رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (81) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). إن أعظم ما يتميَّز به دينُ الإسلام وهو الدِّين الإبراهيمي الحق دون المفترى، وهو دين جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: أنه بُني على الوحي المنزَّل من عند الله في كلِّ ما تضمنه من إصلاح الإنسان وبنائه؛ فردًا ومجتمعًا ودولة، في بناء عقيدته وإيمانه، وفي بناء عبادته ومعاملته، وفي بناء أحوال قلبه وأخلاقه كما بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، ثم ما بيَّنه الكتاب وما بينته السنة من قواعد ونظم الحياة في المجتمع والدولة، في النظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والأُسري، ونظام التكافل وكفاية الأفراد، ونظام الحرب والسِّلْم والمعاهدات، والنظام القضائي ونظام العقوبات؛ حدودًا وتعزيرات، والنظام المصرفي والمالي، والنظام التعليمي، ونظام الفتوى، ونظام الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وكل فروض الكفايات التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة مَن سبقه مِن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ببيانٍ لم ينزل قبلُه قط. وكل حرف ومسألة في هذه الأنواع كلها التي ذكرنا في الفرد والأمة والدولة، عندنا فيه بيان من الوحي؛ فلو يحوجنا ربنا إلى غيره، ولم يتركنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد بيَّن لنا المحجة البيضاء ليلها كنهارها، فلم نحتج قط ولم يشرع لنا قط أن نأخذ عقيدتنا مِن علم الفلسفة، والمنطق اليوناني، وعلم الكلام كما أخذه غيرنا من الديانات والأمم، وأهل البدع، ولم نخترع نحن عَبْر الزمان خرافات وضلالات؛ إنما فعل ذلك أهل البدع والضلال، وظل أهل السنة يطاردونهم بالمرصاد؛ لبيان ضلالهم وبدعتهم في كلِّ المسائل العقدية. ولم يحوجنا ربنا ولم يشرع لنا رسوله صلى الله عليه وسلم في العبادات: أن نخترع ونبتدع عبادات من عند أنفسنا أو بأهوائنا كما يفعله أهل الضلال في رقصهم ومكائهم وتصديتهم، وتعبداتهم الغالية حول قبور أنبيائهم وصالحيهم. ولا اخترعنا أن يكون الأحبار والرهبان والعلماء أربابًا لنا من دون الله؛ يحلون الحرام أو يحرِّمون الحلال، ولا قَبِلْنَا عبر تاريخنا أن يكون الحكام والملوك، والكبراء والقياصرة والأباطرة مشرعين بشيء من دون الله، بل كل أحد لا بد أن يأتي على ما يفعله بالدليل من الوحي؛ وإلا كان باطلًا ومردودًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد"؛ حتى الإجماع فليس للعلماء أن يجمعوا إلا بناءً على دليلٍ من الوحي. ولم يشرع لنا ربنا ورسوله صلى الله عليه وسلم قط أن نخترع في أحوال القلوب مقامات وأحوالًا من عند أنفسنا، أو مِن عند غيرنا: كفَنَاء وبَقَاء، وجَمْع وفَرْق، ومحو وصحو، وقبض وبسط، واصطلام ودهش، وهيمان وسكر، ونزعم أنها مقامات الخاصة وخاصة الخاصة التي أخذها مَن أخذها مِن أحوال الرهبان الهنود والبوذيين، والفُرس والروم، وفلاسفة اليونان، بل كفانا الله بما شرعه لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لبيان كل عبادات القلب والأخلاق المتفرعة منها فعلًا وتركًا مِن: حبٍّ وخوفٍ ورجاء، وتوكل وإنابة، ورغبة ورهبة، وتعظيم، وصبر، وشكر وإخلاص، وإخبات وافتقار إلى الله، وطمأنينة بذكره، وتوبة إلى الله وفرار إليه، وغير ذلك مما نص عليه الوحي. وفي باب التروك: ترك الكبر والعجب، والاختيال والفخر، والعجز والكسل، والجبن والبخل، والكفر والفقر، والشرك والشك والنفاق، والفسوق والشقاق، وسيئ الأخلاق، والرياء والسمعة، والقسوة والغفلة، والذلة والعيلة والمسكنة، والعمى والصمم والبكم، والحسد، وإرادة الدنيا وزينتها، والتنافس عليها وعلى رياستها، وغير ذلك، وكل ذلك بالوحي لا بالرأي ولا بالهوى، ولا بالتقليد الأعمى؛ بل إما الدليل من الوحي، وإما الرد والإبطال. ولا تركنا سبحانه أن نخترع السياسات التي تُنظَّم بها حياة الناس؛ إلا ما كان من تحقيق للمصلحة ودفع للمفسدة بالطرق المشروعة من الوحي أيضًا، وتحت مظلة أحكامه؛ دون ما اخترعه المكيافيلية والظَّلَمَة عبر الزمان. وهذه المسألة العظيمة الأهمية في وقتنا الحاضر كما هي في كل وقت، لكن نحن الآن في مواجهة حاسمة وخطيرة، وإرادة عالمية في ترك المسلمين الوحي في العقيدة إلى البدع والضلالات؛ للتمكين من بناء وَهْم وخرافة الدين الإبراهيمي الجديد، وتركهم العبادة والعمل للتمكين مِن هدم أعظم سياج واقٍ للمسلمين من التأثر بأعدائهم، وتحوُّل أعمال مجتمعاتهم وأبنائهم وبناتهم إلى الشهوات المغرية؛ إما باسم الترفيه والتمتع بمتع الحياة، أو عدم التطرف وبناء الشبكات الإسلامية المعتدلة التي يرى أصحابها أن الذي يحافظ على الصلوات الخمس؛ فهو متطرف، وأن الاعتدال هو أن يصلي أحيانًا ويترك أحيانًا، وأن الذي يحضر المسجد خمس مرات في اليوم فهو متطرف، وإنما الاعتدال أن يذهب إلى الجمعة أحيانًا ويترك أحيانًا، وهكذا... ! وفي السلوك إلى خزعبلات الصوفية العالمية -كما يسمونها!-، والتي تروِّج إلى وحدة الوجود ووحدة الأديان، وتفسد الأخلاق والأعمال باسم هذه الأحوال؛ فلا بد أن نعود إلى الوحي المنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي تضمن الكُتُبَ الأولى، وجمع كل خير فيها وزاد عليها ما لم ينزل مثله من قبل قط، والحمد لله رب العالمين. والله المستعان. قال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "روى محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: قال سكن وعدي بن زيد: يا محمد، ما نعلم أن الله أنزل على بَشَرٍ مِن شيءٍ بعد موسى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله في ذلك من قولهما: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى آخر الآيات. وروى ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ) إِلَى قَوْلِهِ (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا)، فما تلاها عليهم -يعني على اليهود- وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة، جحدوا كل ما أنزل الله وقالوا: ما أنزل الله على بَشَرٍ من شيء، ولا موسى ولا عيسى، ولا على نبي من شيء. قال: فحل حبوته، وقال: ولا على أحدٍ! فأنزل الله عز وجل: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)، وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب القرظي نظر؛ فإن هذه الآية التي في سورة الأنعام مكية، وهذه الآية التي في سورة النساء مدنية، وهي رد عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، قال الله تعالى: (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ)، ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه، وما هم عليه الآن من الكذب والافتراء. ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين، فقال: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا)، والزبور: اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام، وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام عند قصصهم مِن سورة الأنبياء إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان" (انتهى من تفسير ابن كثير). وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (82) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أي: من قبل هذه الآية، يعني: في السور المكية وغيرها. وهذه تسمية الأنبياء الذين نَصَّ الله على أسمائهم في القرآن، وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكذا ذو الكفل عند كثيرٍ من المفسرين، وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ) أي: خلقًا آخرين لم يُذكَروا في القرآن، وقد اختلف في عِدَّة الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه الله في تفسيره، بسنده عن أبي ذر قال: قلتُ: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا"، قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير"، قلت: يا رسول الله، مَن كان أولهم؟ قال: "آدم". قلت: يا رسول الله، نبي مرسل؟ قال: "نعم، خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلًا". ثم قال: "يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، ونوح، وخنوخ -وهو إدريس، وهو أول مَن خَطَّ بالقلم- وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر، وأول نبي مِن بني إسرائيل: موسى، وآخرهم: عيسى. وأول النبيين آدم، وآخرهم نبيك صلى الله عليه وسلم ". وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه: "الأنواع والتقاسيم" وقد وسمه بالصحة، وخالفه أبو الفرج بن الجوزي، فذكر هذا الحديث في كتابه: "الموضوعات"، واتهم به إبراهيم بن هشام هذا (قلتُ: يعني الراوي عن أبيه عن جده عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر)، ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث، فالله أعلم. (قلتُ: هذا الحديث بهذه الألفاظ ضعيف بلا شك، ولا يمكن أن يصحح، ولا أن يحسن؛ خصوصًا في ذكر أن إدريس هو خنوخ، وأنه أول مَن خط بالقلم، فكل هذه إسرائيليات، وكذا ذكر الأربعة السريانية، ومنهم: آدم؛ فإن هذا كله لا يثبت قط عن الرسول صلى الله عليه وسلم)، وقد روي الحديث من وجه آخر عن صحابي آخر، فقال ابن أبي حاتم: ذكر سند ضعيف عن أبي أمامة قال: قلت: يا نبي الله، كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا". معان بن رفاعة السلامي ضعيف، وعلي بن يزيد ضعيف، والقاسم أبو عبد الرحمن ضعيف أيضًا. وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي: عن يزيد الرقاشي (ضعيف)، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث الله ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلاف إلى سائر الناس". قال: وهذا أيضًا إسناد ضعيف فيه الربذي ضعيف، وشيخه الرقاشي أضعف منه أيضًا، والله أعلم. وروى أبو يعلى: عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا". وقد رويناه عن أنس من وجه آخر، وذكر السند الذي أخبره به أبو عبد الله الذهبي، أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت على إثر من ثلاثة آلاف نبي من بني إسرائيل"، وهذا غريب من هذا الوجه وإسناده لا بأس به، رجاله كلهم معروفون إلا أحمد بن طارق هذا، فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح، والله أعلم. (قلت: ومثل هذا لا يقال إسناده لا بأس به، فالمجهول لا يصح حديثه). قال: وحديث أبي ذر الغفاري الطويل في عدد الأنبياء عليهم السلام، قال محمد بن الحسين الآجري بسنده عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فجلست إليه فقلت: يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة. قال: "الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل"، قال: قلت: يا رسول الله، فأي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله، وجهاد في سبيله"، قلت: يا رسول الله، فأي المؤمنين أفضل؟ قا: "أحسنهم خلقا". قلت: يا رسول الله، فأي المسلمين أسلم؟ قال: "من سلم الناس من لسانه ويده". قلت: يا رسول الله، فأي الهجرة أفضل؟ قال: "من هجر السيئات". قلت: يا رسول الله، أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت". قلت: يا رسول الله، فأي الصيام أفضل؟ قال: "فرض مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة". قلت: يا رسول الله، فأي الجهاد أفضل؟ قال: "من عقر جواده وأهريق دمه". قلت: يا رسول الله، فأي الرقاب أفضل؟ قال: "أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها". قلت: يا رسول الله فأي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد من مقل، وسر إلى فقير". قلت: يا رسول الله، فأي آية ما أنزل عليك أعظم؟ قال: "آية الكرسي"، ثم قال: "يا أبا ذر، وما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة". قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا" قال: قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: " ثلاثمائة، وثلاثة عشر جم غفير كثير طيب". قلت: فمن كان أولهم؟ قال: "آدم". قلت: أنبي مرسل؟ قال: "نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسواه قبيلًا ثم قال: "يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، وخنوخ -وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم- ونوح. وأربعة من العرب: هود، وشعيب، وصالح، ونبيك يا أبا ذر. وأول أنبياء بني إسرائيل: موسى، وآخرهم: عيسى. وأول الرسل: آدم، وآخرهم: محمد". قال: قلت: يا رسول الله، كم كتابًا أنزله الله؟ قال: "مائة كتاب وأربعة كتب، وأنزل الله على شيث خمسين، صحيفة، وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان"، قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: "كانت مواعظ كلها: يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من كافر. وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألا يكون ضاغنًا (أي: خارجًا من بيته) إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش (أي: إصلاح)، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه". قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟ قال: "كانت عِبَرًا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، وعجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم هو لا يعمل"، قال: قلت: يا رسول الله، فهل في أيدينا شيء مما في أيدي إبراهيم وموسى، وما أنزل الله عليك؟ قال: "نعم، اقرأ يا أبا ذر: قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى . بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى . إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى"، قال: قلت يا رسول الله، فأوصني. قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس أمرك"، قال: قلت يا رسول الله، زدني. قال: "عليك بتلاوة القرآن، وذكر الله، فإنه ذكر لك في السماء، ونور لك في الأرض"، قال: قلت: يا رسول الله، زدني. قال: "إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه"، قلت: زدني. قال: "عليك بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي"، قلت: زدني. قال: "عليك بالصمت إلا من خير، فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك". قلت: زدني. قال: "انظر إلى مَن هو تحتك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فإنه أجدر لك ألا تزدري نعمة الله عليك"، قلت: زدني. قال: "أحبب المساكين وجالسهم، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك"، قلت: زدني. قال: "صل قرابتك وإن قطعوك "، قلت: زدني. قال: "قل الحق وإن كان مُرًّا"، قلت: زدني. قال: "لا تخف في الله لومة لائم"، قلت: زدني. قال: "يردك عن الناس ما تعرف عن نفسك، ولا تجد عليهم فيما تحب، وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك، أو تجد عليهم فيما تحب"، ثم ضرب بيده صدري، فقال: " يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق" (انتهى من تفسير ابن كثير). وهذا الحديث رغم ضعفه؛ إلا أنه فيه من المواعظ الجسيمة والحِكَم البليغة التي لها شواهد كثيرة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (83) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر حديث أبي ذر الطويل: "وروى الإمام أحمد عن أبي المغيرة بسنده عن أبي أمامة: أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أمر الصلاة، والصيام، والصدقة، وفضل آية الكرسي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل الشهداء، وأفضل الرقاب، ونبوة آدم، وأنه مكلَّم، وعدد الأنبياء والمرسلين، كنحو ما تقدَّم. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت في كتاب أبي بخطه -وذكر السند عن أبي الوداك- قال: قال أبو سعيد: هل تقول الخوارج بالدجال؟ قال: قلت: لا. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني خاتم ألف نبي أو أكثر، وما بعث نبي يتبع إلا وقد حَذَّر أمته منه، وإني قد بُيِّن لي فيه ما لم يُبيَّن، وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى، كأنها نخامة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه مِن كلِّ لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تدخن. وقد رويناه في الجزء الذي فيه رواية أبي يعلى الموصلي بسنده عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر، ما بَعَث الله من نبي إلى قومه إلا حذرهم الدجال... وذكر تمام الحديث. هذا لفظه بزيادة: "ألف"، وقد تكون مقحمة، والله أعلم. وسياق رواية الإمام أحمد أثبت وأولى بالصحة، ورجال إسناد هذا الحديث لا بأس بهم، (قلتُ: بل هذا الإسناد لا يصح، مجالد فيه حديثه لين، وأبي الوداك صدوق يهم؛ فمثل هذا لا يُصَحَّح). وقد روي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه، رواه الحافظ أبو بكر البزار عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لخاتم ألف نبي أو أكثر، وإنه ليس منهم نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال، وإني قد بُيِّن لي ما لم يُبيَّن لأحدٍ منهم، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور. (قلتُ: فيه مجالد أيضًا، وهو لين الحديث). قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا): هذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة؛ ولهذا يقال له: الكليم. وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه عن عبد الجبار بن عبد الله قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلا يقرأ: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) (قلتُ: أي: بنصب لفظ الجلالة الله ليكون موسى هو الذي تكلَّم)، فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر، قرأتُ على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن، على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) (قلتُ: أي: برفع اسم الجلالة). وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على مَن قرأ كذلك؛ لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلَّم موسى عليه السلام أو يكلِّم أحدًا من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: "وكلم اللهَ موسى تكليمًا"، فقال له: يا ابن اللخناء؛ فكيف تصنع بقوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) (الأعراف: 143)، يعني: أن هذا لا يحتمل التحريف، ولا التأويل. وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كلَّم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء. وهذا حديث غريب، وإسناده لا يصح، وإذا صح موقوفًا كان جيدًا (قلتُ: يعني أنه يكون من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب). وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان على موسى يوم كلَّمه ربه جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي. (قلتُ: وهو أيضًا حديث ضعيف). وقال ابن مردويه بإسناده عن جويبر، عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة، في ثلاثة أيام، وصايا كلها، فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب. وهذا أيضا إسناد ضعيف، فإن جويبرًا ضعيف، والضحاك لم يدرك ابن عباس رضي الله عنهما. فأما الأثر الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله قال: لما كلَّم الله موسى يوم الطور، كلَّمه بغير الكلام الذي كلَّمه يوم ناداه، فقال له موسى: يا رب، هذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال: لا يا موسى، إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسنة كلها، وأنا أقوى من ذلك. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى، صف لنا كلام الرحمن. قال: لا أستطيعه. قالوا: فشبه لنا. قال: ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنها قريب منه، وليس به. وهذا إسناد ضعيف، فإن الفضل الرَّقَاشِي ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ (قلتُ: أي: ضعيف جدًّا). وروى عبد الرزاق عن كعب قال: إن الله لما كلم موسى كلمه بالألسنة كلها سوى كلامه، (قلتُ: في رواية ابن جرير بالألسنة كلها قبل كلامه، يعني قبل كلام موسى)، فقال له موسى: يا رب، هذا كلامك؟ قال: لا ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له. قال: يا رب، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأشد خلقي شبهًا بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق. فهذا موقوف على كعب الأحبار، وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل، وفيها الغث والسمين. (قلت: وهذا والله أعلم مصدر عامة هذه الأخبار؛ فهي من الإسرائيليات ومن النكارة فيها: إنكار أن يكون موسى سَمِع كلام الله الذي كلَّمه به). وقوله: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي: يبشرون مَن أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون مَن خالف أمره، وكذَّب رسله بالعقاب والعذاب. وقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أي: أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبيَّن ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه؛ لئلا يبقى لمعتذرٍ عذر، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) (طه: 134)، وكذا قوله تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص: 47). وقد ثَبَت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين"، وفي لفظ آخر: من أجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه. (قلتُ: وهذا الحديث مِن أوضح الأدلة على عُذْر مَن لم تبلغه الحجة الرسالية؛ فهو دليلنا على مَن خالفنا في قضية العذر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ)" (انتهى من تفسير ابن كثير). وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (84) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). في الآية فوائد: الأولى: أن الدِّين الحق مبنيٌّ على الوحي المنزَّل من عند الله على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فكل دعوة تقوم على الوحي الذي يجمعه الله فيما أوحاه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، في الكتاب والسنة؛ فهي التي تستحق نسبتها إلى الأنبياء، وخاصة خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكل دعوة قامت على آراء الرجال؛ سواء في العقيدة أو العمل أو السلوك، فهي دعوة غريبة عن دين الأنبياء، فمَن قامت دعوته على عِلْم الكلام والفلسفة، وما سموه وظنوه العقل وما هو بعقل، في أمور العقيدة؛ فهي بدعة منكرة. ولا يغرنك مَن يقول: إنها بدعة حسنة! ويزعم الحاجة إليها بعد حدوث هذه العلوم الأجنبية عن الدِّين، فمَن قال ذلك؛ فقد ادَّعى أن الدِّين لم يكتمل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتِ بالحق والهدى، فقد كانت هذه العلوم موجودة في زمنه صلى الله عليه وسلم وقبله بمددٍ طويلةٍ، ولم يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلوم قط في دعوته، ولا حَثَّ صحابته على تعلمها، ولا استعملها صحابته في دعوتهم وجهادهم في سبيل الله، بل دعوا الناس دائمًا بالآيات والأحاديث؛ فهدى الله بهم الأمم، ودخل الناس في دين الله أفواجًا وفتحت الأمصار بذلك. ومَن قامت دعوته على التقليد الأعمى في العبادة والمعاملة، بزعم اتباع الأئمة الأربعة، وغير الأربعة، كما صارت إليه المذاهب في العصور المتأخرة؛ لا دخل لهم بالنصوص والاستدلال بها، بل العِلْم عندهم والفقه هو التخريج على أقوال الإمام، بل صارت أقوال الإمام عند المتأخرين لا يجوز للناس الأخذ بها ولو نص عليها في كتبه، بل يجب اتباع المقلِّدين مِن مذهبه الذين سموهم: أصحاب معتمد المذهب! فهذه الدعوة أيضًا حين تخلَّت عن النصوص وعارضتها بأقوال المشايخ صارت بدعة منكرة. ومَن بَنَى دعوته في التزكية والإحسان وتهذيب النفس على مقامات وأحوال الصوفية المخترعَة، والتي تنتهي عندهم إلى الفناء ووحدة الوجود؛ فهذه دعوة ضلال وغي، لا هداية ورشد، وهي شر البدع؛ خصوصًا مَن وَصَل في الغلوِّ في المشايخ إلى درجة عبادة قبورهم، وطلب قضاء الحاجات، ودفع الكربات والمضرات منهم، واستغاث بهم وحَلَف بهم، وطاف بقبورهم؛ فهذا هو الشرك الأكبر، وإن كان الجهل بآثار الرسالة في المتأخرين، وقِلَّة العلم قد انتشرت؛ فلا بد مِن إقامة الحجة، واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع قبل تكفير المعين منهم، كما نَصَّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة دعاء الأموات وغيرهم -كما سيأتي بيانه إن شاء الله-. وأشد من ذلك خطرًا وبدعة وضلالًا: القول بوحدة الوجود، وأن الكونَ كله شيءٌ واحدٌ؛ فهذا الكفر الأكبر الذي هو شر مِن كفر المشركين، واليهود والنصارى، الذين كَفَّرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم في محاجة قومه: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (الأنعام: 77)، فدلَّ ذلك على أن الهدى هو مِن عند الله في الوحي المنزَّل، وإلا كان الضلال، وهو يرشد قومه إلى أن أصنامهم لا تهديهم ولا تبيِّن لهم شرعة ولا منهاجًا، حتى يخترعَ أحبارُهم ورهبانُهم وسدنتُهم هذه الشرعة والمنهاج، كما قال تعالى عن العِجْل الذي عبده بنو إسرائيل: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) (الأعراف: 148). فلا بد في الهداية من مرجعية الوحي، وعلى كلِّ أحدٍ أن ينظر في نصيبه اليومي من الوحي؛ كتابًا وسُنَّة؛ فهل تعلمتَ اليوم آية وتفسيرها، وقرأتها وتدبرتها، وعَلِمت ما فيها من العقيدة والأحكام والتزكية؟! وهل تعلمت حديثًا وشرحه، وطبَّقتَ ذلك عمليًّا في نظام حياتك اليومية؟! ولتحذر -أخي الكريم- أن تكون مجردَ مقلدٍ لمشايخك، وللدعاة الذين تسمع لهم؛ فإنهم لن يغنوا عنك شيئًا إن لم تحصِّل نصيبك من الوحي. الفائدة الثانية: دين الأنبياء واحد، وهو دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهو دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي قال: "نحن معشر الأنبياء إخوة لعلات، دينهم واحد وأمهاتهم شتى"، أي: شرائعهم مختلفة، وهذا الدِّين مبنيٌّ على الوحي، وقد مَرَّ بك -أيها القارئ الكريم- حديثُ أبي ذر الطويل، وما فيه من ذكر ما كان في صحف إبراهيم، وما فيها من المواعظ الجسيمة العظيمة، كما ذكر ذلك الحافظ المنذري بعد أن ساقه في الترغيب والترهيب، وهو إن كان ضعيف الإسناد؛ إلا أن ما فيه قد دَلَّ عليه الوحي قطعًا؛ كتابًا وسُنَّة، فنحن نقبل ما فيه مِن الحق وإن لم يصح إسنادُه. والوحي جاء بالتوحيد، قال الله -تعالى- لموسى -عليه الصلاة والسلام- الذي خصَّه بالتكليم، ونص على ذلك في هذه الآيات، فقال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، فقال في أول ما كلمه: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي . إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى . فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) (طه: 14-16). فعبادة الله وحده، والإيمان باليوم الآخر والاستعداد له، هو أساس ما أوحاه الله للأنبياء، وقد أكثر الله من ذكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبراءته من الشرك وأهله في غير موضعٍ من الكتاب العزيز، وهذا الذي يهدم فكرة الدِّين الإبراهيمي الجديد المزعوم، القائم على المساواة بين الشرك والتوحيد، وتجويز عبادة غير الله، وتصحيح دين مَن كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء، فحقيقة هذا الدين المخترع: هدم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والكفر بالوحي الذي أوحاه إلى أنبيائه ورسله، وخاصة القرآن العظيم. ولينتبه المسلمون إلى أن عنوان: "الدين الإبراهيمي الجديد" يرفضه الناس في بلاد المسلمين رسميًّا، لكنَّ الخطرَ هو قبول الأفكار التي تضمَّنها هذا الدين، بل والدعوة إليها، كما يكرِّرون في مؤتمراتهم وملتقياتهم على نشر القِيَم المشتركة بين الأديان، ويهملون القِيَم الفارقة بين الحق والباطل، التي أنزلها الله وسمَّاها الفرقان، قال الله تعالى: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) (آل عمران: 4)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (الأنفال: 29). فلا بد مِن نشر الفرقان، ولا بد أن نعرف صفةَ مَن كَذَّب الرسل في الكتاب والسنة؛ فهم قد وُصِفوا ووسموا بالشرك والكفر، وتوعَّدهم اللهُ بالنار، ومَن تأمل ما يُسمَّى بوثيقة الأُخوة الإنسانية، ووثيقة مكة، ومخرجات مؤتمر نشر القِيَم المشتركة بين الأديان، وبيانات لقاءات قادة الأديان؛ يجد هذا المعنى مقبولًا واضحًا جليًّا في كل ذلك، بل مصرِّحًا به! فالحذر الحذر أيها المسلمون من هذا الخطر الداهم. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (85) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (5) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). الفائدة الثالثة: دَلَّت الآية الكريمة على نبوة ورسالة جميع الأنبياء الذين ذُكِروا في هذه الآيات، ومدحهم والثناء عليهم، وأنهم حجة الله على عبادة بتوحيده وعبادته وطاعته؛ لذلك ثبتت عصمتهم وتضمَّنت الرد على مَن طعن فيهم، واتهمهم بالشرك وعبادة الأصنام، وفعل الفواحش والكبائر، بل والصغائر على الصحيح، وأسوأ وأخبث وأكثر مَن يفعل ذلك هم اليهود؛ وذلك ليستحلوا لأنفسهم ما فعلوه من الكفر والفواحش، والفسوق والعصيان؛ لأنه إذا فعلها الأنبياء فلا لوم على غيرهم! ومِن أسوأ ذلك: ما نسبوه إلى النبيين الكريمين داود وسليمان -عليهما السلام-، وهو مجمع عند أهل الإسلام على استحالته على الأنبياء؛ ففي سفر الملوك الفصل الأول (11/ 33-34): "وأحب الملك سليمان نساء أجنبيات كثيرة من الأمم التي قال الرب لبني إسرائيل في شأنها: لا تذهبوا إليهن، ولا يذهبن إليكم، فإنهن يستملن قلوبكم إلى اتباع آلهتهم، فتعلَّق بهن سليمان حبًّا لهن، وكان له سبع مائة زوجة وثلاث مائة جارية، فأزاغت نساؤه قلبه. وفي زمن الشيخوخة تمكَّن أزواجه من إمالة قلبه إلى اتباع آلهة أخرى، فلم يكن قلبه مخلصًا للرب إلهه، كما كان قبل داود أبيه، فتبع سليمان عَشتَروتَ إلهَةَ الصَّيدونيِّينَ ومَلكومَ إلهَ بَني عَمونَ، ووضع الشرَّ في عيني الرب، ولم يتبع الرب اتباعًا تامًّا مثل أبيه داود؛ حينئذٍ بنى سليمان مشرفًا لكاموش صنم قبيلة موآب في الجبل المقابل لأورشليم، ولمولك صنم بني عمون، وكذلك صنع لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يحرقن البخور ويذبحن لآلهتهن، فغضب الرب على سليمان، لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين، وأمره في ذلك أن لا يتبع آلهة أخرى". فهذا الضلال المبين والكفر المستبين بالرسل والنبيين من أعظم ضلالات أهل الكتاب؛ لأن ادِّعاء أن قلب سليمان مال إلى اتباع آلهة أخرى، ولم يكن قلبه مخلصًا للرب إلهه، فيه نسبة الشرك الذي برأه الله منه، ومِن السحر الذي زعمه ونسبه إليه اليهود بقوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة: 102). ومن أعظم جرائم اليهود وكفرهم: ما نسبوه إلى نبي الله داود صلى الله عليه وسلم الذي خصَّه الله بذكره في هذه الآيات؛ لأنه آتاه كتابًا هو الزبور، وهو كلام الله عز وجل، فنسبوا إليه فعل الزنا مع امرأة أحد قادته "أوريا الحوثي" الذي أنجب منها سليمان بعد التسبب في قتل زوجها. بل التفاصيل الكثيرة في "سفر صموئيل" الذي يعد ضمن العهد القديم يستحيي الإنسانُ من ذكرها أو كتابتها! ومَن أراد أن يطلع على هذا الباطل في كتبهم فليراجعها، وهو مِن الكذب الصريح على أنبياء الله، وهو من أدلة تحريف ما يسمَّى بالكتاب المقدس، وخطأ مَن يقول: إن تحريف أهل الكتاب لكتبهم هو تحريف المعاني دون تغيير الألفاظ؛ فإن ما نسبوه للأنبياء لا يجوز لمسلم أن يعتقد صحته، فضلًا أن يعتقد ثبوته في كتب الله المنزلة، وقد أخطأ خطأ بيِّنًا مَن قال مِن المفسرين: إن القرآن أشار إلى هذه القصة في سورة ص في قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ . إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ . قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (ص: 21-24). فإن أقصى ما تحتمله الآيات أنه مجرد طلب لا فعل معه إطلاقًا، وإنما غلبه في الخطاب لا في الفعل، كما قال الحسن: لم يزد على أن قال: انزل لي عنها. ومِن أهل العلم مَن يقول: إن فتنة داود إنما كانت في أنه حكم لأحد الخصمين على الآخر دون أن يسمع من الآخر، وإن كان قول الحسن أقرب إلى ظاهر وسياق الآيات، لكن دون أن يُنسَب إليه فعل، ومثل هذا الطلب يكون خلاف الأولى لا يليق بالأنبياء؛ فلذلك تاب إلى الله عز وجل منه، وعلى أي حال فلا يوجد في أهل الإسلام مَن يصحح زنا نبي كريم من أنبياء الله صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وأن ابنه النبي سليمان هو ابن زنا! بل نقول: إن مجموع الأدلة على أن اعتقاد زنا نبي أو أنه ابن زنا، أو أن امرأته تزني؛ كل ذلك من الكفر، كما دلَّ على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) (النساء: 156)، فبيَّن كفر اليهود؛ لأنهم نسبوا أن المسيح صلى الله عليه وسلم ابن زنا، ومَن قال ذلك كفر بإجماع المسلمين. وقد دَلَّت قصة الإفك على كفر مَن زعم زنا زوجة مِن زوجات نبينا صلى الله عليه وسلم على الصواب مِن أقوال العلماء، فمَن اتهم عائشة أو غيرها بفعل الفاحشة؛ فهو كافر؛ لأنه ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الدياثة! والأنبياء منزهون عن ذلك بالإجماع. فهذه حقيقة عقيدة اليهود في أنبيائهم وملوكهم الذين يسعون اليوم ويزعمون أنهم يريدون إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، أو تحويل المسجد الأقصى إلى هيكلهم بالاقتحامات المستمرة، بالتدريج ونفخ البوق فيه، وإقامة طقوس الرقص، والقفز داخل أسواره وحدوده، نسأل الله أن يطهر المسجد الأقصى من دنسهم وكفرهم، وأن يرده إلى المسلمين. وإنما بنى سليمان صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى، وليس الهيكل المزعوم، ومعنى أنه بناه أي: جدَّد بناءه؛ لأن بناءه الأول كان في عهد إبراهيم أو إسحاق أو يعقوب عليهم السلام؛ لأنه كان بعد بناء الكعبة بأربعين عامًا كما ثبت ذلك في حديث أبي ذر في صحيح مسلم، وقد ثبت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بنى سليمان عليه السلام المسجد سأل الله ثلاثًا فأعطاه إياها، فسأل الله حكمًا يوافق حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وأنه مَن قصد هذا المسجد فصلَّى فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فسليمان صلى الله عليه وسلم بريء مِن اليهود، وممَّن يعتقد عليه الكفر والشرك، وداود عليه الصلاة والسلام الذي ينسبون نجمة عَلَمهم إليه، ويسمونها نجمة داود بريء منهم لما نسبوا إليه مِن أنواع الفواحش والظلم والقتل! نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله أن ينصر المسلمين على هؤلاء المشركين، وإن انتسبوا إلى الأنبياء. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (86) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). الفائدة الرابعة: دَلَّ قولُه تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) على أن الزبور وهو بمعنى الكتاب الذي يزبر، أي: يكتب، كتاب أنزله الله على داود صلى الله عليه وسلم، فيه كلامه عز وجل، وهو أحد الكتب التي نص القرآن عليها ويجب الإيمان بها إجمالًا، وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم، وصحف إبراهيم وصحف موسى، وفيها قولان: الأول: أنها التوراة كتبت في صحف. والثاني: أنها صحف آتاها الله موسى قبل التوراة، ويؤيد هذا القول قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا . فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا) (الفرقان: 35-36). فالكتاب المذكور في هذه الآية كان قبل أمر الله موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون وقومه، والتوراة كانت بعد هلاك فرعون وجنده، ويؤيده أيضًا: أن التوراة كتبها الله لموسى بيده في الألواح، وهذه صحف، والله أعلم. وخاتم هذه الكتب: "القرآن العظيم" مصدِّق لما في هذه الكتب والمهيمن عليها -الشاهد عليها-؛ فهو يبيِّن الحق الذي في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب، ويشهد لما فيها مِن الصدق ويبيِّن ما فيها من الباطل الذي كتبوه بأيديهم، ثم قالوا هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، ويبيِّن ما كتموه منها وما حذفوه أو ضيعوه، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة: 15). ويجب الإيمان بهذه الكتب كلها إجمالًا، والإيمان بما ذكره الله من التفصيل فيها: كالتوحيد، وبعض الشرائع التي ظلت باقية، مثل: القصاص، قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وكذا الرجم كما دَلَّت عليه الأحاديث الصحيحة في سبب نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) إلى قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). وقد دَلَّت على أن الرجم كان مكتوبًا في التوراة التي تُليت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القارئ الأعور وضع يده عليها ليخفيها؛ فأمره عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن يرفع يده، فإذا آيات الرجم تلوح؛ فهذا مما يجب الإيمان به بالتفصيل وإن لم يكن بنفس الألفاظ. كما يبيِّن القرآن ما نُسِخ منها كتعظيم السبت، وأما ما لم يصدقه القرآن ولم يكذِّبه؛ فهذا الذي يجب أن نسكت عليه؛ فلا نصدقه ولا نكذبه، كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهانا أن نسألهم عن شيء؛ حتى لا يخبرونا بحق فنكذِّب به أو بباطل فنصدقه، وما بأيدي أهل الكتاب اليوم لا يشك عَالِم به وبشرع الله عز وجل أنه قد وقع في التوراة التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان. والدليل على ذلك: ما تضمنته مِن صفات النقص لله عز وجل، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وإثبات الفواحش والزنا، بل الشرك للأنبياء، وغير ذلك من الرذائل كما سبق في المقال السابق عن داود وسليمان عليهم الصلاة والسلام، وهي أيضًا قد تضمنت حقًّا مما أنزله الله على الأنبياء: كالتوحيد، والإيمان باليوم الآخر، والنبوات؛ فلا يجوز إهانة شيء منها، ولا وطأه بالأقدام كما فعله بعض السفهاء. الفائدة الخامسة: دَلَّ قوله تعالى: (وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أن مِن الرسل مَن لم يذكروا في القرآن ولا في السنة، فمَن ذكره أهلُ الكتاب من أسماء بعض الأنبياء عندهم الذين لم يذكروا في القرآن: كإشعياء، ودانيال، وعُزير، وإن كان عزير ذكر اسمه في القرآن، لكن لم يذكر مع الأنبياء، ولا بما يدل على نبوته، بل ذُكِر في غلو أهل الكتاب فيه وادعائهم أنه ابن الله، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)، فلا ندري أكان نبيًّا أم لا، فيجب التوقف في هؤلاء لا نثبت ولا ننفي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ لَعِينٌ هُوَ أَمْ لَا، وَمَا أَدْرِي أَعُزَيْرٌ نَبِيٌّ هُوَ أَمْ لَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). الفائدة السادسة: دَلَّ قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) على إثبات صفة الكلام لله سبحانه؛ فقد أكَّده الله سبحانه بقوله (تَكْلِيمًا)؛ لنفي احتمال المجاز، أو أنه كلام بعض خلقه أو ملائكته؛ مما لا يجوز لمخلوقٍ قطعًا أن يقول هذا الكلام، نحو قوله تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي)، وقوله لموسى: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، ونحوها. وأهل الإيمان يؤمنون بأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، بكلامٍ هو صفته غير مخلوق؛ لأن صفاته سبحانه الذاتية والفعلية كلها غير مخلوقة، وصفة الكلام من صفات الذات من جهة النوع، وأما آحاد الكلام؛ فهو يكون متى شاء الله؛ ولذا يعتقدون أن الله كلَّم موسى حين كلَّمه ولم يكن كلمه قبل ذلك، وإن كان موصوفًا أزلًا سبحانه بأنه يكلِّم موسى ويقول له ما ذكره في كتابه، ولكن التكليم قد وقع حين كان موسى عند جبل الطور في حياته، كما قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ). وقد ضلتِ الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة، وغيرها؛ لنفيهم صفات الرب سبحانه وتعالى، فزعموا أن كلامه مخلوق؛ بمعنى أنه كلام خَلَقَه الله في بعض خلقه، وهذا كفر بالله سبحانه؛ لأنه يجعل كلامه كقول البشر، وقد قال تعالى عن الكافر المعاند الوليد ابن المغيرة أنه قال عن القرآن: (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)، وقد امتُحِن في هذه المسألة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وثَبَت فيها على الحق حتى نصره الله، وصار إمامًا مِن أئمة أهل السنة في جميع العصور، رحمه الله تعالى. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (87) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (7) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). الفائدة السابعة: دَلَّ قوله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)، على أن إرسالَ الرُّسُل من آثار صفة العزة وصفة الحكمة لله تعالى؛ فهو لكمال عزته لم يكتفِ في إقامة الحجة على الناس وتعذيبهم بذنوبهم وشركهم وكفرهم، بالميثاق الذي أخذه عليهم وهم في ظهر أبيهم آدم عليه السلام، بأنه سبحانه وتعالى ربهم، وأن لا يشركوا به شيئًا، ولا بأنه قد فطرهم سبحانه وتعالى على التوحيد كما قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30). وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ) (رواه مسلم)، وفي رواية له: (لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ)، وفي الحديث الصحيح أيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) (رواه مسلم). بل هو لا يعذبهم سبحانه إلا بعد إرسال الرسل؛ لئلا لا يكون للناس حجة بعد الرسل، والرسل تذكرهم بالميثاق الأول، وتذكرهم بالفطرة التي بُدِّلت عندهم إلى اليهودية أو النصرانية، أو المجوسية، أو غيرها؛ فإذا تذكروا بدعوة الرسل وَجَدوا أن التوحيد وتصديق الرسل هو الذي يجدونه حقًّا في قلوبهم بمقتضى هذه الفطرة، وهي أثر الميثاق الأول، وليست هي الميثاق الأول، لكنها مِن آثاره، ولا يوجد بين السَّلَف مَن ينكر الميثاق الأول، وهو الثابت في الحديث المتفق على صحته عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ؛ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي!). وهذه الفطرة وهذا الميثاق الأول إنما كان حجة للميثاق الآخِر؛ لميثاق الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وليس حجة مستقلة؛ كما زعم مَن يخالف ذلك -كابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن أبي العز شارح الطحاوية رحمهم الله- ممَّن قالوا: إن في المسألة قولين للسَّلَف، وجعلوا قول الحسن في ذلك مخالفًا لكلِّ الصحابة والتابعين في ذِكْره الفطرةَ في هذه الآية، مع أن للحسن رواية صحيحة واضحة أنه يُثبِت الميثاق الأول، وهو قد بَيَّن أن الفطرة أثر للميثاق الأول كما نص عليه ابن عباس رضي الله عنهما. فتنبه لهذه المسألة الخطيرة، مع كون هؤلاء الأئمة جميعًا يقولون: إن الحجة لا تتم إلا ببعثة الرسل؛ ولعل ختم الله تعالى الآية الكريمة بهذين الاسمين الكريمين: العزيز والحكيم في قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)، وتبيين أن بعثة الرسل من آثار العزة والحكمة؛ هو السر في ختم عيسى صلى الله عليه وسلم دعاؤه يوم القيامة: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118)؛ ففي ذلك -والله أعلم- إشارة إلى أن مَن يمكن أن يُغفَر الله لهم ممَّن أشركوا مِن النصارى إنما يكون لمَن تقم عليهم الحجة لعدم وصول الكتب لهم وتقليدهم الأحبار والرهبان، ولم يبلغهم عن عيسى صلى الله عليه وسلم، ولا عن غيره شيء خلاف ما بلغهم؛ فإن هؤلاء يكونون مِن أهل الامتحان يوم القيامة، وقد يُغفَر لبعضهم إذا استجابوا لأمر الله عز وجل، وهذا مقتضى عزته وحكمته أن لا يعذب أحدًا لم تبلغه دعوة الرسل بالتوحيد، وبالتفصيل الذي جاءوا به، والله أعلم. ومع ثبوت هاتين الحجتين: الميثاق الأول، والفطرة لم يعذب الله أحدًا إلا بعد إرسال الرسل؛ قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15)، أي: وتبلغ الناس دعوة هذا الرسول، كما قال تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام: 19). وهذا الأصل مجمع عليه عند أهل السنة؛ خلافًا للمعتزلة الذين قالوا بأن الحجة العقلية -بزعمهم!- وهي: عِلْم الكلام والمنطق، وهي في الحقيقة ليست حجة عقلية، بل مجرد شبهات كلامية؛ جعلوها حجة ثابتة على العباد في أصل الدِّين وبعض فروعه، يعذَّبون عليها يوم القيامة ولو لم تبلغهم دعوة الرسل؛ إجمالًا في أصل الدِّين، وتفصيلًا في تفاصيل الإيمان وفروع الدِّين. وللأسف قد بدَّل بعض المنتسبين إلى السنة والسلف لفظ الحجة العقلية عند المعتزلة إلى حجة الفطرة، فلم يعذروا بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وزعموا أن التوحيدَ وترك الشرك لا يلزم فيه دعوة الرُّسُل صلى الله عليهم وسلم، وفي بعض فروع الدِّين كذلك، التي زعموا أن منها: حرمة الزنا، والفواحش، والقتل، والظلم، ووجوب العدل، ونحو ذلك، وقالوا: هذه أيضًا لا يُعذر فيها بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وسيعذب الناس عليها ولو لم تبلغهم الحجة الرسالية؛ لأنهم فُطِروا على ذلك! ولا شك أن الأمر سيختلف حسب نظر كلِّ واحدٍ في أن هذا يُعذَّب عليه أو لا يعذب عليه؛ لأنه يراه مِن الفطرة، ولا شك أن هذا هو قول المعتزلة مع تغيير الألفاظ. وقد غَرَّ الكثيرين انتسابُ هؤلاء للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي يسير على طريقة السَّلَف، وما بينه رحمه الله من عدم تكفير المسلم الذي قد شهد الشهادتين، ولو عَبَد الصنم الذي على قبر البدوي؛ لأجل جهل مَن يصنعون ذلك وعدم مَن ينبههم، كما نص على ذلك في رسائله؛ فظن المغرورون بهؤلاء المنتسبين إلى دعوته أن في المسألة خلافًا، وجَعَلَها بعضهم من مسائل علم أصول الفقه؛ ليخرجوا من الإجماع الذي نقله غير واحدٍ من أهل العلم، في أنه لا يُكفَّر مسلمٌ قال قولًا عن جهل أو أوَّله بشبهة. فدخل التكفير الواسع لعمومٍ مِن المسلمين؛ خصوصًا بعد ظهور قضية الحكم بغير ما أنزل الله بعد الاحتلال الغربي، وحصول كثير من مسائل موالاة الكفار؛ فاتسع باب التكفير الذي ضيَّقه الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ) (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) (متفق عليه). وبَيَّن لهم صلى الله عليه وسلم أن الله يحب العذر، بل قال: (لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ) (متفق عليه)، فخالفوا ذلك كله، ونَشَروا هذا الفكر الخطير باسم: "السُّنَّة!"، وغَرَّهم تردد بعض أهل العلم المعاصرين في قضية العذر بالجهل، وليس بعيد أن تغيبَ مسألة عقدية أو عملية عن بعض أهل العلم؛ لأنهم نشأوا على قول طائفةٍ كبيرةٍ مِن أسلافهم لا يعذرون بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، والعِبْرَة بالأدلة التي بيَّنها غيرُهم، ومَن سبقهم مِن العلماء. واختلط عليهم تفريق الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بين فهم الحجة وبلوغ الحجة؛ فظنوا أن مجرد تلاوة القرآن في المحاريب والمجالس والإذاعات كافٍ في إقامة الحجة، وغفلوا أن الحجة لا بد أن تكون بلسان القوم، وقد غاب عنهم أن القومَ عوام غلبت عليهم العجمة، واللغة العامية، وتلبيس شيوخ الضَّلَال عليهم حقيقة معنى الآيات؛ فهم لا يفهمونها حتى تُبيَّن لهم بلسان قومهم، وتُفَسَّر لهم بالبساطة التي يفهمونها فهنا تكون قد قامت عليهم الحجة؛ فإن أعرضوا عنها فهم الذين أعرضوا، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (السجدة: 22)، وهذا الذي ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض التوحيد: "إذا أعرض عن الحجة بعد قيامها"، وليس قبل ذلك. وازداد الخلط عند الكثيرين بعد نشوء دعوة "سيد قطب" بقضية المجتمع الجاهلي، وقَبْله المودودي في كتابه: "المصطلحات الأربعة في القرآن" التي وَسَّعت نطاق التكفير. ثم فَسَّر بعضُ أتباع "سيد قطب" فكره بأنه فكر: "التوقف والتَّبَيُّن"، وجعلوا عامة مجتمعات المسلمين "التي لا تنتمي إليهم" إما كفارًا؛ لأنهم خالفوا في المسائل التي جعلوها حدًّا للإسلام -النسك والولاية والحكم-، وإما طبقة متميعة لا يشغلون أنفسهم بالحكم عليها وتوقَّفوا في إسلامها، وعند الحاجة يعاملونهم كالكفار، وربما عرَّضوهم للقتل دون أتباعهم الذين حَرصوا على تجنيبهم ذلك، وزعموا أن مَن كان منهم مسلمًا في الباطن؛ فهو شهيد فترتب على ذلك جرأتهم على التسبب في قتل المسلمين؛ فضلًا عن تكفير مَن خالفهم في الأمور السياسية! وإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم جاء مَن هم أشدُّ غلوًّا كـ"تنظيم القاعدة"؛ الذي نَبَع منه تنظيم "داعش"؛ ساموا المسلمين قبل غيرهم أنواع القتل، والتنكيل، والتحريق بحكم الجهال مِن قضاتهم، وبدون حكم أيضًا، بل بالجرأة الفظيعة على القتل وعلى التكفير بمجرد الشبهة، ولا يزال هذا حالهم في سيناء، والشام، وغيرها. وقد دَمَّروا بلاد العراق والشام بتشويه صورة الإسلام الحق فيها، وتشويه اسم الجهاد والخلافة والحدود والجزية حتى كَرِه كثيرٌ مِن الناس ذلك، وحصل البلاء العظيم الذي زالت به في النهاية دولتهم المزعومة، وتحولوا إلى عصابات القتل والتخريب في بلاد المسلمين، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرَّهم، وشر كلِّ ذي شر من الكفار والمنافقين والمبتدعين. وكل ذلك بسبب إهمال هذه القاعدة القرآنية العظيمة، وهي مِن قواعد السُّنَّة كذلك، وإجماع أهل السنة في وجوب إقامة الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها، والتفريق بين تكفير المُعَيَّن الذي استوفيت فيه الشروط وانتفت الموانع، وبين تكفير النوع الذي يطلق كما أطقته النصوص. وسوف ننقل جمعًا من الأدلة والنقول عن الأئمة والعلماء في هذه المسألة المهمة في المقال القادم إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (88) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). الفائدة الثامنة: الأدلة والنقول في إثباتِ العُذْر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وعدم تكفير مَن لم تقم عليه الحجة الرسالية التي يُكفَّر منكرها، أو إذا لم تستوفَ الشروط وتنتفي الموانع. قال الإمام محمد بن حزم رحمه الله: "الكلام فيمَن يُكَفَّر ولا يكفَّر: اختلف الناس في هذا الباب، فذهبت طائفة إلى أن مَن خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد أو في شيء من مسائل الفتيا؛ فهو كافر. وذهبت طائفة إلى أنه كافر في بعض ذلك، فاسق غير كافر في بعضه؛ على حسب ما أدتهم إليه عقولهم وظنونهم. وذهبت طائفة إلى أن مَن خالفهم في مسائل الاعتقاد فهو كافر، وأن مَن خالفهم في مسائل الأحكام والعبادات فليس كافرًا ولا فاسقًا، ولكنه مجتهد معذور؛ إن أخطأ مأجور بنيته. وقالت طائفة بمثل هذا فيمَن خالفهم في مسائل العبادات، وقالوا فيمَن خالفهم في مسائل الاعتقادات أن كلَّ الخلاف في صفات الله عز وجل فهو كافر، وإن كان فيما دون ذلك فهو فاسق. وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وأن كلَّ مَن اجتهد في شيءٍ مِن ذلك فدان بما رأى أنه الحق؛ فإنه مأجور على كل حال؛ إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد، وهذا قول ابن أبي ليلي، وأبي حنيفة، والشافعي، وسفيان الثوري، وداود بن علي رضي الله عن جميعهم. وهو قول كلِّ مَن عرفنا له قولًا في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم لا نعلم منهم في ذلك خلافًا أصلًا؛ إلا ما ذكرنا مِن اختلافهم في تكفير مَن ترك صلاة متعمدًا حتى خرج وقتها، أو ترك أداء الزكاة، أو ترك الحج، أو ترك صيام رمضان، أو شرب الخمر، واحتج مَن كفر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء الله عز وجل". إلى أن قال: "والحق هو أن كلَّ مَن ثبت له عقد الإسلام؛ فإنه لا يزول عنه إلا بنصٍّ أو إجماع، وأما بالدعوى والافتراء فلا؛ فوجب أن لا يكفَّر أحدٌ بقول قاله إلا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، فيستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة والسلام، وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة، أو في فتيا، وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منقولًا نقل إجماع تواتروا، أو نقل آحاد (قلتُ: مقصوده رحمه الله في ذلك أن مَن عَلِم صحة حديث ولو آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستجاز مخالفته، وعاند بعد أن علمه؛ فهو الذي يكفَّر)؛ إلا أن مَن خالف الإجماع المتيقن المقطوع على صحته فهو أظهر في قطع حجته، ووجوب تكفيره؛ لاتفاق الجميع على معرفة الإجماع، وعلى تكفير مخالفته (قلتُ: والصحيح أن الإجماع نوعان: الأول: مقطوع به، معلوم من الدِّين بالضرورة؛ فهذا يكفَّر مخالفه بمجردة مخالفته؛ لأن انتشارَ العلم به بين المسلمين "خاصهم وعامهم" يجعل الحجة به قائمة على كلِّ أحدٍ، وأما إذا كان إجماعًا مقطوعًا به، لكن لم ينتشر علمه بين المسلمين، ولا يُعلم بالضرورة؛ فهذا يضلل مخالفه؛ لأنه لم يسأل أهل الذِّكْر وهم العلماء فيما وجب عليه تعلُّمه. والنوع الثاني من الإجماع: ما كان مظنونًا بنقل بعض أهل العلم به، وليس قطعيًّا؛ فلا يكفَّر مخالفه، لكن مخالفته لا تجوز، كما لا يجوز مخالفة الحديث الصحيح عند مَن صَحَّ عنده)؛ برهان صحة قولنا قول الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرًا). قال أبو محمد: هذه الآية نصٌّ بتكفير مَن فعل ذلك، فإن قال قائل: أن مَن اتبع غير سبيل المؤمنين؛ فليس من المؤمنين. قلنا له -وبالله التوفيق-: ليس كلُّ مَن اتبع غير سبيل المؤمنين كافرًا؛ لأن الزنا، وشرب الخمر، وأكل أموال الناس بالباطل، ليست من سبيل المؤمنين، وقد علمنا أن مَن اتبعها؛ فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وليس مع ذلك كافرًا، ولكن البرهان في هذا قول الله عز وجل: (فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجًا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا)؛ فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلًا، ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلًا، ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان. (قلتُ: نفي الإيمان في هذه الآية الكريمة التي احتج بها نوعان: نوع يزول معه أصل الإيمان بالكلية، وهذا فيمَن رَدَّ أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل الحُكم "أبى واستكبر، أو كَذَّب واستحل مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام"، أما النوع الثاني مِن نفي الإيمان: فهو نحو نفي الإيمان عن السارق، والزاني، وشارب الخمر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (متفق عليه). والدليل على ذلك: أن مَن نزلت فيه ممَّن كانت فيه خصلة النفاق ممَّن قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حُكْمٍ حَكَم به: "أن كان ابن عمتك!"؛ لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم على الرِّدَّة، ولم يأمر بمعاملته معاملة الكفار، وهذا التفريق بين النوعين يُعرَف بحال كلِّ نوعٍ منهما، والسياق الذي يدل عليه في الإباء والاستكبار، والمعاندة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، واستحلال المخالفة، أو المخالفة العملية دون أن يكون ذلك مع إباء واستكبار لشرع الله). قال أبو محمد: وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان؛ فلا يكون كافرًا؛ إلا أن يأتي نصٌّ بتكفيره فيوقف عنده، كمَن بلغه وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقط، فيمسك عن البحث عن خبره فإنه كافر؛ فإن قال قائل: فما تقولون فيمَن قال: أنا أشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدري: أهو قرشي أم تميمي أم فارسي؟ ولا هل كان بالحجاز أو بخراسان؟ ولا أدري أحي هو أو ميت؟ ولا أدري لعله هذا الرجل الحاضر أم غيره؟ قيل له: إن كان جاهلًا، لا علم عنده بشيء من الأخبار والسِّيَر لم يضره ذلك شيئًا، ووجب تعليمه (قلتُ: يقصد المبالغة في ذلك وإلا فهذا لا يجهله مسلم ولا كافر)، فإذا عَلِم وصَحَّ عنده الحق؛ فإن عاند فهو كافر حلال دمه وماله، محكوم عليه بحكم المرتد، وقد علمنا أن كثيرًا ممَّن يتعاطى الفتيا في دين الله عز وجل، نعم وكثيرًا من الصالحين لا يدري كم لموت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أين كان، ولا في أي بلدٍ كان، ويكفيه مِن كل ذلك إقراره بقلبه ولسانه أن رجلًا اسمه محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدِّين. قال: وكذلك مَن قال: إن ربه جسم؛ فإنه إن كان جاهلًا أو متاولًا فهو معذور لا شيء عليه، ويجب تعليمه، فإذا قامت عليه الحجة من القرآن والسنن فخالف ما فيهما عنادًا؛ فهو كافر يحكم عليه بحكم المرتد، وأما مَن قال: إن الله عز وجل هو فلان لإنسانٍ بعينه، أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه، أو أن بعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا غير عيسى بن مريم؛ فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكلِّ هذا على كلِّ أحد، ولو أمكن أن يوجد أحدٌ يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه؛ لما وجب تكفيره حتى تقوم عليه الحجة". انتهى كلامه رحمه الله، ولنا استكمال له. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (89) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (9) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). الفائدة التاسعة: قال ابن حزم -رحمه الله-: "وقد صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا لم يعمل خيرًا قط، فلما حضره الموت قال لأهله: إذا مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح، نصفه في البحر ونصفه في البر، فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذابًا لم يعذبه أحدًا من خلقه، وأن الله عز جل جمع رماده فأحياه وسأله: ما حملك على ذلك؟ قال: خوفك يا رب. وأن الله تعالى غفر له لهذا القول. قال أبو محمد: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله، وقد قال بعض مَن يحرِّف الكلم عن مواضعه: أن معنى لئن قدر الله عليَّ؛ إنما هو لئن ضيَّق الله علي، كما قال تعالى: "وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه". قال أبو محمد: وهذا تأويل باطل لا يمكن؛ لأنه كان يكون معناه حينئذٍ: لئن ضيَّق الله علي ليضيقن علي، وأيضًا: فلو كان هذا؛ لما كان لأمرهم بأن يُحرَق ويذر رماده، معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت مِن عذاب الله تعالى. (قلتُ: هذا الحديث الصحيح الثابت المتلقَّى بالقبول من الأمة؛ دَلَّ على أن الجهل ولو في أصول الدِّين، ولو في صفات الله عز وجل والإيمان باليوم الآخر، إذا كان ناشئًا عن عدم البلاغ ولو بتقصير في طلب العلم؛ لا يكفَّر صاحبه حتى تقام عليه الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها؛ وذلك أن هذا الرجل جهل ثلاثة أصول عظيمة من أصول الدين: جهل قدرة الله عز وجل عليه، وشك في البعث بعد الموت، وشك في عِلْم الله عز وجل. وقد دَلَّ على ذلك رواية حَسَّنها ابن حجر في فتح الباري: أن الرجل قال: لعلي أُضِلُّ الله! فهو يظن أنه بذلك يفوت من الله، وأن الله لا يدري أين هو، وكل واحدة من هذه كفر، ومع ذلك فقد نَجَى الرجلُ في نهاية الأمر، ولا يلزم من المعفرة له أن لا يعذب على تفريطه في الطاعة وعلى تقصيره في طلب العلم، فإن في رواية أحمد في مسنده عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه لهذه القصة: أن هذا الرجل هو آخر مَن يخرج مِن النار، فدل ذلك على أنه عُوِقَب ثم غُفِر له، وهذه المسألة من أهم الأمور؛ أعني مسألة مَن قَصَّر في طلب العلم، لكنه لم يبلغه عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم خِلَاف ما اعتقده). قال أبو محمد: وأبْيَن من شيء في هذا: قول الله تعالى: "إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" إلى قوله: "ونعلم أن قد صدقتنا"؛ فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ ولم يبطل بذلك إيمانهم، وهذا ما لا مخلص منه، وإنما كانوا يكفَّرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة، وتبيُّنهم لها. قال أبو محمد: وبرهان ضروري لا خلاف فيه، وهو: أن الأمةَ مجمعة كلها بلا خلاف مِن أحدٍ منهم، وهو أن كلَّ مَن بدَّل آية من القرآن عامدًا وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، وأسقط كلمة عمدًا كذلك، أو زاد فيها كلمة عامدًا؛ فإنه كافر بإجماع الأمة كلها، ثم أن المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى، ويبدل كلامه جاهلًا مقدِّرًا أنه مصيب، ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبيَّن له الحق، ولا يكون بذلك عند أحدٍ من الأمة كافرًا ولا فاسقًا ولا آثمًا، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك مِن القراء مَن تقوم الحجة بخبره، فإن تمادى على خطئه؛ فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة، وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة. وقال أيضًا رحمه الله: وقال قائلهم: فإذا عذرتم للمجتهدين إذا أخطأوا، فأعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل؛ فإنهم أيضًا مجتهدون قاصدون الخير! فجوابنا -وبالله تعالى التوفيق-: أننا لم نعذر مِن عذرنا بآرائنا، ولا كفَّرنا مَن كفرنا بظننا وهوانا، وهذه خطة لم يؤتها الله عز وجل أحدًا دونه، ولا يدخل الجنة والنار أحدٌ، بل الله تعالى يدخلها مَن شاء، فنحن لا نسمي بالإيمان إلا مَن سَمَّاه الله به؛ كل ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يختلف اثنان مِن أهل الأرض لا نقول من المسلمين، بل مِن كل ملة في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع بالكفر على أهل كل ملة؛ غير الإسلام الذي تبرأ أهله مِن كل ملة حاشا التي أتاهم بها عليه السلام فقط، فوقفنا عند ذلك، ولا يختلف أيضًا اثنان في أنه عليه الصلاة والسلام قطع باسم الإيمان على كلِّ مَن اتبعه وصدَّق بكلِّ ما جاء به، وتبرأ من كل دين سوى ذلك، فوقفنا أيضًا عند ذلك، ولا مزيد؛ فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه؛ سواء أُجمِع على خروجه منه أو لم يجمع، وكذلك مَن أجمع أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام؛ فواجب اتباع الإجماع في ذلك. وأما مَن لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له، ولا إجماع في خروجه أيضًا عنه؛ فلا يجوز إخراجه عما قد صَحَّ يقينًا حصوله فيه، وقد نص الله تعالى على ما قلنا، فقال: "ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، وقال تعالى: "ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا أولئك هم الكافرون حقًّا"، وقال تعالى: "قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"؛ فهؤلاء كلهم كفار بالنص، وصَحَّ الإجماع على أن كل مَن جحد شيئًا صح عندنا بالإجماع: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى به؛ فقد كفر، وصح بالنص: أن كل مَن استهزأ بالله تعالى أو بمَلَك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدِّين؛ فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر، ومَن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام، أو جحد شيئًا صَحَّ عنده بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كافر؛ لأنه لم يحكِّم النبي صلى الله عليه وسلم فيما شَجَر بينه وبين خصمه. وقال أيضًا رحمه الله: وسألوا أيضًا عما قال: أنا أدري أن الحج إلى مكة فرض، ولكن لا أدري: أهي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس؟ وأنا أدري أن الخنزير حرام، ولكن لا أدري أهو هذا الموصوف الأقرن أم الذي يحرث به؟ قال أبو محمد: وجوابنا هو: أن مَن قال هذا؛ فإن كان جاهلًا عُلِّم ولا شيء عليه؛ فإن المشببين لا يعرفون هذا إذا أسلموا حتى يعلموا، وإن كان عالمًا فهو عابث مستهزئ بآيات الله تعالى؛ فهو كافر مرتد حلال الدم والمال. ومَن قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر لتكذيبه القرآن، وقد قذفها مسطح وحمنة فلم يكفرا؛ لأنهما لم يكونا حينئذٍ مكذبين لله تعالى، ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفرا. وأما مَن سَبَّ أحدًا مِن الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن كان جاهلًا فمعذور، وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق، كمَن زنى وسرق، وإن عاند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب -وحاطب مهاجر يدري-: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فما كان عمر بتكفيره حاطبًا كافرًا، بل كان مخطئًا متأولًا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آية النفاق بغض الأنصار، وقال لعلي: لا يبغضك إلا منافق. ومَن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه وجد الحرج في نفسه مما قد قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مِن إظهار الإيمان بأيديهم، ومَن عادى عليًّا لمثل ذلك فهو أيضًا كافر، وكذلك مَن عادى مَن ينصر الإسلام لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك. وقد فَرَّق بعضهم بين الاختلاف في الفتيا والاختلاف في الاعتقاد، بأن قال: قد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتيا فلم يكفِّر بعضهم بعضًا، ولا فسَّق بعضهم بعضًا. قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء، فقد حدث إنكار القدر في أيامهم، فما كفَّرهم أكثر الصحابة رضي الله عنهم (قلتُ: بل ظاهر كلام ابن عمر وغيره من الصحابة، تكفير غلاة القدرية الذين قالوا: لا قَدَر، وأن الأمر أنف؛ وذلك أن مقتضى قولهم: إنكار علم الله عز وجل إذ هو أول مراتب القدر. وقد قال عمرو بن عبد العزيز وغيره: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أنكروا كفروا، وإن أقروا خصموا؛ فدل ذلك على تكفير مَن أنكر علم الله عز وجل). قال أبو محمد بن حزم: وقد اختلفوا في الفتيا على ذلك، وسُفِكَت الدماء؛ كاختلافهم في تقديم بيعة علي على النظر في قتلة عثمان رضي الله عنهم، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: مَن شاء بأهلته عند الحجر الأسود أن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في فريضة واحدة نصفًا ونصفًا وثُلُثًا (قلتُ: يعني العول الذي خالف فيه جماهير الصحابة والعلماء رضي الله عن الجميع). قال أبو محمد: ونحن نختصر ها هنا إن شاء الله تعالى، ونوضِّح كلَّ ما أطلنا فيه، قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا"، وقال تعالى: "لأنذركم به ومن بلغ"، وقال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا"؛ فهذه الآيات فيها بيان جميع هذا الباب؛ فصح أنه لا يكفر أحدٌ حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر، فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عَمِل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حكمٌ بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل؛ فلا شيء عليه أصلًا حتى يبلغه. (قلتُ: أما مَن لم يبلغه خبرَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن كان موحِّدًا: كبعض أهل الكتاب، وبعض مَن كان على الحنيفية يعرف ربه عز وجل ويعبده وحده، دون علم بتفصيل العبادة لم يجز تكفيره كما ذَكَر، وأما إن كان مشركًا ولم يبلغه خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خبر غيره مِن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فهو كافر معذور في الدنيا، فلا يقتل حتى يبلَّغ ويدعى إلى الإسلام، وفي الآخرة فلا يعذب، بل يمتحن؛ فإن أطاع الله عز وجل نجا). قال: فإن بلغه وصح عنده؛ فإن خالفه مجتهدًا فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة، كما قال عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب؛ فله أجران، وإن أخطأ فله أجر"، وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء، وإن خالفه بعمله معاندًا للحق معتقدًا بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق، وإن خالفه معاندًا بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك؛ سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردنا، وهو قول إسحاق بن راهويه وغيره، وبه نقول. وبالله تعالى التوفيق" (الفصل في الملل والنحل، 140/ 3). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (90) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (10) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165). الفائدة العاشرة: قوله سبحانه وتعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا): قال ابن كثير رحمه الله: "هذا إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسل إليه". وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: "ظاهر هذه الآية الكريمة أن الله لا يعذب أحدًا من خلقه حتى يبعث إليه رسولًا ينذره ويحذره، فيعصي ذلك الرسولَ، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلوغ لقوله تعالى: "وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومَن بلغ"، وقوله: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا"، وقوله: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"، ومثل هذا في القرآن متعدد؛ بيَّن سبحانه أنه لا يعاقب أحدًا حتى يبلغه ما جاء به الرسول، ولا يعذبه الله على ما لم يبلغه؛ فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان إلا بعد بلوغ الحجة؛ فإنه لا يعذبه على بعض شرائعه إلا بعد البلوغ" (مجموع الفتاوى 2/ 41-42). وقال تعالى: "وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبيِّن لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم"؛ ففي هذه الآية بيَّن سبحانه وتعالى أنه لا يضل قومًا حتى تبلغهم الحجج البينات التي يعرفون بها ما يلزمهم أن يتقوه مما يغضب الله عز وجل. وقال تعالى: "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير . قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير". والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على أن العذاب إنما يكون بعد بلوغ الحجة والنذارة التي جاءت بها رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ومن أدلة السنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار"، فمَن لم تبلغه دعوة الإسلام؛ فهو معذور، ومَن آمن به صلى الله عليه وسلم ثم لم تبلغه بعد أخباره وأوامره؛ فهو معذور كذلك. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: "إذا أنا مت، فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله إن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، ففعلوا به ذلك! فقال الله له: ما حملك على ما فعلتَ؟ قال: خشيتك. فغفر له"؛ فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين؛ لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك" (مجموع الفتاوى، 3/ 231). وقال رحمه الله: "كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: "إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قَدَر الله علي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له"؛ فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل مِن هذين الاعتقادين كفر يكفر مَن قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله، وبأمره ونهيه، ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له من خشيته" (كتاب الاستقامة، ص 164- 165). وقد نقلنا كلام ابن حزم رحمه الله في المقالة السابقة، وهذه نُقُول عن شيخ الإسلام ابن تيمية توافق ابن حزم في ذلك. وروى أبو داود والنسائي وأحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود وصحيح سنن ابن ماجه، عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث أبا جهم بن حذيفة مصدِّقًا فَلَاجَّهُ رجل في صدقته -أي: جادله- فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: القود يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكم كذا وكذا، فلم يرضوا، فقالوا: القود يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا فرضوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني خاطب العشية على الناس فمخبرهم برضاكم، قالوا: نعم. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود ففرضتُ عليهم كذا وكذا فرضوا، أرضيتم؟ قالوا: لا، فهَمَّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم، فكفوا عنهم، فدعاهم فزادهم، فقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم. قال: إني خاطب على المنبر فمخبرهم برضاكم، قالوا: نعم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرضيتم؟ فقالوا: نعم". قال ابن حزم رحمه الله: "وفي هذا الخبر عذر الجاهل، وأنه لا يخرج من الإسلام بما لو فعله العالم الذي قامت عليه الحجة؛ لكان كافرًا؛ لأن هؤلاء الليثيين كذَّبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه كفر مجرد بلا خلاف، لكنهم بجهلهم وأعْرَابِيَّتهم عُذِروا بالجهالة فلم يُكَفَّروا" (المحلى، 10/ 410). فهم كَذَبوا وكَذَّبوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنهم رضوا"، لكن هذا في أمر دنيوي، وهم قوم لا يعلمون ما يجوز وما لا يجوز في حق الأنبياء؛ فبذلك عُذِروا ولم يكفروا، وهذا فيه الرد على مَن يزعم أن العذر بالجهل في أمر الآخرة فقط دون أمر الدنيا، وأنه في الدنيا لا بد وأن يكفر مَن قال كفرًا أو فعل كفرًا، ولو كان مسلمًا في الأصل، وهذا كلام باطل؛ فقد دَلَّت هذه الأحاديث على إعمال العذر بالجهل في الدنيا، وفي الآخرة كذلك، ومَن لم يكن عنده "لا إله إلا الله" لم يثبت له الإيمان أصلًا، ومع ذلك وَجَب أن لا يُقاتَل أو يُقتَل حتى نبلغه: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فإن أَبَى، وأَبَى الجزية قُوتِل. ودل ذلك أيضًا: على أن الكافرَ الذي لم يدخل في الإسلام، ولم تبلغه الحجة؛ لم يُقتَل في الدنيا، وإن مات على كفره قبل بلوغها؛ فإنه يُمتحَن يوم القيامة. وعن عائشة رضي الله عنها -كما في صحيح مسلم- في حديث استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع، قالت: "مهما يكتم الناس يعلمه الله"؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" (مجموع الفتاوى، 11/ 412). قلتُ: وهذا الحديث يحتمل وجهين في الضبط، قالت: "مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: نعم"؛ كأنها تقرر ذلك، ويؤيده الرواية الأخرى: "قالت: نعم"؛ فكأنها تقرر ذلك في نفسها، ولكن الغرض هنا: نَقْلُ شيخ الإسلام ابن تيمية الذي حمله على الوجه الآخر، أنها كانت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: "نعم"، وهو جعلها بذلك جاهلة بهذا الأمر الذي لم يبلغها؛ لصغر سنها. وللحديث بقية إن شاء الله. |
الساعة الآن : 06:46 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour