ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=240727)

ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:36 AM

شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (1)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل





مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)

شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل


قال أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رضي الله عنه وأرضاه:
الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته، وصوره في الأرحام بحكمته، وأبرزه إلى رفقه، وما يسره له من رزقه، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيمًا، ونبهه بآثار صنعته، وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه، فهدى من وفقه بفضله، وأضل من خذله بعدله، ويسر المؤمنين لليسرى، وشرح صدورهم للذكرى؛ فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين، وبما أتتهم به رسله وكتبه عاملين، وتعلموا ما علمهم، ووقفوا عند ما حد لهم، واستغنوا بما أحل لهم عما حرم عليهم.

أما بعد أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه، وحفظ ما أودعنا من شرائعه، فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة مما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب، وتعمله الجوارح، وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبها، وشيء من الآداب منها، وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وطريقته، مع ما سهَّل سبيل ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين، وبيان المتفقهين، لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرآن، ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ما ترجى لهم بركته، وتحمد لهم عاقبته، فأجبتك إلى ذلك؛ لما رجوته لنفسي ولك من ثواب مَن علَّم دين الله أو دعا إليه.

واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه،وأولى ما عني به الناصحون ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين؛ ليرسخ فيها، وتنبيههم على معالم الديانة، وحدود الشريعة؛ ليراضوا عليها، وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم، وتعمل به جوارحهم؛ فإنه روي أن تعليم الصغار لكتاب الله يطفئ غضب الله، وأن تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر.

وقد مثلت لك من ذلك ما ينتفعون - إن شاء الله - بحفظه، ويشرفون بعلمه، ويسعدون باعتقاده والعمل به، وقد جاء أن يؤمروا بالصلاة لسبع سنين، ويضربوا عليها لعشر، ويفرق بينهم في المضاجع، فكذلك ينبغي أن يعلموا ما فرض الله على العباد من قول وعمل قبل بلوغهم، ليأتي عليهم البلوغ وقد تمكن ذلك من قلوبهم، وسكنت إليه أنفسهم، وأنست بما يعملون به من ذلك جوارحهم.

وقد فرض الله سبحانه وتعالى على القلب عملًا من الاعتقادات، وعلى الجوارح الظاهرة عملًا من الطاعات.

وسأفصل لك ما شرطت لك ذكره بابًا بابًا؛ ليقرب من فهم متعلميه - إن شاء الله تعالى، وإياه نستخير، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد نبيِّه، وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات
من ذلك:
الإيمان بالقلب، والنطق باللسان: أن الله إله واحد لا إله غيره، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له.

ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء، لا يبلغ كُنْهَ صفته الواصفون، ولا يحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المتفكرون بآياته، ولا يتفكرون في ماهية ذاته، ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].

العالم الخبير، المدبر القدير، السميع البصير، العلي الكبير، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه.

خلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59].

﴿ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، وعلى الملك احتوى، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى، لم يزل بجميع صفاته وأسمائه، تعالى أن تكون صفاته مخلوقةً، وأسماؤه محدثةً.

كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته، لا خَلْق من خلقه، وتجلى للجبل فصار دكًّا من جلاله، وأن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق فيَبيد، ولا صفة لمخلوق فينفَد.

والإيمان بالقدر خيره وشره، حُلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا، ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه.

علم كل شيء قبل كونه، فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به، ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].

يُضل من يشاء، فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء، فيوفقه بفضله، فكلٌّ ميسَّر إلى ما سبق من علمه وقدره، من شقي أو سعيد.

تعالى اللهُ أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحد عنه غنًى، أو يكون خالق لشيء إلا هو، رب العباد، ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم،الباعث الرسل إليهم؛ لإقامة الحجة عليهم.

ثم ختم الرسالة والنِّذَارة والنبوة بمحمد نبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فجعله آخر المرسلين، بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وأنزل عليه كتابه الحكيم، وشرح به دِينه القويم، وهدى به الصراط المستقيم.

وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من يموت، كما بدأهم يعودون.

وأن الله سبحانه وتعالى ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات، وصفَح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات، وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر، وجعل من لم يتب من الكبائر صائرًا إلى مشيئته ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].

ومَن عاقبه الله بناره، أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به جنته ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، ويخرُجُ منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مَن شفع له من أهل الكبائر من أمته.

وأن الله سبحانه قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه، وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم، وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه، بما سبق في سابق علمه.

وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به، وألحد في آياته وكتبه ورسله، وجعلهم محجوبين عن رؤيته.

وأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة ﴿ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]؛ لعرض الأمم وحسابها، وعقوبتها وثوابها، وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8، والمؤمنون: 102]، ويؤتون صحائفهم بأعمالهم؛ فمن أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، ومن أوتي كتابه وراء ظهره، فأولئك يصلون سعيرًا.

وأن الصراط حق، يجُوزُه العباد بقدر أعمالهم؛ فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، وقوم أوبقَتْهم فيها أعمالهم.
والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ترِدُه أمته، لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من بدَّل وغيَّر.
وأن الإيمان: قول باللسان، وإخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح، يَزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقصها.
فيكون فيها النقص، وبها الزيادة، ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنَّة.
وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة.
وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون، وأرواح أهل الشقاوة معذَّبة إلى يوم الدين.
وأن المؤمنين يُفتَنون في قبورهم ويسألون ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27].
وأن على العباد حفظةً يكتبون أعمالهم، ولا يسقُطُ شيء من ذلك عن علم ربهم، وأن ملَك الموت يقبض الأرواح بإذن ربه.
وأن خيرَ القرون القرنُ الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وآمنوا به، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
وأفضل الصحابة: الخلفاء الراشدون المهديون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.

وألا يُذكَرَ أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجَر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب.


والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم.
واتباع السلف الصالح، واقتفاء آثارهم، والاستغفار لهم.
وترك المراء والجدال في الدين، وترك كل ما أحدَثه المحدِثون.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته، وسلم تسليمًا كثيرًا


ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:37 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (1)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل






مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)

شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل





...ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله من المحققين، ومن أفذاذ العلماء، وقد كتب الله جل وعلا لعلومه وجملة من تصانيفه الرضا والقبول؛ فسارت بها الركبان، واهتم بها الناس قرنًا بعد قرن، ومن أجل تصانيفه: كتابه الشهير بـ: "الرسالة"، التي ما هذه "العقيدة" التي نتدارسها في هذه المجالس إلا تقدمة لكتابه "الرسالة"،فهذه العقيدة تسمى "مقدمة الرسالة"، وتسمى "مقدمة ابن أبي زيد القيرواني"، حيث جعلها تقدمة لكتابه الكبير: "الرسالة"، الذي ذكر فيه أحكام الفقه في العبادات والمعاملات وشرائع الإسلام، وقدمه بهذه المقدمة المتعلقة بالعقيدة والإيمان والتوحيد.


و"الرسالة": ألفها رحمه الله لما طلب منه أحد أقرانه وأهل بلده في تونس، في القيروان، وهو رجل كان يعلم الأولاد والصبيان، يعلمهم: القرآن ومبادئ أحكام الشريعة، ويقال له: أبو محفوظ، محرز التونسي المالكي القيرواني، فطلب من الإمام محمد بن عبدالله بن أبي زيد القيرواني أن يكتب كتابًا يهتدي به في تعليم هؤلاء الصبيان من أولاد المسلمين، فكتب له كتاب "الرسالة"، وهو جليل النفع، عديم المثل والنظير، بدأه بالعقيدة، ثم شرع في مسائل الفقه والأحكام وأصول الفقه وأصول الاستدلال.

وكثر شارحو هذه الرسالة، ومن أجل شروحها وأكبرها: "النوادر والزيادات"، وهو مطبوع في مجلدات كثيرة، بلغت نحو ستة عشر مجلدًا.
هذا الكتاب ما زال العلماء يعتنون به، ويهتمون به؛ ولهذا مقدمته تناسب أن يبتدئ بها طالب العلم في مسائل العقيدة.

وبه تعرفون أن الأوائل والأواخر من العلماء كلهم على جادة واحدة في عنايتهم بالعقيدة، وفي ذكرهم لمضامينها، ولم يخالف لاحق العلماء سالفهم في تقرير هذه المسائل.

والمقدمة التي تسمعونها الآن هي مقدمة لهذه الرسالة المشتملة على العقيدة وعلى الفقه وعلى الأصول، فنقرأ المقدمة ثم نشرع معكم في المقصود.
[قال أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رضي الله عنه وأرضاه:]
هذا الدعاء: "رضي الله عنه وأرضاه" من الناسخ، أو من راوي هذه الرسالة، وإلا فالمؤلف لا يترضى عن نفسه كما هو معروف، لكن هذه من النساخ، أو من الرواة الذين رووا هذه الرسالة،والدعاء بالرضا دعاء مشروع؛ أن يرضى الله عنا، كما يقول الإنسان: "اللهم ارضَ عني"، أو يدعو الوالدان لولدهما أن يرضى الله عنه، لكن: "رضي الله عنه وأرضاه" هذا شِعار للصحابة رضي الله عنهم في مدحتهم والثناء عليهم، وأما من بعدهم من العلماء فشعارهم: الترحم عليهم، إذا أضحى هذا الأمر على أنه شعار فهو مخصوص بالصحابة، وإذا خرج مخرج الدعاء فيشمل الصحابة ويشمل غيرهم.

الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته، وصوره في الأرحام بحكمته، وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيمًا، ونبهه بآثار صنعته، وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه، فهدى من وفقه بفضله، وأضل من خذله بعدله، ويسر المؤمنين لليسرى، وشرح صدورهم للذكرى، فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين، وبما أتتهم به رسله وكتبه عاملين، وتعلموا ما علمهم، ووقفوا عند ما حد لهم، واستغنوا بما أحل لهم عما حرم عليهم].

هذه المقدمة ابتدأت بحمد الله، والثناء عليه، ومدحه سبحانه بما هو أهله، كما اشتملت على الثناء على رسل الله، الذين أرسلهم جل وعلا إلى الناس مبشرين ومنذرين، واشتملت أيضًا على الإيمان بكتب الله، التي نطقت بحق الله على عباده، وأبانت شرع الله جل وعلا لمن أراد الوصول إلى رضوانه، وبيَّن فيها سبحانه حلاله من حرامه، وهكذا أهل العلم يبدؤون تصانيفهم المشتملة على حمد الله والثناء عليه، وهذا تأسيًا بالكتاب العظيم: "القرآن"، الذي بدئ بـ: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ في الفاتحة، وفي سورة الأنعام: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، وفي أثناء الأعراف: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 43]، في الكهف: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، والحمد لله: البداءة بها في خطب النبي عليه الصلاة والسلام، فكان إذا بدأ بالخطبة حمد الله وأثنى عليه بين يدي خطبته،واستئناسًا بما روي من غير وجه: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر"، وفي رواية: "فهو أقطع"، وفي رواية: "فهو أجذم"، والحديث وإن كان مضطربًا في إسناده وفي متنه، لكنه يشهد له ما سمعتم، تأسيًا بالكتاب العزيز، وبالنبي عليه الصلاة والسلام،بل كان النبي عليه الصلاة والسلام يبدأ كتبه إلى الناس بـ: "بسم الله الرحمن الرحيم"، والبسملة - في أصح أقوال أهل العلم - آية من القرآن، آية من أول الفاتحة، وهي آية من أول كل سورة في أظهر أقوال أهل العلم رحمهم الله.

إذًا حمد الله بما هو أهله، من: كمالاته وربوبياته وخصائصه وأفعاله وأسمائه وصفاته، مما يمتدح في مثل هذا المقام، مقام التأليف والتصنيف.
[أما بعد أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه، فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة مما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب وتعمله الجوارح].

هنا: أبان المؤلف عن سبب تأليف هذه "الرسالة"، وفهمنا من هذه الديباجة والمقدمة أن سبب التأليف: أنها طلبة طلبها منه أحد من الناس، وهو الموجه إليه الخطاب بقوله: "أعانك الله"، وأن هذا الطالب المسؤولَ له الإعانة طلب منه تأليف هذه الرسالة في أمور العقائد، وما تنطق به الألسنة في حق الله، وما تتعبد به ربها من الشرائع، وهذا - كما عرفنا - هو أبو محفوظ محرز التونسي المالكي القيرواني رحمه الله، المتوفى في الأربعمائة ونحو من الثلاثين تقريبًا، وهو من بلد ابن أبي زيد، ولكن ابن أبي زيد أسن منه.
[وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبها، وشيء من الآداب منها].

لاحظوا، أبان في مقدمته عن نواحي التأليف، فبدأ بالعقيدة التي لا تصح إلا نطقًا باللسان، وعملًا بالجوارح والأركان، واعتقادًا بالقلب والجَنان.

قال: "والسنن"، التي يتعبد الله بها، "وشيء من الآداب"، وأشار إلى مسائل تتعلق بأصول الفقه، في مؤكد الأحكام، السنن المؤكدة، والواجبات المتحتمة، والمستحبات الفاضلة.
[وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وطريقته، مع ما سهَّل سبيل ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين وبيان المتفقهين].

أبان أن هذا المنهج الذي سيسير عليه هو على فقه الإمام الموفق أبي عبدالله مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة، والإمام مالك توفي في سنة مائة وتسع وسبعين، وهو إمام المدينة، من طبقة أتباع التابعين، أو من صغار أتباع التابعين على ترتيب ابن حجر رحمه الله.

الإمام مالك انتشر علمه في الآفاق، ولا سيما في بلاد المغرب، فإن أول انتشار لعلمه بعد المدينة كان في مصر على أيدي طلابه، منهم: عبدالله بن وهب الفهري القرشي المصري، ثم انتقل من مصر إلى بلاد المغرب في شمال المغرب فالأندلس.
وهذا التصنيف الذي عناه ابن أبي زيد أبان أنه على أصول الإمام مالك وطريقته في التفقه.

والإمام مالك علَم من أعلام المسلمين، وإمام من أئمتهم، ومذهبه من المذاهب المتبوعة، ومذاهب المسلمين المتبوعة التي استقر عليها العمل أربعة مذاهب: مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، ومذهب الإمام أبي عبدالله مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة، إمام المدينة، ومذهب الإمام أبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي، ومذهب الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، هذه المذاهب الأربعة هي المذاهب المتبوعة، وهي التي يتدين لله جل وعلا بها، في المبتدئين الذين فرضهم تقليد الأئمة واتباعهم، أما من كان في مراقي العلم والتعلم والاجتهاد، سواء كان اجتهاد مسألة، أو اجتهاد مذهب، أو اجتهادًا مطلقًا إذا فتح الله على أحد من عباده بذلك، فهذا يتلقى مباشرة من الكتاب والسنة وفقه السلف الصالح.
ثم ذكر أنه لا يتعصب ويقتصر على مذهب الإمام مالك، بل من جاء بعده من الأئمة الراسخين المتبوعين.

وأن أصل هذا التأليف لما رغب منه هذا المؤدب المعلم للصبيان ليعلمه أولاد المسلمين؛ أي: صبيانهم:
[لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرآن، ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ما ترجى لهم بركته، وتحمد لهم عاقبته، فأجبتك إلى ذلك؛ لما رجوته لنفسي ولك من ثواب مَن علَّم دين الله أو دعا إليه].

من علَّم دين الله ودعا إليه وأرشد الناس إليه له من الله الفضل العظيم الذي تتابع ذكره وذكر أمثلته في الكتاب والسنة، ومن ذلك قول الله جل وعلا: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وقوله سبحانه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة))، و((فضل العالم على العابد كفضل الشمس على سائر الكواكب))، و(إن الملائكة في السماء، والطير في الهواء، والحيتان في البحر لتخضع لطالب العلم رضًا بما يصنع))، و((إن الملائكة في السماء لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع))، و((إن الحيتان في البحر والطير في الهواء لتستغفر لمعلم الناسِ الخيرَ))، وأعظم الخير ما دل على دين الله، ومرادات الله منهم؛ في عبادته، في حلاله، في حرامه، في القيام له سبحانه في حقه، هذا من أنفع ما ينفع الناس، واللهِ أنفعُ من أن تطعم العباد، أو تنفق عليهم أو تسقيهم؛ لأن التفقه والتعلم به قيام الدنيا والدين، والطعام والشراب واللباس به قوام البدن وقيام الدنيا فقط؛ فلهذا ما تعدى نفعه: عظُم عند الله أجره وثوابه، كل ما تعدى نفعه فقد عظم أجره وثوابه.

ابن أبي زيد متى توفي؟ ثلاثمائة وخمس وثمانين، ونحن في عام ألف وأربعمائة وست وعشرين، ومع هذا نتعلم ونتفقه من علمه الذي أورثه الناس قبل نحو ألف ومائة سنة، لماذا؟ لأن النفع متعد، وهذا ما رجاه رحمه الله، وهكذا أهل العلم، لما صحت نواياهم وسلمت مراداتهم وقصودهم، عظم في الناس أثرهم ونفعهم، والعكس بالعكس، من فسدت نيته وطويته، والتفت في قصده وعزمه وإرادته لغير الله، هذا مأذون بالخمول، وبعدم النفع المستدام، نسأل الله جل وعلا أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه، وأن يجعلنا ممن صحت نواياهم وقصودهم، واتبعوا هؤلاء العلماء على حسن عمل وصالح قصد.




ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:38 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (1)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل






مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)

شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل




...ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله من المحققين، ومن أفذاذ العلماء، وقد كتب الله جل وعلا لعلومه وجملة من تصانيفه الرضا والقبول؛ فسارت بها الركبان، واهتم بها الناس قرنًا بعد قرن، ومن أجل تصانيفه: كتابه الشهير بـ: "الرسالة"، التي ما هذه "العقيدة" التي نتدارسها في هذه المجالس إلا تقدمة لكتابه "الرسالة"،فهذه العقيدة تسمى "مقدمة الرسالة"، وتسمى "مقدمة ابن أبي زيد القيرواني"، حيث جعلها تقدمة لكتابه الكبير: "الرسالة"، الذي ذكر فيه أحكام الفقه في العبادات والمعاملات وشرائع الإسلام، وقدمه بهذه المقدمة المتعلقة بالعقيدة والإيمان والتوحيد.

و"الرسالة": ألفها رحمه الله لما طلب منه أحد أقرانه وأهل بلده في تونس، في القيروان، وهو رجل كان يعلم الأولاد والصبيان، يعلمهم: القرآن ومبادئ أحكام الشريعة، ويقال له: أبو محفوظ، محرز التونسي المالكي القيرواني، فطلب من الإمام محمد بن عبدالله بن أبي زيد القيرواني أن يكتب كتابًا يهتدي به في تعليم هؤلاء الصبيان من أولاد المسلمين، فكتب له كتاب "الرسالة"، وهو جليل النفع، عديم المثل والنظير، بدأه بالعقيدة، ثم شرع في مسائل الفقه والأحكام وأصول الفقه وأصول الاستدلال.

وكثر شارحو هذه الرسالة، ومن أجل شروحها وأكبرها: "النوادر والزيادات"، وهو مطبوع في مجلدات كثيرة، بلغت نحو ستة عشر مجلدًا.
هذا الكتاب ما زال العلماء يعتنون به، ويهتمون به؛ ولهذا مقدمته تناسب أن يبتدئ بها طالب العلم في مسائل العقيدة.

وبه تعرفون أن الأوائل والأواخر من العلماء كلهم على جادة واحدة في عنايتهم بالعقيدة، وفي ذكرهم لمضامينها، ولم يخالف لاحق العلماء سالفهم في تقرير هذه المسائل.

والمقدمة التي تسمعونها الآن هي مقدمة لهذه الرسالة المشتملة على العقيدة وعلى الفقه وعلى الأصول، فنقرأ المقدمة ثم نشرع معكم في المقصود.
[قال أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رضي الله عنه وأرضاه:]
هذا الدعاء: "رضي الله عنه وأرضاه" من الناسخ، أو من راوي هذه الرسالة، وإلا فالمؤلف لا يترضى عن نفسه كما هو معروف، لكن هذه من النساخ، أو من الرواة الذين رووا هذه الرسالة،والدعاء بالرضا دعاء مشروع؛ أن يرضى الله عنا، كما يقول الإنسان: "اللهم ارضَ عني"، أو يدعو الوالدان لولدهما أن يرضى الله عنه، لكن: "رضي الله عنه وأرضاه" هذا شِعار للصحابة رضي الله عنهم في مدحتهم والثناء عليهم، وأما من بعدهم من العلماء فشعارهم: الترحم عليهم، إذا أضحى هذا الأمر على أنه شعار فهو مخصوص بالصحابة، وإذا خرج مخرج الدعاء فيشمل الصحابة ويشمل غيرهم.

الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته، وصوره في الأرحام بحكمته، وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيمًا، ونبهه بآثار صنعته، وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه، فهدى من وفقه بفضله، وأضل من خذله بعدله، ويسر المؤمنين لليسرى، وشرح صدورهم للذكرى، فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين، وبما أتتهم به رسله وكتبه عاملين، وتعلموا ما علمهم، ووقفوا عند ما حد لهم، واستغنوا بما أحل لهم عما حرم عليهم].

هذه المقدمة ابتدأت بحمد الله، والثناء عليه، ومدحه سبحانه بما هو أهله، كما اشتملت على الثناء على رسل الله، الذين أرسلهم جل وعلا إلى الناس مبشرين ومنذرين، واشتملت أيضًا على الإيمان بكتب الله، التي نطقت بحق الله على عباده، وأبانت شرع الله جل وعلا لمن أراد الوصول إلى رضوانه، وبيَّن فيها سبحانه حلاله من حرامه، وهكذا أهل العلم يبدؤون تصانيفهم المشتملة على حمد الله والثناء عليه، وهذا تأسيًا بالكتاب العظيم: "القرآن"، الذي بدئ بـ: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ في الفاتحة، وفي سورة الأنعام: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، وفي أثناء الأعراف: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 43]، في الكهف: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، والحمد لله: البداءة بها في خطب النبي عليه الصلاة والسلام، فكان إذا بدأ بالخطبة حمد الله وأثنى عليه بين يدي خطبته،واستئناسًا بما روي من غير وجه: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر"، وفي رواية: "فهو أقطع"، وفي رواية: "فهو أجذم"، والحديث وإن كان مضطربًا في إسناده وفي متنه، لكنه يشهد له ما سمعتم، تأسيًا بالكتاب العزيز، وبالنبي عليه الصلاة والسلام،بل كان النبي عليه الصلاة والسلام يبدأ كتبه إلى الناس بـ: "بسم الله الرحمن الرحيم"، والبسملة - في أصح أقوال أهل العلم - آية من القرآن، آية من أول الفاتحة، وهي آية من أول كل سورة في أظهر أقوال أهل العلم رحمهم الله.

إذًا حمد الله بما هو أهله، من: كمالاته وربوبياته وخصائصه وأفعاله وأسمائه وصفاته، مما يمتدح في مثل هذا المقام، مقام التأليف والتصنيف.
[أما بعد أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه، فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة مما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب وتعمله الجوارح].

هنا: أبان المؤلف عن سبب تأليف هذه "الرسالة"، وفهمنا من هذه الديباجة والمقدمة أن سبب التأليف: أنها طلبة طلبها منه أحد من الناس، وهو الموجه إليه الخطاب بقوله: "أعانك الله"، وأن هذا الطالب المسؤولَ له الإعانة طلب منه تأليف هذه الرسالة في أمور العقائد، وما تنطق به الألسنة في حق الله، وما تتعبد به ربها من الشرائع، وهذا - كما عرفنا - هو أبو محفوظ محرز التونسي المالكي القيرواني رحمه الله، المتوفى في الأربعمائة ونحو من الثلاثين تقريبًا، وهو من بلد ابن أبي زيد، ولكن ابن أبي زيد أسن منه.
[وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبها، وشيء من الآداب منها].

لاحظوا، أبان في مقدمته عن نواحي التأليف، فبدأ بالعقيدة التي لا تصح إلا نطقًا باللسان، وعملًا بالجوارح والأركان، واعتقادًا بالقلب والجَنان.

قال: "والسنن"، التي يتعبد الله بها، "وشيء من الآداب"، وأشار إلى مسائل تتعلق بأصول الفقه، في مؤكد الأحكام، السنن المؤكدة، والواجبات المتحتمة، والمستحبات الفاضلة.
[وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وطريقته، مع ما سهَّل سبيل ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين وبيان المتفقهين].

أبان أن هذا المنهج الذي سيسير عليه هو على فقه الإمام الموفق أبي عبدالله مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة، والإمام مالك توفي في سنة مائة وتسع وسبعين، وهو إمام المدينة، من طبقة أتباع التابعين، أو من صغار أتباع التابعين على ترتيب ابن حجر رحمه الله.

الإمام مالك انتشر علمه في الآفاق، ولا سيما في بلاد المغرب، فإن أول انتشار لعلمه بعد المدينة كان في مصر على أيدي طلابه، منهم: عبدالله بن وهب الفهري القرشي المصري، ثم انتقل من مصر إلى بلاد المغرب في شمال المغرب فالأندلس.
وهذا التصنيف الذي عناه ابن أبي زيد أبان أنه على أصول الإمام مالك وطريقته في التفقه.

والإمام مالك علَم من أعلام المسلمين، وإمام من أئمتهم، ومذهبه من المذاهب المتبوعة، ومذاهب المسلمين المتبوعة التي استقر عليها العمل أربعة مذاهب: مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، ومذهب الإمام أبي عبدالله مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة، إمام المدينة، ومذهب الإمام أبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي، ومذهب الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، هذه المذاهب الأربعة هي المذاهب المتبوعة، وهي التي يتدين لله جل وعلا بها، في المبتدئين الذين فرضهم تقليد الأئمة واتباعهم، أما من كان في مراقي العلم والتعلم والاجتهاد، سواء كان اجتهاد مسألة، أو اجتهاد مذهب، أو اجتهادًا مطلقًا إذا فتح الله على أحد من عباده بذلك، فهذا يتلقى مباشرة من الكتاب والسنة وفقه السلف الصالح.
ثم ذكر أنه لا يتعصب ويقتصر على مذهب الإمام مالك، بل من جاء بعده من الأئمة الراسخين المتبوعين.

وأن أصل هذا التأليف لما رغب منه هذا المؤدب المعلم للصبيان ليعلمه أولاد المسلمين؛ أي: صبيانهم:
[لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرآن، ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ما ترجى لهم بركته، وتحمد لهم عاقبته، فأجبتك إلى ذلك؛ لما رجوته لنفسي ولك من ثواب مَن علَّم دين الله أو دعا إليه].

من علَّم دين الله ودعا إليه وأرشد الناس إليه له من الله الفضل العظيم الذي تتابع ذكره وذكر أمثلته في الكتاب والسنة، ومن ذلك قول الله جل وعلا: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وقوله سبحانه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة))، و((فضل العالم على العابد كفضل الشمس على سائر الكواكب))، و(إن الملائكة في السماء، والطير في الهواء، والحيتان في البحر لتخضع لطالب العلم رضًا بما يصنع))، و((إن الملائكة في السماء لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع))، و((إن الحيتان في البحر والطير في الهواء لتستغفر لمعلم الناسِ الخيرَ))، وأعظم الخير ما دل على دين الله، ومرادات الله منهم؛ في عبادته، في حلاله، في حرامه، في القيام له سبحانه في حقه، هذا من أنفع ما ينفع الناس، واللهِ أنفعُ من أن تطعم العباد، أو تنفق عليهم أو تسقيهم؛ لأن التفقه والتعلم به قيام الدنيا والدين، والطعام والشراب واللباس به قوام البدن وقيام الدنيا فقط؛ فلهذا ما تعدى نفعه: عظُم عند الله أجره وثوابه، كل ما تعدى نفعه فقد عظم أجره وثوابه.


ابن أبي زيد متى توفي؟ ثلاثمائة وخمس وثمانين، ونحن في عام ألف وأربعمائة وست وعشرين، ومع هذا نتعلم ونتفقه من علمه الذي أورثه الناس قبل نحو ألف ومائة سنة، لماذا؟ لأن النفع متعد، وهذا ما رجاه رحمه الله، وهكذا أهل العلم، لما صحت نواياهم وسلمت مراداتهم وقصودهم، عظم في الناس أثرهم ونفعهم، والعكس بالعكس، من فسدت نيته وطويته، والتفت في قصده وعزمه وإرادته لغير الله، هذا مأذون بالخمول، وبعدم النفع المستدام، نسأل الله جل وعلا أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه، وأن يجعلنا ممن صحت نواياهم وقصودهم، واتبعوا هؤلاء العلماء على حسن عمل وصالح قصد.


ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:39 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (4)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل


شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (4)

مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)

شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل





[باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات]

باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده القلوب والأجنانُ من واجب الديانات، هذا الباب هو شروع في المقدمة في التوحيد والعقيدة، ما قبلها: مقدمة لكل كتابه؛ لأنها اشتملت على حمد الله والثناء عليه والاعتراف له، واشتملت على الثناء على رسله، وعلى كتبه، واشتملت على السبب الذي لأجله ألف هذا الكتاب، ومنهجه فيه، ثم الآن بدأ بالباب الأول المتعلق بالعقيدة.

أمور الديانات: أي أمور العقائد مما يجب أن ينطق باللسان، ويعتقد بالجنان، وهذا إشارة إلى أصل عظيم سيبدأ به: أن العقيدة لا بد لها من ثلاثة أركان: فهي قول باللسان، لا يصح الإيمان إلا به، واعتقاد بالجَنان، لا يقوم الدين إلا به، وعمل بالأركان، لا يكون الإنسان مسلمًا إلا به.

[من ذلك:]؛ أي: من أمور الديانات،و"من" هنا للتبعيض، وبدأ بأعظمها وأهمها.
[الإيمان بالقلب، والنطق باللسان: أن الله إله واحد لا إله غيره، ولا شبيهَ له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له].

النطق باللسان والاعتراف بالقلب: بأن الله واحد لا شريك له، ولا إله غيره، ولا شيء مثله، ولا نظير له، ولا كفء ولا مثيل له،وهذا يسميه العلماء بأول واجب على المكلف: إيمانهم بالله جل وعلا، والإيمان لا يصح إلا بالشهادة له بالوحدانية في عبادته، كما يشهد له بالوحدانية سبحانه في ربوبيته وأسمائه وصفاته.

ذهب بعض الناس - ممن تركوا طريقة هؤلاء الأئمة - إلى أن أول واجب على المكلف هو: النظر في الكون، وبعضهم يقول: أول واجب على المكلف: القصد إلى النظر، ومنهم من يقول: أول واجب على المكلف: الشك،وهذا كله خلاف طريقة الأنبياء، وطريقة العلماء، وطريقة الأئمة المتبوعين،أول واجب على المكلفين هو إيمانهم بالله جل وعلا؛ يقول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيحين: ((أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا: أن لا إله إلا الله))، ما قال: حتى يقصدوا، أو ينظروا، أو يشكوا، ويتوصلوا بعد ذلك إلى الإيمان! ((حتى يشهدوا))؛ لأن الاعتراف لله بالاستحقاق للعبادة والوحدانية والأسماء والصفات: أمر فِطري، فطَر الله عليه العباد، والشريعة جاءت بتكميل هذه الفطرة، وتكميل علومها.

إذًا أول واجب على المكلف هو الإيمان بالله، الشهادة لله بالوحدانية، بالعبادة له وحده لا شريك له؛ ولذلك يقول الشيخ: من ذلك: الإيمان بالقلب، والنطق باللسان؛ أن يوقنَ بقلبه يقينًا لا شك فيه، وينطق بلسانه نطقًا لا كذب فيه: أن الله جل وعلا لا إله إلا هو، ((أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا: أن لا إله إلا الله))، ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله))، لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس لما أنزل الله عليه: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 214، 215]، ونزل عليه قول الله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، وقف على الصفا ونادى قريشًا بطنًا بطنًا، حيًّا حيًّا، ثم خصهم في أقاربه، في أعمامه، في عماته، وقال: ((اشتَرُوا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، قولوا: لا إله إلا الله، تُفلحوا))، وهذا أول ما أمر الناس به، ودعا الناس إليه، وأوجبه عليهم - دل على أن أول واجب هو: الشهادة لله جل وعلا بالوحدانية، في استحقاقه وحده للعبادة، كما أنه لا رب سواه، وكما أنه منفرد بأسمائه وصفاته.

[إله واحد لا إله غيره].
إله مألوه؛ أي: معبود، فالإله أصلها: أله يأله إلاهًا؛ أي: عبد، فهو المعبود سبحانه، إله واحد؛ ولهذا في القرآن تكاثرت الأدلة أنه سبحانه إله واحد، ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59]، (﴿ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110] لا إله غيره)، لا إله غيره؛ أي: لا معبود يستحق أن يُعبَد سواه،لو قال إنسان: معنى أنه إله واحد، لا معبود إلا الله، هذا المعنى خطأ؛ لأن هناك معبودات كثيرة، من الناس من يعبد الحجر والشجر، والشمس والقمر، والضريح والقبر؛ فالمعبودات كثيرة، ولكن لا معبود بحق، أي: يستحق، حقيق بهذه العبادة، محقوق بها، مستحق لها إلا واحد، وهو: الله جل وعلا، وهذا هو معنى لا إله إلا الله؛ ولهذا يغلط كثير في معنى هذه الكلمة، كثير، حتى من ذوي المؤهلات العليا، والله يا إخوان التقينا بدكاترة، بروفسورات، لما باحثناهم عن معنى لا إله إلا الله، قالوا: لا خالق، لا رازق، لا محيي، لا مميت إلا الله! هل هذا هو معنى لا إله إلا الله؟! هل هذا هو المعنى الذي فهمه المشركون من معنى لا إله إلا الله؟! المشركون يعتقدون أنه لا خالق إلا الله، لا مالك إلا الله، لا رازق إلا الله، وهذا توحيد الربوبية، وقد فطَر الله عليه العالمين، إلا الشذاذ من بني آدم؛ كفرعون والنمرود وغيرهم،إذًا مشركو العرب الذين انحرفوا في التوحيد وأشركوا: مُقرُّون بأنه لا خالق ولا رازق إلا الله،ولكن معنى لا إله إلا الله: لا معبود يستحق أن يعبد، يستحق أن يقصد، يستحق أن يعظَّم إلا الله جل وعلا، هذا معنى لا إله إلا الله، وهذي التي عناها ها هنا ابن أبي زيد في مقدمته؛ولهذا اشترك في هذا المعنى الأوائل والأواخر، ابن أبي زيد في القرن الرابع، والعلماء المتأخرون في القرن الخامس عشر، والرابع عشر، والثالث عشر وما قبله،إذًا المضامين في العقيدة واحدة، ليس فيها منازعة.

[ولا شبيه له].
الشبيه بمعنى المثيل؛ كما قال الله تعالى في آية الشورى في أولها، قال: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، الكاف: كاف التشبيه، والمثل: المثلية؛ أي: ليس لله شبيه، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، إذًا تعتقد بوحدانيته في العبادة، في الألوهية، وتعتقد بوحدانيته بأنه ليس له شبيه يماثله أو يشابهه أو يناظره.

[ولا نظير له].
والنظير هو المثيل، وهو أدق من معنى الشبيه؛ لأنه أحدٌ فرد صمد سبحانه وتعالى.

[ولا ولد له].
ونفى عن الله الولد؛ لأن الله نفى عن نفسه الولد، لاحظوا أيها الإخوان في أعظم سورة دلت على التوحيد، وهي سورة الإخلاص، هي سورة التوحيد والعقيدة في القرآن؛ ولهذا مَن قرأها كان له عدل قراءة ثلث القرآن، وسبب ذلك - والله أعلم - أن القرآن مبني على ثلاثة مضامين عظيمة، التوحيد، والقصص، والأحكام، فأما التوحيد: فجاءت به هذه السورة، و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن، وهي صفة الرحمن التي يحبها سبحانه، ولما قرأ ذلك الرجل في صلاته في قراءته، وكان يختم كل قراءة بالإخلاص، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: ((سلوه، لم ذلك؟))، قال: (صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، قال: ((أخبروه أن الله يحبه))، قال الله فيها: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 1، 2]، أحد؛ أي: واحد، صمد؛ أي: سيد كامل في سؤدده، أيضًا تصمد إليه المخلوقات؛ أي: تقصده في حوائجها، هذا من معاني الصمد، الثالث من معاني الصمد؛ أي: الذي لا جوف له؛ أي: لا يحتاج إلى طعام وشراب، كما يحتاجه المخلوقون؛ لأنه سبحانه كما قال عن نفسه: ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾ [الأنعام: 14]،الذي ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]، نفى عن نفسه أن يكون له ولد، كما ادعته النصارى، وقبلهم اليهود واليونان، وادعاه مشركو العرب وغيرهم من الوثنيين، ونفى عن نفسه التولد، لم يذكر أحد أن الله تولد من غيره، ولكن الله نفاه؛ حسمًا لهذه المادة، وتقريرًا لوحدانيته، فنفى التولد، ونفى الولادة؛ لتقرير وحدانيته، ثم قال: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]، لم يكن أحد يكافيه أو يساميه أو يناظره أو يماثله، أو يكون له ندًّا ونديدًا.

[ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له].
ونفى الوالد؛ لقوله: ﴿ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]، ونفى الصاحبة، وهي الزوجة، ونفى الشريك، وآية الإسراء جمعت هذه المعاني، التي ختم الله بها سورة الإسراء، سورة سبحان، سورة بني إسرائيل، في قوله سبحانه: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]، تفرد سبحانه بهذا كله؛ لأنه واحد لا يقبل الشريك، حتى في أيسر الأمور، الرياء الذي قد يطرأ على الإنسان يتركه الله، هذا العمل الذي راءى به مع الله؛ لأنه جعل مع الله شريكًا غيره؛ ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشِركه))، ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، في الحديث الذي رواه أحمد بإسناد صحيح: (ألا أخبركم بما هو أخوف عندي عليكم من المسيح الدجال؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الشرك الخفي))، فسُئل عنه، فقال: ((الرياء، يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه))، إذًا حصل عنده في الصلاة في العبادة نوع التفات إلى غير الله، فهنا تركه الله وشِركَه؛ لأن الله واحد، لا يقبل شريكًا في أي جزء من العبادة، ولو كان جزءًا يسيرًا.

[ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء].
هذا شروع فيما لله تعالى من كمالات الأسماء والصفات.
وهذا تضمين لآية الحديد في أولها: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]، هذه الأسماء الأربعة جمعت أسماء الله الحسنى، كما سيأتينا إن شاء الله في النونية، النبي عليه الصلاة والسلام فسرها كما في دعاء وذكر النوم: ((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء)) هو أول قبل الخلق كلهم، وليس لأوليته ابتداء، ما سُبِق سبحانه بأحد، ((وأنت الآخِر فليس بعدك شيء))، وأيضًا ليس لآخريته انتهاء، وهنا أشير إلى مسألة تتعلق بالرياضيات وبالحساب، إذا قالوا: إن الأرقام غير متناهية لا في السلب ولا في الإيجاب، الأعداد مخلوقة، وهي لا بد أن تنتهي، قد لا تنتهي في أذهاننا، لكن عند الله تنتهي؛ لأن المخلوقات لا بد أن تنتهي إلى حد به خلقها الخالق سبحانه وتعالى،فاللامتناهي أزلًا وأبدًا هو الله جل وعلا، والمخلوق متناهٍ، وإن جهلنا نحن مبلغ وحد تناهيه، وهذه مسأله ينتبه لها الإخوان الذين يدرسون الرياضيات، والرياضيات تدرس على مستوى تركيز في مدارسنا.


الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء،وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، أعلى خلقه، ليس من خلقه فوقه شيء، وهو الباطن القريب، الذي ليس دونه من خلقه شيء، وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.



ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:39 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (5)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل



شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (5)

مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)

شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل







إجابات أسئلة اليوم الأول:
قولي: يقوم على قول القلب وقول اللسان، ويظهر أثره على الجوارح، وليس معناه أن المؤلف مرجئيًّا، أو من المرجئة، أبدًا حاشاه، ولكن لأن هذا المقام ينبني على هذا الأمر، على اعتقاد بالقلب وعلى نطق باللسان.

الأصول الثلاثة: في الأسئلة التي يسأل عنها الإنسان في قبره، وهي في مسائل توحيد العبادة، مقدمة ابن أبي زيد جلها في توحيد الأسماء والصفات، وسيكون للعبادة منها نصيب في آخرها، ولأن أحكام الصلاة والعبادات هي محققة لتوحيد العبادة، فبدأ بمسائل الاعتقاد؛ لأنه حصل فيها انحراف في زمنه؛ بسبب الجهمية والمعتزلة والمتكلمين.

قلت لكم ها هنا: إنه ما ذكر العمل؛ لأن المقدمة في توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الأسماء والصفات فرضه في موضعين: في اعتقاد القلب، وفي نطق اللسان؛ ولهذا مرَّ بنا في النونية أن التوحيد القولي هو في قول القلب وقول اللسان، والتوحيد العملي في هذه الثلاثة.

لا، ليس هناك مذهب انقرض، لكل قوم وارث، لها وراث، ولها من يبعثها بوجه أو بآخر، قد تنقرض في أسمائها، ولكن لا تنقرض في مضامينها وعقائدها.

والسن المناسبة في تلقي أصول العقيدة: مع الكُتَّاب، إذا قرأ القرآن، في صغره، يلقن العقيدة على جهة التلقين في أصولها، وتفاصيلها إذا كبر، شيئًا فشيئًا.

حفظ المقدمة جيد للأطفال، أو حفظ ثلاثة الأصول، هذا من الأمور الجيدة النافعة لهم بإذن الله.

النظم أسهل، ينظم على طريقة المنظومات من الشعر وأمثاله، وهذا أسهل في حفظه لذوي القرائح من الكلام المنثور؛ ولهذا القرآن العظيم جل عن النثر، وجل عن النظم، فأتى بسبك بديع، فيه دقة النظم، وفيه حلاوة النثر.

إذا أطلق الإيمان دخل فيه التوحيد، لكن التوحيد المراد به: إفراد الله عز وجل بالعبادة، أما الإيمان فهو ما يتعلق بمسائله أنه يكون محله في اللسان، ومحله في القلب، ومحله في الجوارح.

الحديث محمول على المعاند الذي يستهين بالتوبة، كما جاء في الحديث: ((إذا شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شربها فاجلدوه، ثم إذا شربها فاجلدوه))، في الرابعة قال: ((فاقتلوه))؛ لأنه وصل إلى مرحلة العناد، وتحمل على حال الاستحلال، فإذا شربها مستحلًّا لها، معاندًا مكابرًا في حرمتها، فهذا لا يتوب الله عليه؛ لأنه بلغ مبلغ استحلال الكبيرة، واستحلال الكبيرة ما يكون إلا كفرًا.

والنظير والمثل والنقائص والعيوب كلها ننفيها عن الله، أفضل ما جاء في مسألة النفي: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، التي جاءت في آية الشورى، هذه أعظم عبارات التنزيه، أعظم لفظ في التنزيه ما نزه الله به نفسه: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ومن ذلك: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]، ومن ذلك: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65].

ما هو مناسب؛ لأن الطحاوية مسائلها مسائل تفصيلية لا تناسب الصغار، واختصار شرح الطحاوية عمل لا يحمده أهل العلم، من أراد أن يشرح الطحاوية يشرحها شرحًا مختصرًا ابتداءً، أما يأخذ شرحًا متلقى بالقبول والاعتبار عند العلماء، ثم يلعب به ويعبث به بالشرح والتهذيب، ما يصلح، إذا أراد أن يصل الناس شرح مختصر يشرحه من جديد، وهو وإصابته وخطؤه، أما يأتي إلى عمل من أعمال أهل العلم ثم يتعوره بالاختصار أو بالتهذيب، قد لا يحقق هذا المعنى، وجل ما رأيت من الأمور المتعلقة بالطحاوية الحقيقة أخلت في مقصد المؤلف وفي جزالة عبارته، وقوة ألفاظه.

[لا يبلغ كُنْهَ صفته الواصفون].
ومعنى كنه صفته؛ أي: حقيقتها، وتصورها وماهيتها، وكيفيتها،ولا يبلغ عد صفاته أيضًا الواصفون، الله جل وعلا لا تبلغ أسماؤه وصفاته حدًّا ولا كنهًا ولا وصفًا ولا عدًّا؛ ولهذا في دعاء الهم الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: أن من أهمه شيء فقال: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أَمَتِك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك))، فإن من أسماء الله، ومن صفات الله، ما استأثر الله بها عنده؛ لأنه معلوم أن الاسم مشتمل على صفة، العليم مشتمل على صفة العلم، العظيم على صفة العظمة، الرحيم على صفة الرحمة، فإذا كان هناك من أسماء الله ما استأثر الله بها عنده، فثمة صفات استأثر الله بها؛ ولهذا لا يبلغ كنه صفاته الواصفون، عدًّا، وبلوغًا لحقيقتها، وكيفيتها، لا يمكن؛ لأنهم لن يبلغوا ذاته سبحانه، فلا يبلغوا صفاته من باب أولى.

[ولا يحيط بأمره المتفكرون].
لن يحيط بأمر الله وعظمته وجلالته المتفكرون، مهما بلغوا ذكاءً وفطنة وانتباهًا وقوة في الإدراك، لا يبلغون أمر الله جل وعلا، لا يحيطون بعلمه، فضلًا أن يحيطوا بذاته، فإذا كان علم الله لا يحاط به، فإذًا ذاته من باب أولى.

[يعتبر المتفكرون بآياته، ولا يتفكرون في ماهية ذاته].
المتفكرون يعتبرون بآياته سبحانه، آياته الباهرة، وآياته نوعان: آيات كونية خلقية، كالشمس والقمر والشجر والبحر والشجر والماء والخلق، وما خارج هذا الكون، هذه من آيات الله الكونية الخلقية،والنوع الثاني: آيات الله الشرعية في أحكامه، في كلامه، في حلاله في حرامه، آياته الشرعية، ومن آياته الشرعية القرآن، من آياته الشرعية أحكام التنزيل، العبادات، ما زال علماء الشريعة يتفكرون في أوامره ومقاصد دينه ولم يبلغوا لها حدًّا، وما زال العلماء يتفكرون في آيات الله الكونية ولم يبلغوا لها حدًّا، والعجب - أيها الإخوة - أن آيات الله الكونية في الآفاق وفي الأنفس، وليست فقط في الآفاق، بل وحتى في الأنفس؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، لو تفكر الإنسان ما في نفسه، ما في خلقه هو من دقة الإبداع وعظيم الصنع لا نبهر، بل عقله يقصر عن إدراك تفاصيل ذلك، وما زال الناس، الأطباء وغير الأطباء، في هذا الباب عاجزين عن إدراك كنه ذلك؛ ولهذا جاء في حديث رواه أبو الشيخ في العظمة، ورواه الإمام أحمد والطبراني بأسانيد لا بأس بها: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((تفكَّروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذات الله، فتهلِكوا))؛ لأن التفكر في ذات الله سبب في زيغان الشيطان ووسواسه، لا يزال الشيطان بأحدكم يقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان، وليقل: آمنت بالله ورسله، فالتفكر في خلق الله علامة الإيمان، والتفكر في ذات الله أو في حقيقة وكيفية صفاته وكنه صفاته علامة الخذلان؛ ولهذا يا أيها الإخوة التفكر في ذات الله يفضي إلى الزندقة وإلى الإلحاد، والتفكر في آلاء الله وآياته الشرعية والكونية يفضي إلى الإيمان، ولكن العجب كل العجب من الناس في هذا الزمان، الذين تكاثرت فيهم شواهد الربوبية، في دقة إبداع الله لخلقه، وتسخير المخلوقات والآلات للناس، تكاثرت في هذا الزمان شواهد ودلائل الربوبية، وعظمت الغفلة وقسوة القلوب، أليس كذلك؟ ما أكثر - في هذا الزمان - علماء الطبيعة وعلماء الفلك، وعلماء الصناعة، وعلماء البحار، والأشجار، والحيوانات، والأحياء، والكيمياء، لكن مع هذا ما أشد غفلتهم عن شواهد الربوبية! نحن عامة الناس نستفيد من هذه الإمكانات، نسافر المسافات الطويلة في مدة يسيرة، من منا يلهج لله بحمده على هذا التسخير؟ من قبلنا لما كانوا يركبون على ظهور الإبل كانوا أكثر اعترافًا بنعمة الله منا، مما سخره لنا من هذه الآلات الطائرة في جو السماء، أو السفن الجواري في البحار، أو المراكب في البر، إذًا شواهد الربوبية عظمت وتكاثرت في الطب، في الكيمياء، في البحار، في الأنفس، في الآلات، في الصناعات، في التقنية، ومع ذلك - سبحان الله - حصل تناسب طردي في الغفلة والإعراض.

[﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾].
هذا تضمين من أعظم آية في القرآن، وهي آية الكرسي، ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255].

ولا يحيطون بشيء، بشيء يسير من علمه جل وعلا، إلا بما شاء أن يطلعهم عليه.

الكرسي: اختلف العلماء في معناه على ثلاثة أقوال هي لأهل السنة، فمن قائل: الكرسي هو: العرش، ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، والقول الآخر أن الكرسي: موضع القدمين، وهذا أيضًا يروى عن ابن عباس، وهو الصحيح عنه موقوفًا عليه، القول الثالث لمعنى الكرسي أنه: العلم، وسع علمه السموات والأرض، وكل الأقوال الثلاثة ذكرها إمام المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره، أصحها أن الكرسي: موضع القدمين، وأن الكرسي غير العرش، بل العرش أعظم من الكرسي، والكرسي على عظمه وسع السموات والأرض، يدل لهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد، ورواه غيره، عن أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إن مثل السماوات السبع، ومن فيها)، أي: الأرضين، (إلى الكرسي، كدراهم سبعة ألقيت في ترس))، ما المراد بالترس؟ يراد به عدة معانٍ، أشهرها معنيان، المعنى الأول: الحفرة في الأرض التي تضم خبرة من الرجال، الخبرة من واحد إلى التسعة، تسمى ترسًا، والترس أيضًا يطلق على ما يتترس به المحارب من السهام والرماح وضربات السيوف، هب أنك ألقيت سبع دراهم في ترس، النسبة ضئيلة، الترس استوعب هذه الدراهم السبعة، كذلك الكرسي استوعب السموات والأرض ومن فيها، ((ومثل الكرسي إلى العرش، كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض، والله فوق العرش، لا تخفى عليه منكم خافية))، إذًا هل النسبة متصورة؟ وهل يمكن أن يبلغها كنه أو تفكير متفكر أو إدراك مدرك أو عقل عاقل؟ العقول في الحقيقة تحار في هذا الجانب، وتقصر عن فهمه فضلًا عن إدراكه، إذا كان الكرسي بما اشتمل عليه، نسبته إلى العرش كحلقة من حديد ألقيت في فلاة، في صحراء، إذًا ما نسبة العرش إلى باقي الخلق؟ لا نسبة لها، والله فوق العرش، وهو خالق العرش، إذًا شأن الله أعظم من أن يبلغه إدراك مدرك.

[﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾].
ولا يعجزه حفظهما، حفظ ماذا؟ قيل: السموات والأرض، وقيل: العرش والكرسي، والأول أظهر،مع هذا لا يظنن ظان أنه لما كان العرش وما اشتمل عليه الكرسي بهذا الكبر: أن الله يخفى عليه من خلقه شيء، بل يسمع كلامهم على اختلاف لغاتهم، بأنواع حاجاتهم، باختلاف أزمانهم، مع تداخل أصواتهم، لا يخفى عليه سبحانه من ذلك شيء، ومع سماعه لهم هو بصير بهم، يبصر بهم بعينيه سبحانه، ولا يخفى عليه منهم خافية؛ ولهذا من تفكر في معاني أسماء الله وصفاته عاد على قلبه بقوة الإيمان وكمال المراقبة لهذا العظيم سبحانه وتعالى، فلا يزال يترقى في مراقي الإيمان إلى أن يبلغ رُتَبَ ودرجتي الإحسان، نسأل الله أن ينيلنا وإياكم ذلك.

أسئلة أخرى لليوم الأول
هل هناك سنة راتبة قبل صلاة العشاء؟
ما بين الأذان والإقامة ثم نافلة مطلقة؛ لعموم ما جاء في الصحيح من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((بين الأذان والإقامة صلاة))، لكن الراتبة، راتبة العشاء التي هي أكمل النوافل، تكون بعد الصلاة،الرواتب منها ما هو قبل الصلاة؛ كراتبة الفجر، وراتبة الظهر القبلية، ومنها ما بعد الصلاة؛ كراتبة الظهر البعدية، وراتبة المغرب البعدية، وراتبة العشاء البعدية، هذه هي السنن الرواتب، وهي عشر على الأقل، وثنتا عشرة على الأكثر، كما جاء فيها حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما.


الصحيح ماهية ذاته، بدل الهمزة: هاء، وثمة وجه، لكن ما تحققت منه أن المائية هي الماهية، لكن المعروف عندنا أنها بالهاء، وليس بالهمز، الماهية هي: الحقيقة، حقيقة الذات.



ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:40 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (6)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل




شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (6)

مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)

شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل






فوائد قبل الشروع في الدرس الثاني:
الإيمان المتعلق بالأسماء والصفات والربوبية محله الاعتقاد بالجنان، والنطق باللسان.

مسائل الإيمان، وهي التوحيد والعبادة، محلها النطق باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، ولهذا الإيمان عند أهل السنة يقوم على هذه الأركان الثلاث؛ فهو قول باللسان، واعتقاد بالجَنان، وعمل بالأركان، من أخرج شيئًا من هذه الثلاث فقد خالف أهل السنة، وأضحى من المرجئة،الوعيدية من الخوارج والمعتزلة قالوا: إن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، ولكن عندهم الإيمان قولًا واعتقادًا وعملًا شيء واحد، إذا زال زال جميعه، وإذا وجد وجد جميعه؛ ولهذا لم يقولوا: إن الإيمان يتبعض، ولم يقولوا بأن الإيمان يزيد، ولم يقولوا بأن الإيمان ينقص، ولم يقولوا بأن الإيمان يستثنى به، بل جعلوه شيئًا واحدًا، إذا ذهب بعضه ذهب باقيه، وإذا وجد بعضه وجد باقيه، وهذا هو خلافهم مع أهل السنة، أهل السنة عندهم الإيمان إذا ذهب بعضه يبقى الباقي إلا أن يذهب أصله، وهذا أمر يجب أن يفهم بين أهل السنة وبين الوعيدية،والوعيدية طبقتان: الخوارج والمعتزلة، ذكرنا لكم بالأمس أن المعتزلة أصولهم خمسة: الذي يسمونه التوحيد، وهو إنكار الصفات، إنكار القدر، ويسمونه بالعدل، إنفاذ الوعيد، ومعناه أن صاحب الكبيرة في الآخرة في النار، خالدًا مخلدًا فيها، القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو من فعل المعصية الكبيرة في الدنيا خرج من الإسلام ولم يدخل في الكفر، بل في محطة بينهما، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الخروج على أئمة الجَور إن قدروا على ذلك،وأنا أحب يا إخوان أن تعرفوا في هذه المسائل: حقيقة قول الوعيدية في الإيمان، وتفرقوا بينه وبين قول أهل السنة، أهل السنة لما قالوا: إن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجَنان، وعمل بالأركان، وافقهم أولئك في هذا المسمى، لكن خالفوهم في أصل عظيم في فهم هذا القول على حقيقته، فعند الوعيدية: الإيمان إذا زال بعضه، زال باقيه؛ ولهذا عندهم الإيمان لا يتبعض، وعندنا يتبعض، عندهم الإيمان ما يزيد، وعندنا الإيمان يزيد بالطاعات، عندهم الإيمان ما ينقص، نقصه ذهابه، وعندنا الإيمان ينقص بالمعاصي، عندهم الإيمان ما يجوز أن يستثنى فيه، وعندنا يجوز الاستثناء في الإيمان ما لم يكن على سبيل الشك، في المراتب الأربع التي ذكرها العلماء في الاستثناء في الإيمان، وهذه مسألة مهمة في الفرق بين حقيقة قول أهل السنة وحقيقة قول الوعيدية، وإن تشابه القولان في الصورة، ولكنهما اختلفا في الأصل والحقيقة، المرجئة في الإيمان ذكر العلماء أنهم ينقسمون إلى ثنتي عشرة، كما ذكر صاحب المقالات، أشهرهم أربع أو خمس فرق نذكرهم على سبيل الإجمال، نبدأ من دركاتهم السفلى، الصنف الأول: غلاة المرجئة، وهم الجهمية، قالوا: إن الإيمان هو المعرفة، من عرف الله فهو مؤمن، إذا جهل بالله فهو كافر، إبليس على مذهبهم مؤمن، ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الأعراف: 16]، ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83]؛ إذًا إبليس يعرف ربه، فرعون يكون عندهم مؤمنًا؛ لأنه يعرف ربه، كما قال الله جل وعلا في سورة النمل: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، وفي سورة سبحان، سورة الإسراء في آخرها، يقول الله عن موسى عليه السلام: ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102]، فرعون علم أنه ما أنزلها إلا رب السموات والأرض بصائر، من فروع هذا المذهب الخبيث أن يكون أبو طالب مؤمنًا وليس بكافر، فكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوا كلام الله؛ لأن أبا طالب يعرف النبي ويعرف صدقه:
لقد علِموا أن ابنَنا لا مكذَّب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لدينا ولا يُعنَى بقول الأباطل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ثمال اليتامى عصمة للأرامل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تلوذ به الهلّاك من آل هاشم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فهم عنده في نعمة وفواضل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
من خير أديان البرية دينَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لولا الملامة أو حذار مسبة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لوجدتني سمحًا بذاك مبينَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ودعوتني وزعمت أنك ناصحي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولقد صدقت وكنت ثم أمينَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



هذا قول غلاة المرجئة، وهم الجهمية، الجهم عطَّل صفات الله، وأثبت أن الله موجود وجودًا مطلقًا، والوجود المطلق فقط في الذهن، إذًا يكون الجهم على مذهبه كافرًا؛ لأنه جهل ربه في أسمائه وصفاته، حتى في وجود الله جل وعلا، الصنف الثاني: الذين قالوا: الإيمان هو التصديق، التصديق يكون بالقلب، والكفر عندهم هو التكذيب الذي هو ضد التصديق، وهذا هو قول الأشاعرة، وقد شابهوا الجهمية في أصول في القدر، الجهمية جبرية، وهؤلاء عندهم الكسب، في الصفات: الجهمية نفوا الأسماء والصفات، وهؤلاء نفوا بعض الصفات، في باب الإيمان الجهمية قالوا: إن الإيمان هو المعرفة، وهؤلاء قالوا: إن الإيمان هو التصديق، فيكون الكفر عندهم بتكذيب القلب؛ ولهذا من حصر الكفر في التكذيب شابه في الحقيقة قول الأشاعرة، درى أم لم يدر، الأشاعرة عندهم الإيمان هو تصديق القلب، فإذا كذب القلب يكون كافرًا، وهذا ليس لدينا إليه سبيل، حتى يصرح به بلسانه ويستحله بلسانه؛ ولهذا ينتج عن قول الأشاعرة مذهب الإرجاء؛ ولهذا تجد من هؤلاء من عوامهم من إذا أمروا بالمعروف أو نهوا عن المنكر أو حملوا على الطاعات، أو حذروا من المعاصي قالوا: اتركونا، الإيمان في القلب، نحن نقول: لا إله إلا الله، هذا هو ثمرة هذا الأصل الفاسد في الإيمان، الطائفة الثالثة: هم الماتريدية، وهذا قول أبي منصور الماتريدي، أن الإيمان هو الاعتقاد بالقلب، والنطق باللسان ركن زائد ليس بأصلي، النطق باللسان لا بد منه، ولكن ليس عليه المعول، وهذا القول في حقيقته يرجع إلى قول الأشاعرة؛ ولهذا الأشاعرة والماتريدية يكادان أن يكونا واحدًا، إن كان في الصفات، وإن كان في مسائل الإيمان، الطائفة الرابعة: الذين قالوا: إن الإيمان هو النطق باللسان، من قال: لا إله إلا الله فهو مؤمن، وإن لم يصلِّ، وإن لم يصُمْ، وإن اعتقد الاعتقاد الباطل، لكن ما دام أنه نطق بلا إله إلا الله فهو مؤمن، وهذا قول الكرَّامية، عامة المرجئة، أتباع محمد بن كرام السجستاني ت255، وقولهم: إن الإيمان هو النطق فقط، وأقبح لوازم هذا القول أن يكون المنافقون مؤمنين، المنافقون يقولون: لا إله إلا الله، بل من أقبح لوازمه: أنه لو كان الإيمان مجرد النطق، لقال مشركو العرب: لا إله إلا الله، وسلموا من القتل والمهاجرة، والمنابذة والعداوة، وحفظوا دماءهم وأموالهم وكرامتهم، ولكن أولئك كانوا أعرف بالإيمان من هؤلاء؛ لأنهم عرفوا أنهم إذا نطقوا بالإيمان لا بد أن يعملوا به، ويعتقدوا موجبه، فكانوا بهذا الإيمان أعرف من هؤلاء الكرامية، الطائفة الخامسة: هم مرجئة الفقهاء، مرجئة الرأي، فقهاء العراق، الذين قالوا: إن الإيمان اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وباطلهم في أنهم أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، لكن هؤلاء إذا نظرنا إلى كتبهم الفقهية وتقريراتهم، نجدهم رتبوا على ترك العمل الجزاءات والعقوبات في الدنيا وفي الآخرة، وهذا وجه من قال من العلماء: إن الخلاف بيننا وبينهم خلاف لفظي، فقط في المسمى، أما في الحقيقة فلا، وشيخ الإسلام ابن تيمية في الإيمان الكبير، وفي الكيلانية، وفي بيان التلبيس وغيرها، حقق هذا القول، هل الخلاف بين مرجئة الفقهاء وأهل السنة خلاف لفظي صوري؟ أو خلاف حقيقي مؤثر؟ ففصل القول رحمه الله، فقال: إن الخلاف في أكثر أحواله وصوره لفظي، إلا إذا ترتب عليه مسائل، فإذا قال هؤلاء: لا يجوز الاستثناء في الإيمان، فالخلاف عندئذ يكون حقيقيًّا، إذا أخرجوا العمل عن أن يكون مؤثرًا في الإيمان زيادة أو نقصانًا، فالخلاف حقيقي، إذا قالوا: إن الإيمان ما يزيد بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي، فالخلاف والحالة هذه حقيقي، هذا هو ملخص المذاهب في مسألة الإيمان، وأهل السنة أجمعوا، كما حكى ذلك الإمام أحمد، وحكاه ابنه عبدالله، وحكاه الخلال، وحكاه محمد بن نصر المروزي، وحكاه ابن خزيمة، وابن بطة، واللالكائي، والآجري في الشريعة، وحكاه أيضًا ابن تيمية وابن القيم: أن الإيمان قول وعمل، قول باللسان، وقول بالقلب، وعمل بالجوارح، وعمل بالقلب؛ ولهذا فصل بأنه قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ينبني على خمسة أصول على التفصيل، أما عند الإجمال الذي نقل عن السلف أنه قول وعمل، قول اللسان، وقول القلب، قول القلب هو الاعتقاد، إيمانه بأسماء الله وصفاته، ووحدانيته وذاته، والعمل عمل القلب، مثل التوكل والخشية والإنابة، والخوف والرجاء، وعمل الجوارح كالصلاة والجهاد؛ ولهذا الله عز وجل يقول في الصلاة لما حولت القبلة: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]، ومعنى الإيمان هنا بإجماع العلماء هو الصلاة، فسمى الصلاة إيمانًا؛ لأن الصلاة إيمان، ودلائل هذا كثيرة، ولا أخرج عن المقصود، وأرجع إلى ما نحن فيه.







ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:41 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (7)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل





شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (7)

مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)

شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل





[خلق الإنسان].
فهو خالقه، وخالقه هو ربه، وربه هو الذي يجب أن يُعبَدَ وحده، ومن الظلم وأعظم الحيف أن يخلُقَ اللهُ، ويُعبَد غير الله؛ ولهذا جاء في الحديث القدسي المخرج في الصحيح: أن الله جل وعلا يقول: ((إني وابن آدم في شأن عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر غيري))، إذا كان الله هو خالقنا، إذًا هو ربنا، وإذا كان ربنا فهو الذي يجب أن يُعبَد، ويقصد ويرجى، وتتجه إليه القلوب والنيات والمقاصد والعزمات، لا تتجه إلى غيره، والظلم أن يخلق ربنا ويعبد غيره؛ ولهذا صار بهذه الحيثية الشرك: الظلم العظيم، قال لقمان الحكيم لابنه، في سورة لقمان، يقول الله جل وعلا: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، أعظم الظلم وأقبحه وأشنعه: الشرك؛ لأنه صرف حق الله لغيره، ولما نزل قول الله جل وعلا في الأنعام: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، استكثرها واستعظمها الصحابة، قالوا: يا رسول الله، وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشرًا لهم ولنا: ((ليس الظلم الذي تذهبون إليه، إنه ما قاله العبد الصالح))، يعني لقمان لما قال لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

[ويعلم ما توسوس به نفسه].
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، يعلم سبحانه ما يجول في خاطره قبل أن يتكلم، مجرد الخاطر، الخيال الذي يمر على ذهنك، ربك يعلم به، أعلى من الخاطر الوسواس، وهو ما يحيكه الإنسان في قلبه، أعظم من ذلك العزمات، وهو عزمه على فعل الشيء، طاعة أو معصية، هذه يعلمها الله جل وعلا، المؤمن إذا هم بالمعصية لم تكتب له حتى يفعلها، لكن أحيانًا تكتب له المعصية إذا عزم عليها، فالهم مرحلة دون العزم، يهم يعرض على خاطره على خياله أنه يعصي الله، إما ينظر إلى حرام، إما يشرب الخمر، إما يزني، إما يكذب، يهم بهذا، إذا عزم عليها كتبت له سيئة، ولو لم يعملها؛ لأن العزم ها هنا عمل قلب، فإذا ترك هذه المعصية لله، حولت هذه السيئة إلى حسنة، إلا في موضع واحد، أن الهم يحاسب الإنسان عليه في الحرم، في قول الله جل وعلا: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25]، توعد الله مريد الإلحاد والظلم في الحرم في مكة أنه يذيقه من عذاب أليم، يعلم سبحانه ما توسوس به الصدور، بل يعلم السر، السر في الصدر، في النفس، وأخفى؛ أي: وأخفى من السر.

[وهو أقرب إليه من حبل الوريد].
وهذا كما مر معنا في قوله: (الأول والآخر، والظاهر والباطن)، معنى الأول: الذي ليس لأوليته ابتداء، هو الأول الذي ليس قبله شيء، كما روى ذلك مسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والآخِر: الذي ليس لآخريته انقضاء، يعني: أنه الذي ليس بعده شيء، والظاهر: الذي ليس فوقه شيء، واسم الظاهر دالٌّ على وصف العلو له سبحانه، وهو الباطن: الذي ليس دونه شيء؛ أي: إنه قريب من خلقه، أقرب إليهم حتى من حبل الوريد، وحبل الوريد يتصل من القلب إلى أنحاء الجسم، فالله أقرب إلى عبده حتى من حبل الوريد، إذًا هذا هو معنى ما يقول بعض السلف من أن الله عند قلب كل إنسان وطرفه وإرادته، مأخوذ من قوله: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].

﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ ﴾ [الأنعام: 59].

آية الأنعام، ما تسقط من ورقة، أيًّا كانت هذه الورقة، وهي نكرة، ورقة ها هنا نكرة، وتشمل كل ورقة، صغيرة كانت أو كبيرة، إلا يعلمها، من أين سقطت؟ ومتى سقطت؟ وفي أي مكان سقطت؟

لاحظوا ورقة، وحبة، رطب، يابس، نكرات أم معارف؟ كلها نكرات، وتشمل كل ما يصدق عليه هذا الوصف.

[﴿ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59]].
إلا في كتاب مبين: كتابه سبحانه، وهو الذي كتبه، وهو اللوح المحفوظ، كتب فيه كل شيء مما يكون، من صغير أو كبير، من دقيق أو جليل، وكتابته سبحانه لأنه علمها، وهذا إشارة إلى مرتبتين عظيمتين من مراتب القدر، وهو أنه كل شيء يجري في كون الله علمه ربنا، ومع علمه له كتبه، في قول الله جل وعلا: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وهكذا هاتان المرتبتان انحرف فيهما غلاة القدرية وغلاة المعتزلة فأنكروهما؛ ولهذا قال الإمام أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي: "ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروه خصموا، وإن أنكروه كفروا"، إذا قالوا: إن الله ما يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، كفروا؛ لأنهم نسبوا الله إلى نقيصة، وهو الجهل، وإذا أقروا بأن الله يعلم، يقال لهم: أنتم أقررتم أن الله علم قدره، فكيف تنكرونه؟!

[(على العرش استوى)، وعلى الملك احتوى].
كل ملك فهو بيده سبحانه؛ فإن الله محتوٍ عليه بملكه وقدرته وإرادته، ولا يمكن أن ينفذ عنه أو يخرج عنه ملك لا يملكه؛ ولهذا من أسماء الله: الملك، يؤخذ من الاسم صفة أن له الملك، ومن القواعد في الأسماء والصفات: أن كل اسم من الأسماء الحسنى يؤخذ منه صفة من الصفات العلى، والعكس هل هو صحيح؟ هل نأخذ من الصفات أسماء؟ لا، الصفات لا يؤخذ منها أسماء، الله من صفاته أنه استوى على العرش، هل يقال: "من أسماء الله: المستوي"؟! لا، الله سبحانه ثبت أنه ينزل في الثلث الأخير من الليل، هل يقال: "من أسمائه النازل"؟! لا،الله من صفاته أنه يسخَرُ ممن يسخر بالمؤمنين، ويستهزئ بالمستهزئين، هل يقال: "من أسمائه: الساخر والمستهزئ"؟! أبدًا! إذًا القاعدة: أن الأسماء الحسنى يستفاد منها صفات، والصفات لا يؤخذ منها أسماء، وإنما الصفات تدل على الذات؛ لأنه لا يمكن أن توجد صفات بلا ذات، هل سمعتم أن ضحكًا يمشي بحاله؟! أو لونًا يمشي بحاله؟! أو غضبًا وحده؟! أو أنه لا بد أن الضحك في ضاحك، والغضب في غاضب، واللون في ملون، ولهذا هذه الصفات أعراض لا بد أن تقوم في موصوفات.

[(على العرش استوى)].
هذا تضمين أيضًا من آية طه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، وقد جاء ذكر الاستواء في القرآن في سبعة مواضع، في ستة مواضع منها يقول الله جل وعلا: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الأعراف: 54]، يذكر خلق السموات والأرض، ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الأعراف: 54]، أين؟ في الأعراف، وفي يونس، وفي الرعد، وفي الفرقان، وفي الم السجدة، وفي الحديد، هذه المواضع ستة، ذكر الله جل وعلا فيها أنه: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام، طه قال الله فيها: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، الذي منها أخذ الماتن هذا الاستدلال، (على العرش استوى) قدم المعمول على العامل، (على العرش) هذا المعمول، والعامل الفعل (استوى)، في المواضع الستة: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، ما معنى استوى؟ الاستواء: معلوم في لغة العرب معناه؛ أنه علوٌّ وارتفاع، وصعود واستقرار، هذه معاني الاستواء في لغة العرب؛ ولهذا يقول الناظم، وهو ابن القيم رحمه الله، عن السلف:
ولهم عبارات عليها أربعٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قد فُصِّلت للفارس الطعان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وهي استقر وقد علا وكذلك ارْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تفع الذي ما فيه من نكران https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكذاك قد صعد الذي هو رابع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأبو عبيدة صاحب الشيباني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يختار هذا القول في تفسيره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أدرى من الجهميِّ بالقرآن https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



"ولهم"؛ أي: للسلف، "عليها"؛ أي: على لفظة الاستواء،إذًا معاني الاستواء أربعة معانٍ تدور عليها، وهي علا، وارتفع، واستقر، وصعد، وتختلف هذه المعاني بحسب اختلاف التعديات، إذا تعدى الفعل بنفسه، "استوى الزرع"؛ أي: علا ونضج، "استوى إلى كذا"، ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 29]؛ أي: قصدها، فهذه المعاني الأربعة متباينة لمعنى الاستواء بحسب تعدياته وصلاته، إما يتعدى بنفسه، أو يتعدى بـ: "إلى"، أو يتعدى بحرف "على"، في السنة في حديث جابر وابن عمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج في سفر ووضع رجله في المغرز واستوى على دابته، قال: ((سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين))، ما معنى استوى على دابته؟ هي فوقه أم هو فوقها؟! هو علا عليها! الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، وهو حديث السفر المشهور، الإمام أبو عبدالله مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله، إمام المدينة، إمام دار الهجرة، دخل عليه رجل وهو يحدث أصحابه حديث النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فقال: يا أبا عبدالله، وهذه أولًا إساءة أدب؛ لأنه خاطبه بكنيته المجردة، وهكذا شأن أهل الأهواء، يزدرون ويحتقرون أهل العلم وأهل الأثر، قديمًا وحديثًا، قال: يا أبا عبدالله، ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، كيف استوى؟! الإمام مالك عالم وحبر، أدرك حقيقة السؤال، فحصل منه فعل لاستعظام هذا السؤال، أطرق برأسه، حتى تصبب عرقًا! وفي بعض الروايات حتى غشي عليه، وفي بعضها حتى علته الرحضاء؛ لأنه فهم سؤال هذا السائل، وهذا أمر قد ننتبه له فيمن يذم أهل العلم، أن: "أهل العلم ما يفقهون"! "شيبان"! "عميان"! "ما يعرفون فقه الواقع"! يريد أن يثلب ويذم العلماء، أهل العلم من أذكى الناس، لكن ذكاؤهم منضبط ومقهور بمخافة الله جل وعلا،علا الإمام مالكًا الرحضاء والغشي من هول هذا السؤال؛ لأنه سأل عماذا؟ "كيف استوى؟"، سأل عن الكيفية، فلما أفاق ورفع رأسه، قال رحمه الله الكلمة التي كتبت، وتكتب في صدور أهل السنة بمداد الذهب، وتلقيت بالرضا والقبول والاعتقاد لموجبها؛ لأنها كلمة جاءت عنه، وعن شيخه ربيعة بن عبدالرحمن، ربيعة الرأي، وجاءت عن أم سلمة أمنا أم المؤمنين رضي الله عنها، وهي عن مالك أثبت بأسانيد كالشمس، كما ذكر ذلك العلماء رحمهم الله، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا.

انظر إلى كلام العالم، مع اختصاره ووجازته وما عليه من المهابة والنور.

الاستواء معلوم، معلوم لمن؟ لهذا الجاهل أم لغيره؟ لغيره، لأهل اللغة، لأهل اللسان، للعرب يعرفون معناه، يعرفون معنى استوى؛ أي: علا، وارتفع، واستقر، وصعد.

والكيف مجهول، لا يعلمه منا أحد.

والإيمان به واجب، الإيمان بماذا؟ بالاستواء، واجب؛ أي: فرض؛ لأن الله ذكره لنفسه في سبعة مواضع، وذكره له النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة.


والسؤال عنه بدعة، عن أيش؟ عن الكيفية، بدعة ابتدعتها أنت وشاكلتك.
وما أراك إلا مبتدعًا، فأمر به رحمه الله فأخرج من المسجد تعزيرًا له وتأديبًا له ولأمثاله؛ لأنه مبتدع.

لاحظتم كيف أن هذا المعنى مشتمل؟ وهذا مالك الصغير، أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني يقول لكم ما قاله الإمام مالك: "(على العرش استوى)، وعلى الملك احتوى".



ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:42 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (8)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل






شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (8)

مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)

شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل




[وله الأسماء الحسنى].
أسماؤه حسنى، بلغت في الحسن كماله ومنتهاه، فالله جل وعلا يقول: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 8]، في آية طه، في آية الأعراف: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الأعراف: 180]، فادعوه بها، حسنى؛ أي: كاملة في حسنها وبهائها، وجمالها وكمالها، لا نقص فيها بوجه من الوجوه.

أسماء الله كم هي؟ أسماء الله لا يحصيها إلا الله جل وعلا، ما الدليل؟ حديث الغم المشهور، ((ما من مسلم يصيبه هم أو غم فيقول: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك..))، دل ذلك على أن أسماء الله غير محصورة، وأسماء الله كثيرة جدًّا، وكلما كثرت أسماء الشيء دلت على عظمه، تأملوا يا إخواني في القرآن، ألم يأتِ في أسماء يوم القيامة أسماء كثيرة حتى جاوزت الثلاثين اسمًا؟ لعظم هذا اليوم، النبي عليه الصلاة والسلام لما كان عظيمًا عند ربه، جليلًا بين خلقه، تنوعت وتعددت أسماؤه؛ فهو محمد، وأحمد، والماحي، والعاقب، والحاشر الذي يحشر الناس على قدمه صلى الله عليه وسلم، الله جل وعلا أعظم من كل عظيم، وأجل وأكبر من كل جليل وكبير؛ ولهذا لا حد لأسمائه الحسنى، لكن أعلمنا من أسمائه بكم؟ بتسعة وتسعين اسمًا، في الصحيحين من وجوه كثيرة، أخرجه البخاري في أكثر من اثني عشر موضعًا في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة)).

ما معنى أحصاها؟ وفي هذا يغلط كثير من الناس، يظن أن إحصاءها هو سردها: "الله، حي، عليم، قدير، سميع، بصير.."، ويبدأ يعدها، ليس هذا هو إحصاءها، معنى إحصائها يقوم على ثلاثة معانٍ، المعنى الأول: عدها من الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، ثانيًا من إحصائها: تفهم معانيها، يعرف أن معنى السميع غير معنى العظيم، ومعنى الكبير غير معنى الحليم، هذا لا يتأتى إلا بالعلم بها والبحث فيها، على طريقة الراسخين في العلم، المعنى الثالث من معاني إحصائها: التقرب إلى الله جل وعلا بها، التقرب إلى الله بالإيمان بها، بدعاء الله بها؛ ولهذا الله جل وعلا يحب من عبده أن يثني عليه بكمالاته، وأعظم كمالات الله أسماؤه سبحانه، في الحديث: ((ألظوا بـ: يا ذا الجلال والإكرام))، والحديث الذي رواه أهل السنن - بأسانيد صحيحة - أن رجلًا قال: (اللهم إني أشهد بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد، الفرد، الصمد، المنان، يا بديع السموات والأرض)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد دعا اللهَ باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب))، لماذا؟ لأنه ألظ وألح على الله بأسمائه الحسنى تقربًا وتوسلًا إلى الله بها، ومن المناسب في هذا المقام: أن يدعو الإنسان بما يناسب اسم الله، فإذا دعا برحمة ومغفرة، انتقى من أسماء الله المناسب، "يا رحيم، ارحمنا"، "يا غفور، اغفر لنا"، وإذا كان الدعاء دعاء انتقام أو انتصار، ينتقي من أسماء الله المناسب، "يا قوي، يا جبار، انتقم لنا"، "يا عزيز، يا ذا الانتقام، انتصر لنا ممن ظلمنا"، هل يناسب أن يقول: "اللهم، يا جبار، يا ذا الانتقام، اغفر لنا"؟! هذا غير مستحسن، والعكس صحيح أيضًا، لا يناسب أن يقول: "اللهم، يا رحيم، يا رحمن، اقصم ظهور الجبابرة والظلمة والكفرة"؛ لأن هذا غير مناسب مع أسماء الله جل وعلا.

[والصفات العلى].
إن صفاته عالية، في ذاتها، وفي معانيها، وفي اتصاف الله جل وعلا بها.

أجوبة أسئلة اليوم الثاني:
إن الله أقرب إليه من حبل الوريد بعلمه وإحاطته وإدراكه لحاله، والآية: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، تشتمل على معنيين متنوعين، (ونحن)، هي لله جل وعلا، وهو المعظم نفسه بلفظ الجمع، وهو واحد سبحانه؛ لعظمته، وتنوع أسمائه وصفاته، والمعنى الثاني: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ﴾؛ أي: الله جل وعلا، ومن شاء من رسله وجنده، والملائكة من جنده، والمعنيان متنوعان غير متضادين.

إي نعم، استوى إما أن تتعدى بنفسها، استوى الزرع، استوى على سوقه؛ أي: علا وارتفع، أنتم عندكم هنا في اللهجة الدارجة: فلان استوى، بمعنى أنه أتم أمره، واستوى على كذا؛ أي: علا عليه وارتفع عليه واستقر عليه، واستوى إلى السماء، استوى إليها؛ أي: قصدها، استوى إلى كذا؛ أي: قصده.

عالم الغيب والشهادة، يأتي مقيدًا، أما الذي من أسماء الله فهو العليم، أو علام الغيوب، أما العالم، فيجوز أن نطلقها على الله، لأنه عالم، من باب الخبر، لا من باب الوصف والتسمي.

كلهم حكوا: أن الإيمان مجمع عليه عند السلف أنه قول وعمل، وخصصنا هؤلاء؛ لأن الإمام أحمد له كتاب الإيمان، الذي هو السنة، وابنه عبدالله كذلك، والخَلَّال كذلك، ومحمد بن نصر المروزي الملقب بالشافعي الثاني له كتاب السنة، وتعظيم قدر الصلاة، يسمى بكتاب الإيمان.

يتسمى بـ: "الظاهر"؟ أسماء الله جل وعلا منها ما يجوز أن يتسمى به المخلوق؛ كالملك، والعزيز، والظاهر، ورؤوف، ورحيم، يجوز أن يسمى بها المخلوق؛ ولذا جاء في القرآن نسبتها وتسمية المخلوقين بها، ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [الكهف: 79]، ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ ﴾ [يوسف: 51]، في سورة براءة: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، هذه يجوز أن يتسمى بها المخلوق، لكن بشرط، أن تعرف أن الاسم ليس كالاسم، وليس المسمى كالمسمى،من أسماء الله ما لا يجوز أن يتسمى به المخلوق؛ كاسم الجلالة الله، هل يجوز تسمية المخلوق الله؟ لا يجوز ذلك، فإذا سمينا المخلوق بأنه ظاهر، أو ناصر، أو رؤوف، أو ملك، فهذا على قدره، وليس ملكه وظهوره ملكًا عامًّا كملك الله جل وعلا وظهوره.

قربه من خلقه عام، لكن هناك قرب خاص لأهل الإيمان، وهذا سيأتينا إن شاء الله في المعية؛ فالله من كل خلقه قريب، لكن المؤمن والصالح والتقي قرب الله منه يقتضي أمورًا أخرى، سيأتي بيانها إن شاء الله في مسألة المعية.

من باب الإخبار عن الله أنه مدبِّر.
.. في اللغة يعني، في لغة العرب، لا حصرها هنا في الذهن، في العلم، يسمى عندهم بالحصر العلمي، أو الحصر الذهني؛ أي: الذي أعلمنا منها تسعة وتسعون اسمًا، أما أسماؤه سبحانه وتعالى فهي لا تحصى؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((أو استأثرت به في علم الغيب عندك))، وإذا قلنا: إنها محصورة، دل على أن تسعًا وتسعين نعلمها، حتى ما استأثر الله بعلمه؟ هذا لا يكون، ولا يليق؛ ولهذا الحصر حصر علمي، أو حصر ذهني.

لا، ما فيها اختصاص، لكن لأنها من أظهر صفاته سبحانه، أنه سميع يدرك المسموعات كلها، وبصير يبصر المبصرات كلها.

كما أن الكعبة قبلة الصلاة......
(جاملها؟! إذا لماذا لا يجامل غيرها من الكفار؟! هذا تمحل في الجواب، وتحريف في كلام الله جل وعلا، نقول: إذا أقروا بأن الدعاء قبلته السماء، لم لم يكن قبلته السفل؟ لأن الله في السماء، وأما الصلاة فقِبلتها الكعبة؛ لأن الله جعلها قِبلة،وهذا الجواب من هؤلاء المتكلمين أو المتأولين يراد منه التمحل، وإساءة الظن حتى بالنبي عليه الصلاة والسلام، النبي يجامل في دين الله؟! إذا كان الله ليس في السماء كيف يجاملها ويكذب عليها؟! إذا ما نصح للأمة وما أبان! وحق على الله أنه ما بعث من نبي إلى أمة إلا دلهم على خير ما يعلمه لهم، وهذا قدح في النبي! بل وقدح في الله الذي مدح النبي بأنه بلغ بلاغًا مبينًا، وأنه أكمل البيان، عليه الصلاة والسلام، لكن الهوى شأنه عظيم!).

هذا تفويض، وسيأتينا أن التفويض معناه عدم العلم بمعاني الصفات، الذي يفوض ما هو؟ عِلمنا بمعانيها أو بكيفياتها؟ العلم بالكيفية، لكن إذا اشتبه على إنسان معنى صفة ولم يدرها، يقول: الله أعلم بها حتى يعلمها، ولا يجوز أن يتدين لله جل وعلا بعدم العلم بها، أو يتدين لله بتفويضها، إلا إذا كان جاهلًا، والجاهل يعلم، فالذي يُفوَّض: علمُ الكيفية.

كلها محكَمة، كل آيات الأسماء والصفات وآيات التوحيد محكَمة، ليس فيها متشابه، في بعض نصوص الصفات تشابه نسبي، يسمى عند العلماء بالتشابه الإضافي على بعض الناس دون بعض، لكن العلماء يدرونها، وهي محكَمة عندهم.

نهايتها، يعني: كمالها، بلغت من الحسن نهايته، يعني: كماله، كمال هذا الحسن،النهاية هنا: الحسن، لا يراد بها أن أسماء الله منتهية، ولكن فيه أن كمالها الذي وصفت به كمال منته.

ما الفائدة من هذا السؤال؟ ما الثمرة منه؟
الله جل وعلا لا يحاسب عبده بما علمه منه، وقدره عليه قدرًا كونيًّا، وإنما يحاسبه بما قدره عليه شرعًا، فلا يحاسبك الله بأنك ذكر، بأنك لم لم تصر أنثى؟! لأن الله قدر عليك هذا، لا يحاسبك الله بأن جعلك إنسانًا ولم يجعلك حمامًا أو صقرًا؛ لأن الله قدر عليك ذلك، وما علمه الله منك في الأزل على نوعين: علم بأنك تفعله، وعلم بأنك لا تفعله، فما فعلته تحاسب عليه؛ لأنه سبق في علم الله، وما لم تفعله لا تحاسب عليه؛ لأنه ليس من فعلك، وليس من اختيارك، فلا بد من هذا القيد.

الشريعة كلها آحاد، ما جاء التواتر إلا في أفراد منها، ولو قصرنا العمل والاعتقاد على ما جاء في المتواتر، ما صح لنا من ديننا شيء، والتفريق بين الآحاد والمتواتر إنما جاء من المعتزلة الذين أثروا به على المتكلمين وأمثالهم، وإلا فإن الصحابة رضي الله عنهم دانوا لله سبحانه وتعالى بما صح عندهم، الذين حولوا قبلتهم من الشام إلى الحرم، من الشمال إلى الجنوب، هل تواتر عندهم أم المخبر واحد؟ المخبر واحد، إذا هذه بدعة وفِرْيَة: التفريق بين المتواتر والآحاد، وعدها ابن القيم في الصواعق المرسلة طاغوتًا عول عليه المعطلة مذاهبهم: التفريق بين أخبار الآحاد، وأنها لا تفيد إلا الظن، وأخبار التواتر، وأنها تفيد اليقين، إذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنَّا به وأيقنا به وعملنا به، وهذا مقتضى الشهادة لنا بأنه رسول الله، وإلا ما معنى أن تشهد بأنه رسول الله إذا لم تصدقه في كل ما يخبر به، ثم تنتقي، هذا خبر آحاد أرده، وهذا متواتر آخذ به، نعم المتواتر آكد في الثبوت، ولكن لو صح الآحاد، ولو كان من طريق واحد، فإن هذا نعمل به، أصول الإسلام في أحاديث آحاد، حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، أليس هو حديثًا غريبًا في طبقاته الأربع، ولم ينتشر إلا عن يحيى بن سعيد الأنصاري؟! رواه عنه أربعمائة أو مائتان من الرواة، وما قبله يرويه كل واحد عن واحد، فهو آحاد، وهذا انبنى عليه الإسلام كله، فهو حديث أصل في هذا الدين.

هذا مذهب متأخري المتكلمين من الأشاعرة، أن الاستواء عندهم هو الاستيلاء! أما متقدموهم، فيثبتون الاستواء، كما أثبته أبو الحسن الأشعري وأصحابه وتلاميذه، وابن الباقلاني، بأنه فعل يفعله الله في العرش، يسمى الاستواء، أما المتأخرون بعد الجويني فهم الذين حرفوا معنى هذا الاستواء إلى معنى الاستيلاء، فهذا قول متأخريهم.

جماعة التكفير والهجرة في الحقيقة هم خوارج في مسائل الذنوب والكبائر، في مسائل التكفير والذنوب والكبائر هم خوارج، وليسوا معتزلة، والتكفير والهجرة منهم قوم أهل توقف وتبيُّن، وهؤلاء يوجبون أن ينعزل المسلم عن المجتمعات الكافرة، عن الكفار، إن لم ينعزل بنفسه، ينعزل بإحساسه وشعوره، وهذا من آثار القول بالتكفير الذي هو مذهب أولئك الخوارج؛ ولهذا الخوارج يا إخوان ما انقرضوا، وإنما لا يزال لهم بقايا، حتى يكون آخرهم يتبع الدجال، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.

نعم، ثابتة عنه، قالها أبو طالب لما أدركهم الضنك والشدة في الشِّعب، وهي ثابتة عنه، وعدها العلماء من المعلقات، حق لها أن تكون من المعلقات؛ لقوة معانيها، وعظيم جرسها، وبراعة مضامينها:
لقد علِموا أنَّ ابنَنا لا مكذَّبٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لدينا ولا يُعنَى بقول الأباطل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأبيضَ يُستسقى الغَمامُ بوجهه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ثِمَالَ اليتامى عصمةً للأرامل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تلوذ به الهُلَّاك من آل هاشم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فهم عنده في نعمة وفواضل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



[الشيخ حفظه الله يستعبر في هذا الموضع].
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
تم بحمد الله إتمام تفريغ الشريط الثاني
في الاثنين السادس والعشرين من شهر الله الحرام ذي الحجة
لعام 1426 من هجرة المصطفى عليه وآله وصحبه الصلاة والسلام



ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:43 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (9)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل







شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (9)

مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)

شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل





بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:
[لم يزل بجميع صفاته وأسمائه].
معنى هذا أن صفات الله وأسماءه أزلية، الله متصف بهذه الصفات مسمى بهذه الأسماء من الأزل، لم يكن غير متصف بها ثم اتصف بها، كما قلنا في اسمه "الأول": إنه ليس قبله شيء، فقوله: لم يزل بجميع صفاته وأسمائه؛ أي: بأن الله جل وعلا متصف بها أزلًا وأبدًا، لا أنها حدثت بعد أن لم يكن متصفًا بها.

[تعالى أن تكون صفاته مخلوقةً، وأسماؤه محدثةً].
لأن المحدث هو الشيء الذي وصف به بعد أن لم يكن متصفًا به، وتعالى أن تكون صفاته مخلوقة؛ لأنه إذا كانت الصفات مخلوقة كان الله جل وعلا محلًّا للخلق، وكان الله في نفسه مخلوقًا! فالله ليس بمخلوق، وكذلك صفاته؛ لأن الصفة متعلقة بالموصوف، متعلقة بالذات، فكما أن ذاته سبحانه غير مخلوقة، كذلك صفاته غير مخلوقة.

[كلَّم موسى].
وهذا جاء في القرآن؛ قال الله جل وعلا: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، كلَّم من الأفعال المضعَّفة، على وزن فعل، وكلمه مرة بعد مرة عليه الصلاة والسلام، وقوله: تكليمًا تأكيد لهذا الفعل، وجاء أيضًا في موسى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ [الأعراف: 143]، وفي هذه الآية نكتة، وهي أن رجلًا من الجهمية المعتزلة في عهد عمرو بن العلاء، الإمام المشهور، قال: إن قوله تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى ﴾ [النساء: 164]، فجعل اللهَ مكلَّمًا، في موقع مفعول به،قال له الإمام: هب أننا قرأنا هذه القراءة على قولك، كيف تفعل بقول الله جل وعلا: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ [الأعراف: 143]؟! فخُصِم، وهذا يدل على جهل هؤلاء وعجمتهم في كلام الله جل وعلا.

[بكلامه الذي هو صفة ذاته].
الذي هو؛ أي: الكلام، صفة ذات الله جل وعلا، فذاته سبحانه وتعالى موصوفة بأنه متكلم، كلم الله موسى بصفة من صفاته، كلام خرج منه سبحانه.

[لا خلق من خلقه].
لا يعقل أن يكون الكلام الذي كلم الله به موسى من مخلوقات الله، وإلا هل يجوز أن يقول المخلوق هذا الكلام لموسى: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]؟! فدل على أن هذا الكلام الذي سمعه موسى هو كلام الله جل وعلا، وليس خلقًا من مخلوقاته، وأعظم ما حاول إفساده هؤلاء الجهمية والمعتزلة هو أن الله ليس متكلمًا، ولم يسمع موسى من الله كلامًا، وقالوا: إنما الكلام سمعه من الشجرة! أو من اللطيفة! أو من الملك! أو من الهواء! أيعقل أن تقول الشجرة أو اللطيفة أو الهواء أو الملك: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]؟! هل يعقل هذا؟! هذا هو ما يجره الانحراف في التعطيل، فالبدعة تجر إلى بدع أخرى ولا بد، ولو أنهم آمنوا بأن الله كلمه بكلام يليق بجلاله، لَمَا كان في هذا ضير،قال بعض هؤلاء: إن معنى: (كلم الله)، من "الكلم"، وهو الجرح؛ أي: جرحه بمخالب الحكمة، وهذا تحريف للكلام عن معناه، فإن الله قال: (وكلَّم)، ولم يقل: "وكَلَمَ"، وإنما قال: (وكلَّم)، بالفعل المضعف، على وزن فعل؛ ولهذا احتاجوا لأن يلووا أعناق الأدلة، ويحرفوا لفظها من (كلَّم) إلى "كَلَمَ"، وهذا تحريف آخر من مناحي تحريفهم لهؤلاء.

وموسى عليه الصلاة والسلام خُصَّ من بين أنبياء الله بأنه كليم الرحمن، خصه الله بهذا الفضل، أما غيره من الأنبياء والرسل كان كلام الله إليهم بواسطة الملك جبرائيل، وهذه الخصيصة كانت لمن لغير موسى؟ لنبينا صلى الله عليه وسلم، متى؟ لما عرج به إلى السماء، فإنه بلغ صلى الله عليه وسلم من العلو حتى جاز سدرة المنتهى، وغشيه من ألوانها ما غشيه، حتى بلغ الجبار جل وعلا وهو على عرشه، فكلمه ربه من غير ترجمان ومن غير واسطة، كلم ربُّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم من غير واسطة، ففرض عليه الصلوات الخمس، كلمه من غير رؤية، انتبه لهذا يا طالب العلم، كلم الله نبيه من غير أن يرى النبي ربه؛ ولهذا لما سأل أبو ذر رضي الله عنه، والحديث في مسلم، قال: يا رسول الله، أرأيت ربك؟ قال: ((نور، أنَّى أراه))، وفي رواية قال: ((رأيت نورًا))، وهذا النور الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي جاء في حديث أبي موسى عند مسلم وغيره، قال: ((حجابه النور))، وفي رواية: ((حجابه النار))، (إذا كشفه أحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فهذا الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو نور الحجاب، ونور الحجاب مخلوق، وأما الله عز وجل فنوره، الذي هو صفة له، ليس بمخلوق، ولم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه،إذًا الكلام ثبت لاثنين من عباد الله، من خُلَّص رسله وأنبيائه، هما محمد وموسى، الخُلَّة لمن ثبتت؟ ثبتت لإبراهيم، وثبتت أيضًا لمحمد صلى الله عليه وسلم، إذًا جمع الله لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ما تفرق من الخصائص والفضائل في الأنبياء غيره؛ فهو كليم الرحمن، كما أن موسى كليم الرحمن، وهو خليل الرحمن، كما أن إبراهيم خليل الرحمن، عليهم الصلاة والسلام.

[وتجلى للجبل فصار دكًّا من جلاله].
تجلى الله جل وعلا للجبل، فصار الجبل دكًّا من تجلي الله سبحانه له؛ فإن الجبل اندك لعظمة الله وجلاله، وهذا كما في آية الأعراف، لما طلب موسى أن ينظر إلى الله: ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]، لاحظوا أيها الإخوة أن موسى طلب من الله أن ينظر إليه، وهذا هو كمال ما يتمنى أن ينتهي إليه المؤمن الذي آمن بالله، وآمن بصفاته وأسمائه، أن ينظر وتكتحل عيناه بربه الذي آمن به، ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143]، هل عاب اللهُ على موسى سؤاله؟ ما عاب عليه السؤال؛ لأن هذا السؤال لائق، لم يعِبْ عليه السؤال، ولو كان طلب رؤية الله غير لائق لعاب الله عليه سؤاله، كما عاب على نوح لما قال: ﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 45، 46]، لما سأل نوح نجاة ابنه، عاب الله عليه سؤاله، مع أن نوحًا أول الرسل، ومن أولي العزم منهم، لما سأل ما لا يحق له، ﴿ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46]، لِمَ لَمْ يعِبِ الله على موسى لما قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143]؟ لأن رؤية الله ممكنة، ومرغوبة، وغاية ما يتمناه من آمن بالله، إذًا ما المانع من رؤية الله؟ المانع ضعف موسى وأمثال موسى، قوانا في الدنيا لا تتحمل؛ ولهذا يوم القيامة يكمل الله جل وعلا قوى المؤمنين، فيتحملون رؤية الله، بل ويتلذذون بهذه الرؤية؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾ [الأعراف: 143]، الكلام كلام عربي فصيح، ولم يقل سبحانه: "لا أُرَى"، إنما قال سبحانه: ﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾ [الأعراف: 143]، و"لن": حرف نفي واستقبال، مؤقت، لا مؤبد، ذهب الزمخشري وذهب المعتزلة إلى أن "لن" للنفي المؤبد، وعاب عليهم علماء اللغة، حتى قال ابن مالك رحمه الله صاحب الألفية:
ومَن رأى النفيَ بـ: "لن" مؤبَّدَا ♦♦♦ فقولَهُ اردُدْ، وسواه فاعضُدَا

هل يعقل أن تكون لن للنفي المؤبد؟! القرآن يبطل ذلك، لو كانت لن للنفي المؤبد، لما جاز أن يحدد الفعل بعدها؛ قال الله جل وعلا عن أخي يوسف: ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يوسف: 80]، لو كانت "لن" للنفي المؤبد، هل يجوز أن يحدد الفعل بعدها؟! لا يجوز في بلاغة القرآن وبلاغة الكلام، إن كانت للنفي المؤبد لا يحدد الفعل بعدها، بل يبقى على تأبيده، ولكن هنا حدد الفعل، لن أبرح الأرض إلا بأمرين: إما أن يأذن أبوه أو يحكم الله له، وهو خير الحاكمين، من ذلك أيضًا قول الله جل وعلا عن الكفار في الموت: ﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ [البقرة: 95]، لاحظوا، قال: "لن يتمنوه"، وأكده بقوله: أبدًا، هل الكفار لا يتمنون الموت أبدًا، أو إذا ذاقوا النار وصلوها وجحيمها تمنوا الموت؟ ولهذا جاء في القرآن أن الكفار إذا ذاقوا يوم القيامة عذاب النار وصلوها: ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف: 77]، إذًا تمنوا الموت، فدل على أن "لن" ليست للنفي المؤبد، وإنما للنفي المؤقت، هذا وإن جاءت بلفظ "أبدًا"، كيف إذا جاءت من غير تأبيد؟!

﴿ قَالَ لَنْ تَرَانِي ﴾ [الأعراف: 143]، وأراد الله أن يضرب لموسى المثل ولنا، بأن السبب في عدم رؤية الناس لله في الدنيا لضعفهم هم، لا يتحملون! قال: ﴿ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ [الأعراف: 143] الأشم الأصم، فإن تحمَّل الجبل رؤيتي، قد تتحمل أنت العبد الأضعف منه رؤيتي، فإذا لم يتحملها الأعلى، فالأدنى من باب أولى، ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ [الأعراف: 143]، ماذا حصل للجبل؟ الجبل الأصم الأشم الصُّلب، لما تجلى الله له، اندكَّ لجلال الله وعظمته، ما تحمل، هذا وهو أصم أشم، كيف موسى؟ من باب أولى، وموسى لما اندك الجبل غشي عليه، وهو الشديد القوي، ولهذا لما اقتتل الفرعوني مع الإسرائيلي، استنصر الإسرائيلي بموسى، فأتى موسى يريد أن يفصل بينهما، فدفع الفرعوني على صدره، ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ [القصص: 15]! من قوته، موسى ما أراد قتله، عليه الصلاة والسلام، ولكن أراد دفعه وتأخيره، فقضى عليه لقوته، فإذا كان موسى عليه الصلاة والسلام غشي عليه من اندكاك الجبل، لو كان غير موسى، لطار قلبه من جسده وبدنه! فدل ذلك على أن رؤية الله جل وعلا غير ممكنة؛ لضعف فينا، لا لخفاء في المرئي، لعجز فينا، لا لعيب في المرئي سبحانه وتعالى،كالشمس، من منكم يستطيع أن يراها في رابعة النهار؟ ما أحد يستطيع إلا أن يضع أمامه مرايات ومكبرات "مناظر حاجبة للضوء"؛ لأنه ما يتحمل، الشمس خافية أم ظاهرة؟! إذا كان هذا في مخلوق، فالخالق من باب أولى، إذًا لا يرى أحد منا الله في الدنيا؛ لعظمة الله التي لا نستطيع أن نتحملها، ولا نستطيع أن نتلذذ بها، في يوم القيامة يكمل الله للمؤمنين أبصارهم، فيتحملون، بل ويتلذذون ويتنعمون، ويتباهون ويتناظرون لرؤية وجهه سبحانه وتعالى.


وفي الآية ملحظ لطيف، لما جاز أن يتجلى الله للجبل، الذي هو جبل جماد أصم أشم لا ثواب له ولا عقاب، فلأن يتجلى الله جل وعلا لأوليائه، الذين لهم ثواب يثيبهم عليه، وجزاء يجازيهم به، فمن باب أولى، فدل تجلي الله للجبل في الدنيا على أنه يتجلى سبحانه لمن لهم ثواب يوم القيامة،وهذه معانٍ عظيمة يا أيها الإخوة لمن تأملها.

[فصار دكًّا من جلاله]؛ أي من جلال الله وعظمته وكماله سبحانه، ما تحمل هذا الجبل.







ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:43 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (10)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل




مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)


[وأن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد].
لاحظوا هذا القول الذي قاله ابن أبي زيد رحمه الله، ما زال أهل السنة يقولونه إلى هذا الزمان.

مثل قول الطحاوي رحمه الله: "وأن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق ككلام البرية، منه بدأ بلا كيفية قولًا، وأنزله على رسوله وحيًّا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًّا، وأيقنوا أنه كلام الله على الحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البشر، فمن سمعه فزعم أنه مخلوق فقد كفر، وذمَّه الله وعابه وأوعده سقَرَ؛ حيث قال: ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ [المدثر: 26]"،هذا الكلام متفق، الطحاوي في مصر، وهذا في تونس، كلام أهل السنة واحد في زمانهم، وواحد في اختلاف أماكنهم.

[كلام الله، ليس بمخلوق] لماذا أضافوا هذا القيد؟ كلام الله؛ لأنه صفة من صفاته؛ كقولنا: سمع الله، وبصر الله، وعلم الله، وحياة الله، المضافات إلى الله نوعان: معانٍ، مثل: كلام الله، أضفت المعنى إلى الله، إذًا هو صفة من صفاته؛ ككلام الله، وسمع الله، وبصر الله، وعلم الله، وقوة الله، هل هذه مخلوقة؟ لا، إذًا المعاني إذا أضيفت إلى الله فهي إضافة صفة إلى موصوف، النوع الثاني: أعيان؛ كقولنا: ناقة الله، ﴿ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴾ [الشمس: 13]، وكبيت الله، هذه أعيان، إذا أضفنا الأعيان إلى الله، فتكون إضافة مخلوق، هذا المسجد بيت الله، الكعبة: بيت الله، ﴿ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴾، الأرض ملك الله: أرض الله، فهي إضافة أعيان، إذا أضيفت إلى الله فهي إضافة مخلوقات.

وهنا غلط المعتزلة وأمثالهم لما قالوا: إن الكلام لما أضيف إلى الله دل على أنه مخلوق، فنقول لهم: المضاف إلى الله نوعان، أعيان ومعانٍ؛ فالأعيان مخلوقة، وليس الكلام منها، والمعاني المضافة إليه صفاته، والكلام منها.
[كلام الله]، أضاف أهل السنة هذا القيد ردًّا على المعتزلة والجهمية والمتكلمين الذين قالوا: بالكلام النفساني.
[ليس بمخلوق فيبيد]، ما معنى فيبيد؟ أي: يزول.

[ولا صفة لمخلوق فينفد]؛ أي: فينتهي؛ ولهذا كلام الله لا ينتهي، ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ﴾ [لقمان: 27]، إذا كان هذا في كلام الله أنه لا ينفد، كلام المخلوق ينفد وينتهي ويعجز، لكن كلام الله جل وعلا لا ينفد، لا ينتهي، لا يعجز سبحانه وتعالى.

إذًا هو صفة الخالق، فكلامه سبحانه لا ينفَد، وكلامه لا يبيد؛ ولهذا يا أيها الإخوة القرآن أنزله الله كلامًا، فإذا استغنى عنه الناس في آخر الزمان، لباطلهم وفسادهم، وهجرانهم لكلام الله، رجع الكلام إلى صاحبه المتكلم به، وأهل السنة يقولون في هذا الباب: وأن القرآن كلام الله، منه بدا، "بدا" بالألف من البدو والظهور؛ أي: إنه خرج من الله، وفي بعض العبارات: منه بدأ، بالهمزة؛ أي: ابتدأ الله كلامه، منه بدا بلا كيفية، وإليه يعود، في آخر الزمان إذا استغنى الناس عن القرآن، بلا كيفية؛ أي: لا نعلم كيفية تكلم الله بالقرآن، ولا كيفية تكلمه بكلامه، لا نعلم كيفية ذلك.

[والإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا، ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه، فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به، ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]].


هذا عطف من المؤلف على مسألة أخرى، وهي القضاء والقدر، الذي هو الركن السادس من أركان الإيمان، كما جاء في حديث جبرائيل المشهور، المخرج في الصحيحين، أخرجه مسلم مطولًا، وأخرجه البخاري مختصرًا، واتفقا على قدر ما يتعلق بالإيمان، فإن جبرائيل سأل النبي عليهما الصلاة والسلام عن الإيمان، فقال: ((الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، وفي رواية: ((حُلْوه ومُره من الله تعالى))؛ فالإيمان بالقضاء والقدر أصل من أصول الإيمان، لا يصح الإيمان إلا به، في آية الإيمان في البقرة ذكر الله خمسة أصول، في قول الله جل وعلا: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ... ﴾ [البقرة: 177] الآية، أين القدر ما ذكره؟ ولهذا أصول الإيمان عند الإجمال خمسة، وعند التفصيل ستة، لم يذكر الإيمان بالقدر لنكتة، النكتة التي لأجلها عطف الفعل مع القدر خصوصًا في حديث جبريل، لما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، قال: (الإيمان أن تؤمن)، وضع خطًّا تحت كلمة: "تؤمن"، (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، قال: (وتؤمن بالقدر)، لماذا لم يكرر الفعل إلا مع القدر خاصة، لِمَ لَمْ يكرره مع الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر؟ كرره مع القدر خاصة لعدة اعتبارات، أهمها: أن الإيمان بالقدر من الإيمان بالله؛ لأن القدر قدر مَن؟ قدر الله جل وعلا، ولأن الإيمان بالقدر هو المعيار، وهو الميزان لمقدار إيمان العبد بربه، إذا أردت أن تعرف مقدار إيمانك بالله، فانظر إلى مقدار إيمانك بأقدار الله، لا سيما عند وقوع المصائب والحوادث، فإن مقدار الإيمان بالله معياره وميزانه إيمانك بقدره، وعطف الفعل مع القدر.. لأن القدر انحرف فيه طوائف عظيمة، قبل الإسلام وبعد الإسلام، انحرفوا في الإيمان بالقدر، الإيمان بالقضاء والقدر لا يصح، كما ذكر الشيخ رحمه الله، إلا بالإيمان بأصوله؛ أن المقادير بيد الله، ومصدرها عن قضائه.

وأشار هنا إلى مرتبة من مراتب القدر، والقدر له أربع مراتب، بل خمسة على الإضافة والتفصيل، أربعة بالإجماع، المرتبة الأولى: أن علم الله سابق لكل شيء مقدر قبل وقوعه، فسبق علم الله كل شيء مقدر قبل وقوعه، كما ذكر الشيخ رحمه الله، [علم كل شيء قبل كونه، فجرى على قدره...]، إذًا علم الله سابق لكل شيء قبل وقوعه، قبل أن يقع بمدة طويلة علمه الله جل وعلا، المرتبة الثانية: أن الله كتب هذا المقدر في كتاب عنده في اللوح المحفوظ، الدليل على هاتين المرتبتين قول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الحج: 70]، وما بمعنى الذي، اسم موصول، فتشمل العموم، وهي من ألفاظ العموم، كما عرف في موضعه في اللغة وفي الأصول، ﴿ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، الشيخ استدل بآية الملك، قال: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]؛ أي: الذي خلق، فكل شيء وقع في قدر الله علمه الله جل وعلا، سبق به علمه، وسبق به كتابته، هاتان المرتبتان نفاهما غلاة القدرية، غلاة المعتزلة، فكفروا بذلك؛ ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ناظروا القدرية بالعلم"، القدرية: نفاة القدر، الذين قالوا: إن الله ما قدر المقادير، غلاتهم قالوا: إن الله ما علم المقادير! ولا كتبها! فضلًا عن أن يقدرها! قال رحمه الله: "ناظروا القدرية بالعلم"؛ أي: بعلم الله، هل علم الأشياء قبل وقوعها أو ما علم؟ "فإن أقروا به"، أقروا بالعلم، "خُصِموا"؛ لأن الله علم ما يكون في خلقه من المقادير، "وإن جحدوه"، أنكروا العلم، "كفروا"؛ لأنهم وصفوا الله بضد العلم، وهو: الجهل! "ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خُصِموا، وإن أنكروه كفروا"،المرتبة الثالثة من مراتب القدر: مرتبة الخَلْق، فكل شيء مقدر فالله خالق له؛ لأن الله خالق الإنسان وصنعته، وجاء في صحيح مسلم: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله خالق كل صانع وصنعته))، كل شيء مقدر أن يكون فإن الله خالق له، ودليله من القرآن عموم قول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الرعد: 16]، في غير ما آية، في الأنعام: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102]، المرتبة الرابعة: مرتبة المشيئة، فكل شيء يجري في خلق الله وقدره، فإن الله شاءه وأراده، ودليل ذلك من القرآن: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الإنسان: 30]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29]، فكل ما يجري في الكون فقد شاءه الله، وإلا فهل يعقل لهذا الملك العظيم الجليل القدير أن يقع في ملكه شيء ما شاءه ولا أراده؟! هذا عجز له! تعالى الله عن ذلك علوًّا عظيمًا، وهاتان المرتبتان أنكرهما عامة المعتزلة، وأقروا بالعلم والكتابة، إذًا القدرية المعتزلة إحدى الطائفتين المنحرفتين في هذا الباب غلاتهم أنكروا الأربعة جميعًا، أنكروا علم الله، وكتابته، وخلقه، ومشيئته، فكفروا بذلك، كما قال الشافعي رحمه الله، وعامتهم أقروا بالعلم والكتابة، وأنكروا الخلق والمشيئة، وهذا رد لِمَا جاء في الشريعة، ورد للأدلة الكثيرة الدالة على أن الله خالق كل شيء، وأن الله له المشيئة العامة، المشيئة الكاملة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم: ((القدرية مجوس هذه الأمة، إذا مرضوا فلا تعودوهم، وإذا ماتوا فلا تشيعوهم))، لماذا وصف القدرية بأنهم مجوس هذه الأمة وهم نفاة الخلق والمشيئة؟! لأن المجوس، عبَّادَ النار، أثبتوا للكون خالقَيْنِ، النور يخلق الخير، والظلمة تخلق الشر، وهؤلاء القدرية أثبتوا خالِقِينَ كثيرين مع الله، قالوا: كل إنسان يخلق فعل نفسه، فجعلوا الإنسان خالقًا لفعل نفسه، وليس لله جل وعلا إرادة ولا خلق لفعله، فأثبتوا خالقين مع الله! فمن هذا الاعتبار، ومن هذه الحيثية شبهوا بالمجوس، فقال: (القدرية مجوس هذه الأمة)، إذًا هذه أربع مراتب من مراتب القدر، وينضاف إلى ذلك: وأن العباد مخيرون في أفعالهم، غير مجبرين عليها، وهذا أمر لا بد أن نفهمه؛ لتنحل كثير من الإشكالات، العباد مخيرون في أفعالهم، غير مجبرين عليها، أفعال العباد في الحقيقة على نوعين، أفعال اضطرارية، مثل دقات القلب، هل يتحكم أحدكم فيها؟ رمش العين، جريان الدم في العروق، هل تتحكم فيه؟ المرتعش إذا أصيب بمرض الرعاش، هل يتحكم في نفسه؟ فإذا هذه الحركات الاضطرارية لم يترتب عليها في ديننا ثواب ولا عقاب؛ لأن الإنسان لا اختيار له فيها.

النوع الثاني: الأفعال الاختيارية، يفعلها الإنسان بمحض اختياره، ومحض إرادته، كشُربه وأكله، كمشيه وقعوده وقيامه، هذا يترتب عليه الثواب والعقاب، صلاتك تفعلها مضطرًّا أم مختارًا؟ مختارًا: فتثاب، فإن لم تفعلها مختارًا: تعاقب، ومعرض للعقوبة، السرقة، إذا سرق أو زنى أو شرب الخمر، يفعل هذا الفعل مضطرًّا أم مختارًا؟ مختارًا، ولا يفعلها وهو مضطر؛ ولهذا ترتب على هذا الفعل الاختياري الثواب والعقاب، وهنا سؤال يرد: هل الإنسان مخير أو مسير؟ وما أكثر ما نسمع هذا السؤال! من يجيبنا عليه؟ لا، لا، لا، لا، لا، لا، فهم السؤال نصف الإجابة، وأنتم أتيتم بالسؤال من آخره، لو أنكم فهمتم السؤال ما تعجلتم هذه العجلة،هذا السؤال من حيث هو: بدعي، هذا السؤال محدَث لا معنى له، هذا السؤال الذي يسأل ويطرح سؤال بدعي لا معنى له، إلا الاعتراض على القدر، إذًا هذا أول جواب نجيب به على هذا السؤال: أنه سؤال بدعي لا معنى له، إذن أما وقد سئل، ما الجواب عليه؟ الآن أجيبوا،هل الإنسان مخير أو مسير، ولم؟ المسألة ما هي بـ "شختك بختك"، المسألة لا بد أن يكون مبناها على علم، تفضل، مخير؟ خطأ، خطأ، الجواب على هذا أن نقول: إن العبد بالنظر إلى قضاء الله الذي قضاه عليه فهو مسير، بمعنى أنه لا يخرج بفعله مهما كان عن قضاء الله وقدره، ودليله: ((اعملوا، فكل ميسَّر لما خلق له))، قال: (كل ميسَّر)، ما هو بـ "مسير"! فهو باعتبار قضاء الله وقدره هو مسير، بمعنى أنه لن يخرج عن قدر الله مهما فعل، وباعتبار فعله وإرادته واختياره، هو مخير؛ لأنه أُبِين له طريق الخير، وحبب إليه ورغب إليه، ليسلكه، وأبين له طريق الشر وحذر منه ليحذره، فترك له الاختيار، فبهذا الاعتبار هو ماذا؟ هو مخير، إذًا بالاعتبار الكوني مسير، بالاعتبار الشرعي هو مخير؛ ولهذا قسم الله إرادة الناس في القرآن على نوعين: إرادة عامة، كونية، شاملة، قدرية، وهذه لا بد أن تقع وتنفذ، فإذا جاءت كلمة الإرادة في القرآن، إرادة الله بمعنى: يقدر، فهي الإرادة الكونية، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، هذه إرادة شرعية، ليست كونية، الشرعية تسمى إرادة دينية، تسمى إرادة خاصة، تسمى إرادة أمرية، يترتب عليها الأمر والنهي، هذه الإرادة بمعنى يحب، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، احذف كلمة يريد، وضع بدلها يقدر، أو يحب، أيهما المناسب لها؟ يحب، فهي إرادة دينية؛ لأن الإرادة الدينية تأتي منفية، ولأن الإرادة الكونية لا تأتي منفية، دائمًا مثبتة، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: 107]، لِما يحب أو لِما يقدر؟ لما يقدر، فالله يفعل ما يقدر بما يحب وما لا يحب، يفعله سبحانه، ظهر لكم الفرق بين الإرادتين؟ والكلام في الفروق بينها كثير، ولكن نحن في عجالة الآن، ألخص هذا: الإرادة الدينية تأتي في القرآن بمعنى يحب، والإرادة الكونية تأتي بمعنى يقدر، الإرادة الدينية خاصة في أوامر الله الشرعية ومحبوباته، والإرادة الكونية خاصة في أفعاله سبحانه، مما يحب ومما لا يحب سبحانه، الإرادة الدينية تأتي منفية وتأتي مثبتة، الإرادة الكونية لا تأتي إلا مثبتة، الإرادة الدينية قد تتحقق وقد لا تتحقق، يريد الله الإيمان من الكافر، وقد يؤمن، وقد لا يؤمن، يريد الطاعة من العبد، وقد يطيع وقد يعصي، وأما الإرادة الكونية فلا بد أن تتحقق، أراد الله عز وجل أن الشمس تطلع من المشرق، وتغرب في المغرب، لا بد أن يتحقق ذلك، حتى يأتي أمره سبحانه فتخرج من حيث غربت، هذا ملخص ما يتعلق بمسائل القضاء والقدر على سبيل الإجمال.







ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:44 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (11)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل





مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"

تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)


[يضل من يشاء فيخذله بعدله].
يُضِلُّ الله جل وعلا من يشاء، فيبتليه بعدله، كما قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته: "يضل من يشاء فيخذل ويبتلي عدلًا، ويهدي من يشاء ويعطي فضلًا"، فالذين أضلهم الله، هل ظلمهم الله بذلك؟ لم يظلمهم؛ لأنهم في ملكه، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، فهو سبحانه لما أضلهم، أضلهم وهو عادل لهم، ليس جائرًا عليهم ولا ظالمًا لهم، ويهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلًا منه، يتفضل عليهم بالهداية، يتفضل عليهم بالعصمة، يتفضل عليهم بالتوفيق سبحانه وتعالى، وهذا من خصائصه سبحانه في نفسه؛ ولهذا من وفق، فليعلم أنه نال التوفيق بفضل الله، لا بجهده؛ ولهذا في الحديث في الصحيحين: ((واعلموا أنه لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله))؛ أي: بعوض عمله، مقابل عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته))؛ لأنه سبقت له من الله الحسنى، وتفضل الله عليه، ولهذا يا إخواني، الهداية يسألها المؤمن دائمًا من الله؛ لأن الله هو المتفضل بها، والهداية هدايتان، إحداهما خاصة بالله جل وعلا، وهي هداية التوفيق والإلهام، ليست لأحد، وهي المَعنيَّة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]؛ أي: هداية توفيق له لهذا الدين، بتوحيده والإيمان به، وإلهام له بأن يتبع الحق، ويترك الباطل، النوع الثاني: هداية الدلالة والإرشاد، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين، وظيفة الدعاة، وظيفة العلماء، الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، وظيفتهم الدلالة والإرشاد، والنصح؛ ولهذا هذه الهداية مثبتة للعالمين، وهداية التوفيق والإلهام منفية، الله جل وعلا ييسر كلًّا لِما خُلق له، وهذا هو تقديره الذي قدره على عباده قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، لما أمر القلم أن يكتب في حديث عبادة رضي الله عنه: ((أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتُبْ، قال: ربِّ، وما أكتب؟ قال: اكتُبْ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة))، فجرى القلم بتعليم الله له، بما هو كائن إلى قيام الساعة، أخرج الحديث الإمام مسلم في صحيحه؛ ولهذا العباد المكلفون على نوعين، إما شقي بشقاوته بقدَر الله، أو سعيد بإسعاد الله له؛ ولهذا إذا كتب للإنسان تقديره العمري، والتقادير أربعة أنواع، التقدير الشامل، بالقلم الذي جرى بما هو كائن، هذا في اللوح المحفوظ، التقدير الثاني: التقدير العمري، وهو الذي يؤخذ من الشامل، بعمر كل إنسان وحده، إذا مضى عليه في رحم أمه أربعة أشهر، مائة وعشرون يومًا، بعث إليه ملك، وأمر بكتب أربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، كما دل عليه حديث ابن مسعود في الصحيحين،فيكتب: شقي أو سعيد؛ أي: بما قدر عليه كونًا وأزلًا في القدر الشامل، النوع الثالث: التقدير الحولي، السنوي، وهذا الذي يكون في ليلة القدر؛ كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الدخان في أولها: ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا ﴾ [الدخان: 1 - 4]؛ أي: في هذه الليلة، ﴿ يُفْرَقُ ﴾ [الدخان: 4]؛ أي: يفصل من اللوح المحفوظ، ﴿ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ﴾ [الدخان: 4، 5]، وهو التقدير الحولي السنوي؛ فإن الله تعالى ينزل في ليلة القدر ما يكون في السنة التي بعدها؛ ولهذا يدعو المؤمنون في هذه الليلة: "اللهم ما قسمت في هذه الليلة من خير، فاجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب"، هذا التقدير الحولي، النوع الرابع: التقدير اليومي، وهو الذي نوه عنه الله تعالى في آية الرحمن: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]، معنى ذلك...من حديث ابن عباس: (إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء، صفحاتها من ياقوتة حمراء، يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويفعل سبحانه فيه ما يشاؤه، كل يوم هو في شأن)، والآية رد على اليهود الذين قالوا: إن يوم السبت فيه استراح الله جل وعلا، فأكذبهم الله ورد عليهم وأبطل قولهم بقوله: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]، وهذا هو التقدير اليومي، يُعز فيه سبحانه في كل يوم من شاء، ويُذل من شاء، ويخلق من شاء، يميت من شاء، يحيي من شاء، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، سبحانه وتعالى.
ويهدي من يشاء، فيوفقه بفضله، فكل ميسَّر إلى ما سبق من علمه وقدره، من شقي أو سعيد.

[تعالى الله أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحد عنه غنًى، أو يكون خالق لشيء إلا هو، رب العباد، ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم،الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم].
هذا كلام محرر وجميل من المؤلف رحمه الله في القضاء والقدر.

قال: [تعالى]؛ أي: تنزه وتعاظم سبحانه، [أن يكون في ملكه ما لا يريد] كما تقوله القدرية، تقول: إن كفر الكافر ومعصية العاصي ما أرادها الله، إذًا هل يعقل أن يكون في ملك الله ما لا يريد، هذا دل على عجزه، تعالى ربي عن قولهم، ودل على ضعف ملكه، أن يقع في ملكه ما لا يريد، بل لا يكون في ملكه إلا ما أراده، إما كونًا، أو أراده شرعًا؛ ولهذا القدرية نفاة القدر عندهم هذا المبدأ، من أسلاف القدرية عمرو بن عُبيد المعتزلي البصري، قالوا: إن أعرابيًّا دخل عليه المسجد في البصرة، أعرابي جاهل بفطرته غلب الدعي في علمه، مع أن عمرو بن عبيد معروف بالعبادة، ولكن على غير هدى؛ لأنه انتحل هذا المذهب الخبيث، مذهب المعتزلة، الذي هو مذهب القدرية في باب القضاء والقدر، دخل هذا الأعرابي، وقد سرقت ناقته، فرأى الحلقة في المسجد، والشيخ شيخهم عمرو بن عبيد يدرسهم فيها، فأحسن به الظن، وقال: يا شيخ، ناقتي سرقت، فادعُ الله أن يرجعها إلي، يوم بحث عنها وعجز عن تحصيلها، اتجه إلى الصالحين، وظن فيه الصلاح؛ لأنه يدرس في المسجد، لعل الله أن يستجيب دعاءهم، فيعيدها إليه، عمرو بن عبيد حي أم ميت لما طلب منه الأعرابي هذا الدعاء؟ حي، إذا هذا ما هو بشرك، كما يفعله بعض الناس الآن، يذهبون إلى الأموات أو يقصدونهم، يا بدوي، يا مرسي، يا دسوقي، يا حسين، يا عباس، يا عبدالقادر، يا رسول الله، يا عيدروس، رد لي ضالتي، هنا دعا ميتًا، ودعا من لا يسمع، فكان في دعائه مشركًا، أما إذا سأل الدعاء من حي يظن فيه الصلاح، فليس هذا بشرك، قال: يا شيخ، إن ناقتي سرقت، فادع الله أن يعيدها إلي، أو أن ترجع إلي، فرفع عمرو بن عبيد يده، قال: اللهم إنك لم تقدر أن تسرق ناقته فسرقت، اللهم فأعدها عليه، فقال الأعرابي: صه، اسكت، بلسان أهل زماننا، "كُلْ تِبْن"، اسكت، أخشى أنه يقدر أن ترجع إلي ناقتي فلا ترجع؛ لأنه لم يقدر أن تسرق فسرقت، يقول: إذا الله لم يقدر أن تسرق ناقتي فسرقت، أخشى أن يقدر أن ترجع إلي فلا ترجع إلي؛ لأنه يقع في ملكه - على قولك - ما لا يريد! فكان هذا الأعرابي بفطرته أثبت وأصح إيمانًا واعتقادًا بالقدر من هذا الدعي الجاهل المبتدع في بدعته.

[أو يكون لأحد عنه غنًى]، ولا أحد مستغنٍ عن الله بفعله، ولا يمكن أن يفعل العبد فعلًا خارجًا عن تقدير الله، ولا بحاجته هو أن يكون مستغنيًا عن الله جل وعلا.

[أو يكون خالق لشيء إلا هو، رب العباد]، الرب هنا: الخالق، رب العباد؛ أي: خالق العباد، [ورب أعمالهم]؛ أي: خالق أعمالهم، وتأتي الرب في اللغة بمعنى الصاحب، كما قاله عبدالمطلب، لما أخذ أبرهة الحبشي إبل أهل مكة، قال: أنا رب الإبل؛ أي: أنا صاحبها، وللبيت رب يحميه، وكذلك حال الإنسان مع رقيقه، هو ربهم؛ أي: صاحبهم، أما الرب فغالبًا ما تأتي بمعنى الخالق.

[والمقدر لحركاتهم وآجالهم، الباعث الرسل]، هذا من إعمال اسم الفاعل على ما بعده، فاسم الفاعل كأننا أعملناه عمل فعله، بعث الرسل، [الباعث الرسل إليهم؛ لإقامة الحجة عليهم]، وهذا كما قال الله جل وعلا في آية النساء في آخرها: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165]، فهؤلاء الرسل بعثهم الله جل وعلا بالنِّذارة، بالبيان، بالهدى والدعوة، فمن أجابهم سلم ونجا، ومن كفر بهم ورد دعوتهم، هلك، فهؤلاء الرسل لإتمام إقامة الحجة من الله على عبيده بعدما قدر عليهم سبحانه أن الشياطين، شياطين الإنس وشياطين الجن، تضل هؤلاء العباد عن طريق هدى الله جل وعلا؛ ولذلك في الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: خلقتُ عبادي حنفاءَ، فاجتالتهم الشياطين))؛ ولهذا بعث الله النبيين والمرسلين مبشرين ومنذرين، بالبشارة والنِّذارة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.



ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:45 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (12)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل








[ثم ختم الرسالة والنِّذارة والنبوة بمحمد نبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم].
آخر الرسل وآخر الأنبياء الذين بعثهم الله برسالة منه ونِذارةٍ؛ لينذروا عباد الله إنسهم وجنهم، وبالنبوة: هو محمد عليه الصلاة والسلام، والأنبياء كثيرون، أولهم آدم، وأول الرسل نوح عليهما وعلى نبينا أكمل الصلاة والسلام، وآخرهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.

ما الفرق بين النبي والرسول؟ هل هناك فرق بينهما، الله عز وجل يقول: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾ [الحج: 52]، فعطف النبي على الرسول، وهذا العطف يدل على أن بينهما فرقًا، ويستأنس لهذا بما روي في أحاديث، حديث أبي ذر وغيره، عند ابن حبان وأحمد وغيرهم: ((الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل ثلاثمائة وبضعة عشر))، الحديث هذا فيه ضعف، ولكن يستأنس له بما جاء في القرآن، فثمة فرق بين الأنبياء والرسل، ولهذا أول الأنبياء آدم، وأول الرسل نوح عليهم الصلاة والسلام، إذًا ما الفرق بين النبي والرسول؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثمانية أقوال، أرجحها: أن النبي هو من بعث إلى قوم مؤمنين، بشريعة جديدة، أو بشريعة من كان قبله، آدم نبي أو رسول؟ نبي؛ لحديث رواه مسلم وغيره، لما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن آدم قال: ((آدم نبي مكلَّم))؛ أي: كلمه الله جل وعلا، بعث إلى زوجته وأبنائه وهم مؤمنون، بشريعة جديدة، إذن يحيى وزكريا أنبياء بشريعة موسى عليهم الصلاة والسلام، الرسول من بعث إلى قوم مخالفين ومؤمنين، إما بشريعة جديدة مثل نوح وإبراهيم ومحمد، أو بشريعة من قبلهم، مثل إسماعيل، ولوط وإسحاق ويوسف، فهؤلاء بعثوا بشريعة أبيهم إبراهيم، إذًا الرسول مَن بعث إلى قوم مخالفين وإلى مؤمنين أيضًا، إما بشريعة جديدة أو بشريعة من قبلهم، هذا هو أرجح ما يقال في الفرق بين النبي والرسول، الأنبياء في الجملة أفضلهم أولو العزم الخمسة الذين نوه الله عنهم في آيتين في الشورى وفي الأحزاب: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ هو محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]، هؤلاء الخمسة، وهم الذين نوه الله عنهم في سورة الأحزاب: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7]، فهؤلاء الخمسة هم أولو العزم، وسموا بأولي العزم، كما قال الله جل وعلا: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، أولو القوة والتحمُّل والصبر الشديد على ما لاقوا من أقوامهم، وهم نوح وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم جميعًا وآلهم وسلم، أولو العزم هم أفضل الأنبياء والرسل بإطلاق، أفضل أولي العزم الخليلان، وهما: إبراهيم وابنه محمد عليهما وآلهما الصلاة والسلام، وأفضل الخليلين: محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ فهو أفضل العالمين، أفضل ولد آدم، سيد الناس، عليه الصلاة والسلام، بعثه الله جل وعلا فجعله خاتم النبيين، آخرهم، كما جاء في آية الأحزاب: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40]، جعله الله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهذا تضمين من آية في القرآن، ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [الصف: 9]، وبعثه بشيرًا ونذيرًا، بالبشارة والنِّذارة، [وداعيا إلى الله بإذنه]، بإذن الله وأمره، [وسراجًا منيرًا]، وجعله سراجًا منيرًا للناس يدلّهم، فما هُدِيَ أحد بعد النبي إلا بسبب هذا النبي؛ ولهذا له عليه الصلاة والسلام أجر من تبعه واهتدى بهديه إلى يوم القيامة، وله علينا معروف، ومن معروفه علينا ومن حقه علينا أن نؤمن به، ومن ذلك أن نصلي ونسلم عليه؛ لأن صلاتنا وسلامنا عليه أداء لبعض حقه علينا، هو الداعي والدال لنا، والسراج الذي جعله الله جل وعلا لنا سراجًا منيرًا، يهدينا في دياجير الظلم، ظلم الشبهات والشكوك والكفر والمعاصي، سراج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو طريقه وسنته، وبيانه ودينه، هو السراج المنير لمن اتبع هديه واقتفى أثره عليه الصلاة والسلام، وهو آخر الأنبياء بالإجماع، وختم النبوة به عليه الصلاة والسلام دل عليه القرآن، في آية الأحزاب، ودل عليه السنَّة: ((أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي))، من حديث أنس وحديث ثوبان وأبي هريرة في الصحيحين: ((فضلت على الأنبياء بخمس))، وفي حديث ثوبان: ((فضلت على الأنبياء بست، كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا، فأي رجل من أمتي أدركته الصلاة، فمعه مسجده وطَهُوره، وأوتيت جوامع الكلم، وأُحلَّت لي الغنائم)) صلوات الله وسلامه عليه.

[وأنزل عليه كتابه الحكيم].
وهذا مما خص به النبي عليه الصلاة والسلام عن العالمين، أنزل الله عليه كتابه الحكيم، وهذا الكتاب الحكيم أنزل من الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد دل على إنزاله آيات كثيرة: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ﴾ [الزمر: 23]، في آية الفرقان: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]، ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، في سورة الشعراء في آخرها: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 193 – 195]، هذا المنزل هو القرآن الذي أنزله الله على رسوله.

[وشرح به دينه القويم].
شرح الله بالرسول صلى الله عليه وسلم، بسنته، بقوله، بهديه، بدلِّه، ودَلُّه هو فعله وأحواله وسيرته، شرح الله به دينه القويم؛ ولهذا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير فهو من دين الله جل وعلا، وهو القائل: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه))، والله جل وعلا يقول: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ ﴾ [الحشر: 7]، وما هنا عامة، موصولة، ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].

[وهدى به الصراط المستقيم].
وهدى الله بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، والباء هنا باء السببية؛ أي: بسبب الرسول صلى الله عليه وسلم هدى الله جل وعلا الناس إلى صراطه المستقيم، الصراط المستقيم ينوه عنه بآية الفاتحة: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، والصراط المستقيم: صراط الله جل وعلا، هدى الله إليه بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، وبعثه إليهم داعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، فلا هدى ولا استقامة إلا من جهة هذا الرسول وبطريق اتباعه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كما في حديث ابن مسعود: خط خطًّا طويلًا مستقيمًا، قال: ((هذا صراط الله))، وخط عن جنباته خطوطًا، وقال: ((هذه سُبُلٌ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه))، من أجابهم إليه قذفوه في النار، الصراط المستقيم الداعي إليه نبينا عليه الصلاة والسلام، وتلك السبل عليها دعاة من شياطين الإنس والجن، وهم المحدِثون المبتدعون، المخالفون لصراط النبي عليه الصلاة والسلام وطريقه ومنهاجه وسنته وهديه عليه الصلاة والسلام.



إجابة أسئلة اليوم الثالث:
ما هي الثمرة من هذا السؤال؟ هل هناك ثمرة وفائدة؟ ومن أجل هذا يا إخوان، طالب العلم لا يسأل سؤالًا إلا يعرف له فائدته، فإن خفيت عنه فائدته فلا يسأل، وليس كل ما ذكره العلماء من المسائل والبحوث يناسب أن يبحثها ويعتني بها طالب العلم، فطالب العلم لا يسأل إلا عما يفيده هو، وهذا السؤال عند التأمل لا فائدة منه ولا طائل تحته، هب أن القلم خلق قبل، أو اللوح خلق قبل، ما الذي يفيدنا؟ لكن نعرف ونوقن أن الله أجرى بما هو كائن في اللوح المحفوظ.

التقادير الأربعة، الشامل، وأخذ منه ثلاثة، العمري والحولي واليومي، هذه الثلاثة مأخوذة من الشامل، وحديث: ((من أحب أن ينسأ له في أجله، أو في أثره، ويبارك له في رزقه، أو يوسع له في رزقه، فليصل رحمه))، هذا في كلها، في الشامل وفي العمري وفي الحولي وفي اليومي؛ لأنه مرتب بعين هذا الإنسان، لكن سبق في علم الله، هل يصل أو لا يصل؟ حتى يتحقق له موعوده بذلك، أنت لا تدري، هل هذا ثابت لك أو ليس بثابت لك؛ ولهذا مأمور بأن تتخذ الأسباب، وفعلك مهما فعلته ومهما اخترته، فلن تخرج بحال من الأحوال عما كتبه الله عليك، وقدره وقضاه عليك.

ليس بمطلق، هذا قول ما هو بسديد؛ لأن الذي يجحد بأن الله يراه، حتى ولو لم يعصِ، يكون بهذا كافرًا.
هذا الكلام ما هو بدقيق؛ لأن العاصي إذا عصى الله لا يعصيه على أنه لا يراه، أو أنه لا يطلع عليه، ولكن لغلبة الهوى والشهوة في نفسه، أما إذا كان يعتقد بأن الله لا يراه، حتى لو لم يعص الله، ولو أنه في عبادة دائمة، كفر بذلك، لكن من أثر الإيمان بأسماء الله وصفاته أنها تحجز المؤمن عن المعاصي والذنوب، وإذا عصى اللهَ مؤمنٌ، فقد عصاه، لا لأن الله لا يطلع عليه، أو لا يسمع كلامه، أو لا يرى مكانه، ولكن لغلبة هواه ونفسه.

والله هذا جيد، ولكن أنا أحب أن يرجأ هذا الكلام حتى يأتي موضعه؛ لأن باب التكفير فيه مسائل أريد أن تنتبهوا لها بامتثال القواعد في هذا الباب، ومن ذلك إجابة على السؤال لأنك عجلت به، ولأن إكرام ذي الشيبة المسلم من صفات أهل الإيمان.

من كفرهم الله جل وعلا أو كفَّرهم رسوله على ثلاث مراحل، أو ثلاثة أحوال، هناك من كفرهم الله ورسوله عينًا، فهؤلاء نكفرهم عينًا ولا كرامة، أحد منكم يشك في كفر إبليس؟! أو فرعون أو أمية بن خلف؟ أو أبي جهل؟ أو عبدالعزى؟ أو أروى بنت حرب؟ من هي أروى بنت حرب؟ أم جميل، حمالة الحطب، هؤلاء نكفرهم ولا كرامة، لماذا؟ لأن الله في كتابه القرآن ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته سيد البيان، قد كفروهم وخلّدوهم في النار، إذًا من كفرهم الله ورسوله عينًا نكفره عينًا ولا كرامة، واضح هذا؟ ننتقل إلى مرحلة أخرى: من كفرهم الله ورسوله جنسًا، فكفر الله ورسوله جنس المشركين، جنس المجوس، جنس النصارى، جنس اليهود، هل نحكم بإسلامهم وقد كفرهم الله جنسًا؟ هل يقول مسلم عاقل: إن اليهود مسلمون؟ أو: إن النصارى مسلمون؟ أو: إن المجوس أو: إن المشركين مسلمون؟ هذا يرد على الله جل وعلا؛ لهذا من نواقض الإسلام، لمن حفظ منكم نواقض الإسلام، الناقض الثالث هو: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم؛ لأنه يعترض على الله الذي كفرهم جنسًا، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم الذي كفرهم جنسًا، المرحلة الثالثة أو النوع الثالث: من كفرهم الله ورسوله وصفًا، مثل المستهزئ بالله، وبرسوله وبدينه، من قام به وصف الاستهزاء، من كفره الله ورسوله وصفًا، لوصف الكفر الذي قام به، فهؤلاء نكفرهم، ولكن من يكفرهم؟ آحاد الناس؟ لا، لا يكفرهم إلا صنفان، إما القضاة الشرعيون الذين عندهم العلم، فيحكمون على هؤلاء أنهم كفار، بعدما يجتمع فيهم شروط التكفير... ولهذا في كتاب الحدود: باب حكم المرتد، باب حد المرتد، وهذا من يعرفه ويدريه؟ القاضي الشرعي الذي درس الفقه، فهذا هو الذي يقيم تكفير المعين بالوصف الذي كفره الله جل وعلا به، أو كفره رسوله صلى الله عليه وسلم، النوع الثاني: العلماء، المتحققون في علمهم، الذين عندهم علم بالتكفير وشروطه وموانعه وضوابطه وأحواله، هم الذين ينزلونه على المُعينين، أما المبتدئ أو الجاهل أو المتعالم أو المدعي العلم فليس هذا ميدانه؛ ولهذا يغلط في هذا الباب أكثر الناس يفسد ولا يصلح، وهذا تفسير قول أهل السنة: إن التكفير حكم محض، مرده إلى الله ورسوله، حكم خالص، مرده إلى الله ورسوله، ما مرده إلى أهوائنا وإلى شهواتنا وإلى كل من خالفنا، المبتدعة من مناهجهم أنهم يكفرون من خالفهم، أهل السنة: لا، عندهم عدل وإنصاف، لا يكفرون إلا من كفره الله ورسوله، إما عينًا، أو جنسًا، أو وصفًا، هذا خلاصة الموضوع، ولعل التتمة تأتي إن شاء الله في موضعها.

هذا فيما يتعلق بالتقدير العمري أو الحولي أو اليومي؛ لأن الله ذكر عن نفسه أنه يمحو ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب، فهذا من الإلحاح على الله بالدعاء، "اللهم إن كنت كتبتني شقيًّا، فاكتبني سعيدًا"، وهذا من الدعاء، مع بذل الوسائل والأسباب؛ لأن عمر رضي الله عنه وغير عمر لا يدري ما كتب الله له، لكن نحن نوقن الآن أن عمر كتبه الله مع السعداء، كما أخبرنا الله عن ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

لا، لا يقال: إن الله كلم هؤلاء؛ لأن الله كلم هؤلاء في غير حال الدنيا، فأما ملك الموت وملائكة الله، فحالهم وحياتهم غير حياتنا، كلم الله جبريل، كلم الله إسرافيل، كلم الله ملك الموت، يكلم من يشاء ممن لا ندري من خلقه، ولكن بالنسبة للعالمين المكلفين في الدنيا، فإن المكلمين منهم هم آدم وموسى ومحمد عليه الصلاة والسلام، عبدالله بن حرام رضي الله عنه كلمه الله في حال موته، في حال الموت، وهذا يغاير حالة الحياة.

الذي يقول: إني أخاف الله، ويعصي الله، فهو كاذب في قوله: إنه يخاف، عنده نوع خوف، وعنده كذب في هذا الخوف؛ لأنه لو خاف الله حقًّا ما عصاه، فأما أن يسكت لئلا يخالف قوله فعله فهذا له وجه حق، وهناك وجوه باطلة، فمسائل التكفير أنا ما أرى أن بابها الحكم عليها في الإطلاق فيما يقول هذا الخائف، ما كل خوف من المخلوق شركًا، أنت ما تخاف من الأسد؟ لو ندخل عليكم أسدًا في المسجد تخافون أم ما تخافون! ربما تطيرون في السماء، الخوف أنواع، وهذا يبدو أن قائله لم يدرِ التوحيد، لم يدرسه، هناك خوف طبيعي، هناك خوف جِبِلي، الإنسان يخاف من الظلام، يخاف من الحية، من العقرب، يخاف من السبع، يخاف من الظالم، هذا خوف طبيعي، إنما الخوف الذي هو شرك خوف السر، خوف القلب، أن تخاف من غير الله أن يضرك، كأن تخاف من مقبور، تخاف من أن يضرك في رزقك، هذا خوف الشرك، هو خوف السر، أما الخوف الطبيعي فقد وقع فيه أنبياء الله جل وعلا.

لا، هو مسير في القدر الكوني العام، لكن في إرادة الإنسان في نفسه: هو مخير، مخير في أن يحضر الدرس أو لا يحضر، مخير أن يعتمر اليوم أو لا يعتمر، فهو بالنسبة إلى فعله مخير، بالنسبة إلى قضاء الله وقدره العام هو مسير.

أعطني مثالًا على هذا وهذا، يعني يحتج بالقدر على المعايب، على معصية، حال عصيانه... لأن رجلًا في عهد عمر رضي الله عنه سرق، فجيء به إلى عمر، قال: (لم سرقت؟)، قال: قدر الله علي السرقة، قال: (وأنا أقطع يدك بقدر الله)، الاحتجاج بالقدر أثناء المعايب، أو على المعايب، هذا مذموم؛ لأن هذا هو فعل المشركين، ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ﴾ [الأنعام: 148]، ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 35]، وهذا هو قول الجبرية، والعجيب أن هؤلاء يستدلون بالقدر عند المعايب، دون المصالح، لو أن جبريًّا أو هذا الذي قال: "أنا قدر الله علي السرقة وشرب الخمر"صكه كف على وجهه، قل: "يا أخي، الله قدر علي أني أرفع يديَّ وأصفق"، هل يقبل؟ لا يقبل، أو أتاه أحد فأخذ ماله، سرق ماله وهو يرى، هل يقبل؟ لا يقبل، هذا تناقضه هو في نفسه، إذًا لا يصح الاستدلال بالقدر على المعايب، إذن إنسان عمل معصية، مثل أنه كان يشرب الدخان مثلًا، أو متهاونًا في الصلاة، أو كان يحلق لحيته، أو كان يؤذي النساء في الأسواق، ثم من الله عليه وتاب، وإذا ذكر بالمعصية، أو تذكرها هو قال: "هذا أمر قضاه الله، والحمد لله تبت"، الاستدلال بالقدر على أمر كان منه، وأقلع منه أمر سائغ؛ لأن آدم عليه الصلاة والسلام لما قال له موسى: (يا أبانا آدم، أنت أخرجتنا من الجنة بمعصيتك، قال: يا موسى، أتلومني على شيء قد قدره الله علي؟)، آدم تاب أم لم يتب من المعصية، تاب وانقضى، وموسى لامه على أمر وقع منه وتاب منه، قال صلى الله عليه وسلم: ((فحجَّ آدم موسى))؛ لأنه استدل بالقدر على مصيبة، ولم يستدل به على معيبة، والحديث في الصحيحين.

لا الأربع توقيفية، لكن ليست بالترتيب، ولكن رتبناها لنعرف من انحرف فيها عن الترتيب.

لا، الله ما كتب إلا بما علم، لما علم سبحانه كتب، أمر القلم بأن يكتب في الكتاب، وكتب القلم بما شاءه الله، وما شاءه الله هو الذي خلقه.
لا، لا، لا، ما يقال هذا، هذا ما له في الحقيقة معنى.

القرآن من صفات الله، ألسنا نعتقد أن القرآن كلام الله؟ إذًا هو من صفاته، يقسم به، أقسم بآيات الله، يقسم بالقرآن ويحلف بالقرآن، والذي لا يُقسَمُ به المخلوق، أما الله وأسماؤه وصفاته فيحلف به، ويقسم به.

تم بحمد الله تفريغ الشريط الثالث من الشرح في الثاني من شهر الله الحرام المحرم عام 1428 من هجرة سيد الخلق، محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.



ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:46 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (13)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل





فوائد قبل الدرس من الشريط الرابع:
العلماء قسموا القدرية إلى غلاة وعوام، من هم الغلاة وما حكمهم؟
هل أنكروا شيئًا غير العلم؟ الكتابة، هل أنكروا شيئًا غير الكتابة؟
أنكروا الأربعة كلها أيها الإخوان، غلاة القدرية أنكروا الأربعة كلها؛ ولهذا ناقشهم العلماء بمسألة العلم، إن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. عوام القدرية، ماذا أنكروا؟

يستطرد الشيخ: أنتم مخيرون بين أمرين، إما أن تحفظوا المتن ونعفيكم من السؤال، وإلا نسألكم ولا نعفيكم عن حفظ المتن، يعني فيكم فيكم، بهذا يبقى العلم، وإلا المعلومات مجرد ما نخرج من المسجد تطير عنكم، مجرد ما يأتي الأسبوع القادم نسيتم ما في هذا الأسبوع، العلم لا بد أن يحفظ، ولا بد يذاكر، وإلا ترى ما هو بباقي، أقولها نذارة يعني، العلم ما حواه الصدر، لا ما حواه القمطر، هذا أمر مهم، إذا أردت يا طالب العلم أن يبقى علمك، فاحفظ أصوله، وإذا حفظت أصوله، أتتك الأصول بتفاصيلها؛ ولهذا من أسباب بقاء العلم: حفظ المتن.

ومن أسباب بقاء العلم: المذاكرة والمراجعة، قد ييسر الله جل وعلا لنا بكم لقاءً آخر أو لا ييسر ذلك، ولكن هذه المعلومات التي حصلتموها، وهذا العلم إن لم يذاكر ويتعاهد، وإلا يزول، والمذاكرة لها صور ولها أحوال، منها أن يراجع الإنسان بنفسه، منها أن يتباحث مع أخيه وزميله، كما جلسوا في هذا المسجد عدة ساعات، يجعلون لهم ساعة في الأسبوع يتذاكرون هذا المتن، حتى بعضهم يستفيد من بعض، تتلاقح أفهامهم، قد يكون فات هذا معلومة وأدركها الثاني.

من ذلك: استخدام القلم في تسجيل أهم الأمور، وليس كل شيء، المقام مقام درس، ما هو بمقام إملاء، بعض الطلبة يخطئ في تعلم العلم، يظن أن ما يسمعه من أستاذه وشيخه إملاءً يمليه عليه، الإملاء هذا انتهى وقته لما دونت الأحاديث، تلك التي كانت تملى، أما هذه، فطالب العلم يكون منظمًا، يكتب في كتابه، أو في دفتر، عبارة عن كشكول أو كذا، ما يحتاج إليه، ثم ينقله إلى كتابه، ولأجل ذلك تلاحظون كتب أهل العلم، حواشيها منظمة مرتبة، دالة على تنظيم أفكارهم، أما الطلبة تجد حواشيهم في الكتاب متداخلة، تدل على أن فكره وذهنه غير مرتب.

هذا الأمر يبحثه العلماء في آداب الطلب، ولا سيما أهل الحديث في علم المصطلح، يبحثونه فيما يسمى بأدب كتابة الحديث، حديث النبي عليه الصلاة والسلام، مقصودي يا إخوان أن المذاكرة لا بد منها، والمراجعة والمباحثة، وإلا فالمعلومات تطير، تشرد؛ لأن الذهن ما يستوعب، بعضكم أو أكثركم مشغول، بأهله وأولاده ومساهماته وتجارته، إلى آخره، والذهن ما يستوعب، الهاردسك في الكمبيوتر ينسي آخره أوله! إذا لم تحفظ ملفاته، وإلا لا؟!....

وقد وعدتكم أن أنوه تحذيرًا وإنذارًا من فرقة ثانية من فرق القدرية، وهم الجبرية، القضاء والقدر انحرفت فيه طائفتان، القضاء والقدر كالأسماء والصفات، انحرفت فيه طوائف، أشهرهم طائفتان، القدرية، وقد مضى التحذير منهم والتعريف بهم، الطائفة الثانية على الضد منهم، ضدهم تمامًا وهم الجبرية، والقدرية اهتم العلماء بالتحذير منهم أصالة؛ لأنهم أول الفرق وجودًا، وقد وجدوا في آخر عهد الصحابة، كما جاء في حديث مسلم، لما انطلق حميد بن عبدالرحمن ويحيى بن يعمر حاجين أو معتمرين، فمرا بالمدينة، فقالا: لو لقينا أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيا ابن عمر، فأخبروه أنه وجد قبلهم بالبصرة قوم يقولون: إنه لا قدر، وإن الأمر أنف، هؤلاء هم نفاة القدر، وهم غلاة القدرية، الجبرية هم أتباع الجهم بن صفوان، السمرقندي، أبو محرز، الخبيث العنيد، والجبرية هم الجهمية، قد جمعوا مثالب عظيمة، فهم في الصفات معطلة، بل غلاة المعطلة؛ لأنهم ينفون الأسماء والصفات، وهم في باب القدر جبرية، وسيأتي بيان مذهبهم في الجبر، وهم في باب الإيمان غلاة المرجئة، وسلسلة وسند الجهم بن صفوان سند مظلم، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورًا، فما له من نور، الجهم بن صفوان أخذ عن الجعد بن درهم، والجعد بن درهم هو الذي قتله خالد بن عبدالله القسري، في سنة مائة وثلاث وعشرين، والجهم بن صفوان قتله سلم بن أحوز والي سمرقند، قتله في سنة مائة وثمان وعشرين، شيخ الجهم الجعد، والجعد أول من أظهر مقالة نفي الصفات: "أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا"، فحكم عليه العلماء بالردة، فقبض عليه خالد بن عبدالله القسري، وقتله مضحيًا به في يوم عيد الأضحى، في سنة مائة وثلاث وعشرين، حيث قال لما خطب الناس: "أيها الناس، ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ حيث زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا"، أنكر صفتي الكلام والخُلَّة، أهل السنة شكروا لخالد هذا الفعل، ومدحوه به؛ ولهذا يقول ابن القيم في نونيته:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدثتِني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فعليك إثمُ الكاذبِ الفتانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

جهمِ بن صفوانٍ وشيعته الأُلى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
جحدوا صفاتِ الواحد الديان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


إلى أن قال:
ولأجل ذا ضحَّى بجعدٍ خالدُ الْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قسريُّ يومَ ذبائح القربان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذ قال: إبراهيمُ ليس خليلَه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كلا ولا موسى الكليم الداني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

شكَر الضحيةَ كلُّ صاحب سنَّة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لله درُّك مِن أخي قربان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ومن الأشياء المستغربة: أن بعض طلبة العلم أعملوا موازين نقد الحديث ومتون السنة على هذه المرويات التاريخية، وهذا لا يتأتى، لا عند العلماء، ولا في ميزان طلبة العلم، هذه القصة رواها العلماء متلقين لها بالقبول، فرواها شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع، وابن القيم تلميذه في مواضع، وابن رجب، وذكرها ابن كثير، وما زال علماء السنة ينقلونها مقرين لها، وإعمال موازين الحديث ومتونه على الروايات الحديثية، بل وعلى آثار التابعين وآثار الصحابة غير متأتٍّ، وهذا ما عرف عند المتقدمين، خذ مثلًا على هذا لما قال الحافظ ابن حجر في محمد بن عمر الواقدي، المؤرخ المشهور، قال: محمد بن عمر الواقدي ضعيف في الحديث، حجة في التاريخ، باب التاريخ بابه أوسع؛ لأنه ما يترتب على التاريخ معرفة حلال أو حرام، أو بناء عقائد، أو شرائع، وإنما أشياء يرد نظيرها إلى نظيرها، ظهر لكم هذا؟ إسناده أيضًا، شيخ الجعد بن درهم: بيان بن سمعان التميمي المشبه الباطني الرافضي، وشيخ البيان بن سمعان: طالوت اليهودي، وهو ابن أخت لبيد بن الأعصم، الذي سَحَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، إذًا إسناد الجهمية والمعطلة عمن؟ ينتهي إلى اليهود، وهم كفء لهم، فاليهود معطلة، وصفوا الله جل وعلا بالنقائص، وهؤلاء كذلك، الجهمية في باب القدر جبرية، ومعنى الجبرية قالوا: إن العبد مُجبَر على فعله، وهذا مذهب من أيضًا؟ مذهب المشركين، بل مذهب إبليس أعاذنا الله منه، المشركون قالوا: ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ﴾ [الأنعام: 148]، ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 35]، أي: إنهم مُجبَرون! وكذلك الجبرية، قالوا: إن العبد مجبَر على فعله، وإن فعله مع القدر كريشة مع الهواء، لا قدرة، ولا إرادة، كالميت بين يدي مغسله، ليس له قدرة، ولا إرادة، ولا اختيار، فهو مجبر، ومذهبهم قبيح، من قبح مذهبهم إبطال الشرائع كلها، فإذا كان الإنسان مجبرًا، ما معنى أن يكلف بصلاة أو بعبادة أو بتوحيد، أو بصيام، أو ينهى عن القبائح من الشرك والظلم وشرب الخمر والزنا وما إلى ذلك؟! فيكون تكليفه إذا كان مجبرًا عبثًا، هذا قدح في أسماء الله، وقدح في صفاته، بل وقدح في ربوبية الله، بل أعظم من ذلك، إذا كلف الله عبده وقد أجبره على الكفر ثم عذبه عليه، كان الله ظالمًا لعبده! تعالى ربي عن قولهم علوًّا عظيمًا؛ ولهذا الجبرية مذهبهم قبيح، وأقبح منه مذهب القدرية، وكلاهما في القبح مشتركان؛ ولهذا أهل السنة مذهبهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء، الجبرية تأثر بهم متأخرو المتكلمين، الذين قالوا بعقيدة: القدر هو الكسب، كسب الآدمي، كسب المكلف، ما هو الكسب؟ هم في أنفسهم مضطربون فيه اضطرابًا عظيمًا، ولكن معنى الكسب هو: وقوع القدر عند فعل المقدور، فالإنسان أشبه بالمجبر، ولكن ما صرحوا بالجبر، لكن قالوا: وقوع القدر عند فعل المقدور، فالسكين يقع القطع عندها، لا بها! السكين عندهم ما تقطع، ولكن إذا حززتها وقع عندها القطع، كذلك الكسب عندهم، الكسب وقوع القدر عند فعل المقدور؛ ولهذا قول أولئك المتكلمين يعود في الحقيقة إلى الجبر، لكنهم لبسوه ودلسوه؛ ولهذا يفشو في هؤلاء من آثار قومهم انتهاك الحرمات، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الإنسان [على مذهبهم]، هذا كسبه، أو هذا ما قدر عليه، وهؤلاء يكفي من قبح مذهبهم بداهة العقل السليم في رده، لو أن إنسانًا جاء إلى هذا الذي يعتقد الجبر، ثم ضربه وأخذ ماله، هل يستسلم له بأنه مجبر؟! يقول: مسكين اتركوه، هذا مجبر، هل يستسلم له أو ينتصر لنفسه؟ ينتصر لنفسه؛ لأن هؤلاء استدلالهم بالجبر عند المعائب لا عند المصائب، هذا هو خلاصة مذهب الجبرية في هذا الباب، ومن تأثر بهم ممن قالوا بالكسب.

[وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من يموت، كما بدأهم يعودون]، لما انتهى من موضوع الإيمان بالقضاء والقدر، بدأ بمسألة تتعلق باليوم الآخر.

[وأن الساعة]، وهذا تضمين من قول الله جل وعلا: ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [الحج: 7]؛ أي: مما نؤمن به: أن الساعة آتية، الساعة من أسماء يوم القيامة، ويوم القيامة تعددت وتنوعت أسماؤه في القرآن، حتى جاوزت الثلاثين، من أسماء يوم القيامة: الساعة، والطامة، والصاخة، والآزفة، ويوم القيامة، ويوم الدين، ويوم الجزاء، ويوم الحساب، فأسماؤها كثيرة، لماذا كثرت وتعددت أسماؤه في القرآن؟ ماذا يفيدكم تعدد وتنوع أسمائه في القرآن، نعم؛ لعظم شأنها تعددت وتنوعت أسماؤها، وكل شيء ذي بال وذي عظم تجد أن أسماءه متعددة، وأوصافه متنوعة، النبي عليه الصلاة والسلام، أليس هو أفضل العالمين؟ وأفضل ولد آدم أجمعين؟ تعددت أسماؤه وأوصافه، فهو محمد، وأحمد، ومحمود، وهو الماحي، والعاقب، والحاشر، هذه من أسمائه عليه الصلاة والسلام.

[لا ريب]؛ أي: لا شك.
[وأن الله يبعث من يموت]؛ أي: يبعث من في القبور.
[كما بدأهم يعودون]، يعودون كما بدأهم، الإنسان عدم، ثم يخلقه الله جل وعلا، ثم يلحقه الفَناء، فسبق الإنسان عدم، ويلحقه فَناء، أنتم قبل مائة سنة، ماذا كنتم؟ عدم، لا شيء، ما كنتم شيئًا مذكورًا، وبعد مائة سنة أو مائتي سنة قد تكونون كذلك لا يبقى منكم شيء، لا يبقى شيء مذكورًا إلا العصعص، عَجْب الذَّنَب، وهو رأس عصعص الإنسان، ولا يرى بالعين المجردة، من هذا الجزء يركَّب الإنسان يوم القيامة إذا أرسل الله جل وعلا بعد النفخة الأولى، يبقى أربعين يومًا، قال أبو هريرة: "أبيت"، أربعين شهرًا، قال: "أبيت"، أربعين عامًا، قال: "أبيت"، يبعث الله مطرًا كماء الرجال، فينبت الناس بأجسادهم من عَجْب الذَّنَب؛ ولهذا عَجْب الذَّنَب لا يلحقه الفَناء؛ ولهذا يقول الأول:
ثمانيةٌ حُكْم البقاء يعمُّها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مِن الخَلْق، والباقون في حيز العدَمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هي: العرشُ والكرسي ونارٌ وجنةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وعَجْبٌ وأرواح كذا اللوح والقلَمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فهذه لا يلحقها الفَناء، فيركب منه، ثم يأمر إسرافيل فينفخ في الصور، فتتطاير أرواح العالمين حتى تنزل كأنها جراد منتشر، فينزل كل روح على الجسم الذي منه خرج، كما بدأهم يعودون، كما بدأهم خلَقهم يعودون، ولهذا أصل خلق الإنسان من اجتماع نطفة الرجل بماء المرأة في البويضة، لا شيء يرى، حتى يتكون شيئًا فشيئًا حتى يكون الإنسان مخلوقًا سويًّا، وأدلة البعث دل عليها القرآن بآيات عظيمة؛ ولذلك أعظم عقيدتين بسطتا وثني الكلام فيهما وكثر عليهما الاستدلال من القرآن: عقيدة إفراد الله بالتوحيد، وعقيدة البعث، بل في القرآن ما في البعث من أوجه كثيرة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحب أن يرى القيامة رأي عين، فليقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت))، من أعظم ما دل في القرآن على البعث آية عظيمة: ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [التغابن: 7]، فآية واحدة دلت على الإيمان بالبعث من ستة أوجه، (قل بلى)، (وربي)، هذا حلف، (لتبعثن)، اللام الموطئة للقسم، فعل مضارع مؤكد بنون التوكيد (ثم لتنبئن)، (بما عملتم، وذلك على الله يسير)، في السنة أحاديث كثيرة، من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان في مكة جالسًا في البيت، مسندًا ظهره إلى الكعبة، فجاءه أمية بن خلف، صنديد من صناديد الكفر، ومع أمية عظم قد يبس، قد أرم، مضى عليه مدة طويلة، فقال: يا محمد، فرفع إليه النبي رأسه، أتزعم أن الله يعيد هذا العظم لحمًا يوم القيامة، ثم فت هذا العظم بيده، الدال على أنه شديد، لو أعطيت واحدًا منكم عظمًا يابسًا، أيقوى أن يفته بيده؟ لا أظنه، إلا إن كان شديدًا، أمية فته بيده، ثم نفخه في وجه النبي عليه الصلاة والسلام، استحقارًا واستنكارًا لعقيدة البعث، قال صلى الله عليه وسلم: ((نعم))؛ أي: أزعم ذلك، ((وسيدخلك الله النار))، وأنزل الله على نبينا عليه الصلاة والسلام قرآنًا يتلى في آخر سورة "يس"، اشتمل هذا القرآن على أدلة البعث العقلية، التي يعرفها العقلاء غير المكابرين، ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 77]، يخاصمنا، ويظهر الخصومة ويبينها، ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا ﴾ [يس: 78] بهذا العظم اليابس، ﴿ وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ هو، وهذا معنى قول الشيخ: [كما بدأهم يعودون]، ﴿ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [يس: 78، 79]، الذي أنشأ هذا الإنسان أول مرة لن يعجزه أن يعيده ثانية وثالثة، إنما الإبلاغ في الإعجاز هو إنشاؤه أول مرة، انظروا، ولله المثل الأعلى، لو أن مهندسًا أنشأ بناية فأبدعها، هل يعجزه أن يجعل لها أنموذجًا ثانيًا وثالثًا ورابعًا، لا، الإعجاز والإبداع في أولها، الله جل وعلا، وله المثل الأعلى، قال: ﴿ الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾ [يس: 79، 80]، الذي أخرج الشيء من ضده، النار حارة، يابسة، أخرجها من شيء بارد رطب، أخرج شيئًا من ضده، لن يعجزه أن يخرج شيئًا من غير ضده، ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [يس: 81]، إذا كان عنده مكابرة، فلينظر إلى خلق أعظم منه، السموات والأرض ، به وهو حقير صغير، ﴿ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [يس: 81] ، ثم أخذ بالأمر الجامع: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، ثم نزَّه نفسه وسبحها عن وصف كل جاهل معطل مشرك كافر، ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 83]، فختمها بالبعث مرة ثانية، والبعث عليه الفِطَر كلها، السوية على البعث، بل إجماع العقلاء، لا نقول: أهل الكتب وأهل الديانات، كل العقلاء يؤمنون بالبعث، انظروا إلى الهنادكة، البوذيين، الكونفوشوسيين، المجوس، وغيرهم، كلهم يعتقدون بالبعث، لكن يتفاوت بعضهم في صوره؛ ولهذا من البوذية والمجوسية من عندهم عقيدة التناسخ، التناسخ صورة من صور البعث، لكن هذا باطل، حتى الهنادكة نفاة الخالق قالوا بأن البعث للأرواح دون الأجساد، كما قاله أبو علي ابن سينا، وأمثاله من الفلاسفة الملاحدة، إذًا أمر البعث متفق عليه، إلا عند من كابر، والمكابر هذا يكابر ظاهرًا، أما باطنًا فإنه عنده وميض الإيمان بالبعث؛ لأنه أمر فطري.

[وأن الله سبحانه وتعالى ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات، وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات، وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر، وجعل من لم يتب من الكبائر صائرًا إلى مشيئته ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].


ومن عاقبه الله بناره، أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به جنته، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، ويخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته].

هذه الجملة اشتملت على مسائل عظيمة، لعلي أمر عليها سريعًا.




ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:47 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (14)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل





مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"



تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)



شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل











[وأن الله سبحانه وتعالى ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات]، يعملون الحسنة الواحدة له سبحانه فيضاعفها إلى عشرة أضعاف، إلى أضعاف كثيرة، فضلًا منه سبحانه ورحمة وتمننًا وتلطفًا بعباده، أنهم يعملون الحسنة فيضاعفها لهم، والسيئة لا يضاعفها، بل يبقيها كذا، ولهذا الويل، ثم الويل، لمن غلبت آحاده عشراته، من قدم يوم القيامة وقد غلبت آحادُه سيئاتِه، غلبت حسناته المضاعفة، دل على كثرة سيئاته وقلة حسناته؛ قال الله جل وعلا: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأتبِعِ السيئةَ الحسنة تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلق حسن)).







[وصفح لهم بالتوبة] إذا تاب الإنسان عن كل ذنب، من أكبر الذنوب، أكبر الذنوب الشرك والكفر، إلى أصغرها، تاب توبة نصوحًا، قبل الله توبته، التوبة النصوح ما اجتمع فيها أربعة شروط، الأول: أن يكون مخلصًا لله وحده لا شريك له، ثانيًا: أن يقلع عن هذا الذنب الذي تاب لله منه، ثالثًا: أن يعزم على ألا يرجع إليه، رابعًا: أن يندم على وقوعه وفعله منه، هذه شروط التوبة النصوح، يزاد شرط خامس إذا كانت التوبة تتعلق بذنب يتعلق بحق محفوظ فلا بد أن تستبيح منه، إن كان مالًا ترده إليه، وإن كان من عرضه، واسمع يا طالب العلم، إذا كانت المظلمة تتعلق بعرضه، سببته، شتمته، ذممته، وصفته بالبدعة، تتحلل منه في الدنيا، وإلا فالموعد غدًا، الموعد غدًا، إذا نلت من عرضه، ونلت؟ من دينه بمحض هواك، أو لحزبك أو لجماعتك، وهذا فعل من قل بالله خوفه وإيمانه، وإن صبغه بصابغ الغيرة على دين الله، وهذه المظلمة تتعلق بهذا المخلوق، تستبيحها منه في الدنيا، حتى يبيحك، وإلا فالموعد غدًا، إلى يوم الديان نمضي، وعند الله تجتمع الخصوم، التوبة لا بد منها؛ ليعفو الله عز وجل عن هذا الإنسان.







[عن كبائر السيئات] السيئات نوعان، صغائر وكبائر، والعلماء رحمهم الله تباينت أقوالهم في الفَرق بين الصغيرة والكبيرة، حتى ذكر شارح الطحاوية رحمه الله في شرحه أربعة عشر قولًا، في الفرق بين الصغيرة والكبيرة، أرجحها وأصحها ما ذهب إليه الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، ومن قبله ابن عباس، وسفيان بن عيينة، والسلف، أن الكبيرة: ما جمعت وصفًا من أوصاف ستة، أو أكثر من وصف؛ فهي كل ذنب رتب الله عليه حدًّا في الدنيا، فالسرقة كبيرة؛ لأن لها حدًّا في الدنيا، القذف كبيرة، الزنا كبيرة، لأن له حدًّا، إن كان محصنًا الرجم، وإن كان غير محصن بالجلد والتغريب، الوصف الثاني: أو رتب الله عليه في الآخرة وعيدًا بالنار، مثاله: ((ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار))، فإذا أسبل إزاره خيلاء أو غير خيلاء، فهو متوعد بالنار، فإذا أسبله خيلاء، فمتوعد بالنار، ومتوعد بوعيد آخر، أن الله لا ينظر إليه، ولا يكلمه، وله عذاب أليم، أو يتوعده باللعنة، فالرشوة كبيرة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله الراشي والمرتشي والرائش))، التشبُّه بالنساء كبيرة، تشبُّه النساء بالرجال كبيرة، (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخنثين من الرجال، المتشبهين بالنساء، ولعن المسترجلات من النساء)، كما في الصحيح، الضابط الرابع: أو رتب عليه الغضب، كل ذنب رتب الله عليه الغضب فهو كبيرة، ومن أمثلته ما جاء في آية النور، في آية الملاعنة، قال الله جل وعلا في آخرها: ﴿ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [النور: 9]، من يأتيني بذنب رتبت عليه هذه كلها؟ نعم، من قتل مؤمنًا متعمدًا، نوع الله عليه أنواع الوعيد؛ كما في آية سورة النساء: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ﴾ [النساء: 93]، عدوا معي، ﴿ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، خمسة أنواع من الوعيد، ما معنى قوله تعالى: ﴿ خَالِدًا فِيهَا ﴾؟ معنى خالدًا فيها: ماكثًا فيها مكثًا طويلًا؛ ولهذا لاحظوا لم يقل: "خالدًا فيها أبدًا"، كما جاء في وصف أهل الجنة، أنهم خالدون فيها، ووصف أهل النار خالدين فيها، ابن عباس رضي الله عنهما له في هذه الآية اختيار لطيف، وأصر عليه حتى مات، وهو أن قاتل النفس المؤمنة بغير وجه حق إذا مات وهو لم يتب، فهذا الذنب لا يدخل تحت مشيئة الله، بل لا بد أن يعذبه الله، تأمل وافهم قول ابن عباس، أصول أهل السنة: أن أهل الكبائر حالهم أنهم تحت مشيئة الله، إن شاء عفا الله عنه برحمته، أو إن شاء عذبه بذنبه وكبيرته، ابن عباس يقول: إن قتل النفس المؤمنة بغير وجه حق لا يدخل تحت الذنوب التي هي تحت المشيئة، بل لا بد أن ينفذ الله فيها وعيده، يقول مجاهد بن جبر، وهو من خواص أصحاب وطلاب ابن عباس، يقول: ناظرته وراجعته في هذه المسألة شهرًا كاملًا، وهو مصرٌّ عليها، أن قاتل النفس بغير وجه حق لا بد أن يعذب، إذا مات وهو غير تائب، أو مستباح، الوصف الخامس: إذا نفي الإيمان عنه، كل ذنب نفي الإيمان عن صاحبه بسببه فهو كبيرة، حديث أبي شريح في الصحيحين: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قالوا: مَن يا رسول الله خاب وخسر؟! قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه))، من آذى جاره في نفسه، في عِرضه، في ماله، فهذا موعد بنفي الإيمان عنه، دل على أنه كبيرة، ومنه ما في الصحيحين: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهْبة ذات شرف فيرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن))، دل على أن هذه كبائر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نفى الإيمان عن صاحبها؛ ولهذا في أذية الجار، الزنا في حد ذاته كبيرة، لكن الزنا بحليلة الجار أشد؛ ولهذا جاء في الحديث عند الحاكم وأحمد وغيرهما: ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة، خير له من أن يزني بحليلة جاره))، الوصف السادس من وصف الكبائر: أنه كل ذنب تُبُرِّئَ من صاحبه، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((مَن غش، فليس منا))، ((من حمل علينا السلاح، فليس منا))، ((ليس منا مَن خبَّب امرأة على زوجها))؛ أي: أفسدها، أو خبب زوجًا على زوجته، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام تبرأ من صاحبها، هذه القيود الستة، إذا اتصف الذنب بأحدها فهو كبيرة، وما دونها فهو صغيرة، لكن لا بد من مراعاة ضابط، أنه لا كبيرة مع الاستغفار، إذا فعل الإنسان كبيرة ثم استغفر الله منها، كأنه لم يفعل الكبيرة؛ لأنه عاد بعد توبته من هذا الكبيرة كما لم يفعلها، إذا تاب توبة نصوحًا، أيضًا: لا صغيرة مع الإصرار، إذا أصر على الصغيرة، أصبحت بإصراره عليها كبيرة؛ لأن فيها استهانة بالمعصية، مثل ماذا؟ قالوا: الصغائر كالحبة الواحدة يأكلها من مال اليتيم بغير وجه حق، أما أكل مال اليتيم حكمه أنه كبيرة، من ذلك: حلق اللحية، لو حلقها مرة، هذه صغيرة، لكن لو حلقها وما زال يحلقها، أضحت في حقه كبيرة.







[وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر]، ﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ﴾ [النجم: 32]، يعني أنه إذا اجتنب الكبائر، تجاوز الله عنه بسبب اجتناب الكبائر عن الصغائر، وفيه أدلة كثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر))، يبقى من هذا مسألة تتعلق بالحج، ((من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع مِن ذنوبه كيومَ ولدته أمه))، هل الحج المبرور السالم من الرفث واللغو، هل يكفر الكبائر أو لا يكفرها؟ للعلماء في هذا خلاف طويل، راجحه، لأن المقام مقام اختصار، وإلا بسط الأدلة في هذه المسألة مما يفتق الذهن، لكن راجح ذلك أن الحج المبرور، إذا صدق عليه أنه مبرور، ولم يرفث ولم يفسق، أنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويكفر الكبائر، وهذا للحج خصوصًا؛ لشرفه ومزيته، أن الحج المبرور يكفر كبائر الذنوب، قد يقول قائل: إذا كانت كبيرة متعلقة بحقوق آدمي، إما بقتله، أو سفك دمه، أو عرضه، هذا إذا قبل الله حجه المبرور، كان يوم القيامة يرضي خصمه منه، فيعفو عنه، خذوا مثالًا على ذلك، القتل، القتل بغير وجه حق يترتب عليه ثلاثة حقوق، حق لله جل وعلا، وحق للمقتول، وحق لأولياء الدم، نفرض أن إنسانًا قتل آخر ظلمًا وعدوانًا، في مضاربة أو مخاصمة أو غيرها، ترافعوا إلى المحكمة، إذا سمح أولياء الدم بالقصاص والحد، ينتقلون إلى العوض المالي، وهو الدية، تنازلوا عن حقهم، يبقى حقان، حق الله جل وعلا، وحق المقتول، حق الله مبني على المسامحة إذا تاب توبة نصوحًا، يبقى حق المقتول؛ ولهذا جاء في الحديث: ((يأتي المقتول يوم القيامة ورأسه في يده يشخب دمًا، وفي اليد الأخرى قاتله، يقول: يا رب، سل قاتلي، فيم قتلني؟))، هذا إذا تاب توبة نصوحًا، قال العلماء: إن الله جل وعلا يرضي المقتول من قاتله؛ ولهذا أول ما يقضى بين العباد يوم القيامة في الدماء، والدماء شأنها عظيم، جد عظيم؛ روى ابن ماجه بإسناد لا بأس به: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة))، تأملوا يا إخوان هذه المسألة التي استهان بها كثير ممن يظهرون الاستقامة، ((من أعان على قتل مسلم، ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله))، بشَطر كلمة، كيف لو أعانه بسلاح، أو بفعل، أو بتدبير، أو بتغطية، أو بتستر، ((بشَطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيِسٌ من رحمة الله))؛ أخرجه ابن ماجه، وأخرجه غيره.


ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:47 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (15)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل





مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"



تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)



شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل







[وجعل من لم يتب من الكبائر صائرًا إلى مشيئته]، هذا يماثل تمامًا ما ذكره الطحاوي في عقيدته، لما قال: "وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم غير تائبين"، التائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ ولهذا انظروا إلى فطنة وذكاء عمرو بن العاص رضي الله عنه، لما جاء يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، امدد يدك أبايعك، فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقبض عمرو يده! قال: أشترط يا رسول الله، قال: ((مه يا عمرو))، قال: على أن يغفر الله كل ما كان لي قبل الإسلام، قال: ((يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يجبُّ ما قبله، وأن التوبة تجبُّ ما قبلها))، فكان بهذا الفعل الذكي من عمرو بن العاص بشرى لنا هذه الأمة، أن التوبة تجبُّ ما قبلها، بشرط أن تكون توبة نصوحًا، وأن الإسلام يجب ما قبله، يجبُّ: يهدم ما قبله؛ ولهذا وضع النبي صلى الله عليه وسلم ربا الجاهلية، وضعه تحت قدمه، وأول ربًا وضعه تحت قدمه ربا عمه العباس رضي الله عنه.







[وجعل من لم يتب من الكبائر]، إذا مات وهو غير تائب، [صائرًا إلى مشيئته]، صائرًا إلى مشيئة الله، والدليل آيتا سورة البقرة وسورة النساء: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، فمن مات على كبيرة لم يتب منها، فهو تحت مشيئة الله جل وعلا، إن شاء رحمه برحمته وإحسانه ولطفه، وإن شاء عذبه على قدر كبيرته من دون أن يخلده في النار.







﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، الآية، إن وما دخلت عليه تؤول عند العلماء بتأويل مصدر، إن الله لا يغفر إشراكًا به، وإشراكًا هذه كلمة مفردة، وهي نكرة جاءت في سياق النفي، فدلت على العموم، إن الله لا يغفر إشراكًا به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، بشرط أن يكون ذلك لمن يشاء، بقيت مسألة مهمة في هذا المقام، الله جل وعلا وعد المسلمين بالجنة، ووعد الله لا يتخلف، لا بد أن يتحقق، أيضًا توعد الله أصحاب الكبائر والمعاصي بالنار، هل يتخلف وعيده؟ وعيده لا يتخلف، هنا ذكر العلماء مسألة مهمة في هذا المقام، وهي مسألة تحقق الوعيد المجمل، ما معناها؟ تحقق الوعيد المجمل: أن من توعدهم الله جل وعلا بالعذاب على كبائرهم مجملًا، يتحقق فيهم أن تصيب منهم النار من أفرادهم، من هم؟ الله أعلم، مجموعهم تحت المشيئة، لكن من أفرادهم لا بد أن يعذب بالنار، تحقيقًا لوعيد الله المجمل؛ لأن الله لا يتخلف وعده، كما لا يتخلف وعيده، وهذه ذكرها أبو العباس رحمه الله في الطحاوية، قال: "مع تحقق الوعيد المجمل"؛ أي: لا يعرف عين صاحب الكبيرة الذي يعذب، لكن من مجموعهم من يعذبهم الله في النار، تحقيقًا لوعيده؛ لأنه لا يتخلف وعيده؛ ولهذا قال الشيخ:



[ومن عاقبه الله بناره، أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به جنته]، يعني من دخل النار من أصحاب الكبائر، فإنه لا يخلد فيها، بل لا بد أن يخرج منها بعد أن يعذب على قدر معصيته.







[أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به جنته]، ما معنى "بإيمانه"، و"به جنته"، [أخرجه منها]؛ أي: النار، [بإيمانه]؛ أي: بسبب إيمانه، [فأدخله به جنته]؛ أي: بإيمانه، والباء هنا باء السببية ولا بد، فإن قال قائل: الباء باء العوض، يعني: مقابل إيمانه أدخله الله الجنة، يصح أم لا يصح؟ لا يصح؛ لأنه لن يدخل أحد منا الجنة بعمله؛ قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ((واعلموا أنه لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله))؛ أي: بمقابل وعوض عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، إذًا دخول الجنة سببه الإيمان، لا عوضه الإيمان، وهذا من المواضع المهمة التي يستفاد منها بيان دلالات الحروف، فإن الحرف قد يكون معناه السببية، وقد يكون معناه العوضية، والدليل:



﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]؛ أي: يرَ هذا الخير، وإن كان مثقال ذرة.



[ويخرج منها]، الضمير عائد على النار، [بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته]، النبي عليه الصلاة والسلام له شفاعات خاصة به، وهي أربع أو خمس، وبقيتها عامة له، وللأنبياء، وللصالحين، والشهداء، والملائكة، والعمل الصالح.







الشفاعات الخاصة به عليه الصلاة والسلام أعظمها وأهمها وأعمها: الشفاعة العظمى عند الله جل وعلا لابتداء فصل القضاء، هذه شفاعة خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، من الشفاعات الخاصة به شفاعته في عمه أبي طالب؛ ولهذا في مسلم، لما سأل العباس رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، أبو طالب فعل معك وفعل، هل تنفعه بشيء؟ قال: ((نعم، يخرجه الله بي من قعر جهنم، فيوضع في ضحضاح من نار))، وفي رواية: ((يلبس نعلين من نار، يبلغان كعبيه، يغلي منهما دماغه، ولولاي لكان في جهنم))، هذه شفاعة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم في عمه،النوع الثالث من أنواع الشفاعات الخاصة به عليه الصلاة والسلام أنه أول من يشفع في دخول الجنة، أول من يشفع في دخول الجنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه خاصة به، نوع رابع من أنواع الشفاعة الخاصة: شفاعته في السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وقد شفع في عكاشة وغيره، وهذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومما قالوا أيضًا وهذه خاصة به: شفاعته في أهل الأعراف، من تساوت حسناتهم وسيئاتهم، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيهم إلى الجنة، وهذه فيها آثار ضعيفة، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم،الشفاعات المشتركة، شفاعته في أهل كبائرَ أُمِر بهم إلى النار، ألا يدخلوها، نوع ثانٍ شفاعته في أناس من أهل الكبائر دخلوا النار أن يخرجوا منها، هذه يأتي إن شاء الله تفصيلها، نوع ثالث: شفاعته في قوم في درجات دنيا، أن ترفع درجاتهم، وهذه يشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم فيها الأنبياء والصالحون؛ كما قال الله جل وعلا: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الطور: 21].







[ويخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته]، وفي هذا الحديث، الذي ينكره الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((شفاعتي في أهل الكبائر من أمتي))، وهذه شفاعتان، شفاعة في قوم أمر بهم، سحبوا إلى النار ألا يدخلوها، فيشفع فيهم، فلا يدخلون النار، فمباشرة إلى الجنة، والصنف الثاني في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، وهذه تكاثرت فيها الأحاديث حتى تواترت، وأشهرها حديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل النار أربع خرجات، أربع شفاعات، (يشفع في قوم فيحد الله له حدًّا، فيخرجهم من النار إلى الجنة، ثم يشفع فيهم شفاعة أخرى، حدًّا ثانيًا، وحدًّا ثالثًا، وحدًّا رابعًا، ثم يحثو سبحانه بيده من أهل النار، فيلقيهم في الجنة برحمته سبحانه).







[وأن الله سبحانه قد خلق الجنة].



نعم هذه مسألة مهمة، وهي مسألة خلق الجنة، الجنة هل هي مخلوقة الآن أو تخلق يوم القيامة؟ مخلوقة الآن، وقبل الآن! أما الجهمية والمعتزلة فقالوا: إن الجنة لم تخلق بعد، كما قال ابن القيم عنهم: وأن الجنة والنار لم تخلقا بعد، فإذا هما خلقا ليوم قيامنا، فهما على الأيام فانيتان.







قول الله جل وعلا عن الجنة: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وعن النار: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24]، "أعدت"، الفعل ماضٍ، ما معناه؟! هذا من أفضل ما يرد عليهم، وهذه الجنة كما يشير الشيخ الآن هي التي أهبط الله منها آدم وزوجه.







الجنة خلقها الله بيده، وغرسها بيده، تكرمة لأولياءه؛ ولهذا جاء في الحديث أن الله مس ثلاثًا بيده، الجنة خلقها بيده، وآدم خلقه بيده، والتوراة لموسى كتبها بيده، وهذا جاء في حديث عند الإمام أحمد.







[فأعدها دار خلود لأوليائه].



فهي دار خلود، أبدًا مؤبدين فيها لا يخرجون منها؛ ولهذا أهل النار وأهل الجنة خالدون فيها مخلدون؛ كما جاء في مواضع في القرآن أن الله إذا ذكر أهل الجنة قال: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾، وإذا ذكر أهل النار من الكافرين، يذكر مرة أنهم خالدون فيها، ومرة أنهم خالدون فيها أبدًا، ونص على التأبيد في الكافرين من أهل النار في ثلاثة مواضع، في آخر النساء، وآخر الأحزاب، وآخر: (قل أوحي إلي)، آخذ أوسطها، قال الله جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 64، 65]، فهذا نص على التأبيد، ومما دل على ذلك من السنة أحاديث كثيرة، منها: أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، حديث الكبش المشهور، نودي: يا أهل الجنة، فيشرئبون بأعناقهم، ونودي يا أهل النار، فيفرحون يظنون أنه فرج جاءهم من الله، (فيؤتى بالموت على هيئة كبش عظيم، ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت)، فأهل الجنة وأهل النار فيها خالدون مخلدون أبد الآباد، وانحرف في هذا الباب الجهمية والمعتزلة فقالوا: إن أهل الجنة وأهل النار يلحقهم الفناء، وخلودهم ليس مؤبدًا، هذا قول الجهمية، وقول المعتزلة، رجل من المعتزلة اسمه أبو هذيل العلاف، قال كما ذكر عنه ابن القيم:







وتلطَّف العلافُ من أتباعه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فأتى بضِحْكةِ جاهلٍ مجان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



قال: الفَناء يكون في الحركات لا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

في الذاتِ واعجَبا لذا الهذيان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif










قال: الذي يفنى في الجنة وفي النار حركاتهم، عاب عليه العلماء، قالوا: إذًا إذا رفعوا اللقمة إلى أفواههم، توقفوا! تفنى حركاتهم، هذا قول كذب وهذيان، فاعجب لذا الهذيان؛ ولهذا قال: فأتى بضحكة جاهل مجان.







وما ينسب، وانتبه يا طالب العلم، ما ينسب لشيخ الإسلام أو ابن القيم أنهما قالا بفناء النار، فقول باطل، يبطل ذلك نصوص كلامهما المحكمة الواضحة، الذي نص ابن القيم أنها تفنى: نار الموحدين، أهل الكبائر إذا أخرجوا منها فنيت نارهم، وبقيت النار للكفار، بل جاء في الأثر، في الحديث أن نار الموحدين يقلبها الله جل وعلا عذابًا آخر على أهلها الكافرين، إذًا لا تفنى النار، ولو على مدى الأزمان، وابن القيم كلامه محكم، وإن شئتم فارجعوا إليه في حادي الأرواح، وفي الوابل الصيب، وهو من آخر كتبه رحمه الله.







[وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم].



أعظم نعيم وألذه وأنعمه وأطيبه لأهل الجنة يوم المزيد، يوم يتجلى لهم ربهم جل وعلا، فيزيل عن وجهه رداء الكبرياء، فينظرون إلى وجهه، فلم يروا نعيمًا ألذ ولا أكمل ولا أنعم من رؤيتهم لوجهه سبحانه، وأصرح آية في القرآن دلت على ذلك: آية القيامة، ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22]، بلغت من النَّضرة والحسن والجمال والكمال والبهاء أمرًا عظيمًا، لم؟ ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 23]، وهنا أقول: لماذا هذه الآية أصرح آية في القرآن دلت على رؤية الله، مع أن الأدلة في القرآن كثيرة، ستة أو سبعة أدلة كلها دلت على رؤية الله جل وعلا؟! الجواب: لأنه عداها بـ "إلى"، والنظر إذا عدي بـ "إلى"، لا يعني إلا النظر والمعاينة والمشاهدة بالبصر، انظر إلى المسجد، معناه: شاهده وعاينه، إذا عداها بـ "إلى"، وأضاف النظر إلى الوجه الذي محله العينان، الوجه الثالث: أنه أخلى الآية من قرينة صارفة عن المعاينة، ودل على رؤية الله أدلة كثيرة، تواترت في السنة أدلة رؤية الله جل وعلا، حتى رواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من ثلاثين صحابيًّا، رووا أحاديث الرؤية، جرير بن عبدالله البجلي، أبو سعيد الخدري، أبو هريرة، صهيب، أبو موسى الأشعري، أبو ذر، عبدالله بن عمر، عبدالله بن عباس، رووا أحاديث الرؤية؛ ولهذا أهل السنة أفردوها في تصانيف، منها رؤية الله لابن الأعرابي، لابن النحاس، أفردوا رؤية الله جل وعلا، والأدلة التي دلت عليها السنة في تصانيف؛ لأنها بلغت مبلغ التواتر.







بقي في النظر مسألتان، أولهما: أن أهل الجنة جميعًا ينظرون إلى الله جل وعلا جميعًا في يوم الجمعة يوم المزيد، كما دل عليه قول الله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، الحسنى: هي الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله، فسَّرها بذلك النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي بكر رضي الله عنه عند مسلم، أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله، وقال سبحانه وتعالى في آية ق: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 35]، المزيد هو الزيادة، وهو النظر إلى وجه الله جل وعلا، ثم إن أهل الجنة متفاوتون في قربهم من الله جل وعلا في يوم المزيد، حسب قربهم من الإمام يوم الجمعة، في تبكيرهم إلى الصلاة، جزاءً وفاقًا، فمن كان إلى الإمام أقرب في تبكيره، فهو من الله جل وعلا يوم القيامة في الجنة أقرب.








المسألة الثانية: أن أكمل أهل الجنة ينظر إلى الله جل وعلا في اليوم مرتين، غداة وعشيًّا، وهذا من مقاماتهم عند الله جل وعلا، ومعلوم أن المقامات عند الله متفاوتة؛ ولهذا جاء في الحديث: ((أن من عباد الله من هو على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، يغبطهم الأنبياء والصالحون والشهداء، هم المتحابُّون في جلال الله جل وعلا))، أكرمهم الله جل وعلا بأن جعلهم على منابر من نور عن يمينه، وكلتا يديه يمين.





ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:48 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (16)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل








مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"



تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)











[وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه، بما سبق في سابق علمه].



هذا فيه التنبيه على مسائل، الأولى: أن إهباط آدم إلى الأرض قد سبق به علم الله، وفيه تنويه على المرتبة الأولى من مراتب القدر، فيها أيضًا أن الجنة التي أعدها الله دار كرامة لأولياءه خلودًا فيها هي التي أخرج منها آدم.



[آدم نبيه]، والدليل كما جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم: أنبي هو؟ قال: ((نبيٌّ مكلَّم)).







[وخليفته إلى أرضه].



كما قال في آية البقرة: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]؛ فآدم وذريته خلفاء الله في أرضه، يقيمون فيها دينه وتوحيده، ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].







مر التنبيه على مسألة الخلود في النار، وذكر مذهب أهل السنة، وأدلته، وخلق النار، وأدلته، وذكر أيضًا أن المخالفين في هذا هم الجهمية والمعتزلة، الذين قالوا: إن النار تفنى، وإن الجنة تفنى، وكان مذهب العلاف أبو الهذيل، من معتزلة بغداد، المعتزلة المتأخرون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، معتزلة البصرة، وهم الأوائل، هؤلاء فيهم دين، فيهم علم، من كبارهم واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد البصري، والقسم الثاني معتزلة بغداد، هؤلاء فيهم فسوق وفجور، بل فيهم إلحاد، وهم طوائف، الجبائية، والعلافية، والخشابية، وهؤلاء الذين كان معهم أبو الحسن الأشعري قبل أن يتركهم إلى مذهب الكُلَّابية، ثم ترك مذهب الكُلَّابية إلى طريقة أهل الحديث وإلى طريقة الإمام أحمد بن حنبل، الصنف الثالث من أصناف المعتزلة: المعتزلة الفلاسفة، الذين تأثروا بالفلاسفة، وهؤلاء متأخرو المعتزلة، من أعيان متأخري المعتزلة في هذا الكندي المشهور، وعبدالجبار المعتزلي، وبعض المشتهرين بالأصول والمشتغلين بالنحو، ابن خروف، وابن جني، وأمثالهم.







[وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله].



وقبل ذلك النار، هي لمن كفر بالله، وألحد في آياته وكتبه ورسله، ولمن جعلهم محجوبين عن رؤيته، الذين يخلدون في النار هم ثلاثة أصناف، المنافقون نفاقًا اعتقاديًّا، وهؤلاء في الدرك الأسفل من النار؛ كما في آية النساء: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145]، الصنف الثاني: المشركون شركًا أكبر، مَن عبدوا مع الله غيره، أو صرفوا حق الله لغيره، ولو في عبادة واحدة، هم من أهل النار، الصنف الثالث: الكافرون كفرًا أكبر؛ كالملاحدة، كالمدعين علم الغيب، كالمنازعين لله جل وعلا في نفعه، في ضره، في تدبيره للعالم، كالمستهزئين بالله وبآياته وبدينه وبرسوله، هؤلاء كفار، وهم في النار، ويصدق عليهم أنهم ألحدوا في آيات الله الشرعية، وكتبه ورسله.







[وجعلهم محجوبين عن رؤيته]؛ لأنهم أهل سِجِّين، في آية المطففين يقول الله جل وعلا: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾ [المطففين: 7]، ثم قال عن هؤلاء: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]، لما حجب هؤلاء بسخط من الله، دلَّ على أن أولياءه يرونه بحال الرضا منه، كما ذكر ذلك الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، وذكرنا لكم إجابة على سؤال عن مقامات الرؤية، وأنها ست مقامات، رؤية الله في الدنيا، وهذه غير واقعة، المنام، في العرصات، رؤية أهل الجنة لله، رؤية أهل النار، وأنهم لا يرونه، رؤية النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لربه في المعراج، هل رآه أو ما رآه؟ والكلام فيها يطول.







[وأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة؛ ﴿ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22] لعرض الأمم وحسابها، وعقوبتها وثوابها، وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8، والمؤمنون: 102]، ويؤتون صحائفهم بأعمالهم، فمَن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، ومن أوتي كتابه وراء ظهره فأولئك يصلون سعيرًا].



سبحان الله العظيم، الماتن رحمه الله يستقي مضامين هذه العقيدة من القرآن، فهي تضمين من الآيات، قال: [وأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة ﴿ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]] أخذه من قول الله تعالى في الفجر: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]، يوم القيامة يجيء الله، والمجيء صفة من صفاته سبحانه، فهي صفة فعلية يفعلها سبحانه إذا شاء، كيف يجيء؟ الله أعلم، ومعنى المجيء نعرفه في لغة العرب، أنه يأتي سبحانه لفصل القضاء، لماذا يجيء؟







[لعرض الأمم]، تعرض عليه الأمم، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]، [وحسابها، وعقوبتها، وثوابها]، ليحاسبهم عليها، الحساب للجميع، ومعنى الحساب أن يعرف العبدُ مقادير عمله، قليلًا كان أو كثيرًا، صالحًا كان أو فاجرًا، تعريف العباد مقادير أعمالهم من ناحية الثواب والجزاء، والمثوبة والعقاب؛ولهذا مراحل الآخرة، أيها الإخوة، يمكن أن نرتبها على هذا الترتيب إجمالًا، وإلا فالتفصيل يطول، من مراحل القيامة: المرحلة الأولى من مراحل القيامة: أشراط الساعة، الكبرى والصغرى، المرحلة الثانية: النفخ في الصور، كم ينفخ في الصور من نفخة؟ الصحيح أنهما نفختان، نفخة صعق وفزع، هذه الأولى، ينفخ في الصور نفخة طويلة، فيفزع من في السموات والأرض؛ كما جاء في آية سورة النمل في آخرها: ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [النمل: 87]، فأولها فزع، يفزعون، وفي آخرها صعق، يصعقون؛ كما جاء في آية الزمر في آخرها: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الزمر: 68]؛ ولهذا جاء في الحديث أنه ينفخ في الصور، والنفخة تبدأ يسيرًا، ثم ترتفع شيئًا فشيئًا، (فأحدهم يلوط حوضه، أو يسوق غنمه، فيصغي ليتًا ويرفع ليتًا)، يتسمع لهذا الصوت وهو يزداد شيئًا فشيئًا، وفي آخره يصعق، حتى إن الرجل يرفع اللقمة إلى فيه لا يتمها، ثم يبقى بين النفختين مدة أربعين، هل تكون أربعين يومًا، أربعين شهرًا، أربعين عامًا؟ في كل لفظ يقول أبو هريرة: (أبيت)، لكن جاء عند البزار أنه قال: (أربعين عامًا)، بين النفختين، وذلك إذا نفخ النفخة الأولى، نفخة الفزع والصعق، فمات من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، يقول الله جل وعلا لإسرافيل، وإسرافيل ما له وظيفة إلا أن البوق في فيه، وعين على البوق، وعين ثانية على عرش الرحمن، ينظر متى يؤمر، وهو بوق عظيم، صور عظيم، لا نعلم قدره، فيقول الله لإسرافيل - وهو أعلم -: من بقي، يقول: بقيت أنا، وجبريل، وميكال، وملائكتك المقربون، الكروبيون، فيأمرهم، فيموتون، فلا يبقى إلا إسرافيل، ثم يأمره فيموت، فينادي سبحانه عندئذ: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾ [غافر: 16]، فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه: ﴿ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16]، ثم يحيي إسرافيل، فيأمره بالنفخ في الصور، فعندئذ يرسل الله جل وعلا ماءً كماء الرجال، فينزل على الأرض، فتنبت منه أجساد البشر من عَجْبِ الذَّنَب، فينفخ إسرافيل النفخة الثانية، نفخة البعث، يقول الله تعالى في آية سورة الزمر: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزمر: 68]، فدل على أن النفخة نفختان، ثم تتطاير أرواحهم إلى أجسادهم كأنهم جراد منتشر، وهو البعث، وعندئذ يأتي المقام الثالث، وهو الحشر، وهو قيام الناس من قبورهم، من الأجداث، كأنهم جراد منتشر، ثم المقام الرابع مقام الحشر، ثم المقام الخامس مقام الشفاعة العظمى، وما يتلوها، ثم المقام السادس مقام تطاير الصحف، كما قال رحمه الله: فمن أخذ كتابه بيمينه [فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا]، ومن أخذ [كتابه وراء ظهره]، ثم بعد التطاير: المقام السادس الحساب، وهو تعريف الناس مقادير أعمالهم، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، ثم مقام الحوض، حوض النبي عليه الصلاة والسلام، وحوضه عظيم، طوله كعرضه، مربع، يصب فيه ميزابان من السماء، من نهر أعطاه الله نبيه عليه الصلاة والسلام، هو نهر الكوثر؛ ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1]، وهذا الحوض عظيم، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وحلاوة من العسل، وبردًا من الثلج من غير ضرر، عليه كيزان بعدد نجوم السماء، لكن لن يرد الحوض كل أحد من أمته؛ فالملائكة تقف دون الحوض وتمنع أقوامًا من أن يردوا حوضه، والنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يقول: ((أمتي أمتي))، وهذا اللفظ هو الثابت، وما جاء من لفظ: (أصحابي، أصحابي)، فعلى ثبوته المراد به مطلق الأمة، وفيه رد على من قال: إن الصحابة ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهو قول مبغضة الصحابة، قبَّحهم الله، وأنزل عليهم ما يستحقون، يقول: ((أمتي أمتي))، فيقال: ((لا تدري ماذا أحدثوا بعدك))، قال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((فأقول: بُعْدًا، بُعْدًا))، أو: ((سُحْقًا سُحْقًا لمن أحدث بعدي))؛ أي: بدل وابتدع، وأتى بدين استحسنه واستساغه ضد دين النبي عليه الصلاة والسلام، من البدع والأهواء والمحدَثات،مما يكون يوم القيامة أيضًا الميزان، وهذا مقام ثامن، سيأتي الكلام عليه إجمالًا،مما يكون يوم القيامة أيضًا الصراط، وهو مقام تاسع، ومنها أيضًا القنطرة بعد الصراط، التي يقتص للمؤمنين فيها بعضهم من بعض، ثم المقام الأخير، إما جنة وإما نار، هذه أيها الإخوة هي مقامات اليوم الآخر، والكلام عليها تفصيلًا يطول.







أشار الماتن رحمه الله إلى الموازين، قال:



[وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8]]، ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأنبياء: 47]، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الأعراف: 8، 9]، فدل على أن الموازين عدة، والميزان جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وصفه، أنه ميزان ذو كفتين ولسان، كما دل عليه حديث صاحب البطاقة، حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عند أحمد بإسناد صحيح، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((ينشر على رؤوس الخلائق يوم القيامة رجل قد أسرف على نفسه، فتخرج له سجلات كمد البصر، فيها سيئاته، ثم يقال له: هل لك من حسنة؟ فإذا رأى سيئاته قد أحصيت وعدت عليه، قال: ليس لي من حسنة، فيقول الله عز وجل: إنك اليوم لدينا لا تظلم، فتخرج له بطاقة، قال: فيها مكتوب لا إله إلا الله، قالها موقنًا من قلبه، قال: رب، وما تصنع هذه البطاقة مع هذه السجلات مد البصر؟ فتوضع السجلات في كفة، وتوضع لا إله إلا الله البطاقة في كفة، فتطيش البطاقة بالسجلات))، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((ولا يثقل مع اسم الله شيء))؛ لأنه قال: لا إله إلا الله مخلصًا بها من قلبه، موحدًا، صادقًا بها، وهذا الحديث عند أهل العلم يسمى بحديث البطاقة، دل على أن الميزان له كفتان، والموازين كثيرة، لكنها موازين حساسة، للعمل الصالح والإيمان.







ما الذي يوزن فيها؟ يوزن فيها أمران، جاء أنه يوزن فيها العمل الصالح، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8]، بأي شيء ثقلت؟ بالعمل الصالح، وجاء أيضًا أن الذي يوزن العامل مع عمله، ودل على ذلك القرآن والسنة، في السنة حديث رواه البخاري: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((وإنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله جَناح بعوضة، فاقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105]))، دل على أنه يوزن فلا يبلغ وزنه شيئًا، دليل آخر: ما جاء في الصحيح أن ابن مسعود رضي الله عنه، عبدالله بن مسعود بن غافل الهذلي، رقي يومًا على شجرة من أراك، ليجني مسواكًا، عودًا من أراك، فكشفت الريح عن ساقيه، فإذا هما ساقان دقيقتان، فضحك الصحابة رضي الله عنهم، تعجبًا من دقة ساقَيْ عبدالله، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((لم تضحكون؟))، فأخبروه، قال: ((أتعجبون من دقة ساقَيْ عبدالله؛ إنهما لأثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أُحد))، فدل على أن العامل يوزن يوم القيامة مع عمله، فيثقل بما معه من الإيمان والتوحيد، وتعظيم الله، وتعظيم رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم اتباعًا له،هذا ما يتعلق بالميزان، وانحرف في الميزان المعتزلة والجهمية فقالوا بإنكار الميزان، قالوا: الميزان لا يحتاجه إلا البقال والفوال، وهذا من قبح عقولهم، ومن رداءة دينهم وعقائدهم أن ردوا ما جاء في القرآن والأحاديث، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [الزلزلة: 7]، مثقال الذرة من خير أو شر إنما يعرف بالميزان، بتعريف الله جل وعلا له، والله وضع الميزان ليظهر في ذلك المقام للعباد كمال عدله، وإلا فإن الله يأتي يوم القيامة بالشاة الجلحاء فيقتص لها من الشاة القرناء. هل البهائم مكلفة؟ غير مكلفة، لكن لماذا يكون هذا؟ ليظهر الله جل وعلا للعالمين كمال عدله، حتى البهائم غير المكلفة، يقتص للمظلومة من ظالمتها، ثم يأمر البهائم فتكون ترابًا.



هنا انتهى الشريط الرابع، وتم تفريغه في يوم الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول عام 1428هـ.



♦♦♦









الشريط الخامس، وتم البدء في تفريغه مباشرة بعد الانتهاء من الذي قبله.



مضى في مجالسنا السابقة الكلام على مراحل القيامة، بدءًا من أشراط الساعة، فالبرزخ، فنفخة الصعق والفزع، ثم نفخة البعث، ثم قيام الناس من قبورهم كأنهم جراد منتشر، فالحشر، فالشفاعة العظمى، فتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ثم الحساب، وهو تعريف الناس مقادير أعمالهم، ثم الميزان، حوض النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بعد هذا الصراط، الصراط المستقيم، وبعد الصراط: القنطرة، ثم الجنة أو النار. (يتبع).





ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:49 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (17)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل









مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"



تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)














والصراط المستقيم هو الذي عناه الشيخ بقوله:



[وأن الصراط حق]؛ أي: نؤمن بالصراط المستقيم، وهو جسر ممدود على متن جهنم، جاء ذكره في القرآن إجمالًا في قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، فإن من هداه الله صراطه المستقيم في الدنيا، جاز على الصراط المنصوب على جهنم يوم القيامة، وجاء ذكره تحديدًا في آية مريم، في قوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72]، فإن ورود جهنم، كما جاء بيانه في السنة، هو ورودها من على هذا الصراط، الجسر المنصوب على متن جهنم، في السنة تواترت الأحاديث في هذا الصراط، كثرة وبيانًا، تواترًا معنويًّا، فمما جاء في وصف هذا الصراط: أنه جسر دقيق، وأنه أحدُّ من السيف، وأدق من الشعر، وأنه معوج، وأنه مظلم، وأنه دحض؛ أي: زلق، وأن عليه كلاليب قد أمرت بخطف أناس بأعيانهم، ومما جاء فيه أيضًا مما أشار إليه الماتن رحمه الله بقوله:



[يجوزه العباد بقدر أعمالهم]، يجُوزه؛ أي: يجتازون عليه، يعبرون عليه بقدر أعمالهم، فمنهم من يمر على الصراط بسرعة البرق، وهؤلاء كُمَّل المؤمنين، ومنهم من يجوز على الصراط بسرعة الريح، ومنهم من يجوز على الصراط بسرعة أجاويد الخيل؛ أي: الخيل السريعة، ومنهم من هو أقل، بسرعة أجاويد الرِّكاب، الركاب: جمع ركوب، وهي الإبل، ومنهم من يجوز على الصراط يشتد اشتدادًا؛ أي: يركض، يسعى سعيًا، ومنهم من يجوز على الصراط يمشي مشيًا، ومنهم من يجوز بسرعة، من يحبو حبوًا، وأقل أهل الإيمان من يجوز على الصراط؛ حيث أخبر صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه يكون في إبهامه نور، فإذا أضاء له قدم رجله، وإذا أخفت وقف، وقبل الصراط تكون مفاصلة أهل الإيمان بأهل النفاق؛ وذلك أن المنافقين يتبعون المؤمنين في العرصات، حتى يأتوا دون الصراط، فيتفاصلون، فيتقدم المؤمنون، ويتأخر عنهم المنافقون، فيناديهم المنافقون: ﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]، وقوله: (انْظُرُونَا)، النظر، مر معنا أنه إذا عدي بـ "إلى"، فمعناه المعاينة بالبصر، ولكن إذا عدي النظر بنفسه، يعني احتاج إلى مفعوله مع فاعله، فمعناه التوقف والانتظار، ﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ﴾ [الحديد: 13]؛ أي: انتظرونا، هنا فعل: نظر، ينظر، تعدى بنفسه، ومن ذلك قول الله جل وعلا في آخر سورة البقرة: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280]؛ أي: انتظار إلى ميسرة، كأن تقول لأحد إخوانك: انظرني حتى آتيك، أو تقول: انظرني حتى أوفي دَينك، أو: انظرني أتفكر في هذه القضية؛ أي: انتظرني، النظر له مقام ثالث في تعدياته وصلاته، إذا تعدى بحرف الجر: "في"، فمعناه التفكر والاعتبار؛ وذلك كقول الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 185]؛ أي: يتفكروا ويعتبروا، كأن تقول أنت للشيخ، أو يقول لك شيخك أو أحد من الناس: انظر يا أخي في هذه المسألة، يعني تأمل فيها، تفكر واعتبر، إذًا صح من هذا أن النظر له ثلاثة اعتبارات بتعدياته في لغة العرب، إما أن يتعدى بحرف الجر "إلى"، فلا يعني إلا المعاينة بالبصر، انظر إلى المسجد؛ أي: عايِنْه، ومنه قول الله جل وعلا: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، المقام الثاني: أن يتعدى النظر بنفسه، فمعناه التوقف والانتظار؛ كقول المنافقين قبل الصراط للمؤمنين: ﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ﴾ [الحديد: 13]؛ أي: انتظرونا، المقام الثالث أن يتعدى بحرف الجر "في"، ومعناها التفكر والتأمل والاعتبار، ومنه قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 185].







أضعف أهل الإيمان من يجوز على الصراط وقد أضاء إبهامه، فإذا أضاء قدم رجله، وإذا خفت النور وقف، دل هذا على أن الصراط مظلم، وأسفله نار جهنم، ونار جهنم سوداء مظلمة، جاء في الحديث عند أحمد وغيره: أن الله جل وعلا أحمى على نار جهنم ألف عام حتى احمرت، ثم ألف عام حتى ابيضت، ثم ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة، الصراط أيضًا عليه كلاليب، خطاطيف، شبهها عليه الصلاة والسلام بشوك السعدان، الإخوان الذين يطلعون للبر يعرفون شوك السعدان، الهدب، هدب الشوك من جميع أطرافه، إذا يبس يعلق بالثياب، ويعلق بالمتاع، ويعلق بالفراش، ويصعب إزالته، هذه الكلاليب التي على الصراط شبهها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بشوك السعدان، لكنها أُمِرت بخطف أقوام، فمن خطفته أخذته فألقته في نار جهنم، النبي عليه الصلاة والسلام عند أدنى الصراط من جهة الجنة، رافعًا يديه إلى السماء، قائلًا: ((اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم))، قال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((فناجٍ مسلَّم))، وهذا كما قال الماتن:



[فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم]؛ لأن من لم ينجُ يكب على وجهه في نار جهنم.







[وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم]؛ أي: أعمالهم الفاسدة، ((اللهم سلم سلم، فناج مسلَّم، ومكدوس مكردس على وجهه في نار جهنم))، قد يكون من أهل الكبائر، وقد يكون من أهل الكفر، هذا وارد، وهذا وارد، والغالب أنهم من أهل الكبائر؛ لأن الناس من أهل المحشر منهم من يساق مباشرة إلى النار، ومنهم من يساق بعد الوزن إلى النار، ومنهم من ينتظر حتى تخطفه الكلاليب التي أمرت به، فيبقى كالمتوجس خيفة من آثار ذنوبه، ومنهم من سبقت له من الله الحسنى، فقبله ربه، أو قبل فيه شفاعة الشافعين من النبيين والصالحين والملائكة والشهداء، ومقدمهم محمد عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا من أعظم ما يكردس المرء على وجهه في نار جهنم حصائد لسانه؛ أي: ثمرة هذا اللسان؛ ولهذا كان الصالحون الذين عرَفوا الله وأيقنت قلوبهم إيمانًا بالله، كانوا أشد الناس خوفًا من آثار اللسان، حتى صح عن الصِّديق رضي الله عنه أنه كان يأخذ بلسانه، معلوم من هو الصديق، الذي سبق الناس كلهم بصدق الإيمان ويقينه، وكمال التوحيد وعظمه، كان يأخذ بلسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، أو قال: "سيوردني الموارد"، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ الطويل، وهو من أحاديث الأربعين، معاذ في آخر الحديث استوصى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: أوصني يا رسول الله، قال: ((كف عنك هذا))، وأخذ عليه الصلاة والسلام إما بلسانه أو بلسان معاذ، قال: يا رسول الله، أوئنا لمؤاخذون؟! قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ!))، هذه الكلمة معناها: فقدتك أمك، لكن العرب جرت على ألسنتهم هذه الكلمة من غير إرادة لمعناها، كقولهم: "شلت يمينك"، كلمة تأنيب وتأديب، لا يراد منها حقيقة معناها، فلا يتصور أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يدعو على معاذ أن تفقده أمه، ولكنها كلمة تأنيب، ولفت انتباه وتأديب، قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!))، وأعظم ما يكون في هذا، أي: حصائد الألسنة، ما يكون من الكلام في دين الله جل وعلا؛ ولهذا جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: (وإن الرجل)، وفي رواية: ((إن المرءَ ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها))؛ أي: ما ينتبه لما تبلغه من سخط الله جل وعلا، ((يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))، جاء أيضًا تفسير هذا الحديث من وجه آخر في السنن، عند ابن ماجه وغيره: ((وإن المرء ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في النار سبعين خريفًا))، يهوي بها؛ أي: بسبب هذه الكلمة التي صارت عند الله سخطًا ومقتًا، إلى أن يبلغ قعر جهنم؛ دليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان جالسًا مع أصحابه فسمعوا وجبة، صوتًا ارتطم في الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم: ((أتدرون ما هذا؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا حجر ألقي من على شفير جهنم منذ سبعين خريفًا، الآن بلغ إلى قعره!)) قد يهوي العبد بسبب كلمة ألقاها من غير ما يلقي لها بالًا أو يتبين فيها، أو يظن أنها تبلغ مبلغها، فيسخط الله عليه بهذه الكلمة حتى يجعله في الدرك الأسفل من النار! ومن صور ذلك ما يتحدث به الناس على سبيل السخرية والاستهزاء والاستهتار بالله أو بأسمائه أو بصفاته أو برسوله أو بدينه، وهذا ما أكثر وقوعه في هذه الأزمان المتأخرة لما ضعف وازع الإيمان ومخافة الرحمن، وخف شأن الإيمان والعقيدة في القلوب.







إذًا أعظم ما يسبب الهويَّ في النار: حصائد الألسنة؛ كما دلت عليه الأحاديث، وهذا الصراط ينجو عليه من سمعتم من أهل الإيمان، ومرور المؤمنين على الصراط مع هذا الهول العظيم والخوف ينقي الله به جل وعلا الذنوب؛ ولهذا من قرأ منكم شرح الطحاوية يجد أن شارح الطحاوية ذكر أن الأسباب المكفرة للذنوب عشرة، والحادي عشر رحمة أرحم الراحمين،من أسباب تكفير الذنوب ما يجده المؤمن في دنياه من هم وغم ومصائب؛ فإنه ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا مصيبة إلا كفر الله جل وعلا عنه بها من الخطايا،أيضًا توبته تكفر الخطايا، واستغفاره، والفرق بين التوبة والاستغفار أن التوبة على ما مضى، والاستغفار على ما يأتي، هذا إذا جُمعا في موضع واحد، وإذا لم يجمعا فالتوبة تشمل الاستغفار؛ فإن لفظ التوبة والاستغفار كلفظ الفقير والمسكين، وكلفظ الإيمان والإسلام، وكلفظ الفسوق والعصيان، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، كما نص على هذا أبو العباس رحمه الله في الإيمان الكبير، وغيره من العلماء.







من أسباب تكفير الذنوب: ما يصيب المؤمن عند سكرات الموت، من الهول والهم، هذا من تكفير الذنوب، أيضًا ما يكون معه في قبره، في أهوال يوم القيامة، ومن ذلك عبوره على الصراط، يكفر الله جل وعلا به من الذنوب، حتى آخر ذلك يكون في القنطرة التي هي دون الجنة، يقتص فيها لأهل الإيمان بعضهم من بعض.







المؤمن في هذا يشبه الذهب، المذهبة، الذهب كلما زاد صليًّا في النار تخلفت عنه الشوائب من المعادن الأخرى، كلما زاد صليًّا في النار نقي، كذلك المؤمن، كلما زادت عليه البلايا والمحن والأهوال تمحص وتنقى من آثار وأدران الخطايا والذنوب، فلا يدخل الجنة إلا وهو منقًى ليس عليه شائبة؛ ولذلك لاحظوا يا إخواني كيف أن الأنبياء والأولياء والصالحين أشد الناس بلاءً، لهذا المعنى، هذا كما جاء في قوله تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3]، ومن فقه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى أن ترجم على هذه الآية في سورة العنكبوت بما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: ((أشد الناس بلاءً))، والبلاء مطلق، لفظة عامة، ((الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل))، كلما زاد الإيمان، زِيد في البلاء.







قبل هذا، الصحابة رضي الله عنهم، وهذا كما قلت لكم: "من كان بالله أعرف، كان منه أوجل، وله أخوف"، كانوا إذا مروا على آية مريم: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]، يمرون وهم في حال وجل عظيم، بل يبكون، كما جاء ذلك عن عبدالرحمن بن صخر، أبي هريرة، وعن جابر وغيرهم، قالوا: "من يضمن لنا في الصدور بعد الورود، وأنى لنا بالصدور بعد الورود؟!"، هذا حال من كان بالله أعرف يا إخوان، أيها الإخوة، إن منا من جعل على قلبه من الران أو الغشاوة أو القساوة، فيمر على مثل هذه المقارع، مقارع القلوب في قراءته فلا يقف عندها، هذا بسبب الغشاوة التي على القلب، وأعظمها بقسوته، وذلك بما أتى مما أتى من المعاصي، فإن المعاصي أشد ما تكون قسوة للقلب وغفلة له، نسأل الله أن يعفو وأن يسامح.


ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:50 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (18)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل










مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"



تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)









[والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم]، لماذا ذكر المؤلف ويذكر أهل السنة الإيمان بالحوض والميزان والصراط؟ أليس أمور الآخرة كلها نؤمن بها على التفصيل؟ لماذا ينص على هذه؟ لأن هناك من المسلمين من أنكرها، أو أوَّلها، أو حرفها، وأشهر هؤلاء المعتزلة والجهمية، وأيضًا الفلاسفة، الفلاسفة أنكروا مسائل البعث، الفلاسفة المنتسبون للإسلام أنكروا مسائل البعث؛ لأن الفلاسفة نوعان، فلاسفة ملاحدة وفلاسفة اليونان، كأرسطو، والفلاسفة المشائين، والأبيقورية، والنسطورية، الفلسفة في الحقيقة، وهذا استطراد له مناسبته، أنواع، هناك فلسفة رياضية وأشهرها فلسفة فيثاغورس، هذه لا بأس بها، هناك فلسفة أخلاقية، كفلسفة أفلاطون، صاحب المدينة الفاضلة، وهناك فلسفة طبيعية، في أمور الطبيعيات، وهناك فلسفة إلهية، في مسائل الإلهيات، وهذا هو مزلة القدم، وحامل رايتها عند اليونان هو أرسطو، تلقاها من المسلمين أبو نصر الفارابي، وعلي بن سينا الرئيس، والكندي، وابن رشد الحفيد، وأمثالهم، أبو علي بن سينا، المعلم الثاني، وأبو نصر الفارابي، المعلم الأول، حاولوا أن يجمعوا بين فلسفة اليونان والإسلام، فكان من ذلك بأن قالوا بأن البعث بعث الأرواح فقط دون الأجسام، فأثَّر هؤلاء الفلاسفة بوجه أو بآخر من خلال الترجمات وغيرها على الجهمية والمعتزلة الذين أنكروا تفاصيل ما يكون في البعث، من الميزان، قالوا: ما يحتاج للميزان إلا البقال! أنكروا الصراط، أنكروا حوضه عليه الصلاة والسلام، والحوض ما جاء ذكره صراحة في القرآن إلا تنويهًا وإشارة في آية الكوثر: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1]، والكوثر نهر في الجنة، أوتيه رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، يصب منه ميزابان في حوضه العظيم، وقد مضى التنويه بحوضه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قبلًا بأنه مربع، طوله كعرضه، وهذا تفاوتت فيه الروايات، جاء فيها أن طوله من المدينة إلى بصرى، وفي بعض الروايات من المدينة إلى عمان، طوله كعرضه، والمراد بعمان: بلادكم هذه، وما وراءها؛ لأنها تسمى عمان في تاريخ المسلمين، حتى هذا الساحل يسمى بساحل عمان في التاريخ.

بقيت مسألة ما ذكرناها، وهي: هل لكل نبي حوض؟ أم أن الحوض فقط لمحمد عليه الصلاة والسلام، وراجح هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حوضه أكبر الأحواض وأعظمها، ولكل نبي حوض يرده المؤمنون من أمته، وحوض صالح عليه السلام هو حوض ناقته التي هي آية أيده الله بها، وأن هذا الحوض يذاد عنه من بدل وغير وزاد في دينه عليه الصلاة والسلام؛ أي المبتدعة المحدِثون في دين الرسول ما لم يشرعه رسول الله، والإبدال هو الابتداع، وأيضًا يطلق الإبدال على إبدال الطاعة بالمعصية، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((المدينة حرمٌ ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين))، إحداث الحدث فيها يشمل أمرين، البدعة، الأمور المحدثات، ويشمل أيضًا الأحداث العظيمة بالمعاصي والكبائر وإيواء أهلها، وهذا هو الذي اختاره سماحة شيخنا رحمه الله الشيخ ابن باز بأن الإحداث يشمل هذين الأمرين، وذهب بعض العلماء إلى أن الإحداث هو البدع، لكن المعنى أشمل، من أحدث فيها حدثًا، والحدث حتى ما يتعلق بأمور المسلمين العامة، كمن يؤوي المخربين، الخارجين عن طاعة ولي الأمر، الذي له في أعناق الناس بيعة توجب السمع والطاعة، هؤلاء محدثون، وفي حديث علي عند مسلم قال: حدثني النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بأربع كلمات: ((لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوَى محدِثًا - أي: تستَّرَ عليه - ولعن الله من غيَّر منار الأرض))، وهذا الحديث لعله مر عليكم في كتاب التوحيد، في باب ما جاء في الذبح لغير الله.

ترِدُه أمته لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من بدَّل وغيَّر.
وأن الإيمان: قول باللسان، وإخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقصها.

لاحظوا قول ابن أبي زيد رحمه الله، موافق لقول السلف جميعًا من أولهم إلى آخرهم، الإيمان عند السلف قول وعمل، هذا بالإطلاق، وبالتفصيل على هذه الأمور الخمسة أنه:
[قول باللسان] فلا يصح إيمان من يؤمن حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وهذا أعظم ما يكون بالقول، التسبيح، التهليل، الدعاء، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلها من أفراد هذا الإيمان،وقال:
[وإخلاص بالقلب]، يعني: اعتقاد بالجَنان، هذا لا بد منه،الثالث:
[وعمل بالجوارح]، وهو الذي يعبر عند بعضهم: عمل بالأركان، فإماطة الأذى من الإيمان، الصلاة التي فيها ركوع وسجود وخشوع وقيام من الإيمان، الجهاد من الإيمان، العبادات البدنية المحضة كالحج من الإيمان، قال - وهذا الرابع -:
[يزيد بزيادة الأعمال]، والأعمال هنا تشمل عملين: عمل الجوارح، وعمل القلب، إذا زاد خشوعه، أو زادت خشيته، أو رجاؤه أو توكله، أو مخافته، زاد إيمانه، وهي عمل قلب، أو زاد بعمل الجوارح، كمن صلى ألف صلاة أكمل ممن صلى مائة صلاة.
[وينقص بنقصها]، ينقص الإيمان بنقص الأعمال؛ ولهذا يا أيها الإخوة لا يزال الإيمان يزداد بأسباب زيادته من الأقوال والأعمال حتى يكمل، ولا يزال الإيمان ينقص بنقص الأعمال والأقوال حتى يضعف أو يضمحل؛ ولهذا تفاوت أهل الإيمان في الإيمان تفاوتًا عظيمًا، منهم من بلغ إيمانهم الثريا، ومنهم من ما زال إيمانهم في حضيضهم؛ ولهذا من الأصول المقررة في مسائل الإيمان: أن الإيمان له شُعَب، يزداد الإيمان بها، كما أن الكفر له دركات يتفاوت الناس بها، فأهل الإيمان هل هم على درجة واحدة؟ هل إيمان أبي بكر كإيمان الفساق؟! لا! ولهذا انحرف المرجئة لما قالوا: إن إيمان أصلح الناس كإيمان أفسقهم، بل قال قائلهم: إيماني كإيمان جبريل والملائكة وأبي بكر وعمر؛ لأن الإيمان عندهم لا يتفاوت زيادة ونقصًا، وهذا من أعظم المسائل التي اختلف فيها أهل السنة مع هؤلاء المرجئة، وهي مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وهي ثمرة الخلاف مع هؤلاء المرجئة.

إذًا الإيمان عند الإجمال في مسماه: قول وعمل، وعند التفصيل ينبني على هذه الخمس، أنه قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان، هذا عند التفصيل، والأدلة على الزيادة والنقصان كثيرة، من القرآن: ﴿ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ﴾ [المدثر: 31]، ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، من السنة: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))، من الآثار السلفية: قول عمرَ رضي الله عنه لمعاذ وغيره: "تعال بنا نؤمن ساعة"، "اجلس بنا نؤمن ساعة"، لاحظوا الأدلة في القرآن جاء فيها لفظ الزيادة، ولم يأتِ فيها التصريح بلفظ النقصان، ومن العلماء من قال - كابن المبارك والإمام مالك -: إن الإيمان يزيد، وسكتوا عن النقصان تأدبًا مع القرآن، بل قال ابن المبارك: إن الإيمان يتفاضل، النقصان وجهه أن كل شيء زاد لا بد أنه قبل الزيادة أنقص منه بعد الزيادة؛ ولهذا من لم يقل بالنقصان من أهل السنة فإن قوله لا يخالف قول من قال بالنقصان، لا يخالف إلا لفظه، وإلا في الحقيقة فهو معه، والإمام مالك في الرواية المشهورة عنه، ما رواه عنه يحيى بن أبي كثير، ورواه القاسم، وابن وهب، وأكثر أصحابه رووا عنه بالروايات الثابتة عنه أنه قال بالنقصان، وفي رواية أنه قال بالزيادة وسكت، وهذا مأخذه عند مالك وغيره التأدب مع لفظ القرآن.

[فيكون فيها النقص، وبها الزيادة]، بالأعمال، أعمال الجوارح، وأعمال القلوب، يكون النقص فيها، لا في أصل المعرفة، أو أصل العلم، النقص والزيادة في هذه الأعمال، ومعلوم أن القلب له قول وله عمل، فقول القلب هو اعتقاده، اعتقاده بالله وبأسمائه وبصفاته، وعمل القلب هو خشيته، وتوكله، ورجاؤه، وخوفه، هذه هي أعمال القلوب الكثيرة، الزيادة تكون في هذه الأعمال، لا بمجرد القول، قول القلب، وإنما بالأعمال التي تنبني على هذا القول، كذلك بأعمال الجوارح، يكون فيها النقص وبها الزيادة.

[ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل]، ما معنى قوله: [ولا يكمل]؟ قوله رحمه الله: [ولا يكمل] يراد به معنيان بحسب حاله، فيراد بقوله لا يكمل: أي: لا يصح، وهذه الحالة الأولى، لا يصح قول الإيمان إلا بالعمل، إذا قال الإنسان: لا إله إلا الله ولم يعمل، هذا لا يصح إيمانه؛ لأنه ما أتى بمباني الإسلام وأركانه العظام، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((بُني الإسلام على خمس))، وإلا لو كان يصح إيمانه بمجرد القول، لقالها المشركون وسَلِموا من تبعاتها، لو قال: لا إله إلا الله، وصدَّق بالسِّحر، هل تنفعه لا إله إلا الله؟ ما تنفعه، لو قال: لا إله إلا الله، وذبح لغير الله، هل تنفعه؟ لا تنفعه، إذًا لا بد مع القول من عمل، إذًا الحالة الأولى: لا يصح قول الإيمان إلا بعمل، المقام الثاني: قوله: لا يصح؛ أي: لا يتم، وهذا في الأعمال الواجبة، أنه لا يتم الإيمان إلا بالعمل الواجب، إذًا نستفيد من هذا أن العمل عملان: عمل لا يصح الإيمان إلا معه، ومن ذلك أعمال القلوب؛ كإفراد الله جل وعلا بالخشية، إفراده بالخوف، إفراده بالتوكل، إفراده بالرجاء، بالاستعانة، بمسائل العقيدة المشهورة، ومن ذلك العمل؛ أي: القيام لله بالصلاة في أصح أقوال أهل العلم، فإن من لم يصلِّ، في أظهر أقوال أهل العلم، الذي حكاه شيخ الإسلام ومحمد بن نصر اتفاقًا، اتفاق السلف، كما حكاه الإمام محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة، وحكاه شيخ الإسلام في مواضع، أن السلف متفقون على أن من لم يصلِّ فليس بمؤمن، أخذًا من آيتين، آيتي براءة في أولها، ﴿ فَإِنْ تَابُوا ﴾؛ أي: عن الشرك، ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، وفي الآية الأخرى: ﴿ فَإِنْ تَابُوا ﴾؛ أي: عن الشرك، ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 11]، يدل عليه حديث جابر عند مسلم: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر: تركُ الصلاة))، وفي حديث بريدة: ((العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر))، وهذا عند مسلم، حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر))، ينضاف إلى هذا ما جاء عن عبدالله بن شقيق رحمه الله، من التابعين، أنه قال: أدركتُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، الصلاة عمل، من لم يأتِ به مع الإيمان، مع قدرته عليه، وعنده فسحة، فإنه لا يصح إيمانه، أما من آمن في الضحى ثم مات قبل الظهر، ما قام عليه فرض الصلاة؛ ولهذا صح أنه دخل أحدٌ الجنة ولم يسجد لله سجدة؛ لأنه لم يدرك فرض الصلاة، ومعنى القول الثاني أنه لا يكمل قول الإيمان إلا مع عمل؛ أي: لا يتم الإيمان إلا مع عمل، وهذا يشمل الأعمال الواجبة، أو الأعمال المستحبة، كل بحسَبه.




ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:50 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (19)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل











مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"



تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)






جواب الأسئلة:
لا يكمل: بمعنى لا يصح، وهذه دلالة اصطلاحية، في أصول الإيمان، وفي أصول العمل، وأيضًا لا يكمل؛ أي: لا يستتم، في شرائع الإيمان وخصاله، في حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام ذكرها أبو عبيد القاسم بن سلام في رسالته الإيمان أنه قال: ((لا يزال المؤمن بعمله حتى يستتم إيمانه))، ومعنى يستتم؛ أي: لا يزال يكمل الإيمان حتى يبلغ به الكمال؛ ولهذا من عباد الله من كمل إيمانه؛ كالخليلين عليهما الصلاة والسلام، وفي الحديث: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا قليل، منهن امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم))، فالكمال هنا يا أخي في المعنى الاصطلاحي، لا في الدلالة اللغوية.

حوض ناقة، جاء فيها حديث أو أثر يروى، ولا أستحضر الآن الكلام على تخريجه، إنما خرجته في كتابي "الرسالة الواضحة"، من رجع منكم إلى هذا الموضع في آخرها، فيها تخريج لهذا الأثر، ومن قال به من العلماء، في آخر الرسالة الواضحة.

المحاسبة معناها: تعريف الناس مقادير أعمالهم، الحساب هو تعريف الناس مقادير العمل؛ ولهذا من الناس إذا عرف اعترف، ومنهم إذا عرف كابر، فمن كابر تشهد عليه دواوينه، فإذا قال: يا رب، ظلمتني ملائكتك، هنا يختم على فمه، وعلى لسانه، وتتكلم جوارحه بما عمل، المؤمنون غالبهم إذا قرروا بأعمالهم، أقروا بها، ولم يكابروا أو يعاندوا أو يجادلوا، هؤلاء خليقون بأن تسبق لهم من الله الرحمة، ويعطف عليهم سبحانه، ويحن عليهم، فيتجاوز عنهم، ولهذا هذا الذي كابر إذا ختم على فمه، على لسانه، نطقت جوارحه، قالت العين: أنا نظرت، وقال السمع: أنا سمعت، وقالت الرِّجْل: أنا مشيت، وقال الفرج: أنا فعلت، وقال الفخذ: أنا فعلت، ورأيت، فعندئذ يقول: تبًّا لكن! فعنكن كنت أدافع، وتأوليه هو قول الله جل وعلا: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65].

لا، ما هي بمحمودة، ولكن هذا من تقسيم الواقع، هناك فلسفة طبيعية، وفلسفة رياضية تدرسونها هي نظرية فيثاغورس، في الرياضيات، تدرسونها في الجبر، هناك فلسفة أخلاقية، عند أفلاطون، صاحب المدينة الفاضلة، شيخ الإسلام، في الرد على الفلاسفة والمنطقيين، قال: إن سقراط وأفلاطون لم يحصل منهما انحراف في الربوبية وفي الأسماء والصفات، بل ذكر أن سقراط كان معاصرًا لنبي الله داود، وبسط هذا عنه أيضًا ابن القيم في إغاثة اللهفان، أما الفيلسوف الذي أثر عنه عبادة الأصنام والشرك هو: أرسطوطاليس، الذي كان وزير الإسكندر المقدوني، والإسكندر المقدوني غير "ذي القرنين"، الملك الصالح الجوال، الذي طاف الدنيا، ونوه الله عنه في آخر الكهف.

الفلسفة الطبيعية في مسائل الطبيعة، في الفلك، في الأحياء، القانون قبل أن يكون قانونًا يكون نظرية، تعرفون أن هذه العلوم تبدأ نظرية، فإذا دعمت، وكثرت أدلتها أضحت مسلَّمة، والمسلَّمة هي القانون، والقانون منه ما يكون نظريًّا، ومنه ما يكون موقنًا به لا يشق ولا يخالف، وبعض قوانينهم كانت قوانين ثم هدمت، وأبدلت هذه القوانين بنظريات أُخَرَ.

نحن عددنا خمسًا؟ ما قصدت الحصر أنا، بل هي عشر، يقول: ومكفرات الذنوب عشرة، التي هي من فعل الآدمي، الحادي عشر: هي رحمة أرحم الراحمين، منها ما يصيب المؤمن من الهم والغم والمرض والنصب، حتى ما يرى في منامه من الكوابيس وأمثالها أثناء النوم، هذه مكفرات؛ لأنها داخلة في الهم، من المكفرات الموت، ما يلاقيه في قبره، ما يكون في أرض المحشر من الهول العظيم، المرور على الصراط، القنطرة، التوبة والاستغفار من المكفرات، شفاعة الشافعين، من مكفرات الذنوب، هذي تسع، الحسنات تكفر الذنوب؛ لأن الله يقول: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، في الحديث: ((وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها))، هذي عشرة، وأعظم من ذلك وأجلُّ رحمةُ أرحم الراحمين جل وعلا.

اللسان هو ما يبين ارتفاع إحدى الكفتين على الأخرى، هذا اللسان الذي في الوسط، حتى لا تطيش هذه على هذه؛ أي: تميل إحدى الكفتين، فيعرف أن هذا ماز على هذا، لكن لا يشبه ألسنة موازين الدنيا.

ابن عباس هو الذي أخبر أن الميزان له كفتان ولسان.

لا، بعد الميزان.
لأن هذا مما سبق في علم الله أنه يمر على الصراط، ويجازى به.
إي نعم، فيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه معوج.




ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:51 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (20)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل












مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"



تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)













[ولا قول وعمل إلا بنية]، اللام هنا هي: لام النفي، التي يسميها أهل العربية بالنافية للجنس، وعلامة اللام النافية للجنس أن يكون ما بعدها نكرة، فيكون منفيًّا بلا، وقد عملت فيه لا حتى أضحى منصوبًا بعدها، ومعناها أي: لا يصح القول والعمل إلا إذا انبنى على اعتقاد، والاعتقاد هو النية، ونية القلب هي عمل القلب، القلب له قول وله عمل، قول القلب هو الاعتقاد، كاعتقاده بالله، بأسمائه وصفاته، يعني معرفته بأسماء الله وصفاته وما يجب له، هذا هو قول القلب الذي هو اعتقاده، وعمل القلب، كالنية، ولا تصح العبادات إلا بها، ومن عمل القلب: الخشية، والتوكل، والإنابة، والخوف؛ ولهذا قلنا: إن الخوف يكون شركًا إذا كان خوف السر، خوف القلب، التعظيم، الاستغاثة، الاستعانة، هذه هي أعمال القلوب، ومن أشهر صور أعمال القلوب: النية والنوايا والمقاصد؛ إذ العمل قد يبدو في صورته صورة واحدة، لكن يختلف في حقيقته بالنية؛ ولهذا في حديث عمر الذي في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))، صورة العمل واحدة، كلهم هاجر من مكة إلى المدينة، فمنهم من هاجر من مكة إلى المدينة لله، وطاعة واتباعًا لرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ومنهم من هاجر لينكح المرأة، كمهاجر أم قيس، الذي خالف وغاير صورة العمل هو النية، الصيام، منهم من يصوم لله عبادة، ومنهم من يصوم عادة، ومنهم من يصوم حمية، ومنهم من يصوم لأن قومه صاموا، صام أهله وقومه، وهو معهم، إمعة، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساء الناس أساؤوا، ولهذا أذكر، على ذكر الإمعة، قول أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، صاحب المنازل، له قصيدة نونية عظيمة، يقول في قصيدته التي فيها ذكر مناقب أهل السنة، وعطف عليها بمناقب الإمام أحمد، يقول لما ذكر الإمام أحمد:





أنا حنبليٌّ ما حييتُ فإن أمُتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فوصيَّتي ذاكم إلى إخواني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



إذ دِينُه دِيني، ودِيني دِينُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ما كنتُ إمَّعةً له دِينانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif










إذًا العمل والقول لا يصحان إلا بنية، والنية هي عمل القلب، الأقوال نوعان، والأعمال نوعان، القول قول اللسان، أعظمه وأجله بالنطق بالتوحيد، أشهد أن لا إله إلا الله، من قول اللسان الأذان، من قول اللسان قراءة القرآن، التسبيح التهليل، هذه كلها أعمال صالحة بقول اللسان، النوع الثاني قول القلب، وهو الاعتقاد، اعتقاده بالله، بربوبيته، بأسمائه، بصفاته، اعتقاده بالنبي، بأنه عبد الله ورسوله، هذا اعتقاد القلب، وهو قول القلب، والعمل عملان، عمل القلب، وعمل الجوارح، عمل القلب أظهر صوره: النية، ومن عمل القلب: أعمال القلوب، وهي عظيمة جليلة، بل ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها؛ لأنه بعمل القلب إذا صلح عظم درجاته عند الله جل وعلا، كالتوكل، والتوكل عمل قلب؛ ولهذا لا يصح أن يقول: توكلت على الله، ثم على فلان؛ لأن القلب لا يسع إلا واحدًا، ونص أئمة الدعوة على أن هذه العبارة: توكلت على الله ثم على فلان، أنها من قبيل الشرك الأصغر؛ لأن القلب لا يسع إلا واحدًا، أما إذا قال: توكلت على الله وعلى فلان، فهذا شرك التسوية، من ذلك أيضًا الخشية، والإنابة، والرجاء، والإجلال والتعظيم، والاستغاثة والاستعانة، والعياذة، هذه كلها من أعمال القلوب، أعمال الجوارح كثيرة، من أعمال الجوارح الطواف، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار، الصلاة فيها قول وعمل واعتقاد، فيها الأعمال كلها؛ ولهذا عظمت الصلاة في العبادة؛ لأنها اشتملت على مناحي الإيمان، إذًا لا قول ولا عمل يصح إلا بنية، وهناك أيضًا مقام آخر، أنه لا يكمل هذا القول والعمل إلا بكمال هذه النية، إذًا لا قول، في صحته أصلًا، وأيضًا في كماله.







[ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة]، قد يكون الإنسان عنده قول صحيح، وعمل كثير، ونية صالحة، لكن هذا العمل على غير سنة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، عنده قول، ذكر، ومخلص في الذكر لله جل وعلا، ولكنه يقول: الله حي، الله هو، وخذ من هذا الرقص، يهز يمينًا ويسارًا! هل هذا العمل يقبل عند الله؟ لا يقبل؛ لأنه لم يوافق سنة النبي عليه الصلاة والسلام، نعم، قال قولًا في ظاهره أنه عبادة، وظاهره عنده أنه طاعة، وعنده فيه نية، مخلص في النية، لكن إخلاص النية لا يبرر سلامة العمل حتى يكون موافقًا؛ ولهذا ابن مسعود لما دخل جامع الكوفة ورآهم حلقًا، قالوا: يا أبا عبدالرحمن، ما أردنا إلا الخير؛ أي: نيتنا نية صالحة، لكن ما سوغت النية لهم العمل، الغاية ما بررت لهم العمل، ولهذا قال: كم من مريد للخير لم يدركه، وفي بعض الروايات، كم من مريد للخير لم يصبه، ما أدري من سألني منكم عن أثر ابن مسعود هذا، أين يجده؟ هذا الأثر رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله، ورواه أيضًا اللالكائي رحمه الله في شرح أصول اعتقاد أهل السنة،إذًا النية وحدها ما تكفي، والعمل أجمع العلماء على أن له شرطين، لا يصح العمل إلا بهما، أن يكون مخلصًا لله، وأن يكون على سنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقوله تعالى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، فسَّرها الفضيل وغيره بأنه أصوبه، ولا يكون قائمًا إلا على سنة النبي عليه الصلاة والسلام.







المقصود أن هذا السطر لخص فيه ابن أبي زيد رحمه الله ألفاظ وعبارات السلف في مسائل الإيمان، ومن أراد لها بسطًا فليراجع لها مظان كتب السلف، وأهل السنة في الإيمان، تجد أن أقوال الأئمة تناثرت على هذا المعنى، ككتاب الإيمان والسنة للخلال، الذي تضمن الإيمان للإمام أحمد، وكتاب السنة لعبدالله ابنه، وكتاب الشريعة للآجري، والسنة لابن أبي عاصم، الإبانة الكبير لابن بطة العكبري، كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام انبنى على هذا الأمر، ومنها: الإيمان لابن أبي شيبة، كتب الإيمان في صحيح البخاري، ومسلم، فيها مقاطيع عن التابعين وعن الصحابة بهذا المعنى، وكتاب السنة أيضًا للإمام محمد بن نصر المروزي، وتعظيم قدر الصلاة له، فإن تعظيم قدر الصلاة له يسميه شيخ الإسلام بكتاب الإيمان؛ لأنه قام على مسألة الإيمان، قام على تحقيق مسألة الإيمان، أيضًا كتاب السنة للحافظ الطبراني، وهذا كتاب لا أعرف أنه طبع بعد، لعل الله أن ييسر العثور عليه؛ لأنه كتاب جليل، ولهذا ابن القيم ذكر هذا الكتاب في النونية لما ذكر الجهمية، قال رحمه الله:




ولقد تقلَّد كفرَهم خمسون في ♦♦♦ عَشْرٍ مِن العلماء في البلدان







كم خمسون في عشر؟ خمسمائة، وأنا قائل لكم أيها الإخوان: دققوا الحساب، تطول العشرة، تراكم إذا خسرتم الحساب، خسرتم العشرة، حتى في أمور حساباتكم أنتم، خمسون في عشر من العلماء في البلدان، ولقد حكاه اللالكائي ومن قبله الحافظ الطبراني، يشير إلى كتابه، كتاب السنة، وهو من مصادر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، ومصادر ابن القيم.




ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:52 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (21)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل













مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"



تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)













[وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة]، هذه العبارة هي عبارة الطحاوي، إلا أن الطحاوي في عقيدته زاد عليه بقوله: "ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله"، [وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة]؛ أي: ما لم يقع منه استحلال؛ لأنه إن استحل الذنب ولو لم يفعله، من اعتقد أن الزنا حلال، وهو عالم، أو الربا حلال، وهو عالم، ولو لم يزنِ، ولو لم يرابِ، مجرد اعتقاده كفر، إذا كان عالمًا، أما إذا كان جاهلًا فالجهل يمنع من تكفيره عينًا، الجهل أو التأويل أو الخطأ أو الإكراه، موانع من موانع التكفير؛ ولهذا الكفر له موانع، منها الجهل، هذه اضبطوها، يحتاجها طالب العلم في مباحث التكفير، من موانع التكفير: الجهل، فمن كان جاهلًا ووقع في الكفر على جهل، نقول: الكفر الذي وقع فيه الكفر الأكبر، لكن في عينه لا يكون كافرًا كفرًا أكبر لعذر جهله، وشيخ الإسلام في كشف الشبهات وغيرها قعد قاعدة، الخاتمة الجامعة، قال: فمن عرف التوحيد وتركه، أو عرف الكفر ووقع فيه غير مكره فهو غير معذور، انتبه لها يا طالب العلم، فمن عرف التوحيد وتركه، إذا ترك التوحيد عن جهل أم عن علم؟ عن علم، أو عرف الكفر ووقع فيه، إذا وقع في الكفر عالمًا أم جاهلًا؟ عالمًا، غير مكره فهو غير معذور، المانع الثاني من موانع التكفير: التأول، أن يتأول، يظن أن هذا هو الحق، فهذا يمنع من تكفيره، الذين نفوا علوَّ الله جل وعلا على خلقه، ومنهم أئمة وعلماء، هل يكفرون بهذا؟ نفي علو الله على خلقه كفر، لكن ليس كل من نفاه يكون كافرًا؛ لأن هنا مانع التأويل، التأويل منع من تكفيرهم عينًا؛ لأن التكفير لا بد أن يكون كهذه البيضاء، دون أدنى شبهة، والحد يدرأ في شريعتنا بأدنى شبهة؛ لحديث: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات))، المانع الثالث من موانع التكفير: الإكراه، إذا وقع في كفر أكبر مكرَهًا، كمن سب الله مكرَهًا، أو سب النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مكرَهًا، هذا مانع من موانع التكفير؛ ولهذا لما سبَّ عمارٌ رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، هل عذروا أو لم يُعذَروا؟ عذرهم النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقال: ((إن عادوا، فعودوا))، وأنزل الله في هذا الآية العظيمة، التي هي أصل في هذا الباب، من سورة النحل: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ﴾ [النحل: 106]، المانع الرابع: الخطأ، أن يقع في الكفر مخطئًا، يعرف أن هذا خطأ، وأن هذا كفر، مثل ذلك الرجل الذي لما أضاع دابته، وعليها طعامه وشرابه، في فلاة من الأرض، حتى ظن الهلكة، فلبث في أصل شجرة فنام، فما استيقظ إلا ودابته على رأسه، قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، هذه الكلمة كفر أو ليست كفرًا؟ كفر، ولكنه قالها مخطئًا، فعذر، (أخطأ من شدة الفرح)، فعذره الله جل وعلا، لاحظتم يا إخوان، فهذه الأربع هي أشهر موانع التكفير، ثمت موانع فيها خلاف بين أهل العلم، ليس هذا مقام بسطها، والتكفير في شرائطه وفي موانعه اقرؤوا فيها كتب أحكام المرتد، وتصانيف أئمة الدعوة رحمهم الله أجلت هذه المسألة إجلاءً عظيمًا، وأخصرها رسالة للشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين، مفتي الديار النجدية في تكفير المعين، عني فيها بهذا، ضد هذه الموانع هي الشروط، شروط التكفير: أن يكون عالمًا به، أن يكون غير مكره، أن يكون عامدًا، وأن يكون مختارًا، وأن يكون قاصدًا؛ ولهذا قد يصدر من بعض العوام ألفاظ فيها سوء أدب مع الله، لكن لا يؤاخذون بها، في شمال المملكة، في بلدة من البلدان، ذكروا أن شيخًا كبيرًا عمره قريب من التسعين، اسمه عويد، وعويد هذا الناس يحجون، وهو ما حج، فأشغب عليه قومه وأكثروا عليه الكلام، فلما أكثروا عليه حج معهم، فذهب إلى مكة، فوجد الحرم مليئًا بالطائفين في الحج، يذكرون الله ويدعون ويستغفرون، وهو شايب كبير، ما يدري، ينظر إلى الناس، وينظر إلى الكعبة، الناس يدعون، وهو لا يعرف ما يقول، فلما أن رأى هذا المقام وهو يمشي، فالتفت إلى الكعبة، وقال: "يا ربي، شفني، جيتك، لا تقول باكر: عويد ما جاني"، هذا القول لو قاله عالمًا يكون إما استهتارًا أو استهزاءً، أو لا يليق بالله، لكن هذا يعذر، لماذا؟ لأن هذا مبلغ ما عنده، وأنا أثق وأعتقد بالله جل وعلا أن الله لا يؤاخذه، بل يثيبه على قوله؛ لأنه ما قال ذلك إلا حبًّا لله جل وعلا، آخر، رأيته وأنا صغير في المسعى، يسعى، وهو يدعو، ويقول: رب اغفر وارحم، وإن لم ترحم لازم أن ترحم، هذا إلحاح على الله واعتداء بالدعاء، ولكن هذا الذي أدى إليه لسانه، فلا يكون منه والحال هذه سوء أدب مع الله، ولهذا كنت صغيرًا، وأمشي مع والدي، يقول: انظر كيف يلح على الله جل وعلا بطلب الرحمة، والله جل وعلا يعلم من الناس نياتهم ومقاصدهم، فيؤاخذهم عليها، ولهذا في الحديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم))، وهذا أمر معتبر جدًّا في مسائل التكفير، تكفير المُعيَّنين.







[وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة]، يعني: إذا ثبت أنه من أهل القبلة، ما المراد بأهل القبلة؟ أهل الصلاة، وهذا معنى أهل القبلة في اصطلاح العلماء، أهل القبلة؛ أي: الذين استقبلوا قبلتنا، فهم أهل صلاة، ما هم مضيعين للصلاة، شهدوا أن لا إله إلا الله، وصلوا صلاتنا، وهذا هو الحد الذي يكون به المسلم منا، وله ما لنا، وعليه ما علينا، لا يكفر بذنب، والذنب هنا ما خلا الشرك، أما إذا أشرك وكفر فهذا يخرج عن هذا الباب، ولعلي أشير ها هنا إلى ثلاثة ضوابط شهيرة في هذا الباب، وإلا فإن الأصول والقواعد والضوابط في الكفر قد بلغت تقريبًا ثلاثة عشر أصلًا وضابطًا، الضابط الأول في هذه المسألة: أن التكفير حكم شرعي محض، ما معنى ذلك؟ معناه أنه حكم شرعي خالص، مرده إلى الله ورسوله فقط، إذًا فمصدر التكفير للمعينين وغير المعينين هو إلى الله ورسوله، لا إلى أهوائنا، أهل البدع شعارهم إذا خالفهم الإنسان كفروه، وعندهم أن التكفير ليس حكمًا شرعيًّا محضًا، وإنما حكم شرعي مرده إلى أهوائهم، أما أهل السنة فعندهم أن التكفير حكم شرعي محض، مرده إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولخصت لكم ذلك بأن قلت لكم، فمن كفره الله ورسوله عينًا نكفره عينًا ولا كرامة، هل يمكن أن يصح أن يقال: إن إبليس أو فرعون مؤمنون؟ أو لا نكفرهم؟ لا، إلا على مذهب المرجئة وغلاة المرجئة، وإلا فهم كفار بتكفير الله لهما، فمن كفره الله ورسوله عينًا بنفسه، فإننا نكفره عينًا ولا كرامة، فرعون هذه الأمة هو أبو جهل، عمرو بن هشام، الثاني: من كفره الله ورسوله جنسًا، فنكفره جنسًا ولا كرامة، الله ورسوله كفَّرَا المشركين، والمجوس، واليهود والنصارى، والكافرين، فجنس هؤلاء كفار، ومعنى جنس؛ أي: غير معينين، لو قال قائل: لا، اليهود إخواننا، والنصارى إخواننا، ما هم بكفار، أو المجوس ليسوا كفارًا، هذا أتى ناقضًا من النواقض؛ ولهذا مر عليكم، إن كنتم تحفظون نواقض الإسلام، ونواقض الإسلام بالمناسبة كثيرة، ليست محصورة في العشرة، ولهذا الأصول الخطية لنواقض الإسلام لما راجعناها فيها هذا المعنى، أن نواقض الإسلام كثيرة "أشهرها عشرة"، شيخ الإسلام رحمه الله ذكر أن الفقهاء ذكروا، الشيخ منصور البهوتي في شرح الإقناع، وغيره ذكروا أن النواقض قد تزيد على أربعمائة ناقض، أشهرها عشرة، الناقض الثالث منها قال الشيخ: "مَن لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم"، هذا أتى ناقضًا؛ لأنه اعترض على حق الله جل وعلا في تكفير هؤلاء جنسًا، الثالث: من كفره الله ورسوله وصفًا، فهذا يكفر إذا قام به الوصف الذي لأجله كفره الله ورسوله، وهذه وظيفة العلماء، والقضاة الشرعيين الفقهاء، الذين يطبقون هذا الوصف على المعينين، من ذلك قول الله تعالى: ﴿ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65، 66]، هؤلاء كفروا بهذا الاستهزاء، لما قام بهم وصف الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء)، كفروا به، قبل هذا هم مسلمون بنص الآيتين: ﴿ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 66]، أثبت لهم إيمانًا تلاه وأعقبه كفر، وفي الآية بعده قال: ﴿ وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ﴾ [التوبة: 74]، إذًا من قام به وصف الكفر؛ كأن يصدِّق بالسحِّر، أو يرضى به، أو يصدق بالكهان، أو يدعي علم الغيب، أو يسجد لصنم، إذا قام به وصف الكفر، بوصفه المعتبر عند أهل العلم لما ذكر الله أنه كفر أكبر، أو ذكر النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ذلك، فإن هذا يكفر بعينه ولا كرامة له، هذه كلها منبثقة من الأصل الأول؛ أن التكفير حكم شرعي محض، مردُّه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، القاعدة الثانية في هذا: أن الكفر أنواع: فها هنا كفر أكبر، وكفر أصغر يسمى بالكفر العملي، الكفر الأكبر هو المخرج من الملة، والكفر الأصغر لا يخرج من الملة، الكفر الأكبر يوجب الخلود في النار، الكفر الأصغر قد يوجب الدخول في النار، لكن لا يوجب خلودًا فيها، الكفر الأكبر لا يغفره الله جل وعلا، والكفر الأصغر تحت المشيئة، إن شاء الله غفر لصاحبه، وإن شاء عذبه، الكفر الأكبر يحبط العمل ممن كان، حتى لو كان من خلَّص عباد الله؛ ولهذا قال الله جل وعلا في آية الزمر في آخرها: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ ﴾ النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ﴿ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، في سورة الأنعام، لما ذكر سبحانه الأنبياء، ذكر أسماء وأعيان ثمانية عشر نبيًّا ورسولًا، ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ... ﴾ [الأنعام: 83، 84] الآيات، إلى أن قال: ﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 88]، إذًا الشرك والكفر الأكبر يحبط العمل، مهما بلغ هذا العمل تقًى أو صلاحًا أو زكاةً، فإنه يحبطه، أما الكفر الأصغر، ومنه الشرك الأصغر أيضًا، فلا يحبط جميع العمل، بل نص العلماء أن الشرك الأصغر كالرياء يحبط العمل الذي صاحَبَه فقط، لا جميع العمل، الكفر الأكبر يذهب عصمة الدم والمال، والكفر العملي لا يذهب عصمة الدم والمال، وقل مثل هذا القول أيها الأخ المبارك في الشرك الأكبر والشرك الأصغر، وقل مثل هذا في النفاق الاعتقادي والعملي، إذًا الكفر لا بد أن نعلم أنه نوعان، كفر أكبر وكفر أصغر، الذي يعني بالتكفير هو الأكبر، فمن كفر الناس بالكفر الأصغر فهو من الوعيدية، كالخوارج أو المعتزلة الذين عندهم مطلق التكفير بالذنوب والمعاصي والكبائر، وكذلك الشرك شركان، شرك أكبر حكمه حكم الكفر الأكبر، وهناك الشرك الأصغر، وهو كل ما ورد من الذنوب تسميته شركًا ولم يبلغ حد الشرك الأكبر، أو كان وسيلة من وسائل الشرك الأكبر، أيضًا النفاق، هذا المصطلح الثالث الذي جاءت به الشريعة، النفاق نفاق اعتقادي أكبر، وثمة نفاق عملي أصغر لا يخرج من الملة، خصال النفاق الخمسة: ((إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))، ((وإذا عاهَدَ غدر، وإذا خاصَم فجَر))، كما جاء فيها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وإذا عرفت أن الكفر على أنواع، فاعلم أنه على مراتب، وهذا على وجه آخر، كما ذكره ابن القيم في كتابه الصلاة، وشيخه، والعلماء، أن الكفر مراتب، منها كفر يخرج من الملة، وهو الكفر الأكبر، ومنها كفر لا يخرج من الملة؛ كقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((سِباب المسلم فسوق، وقتاله كفر))، هل معنى هذا أنه إذا قاتل مسلم مسلمًا نحكم عليه بالردة؟ نحكم عليه بذلك، شيخ الإسلام ذكر لطيفة مهمة في هذا الباب تفيد وتنفع طالب العلم جدًّا، ذكر أن الكفر في الشريعة يأتي على موردين، يأتي معرفًا بأل، ويأتي منكرًا، فإذا جاء الكفر معرفًا بأل فالمراد به بالتتبع الكفر الأكبر، مثاله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} [البقرة: 108] الكفر هنا معرفة، فالمراد به الأكبر، ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة))، الكفر هنا الأكبر، وإذا جاء الكفر في الشريعة في موارده في الوحيين منكرًا، فالأصل أنه الكفر الأصغر، ((سِباب المسلم فسوق، وقتاله كفر))، ((اثنتان في الناس هما بهم كفر، الفخر بالأحساب، والنياحة على الموتى))، القاعدة الثالثة في هذا الباب: أنه يجب التفريق بين ثلاث مراحل في التكفير، وهذه تفيد طالب العلم إذا فهمها وأدركها جيدًا، فعندنا في التكفير ثلاث مراحل، المرحلة الأولى: أن نعين أن هذا الذنب كفر أكبر مخرج من الملة، يتأتى ذلك بالأدلة، بالشريعة؛ لأن التكفير حكم محض لله ورسوله، فنعين بالدليل أن هذا الذنب كفر أكبر، ليس بأهوائنا ومذاهبنا وأقوالنا، بل بمستند شرعي صحيح من الكتاب والسنة، فإذا حددنا أنه كفر أكبر، وتبين بالأدلة أنه أكبر وليس أصغر، ننتقل إلى مرحلة ثانية، وهي أن تجتمع فيمن فعل هذا الكفر الأكبر شروط التكفير المعينة، وتنتفي عنه موانعه المعينة، فبالتالي يستحق لوازم هذا الكفر؛ من إقامة حد الكفر والردة عليه، حد الردة جاء في القرآن، ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة))، وأيضًا اللوازم الأخرى: ألا يصلى عليه، ألا يدفن مع المسلمين، أن تطلَّق منه امرأته إن كانت مسلمة، إن لم تكن على دينه، ألا يورث منه، هذه لوازم أخرى تنبني على تكفيره بعينه، لو ادعى أحد أنه نبي وهو مسلم، ادعاء النبوة حكمه أنه كفر أكبر بموارد الوحيين، هل هو جاهل؟ هل هو مجنون؟ هل هو مكلف؟ هل هو عاقل؟ هذه مسائل اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، ثم هل زوجته على مذهبه أو تخالفه؟ فإن كانت على مذهبه فحكمها حكمه، هذه لوازم ناشئة عن التكفير، يقيم عليه الحدَّ وليُّ الأمر، ما هي بدعوى فوضى، المسلمون أهل نظام، حتى في أدق المسائل، كيف في مسائل الدماء ومسائل قتل النفوس، الذي ينفذ هذا الحد الحاكم، الذي له في أعناق الناس بيعة، قد يصدر القاضي حكمًا بالقتل، لكن ليس للقاضي تنفيذه، إنما تنفيذه لولي الأمر، فإذا نفذه الحكم له، وإذا قصر هو يتحمل ذلك؛ لأن المسلمين ليست دعواهم فوضى، قد يقع الإنسان في كفر، ويتعين كفره، ولا يقام عليه الحد لمصلحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لم يقتل عبدَالله بن أبيٍّ ابنَ سلولَ وهو رأس المنافقين، لمصلحة رآها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهي ألا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، إذا أقام ولي الأمر عليه الحد، أعلن أن فلانًا ارتد عن دين الله فقتل، هل نحكم بعينه هذا الذي قتل ردة أنه في النار؟ هذه المسألة هي المرحلة الثالثة، أقمنا عليه حد الردة، اجتمعت فيه الشروط، انتفت عنه الموانع، هل نحكم بعينه أنه في النار؟ الجواب: لا، وهذا أمر أجمع عليه أهل السنة في أصولهم، أنهم لا يشهدون، وهذا قول الطحاوي رحمه الله: "ولا نشهد لمعين بجنة ولا نار، إلا من شهد له النص الشريف بذلك، ولكن نرجو للمحسنين، ونخاف على المسيء"، وهذه المسألة ما أكثر ما يضل فيها المبتدئون من الطلبة في بداية الطلب، كثيرًا ما يضلون فيها، يعتقد بالتلازم بين إقامة حد الكفر وبين الحكم عليه بأنه في النار، الحكم عليه بالنار ليس إلينا، حتى يأيتنا وحي وعلم غيب نعرف به أنه حكم له بالنار؛ ولهذا نحن نقيم عليه الحد فيما هو بيننا وبينه، يقول أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري: "الناس عندنا مؤمنون وكفار في الظاهر"؛ أي: في أحكام الإسلام الظاهرة، وبواطنهم إلى الله، نعاملهم على ما ظهر؛ لأن هذا هو الذي كلفنا به، هل كلفنا أن نفتش عن القلوب؟ لم نكلف؛ لأنه ليس لنا إليه سبيل، لماذا حكمنا بأن أبا لهب في النار؟ لأن الله جل وعلا جعله في النار، لماذا حكمنا على أمية بن خلف بالنار بعينه؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نعم، وسيدخلك الله النار))، لماذا حكمنا بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وسعدًا وسعيدًا والعشرة أنهم في الجنة؟ وعكاشة بن محصن في الجنة؟ لأن هذا عن وحي، إذًا هؤلاء المعينون نحكم لهم، نشهد لهم، نقطع لهم بالجنة أو النار، ومن سواهم نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، هذا الذي أقمنا عليه حد الردة لا نقطع أنه في جهنم خالدًا مخلدًا فيها؛ لأننا لا ندري بالذي بيننا وبين الله، هب أنه تاب بينه وبين الله، ليس إلينا، ولا ينبني عليه علمنا، ولا يحيط به حكمنا، ولهذا نقول: هو إلى ربه، أما في أحكام الدنيا، فلا نصلي عليه، لا نورث منه، نبطل عقد زوجته منه، يقام عليه حد الردة، وهو إزهاق نفسه، وهو أعظم الأمور، هذه مرحلة مهمة أيها الإخوة ينتبه لها طالب العلم، ويترتب عليها حكم بعين الكافر، الكافر المعين، المنتسب لليهودية، النصرانية، المجوسية، إذا مات هو بعينه، لا نقطع له أنه في النار؛ لأن هذا ليس إلينا، لكن قد نخاف، أو يغلب على الظن أنه في النار، أو نقيد على شرط: إن مات على كفر فهو في النار، أما أن نقطع، فليس فيها عندنا بينة، كما نقطع لفرعون وأبي لهب وأبي جهل وقارون بأنهم في النار؛ لأن الحكم على المعين فرع من العلم بالنص الشريف بذلك، ولا سبيل إلى ذلك، في مسألة الحديث، لما مر على المسلمين بجنازة، فشهد لها المسلمون بالجنة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((وجبت))، ثم مرت جنازة، فشهد لها المسلمون بالشر، قالوا: هو من أهل النار، قال: ((وجبت))، هنا شهدنا لها بالنار بشهادة المسلمين أم بإقرار النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؟ بإقراره عليه الصلاة والسلام، إذًا الحكم على هذا ناشئ من حكم النبي عليه الصلاة والسلام، لا من اجتهاد المؤمنين؛ ولهذا كان الصحيح في هذه المسألة والعلماء ذكروا فيها ثلاثة أقوال: منهم من قال: لا يشهد للمعين، إلا للأنبياء فقط، ومنهم من قال: يشهد لمن شهد له المؤمنون بإطلاق، وكلا القولين مجانب للصواب، وهما قولان ضعيفان، الصحيح أنه لا يشهد للمعين بجنة، أو يشهد له بالنار إلا من شهد له النص الشريف بذلك، وهذا القول ذكر شيخ الإسلام أنه استقر عليه قول أهل السنة والجماعة.







ابوالوليد المسلم 18-09-2020 02:53 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (21)


الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل














مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"



تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386)






[وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدين]، هذه الجملة هي مسألة مستقر الأرواح بعد الموت إلى أين؟ فالأرواح متفاوتة، منها أرواح في عليين، وهي أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومنها أرواح معلقة بحواصل طير خضر، تسرح وتمرح في الجنة، وهي أرواح الشهداء، والشهداء حياتهم كاملة برزخية، لا نعلم كيفيتها ولا حقيقتها، فلهم حياة برزخية عند الله جل وعلا، هذا كما في آية آل عمران: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آل عمران: 169، 170]، وتعلمون أن الآية نزلت لما كلم الله جل وعلا عبدًا من عباده ووليًّا من أوليائه، هو عبدالله بن حرام الأنصاري، والد جابر رضي الله عنهما، لما قتل في أُحد، فقال الله له: ((يا عبد، تمنَّ علي، قال: أتمنى عليك يا ربي أن تعيدني إلى الدنيا فأجاهد فيك فأقتل، ثم تعيدني فأجاهد فيك فأقتل، قال: إني كتبت عليكم ألا تعودوا فيها، قال: يا رب، فأخبر بذلك من وراءنا))، انظر إلى نصح المؤمن وحبه لإخوانه، حتى وهو في هذا المقام يتمنى أن يعرف إخوانه في الدنيا فضل من أقبل مجاهدًا في سبيل الله، لا في غاية عمية، لا في جاهلية، لا ذهب يجاهد ليتخلص من الدنيا، بعض الذين يذهبون يجاهدون يقولون: نريد التخلص من الدنيا، مهموم، مغموم، فقير، مليء بالهم والغم، يروح ليقتل نفسه حتى يتخلص من الدنيا، هذا ما جاهد في سبيل الله، جاهد لينتحر، والنيات يعلمها رب النيات والمقاصد، عبدالله بن حرام جاهد في سبيل الله، ابتغى الجنة، أدرك ريحها، وأرادها وطلبها، فأخبرنا الله جل وعلا عن حالهم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لجابر لما سأله عن أبيه، وجابر لما مات أبوه كان صغيرًا، ويرعى أخواته السبع، قال: أخبرني عن أبي يا رسول الله، قال: ((ما كلم الله أحدًا كفاحًا إلا أباك، فقال: تمنَّ علي يا عبدي))، الحديث، فالشهداء حياتهم في البرزخ حياة عظيمة، أكمل منهم الأنبياء؛ لأن الأنبياء أتقى وأفضل؛ ولهذا هم في عليين، المقام الثالث أرواح أهل السعادة، أهل الجنة، باقية ناعمة إلى يوم يبعثون، وهؤلاء متفاوتون، منهم من أرواحهم في الجنة، ومنهم من أرواحهم في أفنية الجنة، ومنهم من أرواحهم على أبواب الجنة، ومنهم من أرواحهم معلقة؛ كمَن عليه دَين من الشهداء أو غيرهم، تبقى روحه معلقة حتى يوفى له بدينه، كما جاء في هذا أحاديث عديدة، ومن الأرواح أرواح تعذب على قدر معاصيها، فعذاب أهل الكبائر - إن شاء الله أن يعذبهم - أقل من عذاب أهل النار؛ ولهذا اطلع النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على تنور ومعه جبريل، أعلاه ضيق وأسفله واسع، وفيه رجال ونساء عراة، والنار تلفحهم من أسفل منهم، قال: ((من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزواني والزناة، لا يزالون يعذبون إلى أن تقوم الساعة))، الذي يعذب أرواحهم، كذلك في مانع الزكاة بخلًا، إن كان منع زكاة الذهب والفضة، تصفح له صفائح من نار ويكوى بها جبينه وجنبه وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله، إذا منعها بخلًا، لا جحدًا، كذلك صاحب الغنم وصاحب البقر، يأتي ولها رغاء، ولها خوار، هذا في أهل الكبائر والذنوب، كذلك أيضًا أهل النار، وأرواح أهل النار في سجين، ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾ [المطففين: 7]؛ ولهذا جاء في الآثار عن عبدالله بن عمر وغيره أن سِجِّين هي بئر برهوت، تجمع وتحصر فيه أرواح هؤلاء الكافرين معذبة إلى يوم الدين،بعد يوم الدين يأتي العذاب على الروح والجسد جميعًا، وفي حال البرزخ إما بنعيم متفاوت بحسب أهله، أو بعذاب أيضا متفاوت بحسب أصحابه، ولهذا الدور ثلاثة، دار الدنيا والنعيم والعذاب على الجسد، الجسد كان عدمًا، ثم نشأ صغيرًا، وكبيرًا، ثم يكون فناء بعد ذلك، وقد يلحق الروح من ذلك شيء من الفرح والهم والسرور والغم، وفي دار البرزخ بالعكس، إذ يكون العذاب والنعيم على الروح، وقد يلحق الجسد من ذلك شيء، في الدار الآخرة العذاب والنعيم على الروح والجسد جميعًا، فقوله: [إلى يوم الدين]؛ أي: ينتهي عندئذ العذاب المختص على الروح، ويشترك فيه الروح والجسد عذابًا سرمديًّا، أو نعيمًا أبديًّا، وأهل الكبائر وإن لحقهم من العذاب فإنه لا يكون عليهم سرمديًّا، وإنما ينتقلون بعده إلى الجنة، نسأل الله العظيم من فضله.

[وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويسألون؛ ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]]، هذه مسألة السؤال في القبر والفتنة في القبر، وما يكون في القبر أمر مجمع عليه، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، والعقل الصريح، أدلة الكتاب والسنة على عذاب القبر ونعيمه كثيرة ومشهورة، من أدلة القرآن: قول الله جل وعلا في سورة غافر، سورة مؤمن آل فرعون: ﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 45، 46]، دل على أنهم يعذبون، في آية الأنعام: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ [الأنعام: 93]، اليوم تجزون عذاب الهوان، ومن ذلك ما أشار إليه الشيخ من آية إبراهيم: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]، تثبيتهم في الدنيا يوم يسألون في قبورهم، والمؤمن صح في حديث البراء بن عازب الطويل عند أهل السنن وفي رواية ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك أنه يسأل أربعة أسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ والسؤال الرابع الذي جاء عند ابن حبان والحاكم: وما علمك؟ فيقول المؤمن: قرأت كتاب الله فعرفته؛ لهذا يثبِّته الله، بإيمانه وبتوحيده، وبإخلاصه، وإن كان من أذكى الناس أو أبلد الناس، لكنه في ذلك المقام يثبَّتُ، الكافر والمنافق والفاجر يسأل ثلاثة الأسئلة، الكافر يقول: هاه، هاه، لا أدري، المنافق يقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون كذا وكذا؛ لأنه تابعهم في الدنيا، فقلدهم في جوابه، فينادى: لا دريتَ ولا تليت، ولو كان مذاكرًا حافظًا ذكيًّا، ولهذا من العجيب يا إخواني أن أسئلة القبر وأسئلة الآخرة معلومة، ليست سرية، كأسئلة اختبارات الدنيا، والجواب بالتالي عليها معلوم، لكن لن يوفَّق بالجواب ساعتئذ إلا من ثُبِّت، ثبته الله وأيده، وربط على قلبه وعلى إيمانه؛ ولهذا لو أن الناس بذلوا اهتمامًا وحرصًا في اختبارات وأسئلة القبر والآخرة كاهتمامهم وحرصهم في أسئلة الدنيا، والله لحسن حالهم، أسئلة الدنيا في الدراسة في العمل في الوظائف في الترقيات مجهولة، والجواب عليها بالتالي مجهول، لو أنهم بذلوا اهتمامًا وحرصًا كما يبذلون لأسئلة الدنيا تصلح أحوالهم، وأسئلة القبر الثلاثة هي التي بنى عليها شيخ الإسلام رسالته: "ثلاثة الأصول"؛ لهذا كان علماؤنا يقولون: "ثلاثة الأصول، من اعتقد موجبها دخل الجنة"؛ لأنها هي الأسئلة التي يسأل عنها الإنسان في قبره، وتسمى هذه فتنة القبر، والفتان من القبر، جاءت أحاديث وأسباب يعصم بها بإذن الله من فتان القبر، من ذلك: الثبات على الإيمان، وعلى العقيدة، لا يساوم ولا يجامل ولا يزايد عليها، يستمسك بها حتى عند الفتن، قد يزايد على ماله، قد يزايد على عمله، لكن دينه لا يزايد عليه، هذا معنى الاستمساك بالدين، في آخر الزمان يرق الدين جدًّا حتى يكون كالثوب الخَلَقِ، يمسي الرجل مؤمنًا ويصبح كافرًا، يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا؛ قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((يبيع دِينه بعرَضٍ مِن الدنيا))، من أسباب العصمة من فتنة الفتان: من مات يوم الجمعة أو ليلتها، وهو مؤمن، وهذا فيه حديث رواه الإمام أحمد بإسناد لا بأس به، بإسناد حسن عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: ((من مات يوم الجمعة أو ليلتها، عُصِم من الفتان))، ومن ذلك أيضًا: ((من صلى أربعين يومًا لا تفوته تكبيرة الإحرام، كتبت له براءتان، من الفتان، ومن النفاق))، نسأل الله تعالى أن يبرئنا وإياكم منها.

[وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويسألون]، ليس له مفهوم أن الكافرين ليسوا كذلك، بل الفتنة للجميع، لكن المؤمنون يثبتون، والكفار لا يثبتون.


[وأن على العباد حفظةً يكتبون أعمالهم]، هذه المسألة لها تعلق بمبحثين من مباحث الإيمان، الإيمان بالملائكة، والإيمان بالقضاء والقدر، والحفظة هم من الملائكة، ولقبوا بالحفظ؛ لأنهم يحفظون أعمالهم، فلا يغادر عملًا يعمله الإنسان، من قول أو اعتقاد أو عمل الجوارح، إلا ويثبت، والأصل فيه قول الله جل وعلا: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، رقيب يرقب عليه، وعتيد يعد عليه، وأيضًا كما جاء في الحديث: ((يتعاقب عليكم أربعة ملائكة في النهار وأربعة في الليل، واحد عن يمينه، وآخر عن يساره، ومن أمامه بين يديه، ومن وراء ظهره، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر))؛ قال تعالى: ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 11، 12]؛ ولهذا يقول الله تعالى يوم تعرض الصحائف: ((أظلمتك ملائكتي الكتبة؟))، كتبت عليك أمرًا لم تفعله؟ فالمعاند يكابر، ثم يفضح، والمؤمن وغير المكابر يقر.

[ولا يسقط شيء من ذلك عن علم ربهم]، أحصاه الله جل وعلا علمًا وإدراكًا، وإحاطة وكتابة، فلا يغيب ذلك عن الله؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه لهؤلاء العادِّين الذين يسبحون ويهللون ويكبرون بالحصا: إني ضمين لكم على الله ألا يفوت من حسناتكم عليه شيء، فعدوا سيئاتكم.







ابوالوليد المسلم 20-05-2021 05:03 AM

رد: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة
 
لا اله الا الله


الساعة الآن : 06:06 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 334.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 333.86 كيلو بايت... تم توفير 1.02 كيلو بايت...بمعدل (0.30%)]