقرة، وسورة النساء، وسورة النور، وكذلك سورة الطلاق، وبينت السنة أيضا اشتراط العدد، كما في حديث الأشعث رضي الله عنه في الصحيحين، وغيره من الأحاديث الأخر. فهذا كله يدل على أن الشهادة ينبغي أن تكون كاملة النصاب، وقد اختلفت أحكام الشريعة بحسب اختلاف مضمون الشهادة، فتارة يكون النصاب أربعة كما في شهادة الزنا، حيث نص الله سبحانه وتعالى على اشتراط أربعة شهود، وقد بينا ذلك في باب حد الزنا، وبين العلماء رحمهم الله أن الزنا مبني على الستر وعدم الحرص على الفضيحة، لما يترتب على ذلك من البلاء، فرأت الشريعة -وهي شريعة رحمة- الستر ما أمكن، ولكن في الحدود المقبولة، ومن هنا اشترط وجود الأربعة. وكذلك أيضا ربما كان النصاب دون ذلك؛ كالشاهدين في سائر الحقوق، وسنبين مثل الحقوق المالية، والحدود التي هي من غير الزنا، فإنه يكفي فيها شهادة الشاهدين، وكذلك أيضا هذا النصاب الذي هو المركب على العدد واختلفت فيه أحكام الشريعة: فتارة تمحض بالذكور، كما في الشهادة على القصاص والحدود أو القود والدماء، وتارة يكون بالنساء مع الرجال، كما في الشهادة على الأموال وما يئول إلى الأموال. وفي بعض الصور ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على عدم اشتراط التعدد، كما في قبوله عليه الصلاة والسلام لشهادة المرضعة، وكذلك قبوله لشهادة خزيمة بن ثابت رضي الله عنه وحده. وبناء على هذا ونظرا للاختلاف والتعدد لا بد من وضع أصول شرعية يبني عليها القضاء الإسلامي أحكامه في الشهادات، فيشترط العدد فيما اشترطت فيه الشريعة العدد، ويتمحض هذا العدد بالذكور فيما نص الشرع على اختصاص شهادة الذكور فيه، ويتمحض بالإناث، أو يشترك الإناث والذكور فيما رخص الشرع فيه بالشهادة على هذا الوجه. أيضا هناك شيئا آخر وهو: انضمام حجة من غير الشهود إلى شهادة الشهود، كما في انضمام اليمين إلى شهادة الشاهد، وهنا الشريعة نزلت اليمين منزلة الشاهد، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقضائه في الشاهد مع اليمين، وهذا نوع آخر، فلما كانت الشهادة تتعدد وتختلف أفرد المصنف رحمه الله في هذه المسألة فصلا خاصا يبين فيها أحكام التعدد. شهادة أربعة شهود ذكور في الزنا قال رحمه الله: [ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة] . وهذا لنص الله عز وجل في آية النور: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4] ، وفي هذه الآية مسائل: المسألة الأولى: أن دعوى الزنا لا تقبل مجردة، وهذا محل إجماع، ما لم يقر المدعى عليه بدعوى الزنا أو يعترف. المسألة الثانية: أن الزنا لا يثبت حده إلا بأربعة شهود، فلو شهد ثلاثة، حتى ولو كانوا من الصحابة؛ ردت شهادتهم، وهذا يدل على عظم أمر الزنا، وقد خاطب الله بهذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما هم فيه من العدالة وتزكية الشرع لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني) ، ومع هذا لا يقبل إلا أربعة شهداء. المسألة الثالثة: أن هذه الشهادة خاصة بالذكور دون الإناث، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال في شهادة الأموال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة:282] ، فذكر البدل عن الرجال، وهو شهادة النساء، فلو كان الزنا يقبل فيه شهادة النساء لبينه الله عز وجل، ومع ذلك لم ينص على شهادتهن في هذا الحد. المسألة الرابعة: أن الله تعالى أمر بأربعة شهداء في حد الزنا، ونصت الشريعة على أن شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل، وهذا نص آية البقرة كما في آية الدين، فإذا ثبت هذا فمعناه: أنه لا يجوز لنا أن نقبل ثمان نسوة في حد الزنا، فإن هذا خلاف ما نص عليه القرآن، ولذلك فجماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على عدم قبول شهادتهن في الحدود وفي الدماء؛ للأصل الذي ذكرناه، وقد تقدم بيان العلة وأنها الضعف الموجود في خلقة المرأة، وقد أشار الله إلى هذا المعنى في قوله: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة:282] . والأصل في قبول شهادة الشاهد غلبة الظن بصدقه، وغلبة الظن بحفظه للقضية، فإذا كان عند الشاهد عوارض من الضعف وعدم القدرة على التحمل؛ فحينئذ يؤثر هذا في الشهادة، وهذا من رحمة الله بالأمة وتيسيره عليهم. كذلك أيضا قوله تعالى: {بأربعة شهداء} [النور:4] ، مطلق وجاء ما يقيده بالشهداء العدول كما قال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2] ، وقال في آية الدين: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، وقد تقدم هذا. قبول شهادة رجلين على من أتى بهيمة قال رحمه الله: [ويكفي على من أتى بهيمة رجلان] : أي: يكفي في الشهادة على من أتى بهيمة رجلان، وينزل منزلة الزنا اللواط والعياذ بالله! وإن قلنا: إنه يأخذ حكم الزنا فلابد من شهادة أربعة، ومذهب جمهور العلماء رحمهم الله والأئمة على أن اللواط يثبت بشهادة شاهدين، وأما إتيان البهيمة فإنه ليس بحد، وإنما تقتل البهيمة لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتلها، وهذا الأمر بقتل البهيمة إتلاف للمال، ولذلك قبل فيه شهادة شاهدين، وبالنسبة للفاعل يعزر، فليست هناك عقوبة لمن أتى البهيمة كحد، ومن هنا لم ترتق إلى حد الزنا، فليست بحد كامل كحد الزنا، وعلى هذا خفف في نصابها، ورجعت إلى الأصل في الحدود، فيقبل فيها شاهدان، كما يقبل في السرقة وشرب الخمر ونحو ذلك من الحدود، فإذا قبل في الحدود شاهدان، فلأن يقبل في التعزير من باب أولى وأحرى، والحكم هنا تعزيري، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمهم الله. قبول شهادة رجلين في بقية الحدود دون الزنا قال رحمه الله: [ويقبل في بقية الحدود والقصاص، وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالبا؛ كنكاح وطلاق ورجعة وخلع ونسب وولاء وإيصاء إليه يقبل فيه رجلان] قوله: (ويقبل في بقية الحدود) كحد شرب الخمر، فإذا شهد شاهدان أنهما رأيا شخصا وهو يشرب الخمر، أو يتعاطى المخدرات، فحينئذ تكفي شهادتهما، وهكذا بالنسبة للسرقة، فلو رآه شخصان وهو يسرق فإن شهادة الشاهدين كافية لإثبات حد السرقة، وهذا تحديد وتأقيت من الشرع، فلا يشترط أكثر من اثنين في بقية الحدود إلا الزنا فأربعة من الشهود؛ لأن الله عز وجل قال في غير الزنا: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282] ، فأصبح أصلا عند جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على أن قبول الشهادة بالتعدد، وهذا ما يسميه العلماء: بالتقدير الشرعي، وفي الشريعة التقدير يكون على صور: الصورة الأولى: أن يمنع الزيادة ويجيز النقصان المقدر شرعا. الصورة الثانية: أن يمنع النقصان ويجيز الزيادة. الصورة الثالثة: أن يمنع النقصان والزيادة. فهذه الصور الثلاث هي أصل في التقدير الشرعي، فإذا جاء التقدير الشرعي عليها فإنه يلزم المكلف بها على نفس الطريقة التي ذكرناها. فالصورة الأول: وهي أن التقدير يمنع النقصان ويجيز الزيادة فمثل: عشر رضعات معلومات يحرمن، ونسخن بخمس معلومات يحرمن، فالرضاع فيه حد وتقدير شرعي، بحيث لو أرضعت أكثر من خمس رضعات ثبت الرضاع، ولكن إذا أرضعت أقل من خمس رضعات فإنه لا يكفي. كذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) فحد الخمس من الإبل، فما زاد فالزكاة ثابتة فيه، ولا يمنع الزكاة ما زاد وإنما يمنع الزكاة النقص، فالزيادة لم تمنع والنقص يمنع. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) كما في الصحيح، فلا يمنع الزيادة ولكنه يمنع النقصان في إيجاد الزكاة، فهذا تقدير شرعي يمنع أن يحكم بوجوب الزكاة فيما نقص عن هذا القدر، ولكننا نجيزها فيه إذا زاد. وكذلك أيضا قد يمنع النقص في أشياء كثيرة، كما في المقدرات الشرعية من الأنصبة في الأموال وغيرها من الوارد في الشرع تحديده. وأما الصورة الثانية: وهي أن التقدير يمنع الزيادة ويجيز النقص على عكس الأول، فمثلا: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثلاثا، فحينئذ يجوز للمكلف أن يتوضأ مرة ومرتين وثلاثا، ولكن لا يجوز له أن يزيد فيغسل العضو أربع مرات، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث السنن وهو صحيح: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم) ، فهذا التقدير بالثلاث يمنع الزيادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد هذه الثلاث، وكذلك لما رخص عليه الصلاة والسلام بالخمسة الأوسق في بيع الرطب بالتمر -وقد تقدم معنا في البيوع- حد عليه الصلاة والسلام في هذه المعاملة الربوية الحد بخمسة أوسق، فحينئذ تمنع الزيادة عن خمسة أوسق، فلا يرخص للمسلم فيما زاد على خمسة أوسق، ولكنه لو أراد أن يأخذ بالرخصة فيما دونها فلا بأس ولا حرج، فما نقص مأذون به وما زاد ممتنع، وهكذا بقية المقدرات في الزيادة. والصورة الثالثة: وهي أن التقدير يمنع الزيادة والنقص، فيلزم المكلف بالعدد الوارد، ولا يجوز له أن يزيد عليه ولا يجوز أن ينقص منه، كما في حد الزنا، قال تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، فالمائة جلدة هذه لا يجوز لأحد أن يزيد عليها في حد الزنا، ولا يجوز له أن ينقص منها؛ لأنها مؤقتة مقدرة، لا يجوز أن يعطل حد الله عز وجل فينقص منها سوطا وجلدة واحدة، ولا يجوز أن يظلم المجلود فيزيده بجلدة زائدة على هذا المقدر شرعا. وكذلك أيضا حد القذف، قال تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4] ، فإنه لا يجوز لأحد أن يزيد على الثمانين جلدة، ولا يجوز أن ينقص منها. أما حد الخمر فقد تقدم معنا، فإن زيادة عمر رضي الله عنه على الأربعين أربعين أخرى ليست من الحد، وإنما هي زيادة تعزيرية جاءت بسبب خاص، وهو: انهماك الناس في الخمر، ثم إن نفس الخمر اشتبه فيه الصحابة هل هو محدد أو غير محدد؟! لأن عليا رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدده، يعني: لم يقدره بمقدار معين. وقد قال أنس: كان يؤتى بالشارب فمنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه، فهذا لا يكون داخلا في الأصل على الوجه الذي ذكرنا، وقد تقدم شرح هذه المسألة في حد الخمر، وبينا خلاف العلماء رحمهم الله في الزيادة على الأربعين. وقد تكلم العلماء على هذه الأنواع، وممن فصل فيها الإمام السرخسي رحمه الله في المبسوط، والأصل عند العلماء في المقدرات هو هذا، فإذا قال الله {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282] دل على أنه لا يجوز لنا أن ننقص عن شاهدين، هذا هو الأصل، وإلا لما كان لذكر الشاهدين معنى وفائدة؛ لأنه لو كان يقبل أقل من الشاهدين لما ضيق الله على عباده، ولقال: استشهدوا شاهدا من رجالكم، ولكنه لما قال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282] دل -كما ذكرنا في المقدرات- على أنه من المقدرات التي تجوز الزيادة فيها، أي: لك أن تشهد على مالك خمسة أو ستة أو عشرة، كأن تخاف أن يموت بعضهم، أو أن ترد شهادة بعضهم، فتحتاط فتشهد أكثر من شاهد، ولكن أقل من اثنين لا يقبل منك من حيث الأصل العام. وهذه الآية -آية الدين التي في سورة البقرة- جاءت كأصل في الشهادة في الحقوق، ولذلك يعتمد عليها العلماء، وقد ردوا بها قول من يقول: إنها تقبل شهادة الواحد؛ ولذلك لم نجد من النبي صلى الله عليه وسلم قضاء وحكومة وخصومة قبل فيها شهادة الواحد المجردة إلا في مسائل خاصة، منها: قبوله شهادة المرأة المرضعة، كما في حديث عقبة بن الحارث في الصحيحين مع أم يحيى بنت أبي إهاب رضي الله عن الجميع، فقد كان نكحها ثم جاءت أمة وقالت: إنها أرضعتهما، فقال عقبة: إنها كذبت، فقال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟!) ، و السؤال هل هذا حكم، أم قضاء، أم خصومة، أم أنه فتوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا هو الإشكال، ولذلك لم تجر على سنن القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تارة يحكم بحكم القضاء ويفصل بحكم القضاء، وتارة يفصل بالفتوى، وقد بينا هذا وفصلناه، ولذلك لم يقو الدليل على معارضة النصوص الصريحة القوية في أن البينة لابد فيها من اثنين غالبا. وقد جاء من حديث الأشعث بن قيس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (اختصمت أنا ورجل في بئر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! هي بئري وأنا احتفرتها، فقال الرجل: إنها بئري، فقال صلى الله عليه وسلم للأشعث: شاهداك أو يمينه) والحديث في الصحيح، فما قال له: ائتني بشاهد، أو ائتني بأي شيء يدل على أن البئر حقك، بل قال: (شاهداك أو يمينه) فخيره بهذا، فدل على أن العدد في الشهود مقصود، وأنه لا يقبل ما قل عن ذلك، إلا إذا كان معتضدا باليمين، فيما دل الشرع على جواز الشهادة مع اليمين، وسنبينه إن شاء الله. إذا ثبت هذا فلا بد من التعدد، وقال بعض السلف: إنه يمكن أن تقبل شهادة الواحد، واحتجوا بحديث أم يحيى الذي ذكرناه، والجواب عنه معروف، ومما احتجوا به أيضا قبول النبي صلى الله عليه وسلم لشهادة الشاهد على رؤية الهلال، فقد قال رجل: إنه رأى الهلال، وهو من حديث بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال! قم فأذن بالناس) يعني: للصوم، قالوا: وهذا يدل على أن شهادة الواحد كافية. وهنا مسألة نحب أن ننبه إليها في الجواب عن هذا الدليل: أولا: من ناحية السند فيه ضعف. ثانيا: أن هناك شيئا اسمه: الشهادة، وهناك شيئا اسمه: الخبر، وهناك شيئا اسمه: الرواية، فالرواية: معرفة النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابي، أو عمن بعدهم، وهذا لا يشترط فيه التعدد بإجماع العلماء من حيث الأصل، إلا في المسائل التي تعم بها البلوى، وقد اختلف الجمهور مع الحنفية، والمسألة معروفة في الأصول، لكن من حيث الأصل نقبل خبر الواحد إذا جاءنا بنقل العدل عن مثله فإننا نقبل روايته، ولا يشترط في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون عن أكثر من واحد، ولذلك قبل العلماء الحديث الغريب برواية الواحد، كما في حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ، والعزيز والمشهور فيما جاء من الأخبار، واعتمدوا الصحة والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكون الراوي ممن تقبل روايته، فباب الرواية لا يشترط فيه التعدد وجها واحدا. الباب الثاني: باب الخبر: وهو أن يكون خارجا عن حكم القضاء، فيأتي الإنسان ويخبر عن شيء، كأن جئت تصلي فسألت شخصا: هل أذن لصلاة العصر أو لم يؤذن؟ فقال لك: لقد أذن، فهنا تقبل خبر الواحد إذا وثقت بقوله، أو دخلت إلى قرية أو مدينة فيجب عليك أن تسأل أهلها عن القبلة، ولا يجوز لك أن تجتهد ولو كنت مسافرا، ما دمت قد نزلت وبإمكانك السؤال؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك، فتأتي إلى رجل ظاهره الخير، أو رجل تعرفه، أو صديق لك، وتقول له: أين جهة القبلة؟ فإنه سيقول لك: هكذا، فهذا خبر للواحد وتقبله، وتعمل به في الديانة، وتتعبد الله عز وجل به، لكنه من باب الخبر لا من باب الشهادة، فهذا يسمى: خبر، ولا يسمى: شهادة. وكذلك أيضا لو جئت تصلي على فراش، وشككت هل هذا الفراش نجس أو طاهر؟ فقلت: يا فلان! هل هذا الفراش طاهر أو نجس؟ فقال لك: الفراش طاهر، فصدقت قوله، وتعبدت الله ع قبول شهادة رجلين في القصاص قوله: (والقصاص) أي: والقصاص كذلك لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين بالصفات التي ذكرناها، وأن يكونا سالمين من القوادح والموانع التي تمنع من قبول شهادتيهما، فلو أن شخصا ادعى على شخص أنه قطع يده، فإننا نقول للمدعى عليه: أقطعت يده؟ فإن أنكر فحينئذ نقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: عندي بينة، وأحضر شاهدين عدلين مستوفيين للشروط، فحينئذ نحكم بثبوت القصاص إذا كان قطع يده عدوانا. مثال آخر: لو أن شخصا ادعى أن أباه قتله فلان عمدا عدوانا، فأتينا بالمدعى عليه وقلنا له: هل قتلت فلانا؟ فأنكر، فنقول للورثة أبناء القتيل: أعندكم بينة؟ فإن قالوا: نعم، وأقاموا شاهدين عدلين مستوفيين للشروط خاليين من الموانع؛ فحينئذ نحكم بثبوت القصاص على القاتل. إذا: القصاص يثبت بشهادة رجلين مستوفيين للشروط، سواء كان القصاص في النفس مثل القتل، أو كان في الأطراف بالشروط التي ذكرناها في ثبوت القود في الأطراف. قبول شهادة رجلين فيما ليس بعقوبة ولا مال ويطلع عليه الرجال وقوله: (وما ليس بعقوبة ولا مال) . ما ليس بعقوبة ولا مال مثل النكاح، فليس بعقوبة ولا مال، والطلاق ليس بعقوبة ولا مال، وكذلك الرجعة، كأن يقوم شخص ويطلق امرأته طلقة، وكانت الطلقة الأولى، وأراد أن يراجعها، فهذا ليس بمال وليس بعقوبة، فحينئذ تقبل فيه شهادة الرجلين العدلين، كما نص الله عز وجل على ذلك. وقوله: (ولا يقصد به المال) . أي: لا يئول إلى المال، وسيأتي هذا النوع الثالث. وقوله: (ويطلع عليه الرجال غالبا) ما كان من هذا الصنف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يطلع عليه الرجال غالبا، بمعنى: أنه يقع أمام الرجال، مثل: النكاح، فإنه يجتمع ولي المرأة مع الزوج، وغالبا في محضر رجال، والطلاق نفس الشيء، وهذا يطلع عليه الرجال غالبا، فالرجل عندما يطلق امرأته غالبا يعلم صديقه وأخوه وقريبه، ولذلك إذا كانت الأمور التي يشهد بها من جنس ما يطلع عليه الرجال غالبا؛ فإنه يقبل شهادة الشاهدين من الرجال العدول على الصفة التي ذكرناها في الشهادة. وقد أراد المصنف رحمه الله أن يحترز من النوع الذي تقبل فيه شهادة النساء، وهو الذي لا يطلع عليه الرجال غالبا، فقال رحمه الله: (غالبا) ، وإلا فالنساء قد يطلعن على النكاح ويطلعن على الطلاق، لكن لما قال: (غالبا) ، فمعناه: أن هذا الشيء الذي ذكره قد يطلع عليه النساء. وقوله: (كنكاح) . النكاح الغالب فيه أنه لا يطلع عليه إلا الرجال، وأكثر ما يوجد بين الرجال، وقد يقع بين النساء ولكن الحكم للغالب، ولماذا نقول: يطلع عليه الرجال غالبا، ويطلع عليه النساء غالبا؟ لأنه إذا كان يطلع عليه الرجال غالبا أجريته على القاعدة العامة، وجعلته تحت حكم الشريعة في الشهادة، في كون الشهادة تختص بالذكور، وتكون بالعدلين بالصفة التي ذكرناها، فإن خرج عن هذا إلى كونها تختص بالنساء، فهذا يسمونه: الخاص، والخاص لا يقدح في الأصل العام، وهذا الفقه أن تعرف ما جرى على الأصل فتطرد الدليل العام فيه، وذلك مثل قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2] ، فلما خص الله عز وجل الشهادة بالاثنين، وجعلها متعددة وجعلها خاصة بالرجال، ولم يذكر لها بدلا من النساء، فعلمنا حينئذ أن هذا النوع يختص بالرجال، ووجدنا من صفاته الذي يكون وصفا مناسبا للشرعية في الحكم، لما نظرنا الصفات وجدنا هذا الشيء غالبا في الرجال، ولذلك يكون جاريا على الأصل بقبول شهادة الرجلين فقط. أما إذا أصبح هذا الشيء واقعا بين النساء، ويقل اطلاع الرجال عليه، مثل العيوب الموجودة في النساء التي لا يطلع عليها الرجال غالبا، وحينئذ إذا صارت الأمور التي تختص بالنساء كالعيوب الموجودة للمرأة ونحو ذلك مما يحتاج إلى اطلاع النساء، أو يطلع عليه النساء غالبا، فمعناه: أنها حالة خاصة؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع، فحينئذ تستثنى؛ لأنك لو قلت: لا أقبل إلا الرجال؛ لأوقعت الناس في حرج عظيم، ولضاعت الحقوق، وهذا خلاف شرع الله عز وجل، ولأصبحت المرأة تتبذل حتى ينظر الرجل إلى بكارتها وثيوبتها، فلأن ينظر الجنس مع اتحاد الجنس أخف من أن ينظر الجنس مع اختلاف الجنس، وهذا هو شرع الله أن يعطي كل شيء حقه وقدره. لكن هذا الاستثناء لا يعتبر قاعدة عامة، ومن هنا ضبطوه بقولهم: أو ما لا يطلع عليه إلا النساء غالبا؛ لأنه إذا كان من جنس ما لا يطلع عليه إلا جنس مخصوص، فحينئذ يحتاج الناس عند الإشهاد عليه إلى هذا الغالب، فإذا ألزمتهم بغير الغالب -وهو الرجل- أحرجتهم، والله يقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78] ، وإذا كان هذا الشيء من جنس النساء، وأدخلت الرجال على النساء أحرجتهم، والله عز وجل يقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78] ، وضيقت عليهم والله عز وجل يريد أن ييسر: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة:185] فهذا هو وجه تفسير العلماء وتفريقهم بين ما يطلع عليه الرجال وما يطلع عليه النساء، ثم ضبط بالغالب؛ لأن الحكم للغالب، وإلا فقد يوجد اطلاع الرجال على هذه الأشياء في النادر، كالطبيب مثلا عندما يطلع وينظر إلى بكارة المرأة وعدمها، كما لو اشتكت امرأة من ألم فاضطر أن ينظر إلى فرجها، فنظر فعلم أنها بكر، ثم بعد ذلك حدثت حادثة في نفس اليوم بعد خروجها واحتيج إلى شهادته، فقال الزوج: هي ثيب من أسبوع، وهذا قد كشف عليها بالأمس ورأى واطلع وقال: إنها لا زالت بكرا، وهذا النادر لا يناط بحكم الشهادة، فهذا وجه تخصيص العلماء رحمهم الله والفقهاء للمسألة بالغالب. وقوله: (وطلاق) . كذلك الغالب فيه أنه لا يطلع عليه إلا الرجال، ولا يمتنع أن يطلع عليه النساء، فالطلاق يثبت بشاهدين من الرجال، ومثاله: قالت المرأة: إنها زوجة، وإن فلانا توفي ولم يطلقها، وهي تستحق الميراث، فأقام ورثة الميت شهودا على أنها مطلقة، وأنها بانت من مورثهم قبل وفاته، فنحكم بذلك ونعتبرها مطلقة، ولا حق لها في الميراث، إذا يثبت الطلاق بشهادة الشاهدين العدلين المستوفيين للشروط، دون وجود موانع فيهما. وقوله: (ورجعة) . كأن يقول: هذه زوجتي وقد راجعتها، ولذلك أطلب من القاضي أن تفسخ نكاحها من هذا الرجل، فقالت المرأة: ما راجعني، وأنا مكثت حتى خرجت من عدتي وتزوجت، وعندي شهود أني اعتددت، وأني ما تزوجت إلا بعد انتهاء العدة، فجاءت بالشهود وأثبتت أنها نكحت بعد انتهاء العدة، وجاء بالشهود على أنه راجعها في اليوم العاشر قبل حيضتها الثالثة، ما بين الثانية والثالثة، أو بين الحيضة الأولى والثانية، فحينئذ نحكم بالرجعة، وأنها زوجة للأول وليست زوجة للثاني، ونفسخ نكاح الثاني، إذا تثبت الرجعة بشهادة الشاهدين. وقوله: (وخلع) . أي: لو قال: إنه خالع زوجته، وقد تقدم معنا أنه إذا ادعى أنه خالع المرأة، وادعت المرأة أن زوجها طلقها، فتسعى لإثبات حق لها، أو دفع ضرر عن نفسها، كأن تقول المرأة: إنك طلقتني وليس لك علي المهر، فقال: لا، بل خالعتك، فاختصم مثلا هو وامرأته التي كانت في عصمته، وكلهم متفقون على أنه حصل فراق، لكن السؤال هل حصل الفراق بالخلع فيجب عليها أن ترد له المهر، أم حصل الفراق بالطلاق وليس له شيء؟ فهي تقول طلقني، وهو يقول: خالعتها، لم أطلقها، فلما اختصما جاء بشاهدين عدلين على أنه خالعها، وأن الذي وقعت به الفرقة هو الخلع وليس الطلاق، فاستحق أن يطالبها بالمهر، وحينئذ نحكم بثبوت حقه في ذلك بناء على وجود شهادة شاهدين عدلين. وقوله: (ونسب) . كما لو قال: إنه الابن الوحيد لفلان، ويستحق ميراثه، فلما ادعى ذلك أنكر العصبة، كإخوان الميت، وقالوا: ليس له ذرية، وليس له ولد، وأنت لست ولدا له، فقام وجاء بشاهدين عدلين عند القاضي مقبولي الشهادة، فإنه لا مانع من قبول شهادتهما، ويحكم بكونه ابنا لهذا الميت ويستحق الميراث، ويحجب بقية العصبة، إذا يثبت النسب ويثبت ما يترتب على النسب بشهادة العدلين. وقوله: (وولاء) . كذلك إثبات الولاء يكون بشاهدين عدلين؛ لأن الولاء تترتب عليه أحكام شرعية، قال صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمته كلحمة النسب) ، وهو أحد الأسباب الموجبة للإرث، فلو أن مولى أعتقه فلان من الناس، فتوفي هذا المولى، فإن مولاه يرثه إذا لم يكن له وارث لا بالفرض ولا بالتعصيب، أو مثلا كان يعني: هذا المولى هو المسلم الوحيد، فأعتقه في حياته، وهو مثلا سيده، فلما أعتقه أصبح ثريا وغنيا، فتوفي هذا المولى وليس معه أحد من ورثته، فإن المال سيذهب إلى بيت مال المسلمين؛ لأن بيت المال يرث من لا يورث، ففي هذه الحالة جاء سيده وأقام دعوى على أنه مولاه، وأنه يستحق المال بحكم أنه مولى من مواليه، فنقول له: أثبت ذلك، فجاء بشاهدين عدلين، فحينئذ له ذلك ويحكم بذلك المال له. وقوله: (وإيصاء إليه) . كذلك الوصية، وقد تقدمت أحكامها، كأن يقول: أوصى لي فلان بربع التركة، أو أوصى لي بهذه المزرعة، أو أوصى لي بهذه العمارة، فكذبه الورثة وقالوا: ما أوصى له، وهو رجل أجنبي، أو رجل غريب غير وراث، فقال له القاضي: ألك بينة؟ فأحضر شاهدين وشهدا، فحينئذ حكم بالشاهدين له. وقوله: (يقبل فيه رجلان) . أي: نقبل الرجلين؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282] ، وهذا هو الأصل، وقال سبحانه وتعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (شاهداك أو يمينه) ، وكما قلنا: لابد من كونهما شاهدين عدلين بالصفة التي تقدمت في الشهود. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
ما تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال قال رحمه الله: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه ونحوه رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي] . قوله: (ويقبل في المال وما يقصد به) أي: ما يقصد به من الأموال، أو ما يئول إلى المال، فبعضهم يقول: يقصد به المال، وبعضهم يقول: يئول إلى المال، فيشهد في ذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} [البقرة:282] ، هذا الأصل أن الرجل يريد أن يكتب دينا لآخر عليه، فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا الحق -وهو الدين- يثبت بشهادة الشاهدين، فبين كيف تكون كتابة أو توثيق هذا الدين وهذا الحق، وذلك بكتابته وصفة الكاتب وما ينبغي على الكاتب، وما ينبغي على المملي. وبعد هذا قال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282] أي: أن يملي الشخص ويكون ذلك بحضور شاهدين يشهدان على ما يقر به ويكتب، وبعض العلماء يقول: الحجة في الشاهدين، تعظيما لأمر الشهادة على الكتابة، فإن الكتابة بذاتها ليست حجة؛ لأن الخطوط تتشابه والخطوط تزور، وإنما الحجة جاءت في الشاهدين، ومن هنا كانت الآية أصلا في قبول الشهادة، فلما كان صدر الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} [البقرة:282] هذه الآية في الحقوق المالية صارت أصلا، ومن هنا قالوا: يقبل في الأموال الشاهدان. ثم قال تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة:282] ، فدل هذا على أن الحقوق المالية يقبل فيها شهادة النسوة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكر النساء إلا في هذا النوع من الحقوق، وقد ذكر الحدود وذكر الجنايات ومع ذلك لم يثبتها إلا بشهادة الذكور، فدل على اختلاف الحكم، كما مشى على ذلك وجرت عليه جماهير السلف والخلف من حيث الجملة. إذا ثبت هذا فإن الأموال يقبل فيها الشاهدان الرجلان، أو الرجل والمرأة بنص القرآن، ثم يرد السؤال هل قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة:282] تنبيه على البدلية من كل وجه؟ بمعنى: أنه يمكننا أن نقبل أربع نسوة منفردات؛ لأن المراد أن شهادة النساء تحل محل الرجال، بغض النظر عن كونهن منفردات أو كونهن مجتمعات مع الرجال، وهذا هو مسلك الجمهور على أنه يمكن أن تقبل شهادة أربع نسوة في الدين، فلو أن رجلا له على رجل مائة ألف ريال، وخاف أن يأتيه الموت، فأشهد اثنتين من أخواته واثنتين من زوجاته على هذا الحق الذي عليه، صح؛ لأن هذا الحق يثبت بشهادة النساء منفردات وبشهادتهن مجتمعات مع الرجال. هناك من قال: لا تقبل شهادة المرأة إلا مع الرجل، والصحيح أنها تقبل شهادة النساء، سواء اجتمعن أو انفردن في الحقوق المالية. وقوله: (كالبيع) . أي: لو باعه بيتا فإن له أن يشهد رجلين أو يشهد رجلا وامرأتين، أو يشهد أربع نساء. وقوله: (والأجل) . كذلك أيضا إشهاد الرجال مع النساء في التأجيل، أي: كون الدين مؤجلا أو معجلا في الحقوق المالية. فمثلا قال له: بعت البيع نقدا، فقال: لا، بل بعتني إلى أجل، والأصل في البيع أن يكون نقدا، لكن إذا ادعى أنه باعه إلى أجل، وقال القاضي للبائع: أبعته إلى أجل؟ فقال: لا، أنا بعته نقدا، فحينئذ نقول لهذا: ألك بينة على أنه باع إلى أجل؟ فإن قال: نعم، وجاء بشاهدين من الذكور أو برجل وامرأتين فإنه يصح؛ لأن التأجيل هنا المراد به إثبات حق المال، فالشهادة فيه راجعة إلى الأموال، فتثبت في البيع تأجيل البيع وعدم تأجيله. وقوله: (والخيار فيه ونحوه) . أي: يجوز إشهاد الرجال والنساء في الخيار في البيع. وقوله: (رجلان أو رجل وامرأتان) هنا لم يذكر الأربع النسوة، وهذا بناء على ما اختاره بعض العلماء: أنه لا تقبل شهادة النساء منفردات، والصحيح: أنها تقبل شهادتهن منفردات في الحقوق المالية؛ لأن الله بين أن شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد، وعلى هذا فتقبل شهادة الأربع مقابل الرجلين. والدليل الثالث الذي يقبل في شهادة الأموال وما يئول إلى المال: شهادة الشاهد مع اليمين، مثل: أن يقوم شخص ويقترض من شخص مائة ألف، وحضر هذا القرض شخص واحد، ثم توفي المقترض، فجاء صاحب الدين إلى الورثة وقال: لي على أبيكم مائة ألف، فقالوا: لا نعترف لك بذلك، أعندك حجة أو كتابة فنقبل منك، فهو لم يخبرنا أن لك عليه مائة ألف؟ فاشتكى إلى القاضي، فقال له القاضي: ألك بينة؟ قال: نعم، لي رجل واحد يشهد، وهذا الشاهد مستوف للشروط، حينها قال القاضي: تحلف معه اليمين، وتستحق ما ادعيت، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح: (أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد مع اليمين) ، وهذا عن أكثر من عشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت عنهم هذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهر ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد في مسنده ومسلم وغيره رحمة الله على الجميع، فهذا يدل على ثبوت سنة الشاهد مع اليمين، ويقول جمهور العلماء رحمهم الله: إنه يقبل الشاهد مع اليمين، ونعتبر قول الشاهد مع اليمين أصلا بقبول الشهادة، وإذا اعتبرنا جنس الشاهد فإنه يقبل شهادة المرأتين مع اليمين؛ لأن المرأتين قائمتان مقام الرجل؛ ولأن الله أنزل المرأتين منزلة الرجل، وحينئذ يكون جنس الشاهد مع اليمين المراد به من اعتد بشهادته، بغض النظر من كونه من الرجال أو من النساء. قبول شهادة النساء فيما يخص النساء قال رحمه الله: [وما لا يطلع عليه الرجال غالبا كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والاستهلال ونحوه تقبل فيه شهادة امرأة عدل] . هذا لما قدمنا من وجود الحرج، فإن أمور النساء الخاصة الغالب أنه لا يطلع عليها إلا النساء، وقد أخذوا هذا من حديث أم يحيى بنت أبي إهاب رضي الله عنها وأرضاها، وقد بينا ما في الحديث، لكنه أصل في أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل خبر المرأة، ولذلك بين رحمه الله هذه الأمور، فقال: (كعيوب النساء تحت الثياب كالبكارة والثيوبة) ، فإثبات بكارة المرأة وثيوبتها يحتاج إلى اطلاع على الفرج، وهذا الاطلاع من الجنس أخف من اطلاع غيره، ولذلك فالمرأة الثقة المعروفة بالأمانة والتحفظ يمكن أن تطلع وتخبر القاضي بما اطلعت عليه. وهل هذه شهادة لها حكم أم أنها شهادة أهل الخبرة استثنيت لوجود الحاجة كما يقول العلماء؟! حكم قبول شهادة الرجل فيما لا يطلع عليه إلا النساء غالبا قال رحمه الله: [والرجل فيه كالمرأة] . أي: لو أن هذا الشيء الذي لا يطلع عليه إلا النساء شهد به رجل كالطبيب فتقبل شهادته، بمعنى: أننا عندما نقول: إنه لا تقبل فيه إلا شهادة امرأة، ليس على سبيل الحصر، وإنما الأصل أن يتولى هذه الأمور النساء، لكن لو حصل أن رجلا اطلع عليه لجاز له أن يشهد. حكم ثبوت القود والمال بشهادة النساء أو شاهد ويمين قال رحمه الله: [ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال] . بينا في الدرس الماضي: أن هذا مبني على أن ثبوت المال مفرع على ثبوت القود، فمثلا: جاء بشاهد وأراد أن يحلف اليمين معه على أن فلانا داس أباه بالسيارة عمدا عدوانا، فهذا قتل عمد لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين عدلين، ففي هذه الحالة إذا لم يثبت القصاص لا تثبت الدية، فلا يقول قائل: نسقط الدية؛ لأن القتل قتل عمد يجب القصاص، فالشريعة تنظر إلى الدعوى، بحيث لو أن الدعوى جاءت على هذا الوجه فحينئذ لا نقبل إلا شهادة رجلين عدلين بالصفة المعتبرة بالشهادة، فإذا لم يقمهما لم نحكم له صحيح أن هناك مالا، لكن هذا المال وهو الدية مفرع أو مبني على ثبوت القود؛ لأن أولياء المقتول يخيرون كما قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقاد وإما أن يودى) ، فجعل الدية بدل القود، فإذا لم يثبت القود لا تثبت الدية، وهذا معناه: أن يأتي المال مشتركا مع غيره لا على سبيل البدلية، فلا تقبل فيه شهادة النساء ولا يقبل فيها شهادة ويمين؛ لأنه لم يتمحض فيها قصد المال، وإنما جاءه مبني على ثبوت ما يشترط فيه شهادة الرجال وحدهم، فلا يقبل فيه الشاهد مع اليمين، ولا يقبل فيه شهادة النسوة منفردات أو مجتمعات مع الرجال. شهادة النساء في السرقة يوجب المال دون الحد قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع] . إذا شهد في السرقة ثبت القطع وثبت ضمان المال، ولكن هذا الثبوت لضمان المال ليس مركبا على ثبوت القطع، ولذلك يثبت الحقان: أولا: القطع الذي هو حق الله عز وجل. ثانيا: المال الذي هو حق للمخلوق؛ فإذا كان حق الله لم يثبت؛ فإن حق المخلوق يثبت؛ لأنه إذا قال: سرق مالي، فالرجل يحتاج أن يرد له ماله، وحينئذ فحقه ثابت، فانفصل حق المال عن حق الحد، فإذا انفصل فإنه حينئذ يثبت المال، ونقول له: لا نثبت حد السرقة بشهادة النساء؛ لأن هذا النوع من الشهادات لا يثبتها، ولكن يجب عليه أن يضمن المسروق؛ لأن المال يثبت بهذه الشهادة. ثبوت العوض في الخلع بشهادة النساء مع الرجال قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في خلع ثبت له العوض] . قوله: (وإن أتى بذلك في خلع) الخلع يثبت فيه المهر، فإذا أثبت أنه خالع المرأة - كما تقدم معنا في المثال- فهو أثبت أنه خالعها بشهادة رجل وامرأتين، فإننا نقول: إن هذا يثبت المهر ولا يثبت الخلع. ثبوت البينونة بمجرد دعواه الخلع قال رحمه الله: [وتثبت البينونة بمجرد دعواه] . أي: إذا ادعى الرجل أنه خالع امرأته فإننا حينئذ نحكم بثبوت البينونة؛ لأنه اعترف بأنها ليست زوجة له، وأنه قد فارقها، والخلع طلاق، وهذا من الفوائد التي تترتب على أن الخلع طلاق. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الشهادات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (554) صـــــ(1) إلى صــ(6) شرح زاد المستقنع - باب موانع الشهادة وعدد الشهود [3] إن من نعم الله تعالى ولطفه بعباده أنه عند تعذر إقامة الشهود الأصليين، أجاز شهادة من سمع الشهود أن يشهد بها. ويشترط في الشهادة على الشهادة ما يشترط في الشهادة الأصلية، كالبلوغ والعقل والعدالة، ولا تكون الشهادة على الشهادة إلا بإذن الأصل أو إقراره عند القاضي، أو عزوه الشهادة لسبب من الأسباب. أما مسألة الرجوع في الشهادة فإنه يترتب عليها أحكام مهمة، سواء كانت قبل الحكم أو بعده. حكم الشهادة على الشهادة وما يشترط لها ومسائلها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي] . بعد أن بين المصنف رحمه الله أصول باب الشهادة، والأمور المعتبرة في قبول الشهادة وردها؛ شرع في بيان حكم الشهادة على الشهادة، والشهادة على الشهادة مركب يكون بعد بيان المفرد، والمراد بالشهادة على الشهادة: أن يكون هناك شاهدان على حق من الحقوق، فتعذر إقامة الشاهدين في القضاء، أو مات الشاهدان، وهناك شهود شهدوا على شهادتهما، وهذا من نعم الله عز وجل ولطفه بعباده. وقد نص الأئمة رحمهم الله واتفقت المذاهب الأربعة على قبول الشهادة على الشهادة من حيث الجملة، والدليل على قبولها عموم الأدلة التي دلت على قبول الشهادة، فإن الله تعالى لم يفرق بين كونها شهادة أصل أو شهادة فرع، فإن الله أمرنا بقبول شهادة العدل والعمل بها، فإذا جاء شهود على شهود وهم عدول، أي: شهود الأصول عدول، فإننا نقبل الشهادة كالشهادة الأصلية؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله، فالشهادة على الشهادة مركبة على أصل، فإذا كان الأصل مقبولا فالشهادة على الشهادة مقبولة؛ لأن حفظ الحقوق مقصود شرعا، وهو يتأتى بالشهادة على الشهادة. وقد بين رحمه الله: أن الشهادة على الشهادة تكون فيما يكون فيه كتاب القاضي، وقد تقدم بيانه، فلا تقبل الشهادة على الشهادة في قصاص، ولا في إثبات حد من الحدود، وذلك لما ذكرناه، ومن أهل العلم من قال بعمومها، ولكن لوجود الشبهة وخوف الخطأ والخلل استثنى الحنابلة رحمهم الله الدماء وما لا يقبل فيه كتاب القاضي. ويشترط في الشهادة على الشهادة ما يشترط في الشهادة الأصلية، ولكن لا بد أن يكون الشاهد بالغا عاقلا عدلا غير متهم في شهادته، ضابطا للشهادة، فإذا استوفى الشروط المعتبرة، فيرد السؤال هل تقبل فيها شهادة النساء، أو لا تقبل؟ أولا: الشهادة على الشهادة، الأصول تقتضي قبول شهادة الرجال والنساء عموما، وهذا مذهب طائفة من العلماء، والحنابلة عندهم لا تقبل شهادة النساء في الشهادة على الشهادة. والصحيح: أنه تقبل شهادة امرأتين وتنزل منزلة شهادة الرجل الواحد، وتتعدد بتعدد شهادة الأصول في الرجال. متى تقبل الشهادة على الشهادة قال رحمه الله: [ولا يحكم بها إلا أن تتعذر شهادة الأصل بموته] إذا: لو أن رجلا كبيرا في السن عنده شهادة فجاء وقال: إن هذه الأرض ملك لوقف فلان، وهناك كبير سن آخر يشهد بنفس الشهادة، فيأتي شاهدان ويشهدان على شهادة الشاهد الأول الذي اسمه عبد الله في ثبوت الحق، ويسترعيهم الشهادة، وأيضا يأتي شاهدان آخران لشهادة عبد الرحمن كبير السن الآخر، فإذا حصلت الشهادة فمعنى ذلك: أن أربعة شهود سيشهدون في مقابل شهادة الاثنين، وسينقلون شهادة الاثنين، وكل منهما شاهد على صاحبه، كل اثنين سيشهدان على ما شهد عليه، وحينئذ تقبل الشهادة إذا تعذر، إما لموت الأصل أو غيره من الأسباب، مثل أن أكون أنا وأخي سمعنا والدنا يقول كذا وكذا، ثم توفي الوالد، فأنا وأخي ملزمان شرعا بأداء هذا الحق الذي طلب منا، فهذا فيه حفظ للحقوق وصيانة لها. فبين رحمه الله أنه عند التعذر من موت أو مرض كأن يشهد ثم مرض، وتعذر عليه أن يأتي إلى مجلس القضاء، وعلى هذا فتقبل الشهادة عند وجود العذر، أما إذا لم يوجد العذر فللعلماء وجهان: الوجه الأول: لو كان الأصل موجودا في المدينة أو موجودا في مدينة أخرى، ويمكن أن يسافر ويأتي، فمن أهل العلم من قال: إنه إذا كان على مسافة القصر فإنه يسقط عنه الحضور. الوجه الثاني: إذا كان في داخل المدينة فإنه لا تقبل الشهادة على الشهادة؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك؛ ولأن نقل الشهادة على الشهادة مزلة الخطأ والخلل، فينبغي إشهاد الأصل، وهذا القول فيه احتياط، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، والأصول تقتضي القبول. قال رحمه الله: [أو غيبة مسافة قصر] . كما ذكرنا، كأن يكون في مدينة والقاضي في مدينة أخرى. متى يشهد الفرع بدلا عن الأصل قال رحمه الله: [ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل] . كأن يقول له: اشهد على شهادتي أن فلانا له على فلان كذا وكذا، واشهد على شهادتي أن فلانا أوقف داره أو أوقف أرضه، أو أن فلانا وهب، أو أن فلانا شارك فلانا، أو أن فلانا أعطى فلانا قرضا، فقوله: اشهد على شهادتي هذا استرعاء. قال رحمه الله: [فيقول: اشهد على شهادتي بكذا، أو يسمعه يقر بها عند الحاكم] . إذا شهد بها عند الحاكم فهي شهادة شرعية وحينئذ ينقل هذه الشهادة. قال رحمه الله: [أو يعزوها إلى سبب من قرض أو بيع أو نحوه] . كأن يقول: إن لفلان على فلان مائة من أصل بيع، سواء كان من قيمة أرض أو من قيمة سيارة، فيسندها إلى أصل، أما لو قال: إن له في ذمته كذا ولم يبين السبب، فلا تقبل. مسألة الرجوع عن الشهادة وصورها قال رحمه الله: [وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض] . هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة الرجوع عن الشهادة، أن يشهد الشهود ثم بعد شهادتهم يقولون: رجعنا، فهذه على صورتين: الصورة الأولى: أن يقولوا: كذبنا وزورنا، ونحن قد تبنا إلى الله ورجعنا عن شهادتنا، فهذا اعتراف بالخطأ، بمعنى: أنهم تحملوا وأدوا الشهادة زورا وكذبا. أو أن يكون منهم الرجوع لتبين خطأ، فيقولون: رجعنا، فإن الذي قتل فلانا ليس بفلان، نحن أخطأنا وما تعمدنا شهادة الزور، وإنما تبين لنا أن الذي قتل فلانا هو فلان، وأننا أخطأنا في الشهادة الأولى. وهذا الرجوع إما أن يكون قبل الحكم بالشهادة، وإما أن يكون بعد الحكم، فإذا كان بعد الحكم إما أن يكون قبل تنفيذ الحكم فإما أن يكون بعد تنفيذ الحكم. الحالة الأولى: أن يرجع الشهود قبل الحكم بشهادتهم: فإن القاضي لا يحكم بشهادتهم قولا واحدا عند العلماء، مثاله: لو ادعى شخص على شخص دينا، ثم أقام شاهدين فشهدا عند القاضي وقالا: إن فلانا له على فلان كذا، وقد سبق أن قلنا: إنه إذا شهد الشهود فيبحث القاضي عن الشهود هل هم عدول؟ هل هم أهل للشهادة أو لا؟ فإذا قالوا بعد ذلك: رجعنا عن شهادتنا، فهذا قبل الحكم، أو قال المدعى عليه: هؤلاء الشهود فسقة لا تقبل شهادتهم، وسأقيم البينة على فسقهم، فلما أعطى القاضي مهلة ثلاثة أيام حتى يثبت -كما تقدم معنا في أدب القاضي- رجع الشهود، إذا شهدوا وقبل أن يحكم بشهادتهم رجعوا. فإن رجعوا وقالوا: إنهم مزورون، فحينئذ يترتب حكمان: الأول: رد الشهادة. الثاني: تعزيرهم من القاضي، وقد اختلفت عبارة العلماء في التعزير، حتى قال بعضهم: له أن يشوه، كأن يحلق لحى الشهود، ويمشي بهم في الأسواق، ويقال: هؤلاء كذبة وشهود زور. والصحيح: أنه لا تحلق اللحية، وإنما يطاف بهم في الأسواق إذا رأى المصلحة، ويقول: هؤلاء شهود زور وكذبة؛ لأنهم كذبوا على القاضي، وهذا يفضي إلى اختلال الأحكام الشرعية، واستغلال القضاء للسوء؛ ولأنه قد تستباح الدماء، وقد تستباح الفروج، فالطواف بهم بين الناس يردع غيرهم عن هذا الفعل الذي به قوام العدل عن هذا الفعل، الذي يؤدي إلى ضياع العدل وانتهاك الحرمات، فبعض العلماء رحمهم الله يقولون: إنهم يعزرون بالطواف، والأصل يقتضي أن الأمر إلى القاضي فيعزرهم بما يرى من المصلحة. أما إذا كان رجوعهم بالخطأ، وقالوا: نحن شهدنا وتبين لنا الخطأ، فحينئذ لا يعزرون، لكن يسقط شهادتهم، وإذا أسقط شهادتهم تبين أنهم أناس فيهم خلل في الشهادة؛ لأنهم اعترفوا على أنفسهم أنهم أخطئوا، فمعنى ذلك: أنهم أناس لا يضبطون الشهادة، وحينئذ لا تقبل شهادتهم بعد ذلك. الحالة الثانية: أن يكون رجوعهم بعد الحكم بالشهادة وقبل تنفيذ الحكم، فحينئذ إذا شهدوا بحق مالي، وشهدوا أن فلانا باع سيارته، وأن فلانا باع أرضه، فإن رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم ساقط، ولا يؤثر في الحكم؛ لأنه إذا شهد أن لفلان على فلان ألفا، وكانت شهادتهم مزكاة معتبرة شرعا، فحينئذ ثبت عندنا أن لفلان على فلان ألفا، فإذا قالوا: كذبنا وزورنا، فقد طعنوا في أنفسهم بالفسق، وحينئذ جرحوا أنفسهم، فلا يقبل رجوعهم؛ لأنهم شهدوا على أنفسهم أنه لا يقبل قولهم، ونحن قد قبلنا قولهم قبل ذلك بالتعديل، فحينئذ لا نرجع إذا غلب على ظننا صدقهم إلى أمر تبين أنهم فسقة، وأنهم لا تقبل شهادتهم، فلو شهدوا بحق لمحمد، ثم قالوا: كذبنا وزورنا، فإن قولهم: كذبنا وزورنا إنما شهدوا على أنفسهم بالفسق، ومن شهد على نفسه بالفسق فقد أسقط شهادته، فحينما يقولون: كذبنا وزورنا، والحق إنما هو لفلان وليس لفلان، فحينئذ سقطت شهادتهم الثانية وبقيت شهادتهم الأولى على الأصل؛ وكذلك الحكم إذا ثبت أنهم قالوا: زورنا فإنهم يعزرون. ولو قالوا: أخطأنا، والحق ليس لفلان وإنما هو لفلان، وكان هذا بعد حكم القاضي بالحق المالي، فنقول: إذا حكم القاضي بالمال وسدد، فحينئذ لا ينقض الحكم؛ لأنه ثبت بصورة شرعية معتبرة. وقولهم: أخطأنا، فهم شهدوا على أنفسهم بسقوط شهادتهم، فهناك سقطوا بالتزوير، وهنا سقطوا بخفة الضبط؛ لأن من شرط قبول الشهادة أن يكون الشاهد ضابطا لشهادته؛ لأن الله تعالى يقول: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، فتسقط الشهادة الثانية وتبقى الشهادة الأولى، ويثبت الحق لصاحبه، ولا يؤثر في حكم القاضي؛ لأن الأحكام القضائية لا تنقض إلا في مسائل خاصة، وهذه ليست منها، وحينئذ يبقى الحكم على ما هو عليه وينفذ. الحالة الثالثة: أن يكون رجوعهم بعد الحكم، وأن يكون الحكم مشتملا على حد أو قصاص، فحينئذ يسقط الحد ويسقط القصاص؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات. فلو قالوا: زورنا وكذبنا، فإن فلانا ما سرق، فحينئذ لا تقطع اليد، أو أن فلانا ما زنى، فإنه لا يرجم؛ ولذلك سبق أن قلنا: إنه عند الرجم يؤتى بالشهود بحيث لو كانوا كذبة فقد يرجعون عن شهادتهم، فإذا قالوا: إنهم كذبوا، فحينئذ يسقط تنفيذ الحد، وإذا كان في الحد حق مالي، مثل السرقة؛ فإنه يثبت المال لصاحبه، ولكن لا يقام الحد. والخلاصة: أنهم إذا رجعوا قبل الحكم وجها واحدا لا ينقض، وإذا رجعوا بعد الحكم، فإن كان بعد الحكم وقبل التنفيذ مضى الحكم ونفذ، إلا أن يكون مشتملا على حد أو قود دون قصاص، فحينئذ لا ينفذ؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات. ولو حكم الحاكم بشهادتهم ونفذ الحكم في القتل، وجاءوا وقالوا: رجعنا عن شهادتنا، فعلى صورتين: الصورة الأولى: إما أن يقولوا: كذبنا وتعمدنا قتله، فإنهم يقتلون؛ لأنهم تسببوا في قتله، ولولا شهادتهم لما حصل قتل، وهي السببية المفضية إلى الزهوق، وقد تقدم معنا شرحها في كتاب القصاص، وحينئذ قال علي رضي الله عنه كما في القصة عنه: أنه شهد عنده شهود أن فلانا سرق فقطع يده، ثم جاءوا وقالوا: أخطأنا، فقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما. صحيح أن الذي قطع هو الذي أمره القاضي بالقطع، وهذه السببية يسمونها: السببية المفضية للزهوق، فالسببية المؤثرة المفضية للزهوق لا شك أنها توجب القصاص، فحينئذ يقتص منهم إذا تعمدوا قطع الأطراف، لكن لو قالوا: أخطأنا، فحينئذ لا يقتص، فيسقط القصاص، ولكن يجب عليهم الضمان. قال رحمه الله: [ويلزمهم الضمان دون من زكاهم] يرد السؤال هل الذين زكوا الشهود يحكم بوجوب القصاص عليهم؟ إذا قالوا: تعمدنا، ونعلم أنهم فسقة وأعناهم على هذا، فحينئذ هم شركاء، لكن لو قالوا: نحن نعلم أنهم فسقة وزكيناهم مجاملة، ولا نعلم أن هذا سيفضي إلى الزيغ، فللعلماء أوجه: فمن أهل العلم من قال: إنه يقتص منهم، ومنهم وقال: لا يقتص منهم، من الذين يرون القصاص قالوا: إذا كان المزكون علموا أنهم ليسوا بأهل الشهادة وزكوهم، فإنه يقتص منهم. والخلاصة: أن المزكي يلزمه الضمان إذا علم أن شهادته زور؛ لأنه أعانه على الزور؛ ولأنه أعانه على الإثم، وحينئذ يكون الحكم كما ذكرنا في قتل الجماعة، وأن كل سببية تفضي وتعين على الزهوق فتأخذ حكم الاشتراك. حكم رجوع الشاهد مع اليمين وما يجب عليه قال رحمه الله: [وإن حكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله] . قوله: (وإن حكم بشاهد ويمين) ، قال بعض العلماء: إنه يجزئ؛ لأن اليمين مقام الشاهد، والشاهد الذي أخطأ عليه ضمان نصف المال. والصحيح: أن عليه ضمان المال كله؛ لأن اليمين لا تكون إلا بعد وجود الشاهد، وحينئذ الشاهد هو الذي تسبب في الحكم كله، وعلى هذا يجب عليه ضمان المال كله. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الشهادات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (555) صـــــ(1) إلى صــ(7) شرح زاد المستقنع - باب اليمين في الدعاوى تشرع اليمين في الدعاوى، وقد دل على مشروعيتها دليل الكتاب والسنة، وهي حجة من حجج القضاء، وتشرع في حال الإنكار، فمن أنكر عليه اليمين، ولا تشرع في العبادات والحدود؛ لأنها حقوق لله تعالى، وهناك أمور لا يجوز فيها الاستحلاف؛ كالنكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والاستيلاء والنسب والقود والقذف. مشروعية اليمين في الدعاوى وحجيتها وأحكامها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب اليمين في الدعاوى] . اليمين في الدعاوى حجة من حجج القضاء؛ ولذلك دلت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين، من حديث الأشعث رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لك إلا يمينه) أي: ليس للمدعي إذا لم تكن له بينة إلا أن يحلف خصمه، فليس له إلا ذلك، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم وغيره بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ، وقوله: (اليمين على من أنكر) هذا أصل يستدلون به في مسألة خاصة، وهي مسألة: شهادة أهل الكتاب على وصية المسلم في السفر، وهي التي تقدمت معنا. وفي آية المائدة في قوله تعالى: {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى} [المائدة:106] ، فقوله: (فيقسمان بالله) أقام الله عز وجل اليمين للتوثيق في القضاء والحكم، وكذلك أيضا أقام أيمان اللعان وقد تقدمت معنا، ودل على اعتدادها؛ لأنها قامت مقام الشهود، وهذا يدل على أنها يمين لها تأثير في القضاء وأنه يحكم بها. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حويصة ومحيصة ابني مسعود، مع عبد الله بن سهل وعبد الرحمن بن سهل ابني عمهما: ذلك أن عبد الله بن سهل انطلق مع محيصة بن مسعود إلى خيبر، فافترقا في بعض أماكنها، فرجع محيصة إلى المكان الذي تواعدا فيه مع عبد الله بن سهل، فوجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه، والشاهد من هذا: أنه دفنه ثم رجع إلى المدينة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رفعوا القضية إليه: (تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم فتستحقون دم صاحبكم) ، وقد تقدم هذا معنا في القسامة، وهذا يدل على أن اليمين حجة في القضاء. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا حينما قال للأشعث: (شاهداك أو يمينه، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه) . فدل على أنها تقبل من البر والفاجر. عدم جواز الاستحلاف في العبادات والحدود قال رحمه الله: [لا يستحلف في العبادات ولا في حد من حدود الله] . أي: لا تكون اليمين في حقوق الله عز وجل، فمثلا: لو قال شخص: فلان ما صلى، فقال: بل صليت، فاختصما للقاضي، فالقاضي يقول للمدعي: ائت ببينة أنه ما صلى، فإذا قال: ما عندي بينة، فحينئذ لا نقول للشخص الذي ادعي عليه أنه ما صلى: احلف اليمين، فلا نقول بحلف اليمين في هذا الحالة؛ لأن الحق لله، ولذلك بعض العلماء يعلل بعلة وهي: أن حقوق الله له، وحينئذ تعذر أن يحلفه صاحب الحق، وسقط التحليف في حقوق الله الخالصة، وكذلك أيضا لو قال: ما أدى الزكاة، وقال الآخر: بل أديتها، فترافعا إلى القاضي، فلا يقال له: احلف على أنك أديتها، فلا يحلف ولا يستقيم تحليفه قضاء. ومن هنا: لا يمين في حقوق الله ولا في الحدود؛ لأنه إذا أقر بالحد ملك الرجوع عنه، وقد تقدم هذا معنا في الحدود، فإذا ادعي عليه الزنا، فلا يحلف بالله إذا أنكر، وإنما يقال للمدعي: إما أن تقيم البينة وإلا نقيم عليك الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث ابن عباس لما قذف هلال بن أمية امرأته بـ شريك بن سحماء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، فهذا يدل على أنه إما أن يقيم البينة أو يقام عليه حد القذف، وكأنه من حقه لو اعترف بالزنا أن يرجع، فإن المقر لو أقر بالزنا من حقه أن يرجع، كما سنبينه إن شاء الله. مشروعية استحلاف المنكر في حقوق الآدميين قال رحمه الله: [ويستحلف المنكر في كل حق لآدمي] . كأن يقول له: لقد بعتني سيارتك، فيقول: ما بعتك سيارتي، فارتفعا إلى القاضي، فقيل للذي يدعي البيع: ألك بينة؟ فإذا قال: ما لي بينة، فيقال: إذا يحلف. وهناك شروط لجواز الحلف: أولا: أن تكون الدعوى في غير حق الله، كما ذكر المصنف رحمه الله في الحدود. ثانيا: أن ينكر الخصم. ثالثا: عدم وجود البينة؛ لأنه إذا وجدت البينة فلا يمين. رابعا: أن يطلب الخصم تحليف خصمه، أي: لابد أن يطلب الخصم بتحليف خصمه، ومما ذكر عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة: أن أحدهم عين في القضاء، فسمع رفقاء له بذلك، فاختصم إليه اثنان من المبرزين عند الإمام في الفقه والعلم، فقال أحدهما: لي على فلان حق، وذكر حقه، فقال للمدعى عليه: هل له عليك شيء؟ قال: لا، فقال للمدعي: ألك بينة؟ قال: ليس لي بينة، فقال للمدعى عليه: إذا احلف. وهنا وجه تخطئته. فقال المدعي: ومن قال للقاضي أن يطلب من الخصم أن يحلف وأنا ما طلبت منك أن تحلف خصمي؟ ثم قالا له: إنما أردنا أن نعلمك أن هناك علما وفقها لعلم القضاء؛ لأنه ليس كل واحد تعلم يستطيع أنه يقضي، وليس كل إنسان تعلم يستطيع أن يعلم غيره، فهنا ثقل العلم، فالشاهد من هذا: أنه لابد أن يطلب الخصم تحليف خصمه؛ لأنه حق له. أمور لا يشرع فيها الاستحلاف قال رحمه الله: [إلا النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والاستيلاد والنسب والقود والقذف] . قوله: (إلا النكاح) أي: أنه لا يحلف فيه، فلو قال: نكحتها، وقالت: إنه ليس بزوجي، أو قال: تزوجتك، وقالت: ما تزوجتك، فإنه لا تطالب المرأة باليمين؛ لأن الأصل عدم النكاح. قوله: (والطلاق) . أي: لو قالت: طلقتني، وقال: ما طلقتك، وحلف على نفي الطلاق، أو ادعى أنه طلقها في أول السنة، فليس لها النفقة، فقالت: بل طلقتني في جمادى فلي نفقة الستة الأشهر، فحينئذ إثبات الطلاق ونفيه من حيث أصل وجود النكاح، وقالوا: إنه لا يحلف على تطليقه لها عند نفي التأخير، وإنما تطالب المرأة بالبينة على الأصل؛ لأنه إذا قال: طلقت في محرم، فإن له ذلك، والأصل أن الزوج مطلق؛ لأنه الذي يملك العصمة، فقالوا في هذه الحالة: لا يطالب باليمين على النفي والإنكار. وعلى هذا: فإن أي أصل اعتضد بأصل آخر فإنه يكتفى به وتسقط اليمين، هذا على مذهب الحنابلة، ومن أهل العلم من قال بالعموم في الحقوق كلها، وأنه يطالب الخصم النافي بالبينة، وهذا يشهد له عموم النص. وقوله: (والرجعة) . أي: لو أنه طلقها ثم ادعى أنه راجعها، فقالت: ما راجعتني، فقال: بل راجعتك وأنت زوجة لي الآن، فقالت: ما راجعتني، فنقول للزوج: هل عندك بينة على أنك راجعت المرأة قبل خروجها من عدتها؟ فإن قال: ما عندي شهود، فحينئذ لا نقول للمرأة: احلفي أنه ما راجعك، أي: احلفي على نفي الرجعة؛ لأنه من المعلوم أن نفي الرجعة نفي للنكاح، إذا نفي الطلاق هذا يطالب فيه بالبينة؛ لأن الأصل معها، والأصل أنها أجنبية ما دام أنه فرط في الإشهاد على الرجعة؛ لأن الله أمره أن يشهد، قال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2] . وقوله: (والإيلاء) . كذلك لو قالت: أحلف أن لي أربعة أشهر ما مسني، وقال الزوج: أنا ما آليت، فالذي نفى الإيلاء -وهو الزوج- لا يطالب باليمين، وإنما نقول للمرأة: ائتي بالبينة أنه آلى منك وأنه حلف يمين الإيلاء، وقد تقدم معنا الإيلاء. وقوله: (وأصل الرق) أي: إذا ادعى أن فلانا رقيق له، فقال: بل أنا حر، فإننا نقول للذي ادعى الرق: هات بينتك على أن هذا رقيق أو مملوك لك، فإن قال: ليس عندي بينة، فحينئذ لا نقول: إن هذا الشخص رقيق؛ لأن الأصل أنه حر، والأصل أنه غير رقيق حتى يدل الدليل على رقه، ولا نطالبه باليمين على نفي الرق، هذا الذي انتزعه الحنابلة من معارضة الأصل. وقوله: (والولاء) . لو قال: إن فلانا مولى لي، فقال: لست بمولى لك، فإنه يأخذ نفس الحكم على الذي ذكرنا في الرقيق؛ لأن الأصل عدم هذه الأشياء. وقوله: (والاستيلاد) أي: الاستيلاد من الأمة، كأن يقول: لي منها ولد، فقالت: ليس لك مني ولد، والعكس، فإنه لا يطالب النافي باليمين؛ لأن الأصل يشهد بصحة قوله؛ إذ أن الأصل عدم وجود الولد، وعدم وجود النسل منها حتى يثبت. وقوله: (النسب) قالوا: النسب لا يحلف فيه، وهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من قال بالتحليف، فإذا قيل له: أنتسب لفلان؟ فقال: لست منه، ولست بولده، فإنه لا يطالب بالدليل؛ لأن الأصل أن يطالب المدعي بالبينة، والذي نفى فهو بنسبه المدعى صحيح أنه فلان بن فلان، والناس مؤتمنون على أنسابهم، فإذا جاء أحد يدعي أنه ليس ابن فلان، إنما هو ابن فلان، فهذا خلاف الأصل، فهو يذكر أمثلة على ما قال في الأصل، إذا خالف قول المدعي الأصل فإنه في هذه الحالة لا يحلف، بناء على ما يقرره الحنابلة رحمهم الله في المسألة التي تقدمت معنا: أن المدعي من إذا سكت لم يترك، والمدعى عليه من إذا سكت ترك. وقوله: (والقود) كذلك أيضا الأصل حرمة الدماء وعصمتها، فإنه لو قال: إن فلانا هو الذي قطع يد فلان، فقال: ما قطعتها، أو قال: أنت الذي قطعت يد فلان، وأنت الذي قطعت رجله، وأنت الذي اعتديت على إصبع فلان عمدا عدوانا، فنقول له: ائت ببينة تثبت قولك، ولا يمين لك على خصمك؛ لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وقوله: (والقذف) قالوا: إن مثل هذا لا يثبت فيه اليمين، والقذف فيه إشكال؛ لأن القذف من الحقوق المشتركة، لكن ارتفع الإشكال في القذف لأنه الأصل، فلو قذف شخص شخصا فقال له: أنت زان، فقال: ما زنيت، فترافعا إلى القاضي، فإن القاضي يقول للذي يدعي الزنا: إما أن تثبت الزنا وإما أن يقام عليك حد القذف، إذا طلبه صاحبه، فإذا قذف فإنه في هذه الحالة لا يطالب الخصم بيمين الإنكار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة أو حد في ظهرك) ، وما وجه اليمين على المدعى عليه. بيان صفة اليمين المشروعة قال رحمه الله: [واليمين المشروعة اليمين بالله تعالى] . بعد أن بين محل اليمين شرع في بيان صفة اليمين، فقال: (اليمين المشروعة اليمين بالله عز وجل) وهو أن يقول: والله ما فعلت، والله ما بعت السيارة، والله ليس له دين عندي، ونحو ذلك على النفي والإثبات. حكم تغليظ اليمين وأنواعه قال رحمه الله: [ولا تغلظ إلا فيما له خطر] . أي: ولا تغلظ اليمين، وتغليظ اليمين بالله مثل أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، فهذا من تغليظ اليمين. وتغلظ بالمكان؛ كأن يحلف بين الركن والمقام، أو بين المقام والباب، كما اختار بعض العلماء، وتغلظ بالزمان: كأن تكون بعد صلاة العصر، كما في آية المائدة في الشهادة على الوصية في السفر. والصحيح: أن التغليظ فيه مذهبان مشهوران للعلماء: فمنهم من قال بشرعية التغليظ، وأن الأمر مرجوع إلى القاضي، فيغلظ متى شاء. ومنهم من قال: لا يغلظ إلا في الوارد، إذا ورد نفس التغليظ يغلظ وإلا فلا، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الظاهرية: أنه لا يغلظ إلا في الوارد، وأنه لا يضيق على الخصوم، بل نقول بالسنة التي وردت: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ، فنحلفه اليمين وكفى باليمين تعظيما، فإنه: (ما حلف أحد يمين القضاء كاذبا فاجرا إلا لقي الله وهو عليه غضبان) ، والعياذ بالله! فعلى هذا لا نقول بالتغليظ إلا بما ورد فيه النص. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الإقرار) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (556) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - كتاب الإقرار كتاب الإقرار من كتب الفقه المهمة، خاصة لمن يمارسون القضاء، وتأتي أهمية هذا الباب من حيث اعتباره من أقوى حجج القضاء؛ لأنه شهادة على النفس، لكن هذه الشهادة لها شروط لابد أن يتصف بها المقر حتى يلزم بها، ولها قوادح تسقط بها إن وجدت. الإقرار تعريفه ومشروعيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الإقرار] : تعريف الإقرار الإقرار: مأخوذ من قر الشيء إذا ثبت، وفي الاصطلاح: الاعتراف بالحق، ويكون لفظا وكتابة وإشارة مفهمة؛ فافترق الإقرار هنا عن الشهادة، والسبب في ذلك: أن الإشارة المفهمة شهادة من الإنسان على نفسه، ولكن الشهادة شهادة على الغير، ويسوغ في شهادة الإنسان على نفسه ما لا يسوغ في شهادته على غيره. مشروعية الإقرار أجمع العلماء على اعتبار الإقرار لبثبوت السنة باعتبار الإقرار، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم إقرار ماعز والمرأة على نفسيهما بالزنا، وهذا يدل على حجية الإقرار وثبوته واستيفاء الشروط، والإجماع المنعقد على أنه حجة شرعية. قال بعض العلماء: أقوى حجج القضاء الإقرار؛ لأنه ليس هناك إنسان عاقل تتوافر فيه شروط الإقرار لقبول إقراره ويشهد على نفسه بالضرر إلا إذا كان صادقا، ومن هنا فهو أقوى الحجج، ومن هنا أخذ الله الإقرار على أنبيائه وعباده وخلقه، وهذا يدل على عظم حجية الإقرار. شروط من يصح منه الإقرار قال رحمه الله: [يصح من مكلف] يصح الإقرار من كل مكلف بالغ عاقل، فلا يصح من مجنون، ولا سكران. أما الدليل على سقوطه عن المجنون والسكران: فلأن كل منهما لا يعلم ما يقول، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء:43] ؛ فدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، فلربما أقر بأشياء لا حقيقة لها، سواء كان سكره على وجه يعذر به شرعا، كمن أعطي المخدر لعملية جراحية وقبل الإفاقة أقر بأشياء، فإنه لا يقبل إقراره، وذلك للشبهة، ولا يوثق بقوله. أو كان سكره تعمدا فإنه لا يؤاخذ بإقراره على الصحيح من أقوال العلماء. ودليلنا على سقوط إقرار السكران: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه وأرضاه: أن ماعز بن مالك نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فقال: (إني أصبت حدا فطهرني، فقال صلى الله عليه وسلم: أبه جنون؟ -يسأل جماعته وقرابته ممن كان قد أسلم- فقالوا: لا) ليس به جنون ونعرفه عاقلا. وهذا يدل على أن المجنون لا يقبل إقراره، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمرا؟ -لأنه قال: إني أصبت حدا فطهرني- فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، فلم يجد رائحة خمر. وهذا يدل على أنه لا يقبل الإقرار من سكران. ومن الأدلة أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط مقالة الردة عنه كما في الصحيحين في قصة حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا يدل على أنه لا عبرة بإقرار المجنون والسكران. أيضا: لا يقبل إقرار الصبي؛ لأنه لا يوثق بخبره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: -وذكر منهم- والصبي حتى يحتلم) فالصبي لا يوثق بقوله، فلا عقل عنده ولا حلم يمنعه ويردعه. قال رحمه الله: [مختار] . أي: غير مكره، فالمكره لا يقبل إقراره، وقد بينا أدلة سقوط مؤاخذة الإكراه في أكثر مسائل الأموال والحدود، فإذا أكره فإنه لا يؤاخذ على ما يقول؛ لأن الله أسقط أحكام الردة -وهي قول من أقوال المكره بالإكراه- فدل على أن قول المكره لا يعتد به، ولذلك لا ينفذ طلاقه ولا عتقه ولا إقراره، وقد أسقط الله عز وجل قول المكره في الردة وهي أعظم شيء؛ لأن المكره قلبه مطمئن بالإيمان، وهذا له ضابط، أولا: أن تستوفى شروط الإكراه وقد قدمناها في مباحث الإكراه على الطلاق. ثانيا: أن يتقيد بما أكره عليه، فإذا أكره على أن يقر بسيارة، فأقر بسيارة ومزرعة، أخذ بإقرار المزرعة، ولم يؤخذ بإقرار السيارة؛ لأنه يتقيد بحدود ما أكره عليه، فما زاد فإنه يؤاخذ به في إقراره. قال رحمه الله: [غير محجور عليه] فلا يصح إقرار السفيه بالمال؛ لأن أصل الحجر عليه هو منعه من التصرف في أمواله، وهذا نص قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5] ، فأسقط تصرفاتهم المالية؛ فإذا جئنا نصحح إقرار السفيه بالمال فإنه حينئذ ربما يقول لفلان علي عشرة آلاف، ويضيع ماله؛ لأنه سفيه، ومن هنا حجر على السفهاء في إقراراتهم المالية أو ما يئول إلى المال، أما لو كان إقراره بحد أو قطع فيصح إقراره؛ لأن المراد هنا إسقاط إقراره في الأموال وما يئول للمال، وهو الذي حجر عليه فيه، ولو قيده فقال: (غير محجور عليه فيما أقر به) لكان أدق؛ فإن هذا الذي عليه العمل عند العلماء، أما إقرار المحجور عليه في غير ما حجر عليه؛ فإنه عاقل ومكلف ومستوف للشروط فيؤاخذ بإقراره، فلو أقر أنه قتل عمدا وعدوانا فإنه يقتص منه، وإقراره صحيح ما دام أنه مستوف للشروط. قال رحمه الله: [ولا يصح من مكره، وإن أكره على وزن مال فباع ملكه لذلك صح] . ذكرنا أنه يتقيد الإكراه بما طلب منه، فالشخص يزن مثلا الدراهم والدنانير ثم يصرفها ويبيعها، فأكره على أن يزن فوزن ثم باع، فالبيع صحيح؛ لأن الذي أكره عليه هو الوزن لا البيع، فبيعه لم يصادف محلا للإسقاط، والأصل إعماله، فيعمل العقد ويبقى على صحته. إذا: شرط صحة تأثير الإكراه في الإقرار أن لا يتجاوز المحل الذي أكره عليه أو القدر الذي طلب منه أن يقر به. قوادح الإقرار قال رحمه الله: [ومن أقر في مرضه بشيء فكإقراره في صحته إلا في إقراره بالمال لوارثه فلا يقبل]صورة قدح المرض في الإقرار المرض نوعان: مرض مخوف، وغير مخوف. فأما المرض غير المخوف فكالزكام، فلو قال شخص مزكوم: فلان له علي ألف، فإن إقراره صحيح. وأما المرض المخوف، فقد تقدم تعريف ضابطه، فهذا المرض يؤثر في الإقرار إذا كان لوارث بمال، فحينئذ شرع المصنف رحمه الله في قوادح الإقرار في الصور الخاصة وهو: أن يكون في الأموال أو ما يئول إلى المال على الضابط الذي ذكرناه، أما لو أقر بغير ذلك كأنه يلزمه، في هذه الحالة إذا كان مريضا مرضا مخوفا فعلى ضربين: الضرب الأول: أن يكون مرضه مؤثرا في عقله، كما هو الحال في الجلطات إذا أصيب بجلطة قبل موته، وكانت الجلطة مؤثرة على دماغه، فأثرت في تركيزه وحفظه، فأقر وقال: فلان له علي ألف، فإنه ربما كان سدد الألف فنسي بسبب الجلطة فإذا قال الأطباء: إن هذا النوع من المرض أو الأدوية التي يعطاها تؤثر في ذاكرته وضبطه فإقراره ساقط؛ لأن التهمة موجودة. الضرب الثاني: إذا كان مرضه لا يؤثر في أهليته بالإقرار وضبطه، فننظر حينئذ إما أن يقر في مرض الموت لوارث، وإما أن يقر لغير وارث -وهو الأجنبي- فإذا أقر لغير وارث أن في ذمته مائة ألف حكمنا بصحة الإقرار واعتباره؛ لأن الإنسان ربما كان ظالما آكلا لأموال الناس جاحدا لها، أو متساهلا في رد حقوق الناس حتى إذا مرض مرض الموت أدركته رقة الآخرة، فانكسر وتاب، فيمكن من أن يخلص نفسه ويرد الحقوق إلى أهلها والمظالم إلى أصحابها. أما إذا كان قد أقر لوارث ففيه معارضة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصية للوارث، وحينئذ تحصل الشبهة يقولون: هذه تهمة في الإقرار، ويشترط في صحة الإقرار أن لا يكون متهما، فهذا وجه إدخال المصنف رحمه الله لهذه المسألة في أول كتاب الإقرار في الشروط؛ لأن من شروط صحة الإقرار أن لا يكون متهما، فإذا كان في مرض الموت وأقر لوارث اتهم، فإنه ربما أقر له محاباة له، أو لأنه ابن بار به. يتخلص من شروط الوصية ويعطيه عن سبيل الإقرار، وهذا من باب التحفظ والصيانة، فحينئذ لا يقال ببطلان الإقرار؛ لأن الإقرار صحيح من حيث الأصل، لكن التهمة تمنع إعمال الإقرار إلا بإذن الورثة، فإذا رضي الورثة وأجازوه صحت الوصية، -وقد تقدم- وأما إذا قال الورثة: لا. فحينئذ نقول: الإقرار موقوف على الورثة، ولا يحكم ببطلانه. لكن هذا يسمونه الإقرار الموقوف ويحكم بصحته في الأصل ثم نقول لبقية الورثة: هل تجيزونه أو لا؟ فإن أجازوه صح ونفذ وإلا فلا. صورة قدح الزوجية في الإقرار قال رحمه الله: [وإن أقر لامرأته بالصداق فلها مهر بالزوجية، لا بإقراره] . إذا أقر بأن للمرأة عنده صداق، فمعنى ذلك: أنه أقر أنها زوجة له؛ لأنه لا صداق إلا بنكاح، ولا نكاح يوجب الصداق إلا إذا كان نكاحا صحيحا شرعيا، وحينئذ تثبت الزوجية بإقراره، ويكون لها مهر المثل. قال رحمه الله: [ولو أقر أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها] لو أن مريضا مرض الموت ادعى أنه طلق امرأته طلاقا بائنا في حال صحته، فحينئذ يتهم، وقد سبق بيان هذا في الطلاق، حتى إن بعض الصحابة يقول: من طلق زوجته في مرض الوفاة نورثها منه، حتى لو خرجت من عدتها، بل بعض السلف يورثها ولو تزوجت رجلا آخر، قالوا: لأنه لما أخرها إلى مرض الوفاة وطلقها دل على أنه يريد حرمانها من الإرث، وهذا ما يسميه العلماء: المعاملة بنقيض القصد. صورة قدح الإرث في الإقرار قال رحمه الله: [وإن أقر لوارث؛ فصار عند الموت أجنبيا لم يلزم إقراره؛ لأنه باطل] إن أقر لوارث فقال: فلان ابن عمي له عندي ألف ريال، ولم يكن حين أقر له عنده ولد، ثم شاء الله عز وجل بعد موته أن ولدت المرأة فأنجبت ذكرا، فابن العم عصبة يحجب بالابن؛ لأن مرتبة البنوة تحرم ابن العم، فعندما أقر له واعترف كان وارثا وهذا يوجب بطلان الإقرار له إذا لم يجز الورثة -كما ذكرنا-، ثم كونه صار أجنبيا بعد ذلك لم يصادف محلا، أي: أن بطلان الإقرار لا يعاد مرة ثانية، فيحكم بصحته بعد إلغائه؛ لأن الإبطال إلغاء، ولا يمكننا أن نعمل بعد الإلغاء، فإذا ألغي الإقرار وسقط لم يؤثر زوال المانع. وفي الشريعة موانع إذا زالت رجع إلى الأصل، مثلا: الفاسق الذي لا تقبل شهادته، إذا صار عدلا قبلت شهادته، فالفسق مانع مؤقت، فما دام أنه موجود يمنع، لكن إذا زال رجع الحكم للأصل وقبلت الشهادة. لكن هنا كونه أقر فسقط الإقرار في حال الابتداء لا يوجب أن نقول: الآن أصبح أجنبيا فنصحح الإقرار؛ لأن الإقرار بطل من أصله. ومن أهل العلم طبعا من فصل في هذه المسألة بتفصيل أدق؛ لأنه في حال الإقرار إذا أقر وقلنا: إن الإقرار موقوف على إجازة الورثة. فهذا معناه أنه صحيح، وإذا كان صحيحا في الأصل فإنه إذا زال الموجب للمنع رجع إلى الأصل من القبول بالإقرار. قال رحمه الله: [وإن أقر لغير وارث أو أعطاه صح، وإن صار عند الموت وارثا] وإن أقر لغير وارث صح الإقرار، وحينئذ إذا صح الإقرار ثبت الحق لصاحبه، مثلا: أقر لابن العم وعنده ابن ذكر، فابن العم لا يرث مع وجود الفرع الذكر الوارث، ثم شاء الله عند الإرث أن توفي الابن قبل وفاة الأب؛ فرجع ابن العم وارثا، وهو في الأصل غير وارث، قالوا: لأنه بمجرد إنشاء الإقرار ثبت الحق لصاحبه واعتد به، وزوال المانع بعد ثبوت الإقرار لا يؤثر. وهذا صحيح. قال رحمه الله: [وإن أقرت امرأة على نفسها بنكاح ولم يدعه اثنان قبل] . أي: إن أقرت امرأة على نفسها بأنها زوجة لفلان، (ولم يدعه اثنان) أي: لم توجد خصومة أو منازع قبل إقرارها. صور لما يثبت بالإقرار قال رحمه الله: [وإن أقر وليها المجبر بالنكاح، أو الذي أذنت له صح] . وهو الولي الذي ينزل منزلتها، إما بالولاية كالأب الذي له حق ولاية الإجبار على ابنته البكر، فأجبرها وقال: أقر أن فلانا هو زوج ابنتي، وأن فلانة ابنتي زوجة لفلان، فإنه يؤاخذ بهذا الإقرار ويعتد به، وهكذا من كان قائما مقامها. قال رحمه الله: [وإن أقر بنسب صغير أو مجنون مجهول النسب أنه ابنه ثبت نسبه] فيؤاخذ به ويرث منه إذا كان حيا، ويرثه إذا كان ميتا؛ لأن هذا المحل قابل للإقرار بلا تهمة، فإن قال: فلان ابني وليس هناك من يدعيه، وهو صغير جاهل لا يعرف نسبه فنعم، أما إذا كان كبيرا فإنه لا يثبت إذا نفى ولم يصدق، لأن هذا من حقه. فإذا أقر بنسب ابن صغير أو مجنون أو نحو ذلك، وليس هناك أحد ينازعه في هذا الإقرار قبل منه هذا الإقرار، وإذا قبل ثبت به ما يثبت بالنسب من الإرث والمحرمية وغير ذلك من الأحكام المترتبة على هذا الإقرار. قال رحمه الله: [فإن كان ميتا ورثه] إن كان هذا الصغير ميتا ورثه الأب الذي ادعى نسبه، لأنه في هذه الحالة له حق الإرث، وهذا الآن قليل، خاصة مع وجود الوسائل من توثيق الولادة وغيره، ولكن إن حصل في لقيط أو نحو ذلك، فقال: هذا اللقيط ابني، ثبت إقراره، وينسب إليه، ويعامل معاملة الولد له إذا كان هذا اللقيط صغيرا أو مجنونا، أما إذا كان كبيرا فالحكم واضح في مثل هذا. قال رحمه الله: [وإذا ادعى على شخص بشيء فصدقه صح] . إذا ادعى شخص عليه بمال، فقال: لي عليك ألف ريال، فقال: نعم، فحينئذ يؤاخذ بإقراره؛ لأن السؤال معاد في الجواب، أي: نعم لك علي ألف، ولو قال: أنا قصدت نعم لشيء آخر، نقول: لا يقبل؛ لأن نعم جاءت مركبة على السؤال، والسؤال هذا لو سأله القاضي: له عليك ألف، فقال: نعم؛ فإنه يؤاخذ ويعتبر إقرارا. إذا ادعى عليه بأي شيء -من حيث الأصل- فقال: نعم، هذا حصل ووقع أو قال: نعم أنا ضربته أنا شتمته أنا كسرت بابه أنا كسرت سيارته. فحينئذ يؤاخذ بإقراره متى كان مستوفيا للشروط، فإذا ادعى عليه بلا شيء، فلا شيء له. قيل: خاصم رجل رجلا عند قاضي، فقال: ما خصومتكما؟ قال: سله. فقال: هل له عليك شيء؟ قال: لا. ما له عندي شيء، قال: هذا (اللا شيء) أنا أريده منه، يعني الخصم يقول: ما دام أنه ما عنده شيء أنا أريد هذا الذي يدعي عليه، ومثل هؤلاء ممن بلغ عقله إلى هذا المستوى كيف تجيبه؟ تقول له: ما لك شيء، يقول: أريد هذا اللا شيء، قال: أنت ذو عقل، فأجبني إذا سألتك، أترى في يدي شيئا؟ ثم فتحها، قال: ليس فيها شيء، قال: إذا خذ من هذا ألا شيء، وقد وهبته لك في حق صاحبك، إذا: لابد وأن يكون المدعى شيئا، وهذا الشيء قد يكون في الحقوق المالية، وقد يكون في الحقوق الشخصية، فإذا ادعى عليه شيئا فإنه يؤاخذ بإقراره. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
ما يسقط به الإقرار قال رحمه الله: [فصل: إذا وصل بإقراره ما يسقطه، مثل أن يقول له: علي ألف لا تلزمني، ونحوه؛ لزمه الألف] هذه مسألة الوصل، وهي تابعة لشروط الإقرار، وهي عدم رجوع المقر عن إقراره، وعدم إبطاله من حيث الأصل؛ لأن الرجوع يؤثر في مسائل معينة، ولا يؤثر في الحقوق المالية وحقوق الآدميين، لكنه لو رجع عن حق من حقوق الله عز وجل فإنه يؤثر، والأصل في ذلك قصة ماعز، وقد تقدمت معنا في باب الزنا. فلو وصل بإقراره ما يبطله، فحينئذ يكون هذا الإبطال نوعا من الرجوع، كأنه أقر بشيء ثم رجع عنه، فهذه المسألة يبحثها العلماء هنا، وهي في الحقيقة تابعة لمسائل الرجوع، فقال رحمه الله: [إذا وصل بإقراره ما يسقطه، مثل أن يقول: له علي ألف لا تلزمني ونحوه] فقوله: (له علي ألف) هذا يثبت به الحق، وقوله: (لا تلزمني) يسقط به الحق؛ فوصل بإقراره ما يسقطه. وهذا نوع من الرجوع ونوع من الإبطال لا يعتد به ولا يقبل، فنقول له: لما قلت: (لك علي ألف) ثبتت الألف لصاحبها، وقولك: (لا تلزمني) رجوع عن حق مالي، والرجوع في الإقرار عن الحقوق المالية وحقوق الآدميين لا يؤثر؛ لأنه قد ثبت بإقراره واعترافه في الحق، وحينئذ لا نعدل عن هذا إلا بيقين أو غالب ظن مثله، فإذا قال: ليس له علي شيء؛ فإنه يتهم بأنه يريد أن يسقط عن نفسه التبعات، فلا يقبل منه قوله: لا تلزمني، فتثبت الألف. قال رحمه الله: [وإن قال: كان له علي وقضيته. فقوله بيمينه] هذا يسميه العلماء قبول الإقرار كلا دون قبوله للتجزئة، وهذا مذهب بعض العلماء. فإذا قال: له علي ألف وقضيته، قالوا: في هذه الحالة قد جمع في إقراره بين أصلين لا يمكن إسقاطهما؛ لأنهما جاءا في إقرار واحد، فلا يمكن أن نقول: نقبل إقراره ولا نقبل قضاؤه، ومن هنا قالوا: مع يمينه؛ لأنها يمين تهمة، ويقبل منه ذلك. قال رحمه الله: [ما لم تكن بينة] ما لم تكن بينة تثبت أنه قد دينه أو أعطاه، بمعنى: أن عندنا أصلين: إقراره بالألف وقضاؤه لها، فأنت إذا فصلت في هذه القضية جاءك المقر وأقر بهما معا، حينئذ تقول: إما أن أقبل الإقرار كلا وإما أن نسقطه كلا، فتقول: القول قوله بيمينه، فقبلت إقراره وأعطيته اليمين حتى يتخلص من الحق، وإما أن نقول: أن يثبت المدعي الأصل الأول، فيقول: له علي ألف، وقامت البينة على الألف، فحينئذ لا يقبل قوله: وقضيته، فتقبل جزء الإقرار بإثبات الألف أو يقيم بينة على السداد. قال رحمه الله: [أو يعترف بسبب الحق] كأن يقول: من بيع من هبة ونحو ذلك فيسنده إلى السبب. قال رحمه الله: [وإن قال: له علي مائة، ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه، ثم قال: زيوفا أو مؤجلة؛ لزمه مائة جيدة حالة] . هناك شيء يسمونه الإطلاق وشيء يسمونه التقييد، فالمطلق في عرف يتقيد بهذا العرف، فإذا قال: له علي مائة، فالعرف عندنا أنها الريال السعودي، فنقول له: ادفع مائة ريال، فلو أنه قال: له علي مائة. وسكت، ثم ذكر عملة منحطة قيمتها لا تساوي الريال فإننا نلزمه بالأغلى؛ لأنه المنصرف عرفا وهو الأصل، فكونه سكت سكوتا يمكنه أن يصف ولم يصف ثبت به الأول، وكان بإمكانه أن يستدرك، لكنه لم يستدرك لنفسه، ويثبت كون المائة جيدة صحيحة غير مزيفة، وكون العملة أعلى، ولو كان هناك عملة في البلد وعلمت أن غيرها أعلى، فالمعروف أنه عند الإطلاق تنصرف إلى الجيدة الصحاح فلا يقبل قوله: مكسرة؛ لأن قوله مكسرة يقع هروبا مما أقر به، فكما أن قوله: لا تلزمني، يسقط كل المقر به، فهنا يسقط جزء المقر به، لكنه إسقاط بنوع من التلاعب والتحايل، ولو فتح هذا الباب سقطت حقوق الناس. ومن أهل العلم من قال: إنه يقبل منه، حتى ولو مضى وقت، إذا سأل وبين. وهذا مبني ومقيس على مسألة استثناء البعض من الكل. قال رحمه الله: [وإن أقر بدين مؤجل فأنكر المقر له الأجل؛ فقول المقر مع يمينه] مثاله: أقر محمد لعبد الله بألف، قال: ولكنها دين مؤجل، فقال المقر له: لا. بل إني أعطيته الألف وديعة آخذها منه حينما أريد، فحينئذ يلزمه الدفع فورا؛ لأن الأصل في الحقوق أنها تدفع فورا، وبناء على ذلك نقول: إقراره بالألف أو بالحق يوجب عليه دفعه لصاحبه، ما لم يثبت ما خالف الأصل وهو التأجيل. وهذا راجع إلى الأصل وما خالف الأصل، فالمطلق يقيد به، فعندنا الذهب المغشوش والذهب الخالص، والصحاح والمزيفة والمكسرة، والصحاح والمكسرة والزيوف والخالصة والعملة الغالية، كلها تنصرف إلى المعروف عرفا حتى يثبت خلافها؛ لأنها الأصل. قال رحمه الله: [وإن أقر أنه وهب أو رهن وأقبض، أو أقر بقبض ثمن أو غيره، ثم أنكر القبض ولم يجحد الإقرار، وسأل إحلاف خصمه؛ فله ذلك] هذه المسألة قد تشكل على البعض وصورتها: أن كون شخصا يقول: وهبت فلانا وأقبضته، فحينما يعترف أنه وهب فلانا وأقبضه معناه أنه يعترف أنه ملكه؛ لأن الهبة تملك بالقبض -وقد بينا هذا في باب الهبة- إذا ما الذي يجعل المقر له ينكر أنه قبض؟ ما الذي يجعل المقر يعدل عن الإقباض؟ هذا يتأتى في مسائل الخصومات إذا حصل ضرر من الشيء الموهوب، فمثلا: أعطاه عمارة هبة ثم سقطت العمارة على أربعة أشخاص وقتلتهم، فالدية لأربعة أشخاص أعظم من قيمة العمارة، فحينئذ إذا أثبت أنه وهبه وأقبضه. فهذا من مصلحة المقر، والمقر له من مصلحته أن يقول: وهب ولكن ما أقبضني، وحينئذ يرد الإشكال: هل قبض أو لم يقبض؟ وانتقال اليد موقوف على القبض؛ لأن الهبة بالإجماع تثبت بالقبض لقصة أبي بكر رضي الله عنه مع ابنته عائشة: (إني كنت قد نحلتك ثلاثمائة وسقا جادا من نخل نخلي بالغابة، فلو أنك احتجتيه وقبضتيه لكان ملكا لك، أما إنك لم تفعلي ذلك فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء) وهذا يدل على اشتراط القبول في الهبة، فحينئذ إذا ادعى أنه أقبضه، وقال الموهوب له: ما أقبضه، فإنه أول شيء يقر أنه وهبه، ثم يقر أنه أقبضه، فالمقر له يتهرب من قضية الإقباض، فإذا قال: ما أقبضني، يقول: أنا أسأل القاضي أن يحلفه أني ما أقبضته؛ كان له ذلك المراد، ولذلك بعض الشراح يقول: كيف يقر الخصم أنه أعطاه ثم نقول له: يحلف؟! ولا يتأتى إلا في مسائل فيها الخصومة والنزاع التي يخشى الإنسان فيها من بقاء الملكية واليد، خاصة إذا حدث الضرر من العين ونحو ذلك. قال رحمه الله: [وإن باع شيئا أو وهبه أو أعتقه، ثم أقر] . كإقراره في الرقيق والعبيد، كأن يجني عبدا جناية، فمن المصلحة أن لا يكون العبد في ملكه، وحينئذ يرد النزاع في الإقباض وعدمه؛ لأن الملكية تنتقل بالقبض. قال رحمه الله: [وإن باع شيئا أو وهبه أو أعتقه، ثم أقر أن ذلك كان لغيره لم يقبل قوله، ولم ينفسخ البيع ولا غيره ولزمته غرامته] الصورة الأولى: إذا قال له: بعتك هذا الكتاب، فأخذ الكتاب بعشرة، ثم بعد البيع ادعى البائع أن الكتاب ليس له، فحينئذ عقد البيع ثابت على وجه لا إشكال فيه، وهو عقد شرعي أمرنا الله بالوفاء به فقال: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] فإذا جاء البائع يدعي أنه ملك لغيره، ففي هذه الحالة الأصل أن هذا الكتاب انتقل إلى المشتري، فإقراره بعد البيع لم يصادف شيئا يملكه، فقد تم عقد شرعي وهو البيع ثم جاء إقرار لم يصادف محلا، فهو يقر بشيء لم يعد له عليه يد؛ لأن البيع قد تم وانتهى، فمن هنا سقط إقراره بعد ثبوت البيع، لكنه بهذا الإقرار قد أقر أنه تصرف في مال الغير، فاشتمل إقراره على أمرين: الأول: أنه أراد أن يسقط البيع، والقاعدة الشرعية تقول: الإعمال أولى من الإهمال، الأصل إعمال العقود لا إهمالها ولا إلغاؤها؛ فنبقي البيع ساريا في إعماله، فتثبت به الملكية، ثم جاء إقراره بهذا المال للغير أشبه بالشهادة، فهو ليس إقرارا يوجب ثبوته؛ لأنه لم يملكه، وشرط صحة الإقرار: أن يقر بشيء يملكه وبشيء له حق أن يقر فيه. لكن الجانب الثاني: وهو كونه يقول: هذا الكتاب لزيد وليس لعمرو الذي اشترى مني، فحينئذ قد أثبت بنفسه جناية على مال زيد، يعني أنه باع مال زيد، وحينئذ نقول له: تغرم لزيد المال، ويصحح البيع إعمالا له على الظاهر. الصورة الثانية: يقول: أنا لم أكن مالكا له، فإذا قال: لم أكن مالكا له؛ فحينئذ جاء بشرط يؤثر في البيع، ويورد الشبهة في العقد، أما أن يقول: هذا الكتاب ليس لعمرو الذي اشتراه وإنما هو لزيد فهذا إقرار لم يصادف محلا. هذا هو وجه التفريق بين الإقرارين، حينما ينفي أنه ملكه فحينئذ لا إشكال؛ لأن من شرط صحة العقد أن يكون مالكا له، وحينما يقول: هو لفلان وليس لفلان فقد جاء إقراره غير مصادف للمحل المعتبر، فيسقط في الثاني ويعتد به في الأول. قال رحمه الله: [وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد، وأقام بينة قبلت] إذا قال: لم يكن ملكي وبعته وأنا لا أملكه؛ لأن الإنسان قد يسهو ويأخذ كتاب صاحبه يظنه كتابه فيبيعه، ثم لما باعه قال: هذا الكتاب ليس ملكا لي، بل ملكا لغيري، وأقام بينة على أن فلانا جاء بكتابه ووضعه عنده وكلا الكتابين يشبه أحدهما الآخر فأخطأ وباع، فحينئذ يقبل قوله ويحكم بانفساخ البيع؛ لأنه باع ما لا يملكه، ومن شرط صحة البيع أن يكون لما يملكه. قال رحمه الله: [إلا أن يكون قد أقر أنه ملكه أو أنه قبض ثمن ملكه لم يقبل] هذا يسمونه التناقض: أن يكون عنده إقرار سابق ثم يأتي بإقرار لاحق، يقصد به إلغاء الإقرار السابق وإبقاء الإقرار اللاحق، يقول: يا فلان! بكم هذا الكتاب؟ قال: بعشرة، قال: هو ملك لك؟ قال: نعم، هو ملك لي، وأقر بملكيته، ثم جاء وقال: ليس بملك لي، فحينئذ يريد إبطال البيع، فلا نقبل منه إقراره بأنه غير مالك. إذا شرط قبول إقراره بأنه غير مالك: أن لا تكون هناك تهمة في مناقضته لإقرار سابق، أما لو ثبت أنه أقر سابقا فإنه يسقط الثاني ويبقى الحكم الأول. الإقرار المجمل قال رحمه الله: [فصل: إذا قال: له علي شيء، أو كذا، قيل له: فسره] هذا يسمونه الإقرار بالمجمل، والمجمل هو الذي يتردد بين معنيين فأكثر لا مزية لأحدها على الآخر، أو بين معنيين فأكثر بالسوية. والمجملات تحتاج إلى بيان وتفسير، ولذلك من شرط قبول الإقرار: أن يكون بينا، وبعض العلماء يقول بعدم قبول الإقرار المجمل نهائيا، ومنهم من يقول: نقبل الإقرار المجمل ولكن نطلب تفسيره ممن أقر به. وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من أهل العلم. فقوله: له علي شيء (شيء) هذه نكرة يحتمل أنه غالي ويحتمل أنه رخيص يحتمل أنه من العقارات ويحتمل أنه من المنقولات يحتمل أنه حق من الحقوق العامة مثل الشفعة يحتمل أنه حق في القذف أو عرض أو نحو ذلك، فيطالب ببيان وتفسير ما أجمل، فإذا أراد أن يفسر ينبغي أن يفسر بشيء له قيمة يصدق على أنه شيء، ولو قال: علي مال، ينبغي أن يكون الشيء الذي يقر به مالا محترما شرعا، وعلى هذا لو قال: له علي مال، ثم قيل له: ما هذا المال؟ قال: ميتة، أو خمر، أو خنزير، نقول: هذا التفسير ساقط، ونلزمه بدفع أقل ما يصدق عليه أنه مال، وإذا لم يبين ولم يفسر الأصل يقتضي أنه يحبس حتى يبين ويفسر ما أجمله؛ لأن فيه حقا للغير، وهو الخصم الذي أقر له. قال رحمه الله: [فإن أبى حبس حتى يفسره] هذا مذهب من يرى الحبس في الحقوق المبهمة والمجملة، والحبس ينبغي أن لا يكون إلا بدليل واضح بين. قال رحمه الله: [فإن فسره بحق شفعة، أو بأقل مال قبل] (فإن فسره بحق شفعة) قال: له علي حق أن أشفع له في عقار بينه وبين أقاربي، وفعلا كان بينه وبينهم عقار فيقبل منه؛ لأنه يصدق عليه بأنه شيء، وله حق أيضا. (أو بأقل مال) قال: له علي مال، ثم قيل: كم المال؟ قال: ريال ونصف، الريال والنصف يصدق عليه أنه مال، فنقبل منه، لكن لو قال: له علي شيء، قال: فسر، قال: حبة شعير، هذه لا يمكن أن تقبل ولا يصدق عليها أنها مال عرفا. قال رحمه الله: [وإن فسره بميتة أو خمر أو كقشر جوزة لم يقبل] هذا مفهوم العبارة السابقة، قال: له علي مال، قال: ما هو المال؟ قال: ثعلب محنط -مثلما يحنطون الآن- هذا ليس بمال؛ لأنه لا يجوز بيع الثعالب المحنطة، نقول: هذا ميتة وليس بمال، إنما يقبل أن يكون مالا محترما شرعا، وهكذا لو فسره بالخمر وبالخنزير كله لا يقبل؛ لأنه لما قال: له علي مال، ثم ذكر شيئا لا قيمة له في الشرع ولا يعتد به شرعا فكأنه تهرب من الإقرار، كما ذكرنا عند قوله: (له علي ألف لا تلزمني) وهو التهرب الصريح والتهرب الضمني. قال رحمه الله: [ويقبل بكلب مباح نفعه، أو حد قذف] (ويقبل بكلب مباح نفعه) وهو كلب الحراسة وكلب الصيد المعلم، فإذا فسره فقال: له علي كلب معلم قبل تفسيره. والنفع المباح هو الصيد والماشية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء الكلب للصيد وحراسة الغنم والدواب والبهائم، هذه ثلاثة أنواع من الكلاب: (من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان) ، وهذا يدل على أنه له قيمة شرعا ومنفعته مباحة. ومذهب بعض العلماء أنه إذا أتلف كلب الصيد المعلم الذي خسر على تعليمه فعليه ضمانه، وهو مذهب ضعيف، لكن له وجه مما ذكرناه. قال رحمه الله: [وإن قال: له علي ألف، رجع في تفسير جنسه إليه] (وإن قال: له علي ألف) هذه الألف ما ندري دولارات أو ريالات أو دنانير أو دراهم. نقول له: فسر، هل هي ألف دولار أو دينار، فإذا فسره بالدولار قبل، وإذا فسره بالريال قبل؛ لأنه يحتمل، ولو فسر المحتمل بأي تفسير قبل منه؛ إذا كان اللفظ يحتمله. قال رحمه الله: [فإن فسره بجنس واحد أو بأجناس قبل منه] قال: هذه الألف دولارات؛ فأخذ بالقيمة الغالية قبل منه، هذه الألف ريالات؛ فأخذ بالقيمة الدنيا قبل؛ له ألف؛ خمسمائة دولارات وخمسمائة ريالات -مشترك- قبل، قال بأي شيء؛ سواء أجناس أو جنس واحد. قال رحمه الله: [وإذا قال: له علي ما بين درهم وعشرة؛ لزمه ثمانية] لأن التسعة تسقط بالبينية، ويوافق في هذا بعض فقهاء المالكية الحنابلة رحمهم الله، فما بين درهم وعشرة يلزمه أن يدفع ثمانية؛ لأن هذا يقتضي البينية. ومن أهل العلم من قال: يلزمه تسعة، لوجود المقاربة، فيدفع تسعة دراهم، والقول الأول يختاره المصنف رحمه الله لوجود البينية، لكن ما الذي يبين له البينية من ناحية ما بين التسعة وما بين الدرهم وبين العشرة؛ لأن التسعة مقاربة للعشرة وما قارب الشيء أخذ حكمه. قال رحمه الله: [وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة، أو من درهم إلى عشرة؛ لزمه تسعة] . هذا للمقاربة لا إلى الغاية، وحينئذ تكون الغاية إلى العشرة وما دونها غير منفية، فتكون تسعة، وما بين درهم وعشرة نفس الحكم، قالوا: لأن هذا يقتضي البينية وقد بيناها في اللفظ وفي المعنى. قال رحمه الله: [وإن قال: له علي درهم أو دينار؛ لزمه أحدهما] . الدينار أغلى من الدرهم، مثل: له علي دولار وريال والدولار أغلى من الريال، نقول له: فسر. وهذا مراد المصنف: أنه إذا تردد بين الغالي والرخيص طلب منه أن يبين؛ لأن هذا محتمل. قال رحمه الله: [وإن قال: له علي تمر في جراب، أو سكين في قراب، أو فص في خاتم ونحوه؛ فهو مقر بالأول] . (له علي تمر في جراب) قالوا: مقر بالتمر وغير مقر بالجراب؛ لأنه قال: تمر في جراب، وما قال: تمر وجراب، وبعض الأحيان الشخص يقول: له علي كيس في الثلاجة، فليس معنى ذلك أن نأتي نأخذ الكيس والثلاجة؛ لأن بعضهم يقر بهذا ويقصد أن الذي عليه موضوع في جراب أو في ثلاجة، هذا وجهه، وحينئذ المقر به الأول، وليس المحل تبعا لما أقر به، والتمر في الجراب. (أو سكين في قراب) كذلك هو في هذه الحالة لا يقصد؛ لأن كثيرا من الناس يعبر بهذا التعبير ولا يقصد مجموع الأمرين؛ لأنه لو قصد هذا لعبر بالمشاركة، أو قال مثلا: له علي جراب فيه تمر، فهذا واضح بأنه يقصد الجراب مع التمر، لكن إذا قال: تمر في جراب، أو سكين في قراب أو سيف في غمده ونحو ذلك فإنه يقصد به الأول دون الثاني، وهكذا لو قال: فص في خاتم. فهو مقر (بالأول) بالتمر وبالسكين وبالفص، ولا يلزمه الجراب ولا القراب ولا الخاتم؛ لأنه لم يقر بالثاني. قال رحمه الله تعالى: [والله سبحانه وتعالى أعلم] . والله أعلم وأحكم سبحانه، سبحان من علم آدم وعلم الأنبياء والعلماء. ونسأل الله بعزته وجلاله أن يجعله علما نافعا وعملا صالحا، ونسأله بعزته وجلاله أن يجعله شافعا نافعا يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الإقرار) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (557) صـــــ(1) إلى صــ(16) خاتمة شرح زاد المستقنع - وصايا لطلاب العلم كل من وفقه الله وأكرمه بطلب العلم فقد تحمل مسئولية عظمى، ألا وهي حفظ هذا العلم عن كل ما يشوبه من سمعة ورياء وعجب، وعليه أن يشكر نعمة الله عليه، وأن يضبط علمه بالمتون، ويمتثل أخلاق طالب العلم المخلص لله عز وجل في طلبه وتبليغه، ويعمر وقته بهذا العلم الجليل وبذكر الله تعالى، وأن يعلم أن دعاء الله والاستعانة به خير معين على ما هو مقدم عليه من أيامه. وصايا لطلاب العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه أمور مهمة أحب أن أوصي بها طلبة العلم. الشعور بالمسئولية أمام العلم أحب أن أوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، وهذه الوصية كثير قائلها قليل من يعمل بها، وهي التي جمعت خير الدين والدنيا والآخرة، ومن وصى غيره بتقوى الله فقد جمع له الإسلام كله، فأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل. ثم هناك أمر ينبغي التنبيه عليه بالنسبة لطلاب العلم الذين حضروا هذه الدروس وأتموا قراءة هذا الكتاب: كل طالب علم وفقه الله عز وجل لقراءة كتاب كامل على شيخه فينبغي عليه أن ينتبه للضوابط الشرعية التي يلزم بالتقيد بها، وكل من ابتلي بهذا العلم فعليه أن يدرك حقيقة لا شك فيها ولا مرية: أن هذا العلم سلاح ذو حدين، فوالله الذي لا إله غيره ولا رب سواه أن هذا العلم إما أن يرفع صاحبه إلى خير وبر ورحمة في الدين والدنيا والآخرة لم تخطر له على بال، وإما أن يمحق له بركة دينه ودنياه وآخرته، فيصبح من أشقى العباد -نسأل الله السلامة والعافية- فليس بين العلم تردد، فإما إلى العلا وإما إلى الحضيض، ومن تعلم العلم لغير الله مكر الله به، ومن تعلم العلم ولم يعرف ماذا يراد بهذا العلم، وماذا يراد منه؛ فقد ذبح بغير السكين، وسيورد نفسه الموارد، فكل طالب علم عليه أن يستشعر المسئولية تجاه ما تعلمه. ومن حيث الأصل نحن ملزمون بقراءة هذا المتن، وبشرح الكلمة ومعرفة معناها، وذكر المثال والحكم المستنبط منه، ثم ذكر الأمثلة والدليل على الحكم، هذا هو الأصل الذي ينبغي في قراءة الجملة الفقهية، أما الخلافات والردود والمناقشات، فهذه ليس ملزما بها طالب العلم، ولسنا ملزمين بالخوض فيها، ولكن لوجود الحاجة وكثرة الاعتراضات والأقوال المخالفة مما قد يشكل على طلاب العلم احتجنا إلى هذا البيان، ولوجود نوعية من طلاب العلم تريد التوسع، إذا الأصل أنك ملزم بالرجوع لهذا الكتاب. تلخيص ما فهم من كل كتاب وأوصي طلاب العلم الذين قرءوا هذا الكتاب أن يرجعوا إلى أوله، ويكتبوا معنى كل عبارة وحكمها ودليلها، وذكر أمثلة قديمة أو حديثة حتى تلم به، وهذا ما يسمى: اختصار الشرح، وأما الخلافات والردود والمناقشات والتوسعات فتترك جانبا؛ لأن طالب العلم لا ينبغي له أن يتناول هذه الخلافات إلا بعد التأهل وضبط العلم، وبعد وجود الحاجة، فتبدأ -رحمك الله- بمراجعته بهذه الطريقة، فالذين أتموا حضور الكتاب أوصيهم إذا تيسر للإنسان أن يراجع في خاصة نفسه؛ فهذا من أقوى وأفضل ما يكون لطالب العلم، أن يعتمد على الله ثم على نفسه بعيدا عن الرياء والانشغال بالناس، ويكيف نفسه ووقته قدر ما يستطيع. ففي هذه الحالة إذا كنت تريد أن تضبط بالمراجعة فهناك محاذير منها: كثرة السآمة والملل، وتسلط عدو الله إبليس الرجيم بالوسوسة والتثبيط عن هذا العلم؛ فوالله إنك في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، والله إن هذه الجنة قد حفت بالمكاره التي لم تخطر لك على بال، وليأتينك عدو الله من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك في كل صغير وكبير ما لم يتداركك الله برحمته، فتلجأ إلى الله سبحانه وتعالى إن استطعت أن تختار أفضل الأوقات لهذا العلم؛ لأنه أشرف شيء، وتستشعر عندما تقوم بك الهمة أنك مسئول أمام الله سبحانه وتعالى، فكل من حضر شرحا أو بين له حكم؛ فإن العالم أو من شرح أو من علم قد أعذر إلى الله، ونقل الأمانة منه إلى غيره، وحينئذ لما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أشهد الله عليهم، فكل من حضر وسمع المسألة بدليلها فقد برئت ذمة العالم وأعذر إلى ربه، والأمل في الله ثم فيكم، وكل طالب علم إذا استشعر أنه مسئول أمام هذه الأحكام شحذت همته، وقويت عزيمته، وأصبح يشعر أن كل مسألة أمانة في رقبته أمام أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما أن يخيب ظن مشايخه وعلمائه ومن تعب وجد في تعليمه فلا، نسأل الله أن لا يخيب ظننا ولا ظنهم. ففي هذه الحالة إذا استشعر أنه مسئول أمام الله عز وجل راجع العلم، وستجد نوعا من السآمة والملل والتثبيط، ولكن والله ما إن تصبر إلا ويفتح الله عليك من واسع رحماته، وكلما عظمت المشاغل والضيق والسآمة والملل كلما عظم فتح الله عليك، فيا هذا! انتبه لنفسك واحرص على وقتك، إذا كنت تريد أن تراجع لوحدك فالأمر يحتاج إلى عزم، ومن أفضل الأشياء التي تعين على الصبر على العلم وقوة النفس على العلم: قيام الليل، فتستعين بالله عز وجل عند قيام الليل أن يعينك على مراجعة هذا العلم، وعلى ضبطه وإتقانه في الدعاء والصلاة. شكر الله على نعمة العلم ومما يحتاجه طالب العلم: استشعار عظيم ما يدخره الله فيكمل الفضل إن أنت أتقنت تذكر أن الله سبحانه وتعالى اختارك واصطفاك، وقد كنا والله في طلب العلم لا نزال نحس بنعمة الله عز وجل علينا في قلوبنا، ونقول: سبحان الله! كيف أن الله اختارني أجلس بين يدي الوالد رحمة الله عليه وبين يدي كل من يبث لي دررا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقول: يا رب! لك الحمد أن اخترتني، وما مرت علي حلقة عالم ولا سمعت عالما يذكر حديثا أو حكما من كتاب الله أو سنة إلا قلت: الحمد لله أن شرفني الله أن أنقل هذا العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) ، فإذا وفقك الله ويسر لك هذه الرحمة فاستشعر عظيم نعمة الله عز وجل عليك. ومن استشعار المسئولية: ترتيب الوقت وتنظيمه، ومن العلم الذي سيعان صاحبه أن يكون في كل لحظة مستشعرا أنه مسئول عن هذا العلم، والله إن من طلاب العلم من كان ينشغل بحقوق أهله وإخوانه والناس وهو يفكر في مسائل علم وينقل ويفعل… حتى المصالح الدنيوية تكون عنده وهو يذاكر مسائل العلم في عقله؛ هذه هي الهمة العالية في الطلب، فكن ذلك رحمك الله، وهذا كله بتوفيق الله. اختيار طالب علم لمراجعة الدروس واجتهد ما تستطيع في اختيار طالب علم تذاكر معه في هذه الحالة، وأوصي بطلاب العلم الصادقين، وهنا وقفة: ينبغي على اللاحق أن يعترف بفضل السابق، ووالله لا بركة لطالب العلم إلا أن يحفظ حق إخوانه، فإذا تتلمذ على شيخ يعرف أن هناك من سبقه، وأن السابق له حق وحرمة، فيحترمه ويقدره، ويرجع إليه إذا مرت عليه مسألة ما قرأها، ويعرف أن فلانا ربما قرأها وهو أعلم بها، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم ينصحون بالتابعين، فيقول له: اذهب إلى فلان، وعائشة رضي الله عنها تقول: (سل عبد الله بن عمر) ؛ لأنه كان أعلم، وكانوا يسألون أمهات المؤمنين. وهذا من النصيحة، والدين النصيحة. وهنا ننبه: أن الأفضل أن يجتمع الإنسان بالأكثر، وهذا يختلف إذا ما كان عندك نوعية جدية ممتازة، ثلاثة أو أربعة أو خمسة، لكن في حدود الخمسة أحسن، إذا كانت منضبطة في نفس يوم الدرس، فبدلا من أن تحضر الدرس يمكن أن تحدد الوقت الذي يناسب للمراجعة، ثم كل منكم يتقي الله في أخيه، إن وجده مجدا شحذ همته وثبته، وإن وجده متقاعسا قواه، وإذا وجد أنه لا يصلح لهذا تخلى عنه، لكن بعد أن يعذر منه، فإن هذا العلم لا ينبغي أن يؤتمن عليه الكسول ولا الخمول، بل ينبغي أن يختار له أفضل وأحسن الناس جدا واجتهادا واستشعارا بالمسئولية، فإذا رأيتم الخمول، والكسلان غدا سيتعلم العلم ثم يقعد في بيته {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل:5] . فهذا العلم لا ينال إلا بالجد والاجتهاد، من يريد أن يسابق ويتغرب من يحمل هذا العلم وليس عنده أي مانع أن يسافر إلى أقصى الشرق والغرب من أجل أن يبلغ رسالة الله عز وجل، إما همة صادقة ورجل علم صادق وإلا فلا، وتبحث عن رفيق صادق في طلبه للعلم وجده واجتهاده، فالأفضل أن الاثنين والثلاثة يأتون لمن هو أقدم منهم، ويقرءون عليه ويراجعون معه من البداية؛ لأن من درس ثلاثة أو أربعة كتب استبان له بعض الشيء في المنهج، فحينئذ إذا جلس مع طالب علم متمكن فيمكن أن يسد الثغرات الموجودة عنده، ويكمل نقصه فيما فيه النقص. وهنا أمر ينبغي أن ينتبه له الطالب الذي يأتي إلى من هو أقدم، فينبغي أن يترفق به، وإذا اعتذر له فلا يحمله على المحمل السيئ، فإن المشكلة الآن في طلاب العلم أنهم يريدون من يعلمهم كما يريدون، وتجد طالبا يأتي ويقول: يا شيخ! أنا أريد أن تعطيني درسا في كتاب كذا وكذا، وهو الذي يختار الدرس، وهو الذي يختار الوقت، ولو قدر له أن يختار كيف أشرح لفعل، وأيضا يقول: لا تتسرع إذا أتيت إلى شخص وقال لك: لا أستطيع. فيجب أن تحسن الظن به، ولا تحمله على أنه لا يريد أن يعلمك؛ بل تحسن به الظن، وتقول له: بارك الله فيك وأعانك الله، فإن تيسر له وقت احرص على هذا الوقت ولو كان قليلا، فربما هذه الساعة التي تراها قليلة فيها خير كثير وفيها بركة. ثم أوصي طالب العلم الجيد أن لا يرد أحدا قادرا عليه، ومن تعلم منا علما فإننا نناشده الله أن لا يبخل به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يتقي الله عز وجل، فليس لنا من هذا العلم إلا بقاؤه في الناس، أما وقد تحملنا ما تحملناه رجاء أن يبقى علمنا في الناس، فينصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، خاصة في هذا الزمان، فكل يحتاج فيه إلى من يعلمه. وصايا للمتميزين من طلبة العلم ثم أوصي هؤلاء الطلبة المميزين، أولا بتقوى الله عز وجل، وبأن يحمدوا الله سبحانه وتعالى أن اختارهم فحضروا الدروس كلها، والله إن الإنسان يقف بعد مرور سنوات فيقول: سبحان الله! الله قادر أن يبتلي عبده بالمرض أو بالنسيان، أو بالشواغل الله قادر على كل شيء، من الذي يسر وسهل لنا هذا؟ الفضل لله وحده لا شريك له. وأوصي هؤلاء أن يستشعروا نعمة الله عليهم حتى يبارك لهم في النعمة التي أوتوها، فيحرص كل الحرص على التضحية والصبر والتحمل والتجمل، وتبليغ رسالة الله عز وجل ما أمكن، وأسأل الله أن يمدهم بعونه وتوفيقه وتيسيره، وأن يفتح لهم من أبواب فضله ما لم يخطر لهم على بال، وهذا رجاؤنا وأملنا في الله، ونرجو الله أن لا يخيب رجاءنا فيه. ويحرص هؤلاء الطلاب الجيدون الممتازون على ما يلي: أولا: أن يوطنوا أنفسهم بضبط العلم، وأسألهم بالله عز وجل أن لا يقولوا علينا إلا ما قلناه، وأن يفرقوا بين العبارة التي نقول ونقلهم عنا بالمعنى، فلا يأتي شخص ويقول: قال الشيخ كذا وكذا، وهو قد نقل بالمعنى، ولكن يقول: الذي أفهم من كلام الشيخ كذا، والذي أفهم من فتواه كذا، أما أن يحفظ نص كلام الشيخ ويقول: قال الشيخ كذا وكذا، فهذه أمانة ستسأل عنها أمام الله عز وجل. ثانيا: أوصي بالتقيد بالعبارات، وهو من أفضل ما وجدناه بركة للعلم، أنك لا تجلس عند عالم ولا تقرأ كتابا إلا وتحرص أن تنقل نفس العبارة والكلمة، ولذلك قال الله: {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم} [الأحقاف:4] ، والإنسان يأتي بالأثر والشيء كما هو وكما حفظه وكما رآه، قال أبو شريح الوليد بن عمرو بن خزاعة رضي الله عنه: (أبصرته عيناي، وسمعته أذناي، ووعاه قلبي) ، يقصد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وذلك من شدة التحري والضبط أبصرته عيناي إذ يتكلم، وسمعته أذناي إذ نطق صلوات الله وسلامه عليه، ووعاه قلبي لما قال، وهذه هي الرحمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ -وفي رواية: رحم الله امرأ- سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها) والعلم ربما نقل بالمعنى فيحدث أمورا كثيرة، وكذلك أيضا التقيد بما سمع، وأن لا يحمل العبارات ما لا تتحمل. ثالثا: الدقة في ضبط المسائل ونقلها، فالمسائل تحتاج إلى نوع من التركيز والدقة، خاصة مسائل الفقه والأحكام، وخاصة إذا كان الذي يفهم من العوام، فينتبه الإنسان في العبارات التي يقولها، فمن الناس من يقرأ الفقه فيتحدث بكلام العامة، فإذا جاء يشرح كتابا كأنه يتكلم كلاما عاما، فيأتي بعبارات هزيلة، ولربما يأتي بأمثلة من الأسواق، وهذا لا ينبغي، بل ينبغي عليك أن تصون نفسك، وأن تحفظ قولك، وإذا جلس معك طلاب العلم فتتقي الله عز وجل وتشرف العلم، وتتكلم كلام العلماء، ولا تتشدد ولا تبالغ في العبارات، فإذا كان الذي يقرأ عليك عاميا يكون تركيزه وضبطه وسطا بين الإفراط والتفريط، فلا تبالغ في تنميق العبارات، إنما تأتي بعبارة علمية صحيحة، تعلم أن هناك شيئا وهو شرح الكتاب، وأن هناك فتاوى، وعلم الكتاب له طريقة، وعلم الفتاوى له طريقة، وليس كل من حضر كتابا يستطيع أن يقرأه، وليس كل من استطاع أن يشرح كتابا يستطيع أن يفتي في المسائل، وليس كل من استطاع أن يعلم ويفتي يستطيع أن يقضي. فهذه كلها تحتاج إلى أهلية وضبط وتمكن، لكن إذا كنت تريد أن تذاكر مع إخوانك وخاصتك فحينئذ تحرص على أن تتقيد بالعبارات ما أمكن، هذا الذي أفضل أن يكون عليه طالب العلم. تحذير طالب العلم من العجب ومما أحذر منه: العجب، فإذا فتح الله عز وجل عليك، وأصبح طلاب العلم يجلسون بين يديك، فخف على نفسك ولا تعجب، ولا تبالغ في الغرور، فإن الغرور هلاك للإنسان، والعبد قد يفتن في علمه، ثم إذا بلغ يمتحن حتى يبلغ مبلغ العلماء، ثم إذا بلغ مبلغ العلماء امتحن في التواضع لله عز وجل وعدم الغرور، فإياك أن تغتر، والله قد ذكر الذين تكبروا وسماهم فقال: {فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [غافر:83] ، فطالب العلم والعالم الموفق السعيد هو الذي يزيده علمه تواضعا، ولا ينبل الرجل حتى يأخذ عمن فوقه، وعمن دونه، وعمن هو مثله، والحكمة ضالتك، وبغيتك، ومطلبك، ومقصدك، فابحث عن الحكمة، وإذا وجدتها تتواضع لها، ولا تغتر، فيجلس الإنسان ويقول: أنا من طلاب فلان، وقد حضرنا درس فلان، وقرأنا على فلان، وقال شيخنا، والبعض يحضر للشيخ درسين أو ثلاثة، ثم يقول: قال شيخنا! وهذا نوع من التدليس، وهذا لا يصح إلا إذا كان الإنسان قرأ عليه كتابا كاملا، فيقول: قال شيخنا في العبارة التي سمعتها، لكن أنك تأتي في باب لم تقرأه على الشيخ، ثم بعد ذلك تسمع أحدا يقول، ثم تقول: قال شيخنا، وتوهم من يسمعك أنك قرأت عليه، فهذا لا يجوز، وهو غش، فينبغي التقيد بالأمانة والإنصاف، حتى إن البعض يدعي أنه من طلاب الشيخ فلان وعلان، وهو ما تتلمذ إلا على كتبه، وعلى هذا فيمكن أن يقول شخص: قال شيخنا شيخ الإسلام، وهذا تدليس للأمة، فلا ينبغي أن يقول شخص: قال شيخنا؛ لأن هذه العبارة إذا سمعها طلاب العلم، يتبادر إلى ذهنهم أنه قد قرأ على هذا الشيخ، فالناس لا تغني لك من الله شيئا رحمك الله، مدح الناس وثناء الناس لا شيء، سواء تتلمذت على يد الشيخ فلان وعلان، فلن يقدم لك شيئا أخره الله عنك، ولن يؤخر عنك شيئا قدمك الله إليك. فعلى كل إنسان أن يوطن نفسه بتقوى الله عز وجل، والبعد عن الغرور والعجب، ومن حقك أن تقول: تتلمذت على الشيخ فلان، وقرأنا على الشيخ فلان؛ ليعرف الناس قدرك، وليعرف الناس قدر العلم الذي تعلمته، ومن حق طالب العلم أن يقول: أنا من طلاب الشيخ فلان، وقرأنا عليه كتاب كذا، وقرأنا عليه كتاب كذا، كما قال يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف:55] ، وقد نص العلماء على جواز هذا إذا قصد به الثقة بما يقول، والعمل بعلمه، وإنزاله منزلة تليق به، فهذا منصوص عليه عند العلماء، ولا حرج ولا بأس، لكن الحرج هو الغرور. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الاعتراف بنعمة الله وهنا أقول كلمة: والله ثم والله! ليس هناك أبرك من طالب العلم، ولا أعظم خيرا ولا أحسن عاقبة من معاملته لله عز وجل، فعليه أن يعلم أن عزته في الله وحده، وأن علمه من الله وفهمه، فإن الله هو الذي علمه ما لم يكن يعلم، وأن فضل الله عليه عظيم، فيعترف بفضل الله سبحانه وتعالى، ولا يبحث عن القشور التي عند الناس. من حقك أن تعترف بفضل غيرك عليك تبعا لفضل الله، والمخلوق ليس له فضل كفضل الخالق، إنما فضله تبع، ولذلك تشكر الناس، لكن شكرهم تبع لشكر الله سبحانه وتعالى، فهو الذي علمك وفهمك، ولذلك فلا يغتر الواحد بمشايخه وبعلمائه؛ لأن هذا الغرور سيدعوه أن يرد أقوال العلماء وانتقاص الآخرين، والحط من فتاوى العلماء. ولهذا أوصي طلابي أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم، وعليهم أن يستندوا إلى الحق؛ لأن الحق يستمد قوته من ذاته، ويبينوا للناس ما ترجح عند شيخهم، أو عند من قرءوا عليه، ولكن لا يحطموا أهل العلم، ولا ينتقصوا قدر العلماء، وما وجدنا أهل العلم يؤلفون الكتب أو يفتون أو يعلمون من أجل الحط من أقدار العلماء الآخرين، وإنما زادهم العلم اعترافا لأهل العلم بفضلهم، واعترافا لكل ذي حق بحقه. وأوصي طلابي أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا يتخذوا من تعلمهم وسيلة للعجب إلى درجة نسيان حقوق العلماء الآخرين، وإذا جاءك أحد بقول مخالف لقولك الذي قرأته، فاعلم أنك إذا اعتقدت حكما شرعيا، وعندك فيه دليل من كتاب وسنة، ممن يوثق بعلمه في فهم هذا الحديث؛ فقد أعذرت إلى الله. التقيد في مرحلة الطلب بما درس على المشايخ وبعد هذا تتقيد بهذا العالم، وهذا ما يسميه العلماء بمرحلة الاتباع، فتتقيد به حتى تدرس أصول الفقه، وتعرف الذي خالفه، وما دليله، وهل الحجة مع شيخك؟ أو مع من خالفه؟ فقبل أن تصل إلى هذه المرحلة تلزمك مرحلة التتبع، ويلزمك هذا الأصل؛ لأنك تسير على أصول وضوابط، ولو أنك انتقلت إلى غيرك فقد نفقت، فقد يكون هذا الشيخ أعمل دلالة أسقطتها أنت في العبادة والمعاملة، وحينئذ تعمل بدليل الاضطراب، وهذا ما يعنيه العلماء بالاتباع، وإذا أخذت قول شيخ بدليل تقول: هذا الذي تعلمته، وهذا الذي أعرفه، وهذا الذي تذكره قول لبعض العلماء، لكن هذا الذي درسناه، وهذا تعلمناه، وانتهى الإشكال، قولكم خطأ، وقولنا صواب، وكذا، وإقامة الدنيا. ومما أوصي به طالب العلم، وهذا من نعم الله عز وجل عليك: ترك الجدال والمناقشة، كثير من طلاب العلم الآن-إلا من رحم الله- محقت منه البركة، وضاع عليه وقت كبير من وقته وعمره بسبب المناظرة، كل شخص يبحث مسألة يريد الأقوال فيها، والردود، والمناقشات؛ لأنه مولع، ويريد من يناقشه حتى يرد عليه، وهذه هي آفة العلم، فعليك-رحمك الله- أن تقرأ، والحكم بدليله، وتتقيد بهذا الحكم والدليل، حتى تصل إلى مرتبة أهل العلم الذين يجتهدون، فإذا سرت على هذا الطريق جمع لك من العلم ما لا يحصى، ولذلك كان الإمام شيخ الإسلام محمد بن إبراهيم رحمه الله برحمته الواسعة معروفا عنه أنه لا يمكن أن يجادل أحدا، وهو على درجة من التثبت والرسوخ في العلم، وكان معروفا عنه أنه إذا جلس في مجلسه، وسأله أحد سؤالا، ثم فتحوا باب المناقشات، لماذا؟ وكيف؟ هذا ليس من باب الاستفادة، باب الاستفادة -هذا نقله إلي الوالد رحمه الله- بمجرد أن يأتي ويقول: لماذا؟ ويقوم هذا ويقول: لا، قال فلان، قال علان، يتركه، ويقوم من المجلس، ولا يمكن أن يجلس مجلسا فيه هذا اللجاج والمناظرة؛ لأن القلوب تفسد، ويحدث نوع من الغرور للمتكلم أو للسامع أو للمعترض عليه، وقد تحط من قدر العالم، ولذلك فالسلامة غنيمة، من عنده علم عمل بالدليل: ما علمت فقد كفاني وما جهلت فجنبوني مادام أني أخذت هذا العلم عمن يوثق بعلمه ودينه، فيجب أن أضبط هذا العلم، وأعكف عليه، وستضبط كتب العبادة والمعاملة بهذه الطريقة التي لا تشويش فيها، وليس عندك أحد يدخل عليك الشبه حتى تضبط، وبعد ما تضبط يفتح الله عز وجل عليك، وتتوسع في أصول الفقه، وضوابط العلماء في الاستدلال، ووجه الدلالة، ثم تنكشف لك الأدلة، ثم تبحث، وهذا من أفضل ما يكون. طريقة الشرح لكتب الفقه وهناك تنبهيات، منها: أننا في شرح الزاد ربما تركنا أبوابا ما أسهبنا فيها، وأسهبنا في أماكن أخرى، فمثلا: في العبادات والمعاملات المالية في شرح بلوغ المرام إذا وجدت أني قلت قولا ورجحته باختصار، ولم أسهب في المسألة، فتجدها في الشروح الأخرى مطولة، وهذا يعرفه الطلاب، والأفضل أنك تجمع الشروح كلها، وتحاول أن تعرف قسط هذه المسائل، فتضع عندك مثل الفهارس، تلخص به الشرح، ثم تجعل إحالات للتوسع في الأقوال والردود. بالنسبة لهذه الرسالة فقد كان بالإمكان أن ننتهي منها في شهرين أو ثلاثة، ولكن قد لا يضبط إلا طالب العلم المتمكن، أما إذا طالت المدة فإنه يتضح المنهج لطالب العلم، ولذلك تجد طلاب العلم الذين يقرءون السنة والسنتين والثلاث يسيرون على منهج واضح، وطريقة واضحة، وترسخ عندهم الطريقة، وأما الاستعجال فلربما تأتي آفات لطالب العلم، وتبقى فيه كثير من الأدران، والتنبيهات، فيستعجل ويخرج دون نضوج، ثم يوجد من يستعجل من غير أولئك وله عذره، وجزاه الله خيرا عن أمة محمد، ولا نقلل من شأنه، لكن هذا الذي اخترته لأجل مصلحة العلم، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل العلم لنا فيما اخترناه، وهذا من ناحية إطالة المدة، المهم أن تعرف العبارة والحكم والمثال والدليل، هذه هي قراءة الفقه، فلا يقال: الأبواب الأخيرة ما شرحت؛ لأن هذا نوع من الفضل غير واجب لك، الأصل أننا نبين معنى العبارة ومثالها والدليل، هذا هو الأصل، وهذه طريقة قراءة الفقه. فتعود إلى هذا الأصل، وتضبطه، وتحرر المسائل الناقصة من غيرها، أما الأبواب الأخيرة: الأطعمة، الذكاة، الصيد، الأيمان، النذور، كل هذه قد تكون فيها دورات مستقلة-إن شاء الله- نبين فيها ونفصل، سواء في المدينة، أو في جدة، أو في مكة، وطلاب العلم عليهم أن يكونوا على اتصال بالدروس العلمية، ويحاولوا أن يستدركوا بعض التفصيلات والتفريعات الموجودة فيها إذا احتاجوا إلى هذا التفصيل والتفريع. أخلاق طالب العلم كذلك هناك أمور ينبغي التنبيه عليها بالنسبة لطلاب العلم فيما بينهم، وهي: أخلاق الإسلام؛ أن يحرص طالب العلم على أن ينفع أخاه ما أمكنه، والتضحية والإيثار من خلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أدب الله بذلك بنيه صلوات الله وسلامه عليه، فيحرص طالب العلم على أن يؤثر أخاه إلا فيما فيه الخير من استثنائه للعلم، ويحرص طلاب العلم مع بعضهم على المحبة، والصفاء، والنقاء، والمودة، وليعلم كل طالب منتسب إلى شيخه أن عليه حرمة أن يزين هذه النسبة، وألا يشينها، فيكون عفيفا عن أهل العلم، وعن حدود الله عز وجل ومحارمه، وعن العلماء. وأوصيه بتقوى الله في أهل العلم من السابقين والباقين -نفع الله بعلمهم- ممن قضوا ومضوا رحمة الله على الجميع، أوصي باحترامهم، وتوقيرهم، وحفظ حقوقهم، وأن لا يشين أحدا من طلابنا، وكل إنسان محسوب على نفسه، وعندما يقال: هو من طلاب فلان، فلا يؤذي شيخه بل لا يؤذي حتى طلابه ويشينهم. وهذا أمر أحب أن أوصي به؛ لأن الزمان كثرت فيه الفتن، وإن شاء الله طلاب العلم هم أرفع من هذا كله، لكن كثرة الفتن والمحن توجب التنبيه على مثل هذه الأمور. تعليم الناس العلم وكذلك أيضا مما أحب أن أوصي به: الحرص على اختيار الأوقات المناسبة في تعليم الناس، فطالب العلم الذي وفقه الله لضبط هذه المسائل، وقراءة هذا الكتاب، له أن يقرئه ويدرسه في حدود ما علم، وهذه إجازة لمن اتقى الله عز وجل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحفظ حق التعليم, وقرأ في منهج العلماء رحمهم الله، أو جالس أهل العلم، واستفاد من سمتهم ودلهم، أن ينفع أبناء المسلمين ما أمكنه، وأن يبذل ما يستطيع، إذا استطاع أن يفتح درسا في مسجد حيه ولو بعد الصلاة يتحدث فيه عن أحكام الطهارة، وإذا جاءته أسئلة يقول: أنا لست أهلا للفتوى، أما إذا ضبط الأسئلة والإجابة عنها، وعلم أن السؤال والجواب موجود؛ لأنه قرأ على أيدي العلماء. فعلى كل حال: الحرص على فتح درس، أو الجلوس مع الإخوة في الطلعات والنزه فيقول: هلموا نتذاكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هلموا نتذاكر أحكام الزكاة، والبيع، فيعمر وقته بذكر الله، وطاعة الله. عمارة الوقت بالذكر والورع من الدنيا ومن الأمور التي أوصي بها كل من يريد أن يبارك الله عز وجل له في علمه: أن يستغرق وقته في طاعة الله؛ لأن العالم وطالب العلم إذا حفظ وقته في طاعة الله يبارك له، ويفتح عليه، ويقال: إنه ما حرص على أمرين إلا نال الإنسان فتحا في هذا العلم، فسيفتح الله عليه، ويبارك له في الفهم: الأمر الأول: استنفاد الوقت في ذكر الله وطاعته، فأولى الناس بالفهم والوعي عن الله ورسوله، وحسن التعليم للناس، والقبول؛ من رزقه الله عمارة وقته بذكر الله عز وجل، وهذه وصية علمائنا ومشايخنا، أن يحرص طالب العلم على عمارة وقته بذكر الله عز وجل. الأمر الثاني: التورع، والتحفظ من الدنيا ما أمكنه، خاصة إذا قصد بها المطامع، وأراد من تلك الدنيا أن يذلك، فالله أعزك، وأراد غيره أن يذلك، فارض بعزة الله، وكرامته لك، إن هذا العلم أمانة في رقبتك، ولذلك صن هذا العلم، فبمجرد أن تحس أن الشخص يريد أن يذلك بهذه العطية، أو بهذا المال، فابتعد، قال سفيان الثوري رحمه الله: (أوتيت فهم القرآن، ولما قبلت الصرة نزع مني) ، فحينما يتورع الإنسان عن أموال الناس ومطامع الدنيا يرتفع قد تجد الإنسان من أهل الدنيا يأتي ويضعك في صدر مجلسه، أو في مكان أعلى مما أنت تستحقه، ويريد أن يستدرجك، فتربأ بنفسك، ولا ترضى لنفسك إلا بتقديم ربك، والله ليرفعنك الله ولو وضعك الناس، وليضعن الله من عصاه ولو رفعه الناس، لو أطبق من في الدنيا على أن يرفعوك على منزلتك شعرة وهم راضون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. فعامل الله، واحذر من هذه الدنيا، والدنيا لا تختص بالمال، حتى ولو أتى ليشرفك، ويريد أن يضعك في مكان فيه نوع من المجاملة والمحاباة، وترى من هو أعلم منك وأفضل فتأخر، وقل: فلان أعلم مني؛ لأنك تعلم أن هذا يرضي ربك، وفلان أولى مني، وإذا سئلت عن علم، وهناك من هو أعلم منك، فقل: اذهبوا إلى فلان، فلان أكثر ملازمة للشيخ مني، فلان كذا، وهكذا، وإلا فلا. فإذا حرصت على هذين الأمرين: عمارة الوقت، والتعفف عن الدنيا، فإن الله سيفتح عليك من فواتح رحمته، وما من عبد يترك شيئا لله إلا عوضه الله خيرا منه. وعليك أن تحرص في تعليمك لطلابك على غرس أخلاق ومبادئ الإسلام، فالأدب قبل الطلب، والعمل الذي يرضي الله عز وجل يزين العلم فتحرص على أن يتأدب طلابك بآداب الإسلام، وهذا يحتم على طالب العلم أو على من يريد أن يعلم الناس أن يعلمهم السكينة والوقار، والأدب في مجلس العلم؛ لأن هناك ملائكة تغشى حلق الذكر، فتجمل، ولا تري الله من نفسك إلا كل خير من السمت، والوقار، وحسن الصمت، وإياك واللغو، وأخلاق الجاهلية، فهذه مما تشين الإنسان. الاعتزاز بالعلم ورفعه عليك أن تربو بهذا العلم، وكذلك أيضا من عزتك بالعلم أن لا تنزله في المواضع التي يمتهن فيها، فتأتي إلى الناس وهم جالسون في لهو، وتريد أن تفتح درسا، أو تتكلم في شيء يكون فيه امتهان للعلم، أو يأتي أحدهم ويتهكم بك، يقول: حدثنا عن كذا، على سبيل التهكم؛ بل ارفع هذا العلم، فإن رفعته رفعك الله عز وجل، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه لـ عكرمة: (إياك أن تأتي الناس في مجالسهم تحدثهم) ؛ لأن العلم إذا جاء بالقهر والقسر امتهن، ولذلك دعهم حتى يسألوا، ثم قال له من وصاياه أيضا رضي الله عنه وأرضاه: (لا تفت الناس إلا فيما احتاجوا إليه، فإنك إن أفتيتهم فيما احتاجوا إليه طرحت عنك تبعة العلم) ، فإن كثيرا من أسئلة الناس فيها فضول، فلا تجبهم إلا فيما يحتاجونه الناس يأتون يتكلمون في الفضول، والواحد منهم لا يعرف كيف يتوضأ، ولا يعرف ماذا يفعل لو سها في صلاته، فإذا جئت لمجلس وقالوا: حدثنا، بدل أن يحدثنا إنسان في بعض الأمور، يقولون: تحدث عن بعض الأمور التي مصلحتها قليلة، فتقول لهم: يا إخوة! أنتم الآن مسلمون، لو أن ميتا مات، وأنتم في سفر، كيف ستغسلونه؟ وتبدأ تصف لهم غسل الميت، وأحكام السهو في الصلاة؛ فإن هذه أمور تحتاجها العامة، وهذا من النصيحة، وتختار لهم أفضل ما يختار، فتختار لهم أطيب الكلام، ولذلك قالوا: إن الحكيم والأديب هو الذي يكتب أحسن ما يقرأ، ويحفظ أحسن ما يكتب، ثم يملي بأحسن ما حفظ. يصفي الشيء تلو الشيء، ثم لا يتكلم إلا بأحسن أحسن الشيء، فليس منفلت الزمام، يحدث ويتكلم بكل شيء. ثم إن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وكل الأمر يعود إلى شيء واحد، وهو: المعاملة مع الله، مهما تكلم الإنسان أو سكت، فالقليل المبارك خير من الكثير المنزوع البركة، فعامل الله وأبشر بكل خير، فوالله ثم والله ما رأينا من ربنا بهذا العلم إلا كل خير، وجدناه سبحانه وتعالى عظيما، حليما، كريما، برا، رحيما، ما وجدنا أوفى من ربنا، ولا أكرم منه سبحانه وتعالى علمنا وكنا جاهلين، وهدانا وكنا تائهين حائرين، ورفعنا وكنا وضعاء، ولن نزل وضعاء فقراء حتى يرحمنا وهو رب العالمين، به استغنينا عمن سواه، واستكفينا عمن عداه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فعامل الله وأبشر بكل خير، واعلم أن الله سبحانه وتعالى لن يضيع عبده، ولن يخذل من والاه، فكن لله يكن الله عز وجل لك، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يحب الصادقين والمخلصين فكن منهم، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يحسن الجزاء لعبده، ويجزي المحسن، فإذا عاملت الله فلتكن معاملتك في قولك وفعلك على أحسن وأجمل وأتم وأكمل ما تكون المعاملة لله، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا لا يقبل الله النفاق، ولا الرياء، ولا التصنع، ولا التكلف، ولكن ما وقر في القلب من إرادة وجهه، وصدقه العمل المبني على شرعه، فمن كان كذلك بورك له في قوله وعمله، وبينك وبين هذا العلم الذي تتعلمه الأيام، فإنه صدقت مع الله ليصدقن الله معك حيا وميتا، وليطيبنك بهذا العلم حيا وميتا، قائما وقاعدا، نائما ومستيقظا، ولتجدن البركة والخير من الله عز وجل ما لم يخطر لك على بال، فاستغن بالله، واعلم أنه ليس هناك أسعد منك وأنت تقرأ، وليس هناك أحد أسعد منك وأنت تفهم كلام الله، وتتفقه في دين الله، وليس هناك أحد أسعد منك وأنت تعلم الناس، ولذلك عاش أئمة السلف مرقعة ثيابهم، حافية أقدامهم، ولكنهم أغنى الناس بهذا العلم؛ لأنهم شعروا بغنى الله عز وجل الذي أغناهم به، فاعرف قدر هذا العلم. دعاء أسأل الله بعزته وعظمته وكماله، في هذه الساعة المباركة بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا: أن يتقبل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم إنا نسألك أن تعفو عن أخطائنا، وما كان منا في كل ما علمناه وتعلمناه، اللهم اجبر كسرنا، اللهم اجبر كسرنا، اللهم اغفر ذنوبنا في ذلك كله، ما علمناه وما لم نعلمه، ومما تعنتناه ومما أخطأنا فيه، اللهم اغفر لنا جميع ذلك يا حي يا قيوم، اللهم ارحمنا بمغفرة ذلك كله يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا العلم خالصا لوجهك، موجبا لرضوانك، اللهم أعظم لنا فيه الجزاء، اللهم أعظم لنا فيه الجزاء، اللهم أعظم لنا فيه الجزاء في الدنيا والآخرة، بارك لنا فيما جزيتنا فيه، اللهم أعطنا فيه خير ما أعطيت من تعلمه وعلمه خالصا لوجهك، وابتغاء مرضاتك، يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، نسألك في هذه الساعة المباركة أن تسبغ شآبيب رحماتك ومغفراتك على قبور علماء المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم ارفع درجاتهم بوجهك العظيم إلى الفردوس الأعلى في الجنة، اللهم اجزهم عنا خير ما جزيت عالما عن علمه، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء وأعظمه وأوفاه، اللهم قدس أرواحهم في جنات النعيم، وتفضل عليهم بأفضل الخير والتكريم يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لمشايخنا خاصة، اللهم نور على الأموات منهم قبورهم، اللهم نور عليهم قبورهم، وافسح لهم فيها، وارفع درجاتهم إلى أعلى عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واجزهم عنا خير ما جزيت شيخا عن طالبه، ومعلما عن تعليمه، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين! اللهم اجزهم فيما اجتهدوا فيه لنا في تعليمنا، ودلالتنا إلى الخير بأحسن الجزاء يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! اللهم عجزنا عن مكافأتهم، وأحلناه عليك يا كريم يا رحيم، أعظم جزاءهم، وثقل في موازين الحسنات ثوابهم، اللهم سر ناظريهم بعظيم الأجر فيما علمونا، اللهم لا تخيب ظنهم فينا، اللهم لا تخيب ظنهم فينا، اللهم لا تخيب ظنهم فينا. اللهم بارك لأحيائهم في أعمارهم، وأحسن خاتمتهم، ويسر أمروهم، واشرح صدورهم، وفرج كروبهم، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم! اللهم إنا نسألك العلم والعمل، اللهم إنا نسألك العلم والعمل، والإخلاص والقبول، اللهم إنا نسألك علما يرضيك عنا، اللهم إنا نسألك علما يرضيك عنا، اللهم اجبر كسرنا، وارحم ضعفنا، واستر عيبنا، فأنت ربنا لا إله إلا أنت، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا في هذا العلم، وارحم تقصيرنا يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، وأن تعيننا على العمل والبلاغ يا أرحم الراحمين! اللهم أعنا على الإخلاص لوجهك، واتبغاء ما عندك، اللهم أعنا على الإخلاص في ذلك لوجهك، وابتغاء مرضاتك، وبارك لنا في هذه العلوم، واجعلها شافعة نافعة لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتاك بقلب سليم، اللهم اغفر لنا، ولمن أحبنا فيك، ولمن حضر مجالسنا، اللهم اغفر لنا، ولمن أحبنا فيك، ولمن حضر مجالسنا، وأعاننا على تبليغ رسالتنا، اللهم اغفر لنا أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين، يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تعيذنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا فيما بقي لنا من أعمارنا، اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا فيما بقي لنا من أعمارنا، اللهم بارك في أعمارنا، اللهم بارك لنا فيما بقي من أعمارنا، واجعلها فيما يرضيك عنا، يا أرحم الرحمين! يا أرحم الرحمين! اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغلسهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم جازهم بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفوا وصفحا ومغفرة ورضوانا، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتاهم أجمعين، يا أرحم الراحمين! يا أرحم الرحمين! اللهم إنا نعوذ بك من درك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجاء، يا أرحم الرحمين! اللهم إنا نسألك النصر على الأعداء، اللهم إنا نسألك النصر على الأعداء، اللهم إنا نسألك النصر على الأعداء، لا إله إلا أنت، نسألك مرافقة الأنبياء، وعيشة السعداء، لا إله إلا أنت، يا أرحم الرحمين! ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. تم الانتهاء من نقل الكتاب فى يوم الإثنين 27 أكتوبر 2025 ميلادي - 6 جمادى الأولى 1447 هجري |
| الساعة الآن : 09:28 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour