السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر (1) مقدمة النبوة نعمة ورحمة الحمد لله رب العالمين نحمدك اللهم على نعمة الإيمان بك وشرف الإسلام لك، ونسألك يا ربنا أن تجعل لنا من أنوارك نوراً يسرينا الخير والشر بصورتيهما، ويعرفنا الحق والباطل بحقيقتيهما، حتى نكون ممن يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، ومن الموصوفين بقولك : (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة /22]. وأصلي وأسلم وأبارك على خير خلق الله ورحمته المهداة سيدنا محمد أكمل الخلق روحاً وعقلا، وأقومهم بدنا ورسما، وأعلاهم قدراً وذكراً، وأرفعهم فضلا ونبلا، وأشرفهم مجدا وعزا، وأحسنهم خُلقا وخَلقا، وأصدقهم قولاً وفعلا، وأصفاهم طوية وقلبا، وأطهرهم نية وقصدا، وأهداهم طريقا وهديا، وأرشدهم سلوكا ومنهجا، وأسدهم مسلكا ورأيا، وأنبلهم غاية ومقصدا، وأكرمهم أصلا ومحتدا، وأعزهم بيتا ومنبعا، وأعرقهم أرومة وجمعا . أدبه ربه فأحسن تأديبه، ورباه فأكمل تربيته، وجعله خاتما للنبيين والمرسلين، وحجة على جميع العالمين : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال /42] . اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يا رب العالمين . وبعد، فإن الأنبياء هم مجدفوا سفينة البشرية، وهم الذين قادوها إلى ساحل النجاة عبر التاريخ البشري، ومهما تنكر أحد لهذه السفينة، واستغنى عنها، وتفاداها إلى (جبل) فإن مصيره المحتوم هو مصير ابن نوح الشارد المارد العاتي الطاغي الذي قال : (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ) فقال له : (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ) [هود/ 43] . إن الأنبياء والرسل هم صفوة الخلق واجتباء الخالق : (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ) [الحج/ 75]. (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص/ 68] . وقد اختارهم الله لحمل رسالاته وإبلاغها للناس، ودعوة الخلق إلى عبادة الخالق وتوحيده، ووعد من أطاع بالثواب، وإيعاد من عصى بالعقاب ( لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء /165] . وقد تفرد الأنبياء بكمال علمهم بالله - تعالى - وبصفاته وأحكامه ومرضاته، وبخواص العقائد والأعمال والأخلاق صححيها وسقيمها، وصالحها وفاسدها، وما تجر وتستتبع من سعادة وشقاء في الدنيا، وثواب وعقاب وجنة ونار في الآخرة، وخصهم الله – بقدر ما يريد – بعلم ما يكون بعد هذه الحياة، وفي ذلك العالم من حشر، ونشر، وإنعام، وعذاب، ونعيم، وجحيم . (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) [الجن /26-27]. لقد وقفوا عليهم - الصلاة السلام - على جبل النبوة يشرفون منها – بقدر ما يريد الله – على عالم الغيب والشهادة، ويخبرون بما يهجم على هذه البشرية، وعلى هذه المدنية في المستقبل القريب والبعيد، وما يكمن لها من خطر وضرر في حياتها، ثم ينذرون قومهم شفقة وإشفاقا، وحبا وإخلاصا، فإذا نازع منازع هذا الحق الطبيعي العقلي، وهذه البداهة، وشك أو شكك في مركزهم، قالوا في صيحة وإخلاص، وتألم وإشفاق (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) [سبأ /46] .وإلى لقاء قادم إن شاء الله |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر(1) الحلقة(2) حاجة الإنسانية إلى النبوة إن الأنبياء هم الوسيلة الوحيدة للمعرفة الصحيحة والهداية الكاملة لذلك يلح القرآن على أن الأنبياء هم الأدلاء على الله وصفاته الحقيقية، وهم المصدر الوحيد لمعرفة الله تعالى المعرفة الصحيحة، التي لا يشوبها جهل ولا ضلال، ولا سوء فهم، ولا سوء تعبير، ولا سبيل إلى معرفة الله تعالى المعرفة الصحيحة إلا ما كان عن طريقهم، لا يستقل بها العقل، ولا يغني فيها الذكاء، ولا تكفي سلامة الفطرة، وحدة الذهن، والإغراق في القياس، والغني في التجارب، وقد ذكر الله تعالى هذه الحقيقة الناصعة على لسان أهل الجنة، وهم أهل الصدق، وأهل التجربة، وقد أعلنوا ذلك في مقام صدق كذلك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [ الأعراف /43 ]. وقرنوا هذا الاعتراف والتقرير بقولهم: (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ). فدل على أن الرسل وبعثتهم هي التي تمكنوا بها من معرفة الله تعالى، وعلم مرضاته، وأحكامه والعمل بها، الذي تمكنوا به من الدخول في الجنة، والوصول إلى دار النعيم. سر شقاء البشر: إذاً قد ضل وتعب، وجاهد في غير جهاد من أراد معرفة الله تعالى المعرفة الصحيحة وصفاته وأسمائه الحسنى، وما بينه وبين هذا العالم من صلة، والعلم بإحاطته به، وقدرته عليه، ونفوذ أحكامه فيه، عن غير طريق الأنبياء والمرسلين، واعتمد في ذلك على عقله، وعلمه، وذكائه، وإلمامه ببعض العلوم والصنائع، ونجاحه في بعض المحاولات العلمية، وإنتاجه الضعيف المتواضع أو العظيم الضخم في بعض مجالات علمية، وحق عليهم قوله تعالى:(هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [ آل عمران /66 ]. مصير الأمم المتمدنة التي استغنت عن علم الأنبياء: إن التقدم العلمي، والرقي المدني، والذكاء الإنساني، والقفزة الحضارية الهائلة التي يشهدها عصرنا الراهن لم ولن تغني عن أصحابها شيئا إذا هم أعرضوا عن دعوات النبيين والمرسلين، وإن حاجتهم إلى هذا العلم الذي يحمله الأنبياء، وينفردون به بين الخلق، حاجة الغريق إلى قارب النجاة، وحاجة المريض المشرف على الهلاك إلى الدواء الإكسير، ولا يزال أفرادها بالنسبة إلى هذا العلم – مهما علا كعبهم في العلم والمدنية– جهالا أميين، وفقراء مفلسين، وأطفالا صغاراً، وكانت الأمم على خطر – رغم كل فتوحها العلمية وازدهار المدنية– إذا جهلته أو رفضته. وقد وقعت أمم متمدنة راقية غنية في العلوم والآداب التي يضرب بها المثل في الذكاء والعبقرية فريسة الإنكار والاستكبار، والإعجاب بنفسها، والادلال بعلومها وصنائعها، ونظرت إلى ما جاء به نبي عصرهم بعين الازدراء والاحتقار، وزهدت فيه واستصغرته، فذهبت ضحية الغرور، وكان عاقبة أمرها خسرا. وإلى لقاء قادم إن شاء الله |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(3) علم الأنبياء وعلوم البشر مثل العلم الذي يجئ به الأنبياء مع علوم البشر إن الفرق الواضح الذي بين علم الأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء يتجلى بوضوح في هذه القصة: يحكي أن فريقا من تلاميذ المدارس ركبوا سفينة للنزهة في البحر، أو للوصول إلى البر، وكان في النفس نشاط،وفي الوقت سعة، وكان الملاح المجدف الأميَّ خير موضوع للدعابة، والتنادر، وخير وسيلة للتلهي وترويح النفس، وخاطبة تلميذ ذكي جرئ، وقال: يا عم! ماذا درست من العلوم؟ قال: ولا شيء يا عزيزي! قال: أما درست العلوم الطبيعية يا عمي؟! قال: كلا، ولا سمعت بها، وتكلم أحد زملائه، وقال: ولكنك لابد درست علم الإقليدس، والجبر، والمقابلة! قال: وهذا أغرب، وتصدقوني إني أول مرة أسمع هذه الأسماء الهائلة الغربية، وتكلم ثالث (شاطر) فقال: ولكني متأكد بأنك درست الجغرافية والتاريخ! فقال: وهل هما اسمان لبلدين، وعلمان لشخصين؟. وهنا لم يملك الشباب نفوسهم المرحة، وعلا صوتهم بالقهقهة، وقالوا: ما سنك يا عم؟! قال: أنا في الأربعين من سني! قالوا: لقد ضيعت نصف عمرك يا عمنا! وسكت الملاح الأمي على غصص ومضض، وبقي ينتظر دوره، والزمان دوار. وهاج البحر وماج، وارتفعت الأمواج، وبدأت السفينة تضطرب، والأمواج فاغرة أفواها لتبتلعها، واضطرب الشباب في السفينة – وكانت أول تجربة لهم في البحر – وأشرفت السفينة على الغرق، وجاء دور الملاح الأمي فقال في هدوء ووقار: ما هي العلوم والآداب التي درستموها في الكلية، وتوسعتم فيها في الجامعة من غير أن يفطنوا لغرض الملاح الجاهل الحكيم، ولما انتهوا من عد العلوم المرعبة أسماؤها، قال في وقار تمزجه نشوة الانتصار: لقد درستم يا أبنائي هذه العلوم الكثيرة فهل درستم علم السباحة؟ وهل تعرفون إذا انقلبت هذه السفينة – لا قدر الله – كيف تسبحون وتصلون إلى الساحل بسلام؟ قالوا: لا والله يا عم! هو العلم الوحيد الذي فاتتنا دراسته والإلمام به، هنالك ضحك الملاح، وقال: إذا كنت قد ضيعت نصف عمري فقد أتلفتم عمركم كله، لأن هذه العلوم لا تغني عنكم في هذا الطوفان، إنما كان ينجدكم العلم الوحيد، هو علم السباحة الذي تجهلونه. هذه هي قصة الأمم المتمدنة الراقية – التي مضت – كانت دائرة معارف، وكانت زعيمة العالم كله في كل ما أنتجه البشر، وتوصلوا إليه في العلوم والحكمة، واكتشفوا به هذا الكون الواسع والذخائر المودعة فيه، ولكنها جهلت العلم الوحيد الذي يوصل إلى الخالق، ويُعرِّف به، والذي تنال به النجاة، وهو بر السلام والساحل المقصود، هو الذي يضبط الأعمال، والرغبات، ويقهر النزوات، والشهوات، ويصلح الأخلاق، ويهذب النفوس، ويردع عن الشر، ويدفع إلى الخير، ويلهم خشية الله التي لا صلاح للمجتمع، ولا قوام للمدنية بغيرها، ويحمل الإنسان على التهيؤ للمصير، والاستعداد للآخرة، ويخفف من غلواء الأنانية، وحب الذات، والتكالب على حطام الدنيا، ويلهم الاقتصاد والسداد، ويمنعه من الجهاد في غير جهاد. وقد حكي الله قصة هذه الأمم التي غلب عليها الزهو والتيه، واستصغرت شأن الأنبياء المبعوثين في عصرها، الذين لم يشتهروا بامتياز في علم من العلوم السائدة فقال: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)[ غافر/83 ]. وهذه قصة كل أمة بلغت شأوا بعيدا في العلم والمدنية والصناعة والحكمة بعد بعثة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد منعها استكبارها وزهوها واعتمادها الزائد على علومها وحضارتها، وعلى أساتذتها النوابغ وعباقرتها الكبار من الإفادة من العلم الغزير الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمسك بأهدابه، والسير في ركابه، وقصة كل أمة معاصرة تمكنها الإفادة من هذا الدين الخالد، ومن هذا النور الوضاء، وستلقى هذه الأمم كلها جزاء الاستكبار، ونتيجة هذا الإنكار أو الاستغناء، في تعفن حضارتها، وانهيار مدنيتها. وشأن الأقطار الإسلامية والعربية في الإعراض عن هذه التعليمات، وهذا العلم الغزير الموجود، والزهد في الاستفادة منه، والتهالك على الحضارة الغربية، والقيم المادية، والأوضاع الجاهلية، والفلسفات القومية أو الاشتراكية أغرب، وهي على خطر عظيم لا يدفعه شيء، ولا تزال معاقبة بالفرقة والاختلاف، والفوضى والثورات، والتحاسد والتباغض، وعدم التعاون والاتحاد، وذهاب الريح والشوكة، والهوان على العدو(1). (1) انظر: محاضرات إسلامية في الفكر والدعوة للعلامة أبي الحسن الندوي 3/15، 16، 19، 21. وإلى لقاء قادم إن شاء الله |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(4) طوق النجاة: اتباع رسول الله إذا كانت النبوات – كما تقدم – نعمة، والرسالات رحمة، فإن خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم هو نعمة النعم وعين الرحمة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [ الأنبياء /107 ]. وسيرته العطرة هي المثال الحي، والتطبيق العملي، والنموذج الواقعي للاستقامة على منهج الله وفق مراد الله. وقد عبرت عن ذلك أدق تعبير أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم، فقالت: (إن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن)(1). أي إنه صلى الله عليه وسلم كان نموذجا حيا للفضائل والأخلاق التي دعا إليها القرآن فإذا كان الإسلام يدعو إلى العدل، ويجعله إحدى قيمة العليا، ومبادئه الأساسية، ويقاوم الظلم بكل صوره، فإن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته مثال ناطق لتحقيق العدل في جميع المجالات: العدل مع النفس، والعدل مع الأسرة، والعدل مع الأقارب، والعدل مع الأصدقاء، والعدل مع الأعداء، وهكذا كل ما يمكن من صور العدل ومظاهره، والأمثلة التطبيقية لهذه الأنواع من العدل موفورة في سيرته صلى الله عليه وسلم، وستأتي معنا فيما بعد إن شاء الله تعالى. وإذا كان الإسلام يدعو إلى الشورى، بوصفها أساساً من أسس الحياة الاجتماعية والسياسية في الإسلام، فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي وسيلة الإيضاح لتطبيق هذا المبدأ الجليل، كما يلمس ذلك الدارس لغزوات مثل: بدر وأحد وخيبر وغيرها. وقس على ذلك كل الفضائل الخلقية مثل: الصدق، والأمانة، والوفاء، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والرحمة وغيرها، فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي التطبيق الرائع لهذه الأخلاق. وهكذا كل المبادئ والمعاني والقيم التي جاء بها الإسلام تتجلى في حياته صلى الله عليه وسلم.(2) ومن أجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم أسوة، وكان قدوة، وكان على خلق عظيم وصدق الله العظيم، إذ يقول: سورة ا(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [لقلم/ 4] يقول ابن عباس في تفسير هذه الآية: (لعلى دين عظيم، لا دين أحب إلي، ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام)(3). وهذا ما حدا بابن القيم أن يقول: (الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين). إذا كان هذا شأنه صلى الله عليه وسلم وشأنه سيرته، فإن دراسة السيرة تصبح من الأهمية بمكان كبير، ذلك أنها تبصير بمنهج الله تعالى، ثم هي أيضا منجاة من أمواج الشهوات والأهواء التي تعبث ببني البشر اليوم. إن سعادة الأمم والأفراد، والشرق والغرب، والأولين والآخرين، منوطة بالإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بسيرته، والتمسك بسننه، والالتفاف حول دينه، ومن اتجه عنه إلى الشرق أو الغرب، وآوى إلى (جبل) فلن يعود إلا بالويل، ولن ينال إلا الشقاء، ولن يستقبله إلا البلاء، ولن يظلم إلا نفسه. وهذا كتاب في السيرة النبوية، يرتكز في بنيانه على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، منهما يغترف، وإليهما يعود، ولن أهمل الاستفادة من كتب التاريخ والسير قديمها وحديثها، بعد البحث والتمحيص والتحقيق، والموازنة بين الروايات، والأخذ بما يصلح للاحتجاج منها، وترك ما عداه. ولن اقصر دراستي في السيرة النبوية على السرد التاريخي فحسب كما صنع معظم المتقدمين، وبعض المتأخرين، ولا على التعليق على مواقف السيرة أوجلها، مع إغفال الهيكل الأصلي، أو الجانب التاريخي كما صنع بعض المحدثين، وإنما جمعت بين الحسنين، الهيكل التاريخي مع تحري الحقيقة، والتعليق على المواقف، وانتزاع العبر النافعة، والدروس المفيدة منها. ولن أترك حدثا مهما، أو موقعة فاصلة، أو سرية مهمة، أو عملا بارعا، أو سياسة راشدة، أو قيادة حكيمة، أو أي تصرف كريم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأحد أصحابه، إلا أقف عنده، أو عندها وقفة أو وقفات، ليتبين للقارئ فرق بين الأخلاق المحمدية، وسياساته الحكيمة الرشيدة في السلم والحرب، ومع الأصدقاء، ومع الأعداء، مهما بلغ ذلك الغير من العقل، والعلم، والكياسة، والسياسة، والقيادة، والعدل، والرحمة، لكي أخلص من ذلك إلى الفرق البعيد ما بين النبوة، وغير النبوة، والبشر الرسول، وغير الرسول. وفي الحق أن المُحدَثين في باب التحليل، والتعليق، والموازنة بين المواقف قد أربوا في ذلك على المتقدمين، وأكسبوا السيرة جدة ورواء، وقد تفاوتوا في ذلك على حسب تفاوتهم في المواهب، وسعة العلم والأفق، والاطلاع على سير الآخرين. والله أسال أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يرزقني شفاعة نبيه العظيم، وأن يحشرني في زمرته وصحبته (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) [ النساء /69 ]. (1) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، رقم (1739). (2) انظر ثقافة الداعية ص 57. (3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/402). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(5) معنى السيرة قال ابن فارس: (السين والياء والراء أصل يدل على مضي وجريان ... والسيرة الطريقة في الشيء والسنة لأنها تسير وتجري)(1). وقال الراغب: (والسيرة الحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره غريزياً كان أو مكتسباً، يقال: فلان له سيرة حسنة وسير ة قبيحة، وقوله: (سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى) [ سورة طه / 21] أي الحالة التي كانت عليها من كونها عودا(2). وقال ابن منظور: والسيرة: السنة ... والسيرة: الطريقة، ... والسيرة: الهيئة .. وسير سيرة: حدث حديث الأوائل(3). وفي المعجم الوسيط: (والسيرة النبوية، وكتب السير: مأخوذة من السيرة بمعنى الطريقة، وأدخل فيها الغزوات وغير ذلك، ويقال: قرأت سيرة فلان: تاريخ حياته)(4). والخلاصة: أن السيرة بمعناها اللغوي تعني: حكاية أخبار الأوائل والأمم السابقة أو السابقين من أبناء الأمة، وقد يراد بالسيرة أيضا ترجمة حياة شخص ما، أو ذكر الأخبار الخاصة بشخص من الأشخاص، ومن هنا فإنه حينما يمدحون شخصا يقولون عنه (حسن السيرة) ويعنون أنه مستقيم الخلق والسلوك، لكن علماء المسلمين قرروا أن لفظ (السيرة) إذا جئ بها مفردة ومعرفة قصد بها على الفور (السيرة النبوية) والتي تعني: ترجمة حياة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث أصبحت علما على علم قائم بذاته وهو علم السيرة، وعليه: فعلم السيرة:هو ذلك العلم الذي تدرس فيه أنباء النبي صلى الله عليه وسلم من مولده – والذي يستلزم التعريف بأصوله صلى الله عليه وسلم وأجداده،وما كان لهم من مكانة في قومهم – ونشأته، وبعثته – والتي تستلزم ذكر الإرهاصات التي سبقت البعثة – وما أتاه الله من معجزات وموقف قومه من الدعوة، وموقفه منهم، وأساليبه صلى الله عليه وسلم في الدعوة، ومنهجه في تربية أصحابه وتعليمهم، وأخبار المسلمين الأوائل، وبيان ما لقبه هؤلاء، وهجرته صلى الله عليه وسلم من بلد الله الحرام (مكة) إلى المدنية المنورة، وجهاده في سبيل نشر الدين الذي بعث به، وأخبار أصحابه الذين شاركوه هذا الجهاد، وأخبار غزواته ومعاركه ووفاته صلى الله عليه وسلم .(5) (1) معجم مقاييس اللغة 3/ 120- 121. (2) المفردات ص 247. (3) اللسان، مادة: سير. (4) المعجم الوسيط 1/485. (5) السيرة النبوية للدكتور عبدالمهدي 1/7، الجامع الصحيح للسيرة النبوية 1/8، محمد رسول الله بين كتاب السيرة العطرة ص 18. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(6) العلاقة بين السيرة والمغازى كان المؤرخون المسلمون في فترة سابقة يقرنون كلمة المغازي بكلمة السير، فيقولون (المغازي والسير) ولبعض المتقدمين مؤلفات تحمل الكلمتين معا، فلابن عبدالبر كتاب اسمه (الدرر في اختصار المغازي والسير) ولابن سيد الناس كتاب أسماه (عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير)، وقد عقد البخاري في صحيحه كتابا أسماه كتاب (المغازي). وكلمة المغازي مأخوذة من الفعل: غزا، يقال: غزا يغزو غزوا فهو غاز وجمعه غزاة وغز، والغزو: الخروج إلى محاربة العدو(1). وقد أطلق العلماء الغزوات على أخبار الغزاة وغزواتهم ثم صارت تستخدم في الحديث عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وجهاده ومعاركه التي خاضها في سبيل نصرة الدين وانتشار الدعوة، ثم توسعوا في هذا المعنى فصارت تشمل حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها،وهي بهذا المعنى الأخير مرادفة لمعنى كلمة السير(2). يقول محققوا كتاب السيرة لابن هشام: (لفظتا المغازي والسير إذا أطلقتا فالمراد بهما عند مؤرخي المسلمين: تلك الصفحة الأولى من تاريخ الأمة العربية، صفحة الجهاد في إقامة صرح الإسلام وجمع كلمة العرب تحت لواء الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يضاف إلى ذلك من نشاط النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبائه وما سبق حياته من أحداث لها صلة بشأنه وحياة أصحابه الذين أبلوا معه في إقامة الدين)(3). (1) المفردات ص 260. (2) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لشيخي الأستاذ الدكتور مروان شاهين ص 9، ومحمد رسول الله بين كتاب السيرة العطرة ص 18-19. (2) السيرة النبوية لابن هشام، المقدمة، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبدالحفيظ شلبي. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(7) علاقة السيرة بالسنة يجدر بنا قبل تبيان أوجه العلاقة بين السيرة والسنة، أن نعرف بالسنة كما عرفنا بالسيرة. فالسنة في اللغة: السيرة أو العادة أو الطريقة المبتدأة حسنة كانت أم سيئة، غير أن أهل اللغة اتفقوا على أن كلمة السنة إذا أطلقت انصرفت إلى الطريقة أو السيرة الحميدة فقط، ولا تستعمل في غيرها إلا مقيدة(1). السنة في الاصطلاح: هي أقواله – صلى الله عليه وسلم – غير القرآن الكريم، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية، وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها(2). وإذا نظرنا إلى هذا التعريف وجدناه يلتقي في كثير منه مع موضوع علم السيرة، فدراسة الصفات الخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم ودراسة أحواله قبل البعثة وبعدها كل ذلك من موضوعات علم السيرة، وهو في الوقت ذاته من موضوعات السنة، وهذا يوضح مدى العلاقة بين هذين العلمين الجليلين، وإن كانت هناك بعض الفروق التي لا تخرم هذه العلاقة ولا تخل بها، منها: 1-أن هناك عموما وخصوصا وجهيا بين كل من السيرة والسنة بمعنى أنهما يجتمعان في أشياء وينفرد كل علم منهما عن الآخر بأشياء، فيجتمعان في بيان صفة أكله صلى الله عليه وسلم وشربه ونومه وما شابه ذلك. وتنفرد السيرة بالتعرض لتحديد ليلة مولده صلى الله عليه وسلم، والتعريف بنسبة وأجداده ومكانة أجداده صلى الله عليه وسلم في قومهم وطهارتهم وقيامهم على خدمة بيت الله الحرام، وكثير من شئونه صلى الله عليه وسلم كالآبار التي شرب منها، وكثير من أخبار المغازي كعدد من شهدها وتوقيتها، وكم من أشياء انفردت بها السيرة احتاجها شراح الحديث في شروحهم(3). وتنفرد السنة بأحاديث الأحكام، والتي فيها النهي عن الربا، وشريعة الخيار، وشريعة الحوالة، والرهن وما شابه ذلك(4). يقول أحد الباحثين المعاصرين: (كانت سيرته صلى الله عليه وسلم تنقل وتروي على أنها أحداث الدين، بكل ما فيها من أقوال وأعمال، وهدى وسلوك، وجهاد وقتال، حتى كان الفصل لأقواله وأفعاله وتقريراته في كتب الحديث، حينما بدأ تدوين كتب السنة، وبقيت بعد ذلك روايات السيرة بمفهومها العلمي، ولابد أن نعيد إلى الأذهان أن السيرة بمفهومها العام قبل التقسيمات العلمية: لها سنة وسيرة – أو مغاز وسير – تشمل كتب السنة وكتب السير، ولهذا تتسم بالكمال والشمول والحيوية، وكان الداعي إلى مثل هذا الفصل هو حاجة المسلمين لروايات الحديث في نطاق الأحكام والاستدلال الفقهي، وعدوا ما بقي من ذلك – مما سمى بالسيرة – أموراً شخصية أو عامة يرجع إليها المسلم بصدد إنماء العلاقة بين المسلمين ورسولهم صلى الله عليه وسلم لمعرفة شخصيته، وأبرزوا فيها ما سبق ولادته عليه الصلاة والسلام من الأحداث، وما تلاها، ثم بعثته إلى الناس ودعوته لقومه وصبره على أذاهم، ثم هجرته وما تلاها من تركيز على غزواته وجهاده... إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى..)(5) 2- أن الكتابة في السيرة النبوية يراعي فيها الزمن وأحداثه وذلك غير الكتابة في الحديث حيث المنهج فيه يختلف بمنهج الكتاب وغرض مؤلفه وجامعه، وهو فيه يدور على أمرين: أولهما: يتناول أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث دلالتها على الأحكام الشرعية كما في الكتب الستة وسنن الدرامي والموطأ. ثانيهما: يتناول الحديث من حيث مرويات الصحابة والشيوخ كالمسانيد والمعاجم. (1) انظر: اللسان، مادة: سنن، تاج العروس، نفس المادة، المعجم الوسيط، نفس المادة، إرشاد الفحول ص 33. (2) انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 47، الوسيط في علوم ومصطلح الحديث ص 16. (3) انظر: فتح الباري كتاب الجهاد، باب وجوب النفير 6/44. (4) السيرة النبوية للدكتور عبدالمهدي 1/7-8. (5) شعاع من السيرة النبوية في العهد الملكي للدكتور راجح عبدالحميد الكردي ص 6. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(8) علاقة السيرة بالتاريخ التاريخ فعله (أرَخَ) يقال : أرَّخ الكتاب : حدد تاريخه ، وأرخ الحادث ونحوه : فصل تاريخه وحدد وقته (1). والتاريخ: فن يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت ، بل عما كان في العالم ، وموضوعه: الإنسان والزمان (2). ومن خلال هذا التعريف للتاريخ تتضح علاقة السيرة به وأنها علاقة وثيقة، إذ تمثل السيرة حقبة معينة من هذا التاريخ، فعلاقتها إذا بالتاريخ علاقة الجزء بالكل . فكتب التاريخ هي المؤلفات التي تهتم بسرد وقائع الأمم والدول والأخبار البشرية من لدن خلق آدم عليه السلام – غالباً – إلى عصر المصنف . أما كتب السيرة النبوية فهي قاصرة على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتصل بها من أحداث وأحوال. وتفترق السيرة عن التاريخ في أن موضوعها لا يستقيم بغير الإسناد الذي بمثله يقبل الحديث ، ومن ثم وجب التحري في إثبات أحداثها، ولا ينبغي للمؤرخ الذي يعني بالسيرة أن يقحم نزعته الذاتية أو اتجاهه الفكري والديني أو السياسي في تفسير الأحداث وتعليلها . يقول الدكتور البوطي : (كُتَّاب السيرة وعلماؤها، لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة ، إلا تثبيت ما هو ثابت منها ، بمقياس علمي يتمثل في قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن ، وفي قواعد الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم وأحوالهم) . فإذا انتهت بهم هذه القواعد العلمية إلى أخبار ووقائع ، وقفوا عندها ، ودونوها ، دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية ، أو انطباعاتهم النفسية ، أو مألوفاتهم البيئية ، إلى شيء من تلك الوقائع بأي تلاعب أو تحوير . لقد كانوا يرون أن الحادثة التاريخية التي يتم الوصول إلى معرفتها، ضمن نفق من هذه القواعد العلمية التي تتسم بمنتهى الدقة ، حقيقة مقدسة، يجب أن تجلي أمام الأبصار والبصائر كما هي ، كما كانوا يرون أن من الخيانة التي لا تغتفر أن ينصب من التحليلات الشخصية والرغبات النفسية التي هي في الغالب من انعكاسات البيئة ، ومن ثمار العصبية ، حاكم مسلط يستبعد منها ما يشاء ويحور فيها كما يريد . لقد كان العمل التاريخي إذن بالنسبة إلى هذه السلسلة من سيرته صلى الله عليه وسلم ، ينحصر في نقلها إلينا محفوظة مكلوءة ، ضمن تلك الوقاية العلمية التي من شأنها ضبط الرواية من حيث الإسناد واتصاله ، ومن حيث الرجال وتراجمهم ، ومن حيث المتن أو الحادثة وما قد يطوف بها من شذوذ ونحوه . أما عملية استنباط النتائج والأحكام والمبادئ والمعاني من هذه الأخبار (بعد القبول التام لها) فعمل علمي آخر منضبط بأسس وقواعد أخرى ، تقوم ضمن قالب علمي يقصيها عن سلطان الوهم وشهوة الإرادة النفسية (3). السيرة النبوية والمذهب الذاتي في كتابة التاريخ في القرن التاسع عشر ظهرت طرائق كثيرة متنوعة في كتابة التاريخ وتدوينه ، منها المذهب الذاتي ، ويعد (فرويد) من أكبر الدعاة إليه والمتحمسين له . ولا يرى أقطاب هذا المذهب من ضير في أن يقحم المؤرخ نزعته الذاتية أو اتجاهه الفكري والديني أو السياسي ، في تفسير الأحداث وتعليلها والحكم على أبطالها... بل إنهم يرون أن هذا هو واجب المؤرخ ، لا مجرد وصف الأخبار وتجميع الوقائع العارية . وهذا المذهب الجديد في كتابة التاريخ قد أصبح أساساً لمدرسة جديدة في دراسة السيرة النبوية وفهمها عند طائفة من الباحثين والذين تصوروا أن الغرب لم يتحرر من أغلاله ، إلا يوم أخضع الدين لمقاييس العلم ... فالدين شيء والعلم شيء أخر ، ولا يتم التوفيق بينهما إلا بإخضاع الأول للثاني ، وإذا كان العالم الإسلامي حريصا حقا على مثل هذا التحرر فلا مناص من أن يسلك الطريق ذاته ، وأن يفهم الإسلام هنا ، كما فهم الغرب النصرانية هناك ، ولا يتحقق ذلك إلا بتخلص الفكر الإسلامي من سائر الغيبيات التي لا تفهم ولا تخضع لمقاييس العلم الحديث . فكان أن قاموا بما أسمى فيما بعد بالإصلاح الديني ، واقتضى منهم ذلك أموراً عديدة ، منها تطوير كتابة السيرة النبوية وفهمها ، واعتماد منهج جديد في تحليلها، يتفق وما قصدوا إليه من الإعراض عن كل ما يدخل في نطاق الغيبيات والخوارق التي لا يقف العلم الحديث منها موقف فهم أو قبول . وبدأت تظهر كتب وكتابات في السيرة النبوية ، تستبدل بميزان الرواية والسند ، وقواعد التحديث وشروطه ، طريقة الاستنتاج الشخصي ، وميزان الرضا النفسي ، ومنهج التوسم الذي لا يضبطه شيء إلا دوافع الرغبة ، وكوامن الأغراض والمذاهب التي يضمرها المؤلف . واعتماداً على هذه الطريقة أخذ يستبعد هؤلاء الكاتبون ، كل ما قد يخالف المألوف ، مما يدخل في باب المعجزات والخوارق ، من سيرته صلى الله عليه وسلم ، وراحوا يروجون له : صفة العبقرية والعظمة والبطولة وما شاكلها، شغلا للقارئ بها عن صفات قد تجره إلى غير المألوف من النبوة والوحي والرسالة ونحوها مما يشكل المقومات الأولى لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم . ويعد كتاب (حياة محمد) لحسين هيكل أبرز نموذج لهذا الاتجاه في كتابة السيرة النبوية ، ويعبر مؤلفه عن اتجاهه هذا بصراحة وفخر عندما يقول : (إنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة والحديث لأنني فضلت أن أجرى في هذا البحث على الطريقة العلمية)(4). ومن نماذج هذه الطريقة الحديثة في كتابة السيرة وفهمها ، تلك المقالات المتتابعة التي نشرها المرحوم محمد فريد وجدي في مجلة نور الإسلام تحت عنوان : (السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة)، والتي يقول في بعض منها : (وقد لاحظ قراؤنا أننا نحرص فيما نكتبه في هذه السيرة ، على ألا نسرف في كل ناحية إلى ناحية الإعجاز ، ما دام يمكن تعليلها بالأسباب العادية حتى ولو بشيء من التكلف). ومن نماذج هذه الطريقة أيضا تلك الكتابات الكثيرة التي ظهرت لطائفة من المستشرقين عن حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في نطاق أعمالهم وكتاباتهم التاريخية التي قامت على المنهج الذاتي الذي ألمحنا إليه آنفا. إنك لتراهم يمجدون شخص محمد صلى الله عليه وسلم ، وينوهون بعظمته وصفاته الحميدة، ولكن بعيدا عن كل ما قد ينبه القارئ إلى شيء من معنى النبوة أو الوحي في حياته، وبعيدا عن الاهتمام بالأسانيد والروايات التي قد يضطرهم الأخذ بها إلى اليقين بأحداث ووقائع ليس من صالحهم اعتمادها أو الاهتمام بها. وهكذا وجد أبطال هذه المدرسة الجديدة في إتباع المذهب الذاتي في كتابة التاريخ الميدان الفسيح الذي يمكنهم من نبذ كل مالا يعجبهم من حقائق السيرة النبوية مهما جاءت مدعومة بدلائل العلم واليقين ، متخذين من ميولهم النفسية ، ورغباتهم الشخصية، وأهدافهم البعيدة ، حاكما مطلقا على حقائق التاريخ وتحليل ما وراءه من العوامل ، وحكما مطلقا لقبول ما ينبغي قبوله ورفض ما يجب رفضه. لقد رأينا – مثلا – أن كل خارقة قد جاء بها متواتر السنة ، وربما صريح القرآن تؤول ، ولو بتكلف وتمحل ، بما يعيدها إلى الوفاق مع المألوف ، وبما يجعلها تنسجم مع الغرض المطلوب. فطير الأبابيل يؤول – على الرغم من أنف الآية الصريحة الواضحة – بداء الجدري. والإسراء الذي جاء به صريح القرآن ، يحمل على سياحة الروح وعالم الرؤى. والملائكة الذين أمد الله المسلمين بهم في غزوة بدر يؤولون بالدعم المعنوي الذي أكرمهم الله به ... وآخر المضحكات العجيبة التي جاءت على هذا الطريق ، تفسير النبوة في حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمان الصحابة به وعموم الفتح الإسلامي، بأن جميعه لم يكن إلا ثورة يسار ضد يمين ، أثارتها النوازع الاقتصادية انتجاعا للرزق وطلبا للتوسع، وألهبتها ردود الفعل لدى الفقراء ضد الأغنياء وأصحاب الإقطاع. وبعد فقد كانت هذه الطريقة في دراسة السيرة النبوية خصوصاً ، والتاريخ الإسلامي عموما ، مكيدة خطيرة عشيت عن رؤيتها أعين البسطاء من بعض المسلمين ، وصادفت هوى وقبولا حسنا عند طائفة أخرى من المنافقين وأصحاب الأهواء. لقد غاب عن أعين أولئك البسطاء، أن ذلك الهمس الاستعماري الذي يدعو المسلمين إلى ما أسموه بثورة إصلاحية في شئون العقيدة الإسلامية ، إنما قصد في الحقيقة نسف هذه العقيدة من جذورها. وغاب عنهم أن تفريغ الإسلام من حقائقه الغيبية ، إنما يعني حشوه بمنجزات ناسفة تحيله أثراً بعد عين ، ذلك لأن الوحي الإلهي – وهو ينبوع الإسلام ومصدره – يعد قمة الخوارق والحقائق الغيبية كلها، ولا ريب بأن الذي يسرع إلى رفض ما قد جاء في السيرة النبوية من خوارق العادات ، بحجة اختلافها عن مقتضى سنن الطبيعة ومدارك العلم الحديث، يكون أسرع إلى رفض الوحي الإلهي كله بما يتبعه ويتضمنه من إخباراته عن النشور والحساب والجنة والنار بالحجة الطبيعية ذاتها . كما غاب عنهم أن الدين الصالح في ذاته لا يحتاج في عصر ما إلى مصلح يتدارك شأنه، أو إصلاح يغير من جوهره(5). إن حرص هؤلاء الكتاب على نقل كل جديد ، والجري وراء كل طريف براق كان سببا في زلزلة إيمان الشرق ، وحيرة وجدانه ، وغزو عقله وقلبه ، بما أخذ عليه المسالك ، فأضل الشرقيون أنفسهم ، فإذا هم أجساد تنبض بقلوب الغرب وتفكر بعقوله ، وإذا هم مستسلمون لكل ما تطلع به أوربا ، منقادون لكل ما تأمرهم به ، متهافتون على كل ما اتصل بها ، ثم إذا هم أذلاء مقلدون ، يحقرون أنفسهم وآباءهم وميراث حضارتهم وتاريخهم ، وذلك أشر حال وأسوأ موقف ، وعلينا أن نحسن التفكير في الذي نأخذه من الغرب والذي ندعه ، فإذا أحسنا التفكير عرفنا فرق ما بين الصناعات والأخلاق والعادات ، فلنأخذ من أوربا علومها الطبيعية ونتائجها، ولنتجنب أخلاقها وآدابها، فإنه لا فرق بين الحساب والهندسة والكيمياء في الشرق والغرب، ولكن شتان ما بينهما في العقائد والخلق وسنن الاجتماع وما يتصل بذلك، فإنه لكل أمة من أخلاقها وآدابها ثوبا حاكته القرون وعملت فيه الأجيال ، فليس يصلح لغيرها، ولا يصلح لها غيره . وليدرك الذين يتناولون الإسلام بفكر الغرب وعقله خطورة ما يقومون به ، وإنهم بعملهم هذا يهدمون ولا يبنون ، ويخربون ولا يعمرون . قال ابن عبدالبر : ( أهل البدع أجمع أضربوا عن السنن ، وتأولوا الكتاب على غير ما بينت السنة ، فضلوا وأضلوا ) (6). فنعوذ بالله من العجب بالرأي ، أو الكلام في دين الله بغير حجة من الوحي، وكم أخر المسلمين اليوم كثرة الكلام واضمحلال العمل ، فحولوا الإسلام في كثير من حياتهم إلى كلام وفلسفة وجدل ، والتاريخ يشهد على سفاهة من مضي على هذا السبيل عبر الزمان ،وجزي الله القائل : لقد قرأنا السجـلات التي كتبـوا فـمـا رأينا صلاحًـا فـي أئمتهم جاؤوا إلينا بعـقـلانية سقـطـت فـظـن أصحابها أن الضلال هدى إذا أخـذنـا بدعوى كل مبتدع قوم تسيرهم أهواؤهـم وبـهـم يـا حائـدين عن الإسلام أسكركم سلوا رجال الحديث المخلصيـن ومن هـل جاء في ديننا معنى يعـارضـه وهل يـعد لدينا عـالـمـاً فطنا يا مقلة الوحي ما أمعنت فـي لهو إن كنت واجهت عقلانية مكـثت فنحن نشـقى بعلمانية يـدها ممدودة تـشابه القوم في التضليل واجتمعوا إذا أخذنـا بدعـوى كـل مبتدع فيما مضـى والأفاعيل التي فعلوا ولا رأيناه في النسل الـذي نسلوا عمادها سفسطات القول والجدل وأن نـملتهم في دربها جـمـل فأين يذهب ما جاءت به الـرُّسل تشقى قلوب وتأتي منهم الـعـلل لهو وأعماكم عن ديننا الخـجـل تحروا الصدق في كل الـذي نقلوا عقل سليم من الآفات معتدل من يكتم الحق مختاراً وينعـزل إلا وحركت جرحا كاد يـندمـل ثير فـي الناس أوهامـاً وتفتعل ولـها فـي عـصـرنا كـتـل عـلى التنكر للوحيين واتـصـلوا فـأين يذهب ما جاءت به الرسل (1) المعجم الوسيط ( 1/13). (2) الإعلان التوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي ص 7. (3) فقه السيرة للدكتور محمد سعيد رمضان البوطبي ص 20 بتصرف. (4) حياة محمد ص 16، 17، 20. (5) انظر : فقه السيرة للبوطي ص 21-25. (6) جامع بيان العلم ( 2/193 ). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(9) أهمية السيرة وبواعث دراستها (1-12) إن للسيرة النبوية أهمية كبيرة في حياة المسلمين، رجالاً كانوا أو نساءً، صغاراً كانوا أو كباراً، ذلك أن التحقق الكامل بعقيدة (أن محمداً رسول الله) منوط بها، ومتوقف عليها، فضلاً عن بواعث أخرى عديدة تفرض نفسها فرضا على المرء المسلم لدراسة سيرة نبيه دراسة متأنية مستوعبة لكل جوانب العظمة فيها، وهذه البواعث هي : 1- الإيمان به صلى الله عليه وسلم : إن الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الإيمان، وفرض من فروض الدين لا ينعقد إيمان المرء ولا يتم دينه إلا به، قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [ سورة الفتح / 8-9 ] . ويحدد ربنا في موضع آخر من كتابه مراده من المرسل إليهم تجاه من أرسله، إنه الإيمان به ومؤازرته في دعوته واتباع سبيله، وأن ذلك سبيل تحصيل الهداية وإدراك الفلاح ونيل الأجر الكبير، فيقول تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [سورة الأعراف /157، 158]. ويقول تعالى : (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)[سورة الحديد /7] ويقول تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [سورة التغابن /8]. وإذا كانت الآيات السابقة تخاطب الناس كافة والخلق جميعا، فهناك آيات أخرى خصت المؤمنين بالخطاب وألزمتهم بنفس المراد، حيث يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً) . [سورة النساء /136] . ووصف المخاطبين في هذه الآية بأنهم آمنوا، وإردافه بأمرهم بالإيمان يشعر أن الأمر إنما هو بتحصيل الحاصل، لكننا إذا تبينا أن الأمر قد يقصد به ثبات المأمور ودوامه على ما هو عليه والازدياد منه، وضحت دلالة الأمر في هذه الآية، وأنها الثبات والاستمرار والزيادة . يقول أصحاب التفسير الوسيط : " الخطاب في الآية – للمؤمنين كافة، والمراد من قوله: (آمِنُوا) استمروا، أو اثبتوا على إيمانكم بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله ... "(1). ويقول الشيخ المراغي : (وقيل إن الخطاب فيها للمؤمنين كافة، والمعنى ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا وآمنوا برسوله خاتم النبيين وبالقرآن الذي نزل عليه وبالكتب التي نزلها على رسله من قبله، فإنه لم يترك عباده في زمن ما محرومين من البينات والهدى)(2). ويقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الحديد/ 28] . ومعنى إيتاء المؤمنين من أهل ملة الإسلام كفلين من الأجر : أن لهم مثل أجرى من آمن من أهل الكتاب. ويشرح هذا حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري الذي فيه (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له، فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط، ثم عمل المسلمون من العصر إلى الغروب على قيراطين، قال فيه : واستكملوا أجر الفريقين كليهما)(3) أي استكملوا مثل أجر الفريقين، أي أخذوا ضعف كل فريق "(4). (1) التفسير الوسيط 2/ 938. (2) تفسير المراغي 5/ 180. (3) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى نصف النهار 4/521 من حديث ابن عمر، وفي نفس الكتاب، باب الإجارة إلى صلاة العصر 4/522 من حديث عمر رضي الله عنه، ولفظة : " إنما مثلكم واليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً، فقال : من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ فعملت اليهود على قيراط قيراط ثم عملت النصارى على قيراط، ثم أنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغارب الشمس على قيراطين قيراطين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا : نحن أكثر عملاً وأقل عطاء قال : هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا لا، قال فذلك فضلي أؤتيه من أشاء " وأخرجه البخاري أيضا من حديث أبي موسى والذي أشار إليه صاحب التحرير، كتاب الإجارة، باب الإجارة من العصر إلى الليل 4/523. (4) التحرير والتنوير 27/ 427-248. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(10) أهمية السيرة وبواعث دراستها (2-12) وليس أمر الإيمان به صلى الله عليه وسلم قاصرا على الإنس فقط، بل يتعدي ليشمل الجن أيضا لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن والإنس، قال تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)[ سورة الفرقان /1]. وقال عز وجل متحدثا عن استقبال الجن لرسالته : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [ سورة الأحقاف /29-30]. وإذا كان هذا شأن الجن في إنصاتهم للداعي وتلبيتهم للدعوة وتحذيرهم للغير من عدم الإيمان به والاستجابة له، فعلى الإنس أن يسابقوهم في هذا المضمار وأن يسارعوا إلى الإيمان به والاستجابة له، لاسيما وقد رهن الله الحياة الكريمة الآمنة بالاستجابة له، وذلك حيث يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[ سورة الأنفال /204]. روى الدرامي بسنده من حديث ربيعة الجرشي قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : لتنم عينك، ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك، فنامت عيني، وسمعت أذني، وعقل قلبي، قال : فقيل لي : سيد بني داراً، فصنع مأدبة، وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد، ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يطعم من المأدبة، وسخط عليه السيد، قال : فالله السيد، ومحمد الداعي، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة "(1). فمن أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام حظي برضوان الله عز وجل، ومن حظي برضوان عز وجل كافأه بجنة عرضها السماوات والأرض، نسأل الله أن ننعم بنعيمها. وإذا كان ما مر هو أمر الله إلى الإنس والجن، فإن الإيمان به صلى الله عليه وسلم لا يقتصر على سائر الناس دون الأنبياء والرسل، بل يشملهم جميعا،فإنهم مطالبون بالإيمان به صلى الله عليه وسلم ونصرته إن أدركوه ولحقوه، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [ سورة آل عمران /81 ]. قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : (ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه)(2). وإذا كان الأنبياء لم يدركوه حتى يؤمنوا به وينصروه فقد بشروا أممهم بمجيئه وأعلموهم بأوصافه ونعوته حتى يؤمنوا به وينصروه فيتحقق للأتباع ما لم يتمكن منه المتبوعون، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)(3). وإذا كان الإيمان به صلى الله عليه وسلم فرضا من فروض الدين وركنا من أركان الإيمان، فلابد أن يقوم هذا الإيمان على الإقناع العقلي ممتزجا باليقين الوجداني، وكلاهما لا يقوم ولا يتحقق إلا بعد التعرف على سيرته والوقوف على صفاته ودعوته، والعلم بأحواله وأخباره، ومن هنا تأتي فرضية دراسة السيرة النبوية. يقول أحد الباحثين : (إن المسلم كل المسلم لا يكمل إيمانه، ولا يحيا وجدانه، ولا يرجى خيره وإحسانه لنفسه ولأهله ولأوطانه، إلا إذا عرف سيرة رسوله المصطفى ونبيه المجتبي جملة أو تفصيلا، ثم تأسي بما علمه منها في سلوكه وأخلاقه، لأن المسلم العالم مهما بلغ من العلم بغير الاستنارة بهدي النبي وسنته يكون كالتائه الذي يتخبط في دياجير الظلمات)(4). ومن أجل ذلك أيضا حض القرآن الكريم الناس على العلم برسول الله والتفكر في أمره لتكون العقيدة فيه راسخة، والإيمان به ثابتا، يقول تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ )[ سورة الحجرات /7 ]. ويقول تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) [ سورة سبأ /46 ]. إن القرآن الكريم يريد أن تكون العقيدة فيه صلى الله عليه وسلم مبنية على المعرفة الكاملة والاقتناع التام، حتى لا تخرم هذه العقيدة الشبهات، ولا تهددها الشكوك بل يطمئن بها القلب ويسكن بها الفؤاد، وتكون للضمير مناره الذي يهديه سواء السبيل، وللإرادة قوتها النازعة الوازعة، عن أمرها يصدر صاحبها في حركاته وسكناته، ونحو أهدافها يتوجه في أقواله وأعماله، يتلقي دائما وحيها ويستلهمه، ويتوخى إرشادها ويترسمه، فإذا أصبح ذلك دأبه وديدنه صغرت في عينيه الدنيا وزينتها، وتضاءلت في نفسه نوازع الهوى وحاجات الجبلة، فلا يفكر في مطالب شخصه إلا لماما، ولم يركن إلى الدعة واللهو إلا استجماما، على أنه حين يلم بشيء من ذلك فإنما يتناوله باسم العقيدة والمبدأ، وعلى النحو الذي ترسمه له العقيدة والمبدأ، استعانة على الحق وتقويا على الجد. أولئك حقا هم أصحاب العقائد والمبادئ الذين فنيت أشخاصهم في عقائدهم، وانمحت أهواؤهم في مبادئهم، وأصبحوا كأنهم عقائد متجسدة، ومبادئ ماثلة تمشي في الناس. (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) [ سورة الحجرات 7-8]. (1) سنن الدرامي، المقدمة، باب ما كان عليه الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم 1/18، ورواه الطبراني أيضا وسنده جيد كما في الفتح 13/ 356، ومجمع الزوائد 8/ 260 وأصل الحديث في صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (7281) من حديث جابر بن عبدالله. (2) تفسير ابن كثير 1/ 378. (3) الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا إلى جميع الناس. (4) سيرة الرسول ومعالمها من القرآن الكريم والسنة المطهرة لمحمد إسماعيل إبراهيم ص 9ط : دار الفكر العربي. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(11) أهمية السيرة وبواعث دراستها (3-12) 2-محبته صلى الله عليه وسلم: إن حب النبي صلى الله عليه وسلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وليس الحب فقط، بل مرتبة أعلى، وهي إيثاره صلى الله عليه وسلم بالحب، بمعنى أن يتفوق حب المؤمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، على حبه لنفسه وأهله وماله والناس أجمعين، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [ سورة التوبة /24 ]. وكفى بهذا حضا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله(1). وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)(2). وعن أنس أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)(3). وروى البخاري بسنده إلى أبي عقيل زهرة بن سعيد أنه سمع جده عبدالله بن هشام قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال له عمر: والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر))(4). والتعبير بقوله " أحب " في الآية والأحاديث السابقة، تعني أن يكون الله ورسوله أشد محبوبية عند المؤمن من كل محبوب سواهما. (1) الشفا للقاضي عياض 2/ 563. (2) الحديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول من الإيمان، ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والوالد والناس أجمعين، بتقديم الولد على الوالد. (3) الحديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان(16) وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بمهن وجد حلاوة الإيمان (165). (4) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم (6632). وليس الجديد عند عمر هو حصول تلك المحبة الراجحة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الجديد هو إدراكه لتلك المحبة والتفاته إليها. تقرير ذلك: أنه كان في أول الأمر قد امتحن نفسه أمام حب المال والولد والزوج والعشيرة والمسكن والتجارة فوجد حبه لهذه الأشياء كلها مرجوحا بجانب حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قد جرى بعد في خاطره حديث المقارنة بين حبه له – صلى الله عليه وسلم – وحبه لنفسه، فلم يجرؤ أن يحكم فيه بشيء بل استثنى نفسه من تلك المقارنة سكوتا عن الحكم بما لم يختبره لا حكما بعد ذلك بالرجحان، فلما نبهه النبي صلى الله عليه وسلم فكر وقارن وتحسس قلبه، فإذا هو يجد من رجحان محبته للرسول صلى الله عليه وسلم عن محبته لنفسه ما كان غافلاً عنه لا ما كان خلوا منه، فقوله صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر – معناه: الآن أصبت في قولك وأحسنت التعبير عما في نفسك. انظر: المختار من كنوز السنة للدكتور دراز ص 343- 344. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
|
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(13) أهمية السيرة وبواعث دراستها (5 - 12 ) وقد استجمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موجبات المحبة، بما له من كمال الخلق ونقاء الفطرة، وتمام العصمة، وقد ذكر القاضي عياض – رحمه الله – كاملا جميلاً في معنى المحبة وموجباتها، ثم بين اجتماع دواعيها كلها في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (المحبة في حقيقتها هي ميل القلب إلى ما يوافق الإنسان، إما بموجب الطبع أو بمقتضى الشرع). فقد يحب الإنسان الشيء إما لجماله وحسن صورته، كحب الصور الجميلة، والأصوات الحسنة، والأطعمة والأشربة اللذيذة لحسن مذاقها، فهذه الأشياء وأشباهها يحبها الإنسان لجمالها الظاهري المحسوس بواحدة أو أكثر من الحواس الخمسة. وإما أن يكون حبة للشيء لجمال باطنه وحسن فعاله، كحب العلماء وأهل الصلاح، لما لهم من السيرة الحسنة والأفعال الكريمة، وقد يحبهم الإنسان ويشغف بهم إلى درجة التعصب لهم، وهجر الأوطان لمتابعتهم والقرب منهم. وقد يكون حب الإنسان لغيره نتيجة إحسانه له وإنعامه عليه، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها(1). وحينما ننظر في تلك الدواعي الثلاثة للمحبة، نجد أن – صلى الله عليه وسلم – قد استجمعها كلها، فله جمال المنظر وحسن الطلعة. قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. كأن الشمس تجري في وجهه، وإذ ضحك يتلألأ في الجدر(2). وقالت أم معبد في بعض ما وصفته به: أجمل الناس من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب(3). وفي حديث ابن أبي هاله: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر(4). وقال علي رضي الله عنه في آخر وصفه له: من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول عنه ناعته، لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم(5). وله – صلى الله عليه وسلم – كمال الخُلق وصفاء الباطن وحسن الفعال، فهو أكمل الناس خلقا وخلقا، وحسبه تزكية الله له في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). (1) الشفا 2/ 579. (2) الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه (8/74) وموارد الظمآن (2118)، وأحمد في مسنده (2/350، 380) والترمذي في الشمائل ص 115. (3) الحديث أخرجه البيهقي في الدلائل (1/279) وأسناده حسن كما قال ابن كثير، وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/9-10) وقال: هذا حديث الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال: صحيح. (4) الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل رقم (7)، والبيهقي في الدلائل (1/ 286) وسنده منقطع لأن فيه راويان مجهولان. (5) الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل رقم (6) ص 21 وفيه عمر بن عبدالله مولى غفره، قال عنه ابن حجر في التقريب ص 65، ضعف وكان كثير الإرسال. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(14) أهمية السيرة وبواعث دراستها (6 - 12 ) وإذا كان الناس حين يمدحون إنسانا بحسن الخلق ، ونبل الصفات ، وجمال الفعال ، فإنهم يمدحونه ، لأنهم عرفوا الصفات ، وقيموها ببشريتهم ، وتقييم البشر للأشياء خاضع لعلمهم بهذه الأشياء ، لكن الحق حين يقول لرسوله (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فليس المقصود هنا الخلق المتواضع عليه عند البشر ، ولكنه الخلق المطلوب لله ، ورسول الله اجتاز هذه المنزلة ، فكان صاحب الخلق العظيم بتقييم الله العظيم(1). وليس بعد ثناء الله ثناء ، ومن شهد له القرآن فهو حسبه ولله در من قال : يا مصطفى من قبل نشأة آدم والكون لم تفتح له أغــلاق أيروم مخلوق ثناءك بعدمــا أثنى على أخلاقك الخـلاق وله صلى الله عليه وسلم كذلك ، مزيد الإحسان وفرض الإنعام على أمته ، فليس هناك من هو أرحم بالأمة منه ، ولا أشفق عليهم منه ، ولا أحرص على هدايتهم منه ، وكل نعمة وصلت إلى الأمة ، إنما كانت موصولة به – صلى الله عليه وسلم – وأي نعمة أجل من إخراج الأمة من الظلمات إلى النور ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الحيرة إلى الرشاد ، بل أي نعمة أجل من استنقاذهم من النار وغضب الجبار وإدخالهم الجنة والفوز برضا الرحمن جل وعلا . يقول الله تعال مبينا حال الأمة قبل مجيئه : (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) [سورة آل عمران /103]، (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سورة آل عمران /164] فلما جاء وتمت به النعمة وكمل به الدين تبدل حالهم ، وصاروا هداة أعزة ، وقال الله فيهم : (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) وقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [ سورة آل عمران /110 ]. قال قتادة : (كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا ، وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالا ، من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردى في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم حتى جاء الله بالإسلام ، فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله)(2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (لقد هدى الله الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من البينات والهدي هداية جلت عن وصف الواصفين ، وفاقت معرفة العارفين ، حتى حصل لأمته المؤمنين به عموما ، ولأولى العلم منهم خصوصا من العلم النافع ،والعمل الصالح ،والأخلاق العظيمة ،والسنن المستقيمة ،ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علما وعملا – الخالصة من كل شوب – إلى الحكمة التي بعث بها ، لتفاوتا تفاوتاً يمنع معرفة قدر النسبة بينهما ، فلله الحمد والمنة كما يحب ربنا ويرضى)(3). وبذا يكون – صلى الله عليه وسلم – مستوجبا للمحبة عقلا وشرعا ، بل وتكون محبته فوق كل محبة في حياة الناس . ويا عجبا أي عجب ، إذ كان الإنسان يحب من أحسن إليه مرة أو مرتين ، أو من أنقذه من ورطة ، أو أنجاه من تهلكه ، فكيف لا يحب من غمره بإحسانه وحماه من كل شر طيلة حياته ؟ . وإذا كان الإنسان يحب ملكا لحسن سيرته ، أو حاكما لعدله في رعيته ، أو عالما لفرط علمه ، أو عابدا لفرط عبادته ، أو زاهدا لفرط ورعه ، فكيف لا يحب من هو قدوة هؤلاء جميعا ، وكلهم ملتمسون منه غرفا من البحر أو رشفا من الديم ؟ . أليس من بلغ مراتب الكمال في كل ذلك أحق بالحب وأولى الاتباع ؟ - بلى فداه نفسي وأبي وأمي – صلى الله عليه وسلم . (1) لبيك اللهم لبيك للشيخ الشعراوي ص 96. (2) تفسير ابن كثير ( 2/300 ) . (3) اقتضاء الصراط المستقيم ص 3. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
|
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(16) أهمية السيرة وبواعث دراستها ( 8 - 12 ) وليعلم المسلم أن محبة رسول الله صلى الله وعليه وسلم ليست شيئا رخيصا يشتري بالثمن البخس أو التقديم البسيط أو أداء القليل من السنن والنوافل، وإنما ثمنه أن يترسم في حياته منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، وأن تصبح مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرة دينه همه في ليله ونهاره، وفي صحوه ومنامه، وفي سره وعلنه. إن الصحابة الكرام ما نالوا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن القليل... لقد تركوا من أجله – في الله – المال والولد والأهل والوطن، وتركوا الراحة والزعامة ورضوا بالمواجع واستقبلوا المنغصات راضين مسرورين. في سبيل الله ورسوله كان يحلو عندهم المر، ويسهل الصعب،ويقرب البعيد، وتجمل المهالك، ويعذب الموت، وإن من يقرأ أخبارهم في غزوهم سواء كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كانوا وحدهم في سراياهم يدرك أنهم ما كانوا في غزو أبدا،وإنما كانوا في متنزه يسعد قلوبهم. لقد كان حب المصطفى صلى الله عليه وسلم يمسح على جراحاتهم وآلامهم، ويهون لهم المصاعب، ويحبب إليهم لقاء العدو، ويرطب لهم جو الصحراء، وكان حبه صلى الله عليه وسلم واحة يأوون إليها من هجير الكفاح وسهام العدو. وطئ أبو بكر بن أبي قحافة في مكة يوما بعد ما أسلم، وضرب ضربا شديدا، ودنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت:والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله. قالت:ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت،قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر.وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع ! قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح ! قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم(1). وخرجت امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيراً، هو بحمد الله كما تحبين! قالت: أروينه حتى أنظر إليه. فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل(2)، تريد صغيرة. وقال أبو سفيان لزيد بن الدثنة وهو يقدم للقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي. قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً كحب أصحاب محمد محمداً(3). وقال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، قل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة رمح وضربة سيف ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته(4). (1) البداية والنهاية: 3/30. (2) السيرة لابن هشام ( 2/99 ) والبيهقي في الدلائل ( 3/302 ) بسند ابن اسحاق إلى سعد بن أبي وقاص، وسنده حسن. (3) السيرة النبوية لابن هشام ( 3/181 ). (4) أخرجه الحاكم في المستدرك ( 3/201) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(17) أهمية السيرة وبواعث دراستها ( 9 - 12 ) وقال عروة بن مسعود لقريش واصفا حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : (والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلدة، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له)(1). وقدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال : يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني، قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر(2). هؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!. لقد وسع حب رسول الله صلى الله عليه وسلم آفاقهم وساحات قلوبهم وأغوار نفوسهم، فغدوا بشرا من نمط ممتاز لا يعرف التاريخ أمثالهم أبدا، يكفي فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (النجوم أمنة للسماء... وأصحابي أمنة لأمتي)(3). ومن يصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه الأمان فقد كفاه ذلك عزا وفخرا وشرفا وعلوا وسبقا في الصالحين وقربا من الله عز وجل. ويوم أحب الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفهموا ذلك الحب متعا ومشاعر وأشواقا باهتة مبتورة، وإنما فهموه خروجا عن الذات في سبيل نصرة الإسلام، ولم يروا أن قضية الإسلام ينقضي شأنها بالشهور والأيام، وإنما عرفوا أن هذا الإسلام قد اختاره الله سبحانه خطابا أخيرا للإنسانية، خطابا يحمِّلهم ورقة عمل تمتد منذ لحظة إعلان إسلامهم إلى آخر لحظة في حياتهم، بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.... هنالك شدوا الحيازيم وعرفوا أن أمامهم رحلة تحليق تمتد إلى آخر عمرهم ارتفعوا فيها فوق شهواتهم وفوق ثقلة الأرض ومطالب الجسد وآلام الأرض وأفراحها وأحزانها.... ارتفعوا إلى حيث المثل والفضيلة والعطاء، ونكران الذات والتجرد والثقة والثبات والتضحية والجهاد. لقد علمهم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملوا الإسلام رسالة حب إلى الإنسانية، وعرفهم أن هذه البشرية الضائعة هي أحق بالرحمة والعطف منها بالانتقام والعقوبة، فخرجوا إليها يحملون لها الهداية على مراكب الرحمة والمحبة في سلمهم وحربهم.... ترى أي حب هو أعظم مما تؤديه هذه المفاهيم التي ذكرها ربعي بن عامر وهو يخاطب رستم يوم توجه المسلمون إلى فتح فارس... قائلا : (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)(4). أي حب – ترى – أعظم من هذا الحب ؟ إنسان يترك مألوف حياته ويترك الأهل والوطن ويضحي بروحه، يعرضها للموت ليخرج إلى أمة لا تربطه بها رابطة أبدا من أجل أن يبلغها رسالة الإسلام ويخرجها من الظلمات إلى النور. إن هذه النوايا الطيبة وهذا الحب العظيم لشيء يجل عن الوصف وتعجز عنه اللغة حقا، فمهما أحبت الشعوب الفاتحين المسلمين، ومهما أحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرجهم من مدرسته فهو حب قليل في موازين الشكر والجزاء(5). (1) أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابه الشروط، رقم (2731-2732). (2) السيرة لابن هشام (4/ 38). (3) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة، رقم (6466). (4) حياة الصحابة (1/203). (5) انظر : مختصر الجامع في السيرة (1/17). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
|
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
|
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية ا.د.فالح بن محمد الصغير الحلقة(20) أهمية السيرة وبواعث دراستها (12-12) ومن ثم أجمع أهل التأويل وعلماء الأمة على أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم – تعني: الالتزام بسنته ، والسير على طريقته ، والتسليم لما جاء به ، فينزل المرء على حكمه ، وينقاد لشرعه ، فمن لم يطعه في شريعته ، ويأبي النزول على حكمه ، ويستهين به أو بشرعه فهو كافر في ملته ، ومشكوك في عقيدته ، قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [ سورة النساء /65 ]. وجامع الأمر في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هو قوله: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [ سورة الحشر / 7 ]. وقد روي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصا الله ،ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصى أميري فقد عصاني)(1). وروي البخاري أيضا عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى)(2). هذه بعض الأدلة التي وردت في الكتاب والسنة تؤكد على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره. من ثم وجب معرفة أوامره ونواهيه النبي صلى الله عليه وسلم ، والوقوف على أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وأخلاقه ، وسائر أحواله وذلك مرهون بدراسة سيرته ومعرفة سائر أخباره، ومن هنا تأتي فرضية دراسة السيرة. يقول القاضي عياض: " أعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته ، وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مدعيا ، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه ، وأولها الاقتداء به ، واستعمال سنته ، واتباع أقواله وأفعاله ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ، ومنشطه ومكرهه(3). (1) أخرجه البخاري ،كتاب الأحكام ، باب قول الله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (7137). (2) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام ، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (7280). (3) الشفا (2/ 517). |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية ا.د.فالح بن محمد الصغير الحلقة(21) التأسي به صلى الله عليه وسلم(1-4) إن الله تعالى جعل رسوله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وألزم كل مسلم أن يسير على هديه، وأن يحذو حذوه، والسيرة تضمن لنا التعرف على ذلك من حياته صلى الله عليه وسلم، فهي السجل الحي الذي ينقل لنا الكلمة والحركة، والموقف من القضايا، والسلوك المتخذ إزاء الحوادث... فنكون على صلة بتصرفاته في تطبيقاتها العملية، لا أمام مجرد أوامر وتعليمات لم تلامس واقع الناس، ولم تتعرض لحرارة الاحتكاك به، مما يساعدنا على انتهاج مسلك الرشد وسلوك السبيل السوي الذي به النجاة، يوم يقوم الناس لرب العالمين(1). إن مشيئة الله شاءت أن تكون رسالة الإسلام هي منهج الحياة الذي أراد الله تعالى لعباده أن يسيروا على هديه، ولما كان ذلك كذلك، كان من رحمة الله بعباده أن جعل من مهمة حامل الرسالة " أن يؤديها بيانا عمليا في واقع الحياة، بكل ما في هذا الواقع من ملابسات ومفاجآت، حتى تكون " حياته " منارا لعباد الله في كل الظروف وعلى اختلاف الأيام. وفي القرآن آيات كثيرة تبين هذا المعنى وتؤكده ومن ذلك، قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [ سورة الأحزاب /21 ]. وقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [ سورة آل عمران /31 ]. قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: (هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل)(2). ونحن كثيرا ما نستشهد بالآية الكريمة على ضرورة اتباعه صلى الله عليه وسلم في كل أمر من أموره، وفي كل عمل من أعماله، وفي كل شأنه من شئونه... بحيث تكون سيرته نصب عيني كل مسلم فيتأسى به ويسير على هديه. وإذا علمنا أن هذه الآية نزلت في مناسبة غزوة الأحزاب.. علمنا أن هذا التأسي ليس قاصرا على قضايا السلم، بل هو إلزام في أوقات الأزمات، حيث يكون التأسي به صلى الله عليه وسلم ثباتا في الجأش، وقوة في الأعصاب، وصبرا جميلا في مواجهة المصاعب. وهذا هو الميدان الأول الذي نزلت الآية الكريمة في مواجهته. قال صاحب الظلال: (وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد، مثابة الأمان للمسلمين، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان، وإن دراسة موقفه صلى الله عليه وسلم في هذا الحادث الضخم، لمما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم، وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وتطلب نفسه القدوة الطيبة، ويذكر الله ولا ينساه)(3). وتؤكد آية (آل عمران) معنى ما جاءت به آية الأحزاب، وتضيف إليه: أن اتباعه صلى الله عليه وسلم والتأسي به، هو التعبير الصادق عن الحب لله تعالى، وهو بالتالي الوسيلة لحصول العبد على محبة الله تعالى له، وتلك هي الغاية التي يسعى إليها كل مسلم ومؤمن. (1) من معين السيرة ص 7. (2) تفسير ابن كثير 3/ 474. (3) في ظلال القرآن 5/ 2841. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية ا.د.فالح بن محمد الصغير الحلقة(22) التأسي به صلى الله عليه وسلم(2-4) إن السيرة النبوية تجسيد حي لتعاليم الإسلام كما أرادها الله أن تطبق في عالم الواقع، فتعاليم الإسلام لم تنزل لتحصر بين جدران المساجد، وداخل أروقة بيوت العلم الشرعي وكلياته، بل تنزلت من الحكيم العليم لتكون سلوكا إنسانيا ومنهجا حياتيا يعيشها الفرد المسلم في نفسه وشخصه، ويدركهما في واقعه ومجتمعه، هذه التعاليم ينشأ في بحبوحتها الفرد، ويشب عليها فتصبح جزءاً لا يتجزء من كيانه، يتصرف على هديها في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل موقف وشأن، فالمبدأ النظري يرى ماثلا قائما في شخص صاحبه، وهذا ما نجده في السيرة النبوية حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجسم تعاليم الإسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الأحياء والبشر، وذلك في جميع أحواله وظروفه، نوما ويقظة، سلما وحربا، جداً ومداعبة، غضبا ورضا، فردا وجماعة، فإذا ما فارق التربية الإلهية قيد أنملة جاءه التصحيح والتنبيه والتعليم من الله عز وجل. ولذا فقد اجتمع في هذا الدين عظمة المبدأ، وجودة المطبق، ولم يبق لأحد بعد ذلك حجة يحتج بها، وأصبح أمام الناس أجمعين القرآن الكريم يتلى ومعه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تبين للناس كيف يتحول القرآن الكريم إلى سلوك عملي في الحياة يصلح الدنيا والآخرة. وإن عظمة المبدأ – كما يقول العلامة سليمان الندوي – لا تغني عن وجود القدوة الحسنة، وإن أي نظرية مهما بلغت من الصحة والدقة، وإن تعليما مهما يكن رائعا، ويقع من الناس موقع الإعجاب، لا يغني ولا يثمر ثمره، ولا يبقى على الدهر إلا إذا كان له من يمثله بعمله، ويدعو إليه بأخلاقه وفضائله، ويعرفه إلى الناس بالقدوة والأسوة، فيقتدي الناس بدعاته عن طريق العمل بعد العلم، معجبين بسجايا هؤلاء الدعاة، معظمين لأخلاقهم، مكرمين طهارة قلوبهم، وزكاة نفوسهم.. والدين لا ينجح ويعلو وينتشر إلا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث به، وبما عرفه الناس عنه في شؤون حياته وفي أخلاقه وأعماله. ولذلك فالسيرة جزء من هذا الدين، والتعريف بها تعريف بهذا الدين. يقف الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطيبا في أول خطبة له بعد وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتوليه الخلافة، يقول بعد حمد الله والثناء عليه: " إن الله تعالى نهج سبيله،وكفانا برسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا الدعاء والاقتداء ". والاقتداء الشرط فيه: وضوح القدوة وصلاحيتها للاقتداء، ولقد كانت سيرة محمد صلى الله عليه وسلم هي السيرة الوحيدة التي جمعت الخصائص الأربع المطلوبة التي يجدر بالناس أن يتخدوها قدوة في حياتهم، وهي:كونها تاريخية وجامعة وكاملة وعملية، فهي سيرة تاريخية، يشهد التاريخ بصحتها، وجامعة لجميع أطوار الحياة، وأصناف المجتمع، وجميع شؤون الحياة، وكاملة لا نقص فيها، وعملية فلم تكن قوليه فقط، بل قول من الداعي صلى الله عليه وسلم يصحبه عمل وتطبيق على نفسه، ولن نجد سيرة لفرد تصلح أن تكون للإنسانية أسوة سوى سيرة هذا النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم(1). (1) انظر: مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص 13، الرسالة المحمدية ص 8-67-68، فقه السيرة للدكتور زيد الزيد ص 7-9. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية ا.د.فالح بن محمد الصغير الحلقة(23) التأسي به صلى الله عليه وسلم(3-4) ونلفت النظر في هذا الباعث إلى أمرين: أولهما: أن الاتباع والتأسي أوسع دائرة من إطاعة الأمر واجتناب النهي، فالتأسي تتبع للأقوال والأفعال، في كل صغيرة وكبيرة، في العادات وفي العبادات، في الفروض والواجبات والمباحات... في ذات العمل وفي طريقة أدائه، في القول وبالطريقة التي أدى بها هذا القول... إنه التأسي بالمضمون والشكل. ثانيهما: أن كل رسول كان أسوة حسنة لقومه.... أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان أسوة حسنة للناس جميعا، وفي كل فضائل الحياة. ولم يرد وصف الأسوة الحسنة على إطلاقها في القرآن الكريم إلا خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء وذلك في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [ سورة الأحزاب /21 ]. وإنما كان وحده عليه السلام الذي تمثلت فيه الأسوة الكاملة المطلقة دون غيره من الأنبياء والمرسلين لأمور منها: أولاً: أن الرسل غيره كانوا رسلا قوميين، كل رسول منهم أرسل إلى جماعة خاصة محدودة الزمان والمكان، ولهذا جاءت الأسوة فيه وفق هذه الحدود وفي نطاقها، أما محمد عليه السلام فقد جاء رسولاً للعالمين، ورسالته عامة وباقية على امتداد الزمان والمكان، ولهذا وجب أن تكون الأسوة فيه مطلقة، تتكامل جوانبها ليجد فيها كل الناس مثلهم العليا على اختلاف قومياتهم، وامتداد بيئاتهم، وتوالي أجيالهم. ثانيا: أن حياة الرسل غير محمد حياة خافية في أكثر جوانبها السلوكية لا يعرف الناس الكثير منها حتى الخاصة منهم لأن اتباع الرسل لم يهتموا بتسجيل حياتهم، وتتبع مواقفها العامة والخاصة،وتسجيله ا وحفظها ليجد الناس فيها أمثلة للأسوة في شتى مواقف الحياة. أما حياة محمد عليه السلام فهي واضحة جلية مسجلة بكل نبضاتها وشتى مواقفها في مراحلها المتعاقبة منذ أن ولد وإلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، وهي حياة حافلة بالجوانب المضيئة، وكل نبضة من نبضاتها هي مثل أعلى للأسوة الحسنة، يتأسى بها طلاب الفضيلة العالية والسجايا الإنسانية الرفيعة. يقول مسلم هندي: "إن سيرته صلى الله عليه وسلم معروفة منذ نعومة أظافره إلى أن اختاره الله لجواره، لاسيما الفترة التي أدى فيها الرسالة، ولست أغالي إذا قلت: إنني أعرفه أكثر مما أعرف أبوي، ثم أليس من العجيب، أننا لا نجد فيما أثر عنه – على كثرته – إلا كل ما يدعو إلى الاحترام والإعجاب ؟!. غيره من الأنبياء مضروب عليه حجاب من الغموض والأساطير، ولا نعرف من حياتهم اليومية إلا القليل، وما يحكي عنهم يشبه كلام الكهان"(1). (1) المثل الأعلى في الأنبياء لخواجه كمال الدين ص 45. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية ا.د.فالح بن محمد الصغير الحلقة(24) التأسي به صلى الله عليه وسلم(4-4) ثالثا: أن الرسل غير محمد لم يكتمل لواحد منهم تمثل الحياة في جميع جوانبها كما توفرت له عليه السلام، ولم تتهيأ مقتضيات الفضائل لواحد منهم كما تهيأت له، وليس فيهم من تعرض لممارسة ألوان النشاط البشري جميعا كما تعرض لها عليه السلام، فقد نشأ عليه السلام يتيما فقيرا، وعاش حياته مجاهدا، ومارس أنشطة الحياة البشرية راعيا وتاجرا، جنديا وقاضيا، داعيا ومعلما، وتقلب في أدوار الحياة زوجا، وأبا، وصديقا، وجارا، وسيدا، وحليفا. ذاق مرارة الاضطهاد بين أهله، وذاق مرارة الاغتراب بعيدا عن أهله، عاش حياة الفاقة، ومسك بيديه مفاتيح الدنيا، تألب عليه الغريب والبعيد، ودان له السادة والأقوياء،وعاش الحرب هزيمة ونصرا، عرض نفسه على الأحياء فارا بدينه مهاجرا برسالته، عاش حياة العزة والمنعة سيدا مطاعا عزيز الجوار، لم يفته موقف من مواقف الحياة إلا وقد تمرس به فعايش الحياة في رحابتها وتشابك أحداثها وتعدد جوانب النشاط فيها، فخرج منها جميعا مثلا أعلى تجتمع فيه فضائل الحياة الإنسانية التي يتحلى بها الفضلاء، وإنما كان ذلك كله بتدبير ربه الذي رباه على منهجه، وأدبه فأحسن تأديبه، وصقله في بوتقة الحياة، ضرائها وسرائها، وهذبه بتجاربها حتى خرج على الصورة الكاملة والأسوة الجامعة لفضائل الخلق العظيم. وليس ثمة نبي غيره اجتمعت له كل هذه الجوانب من ممارسات الحياة كما اجتمعت له، ولهذا كان عليه السلام أكملهم جميعا في فضائل الأسوة الحسنة لأن دواعي الفضيلة تهيأت له وتكاملت فيه. ولن تجد سجية من سجايا الفضل التي تحلي بها الأنبياء والمرسلون وتغياها الفضلاء والمصلحون، إلا وجدتها ممثلة فيه، لأنه مر بأدوارها وعاش مواقفها"(1). ونحن لا نجد مثل هذا الشمول ولا قريبا منه فيما بقى لنا من سير الرسل السابقين ومؤسسي الديانات والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين. فموسى عليه السلام – يمثل زعيم الأمة الذي أنقذ أمته من العبودية، ووضع لها من القواعد والمبادئ ما يصلح لها وحدها، ولكنا لا نجد في سيرته ما يجعله قدوة للمحاربين أو المربين أو السياسيين أو رؤساء الدول أو الآباء أو الأزواج مثلا، فضلا عن أننا لا نعرف شيئا قط عن طفولته وشبابه وطرق معيشته قبل النبوة وما عرفناه بعد النبوة فقليل. وعيسى عليه السلام يمثل الداعية الزاهد الذي غادر الدنيا وهو لا يملك مالا ولا داراً ولا متاعا، ولكنه في سيرته الموجودة بين أيدي المسيحيين – لا يمثل القائد المحارب ولا رئيس الدولة، ولا الأب، ولا الزوج – لأنه لم يتزوج – ولا المشرع ولا غير ذلك، مما تمثله سيرة محمد صلى الله عليه وسلم. والإنسان الوحيد في التاريخ الذي يصلح أن يكون قدوة لجميع الفئات وجميع ذوي المواهب وجميع الناس هو محمد صلى الله عليه وسلم(2). وصدق الله إذ يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [ سورة الأحزاب / 21 ]. فكان صلى الله عليه وسلم على هذا" أعمال مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العلمي الثابت المستقر، تنظم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، وكانت نفسه صلى الله عليه وسلم أبلغ الأنفس قاطبة لا يمكن أن تعرف الأرض أكمل منها ولو اجتمعت فضائل الحكماء والفلاسفة والمتألهين وجعلت في نصاب واحد ما بلغت أن يجئ منها مثل نفسه صلى الله عليه وسلم، ولكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدرة في محارتها، أو تركيب كتركيب الماس في منجمه، أو صفة كصفة الذهب في عرقه، وهو النفس الاجتماعية الكبرى، من أين تدبرتها رأيتها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتضحي(3). (1) انظر: الأسوة الحسنة للدكتور على دردير ص 11-13. (2) السيرة النبوية دروس وعبر ص 12 بتصرف. (3) وحي القلم 2/4. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(25) الوقوف على أخلاقه والتحقق بها (1- 5) إن دراسة سيرته صلى الله عليه وسلم تعرفنا الكمال الإنساني، وتوقفنا على الخلق العظيم، ومعرفة الكمال متعة، والتخلق به جمال وإثراء للمثالية، والإنسان بطبعه يتطلع إلى المثل الأعلى ويحرص على بلوغ الكمال، وإذا كان جليس الصالح يتأثر به فتنمو فيه جوانب الصلاح كما في الحديث: (خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله)(1). إذا كان الأمر كذلك في رؤية الصالحين فكيف بجليس سيرته صلى الله عليه وسلم. إن سيرته صلى الله عليه وسلم هي مكارم الأخلاق، وأخلاقه هي أسمى ما يتمنى البشر. وإذا كان المثاليون من فلاسفة الأخلاق يرون أن الخلق العظيم فكرة ذهنية مجردة ترتفع عن الواقع، وتتأبى على التطبيق، فالمثال الكامل لا وجود له – عندهم – إلا في عالم المثل المبرأ من كل نقص أو قصور، وما يوجد من صوره في الواقع إنما هي مجرد نماذج تقريبية لحقائقها العليا في عالمها المثالي. فالقرآن الكريم يجعل من الخلق العظيم حقيقة واقعة، وكمالاً بشريا يخضع للإمكان، ومنهجا تربويا ًقابلا للتطبيق، وأسوة حسنة تتحقق بالرياضة والتهذيب. وكما اختص القرآن محمدا عليه السلام بوصف الأسوة الحسنة اختصه أيضا بوصف الخلق العظيم في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [ سورة (ن) /4]. وقد كان صلى الله عليه وسلم – وحده من بين الرسل جميعا – صاحب الخلق العظيم الذي يجمع كل سجايا الفضل وخصال الخير، لأنه وحده الرسول الخاتم الذي انتهت إليه مكارم الأخلاق التي تفرقت فيهم، واجتمع عنده ما انفرد به كل واحد منهم، لقد قص الله عليه أخبار المرسلين وأمره أن يقتدي بهم فقال له: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) [ سورة الأنعام /90 ]. ولم يكن مطلب الاقتداء بهم موجها إلى شرائعهم، فهذا أمر غير وارد في الاقتداء، لأن شرائعهم نسخت بشريعته، وإنما كان دعوة إلى اقتدائه بهم في مكارم الأخلاق التي تحلى بها كل واحد منهم، فتمثلها – عليه السلام – جميعا على تفرقها، وتعدد مصادرها، فاكتمل به عقدها وتمت فيه فضائلها... وكان ذلك غاية رسالته الخاتمة التي قال عنها: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)(2). ولهذا انفردت رسالة الإسلام بمنهجها الأخلاقي الكامل ممثلاً في القرآن الكريم الذي لم يغادر سجية من سجايا الفضل إلا أحصاها ودعا إليها،فجاء شاملا يتسع لكل مشاكل الحياة وأمراضها، وصدق الله العظيم الذي يقول: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [ سورة الأنعام / 38 ]. ولهذا أيضا انفرد صلى الله عليه وسلم بفضيلة الخلق العظيم ليكون الأسوة الحسنة للإنسانية جميعا مصداقا لقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [ سورة الأنبياء /107 ]. وكما جاء القرآن منهجا جامعا للكتب السماوية السابقة ومهيمناً عليها، جاء محمد عليه السلام جامعا لفضائل الرسل السابقين ومتمما لها، ومقام الرسل منه أشبه بمقام الجداول العذبة من النهر، كل واحد منها يحوذ الفضل في موقعه، فيمد الحياة من حوله بالخصب والنماء، فيكون مثلاً أعلى في الوفاء بحاجات الحياة والأحياء، فإذا تجمعت هذه الجداول في مصبها الجامع ظهر بمجموعها فضل النهر الذاخر المتدفق الذي يحويها ولا يلغيها، ويكون فضله عليها فضل السعة التي تناسب امتداد الحياة في واديه واتساع آفاقها من حوله، وهذا سر العظمة فيه. (1) الحديث أخرجه أحمد في مسنده عن عبدالرحمن بن غنم 4/ 227، وعن أسماء بنت يزيد 6/ 459. (2) الحديث أخرجه الحاكم في مستدركه (2/ 670) رقم 4221، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد- باب حسن الخلق ص 84 وعزاه السيوطي في الجامع الصغير (1/103) للبخاري في الأدب والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب، وحكم عليه بالصحة. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(26) الوقوف على أخلاقه والتحقق بها (2- 5) لقد كان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم وفاقا لهذا المعيار، ولأي معيار يقاس به الخلق العظيم، وحسبه شهادة ربه له بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). وهي شهادة تعلو به فوق كل فضيلة ويعلو بها فوق كل الفضلاء. وإذا كان وصف الناس للناس لا يخلو من مبالغة أو تجوز، فإن وصف الخالق يأتي مثلاً في دقة الوصف، وإحكام الصفة، لأنه وصف الخبير بحقائق الأمور ودقائق الأشياء. ومن مظاهر العظمة في هذا الخلق ما يلي: أ) أن خلقه لم يكن خلقا خاصا، أو سجية شخصية، وإنما كان منهجاً عاما قابلاً للتطبيق، وأسوة حسنة معروضة للاقتداء، وهو منهج تمثل نظريا في القرآن، وأسوة عملية فيه عليه السلام. وقد عرف صلى الله عليه وسلم بهذا بين صحبه فكان صورة حية تتجسد فيه آداب القرآن وأخلاقياته. روى الحاكم بسنده عن سعد بن هشام أنه دخل مع حكيم ابن أفلح على عائشة رضي الله عنها فسألها فقال: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أليس تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم.(1) وهذا يوضح أنه عليه السلام إنما كان يمثل الترجمة الحية للقرآن الكريم مما يفسر معنى الخلق العظيم فيه. فيكون المعنى: وإنك لعلى منهج عظيم في تربية الخلق العظيم، وهو خلق القرآن الذي عليه نتأدب، وبه نتخلق. وهذا يفتح الباب واسعا أمام من يسمو بنفسه ويتطلع إلى بلوغ الخلق العظيم الذي يتحقق لكل من يأخذ نفسه بآداب القرآن، والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قال وإن خلقك لعظيم لكان ذلك خلقا خاصا به عليه السلام لا يتأتى فيه التأسي، ولا يتطلع إلى بلوغه أحد من المؤمنين. ب ) أن أخلاقه صلى الله عليه وسلم مع تعددها كانت متكاملة متوازنة متعادلة، وهذا أمر قلما يتحقق لعظيم من الناس، فقد يظفر العظيم ببعض السجايا الفاضلة، ويسلم له القليل أو الكثير منها، ثم لا تتعادل في الدرجة، ولا تتوازن في المقدار. ومن المقرر المعلوم أن مكارم الأخلاق تتفاوت في سلوك الكريم فيكون التفوق في خلق على حساب نقص في خلق آخر. قد يتفوق إنسان – مثلا – في فضيلة الرحمة ثم يكون ذلك على حساب فضيلة الحزم في مواقف الصلابة والردع. وقد يتفوق في خلق الحياء، ثم يكون ذلك مظهر ضعف يعوقه في مواقف الجراءة والمواجهة. وقد يتفوق في الحلم والتسامح – ثم يكون ذلك نتيجة تبلد في الطبع وجمود في الإحساس مما يجعله لا يغضب لشيء، ولا يقوي على الردع في مواطن الإصلاح والتقويم. وقد يسلم له خلق التواضع، ثم يكون التواضع مظهراً لإهدار الشخصية الحية التي تشع المهابة والإجلال. وهكذا قد يتفوق الإنسان في فضيلة على حساب ما يقابلها من فضائل السلوك فيكون ذلك عيبا ظاهرا فيه، يذهب بما فيه من مظاهر التفوق والامتياز، فإن الخلق كالعملة الذهبية إن لم يتعادل وجهاه في الجودة والصقل، كان ذلك عيبا يرد به في سوق التعامل بين الناس. كل ذلك حق وحاصل في سلوك الناس، وهو ما تبرأت منه سجاياه عليه السلام، وهذا مناط العظمة في الأسوة الحسنة التي اختص بها دون غيره من الأنبياء والمرسلين فقد اكتملت فيه الأخلاق الكريمة جميعها، فلم يند منها خلق واحد، وبهذا اكتملت له عظمة الأسوة، وتبرأت من شوائب النقص، وجاءت كالجوهرة الفريدة، تتعدد جوانبها ولكنك كيفما قلبتها لا ترى في أوجهها المتقابلة إلا الصفاء والنقاء. (1) المستدرك ( 2/ 670 )، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(27) الوقوف على أخلاقه والتحقق بها (3-5) كان عليه السلام كما يقول أبو سعيد الخدري: (أشد حياء من العذراء في خدرها)(1). والحياء خلق جامع، فهو عصمة من كل رذيلة، وصيانة من كل عيب، وقد بلغ فيه عليه السلام درجة الخلق العظيم، حتى كان لشدة حيائه لا يثبت بصره في وجه محدثه، ومع هذا الحياء الشديد كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس جراءة في ردع الباطل، ونصره الحق، لا يستحي في حق، ولا يتردد في أمر بمعروف ونهي عن منكر، ولا يداري في موضع صراحة، ولا يسايس في موقف حسم، وإنما كان يضرب في الصميم، لا يبالي قرابة قريب أو مجاملة ذي سلطان، سفه أحلام الأعمام من سادة قريش، فأبطل أعرافهم في جراءة شديدة وقلب جسور. وكان عليه السلام أرحم الناس بالناس وبالأحياء جميعا، وهذه الرحمة العظيمة لم تضعف فيه فضيلة الحزم، فكان أشدهم صلابة في أخذ الحقوق، وإقامة الحدود، لا يضعف أمام عاطفة، ولا يرق لآصرة في موقف يتعلق بالحقوق والحدود، كان يوصى بالنساء خيرا، ويرق لضعفهن، ويخشى عليهن خشونة الإبل وهن على ظهورهن، فيقول للحادي: (رويدك سوقا بالقوارير)(2) ومع كل ذلك لم يتردد في رجم الزانية، وقطع يد السارق،وقال في حسم ظاهر: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)(3). وكان عليه السلام أعظم الناس حلما وأكثرهم تسامحاً، وسع تطاول الكفار وغفر أذاهم، ومع هذا الحلم العظيم كان يغضب لله فلا يرد غضبه حتى ينتصر للحق الذي غضب له. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها)(4). (1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، (3562)، ومسلم في صحيحه كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم (6032). (2) الحديث أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء والرفق بهن، رقم (6063). (3) الحديث أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، رقم (6788). (4) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(28) الوقوف على أخلاقه والتحقق بها (4-5) وكان صلى الله عليه وسلم متواضعا شديد التواضع، لا يتميز على أصحابه في مأكل أو ملبس، ولا يتعالى على خدمه في عمل، يردف خادمه، ويخدم أهله، ويسامر مولاه، ومع ذلك كان مهيباً شديد الهيبة لا يقوى أحد على النظر إليه مهابة له وإجلالاً. قال عمرو بن العاص : (وما كان أحد أحب إلىّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه)(1). وهكذا كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم متكاملة متوازنة لم يطغ خلق على خلق، ولم يتفوق جانب منها على آخر، وبهذا استقامت له عظمة الأسوة الشاملة لكل خلق عظيم. وقد أتاح له هذا التكامل والتعادل في سجاياه الفاضلة تنوعاً وثراء في عطاء الأسوة الحسنة،فاجتمع على التأسي به أنماط مختلفة من عظماء الرجال، وأصبح كعبة تتوجه إليها الأنظار، وتتعلق بها القلوب، ويحج إليها طلاب الفضيلة على اختلاف ميولهم، وتفاوت طباعهم، وتنوع معادنهم، وجميعهم قد وجدوا فيه حاجتهم وافية وزادهم وفيرا. وحين يجتمع العظماء – ممن يختلفون في جوانب العظمة – على صحبة عظيم، ويجمعون على أنه أسوتهم فيما يعشقون من مكارم الأخلاق، يكون ذلك أصدق دليل عملي على مبلغ العظمة في فضائله، واتساع جوانبها،وثراء عطائها، وإنه قد بلغ فيها جميعا مرتبة الأسوة الجامعة التي تصنع العظماء. وإذا صح قولهم : الرجل يعرف بصحبه – وهو قول صحيح – فأصحابه عليه السلام : هم التطبيق العملي والنماذج المضيئة لفضيلة الأسوة الجامعة فيه، وهم في أنفسهم أمثلة حية للفضائل الإنسانية العالية التي تفرقت فيهم واجتمعت فيه. هم عظماء قد اختلفت جوانب العظمة فيهم، وتفاوتت بينهم، وقد التقوا جميعا حول مائدته، والتقوا على ورده، فارتفع بهم جميعا إلى مقام الأسوة الهادية وجاءت فضائلهم شهادة من الواقع الحي على كمال الأسوة فيه. لم يكن أصحابه عليه السلام نمطا واحدا من عظماء الرجال وإنما اختلفت أجناسهم واختلفت أعمارهم، واختلفت مشاربهم، واختلفت سجاياهم، وقد جمعوا فيما بينهم من عظمة الحسب، وعظمة الكفاءة، وعظمة الرأي، وعظمة الفداء، ما يرتفع بهم إلى مرتبة العظمة بين العظماء. وقد تميز كل واحد منهم بسجية، وتفرد بخلق، فكان اجتماعهم حوله، واجتماعهم على التأسي به دليلا على تكامل الفضائل فيه، التي تعشقها مثل هؤلاء العظماء، ووجدوا فيها بغيتهم على اختلاف حاجاتهم من الفضيلة، وتنوع مآربهم من مكارم الأخلاق. ومن هؤلاء : الصديق في لينه ورحمته، والفاروق في حسمه وحزمه، وعثمان في حيائه وسخائه، وعلي في شجاته وبسالته، وأبو عبيدة في أمانته ووفائه، وخالد في جسارته وإقدامه، ومعاوية في حلمه وسياسته، وبلال في ثباته وصموده، وعمار في تقشفه وزهده، وغيرهم من عظماء الرجال ممن حازوا فضل الصحبة، وانتفعوا بهداية الأسوة، فأصبح كل واحد منهم معلما من معالم الفضيلة الإنسانية، وهم كثرة لا يحصيهم العدد، ولا ينقطع فيهم المدد، وكل واحد منهم أمة من الناس في شمائله الفاضلة، وسجاياه العالية التي ارتفع بها فوق دنيا الناس، يحلق – كالنجوم – في سماء الفضيلة مثلا أعلى للأسوة الحسنة التي تهدي السارين في دروب الحياة(2). وسيظل التاريخ يذكر أن تلك المعالم حين وجدت اهتز إيوان كسري وترنح قصر قيصر، وتمرغ الباطل في التراب. وإذا الحفاة الذين لم يكن لهم شأن أمام الفرس والروم قد هزموا الباطل وورثوا عرش هذا وتاج ذاك، واندفعوا بهذا الدين القيم، حتى بلغوا أسوار الصين، وانطلقوا حتى وصلوا إلى ساحل المحيط الأطلسي، وأقاموا دولة إسلامية في أسبانيا، ووصلوا إلى فيينا وكان ذلك مما شاهدته الدنيا وسجله التاريخ(3). (1) جزء من حديث أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله (192). (2) انظر : الأسوة الحسنة ص 41، 42. (3) الجامع الصحيح للسيرة النبوية للدكتور سعد المرصفي ص 162- 163. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(29) الوقوف على أخلاقه والتحقق بها (5-5) وهنا قصة عجيبة حدثت منذ أكثر من ألف عام في أرض فارس على يد ابن سينا ، حين قال غلامه : لست أدري بأي شيء يفضلك محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ! . كان هذا الخادم شديد الإعجاب بأستاذه بمقدار ما كان شديد العجب من أن يكون أستاذه الفيلسوف تابعا للنبي العربي ، وقد خيل له خياله المريض وعلمه القاصر وحبه الأعمى أن ابن سينا أعلم من نبي الإسلام وأرقى في باب الفلسفة والعلم والمعرفة ، وكان كثيرا ما يكاشف أستاذه بذلك ، فحينا يعرض عنه ، وحينا يوبخه في انتظار فرصة تسنح يكون لفته فيها إلى الحق أيسر سبيلا وأقدر على رده إلى عقيدة الإسلام . وقال ابن سينا: يا بني سأخبرك غدا عن هذا الأمر ، وكان الوقت شتاء ، والجو في شدة من البرودة لا يكاد يتحملها الإنسان ، وفي منتصف الليل طلب ابن سينا من غلامه أن يحضر له الماء الدافي للوضوء ، فإذا بالغلام يقول له : دعني بعض الوقت فإنني متعب ، ولو انتظرت قليلا لقمت ، وغلب النوم على ذلك الغلام ، ومضت نصف ساعة ، وابن سينا يكرر القول على الغلام ، حتى نبهه مؤذن الفجر وإذا بهم يستمعون من فوق المئذنة إلى كلمات للمؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله .. إلى آخر الأذان . وهنا قال ابن سينا : يا بني : هذا وقت تعليمك ، قم الآن واستمع إلى ما أقول : إننا الآن في أرض فارس ، وبيننا وبين العرب حيث قام الإسلام وظهر النبي عليه الصلاة والسلام مسافة ضخمة ، وبيننا وبينهم قرون متطاولة ، وهو نبي عربي ، والذي فوق المئذنة رجل من فارس ، بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام من الناحية الزمانية قرون ، ومن الناحية المكانية أميال ، وبينهما عجمة في لسان هذا ، وفصاحة في لسان النبي عليه الصلاة والسلام ، ولكنه جاء في الليل الشديد البرد على رغم هذا كله ، وصعد فوق أعلى مكان في المدنية، وفي أبرد الأوقات في جوف الليل ليقول : أشهد أن محمداً رسول الله ، وأنا معلمك أعلمك وأربيك ، وأطلب منك وأنت في الدار أن تعد لي شيئا من الماء لوضوئي فتؤخرني نصف ساعة ثم ساعة بعدها! هذا هو الفرق بين مقام الأنبياء ومقام العلماء(1). وهنا نبصر جانبا كبيراً عملياً من عمق التأثير في الأجيال المتعاقبة من المسلمين ، إحساساً عميقا بمكانة الرسول الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم ، وجلال مقامه ، وعظمة خلقه ، وكمال الأسوة فيه صلى الله عليه وسلم . (1) قطوف من أدب النبوة للشيخ الباقوري 2/ 52، 53. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(30) سيرته دليل صدق نبوته ورسالته (1-2) إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم تعطينا الدليل الذي لا ريب فيه على صدق رسالته ونبوته ، إنها سيرة إنسان كامل سار بدعوته من نصر إلى نصر ، لا على طريق الخوارق والمعجزات ، بل عن طريق طبيعي بحت ، فلقد دعا فأوذي ، وبلغ فاصبح له الأنصار ، واضطر إلى الحرب فحارب ، وكان حكيما موفقا في قيادته ، فما أزفت ساعة وفاته إلا كانت دعوته تلف الجزيرة العربية كلها عن طريق الإيمان ، لا عن طريق القهر والغلبة ، ومن عرف ما كان عليه العرب من عادات وعقائد وما قاوموا به دعوته من شتى أنواع المقاومة حتى تدبير اغتياله ، ومن عرف عدم التكافؤ بينه وبين محاربيه في كل معركة انتصر فيها ، ومن عرف قصر المدة التي استغرقتها رسالته حتى وفاته ، وهي ثلاث وعشرون سنة ، أيقن أن محمداً رسول الله حقا ، وأن ما كان يمنحه الله من ثبات وقوة وتأثير ونصر ليس إلا لأنه نبي حقا ، وما كان لله أن يؤيد من يكذب عليه هذا التأييد الفريد في التاريخ . فسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت لنا صدق رسالته عن طريق عقلي بحت ، وما وقع له صلى الله عليه وسلم من المعجزات لم يكن الأساس الأول في إيمان العرب بدعوته بل إنا لا نجد له معجزة آمن معها الكفار المعاندون ، على أن المعجزات المادية إنما تكون حجة على من شاهدها ، ومن المؤكد أن المسلمين الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشاهدوا معجزاته ، إنما آمنوا بصدق رسالته للأدلة العقلية القاطعة على صدق دعواه النبوة ، ومن هذه الأدلة العقلية : القرآن الكريم ، فإنه معجزة عقلية ، تلزم كل عاقل منصف أن يؤمن بصدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة . وهذا يختلف تماما عن سير الأنبياء السابقين المحفوظة لدى أتباعهم ، فهي تدلنا على أن الناس آمنوا بهم لما رأوا على أيديهم من معجزات وخوارق ، دون أن يحكموا عقولهم في مبادئ دعواتهم فتذعن لها ، وأوضح مثل لذلك السيد المسيح عليه السلام ، فإن الله حكي لنا في القرآن الكريم أنه جعل الدعامة الأولى في إقناع اليهود بصدق رسالته ، أنه يبرئ الأكمة والأبرص ، ويشفي المرضي ، ويحيي الموتى ، وينبئهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم ، كل ذلك بإذن الله جل شأنه ، والأناجيل الحاضرة تروى لنا أن هذه المعجزات هي وحدها التي كانت سببا في إيمان الجماهير دفعة واحدة به ، لا على أنه رسول الله كما يحكي القرآن الكريم ، بل على أنه إله وابن إله – وحاشا لله من ذلك – والمسيحية بعد المسيح انتشرت بالمعجزات وخوارق العادات – وفي سفر أعمال الرسل أكبر دليل على ذلك – حتى ليصح لنا أن نطلق على المسيحية التي يؤمن بها أتباعها أنها دين قام على المعجزات والخوارق ، لا على الإقناع العقلي . ومن هنا نرى هذه الميزة الواضحة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنه ما آمن به واحد عن طريق مشاهدته لمعجزة خارقة ، بل عن اقتناع عقلي وجداني ، وإذا كان الله قد أكرم رسوله بالمعجزات الخارقة ، فما ذلك إلا إكرام له صلى الله عليه وسلم ، وإفحام لمعانديه المكابرين ، ومن تتبع القرآن الكريم وجد أنه اعتمد في الإقناع على المحاكمة العقلية ، والمشاهدة المحسوسة لعظيم صنع الله ، والمعرفة التامة بما كان عليه الرسول من أمية تجعل إتيانه بالقرآن الكريم دليلا على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم(1). يقول الله تعالى : (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين ، أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) [ سورة العنكبوت / 50، 51] . والذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم ، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل ، ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إليه ، وهو العلي الكبير ، وهم الذين ينفعهم هذا القرآن ، لأنه يحيا في قلوبهم ، ويفتح لهم عن كنوزه ، ويمنحهم ذخائره ، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور ، هكذا يقرر القرآن الكريم بصراحة ووضوح أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان رسول ، وأن سيرته تعطي الدليل العملي على صدق رسالته ونبوته . (1) السيرة النبوية دروس وعبر ص 12. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(31) سيرته دليل صدق نبوته ورسالته (2-2) يقول أحد الباحثين : " وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مملوءة بالعبر ،والعظات ، والدروس، والمبادئ العظيمة ، وإنا نحسب أن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكما عقله وخلقه واستقامة نفسه ، وسلامة ما يدعو إليه ، كل ذلك في نفسه دعوة إلى الإسلام في وسط غياهب الجهالة في الماضي ،وهو لا يزال القوة الداعية إلى الإسلام في عصرنا الحاضر ، وإننا نجد بعض الناس يسلمون إذا علموا السيرة النبوية ، وأدركوا عقله ، وبعده عن الأوهام والخرافات التي تسود العامة ، وتستهوى تفكير السذج " (1). ويقول ابن القيم : " ومن هنا تعلم اضطرار العبد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وتصديقه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة، إلا على أيدي الرسل ... وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به ويدخل في عداد أتباعه وشيعته وحزبه ، والناس في هذا بين مقل ومستكثر ومحروم ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم(2). ويقول " لامرتين " شاعر فرنسا مقرراً ذلك بفكره وثقافته ولغته – والفضل ما شهدت به الأعداء -: " إن حياة محمد وقوة تأمله وتفكيره وجهاده ، ووثبته على خرافات أمته ، وجاهلية شعبه ، وخزعبلات قبيلته ، وثباته ثلاثة عشر عاما يدعو بدعوته وسط أعدائه ، وتقبله سخرية الساخرين والهازئين ، وحميته في نشر دينه ، ورباطة جأشه ، وتطلعه إلى إعلاء كلمة الله ، كل ذلك يدل على أنه لم يكن يضمر خداعا أو يعيش على باطل . لقد كان محمد فيلسوفا ، وخطيبا ، ومشرعا ، وقائدا ، وفاتح فكر، وناشر عقيدة . أي رجل قيس بجميع المقاييس التي وضعت لوزن العظمة الإنسانية كان أعظم منه؟!. لو كان مقياس العظمة هو إصلاح شعب متدهور ، فمن ذا يتطاول إلى مكان محمد؟ . لقد سما بأمة متدهورة ، ورفعها إلى قمة المجد، وجعلها مشعلاً للمدنية، ومورداً للعلم والعرفان . لو كان مقياس العظمة توحيد البشرية المفككة الأوصال فمن أجدر بهذه العظمة من محمد الذي جمع شمل العرب، وجعلهم أمة عظيمة، وأقام دولة شاسعة . ولو كان مقياس العظمة إقامة حكم السماء على الأرض فمن ذا الذي ينافس محمداً وقد محا مظاهر الوثنية ليقيم عبادة الخالق وحده . ولو قسنا العظمة بالنصر والنفوذ والسلطان فمن يدانيه في هذا المضمار ؟ . لقد كان يتيما لا حول له ولا قوة ، فأصبح مؤسسا لإمبراطورية واسعة دامت ثلاثة عشر قرنا من الزمان . ولو كان مقياس العظمة هو الأثر الذي يخلده في النفوس على مر الأجيال فها هو محمد تمجده مئات الملايين من الناس في مختلف البقاع ، مع تباين أوطانهم وأنواعهم وطبقاتهم (3). ورحم الله ابن حزم حيث يقول : ( ... فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم – لمن تدبرها – تقتضي تصديقه ضرورة ، وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى ) (4) . (1) الدعوة في عهد الملك عبدالعزيز ( 2/582 ) ، والدعوة إلى الإسلام لأبي زهرة ص 65. (2) زاد المعاد ( 1/69-70 ) . (3) نبي الإسلام في مرآة الفكر الغربي ، مقال للدكتور عز الدين فراج ، نشر بمجلة الوعي الإسلامي ص 38- 39 العدد ( 249) . (4) الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/ 89 . ط : صبيح . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(32) دراسة السيرة طمأنينة للقلب وسكينة للفؤاد (1-3) إن في دراسة السيرة النبوية العطرة طمأنينة للقلب وسكينة للنفس وتثبيتا للفؤاد، قال ربنا سبحانه وتعالى : (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) [ سورة هود /120 ] . فإذا كانت أنباء الرسل السابقين تثبت فؤاده صلى الله عليه وسلم فإن أنباءه التي هي سيرته صلى الله عليه وسلم تثبت فؤادنا ، وتورث قلوبنا الطمأنينة . وتوضيح ذلك : أننا من خلال دراسة السيرة ندرك سنن الله في خلقه، تلك السنن التي لا تتبدل ولا تتحول ، ولا تحابي ، ولا تجامل . من هذه السنن : أن الله سبحانه يؤيد الحق وينصر المؤمنين ، وليس الأمر مبنيا على الكثرة العددية، ولا موكولاً إلى قوة العتاد ، وإنما ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) [ سورة آل عمران /126 ] ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ) [ سورة البقرة /249 ] ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) [ سورة الروم/ 47 ] ( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ ) [ سورة الصافات 173 ] . وكم من أناس غرتهم قوتهم ، وسول لهم الشيطان سوء أعمالهم فتجبروا وتكبروا ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، وأنزل بهم من الذل والهوان الكثير (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ )[ الحج / 18] . فها هم المشركون جاءوا بجموعهم في بدر يريدون أن يخيفوا العرب جميعا، إذ يقول أبو جهل – بعد أن علم بنجاة قافلتهم التجارية - : والله لا نرجع حتى نرد بدرا ، فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا (1). فكانت النتيجة عكس ما أراد الطاغية ، فلقد انهزموا في المعركة شر هزيمة ، وقتل هذا المغرور ، ورجع المتجبرون بأسوأ حال ، وكتب الله النصر للمسلمين على الرغم من قلة عددهم وعدتهم . وكيف لا ؟ والمشركون مع شركهم يتكبرون ، والمسلمون مع إسلامهم بالله يستغيثون ؟! . وعن جابر قال : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع ، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة ، فاخترطه فقال له : تخافني ؟ فقال له : لا . قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : الله .. " (2). وفي رواية ابن إسحاق : " فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك أنت مني ؟ قال : لا أحد. " . وفي رواية " فقال الأعرابي : غير أني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله ، فجاء إلى أصحابه ، فقال : جئتكم من عند خير الناس .. " (3). قال ابن حجر : " ورد في الجهاد قول الأعرابي : " فقال تخافني ؟ قال : لا ، قال : فمن يمنعك مني .. " ثلاث مرات " وهو استفهام إنكار ، أي لا يمنعك مني أحد ، لأن الأعرابي كان قائما والسيف في يده ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس لا سيف معه ، ويؤخذ من مراجعة الأعرابي له في الكلام أن الله سبحانه وتعالى منع نبيه صلى الله عليه وسلم منه، وإلا فما أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه الله الذي يمنعني منك إشارة إلى ذلك ، ولذلك أعادها الأعرابي فلم يزده على ذلك الجواب ، وفي ذلك غاية التهكم به وعدم المبالاة به أصلا . (1) البداية والنهاية 3/ 291. (2) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب المغازي ، باب غزوة ذات الرقاع ( 4136 ). (3)فتح الباري 6/ 492- 493. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(33) دراسة السيرة طمأنينة للقلب وسكينة للفؤاد (2-3) كما تورث دراسة السيرة القلب طمأنينة بالرزق، فالرزاق هو الله، ولا يستطيع مخلوق كائنا من كان أن يتحكم أو يؤثر في رزق مخلوق آخر والله تعالى يقول: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ)[سورة سبأ/ 39]. وكم من جائع أطعمه الله من غير سبب ظاهري، أو احتيال بشري. فعن جابر قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، قلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط(1)ثم نبله بالماء فنأكله، فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذ هو دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة ميتة!! ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم،وفي سبيل الله عز وجل، وقد اضطررتم، فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً، ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال(2) الدهن،ونقتطع منه الغدر كالثور، أو كقدر الثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامه، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمها وشايق(3)، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزق أخرجه الله عز وجل لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله منه فأكله"(4). فهذا الحديث فيه كثير من العظات والعبر لمن أراد أن يتذكر أو يعتبر، فلقد رزق الله الكريم عباده الصادقين، رزقا طيبا حلالاً، غير حالهم من الجوع إلى الشبع، ومن الضعف إلى القوة، فبعد أن كانوا يمصون كل يوم تمرة، بل ونفد التمر،فيأكلون ورق الشجر، إذ بفرج الله يأتيهم فيأكلون الكثير من اللحم، بل ويدهنون، وسبحان الله الرزاق ذي القوة المتين. فدارس السيرة يعتبر لأنه يجد صوراً واقعية لما في القرآن الكريم من وعد الله لعباده المؤمنين في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [سورة الحج /38]، وفي قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [ سورة الطلاق / 2-3 ]، والكثير من الآيات القرآنية، مما يدعو كل صاحب عقل إلى الاتعاظ والعبرة. يقول أحد الباحثين: " من أهم ثمرات دراسة التاريخ – والسيرة جزء منه – التعرف على السنن الربانية في الكون، فإن لله سننا في خلقه أرشدنا إليها، وطلب منا التعامل معها، قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [سورة آل عمران / 137]. والتاريخ بما يحوي من الحوادث المتشابهة، والمواقف المتماثلة، يساعد على كشف هذه السنن، التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات، وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائد عظيمة، حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها، والنجاة منها، حيث يعطينا هذا الإدراك والمعرفة صلابة في الموقف، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث، فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق(5). (1) الخبط – بفتح الخاء والباء – ورق الشجر الساقط من ضرب الشجر بالعصا. (2) القلال جمع قلة، وهي الجرة الكبيرة التي يحملها الرجل بين يديه. (3) الوشايق هو اللحم يؤخذ فيغلي إغلاء ولا ينضح ويحمل في الأسفار، واحدها وشيقة. (4) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر ( 4360 )، ومسلم في صحيحه واللفظ له، كتاب الصيد، باب إباحة ميتات البحر ( 4998 ). (5) منهج كتابة التاريخ الإسلامي لمحمد بن صامل السلمي ص 54 ط: دار الوفاء. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(34) في السيرة أصول المعارف الصحيحة (3-3) إن دراسة السيرة النبوية تعطينا أصول المعارف الصحيحة لأمور كثيرة في حياتنا ربما تختلط فيها المفاهيم ، وتلتبس فيها الرؤى، وتتشتت فيها الأذهان ، منها ما يتعلق بالعقيدة ، ومنها ما يتعلق بالعبادة ، ومنها ما يتعلق بالأخلاق ، ومنها ما يتعلق بالتربية وغير ذلك . عن زيد بن خالد الجهني قال : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب "(1) . ففي هذا الحديث نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استثمر هذا الحدث من سيرته ، وعلم الأمة من خلاله أنه ما من نعمة إلا من الله سبحانه وتعالى ، كما قال سبحانه ( وما بكم من نعمة فمن الله ) [ سورة النحل / 53 ] وأن النعم إذا اقترنت بسبب فالمؤمن يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يسبب السبب ، وهو الذي جعل النعمة تأتي معه ، فإذا جاء الشفاء مع الدواء فالشافي هو الله سبحانه وتعالى وليس الدواء ، فهو سبحانه الذي خلق الدواء وأعطاه خاصية التأثير ، وهو الذي وفق الشخص الذي صنع الدواء ، والذي وصف الدواء ، ثم هو سبحانه الذي من بالشفاء موافقا للدواء ، وكان يمكن لو أنه سبحانه لا يريد الشفاء ألا يأتي الشفاء مع هذا الدواء فعلى المؤمن أن يجدد إيمانه ، وأن يحرص على عقيدته ، وأن يذكر نفسه أن كل النعم من الله سبحانه وتعالى . وعن عطاء بن أبي رباح قال : رأيت جابر بن عبدالله ، وجابر بن عمير الأنصاري رضي الله عنهما يرتميان فمل أحدهما فجلس ، فقال له الآخر : كسلت ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو - أو سهو - إلا أربع خصال ، مشي الرجل بين الغرضين ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته أهله ، وتعليم السباحة(2) . وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله ؟ فقال : " أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم ، تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دينا ،أو تطرد عنه جوعا ، ولأن أمشى مع أخ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد المدينة – شهرا ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام "(3) . ففي هذين الحديثين توضيح لمفهوم العبادة في الإسلام ، وأنها ليست – كما يظن كثير من الناس – قاصرة على الشعائر التعبدية فقط ، وإنما هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة والصيام والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين ، والبهائم ، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة .. " (4). (1) - أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان – باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (231) . (2) - عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد ( 5/269 ) للطبراني في الكبير ، وقال : رجاله رجال الصحيح ، خلا عبدالوهاب بن بخت وهو ثقة ، وقال المنذري في الترغيب ( 1/ 381 ) رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد (3) -قال المنذري في الترغيب ( 2/ 704 ) رواه الأصبهاني واللفظ له ، ورواه ابن أبي الدنيا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمه ، وحسنة الألباني في الصحيحة ( 906 ) . (4) - العبودية لابن تيمية ص 38 ط : المكتب الإسلامي . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(35) في السيرة أصول المعارف الصحيحة وهكذا نجد أن للعبادة أفقا رحبا ودائرة واسعة : فهي تشمل الفرائض والأركان الشعائرية من الصلاة والصيام والزكاة والحج وهي تشمل ما زاد على الفرائض من ألوان التعبد التطوعي من ذكر ، وتلاوة ، ودعاء، واستغفار ، وتسبيح ، وتهليل ، وتكبير ، وتحميد . وهي تشمل حسن المعاملة ، والوفاء بحقوق العباد ، كبر الوالدين ، وصلة الأرحام ،والإحسان لليتيم والمسكين وابن السبيل ، والرحمة بالضعفاء ، والرفق بالحيوان . وهي تشمل الأخلاق والفضائل الإنسانية كلها ، من صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، والوفاء بالعهد ، وغير ذلك من مكارم الأخلاق . ورضي الله عن سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان شمول العبادة أمراً واضحا لديهم لا لبس فيه ولا غموض . أخرج الطبري في تاريخه من خبر بكر بن عبدالله المزني قال : جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبدالرحمن بن عوف فضربه ، فجاءت المرأة ففتحته ... إلى أن قال : وعبدالرحمن بن عوف قائم يصلي ، فقال له – يعني عمر – تجوز أيها الرجل – يعني خفف صلاتك – فسلم عبدالرحمن حينئذ ، ثم أقبل عليه فقال : ما جاء بك هذه الساعة يا أمير المؤمنين ؟ . فقال : رفقة نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سراق المدينة ، فانطلق نحرسهم ... إلخ (1). ففي هذا الخبر فهم عميق لمجالات العبادة ، وتقديم الأهم على المهم ، فإذا كانت الصلاة عبادة فخدمة المسلمين أيضا عبادة ، وما دامت الصلاة نفلا فإن ما نزل من حاجة المسلمين مقدم على ذلك ، لأن الصلاة عبادة يقتصر نفعها على صاحبها ، وخدمة المسلمين عبادة يتعدى نفعها للمسلمين . وذكر الإمام البغوي عن الشعبي قال : خرج ناس من أهل الكوفة إلى الجبانة – أي الصحراء- يتعبدون ، واتخذوا مسجدا وبنوا بنيانا ، فأتاهم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، فقالوا : مرحبا بك يا أبا عبدالرحمن ! لقد سرنا أن تزورنا ، قال : ما أتيتكم زائرا ، ولست بالذي أترك حتى يهدم مسجد الجبان ، إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! أرأيتم لو أن الناس صنعوا كما صنعتم ،من كان يجاهد العدو ؟ ومن كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ؟ ومن كان يقيم الحدود ؟ ارجعوا فتعلموا ممن هو أعلم منكم ، وعلموا من أنتم أعلم منهم ، قال : واسترجع فما برح حتى قلع أبنيتهم وردهم (2). وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهرا أو جمعة أو ما شاء الله أحب إلى حجة بعد حجة ، ولطبق بدانق أهديه إلى أخ في الله أحب إلى من دينار أنفقه في سبيل الله عز وجل " (3). ورحم الله ابن المسيب حين قال له مولاه برد : ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء ؟ قال سعيد وما يصنعون ؟ قال : يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافا رجليه يصلي حتى العصر . فقال سعيد : ويحك يا برد ! أما والله ما هي بالعبادة ، تدري ما العبادة ؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله ، والكف عن محارم الله(4). لقد وقر في حس هذا الجيل أن جميع الأعمال لابد أن تتوجه إلى الله حتى تكون طاعة وعبادة ،حتى إن عمر بن عبدالله قال لامرأته وهي ترضع ابنا لها : ( لا يكونن رضاعك لولدك كرضاع البهيمة ولدها ، قد عطفت عليه من الرحمة بالرحم ، ولكن أرضعيه تتوخين ابتغاء ثواب الله ، وأن يحيا برضاعك خلق عسى أن يوحد الله ويعبده ) (5). وهذا ما ينبغي أن يعيه الجيل المعاصر في مفهوم العبادة وأبعادها . وفي السيرة النبوية أصول النفسيات التي يحتاج إليها الإنسان في تعامله مع الآخرين ، انظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم ( وتبسمك في وجه أخيك صدقة ) (6) ويصف هند ابن أبي هاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفات هي أساس مراعاة نفسيات الناس إذ يقول : " ... ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ... ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ... وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، يعطي كل جلسائه بنصيبه ، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه أو فاوضه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق سواء ... الحديث (7). أرأيت هذه النفسيات الصادقة والتي خلت عن كل تعقيد ، ولو صدق دارسو النفسيات في أخذ علومهم من سيرته صلى الله عليه وسلم ، لأفادت دراستهم البشرية خيرا كثيرا ً. (1) - تاريخ الطبري ( 4/205 ) . (2) -شرح السنة ( 10/54- 55 ) . (3) -صفة الصفوة ( 1/ 753 ) . (4) - الطبقات الكبرى 5/ 135، سير أعلام النبلاء ( 4/ 241 ) . (5) - نصيحة الملوك للماوردي ص 166. (6) - الحديث أخرجه الترمذي في سننه ، كتاب البر ، باب ما جاء في صنائع المعروف( 1956) ، وقال : حسن غريب . (7) - الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل رقم 7 ، ص 275 -267. |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
|
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( 9/11-12 ) ، والطبري في التفسير ( 2/349-350 ) ، وأبو يعلى في المسند رقم ( 1534 ) ، والطبراني في الكبير ( 1670 ) ، وقال البيهقي : سنده صحيح إن كان الحضرمي هو ابن لاحق ،وقال الهيثمي في المجمع ( 6/198 ) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، وقال السيوطي في الدر المنثور ( 1/ 250 ) : سنده صحيح . الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(37) تفسير كثير من الآيات الكريمة (2) المثال الثاني : قال الله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ سورة البقرة /207 ] . فهذه الآية يتضح معناها وينجلي تفسيرها من خلال ما عرضته كتب السيرة، فعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة فلما ذهب لينطلق بكي صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ، فبعث عليهم عبدالله بن جحش مكانه ، وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : ( لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك ) . فلما قرأ الكتاب ، استرجع ، وقال : سمعاً وطاعة لله ورسوله ، فخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ، ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى ، فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ، فأنزل الله عز وجل :( يسألونك عن الشهر الحرام ) الآية ، فقال بعضهم : إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر ، فأنزل الله عز وجل :( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم ) . (1) لقد اتخذ المشركون من حرمة الشهر الحرام ستاراً يحتمون خلفه ، لتشويه موقف الجماعة المسلمة ، وإظهارها بمظهر المعتدي ، وهم المعتدون ابتداء ، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء . إنهم قوم لا يقيمون للمقدسات وزنا ، ولا يتحرجون أمام الحرمات ، يقفون دون الحق ، ويصدون الناس عنه ، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء ، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام ، ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام ، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم : انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام !. إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات ، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه ، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات ، ويؤذون الطيبين ، ويقتلون الصالحين ، ويفتنون المؤمنين ، ويرتكبون كل منكر ،وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان . وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد : إنه يحرم الغيبة ، ولكن لا غيبة لفاسق – فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه ، وهو يحرم الجهر بالسوء من القول ، ولكنه يستثنى ( إلا من ظلم) فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول لأنه حق ، ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه ) . ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدني إلى مستوى الأشرار البغاة ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ، ووسائلهم الخسيسة ، إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم ، وإلى قتالهم وقتلهم ، وإلى تطهير جو الحياة منهم هكذا جهرة في وضح النهار . وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المستقيمة المؤمنة ، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات ، حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله . هذا هو الإسلام صريحا واضحا ، قويا دامغاً ، لا يلف ولا يدور ، ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور . وهذا هو القرآن يوقف المسلمين على أرض صلبة لا تتأرجح فيها أقدامهم ، وهم يمضون في سبيل الله ، لتطهير الأرض من الشر والفساد ، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس ، وتؤذيها الوساوس .. هذا شر وفساد وبغي وباطل ... فلا حرمة له إذن ، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات ليضرب من ورائها الحرمات !. وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة ، في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام مع الله (2). كذلك تفيدنا دراسة السيرة تحديد تاريخ أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ،ومواقع دلالتها أو ما سماه علماء الحديث والمصطلح ( بيان أسباب ورود الحديث الشريف ) وهذا الأمر يحل لنا مشكل كثير من الأحاديث التي يبدو على ظاهرها التعارض والتناقض وهي في واقع الأمر غير ذلك ،لأن كل حديث ورد في موطن خاص ويفيد معنى وتوجيها غير الآخر الذي يبدو أنه معارض له . وتفيدنا معرفة الناسخ والمنسوخ في الحديث الشريف مما يتوقف عليه كثير من الأحكام الشرعية . وبهذا تبدو أهمية السيرة وضرورة دراستها . (2) انظر : في ظلال القرآن ( 1/226-227 ) . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(38) تلبية الفطرة في تعشق البطولة الموقف الأول في فطرة الإنسان – صغيرا أو كبيرا – ميل إلى سماع قصص البطولة ، وفي سبيل تلبية هذه الحاجة النفسية نشأ جانب كبير من الأدب العالمي الذي يعتمد في غالب الأحيان على التحليق في عالم الخيال ... والبطولة – هنا – هي موقف متقدم في ميدان ما من ميادين الحياة ، فهي الشجاعة في ميدان القتال ، وهي الكرم في ميدان العطاء ، وهي السماحة في ميدان الحقوق ، وهي العفو في ميدان القدرة ... وهي وهي ... إن تلك المواقف الفذة تستهوي النفس الإنسانية فتصغي إلى سماعها ، ويكون لها الأثر الكبير في النفس ، حتى ولو كانت مواقف من نسج الخيال أخذت مكانها في قصة كاتب . وإذا كان الأمر كذلك فإن السيرة تروي هذا الظمأ ، وتلبي حاجة النفس من واقع بعيد عن الخيال يمتاز بالصدق والواقعية ، وإن كان في كثير من المواطن أكبر من الخيال ، وهذان موقفان يعبران أصدق تعبير عن هذا : 1- كلنا يعلم أمر ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بعد أن يئس من استجابة قريش ، وكانت النتيجة ذلك الرد السيء من أهل الطائف وأمرائها ... فقد أغروا سفهاءهم وصبيانهم بضربه بالحجارة حتى أدميت عقباه واختضبت نعلاه بالدماء . وجلس بعد أن غادر البلد يدعو ذلك الدعاء المشهور : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ... وفي هذا الموطن يأتي جبريل وبصحبته ملك الجبال – كما في الصحيحين – ليقول له : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ... وقال له ملك الجبال : إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت . قال : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا ... (1) هذه البطولة في الصبر وتحمل الأذى الجسدي ، ولقد كان الأذى النفسي أكبر منه ، بطولة فريدة لا يستطيع تقديرها حق قدرها إلا من كتب له بعض المعاناة في دعوته إلى الله تعالى . وبطولة أخرى لا تقل عن الأولى ذلك الحلم الذي تمثل في رده على ملك الجبال .. إن جبريل وصاحبه وصلا إليه في ذروة الأسى والألم، وقد نزلا إليه بأمر الله لينزل العقوبة بأهل مكة الذين كانوا السبب فيما أصابه .. ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم تداعت إلى ذهنه أحداث الماضي خلال سنوات من المشقة والتعب والمعاناة ... إنهم يستحقون العقوبة ... ولولا ذلك لما أنزل الله ملك الجبال ... ومع ذلك لا يقبل أن تنزل بهم العقوبة ويقف حائلا دون ذلك . إنها بطولة دونها بطولة الميادين – وهو صلى الله عليه وسلم المجلي في كليهما – وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ... (2) وبطولة ثالثة .. ذلك الأمل الثابت في المستقبل ، واليقين الذي لا يتزعزع بانتصار الدعوة ... بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، إنه يقول هذا وليس هناك أي بارقة أمل ... يقول هذا وهو في موقفه ذاك لا يدري كيف يدخل مكة ثانية بعد أن خرج منها ... إنها البطولة .... (1)- البخاري ، كتاب بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم أمين والملائكة في السماء ... ( 3231 ) ، ومسلم ، كتاب الجهاد ( 1795 ) . (2)- البخاري ، كتاب الأدب ، باب الحذر من الغضب ( 6114 ) ، ومسلم ، كتاب البر والصلة ( 6643 ) . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(39) تلبية الفطرة في تعشق البطولة الموقف الثاني في أعقاب بدر ، جلس في مكة صفوان بن أمية وعمير بن وهب ، وقد قتل والد الأول في هذه المعركة ، وأسر ابن الثاني ، كان الحقد يغلي في نفسيهما، وكان الكره على أشده تجاه محمد صلى الله عليه وسلم .. وكانت بينهما اتفاقية ، عقدها هذا الكره والبغض المشترك ، يقوم عمير بموجبها باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويقوم صفوان بتحمل دينه والنفقة على عياله إن أصابه مكروه . وذهب عمير لتنفيذ المهمة ، وقد سم سيفه وأعد عدته .. وأناخ بباب المسجد ، ثم دخله ، فلما رآه عمر سارع إليه وأخذ بتلابيبه ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أرسله يا عمر ، ادن يا عمير ، فدنا ثم قال : أنعموا صباحا – وكانت تحية أهل الجاهلية – فقال صلى الله عليه وسلم : قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ، بالسلام ، تحية أهل الجنة ، فقال : أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد ... محاورة فيها كل العطف والحنان من الرسول الكريم .. ثم سأله : ما جاء بك ؟ قال : جئت لهذا الأسير ، قال : فما بال السيف في عنقك ؟ قال :قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئا ؟ قال : اصدقني ما الذي جئت له ؟ قال : ما جئت إلا لهذا . قال : بل قعدت أنت وصفوان في الحجر ، ثم قلت لولا دين علي ... لخرجت حتى أقتل محمداً ، والله حائل بينك وبين ذلك ... وتشهد عمير شهادة الحق وأطلق له أسيره ، وأصبح واحدا من المسلمين . إنه موقف إعجاب بالحلم وسعة الصدر ، إعجاب بذلك اللقاء الذي تلقاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يفيض حنانا وعطفا : دعه يا عمر ... ادن يا عمير ... يقول هذا وهو على علم بما جاء له . وأما صفوان ... فقد كان إسلامه بعد فتح مكة ، وندعه يتحدث كيف أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال صفوان : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه أحب الناس إلي (1). بدأ صفوان بالإعجاب بالنبي صلى الله عليه وسلم من زاوية واحدة ، هي زاوية الكرم ، وإذا به أمام صورة من الكرم لم يشهدها في حياته قط ويتحول الإعجاب إلى حب. ويوضح لنا أنس هذا المعنى حيث يقول : إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنما بين جبلين ، فأتى قومه فقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمدا يعطي عطاء رجل لا يخاف الفاقة ، وإن كان الرجل ليجئ إليه ما يريد إلا الدنيا ، فما يمسى حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا بما فيها (2). إن دراسة السيرة تلبي لنا هذه الحاجة النفسية بواقع صادق ، فتركن النفس فيه إلى إعجاب حق ، بعيد عن الزيف والمبالغة . (1)- رواه مسلم برقم ( 2313 ) . (2) - رواه بتمامه، أحمد في المسند ( 3/259 ) وروي مسلم القسم الأول منه برقم ( 2312 ) . |
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر الحلقة(40) التعرف على الجهد المبذول في إزاحة الجاهلية وإزاحة الجاهلية ليست أمراً سهلاً، وهذا الإزاحة متعددة المواقع: فهناك الإزاحة في ميدان العقيدة . وهناك الإزاحة في ميدان الفكر . وهناك الإزاحة العسكرية. وهناك الإزاحة الاجتماعية. واختار المثال لهذه الفقرة من النوع الأخير ... جاء الإسلام والناس طبقات، بل والطبقة الواحدة درجات، وكان من القواعد الأولى في هذا الدين : المساواة بين الناس، وإلغاء هذا التمايز الذي لا يستند إلى أمر منطقي، وأصبح في ظل الإسلام مفهوم آخر للسيادة بين الناس يوضحه قول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: " أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا " -يعني بلالاً-(1)، هذه السيادة التي لا يتمسك بها من يعترف الناس له بها؛ وإنما هي اعتراف لصاحب الفضل بفضله ، وهكذا غير الإسلام المفاهيم. ولكن هذا التغيير احتاج إلى جهد كبير، فالمسلمون -وإن اعترفوا ظاهراً بالمساواة- إلا أن تحويل هذا الاعتراف إلى واقع لم يكن أمراً ميسوراً، فكان على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يمارس عملية التطبيق بنفسه. ومن هذا المنطلق بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلغى عملياً الحواجز بين الناس في أمر الزواج، فكان يقترح على العربيات الأصيلات أن يتزوجن من الموالي، ومن ذلك أن خطب -صلى الله عليه وسلم- بنت عمته زينب بنت جحش لمولاه زيد بن حارثة. وترفعت زينب لشرفها وجمالها، ونزل قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ... ) [ الأحزاب /36] وانصاعت زينب لأمر الله وتم الزواج. ولكن الأمور لم تستقم بين الزوجين، ورغب زيد في طلاقها، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لزيد : (أمسك عليك زوجك) ، علماً بأن الله تعالى قد أعلمه بأنها ستكون زوجاً له. وكانت إرادة الله تعالى أن يكون زواج زينب من زيد كَسْرَاً لحاجز كبير يتعارض مع مبادئ الإسلام ، وكانت إرادته تعالى – أيضاً – أن يكون زواج زينب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- كسراً لحاجز آخر أبطله الإسلام – وكان قائما في الجاهلية – وهو الزواج من مطلقة متبناه . إن هذين الأمرين الاجتماعين كان من السهل أن يأتي بهما التشريع، لكن عملية التطبيق في الواقع كانت بحاجة إلى جهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ولقد كان ذلك ثقيلا على نفس الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لذلك أخفى الخبر بإعلام الله له بالزواج من زينب، لأن زواجه من مطلقة متبناه أمر مستغرب في تلك البيئة، وكانت إرادة الله أن يكون إبطال هذا الأمر عملياً، فكان فيه ما فيه من الجهد النفسي والجهد الاجتماعي . إن سلطان الأعراف والتقاليد والعادات على الحياة الاجتماعية كبير، ولذا كان على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يلغي منها ما يتعارض مع الإسلام إلغاءً عملياً، حتى يثبت المعنى الإسلامي الجديد مكان العرف الجاهلي الملغي. بل إن معرفة الجاهلية، ومعرفة الإسلام تبين لنا الجهد المبذول، والمكابدة الكبيرة التي بُذِلَتْ حتى أصبح المعنى الإسلامي هو العرف القائم(2). يقول العلامة أبو الحسن الندوي موضحا ذلك: "لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه -صلى الله عليه وسلم- في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء، كان غريباً في سرعته، وكان غريبا في عمقه، وكان غريبا في سعته وشموله، وكان غريبا في وضوحه وقربه إلى الفهم، فلم يكن غامضاً ككثير من الحوادث الخارقة للعادة، ولم يكن لغزاً من الألغاز، فلندرس هذا الانقلاب عملياً، ولنتعرف على مدى تأثيره في المجتمع الإنساني والتاريخ البشري". (1) - أخرجه البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم-، باب مناقب بلال ( 3754) (2) - أضواء على دراسة السيرة ص 22-24. |
الساعة الآن : 09:30 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour