الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
الموافقات https://islamweb.net/ar/library/books/99.jpg الشاطبي - أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الأجزاء: خمسة أجزاء سنة الطباعة: 1424هـ / 2003م الناشر: دار ابن القيم- دار بن عفان في بيان مقاصد الكتاب والسنة، والحكم، والمصالح الكلية، والتعريف بأسرار التكاليف في الشريعة، وأحكام الاجتهاد والتقليد، وما يتعلق بذلك، ألفه الحافظ إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ. |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَنَا بِنُورِ الْعِلْمِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ ، وَهَدَانَا بِالِاسْتِبْصَارِ بِهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي عَمَايَةِ الضَّلَالَةِ ، وَنَصَبَ لَنَا مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ أَعْلَى عِلْمٍ وَأَوْضَحَ دَلَالَةٍ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مَا مَنَّ بِهِ مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ ، وَالْمِنَحِ الْجَلِيلَةِ ، وَأَنَالَهُ ، فَلَقَدْ كُنَّا قَبْلَ شُرُوقِ هَذَا النُّورِ نَخْبِطُ خَبْطَ الْعَشْوَاءِ ، وَتَجْرِي عُقُولُنَا فِي اقْتِنَاصِ مَصَالِحِنَا عَلَى غَيْرِ السَّوَاءِ ; لِضَعْفِهَا عَنْ حَمْلِ هَذِهِ الْأَعْبَاءِ ، وَمُشَارَكَةِ عَاجِلَاتِ الْأَهْوَاءِ ، عَلَى مَيْدَانِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْمُنْقَلَبَيْنِ مَدَارُ الْأَسْوَاءِ ، فَنَضَعُ السُّمُومَ عَلَى الْأَدْوَاءِ مَوَاضِعَ الدَّوَاءِ ، طَالِبِينَ لِلشِّفَاءِ ، كَالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ ، وَلَا زِلْنَا نَسْبَحُ بَيْنَهُمَا فِي بَحْرِ الْوَهْمِ فَنَهِيمُ ، وَنَسْرَحُ مِنْ جَهْلِنَا بِالدَّلِيلِ فِي لَيْلٍ بَهِيمٍ ، وَنَسْتَنْتِجُ الْقِيَاسَ الْعَقِيمَ ، وَنَطْلُبُ آثَارَ الصِّحَّةِ مِنَ الْجِسْمِ السَّقِيمِ ، وَنَمْشِي إِكْبَابًا عَلَى الْوُجُوهِ ، وَنَظُنُّ أَنَّا نَمْشِي عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ; حَتَّى ظَهَرَ [ ص: 4 ] مَحْضُ الْإِجْبَارِ فِي عَيْنِ الْأَقْدَارِ ، وَارْتَفَعَتْ حَقِيقَةُ أَيْدِيِ الِاضْطِرَارِ إِلَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ أَطْمَاعُ أَهْلِ الِافْتِقَارِ ، لَمَّا صَحَّ مِنْ أَلْسِنَةِ الْأَحْوَالِ صِدْقُ الْإِقْرَارِ ، وَثَبَتَ فِي مُكْتَسَبَاتِ الْأَفْعَالِ حُكْمُ الِاضْطِرَارِ ، فَتَدَارَكَنَا الرَّبُّ الْكَرِيمُ بِلُطْفِهِ الْعَظِيمِ ، وَمَنَّ عَلَيْنَا الْبَرُّ الرَّحِيمُ بِعَطْفِهِ الْعَمِيمِ ; إِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ مِنْ دُونِهِ حِيَلًا ، وَلَمْ نَهْتَدِ بِأَنْفُسِنَا سُبُلًا ، بِأَنْ جَعَلَ الْعُذْرَ مَقْبُولًا ، وَالْعَفْوَ عَنِ الزَّلَّاتِ قَبْلَ بَعْثِ الرِّسَالَاتِ مَأْمُولًا ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْأُمَمِ ، كَلٌّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ مِنْ عَرَبٍ أَوْ عَجَمٍ ; لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ مِنْ أَمَمٍ ، وَيَأْخُذُوا بِحُجَزِهِمْ عَنْ مَوَارِدِ جَهَنَّمَ ، وَخَصَّنَا مَعْشَرَ الْآخَرِينَ السَّابِقِينَ ، بِلَبِنَةِ تَمَامِهِمْ ، وَمِسْكِ خِتَامِهِمْ ; مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، الَّذِي [ ص: 5 ] هُوَ النِّعْمَةُ الْمُسْدَاةُ ، وَالرَّحْمَةُ الْمُهْدَاةُ ، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْأُمِّيَّةُ ، وَالنُّخْبَةُ الطَّاهِرَةُ الْهَاشِمِيَّةُ ، أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْعَرَبِيَّ الْمُبِينَ ، الْفَارِقَ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، وَوَضَعَ بَيَانَهُ الشَّافِيَ وَإِيضَاحَهُ الْكَافِيَ فِي كَفِّهِ ، وَطَيَّبَهُ بِطِيبِ ثَنَائِهِ وَعَرَّفَهُ بِعَرْفِهِ ; إِذْ جَعَلَ أَخْلَاقَهُ وَشَمَائِلَهُ جُمْلَةَ نَعْتِهِ ، وَكُلِّيَّ وَصْفِهِ ، فَصَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَيِّنًا بِقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ وَفِعْلِهِ وَكَفِّهِ ; فَوَضَحَ النَّهَارُ لِذِي عَيْنَيْنِ ، وَتَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ، شَمْسًا مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ وَلَا غَيْنٍ . فَنَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَالْحَمْدُ نِعْمَةٌ مِنْهُ مُسْتَفَادَةٌ ، وَنَشْكُرُ لَهُ وَالشُّكْرُ أَوَّلُ الزِّيَادَةِ ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، خَالِقُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، وَبَاسِطُ الرِّزْقِ لِلْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ ، بَسْطًا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ ، وَالْفَضْلُ وَالِامْتِنَانُ ، جَارِيًا عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ الذَّارِيَاتِ : 56 - 58 ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ طه : 132 ] . كُلُّ ذَلِكَ لِيَتَفَرَّغُوا لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ عَرْضًا ، فَلَمَّا تَحَمَّلُوهَا عَلَى حُكْمِ الْجَزَاءِ ; حَمَلُوهَا فَرْضًا ، وَيَا لَيْتَهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى الْإِشْفَاقِ وَالْإِبَايَةِ ، وَتَأَمَّلُوا فِي الْبِدَايَةِ خَطَرَ النِّهَايَةِ ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَخْطِرْ لَهُمْ خَطَرُهَا عَلَى بَالٍ ، كَمَا خَطَرَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ; فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْإِنْسَانُ ظَلُومًا جَهُولًا ، وَكَانَ [ ص: 6 ] أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ، دَلَّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَبَانَةِ شَاهَدُ قَوْلِهِ : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ . فَسُبْحَانَ مَنْ أَجْرَى الْأُمُورَ بِحِكْمَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ ; عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَمَقَادِيرِهِ ; لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْعِبَادِ فِيمَا يَعْمَلُونَ ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ . وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ ، الصَّادِقُ الْأَمِينُ ، الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ ، بِمِلَّةٍ حَنِيفِيَّةٍ ، وَشِرْعَةِ الْحَاكِمِينَ بِهَا حَفِيَّةً ، يَنْطِقُ بِلِسَانِ التَّيْسِيرِ بَيَانُهَا ، وَيُعْرَفُ أَنَّ الرِّفْقَ خَاصِّيَّتُهَا وَالسَّمَاحَ شَأْنُهَا ، فَهِيَ تَحْمِلُ الْجَمَّاءَ الْغَفِيرَ ضَعِيفًا وَقَوِيًّا ، وَتَهْدِي الْكَافَّةَ فَهِيمًا وَغَبِيًّا ، وَتَدْعُوهُمْ بِنِدَاءٍ مُشْتَرِكٍ دَانِيًا وَقَصِيًّا ، وَتَرْفُقِ بِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مُطِيعًا وَعَصِيًّا ، وَتَقُودُهُمْ بِخَزَائِمِهِمْ مُنْقَادًا وَأَبِيًّا ، وَتُسَوِّي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْعَدْلِ شَرِيفًا وَدَنِيًّا ، وَتُبَوِّئُ حَامِلَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَكَانًا عَلِيًّا ، وَتُدْرِجُ النُّبُوءَةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا ، وَتُلْبِسُ الْمُتَّصِفِ بِهَا مَلْبَسًا سَنِيًّا ، حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ وَلِيًّا ، فَمَا أَغْنَى مَنْ وَالَاهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا ، وَمَا أَفْقَرَ مَنْ عَادَهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا . فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو بِهَا وَإِلَيْهَا ، وَيَبُثُّ لِلثَّقَلَيْنِ مَا لَدَيْهَا ، وُيُنَاضِلُ [ ص: 7 ] بِبَرَاهِينِهَا عَلَيْهَا ، وَيَحْمِي بِقَوَاطِعِهَا جَانِبَيْهَا ، بَالِغَ الْغَايَةِ فِي الْبَيَانِ ، بِقَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ وَمَقَالِهِ : أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ عَرَفُوا مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ فَحَصَّلُوهَا ، وَأَسَّسُوا قَوَاعِدَهَا وَأَصَّلُوهَا ، وَجَالَتْ أَفْكَارُهُمْ فِي آيَاتِهَا ، وَأَعْمَلُوا الْجِدَّ فِي تَحْقِيقِ مَبَادِيهَا وَغَايَاتِهَا ، وَعُنُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِاطِّرَاحِ الْآمَالِ ، وَشَفَّعُوا الْعِلْمَ بِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ ، وَسَابَقُوا إِلَى الْخَيِّرَاتِ فَسَبَقُوا ، وَسَارَعُوا إِلَى الصَّالِحَاتِ فَمَا لُحِقُوا ، إِلَى أَنْ طَلَعَ فِي آفَاقِ بَصَائِرِهِمْ شَمْسُ الْفُرْقَانِ ، وَأَشْرَقَ فِي قُلُوبِهِمْ نُورُ الْإِيقَانِ ، فَظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكَمِ مِنْهَا عَلَى اللِّسَانِ ، فَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ قَرَعَ ذَلِكَ الْبَابَ ، فَصَارُوا خَاصَّةَ الْخَاصَّةِ ، وَلُبَابَ اللُّبَابِ ، وَنُجُومًا يَهْتَدِي بِأَنْوَارِهِمْ أُولُو الْأَلْبَابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنِ الَّذِينَ خَلَفُوهُمْ قُدْوَةً لِلْمُقْتَدِينَ ، وَأُسْوَةً لِلْمُهْتَدِينَ ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ . أَمَّا بَعْدُ ; أَيُّهَا الْبَاحِثُ عَنْ حَقَائِقِ أَعْلَى الْعُلُومِ ، الطَّالِبُ لِأَسْنَى نَتَائِجِ الْحُلُومِ ، الْمُتَعَطِّشُ إِلَى أَحْلَى مَوَارِدِ الْفُهُومِ ، الْحَائِمُ حَوْلَ حِمًى ظَاهِرِ الْمَرْسُومِ ; [ ص: 8 ] طَمَعًا فِي إِدْرَاكِ بَاطِنِهِ الْمَرْقُومِ ، مَعَانِيَ مَرْتُوقَةٍ ، فِي فَتْقِ تِلْكَ الرُّسُومِ ; فَإِنَّهُ قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تُصْغِيَ إِلَى مَنْ وَافَقَ هَوَاكَ هَوَاهُ ، وَأَنْ تُطَارِحَ الشَّجَى مَنْ مَلَكَهُ - مِثْلَكَ - شَجَاهُ ، وَتَعُودَ ; إِذْ شَارَكْتَهُ فِي جَوَاهُ مَحَلَّ نَجْوَاهُ ; حَتَّى يَبُثَّ إِلَيْكَ شَكْوَاهُ ، لِتَجْرِيَ مَعَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ حَيْثُ جَرَى ، وَتَسْرِيَ فِي غَبَشِهِ الْمُمْتَزِجِ ضَوْءُهُ بِالظُّلْمَةِ كَمَا سَرَى ، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ تَحْمَدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَاقِبَةَ السُّرَى . فَلَقَدْ قَطَعَ فِي طَلَبِ هَذَا الْمَقْصُودِ مَهَامِهَ فِيحًا ، وَكَابَدَ مِنْ طَوَارِقِ طَرِيقِهِ حَسَنًا وَقَبِيحًا ، وَلَاقَى مِنْ وُجُوهِهِ الْمُعْتَرِضَةِ جَهْمًا وَصَبِيحًا ، وَعَانَى مِنْ رَاكِبَتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ مَانِعًا وَمُبِيحًا ; فَإِنْ شِئْتَ أَلْفَيْتَهُ لِتَعَبِ السَّيْرِ طَلِيحًا ، أَوْ لِمَا حَالَفَ مِنَ الْعَنَاءِ طَرِيحًا ، أَوْ لِمُحَارَبَةِ الْعَوَارِضِ الصَّادَّةِ جَرِيحًا ، فَلَا عَيْشَ هَنِيئًا ، وَلَا مَوْتَ مُرِيحًا . وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِي التَّحْقِيقِ : أَنَّ أَدْهَى مَا يَلْقَاهُ السَّالِكُ لِلطَّرِيقِ فَقْدُ الدَّلِيلِ ، مَعَ ذِهْنٍ لِعَدَمِ نُورِ الْفَرْقَانِ كَلِيلٍ ، وَقَلْبٍ بِصَدَمَاتِ الْأَضْغَاثِ عَلِيلٍ ; فَيَمْشِي عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ ، وَيَنْتَمِي إِلَى غَيْرِ قَبِيلٍ ، إِلَى أَنْ مَنَّ الرَّبُّ الْكَرِيمُ ، الْبَرُّ الرَّحِيمُ ، الْهَادِي - مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فَبُعِثَتْ لَهُ أَرْوَاحُ تِلْكَ الْجُسُومِ ، وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ تِلْكَ الرُّسُومِ ، وَبَدَتْ مُسَمَّيَاتُ تِلْكَ الْوُسُومِ ; فَلَاحَ فِي أَكْنَافِهَا الْحَقُّ وَاسْتَبَانَ ، وَتَجَلَّى مِنْ تَحْتِ سَحَابِهَا شَمْسُ الْفُرْقَانِ وَبَانَ ، وَقَوِيَتِ النَّفْسُ الضَّعِيفَةُ [ ص: 9 ] وَشَجُعَ الْقَلْبُ الْجَبَانُ ، وَجَاءَ الْحَقُّ فَوَصَلَ أَسْبَابَهُ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ فَبَانَ ، فَأَوْرَدَ مِنْ أَحَادِيثِهِ الصِّحَاحِ الْحِسَانِ ، وَفَوَائِدِهِ الْغَرِيبَةِ الْبُرْهَانِ ، وَبَدَائِعِهِ الْبَاهِرَةِ لِلْأَذْهَانِ - مَا يَعْجِزُ عَنْ تَفْصِيلِ بَعْضِ أَسْرَارِهِ الْعَقْلُ ، وَيَقْصُرُ عَنْ بَثِّ مِعْشَارِهِ اللِّسَانُ ، إِيرَادًا يُمَيِّزُ الْمَشْهُورَ مِنَ الشَّاذِّ ، وَيُحَقِّقُ مَرَاتِبَ الْعَوَامِّ وَالْخَوَاصِّ وَالْجَمَاهِيرِ وَالْأَفْذَاذِ ، وَيُوَفِّي حُقَّ الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ وَالسَّالِكِ وَالْمُرَبِّي وَالتِّلْمِيذِ وَالْأُسْتَاذِ ، عَلَى مَقَادِيرِهِمْ فِي الْغَبَاوَةِ وَالذَّكَاءِ وَالتَّوَانِي وَالِاجْتِهَادِ وَالْقُصُورِ وَالنَّفَاذِ ، وَيُنْزِلُ كُلًّا مِنْهُمْ مَنْزِلَتَهُ حَيْثُ حَلَّ ، وَيُبَصِّرُهُ فِي مَقَامِهِ الْخَاصِّ بِهِ بِمَا دَقَّ وَجَلَّ ، وَيَحْمِلُهُ فِيهِ عَلَى الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ مَجَالُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ ، وَيَأْخُذُ بِالْمُخْتَلِفِينَ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ بَيْنَ الِاسْتِصْعَادِ وَالِاسْتِنْزَالِ ، لِيَخْرُجُوا مِنِ انْحِرَافَيِ التَّشَدُّدِ وَالِانْحِلَالِ ، وَطَرَفَيِ التَّنَاقُضِ وَالْمُحَالِ ; فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يَجِبُ لِجَلَالِهِ ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى جَمِيلِ إِنْعَامِهِ وَجَزِيلِ إِفْضَالِهِ . وَلَمَّا بَدَا مِنْ مَكْنُونِ السِّرِّ مَا بَدَا وَوَفَّقَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ وَهَدَى - لَمْ أَزَلْ أُقَيِّدُ مِنْ أَوَابِدِهِ ، وَأَضُمُّ مِنْ شَوَارِدِهِ تَفَاصِيلَ وَجُمَلًا ، وَأَسُوقُ مِنْ شَوَاهِدِهِ فِي مَصَادِرِ الْحُكْمِ وَمَوَارِدِهِ ، مُبَيِّنًا لَا مُجْمِلًا ، مُعْتَمِدًا عَلَى الِاسْتِقْرَاءَاتِ الْكُلِّيَّةِ ، غَيْرَ مُقْتَصِرٍ عَلَى الْأَفْرَادِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَمُبَيِّنًا أُصُولَهَا النَّقْلِيَّةَ بِأَطْرَافٍ مِنَ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ ، حَسْبَمَا أَعْطَتْهُ الِاسْتِطَاعَةُ وَالْمِنَّةُ ، فِي بَيَانِ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، ثُمَّ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَظْمِ تِلْكَ الْفَرَائِدِ ، وَجَمْعِ تِلْكَ الْفَوَائِدِ ، إِلَى تَرَاجِمَ تَرُدُّهَا إِلَى أُصُولِهَا ، وَتَكُونُ عَوْنًا عَلَى تَعَقُّلِهَا وَتَحْصِيلِهَا ; فَانْضَمَّتْ إِلَى تَرَاجِمِ الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ ، وَانْتَظَمَتْ فِي أَسْلَاكِهَا السَّنِيَّةِ الْبَهِيَّةِ ، فَصَارَ كِتَابًا مُنْحَصِرًا فِي خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : [ ص: 10 ] الْأَوَّلُ : فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي تَمْهِيدِ الْمَقْصُودِ . وَالثَّانِي : فِي الْأَحْكَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرُهَا وَالْحُكْمُ بِهَا أَوْ عَلَيْهَا ، كَانَتْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ أَوْ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ . وَالثَّالِثُ : فِي الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ . وَالرَّابِعُ : فِي حَصْرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانِ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَلَى التَّفْصِيلِ ، وَذِكْرِ مَآخِذِهَا ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُحْكَمُ بِهَا عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ . وَالْخَامِسُ : فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ ، وَالْمُتَّصِفِينَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ . وَفِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَسَائِلُ وَتَمْهِيدَاتٌ ، وَأَطْرَافٌ وَتَفْصِيلَاتٌ ; يَتَقَرَّرُ بِهَا الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ ، وَيَقْرُبُ بِسَبَبِهَا تَحْصِيلُهُ لِلْقُلُوبِ . وَلِأَجَلِّ مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ الْأَسْرَارِ التَّكْلِيفِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ ، سَمَّيْتُهُ بِ [ عُنْوَانُ التَّعْرِيفِ بِأَسْرَارِ التَّكْلِيفِ ] ، ثُمَّ انْتَقَلْتُ عَنْ هَذِهِ السِّيمَاءِ لِسَنَدٍ غَرِيبٍ يَقْضِي الْعَجَبَ مِنْهُ الْفَطِنُ الْأَرِيبُ ، وَحَاصِلُهُ أَنِّي لَقِيتُ يَوْمًا بَعْضَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَحْلَلْتُهُمْ مِنِّي مَحَلَّ الْإِفَادَةِ ، وَجَعَلْتُ مَجَالِسَهُمُ الْعِلْمِيَّةَ مَحَطًّا لِلرَّحْلِ وَمُنَاخًا لِلْوِفَادَةِ ، وَقَدْ شَرَعْتُ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابِ وَتَصْنِيفِهِ ، وَنَابَذْتُ الشَّوَاغِلَ دُونَ تَهْذِيبِهِ وَتَأْلِيفِهِ ; فَقَالَ لِي : رَأَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ ، وَفِي يَدِكَ كِتَابٌ [ ص: 11 ] أَلَّفْتَهُ فَسَأَلْتُكَ عَنْهُ ، فَأَخْبَرْتَنِي أَنَّهُ كِتَابُ [ الْمُوَافَقَاتِ ] ، قَالَ : فَكُنْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ الظَّرِيفَةِ ، فَتُخْبِرُنِي أَنَّكَ وَفَّقْتَ بِهِ بَيْنَ مَذْهَبَيِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَبِي حَنِيفَةَ . فَقُلْتُ لَهُ لَقَدْ أَصَبْتُمُ الْغَرَضَ بِسَهْمٍ مِنَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ مُصِيبٍ ، وَأَخَذْتُمْ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ النَّبَوِيَّةِ بِجُزْءٍ صَالِحٍ وَنَصِيبٍ ; فَإِنِّي شَرَعْتُ فِي تَأْلِيفِ هَذِهِ الْمَعَانِي ، عَازِمًا عَلَى تَأْسِيسِ تِلْكَ الْمَبَانِي ; فَإِنَّهَا الْأُصُولُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَالْقَوَاعِدُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقُدَمَاءِ ، فَعَجِبَ الشَّيْخُ مِنْ غَرَابَةِ هَذَا الِاتِّفَاقِ ، كَمَا عَجِبْتُ أَنَا مِنْ رُكُوبِ هَذِهِ الْمَفَازَةِ وَصُحْبَةِ هَذِهِ الرِّفَاقِ ، لِيَكُونَ - أَيُّهَا الْخِلُّ الصَّفِّيُّ ، وَالصَّدِيقُ الْوَفِيُّ - هَذَا الْكِتَابُ عَوْنًا لَكَ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ ، وَشَارِحًا لِمَعَانِي الْوِفَاقِ وَالتَّوْفِيقِ ، لَا لِيَكُونَ عُمْدَتَكَ فِي كُلِّ تَحَقُّقٍ وَتَحْقِيقٍ ، وَمَرْجِعَكَ فِي جَمِيعِ مَا يَعِنُّ لَكَ مِنْ تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ ; إِذْ قَدْ صَارَ عِلْمًا مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ ، وَرَسْمًا كَسَائِرِ الرُّسُومِ ، وَمَوْرِدًا لِاخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَتَعَارُضِ الْفُهُومِ ، لَا جَرَمَ أَنَّهُ قَرَّبَ عَلَيْكَ فِي الْمَسِيرِ ، وَأَعْلَمَكَ كَيْفَ تَرْقَى فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ وَإِلَى أَيْنَ تَسِيرُ ، وَوَقَفَ بِكَ مِنَ الطَّرِيقِ السَّابِلَةِ عَلَى الظَّهْرِ ، وَخَطَبَ لَكَ عَرَائِسَ الْحِكْمَةِ ، ثُمَّ وَهَبَ لَكَ الْمَهْرَ . فَقَدِّمْ قَدَمَ عَزْمِكَ ; فَإِذَا أَنْتَ بِحَوْلِ اللَّهِ قَدْ وَصَلْتَ ، وَأَقْبِلْ عَلَى مَا قِبَلَكَ مِنْهُ ; فَهَا أَنْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَدْ فُزْتَ بِمَا حَصَّلْتَ ، وَإِيَّاكَ وَإِقْدَامَ الْجَبَانِ ، وَالْوُقُوفَ مَعَ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ ، وَالْإِخْلَادَ إِلَى مُجَرَّدِ التَّصْمِيمِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ، وَفَارِقْ وَهَدَ [ ص: 12 ] التَّقْلِيدِ رَاقِيًا إِلَى يَفَاعِ الِاسْتِبْصَارِ ، وَتَمَسَّكْ مِنْ هَدْيِكَ بِهِمَّةٍ تَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الْمُدَافَعَةِ وَالِاسْتِنْصَارِ ، إِذَا تَطَلَّعَتِ الْأَسْئِلَةُ الضَّعِيفَةُ وَالشُّبَهُ الْقِصَارُ ، وَالْبَسِ التَّقْوَى شِعَارًا ، وَالِاتِّصَافَ بِالْإِنْصَافِ دِثَارًا ، وَاجْعَلْ طَلَبَ الْحَقِّ لَكَ نِحْلَةً ، وَالِاعْتِرَافَ بِهِ لِأَهْلِهِ مِلَّةً ، لَا تَمْلِكْ قَلْبَكَ عَوَارِضُ الْأَغْرَاضِ ، وَلَا تُغَيِّرْ جَوْهَرَةَ قَصْدِكَ طَوَارِقُ الْإِعْرَاضِ ، وَقِفْ وَقْفَةَ الْمُتَخَيِّرِينَ ، لَا وَقْفَةَ الْمُتَحَيِّرِينَ ، إِلَّا إِذَا اشْتَبَهَتِ الْمَطَالِبُ ، وَلَمْ يَلُحْ وَجْهُ الْمَطْلُوبِ لِلطَّالِبِ ، فَلَا عَلَيْكَ مِنَ الْإِحْجَامِ وَإِنْ لَجَّ الْخُصُومُ ، فَالْوَاقِعُ فِي حِمَى الْمُشْتَبِهَاتِ هُوَ الْمَخْصُومُ ، وَالْوَاقِفُ دُونَهَا هُوَ الرَّاسِخُ الْمَعْصُومُ ، وَإِنَّمَا الْعَارُ وَالشَّنَارُ عَلَى مَنِ اقْتَحَمَ الْمَنَاهِيَ فَأَوْرَدَتْهُ النَّارَ ، لَا تَرِدْ مَشْرَعَ الْعَصَبِيَّةِ ، وَلَا تَأْنَفْ مِنَ الْإِذْعَانِ إِذَا لَاحَ وَجْهُ الْقَضِيَّةِ أَنَفَةَ ذَوِي النُّفُوسِ الْعَصِيَّةِ ، فَذَلِكَ مَرْعًى لِسَوَامِهَا وَبِيلٌ ، وَصُدُودٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ . ; فَإِنْ عَارَضَكَ دُونَ هَذَا الْكِتَابِ عَارِضُ الْإِنْكَارِ ، وَعَمِيَ عَنْكَ وَجْهُ الِاخْتِرَاعِ فِيهِ وَالِابْتِكَارِ ، وَغَرَّ الظَّانَّ أَنَّهُ شَيْءٌ مَا سُمِعَ بِمِثْلِهِ ، وَلَا أُلِّفَ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْفَرْعِيَّةِ مَا نُسِجَ عَلَى مِنْوَالِهِ أَوْ شُكِّلَ بِشَكْلِهِ ، وَحَسْبُكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ ، وَمِنْ كُلِّ بِدْعٍ فِي الشَّرِيعَةِ ابْتِدَاعُهُ ؛ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْإِشْكَالِ دُونَ [ ص: 13 ] اخْتِبَارٍ ، وَلَا تَرْمِ بِمَظِنَّةِ الْفَائِدَةِ عَلَى غَيْرِ اعْتِبَارٍ ; فَإِنَّهُ بِحَمْدِ اللَّهِ أَمْرٌ قَرَّرَتْهُ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ ، وَشَدَّ مَعَاقِدَهُ السَّلَفُ الْأَخْيَارُ ، وَرَسَمَ مَعَالِمَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَحْبَارُ ، وَشَيَّدَ أَرْكَانَهُ أَنْظَارُ النُّظَّارِ ، وَإِذَا وَضُحَ السَّبِيلُ لَمْ يَجِبِ الْإِنْكَارُ ، وَوَجَبَ قَبُولُ مَا حَوَاهُ وَالِاعْتِبَارُ بِصِحَّةِ مَا أَبْدَاهُ وَالْإِقْرَارُ ، حَاشَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ ، وَيَطْرُقُ صِحَّةَ أَفْكَارِهِمْ مِنَ الْعِلَلِ ، فَالسَّعِيدُ مَنْ عُدَّتْ سَقَطَاتُهُ ، وَالْعَالِمُ مَنْ قَلَّتْ غَلَطَاتُهُ . وَعِنْدَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى النَّاظِرِ الْمُتَأَمِّلِ ، إِذَا وَجَدَ فِيهِ نَقْصًا أَنْ يُكْمِلَ ، وَلْيُحْسِنِ الظَّنَّ بِمَنْ حَالَفَ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ ، وَاسْتَبْدَلَ التَّعَبَ بِالرَّاحَةِ وَالسَّهَرَ بِالْمَنَامِ ، حَتَّى أَهْدَى إِلَيْهِ نَتِيجَةَ عُمْرِهِ ، وَوَهَبَ لَهُ يَتِيمَةَ دَهْرِهِ ، فَقَدْ أَلْقَى إِلَيْهِ مَقَالِيدَ مَا لَدَيْهِ ، وَطَوَّقَهُ طَوْقَ الْأَمَانَةِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ ، وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْبَيَانِ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ . جَعَلَنَا اللَّهُ مِنَ الْعَامِلِينَ بِمَا عَلِمْنَا ، وَأَعَانَنَا عَلَى تَفْهِيمِ مَا فَهِمْنَا ، وَوَهَبَ لَنَا عِلْمًا نَافِعًا يُبَلِّغُنَا رِضَاهُ ، وَعَمَلًا زَاكِيًا يَكُونُ عُدَّةً لَنَا يَوْمَ نَلْقَاهُ ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ . وَهَا أَنَا أَشْرَعُ فِي بَيَانِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ ، وَآخُذُ فِي إِنْجَازِ ذَلِكَ الْمَوْعُودِ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ . [ ص: 14 ] [ ص: 15 ] تَمْهِيدُ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا قَبْلَ النَّظَرِ فِي مَسَائِلِ الْكِتَابِ وَهِيَ بِضْعَ عَشَرَ مُقَدِّمَةً . [ ص: 16 ] [ ص: 17 ] الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا [ ص: 18 ] رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ قَطْعِيٌّ . بَيَانُ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ الْمُفِيدِ لِلْقَطْعِ . وَبَيَانُ الثَّانِي : مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَرْجِعُ إِمَّا إِلَى أُصُولٍ عَقْلِيَّةٍ ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ ، وَإِمَّا إِلَى [ ص: 19 ] الِاسْتِقْرَاءِ الْكُلِّيِّ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ ، وَذَلِكَ قَطْعِيٌّ أَيْضًا ، وَلَا ثَالِثَ لِهَذَيْنِ إِلَّا الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا ، وَالْمُؤَلَّفُ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ قَطْعِيٌّ ، وَذَلِكَ أُصُولُ الْفِقْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً ; لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إِلَى أَمْرٍ عَقْلِيٍّ ; إِذِ الظَّنُّ لَا يُقْبَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ ، وَلَا إِلَى كُلِّيٍّ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ الظَّنَّ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُزْئِيَّاتِ ; إِذْ لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ ; لَجَازَ تَعَلُّقُهُ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ الْكُلِّيُّ الْأَوَّلُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَادَةً - وَأَعْنِي بِالْكُلِّيَّاتِ هُنَا : الضَّرُورِيَّاتِ ، [ ص: 20 ] وَالْحَاجِيَّاتِ ، وَالتَّحْسِينِيَّاتِ - وَأَيْضًا لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ ; لَجَازَ تَعَلُّقُ الشَّكِّ بِهَا ، وَهِيَ لَا شَكَّ فِيهَا ، وَلَجَازَ تَغْيِيرُهَا وَتَبْدِيلُهَا ، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا ضَمِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حِفْظِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ جَازَ جَعْلُ الظَّنِّيِّ أَصْلًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ; لَجَازَ جَعْلُهُ أَصْلًا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ ، فَكَذَلِكَ هُنَا ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ كَنِسْبَةِ أُصُولِ الدِّينِ ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْمَرْتَبَةِ ; فَقَدِ اسْتَوَتْ فِي أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حِفْظِ الدِّينِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالظَّنِّ ، لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ ، وَلَمْ نُتَعَبَّدْ بِالظَّنِّ إِلَّا فِي الْفُرُوعِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ [ ص: 21 ] مِنَ الْأُصُولِ تَفَاصِيلَ الْعِلَلِ ، كَالْقَوْلِ فِي عَكْسِ الْعِلَّةِ ، وَمُعَارَضَتِهَا ، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا ، وَتَفَاصِيلَ أَحْكَامِ الْأَخْبَارِ ، كَأَعْدَادِ الرُّوَاةِ ، وَالْإِرْسَالِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ . وَاعْتَذَرَ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ عَنْ إِدْخَالِهِ فِي الْأُصُولِ بِأَنَّ التَّفَاصِيلَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْأُصُولِ الْمَقْطُوعِ بِهَا دَاخِلَةٌ بِالْمَعْنَى فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ . قَالَ الْمَازِرِيُّ : وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّحَاشِي عَنْ عَدِّ هَذَا الْفَنِّ مِنَ الْأُصُولِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا ، عَلَى طَرِيقَةِ الْقَاضِي فِي أَنَّ الْأُصُولَ هِيَ أُصُولُ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينُ كُلِّيَّاتٍ وُضِعَتْ لَا لِأَنْفُسِهَا ، لَكِنْ لِيُعْرَضَ عَلَيْهَا أَمْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ . قَالَ : فَهِيَ فِي هَذَا كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ قَالَ : وَيَحْسُنُ [ ص: 22 ] مِنْ أَبِي الْمَعَالِي أَنْ لَا يَعُدَّهَا مِنَ الْأُصُولِ ; لِأَنَّ الْأُصُولَ عِنْدَهُ [ هِيَ الْأَدِلَّةُ ، وَالْأَدِلَّةُ عِنْدَهُ ] مَا يُفْضِي إِلَى الْقَطْعِ ، وَأَمَّا الْقَاضِي ; فَلَا يَحْسُنُ بِهِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْأُصُولِ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ . هَذَا مَا قَالَ . وَالْجَوَابُ : أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَظْنُونًا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالُ الْإِخْلَافِ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْعَلُ أَصْلًا فِي الدِّينِ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ ، وَالْقَوَانِينُ الْكُلِّيَّةُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ الْحِفْظَ الْمَضْمُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ حِفْظُ أُصُولِهِ الْكُلِّيَّةِ الْمَنْصُوصَةِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] أَيْضًا ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمَسَائِلُ الْجُزْئِيَّةُ ; إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ الْحِفْظِ جُزْئِيٌّ مِنْ [ ص: 23 ] جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْجَوَازِ ، وَيُؤَيِّدُهُ الْوُقُوعُ ; لِتَفَاوُتِ الظُّنُونِ ، وَتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي النُّصُوصِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَوُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهَا قَطْعًا ، فَقَدْ وُجِدَ الْخَطَأُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِي مَعَانِي الْآيَاتِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الْمَحْفُوظِ مَا كَانَ مِنْهُ كُلِّيًّا ، وَإِذْ ذَاكَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَصْلٍ قَطْعِيًّا . هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْمَعَالِي ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي ; فَإِنَّ إِعْمَالَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أَوِ الظَّنِّيَّةِ إِذَا كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الْفِقْهِ ; فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا عَلَيْهَا ، وَاخْتِبَارِهَا بِهَا ، وَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا ، بَلْ أَقْوَى مِنْهَا ، لِأَنَّكَ أَقَمْتَهَا مَقَامَ الْحَاكِمِ عَلَى الْأَدِلَّةِ ، بِحَيْثُ تُطْرَحُ الْأَدِلَّةُ إِذَا لَمْ تَجْرِ عَلَى مُقْتَضَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ ; فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَجْعَلَ الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينَ لِغَيْرِهَا ؟ وَلَا حُجَّةَ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ مُرَادَةٍ لِأَنْفُسِهَا حَتَّى يُسْتَهَانَ بِطَلَبِ الْقَطْعِ فِيهَا ; فَإِنَّهَا حَاكِمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا ; فَلَا بُدَّ مِنَ الثِّقَةِ بِهَا فِي رُتْبَتِهَا ، وَحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ تُجْعَلَ قَوَانِينَ ، وَأَيْضًا ، لَوْ صَحَّ كَوْنُهَا ظَنِّيَّةً ; لَزِمَ مِنْهُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ ; فَالِاصْطِلَاحُ اطَّرَدَ عَلَى أَنَّ الْمَظْنُونَاتِ لَا تُجْعَلُ أُصُولًا ، وَهَذَا كَافٍ فِي اطِّرَاحِ الظَّنِّيَّاتِ مِنَ الْأُصُولِ بِإِطْلَاقٍ ، فَمَا [ ص: 24 ] جَرَى فِيهَا مِمَّا لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْقَطْعِيِّ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ بِالتَّبَعِ ، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (3) استعمال الأدلة العقلية في الأصول مرتبط مع الأدلة النقلية إِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَالْأَدِلَّةَ الْمُعْتَمَدَةَ فِيهِ لَا تَكُونُ إِلَّا قَطْعِيَّةً ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَنِّيَّةٌ لَمْ تُفِدِ الْقَطْعَ فِي الْمَطَالِبِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ ، وَهَذَا بَيَّنٌ ، وَهِيَ : إِمَّا عَقْلِيَّةٌ ; كَالرَّاجِعَةِ إِلَى أَحْكَامِ الْعَقْلِ الثَّلَاثَةِ : الْوُجُوبِ ، وَالْجَوَازِ ، وَالِاسْتِحَالَةِ . وَإِمَّا عَادِيَّةٌ ، وَهِيَ تَتَصَرَّفُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ أَيْضًا ; إِذْ مِنَ الْعَادِيِّ مَا هُوَ وَاجِبٌ فِي الْعَادَةِ أَوْ جَائِزٌ أَوْ مُسْتَحِيلٌ . وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ ، وَأَجَلُّهَا الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي اللَّفْظِ ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ أَوْ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي الْمَعْنَى - أَوِ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ . فَإِذَا الْأَحْكَامُ الْمُتَصَرِّفَةُ فِي هَذَا الْعِلْمِ لَا تَعْدُو الثَّلَاثَةَ : الْوُجُوبَ ، [ ص: 26 ] وَالْجَوَازَ ، وَالِاسْتِحَالَةَ ، وَيَلْحَقُ بِهَا الْوُقُوعُ أَوْ عَدَمُ الْوُقُوعِ ، فَأَمَّا كَوْنُ الشَّيْءِ حُجَّةً أَوْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; فَرَاجِعٌ إِلَى وُقُوعِهِ كَذَلِكَ ; أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ كَذَلِكَ ; وَكَوْنُهُ صَحِيحًا أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ ؛ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَّلِ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا ; فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أُصُولٌ ، فَمَنْ أَدْخَلَهَا فِيهَا فَمِنْ بَابِ خَلْطِ بَعْضِ الْعُلُومِ بِبَعْضٍ . [ ص: 27 ] الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي هَذَا الْعِلْمِ ; فَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ مُرَكَّبَةً عَلَى الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ ، أَوْ مُعِينَةً فِي طَرِيقِهَا ، أَوْ مُحَقِّقَةً لِمَنَاطِهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، لَا مُسْتَقِلَّةً بِالدَّلَالَةِ ; لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا نَظَرٌ فِي أَمْرٍ شَرْعِيٍّ ، وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِشَارِعٍ ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; فَالْمُعْتَمَدُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَوُجُودُ الْقَطْعِ فِيهَا - عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمَشْهُورِ - مَعْدُومٌ أَوْ فِي غَايَةِ النُّدُورِ [ ص: 28 ] [ أَعْنِي : فِي آحَادِ الْأَدِلَّةِ ] ; فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ; فَعَدَمُ إِفَادَتِهَا الْقَطْعَ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً ; فَإِفَادَتُهَا الْقَطْعَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ جَمِيعُهَا أَوْ غَالِبُهَا ظَنِّيٌّ ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الظَّنِّيِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا ; فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ وَآرَاءِ النَّحْوِ ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ ، وَعَدَمِ الْمَجَازِ ، وَالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ أَوِ الْعَادِيِّ ، وَالْإِضْمَارِ ، وَالتَّخْصِيصِ لِلْعُمُومِ ، وَالتَّقْيِيدِ لِلْمُطْلَقِ ، وَعَدَمِ النَّاسِخِ ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَالْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ ، وَإِفَادَةُ الْقَطْعِ مَعَ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمُورِ مُتَعَذِّرٌ ، وَقَدِ اعْتَصَمَ مَنْ قَالَ بِوُجُودِهَا بِأَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ فِي أَنْفُسِهَا ، لَكِنْ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا قَرَائِنُ مُشَاهَدَةٌ أَوْ مَنْقُولَةٌ ; فَقَدْ تُفِيدُ الْيَقِينُ ، وَهَذَا كُلُّهُ نَادِرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ . وَإِنَّمَا الْأَدِلَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ هُنَا الْمُسْتَقْرَأَةُ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ تَضَافَرَتْ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ حَتَّى أَفَادَتْ فِيهِ الْقَطْعَ ; فَإِنَّ لِلِاجْتِمَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلِافْتِرَاقِ ، وَلِأَجْلِهِ أَفَادَ التَّوَاتُرُ الْقَطْعَ ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ ، فَإِذَا حَصَلَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ مَجْمُوعٌ يُفِيدُ الْعِلْمَ ؛ فَهُوَ الدَّلِيلُ الْمَطْلُوبُ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ ، بَلْ هُوَ كَالْعِلْمِ [ ص: 29 ] بِشَجَاعَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجُودِ حَاتِمٍ الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَثْرَةِ الْوَقَائِعِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمَا . وَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ ، كَالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَغَيْرِهِمَا ، قَطْعًا ، وَإِلَّا فَلَوِ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكَانَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمَجْرَدِهِ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ ، لَكِنْ حَفَّ بِذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ مَا صَارَ بِهِ فَرْضُ الصَّلَاةِ ضَرُورِيًّا فِي الدِّينِ ، لَا يَشُكُّ فِيهِ إِلَّا شَاكٌّ فِي أَصْلِ الدِّينِ . وَمِنْ هَاهُنَا اعْتَمَدَ النَّاسُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ مِثْلِ هَذَا عَلَى دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَقَاطِعٌ لِهَذِهِ الشَّوَاغِبِ . وَإِذَا تَأَمَّلْتَ أَدِلَّةَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً أَوْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْقِيَاسِ حُجَّةً ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَسَاقِ ; لِأَنَّ أَدِلَّتَهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ ، [ ص: 30 ] وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَلِفَةُ الْمَسَاقِ ، لَا تَرْجِعُ إِلَى بَابٍ وَاحِدٍ ; إِلَّا أَنَّهَا تَنْتَظِمُ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا تَكَاثَرَتْ عَلَى النَّاظِرِ الْأَدِلَّةُ عَضَّدَ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَصَارَتْ بِمَجْمُوعِهَا مُفِيدَةً لِلْقَطْعِ ; فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي مَآخِذِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَهِيَ مَآخِذُ الْأُصُولِ ; إِلَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ رُبَّمَا تَرَكُوا ذِكْرَ هَذَا الْمَعْنَى وَالتَّنْبِيهَ عَلَيْهِ ، فَحَصَلَ إِغْفَالُهُ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ; فَاسْتَشْكَلَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَاتِ عَلَى حِدَتِهَا ، وَبِالْأَحَادِيثِ عَلَى انْفِرَادِهَا ; إِذْ لَمْ يَأْخُذْهَا مَأْخَذَ الِاجْتِمَاعِ ، فَكَّرَ عَلَيْهَا بِالِاعْتِرَاضِ نَصًّا نَصًّا ، وَاسْتَضْعَفَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْأُصُولِ الْمُرَادِ مِنْهَا الْقَطْعُ ، وَهِيَ إِذَا أُخِذَتْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ غَيْرُ مُشْكِلَةٍ ، وَلَوْ أُخِذَتْ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ مَأْخَذَ هَذَا الْمُعْتَرِضِ ; لَمْ يَحْصُلْ لَنَا قَطْعٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَلْبَتَّةَ ; إِلَّا أَنْ نُشْرِكَ الْعَقْلَ ، وَالْعَقْلُ إِنَّمَا يَنْظُرُ مِنْ وَرَاءِ الشَّرْعِ ; فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِانْتِظَامِ [ ص: 31 ] فِي تَحْقِيقِ الْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ . فَقَدَ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ ، بَلْ سَائِرُ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ - وَهِيَ : الدِّينُ ، وَالنَّفْسُ ، وَالنَّسْلُ ، وَالْمَالُ ، وَالْعَقْلُ ، وَعِلْمُهَا عِنْدَ الْأُمَّةِ كَالضَّرُورِيِّ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَنَا ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ ، وَلَا شَهِدَ لَنَا أَصْلٌ مُعَيَّنٌ يَمْتَازُ بِرُجُوعِهَا إِلَيْهِ ، بَلْ عُلِمَتْ مُلَاءَمَتُهَا لِلشَّرِيعَةِ بِمَجْمُوعِ أَدِلَّةٍ لَا تَنْحَصِرُ فِي بَابٍ وَاحِدٍ ، وَلَوِ اسْتَنَدَتْ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ عَادَةً تَعْيِينُهُ ، وَأَنْ يَرْجِعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ إِلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ ظَنِّيٌّ ، وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ فِي التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ خَبَرَ وَاحِدٍ دُونَ سَائِرِ الْأَخْبَارِ ، كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ هُنَا ؛ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ عَلَى فَرْضِ الِانْفِرَادِ ، وَإِنْ كَانَ الظَّنُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ ، وَأَحْوَالِ دَلَالَاتِ الْمَنْقُولَاتِ ، وَأَحْوَالِ النَّاظِرِينَ فِي قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ وَضَعْفِهِ ، وَكَثْرَةِ الْبَحْثِ وَقِلَّتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ . فَنَحْنُ إِذَا نَظَرْنَا فِي الصَّلَاةِ ; فَجَاءَ فِيهَا : أَقِيمُوا الصَّلَاةَ عَلَى وُجُوهٍ ، وَجَاءَ مَدْحُ الْمُتَّصِفِينَ بِإِقَامَتِهَا ، وَذَمُّ التَّارِكِينَ لَهَا ، وَإِجْبَارُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى فِعْلِهَا وَإِقَامَتِهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ، وَقِتَالُ مَنْ تَرَكَهَا أَوْ عَانَدَ فِي تَرْكِهَا ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ النَّفْسُ : نُهِيَ عَنْ قَتْلِهَا ، وَجُعِلَ قَتْلُهَا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ ، وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ الْمَقْرُونَةِ بِالشِّرْكِ [ ص: 32 ] كَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ مَقْرُونَةً بِالْإِيمَانِ ، وَوَجَبَ سَدُّ رَمَقِ الْمُضْطَرِّ ، وَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَالْمُوَاسَاةُ وَالْقِيَامُ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِ نَفْسِهِ ، وَأُقِيمَتِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ وَالْمُلُوكُ لِذَلِكَ ، وَرُتِّبَتِ الْأَجْنَادُ لِقِتَالِ مَنْ رَامَ قَتْلَ النَّفْسِ ، وَوَجَبَ عَلَى الْخَائِفِ مِنَ الْمَوْتِ سَدُّ رَمَقِهِ بِكُلِّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، إِلَى سَائِرِ مَا يَنْضَافُ لِهَذَا [ الْمَعْنَى ] - عَلِمْنَا يَقِينًا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمَ الْقَتْلِ ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَدِلَّةِ فِي قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ . وَبِهَذَا امْتَازَتِ الْأُصُولُ مِنَ الْفُرُوعِ ; إِذْ كَانَتِ الْفُرُوعُ مُسْتَنِدَةً إِلَى آحَادِ الْأَدِلَّةِ وَإِلَى مَآخِذَ مُعَيَّنَةٍ ، فَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الِاسْتِنَادِ إِلَى الظَّنِّ ، بِخِلَافِ الْأُصُولِ ; فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنِ اسْتِقْرَاءِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَدِلَّةِ بِإِطْلَاقٍ ، لَا مِنْ آحَادِهَا عَلَى الْخُصُوصِ . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (4) صـ33 إلى صـ45 فصل وينبني على هذه المقدمة معنى آخر ، وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين ، وكان ملائما لتصرفات الشرع ، ومأخوذا معناه من أدلته ، فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به ; لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم ; لأن ذلك كالمتعذر . ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك [ ص: 33 ] والشافعي ; فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين ; فقد شهد له أصل كلي ; والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين ، وقد يربو عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه ، كما أنه قد يكون مرجوحا في بعض المسائل ، حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح ، وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك ، ينبني على هذا الأصل ; لأن معناه يرجع إلى [ تقديم ] الاستدلال المرسل على القياس ، كما هو مذكور في موضعه . [ ص: 34 ] فإن قيل : الاستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح ; لأن الأصل الأعم كلي ، وهذه القضية المفروضة جزئية خاصة ، والأعم لا إشعار له بالأخص ; فالشرع وإن اعتبر كلي المصلحة ، من أين يعلم اعتباره لهذه المصلحة الجزئية المتنازع فيها ؟ فالجواب أن الأصل الكلي إذا انتظم في الاستقراء [ يكون ] كليا جاريا مجرى العموم في الأفراد ، [ أما كونه كليا ; فلما يأتي في موضعه - إن شاء الله - ، وأما كونه يجرى مجرى العموم في الأفراد ] فلأنه في قوة اقتضاء وقوعه في جميع الأفراد ، ومن هنالك استنبط ؛ لأنه إنما استنبط من أدلة الأمر والنهي الواقعين على جميع المكلفين ; فهو كلي في تعلقه ، فيكون عاما في الأمر به والنهي للجميع . [ ص: 35 ] لا يقال : يلزم على هذا اعتبار كل مصلحة موافقة لمقصد الشارع أو مخالفة ، وهو باطل ; لأنا نقول : لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع ; لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك ; - حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب [ بحول الله ] . فَصْلٌ وَقَدْ أَدَّى عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ وَمَا قَبْلَهُ إِلَى أَنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ ; إِذْ لَمْ يَجِدْ فِي آحَادِ الْأَدِلَّةِ بِانْفِرَدِهَا مَا يُفِيدُهُ الْقَطْعُ ، فَأَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى مُخَالَفَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُ ، وَمَالَ أَيْضًا بِقَوْمٍ آخَرِينَ إِلَى تَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْأَخْذِ بِأُمُورٍ عَادِيَّةٍ أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ ، وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ أُخَرُ غَيْرُ الْإِجْمَاعِ عَرَضَ فِيهَا [ هَذَا الْإِشْكَالَ فَادَّعَى فِيهَا ] أَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ بِحَسَبِ هَذَا التَّرْتِيبِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ ، وَهُوَ وَاضِحٌ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - . [ ص: 36 ] [ ص: 37 ] كُلُّ مَسْأَلَةٍ مَرْسُومَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا فُرُوعٌ فِقْهِيَّةٌ أَوْ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ أَوْ لَا تَكُونُ عَوْنًا فِي ذَلِكَ ; فَوَضْعُهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَارِيَةٌ . وَالَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَمْ يَخْتَصَّ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْفِقْهِ إِلَّا لِكَوْنِهِ مُفِيدًا لَهُ ، وَمُحَقِّقًا لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِأَصْلٍ لَهُ ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ فَرْعٌ فِقْهِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْعُلُومِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ; كَعِلْمِ النَّحْوِ ، وَاللُّغَةِ ، وَالِاشْتِقَاقِ ، وَالتَّصْرِيفِ ، وَالْمَعَانِي ، وَالْبَيَانِ ، وَالْعَدَدِ ، وَالْمِسَاحَةِ ، وَالْحَدِيثِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا تَحْقِيقُ الْفِقْهِ ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا مِنْ مَسَائِلِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَلَيْسَ [ كُلُّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْفِقْهُ يُعَدُّ مِنْ أُصُولِهِ ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنَّ كُلَّ أَصْلٍ يُضَافُ إِلَى الْفِقْهِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِقْهٌ - فَلَيْسَ ] بِأَصْلٍ لَهُ . [ ص: 38 ] وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَكَلَّمَ عَلَيْهَا الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَدْخَلُوهَا فِيهَا ; كَمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ ، وَمَسْأَلَةِ الْإِبَاحَةِ ; هَلْ هِيَ تَكْلِيفٌ أَمْ لَا ، وَمَسْأَلَةِ أَمْرِ الْمَعْدُومِ ، وَمَسْأَلَةِ هَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَبَّدًا بِشَرْعٍ أَمْ لَا ، وَمَسْأَلَةِ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ، ثُمَّ الْبَحْثُ فِيهِ فِي عَمَلِهِ وَإِنِ انْبَنَى عَلَيْهِ الْفِقْهُ ، كَفُصُولٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّحْوِ ، نَحْوَ مَعَانِي الْحُرُوفِ ، وَتَقَاسِيمِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ ، وَالْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَرَادِفِ ، وَالْمُشْتَقِّ ، وَشِبْهِ ذَلِكَ . غَيْرَ أَنَّهُ يُتَكَلَّمُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مَسْأَلَةٍ هِيَ عَرِيقَةٌ [ ص: 39 ] فِي الْأُصُولِ ، وَهِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ [ الْكَرِيمَ لَيْسَ فِيهِ مِنْ طَرَائِقِ الْعَجَمِ شَيْءٌ ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ ] عَرَبِيٌّ ، وَالسُّنَّةُ عَرَبِيَّةٌ ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَاظٍ أَعْجَمِيَّةٍ فِي الْأَصْلِ أَوْ لَا يَشْتَمِلُ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَرَبِيٌّ ، بِحَيْثُ إِذَا حُقِّقَ هَذَا التَّحْقِيقَ سُلِكَ بِهِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَسْلَكَ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَقْرِيرِ مَعَانِيهَا وَمَنَازِعِهَا فِي أَنْوَاعِ مُخَاطِبَاتِهَا خَاصَّةً ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْخُذُونَ أَدِلَّةَ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ مَا يُعْطِيهِ الْعَقْلُ فِيهَا ، لَا بِحَسَبِ مَا يُفْهَمُ مِنْ طَرِيقِ الْوَضْعِ ، وَفِي ذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ وَخُرُوجٌ عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُبَيَّنَةٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . فَصْلٌ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا فِقْهٌ ; إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهَا اخْتِلَافٌ فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ ; فَوَضْعُ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ أَوْ إِبْطَالِهِ عَارِيَةٌ أَيْضًا ، كَالْخِلَافِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ ، [ ص: 40 ] وَالْمُحَرَّمِ الْمُخَيَّرِ ; فَإِنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مُوَافِقَةٌ لِلْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْعَمَلِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الِاعْتِقَادِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُحَرَّرٍ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ، وَفِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَهُ تَقْرِيرٌ [ ص: 41 ] أَيْضًا ، وَهُوَ : هَلِ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ أَوْ غَيْرُهُمَا رَاجِعَةٌ إِلَى صِفَاتِ الْأَعْيَانِ أَوْ إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ ؟ وَكَمَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عِنْدَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ; فَإِنَّهُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي فَرَضُوهَا مِمَّا لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفِقْهِ . لَا يُقَالُ : إِنَّ مَا يَرْجِعُ الْخِلَافُ فِيهِ إِلَى الِاعْتِقَادِ [ يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ تَحْرِيمٍ ، وَأَيْضًا ] يَنْبَنِي عَلَيْهِ عِصْمَةُ الدَّمِ وَالْمَالِ ، وَالْحُكْمُ بِالْعَدَالَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى مَا دُونَهُ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ ، هُوَ مِنْ عِلْمِ الْفُرُوعِ ; لِأَنَّا نَقُولُ : هَذَا جَارٍ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ ; فَلْيَكُنْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَا تَقَدَّمَ . [ ص: 42 ] [ ص: 43 ] كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ ; فَالْخَوْضُ فِيهَا خَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ، وَأَعْنِي بِالْعَمَلِ : عَمَلَ الْقَلْبِ وَعَمَلَ الْجَوَارِحِ ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ ; فَإِنَّا رَأَيْنَا الشَّارِعَ يُعْرِضُ عَمَّا لَا يُفِيدُ عَمَلًا مُكَلَّفًا بِهِ ; فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : 189 ] . [ ص: 44 ] فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعَمَلُ ; إِعْرَاضًا عَمَّا قَصَدَهُ السَّائِلُ مِنَ السُّؤَالِ عَنِ الْهِلَالِ : لِمَ يَبْدُو فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ دَقِيقًا كَالْخَيْطِ ، ثُمَّ يَمْتَلِئُ حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى ؟ . ثُمَّ قَالَ : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [ الْبَقَرَةِ : 189 ] ، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ أَنَّ الْآيَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى ; فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ فِي التَّمْثِيلِ إِتْيَانٌ لِلْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا ، وَالْبِرُّ إِنَّمَا هُوَ التَّقْوَى ، [ ص: 45 ] لَا الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُفِيدُ نَفْعًا فِي التَّكْلِيفِ ، وَلَا تَجُرُّ إِلَيْهِ . وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مَرْسَاهَا : فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا أَيْ : إِنَّ السُّؤَالَ عَنْ هَذَا سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْنِي ; إِذْ يَكْفِي مِنْ عِلْمِهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ السَّاعَةِ ; قَالَ لِلسَّائِلِ مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ ; إِعْرَاضًا عَنْ صَرِيحِ سُؤَالِهِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِمَّا فِيهِ فَائِدَةٌ ، وَلَمْ يُجِبْهُ عَمَّا سَأَلَ . وَقَالَ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 101 ] . نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ سَأَلَ : مَنْ أَبِي ؟ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ يَوْمًا يُعْرَفُ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ; فَقَالَ : لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي ؟ قَالَ : أَبُوكَ حُذَافَةُ . فَنَزَلَتْ . وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (5) صـ46 إلى صـ66 وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سُؤَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ صِفَاتِ الْبَقَرَةِ : " لَوْ ذَبَحُوا بَقَرَةً مَا لَأَجْزَأَتْهُمْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ " ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ سُؤَالَهُمْ لَمْ [ ص: 46 ] يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ . وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجْرِي الْكَلَامُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا عِنْدَ مَنْ رَوَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ سَأَلَ : أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لِلْأَبَدِ ، [ ص: 47 ] وَلَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ؛ لَوَجَبَتْ ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ : فَذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ; فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ الْحَدِيثَ ، وَإِنَّمَا سُؤَالُهُمْ هُنَا زِيَادَةٌ لَا فَائِدَةَ عَمَلٍ فِيهَا ; لِأَنَّهُمْ لَوْ سَكَتُوا لَمْ يَقِفُوا عَنْ عَمَلٍ ، فَصَارَ السُّؤَالُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ . وَمِنْ هُنَا نَهَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُفِيدُ ، وَقَدْ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ السَّاعَةِ ; فَقَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا [ ص: 48 ] بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ; فَأَخْبَرَهُ أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ ، وَلَمَّا كَانَ يَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ أَمَارَاتِهَا الْحَذَرُ مِنْهَا وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَمَارَاتِهَا ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ عِنْدَهَا ; أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ بِتَعْرِيفِهِ عُمَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ دِينَهُمْ ; فَصَحَّ إِذًا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ دِينِهِمْ فِي فَصْلِ السُّؤَالِ عَنِ السَّاعَةِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ [ أَعْنِي عِلْمَ زَمَانِ إِتْيَانِهَا ] ; فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ وَفَائِدَةِ سُؤَالِهِ لَهُ عَنْهَا . وَقَالَ : إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ ، وَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ; فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُحَرَّمْ ; فَمَا فَائِدَةُ السُّؤَالِ عَنْهُ [ ص: 49 ] بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ ؟ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عَبَسَ : 31 ] وَقَالَ : هَذِهِ الْفَاكِهَةُ ; فَمَا الْأَبُّ ؟ ، ثُمَّ قَالَ : نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ . وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ الْإِسْرَاءِ : 85 ] . وَهَذَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يُجَابُوا ، وَأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ [ ص: 50 ] فِي التَّكْلِيفِ . وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَلُّوا مَلَّةً ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! حَدِّثْنَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا الْآيَةَ [ الزُّمَرِ : 23 ] . وَهُوَ كَالنَّصِّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِيمَا سَأَلُوا ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي السُّؤَالُ إِلَّا فِيمَا يُفِيدُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ ، ثُمَّ مَلُّوا مَلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا حَدِيثًا فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ ; فَنَزَلَتْ سُورَةُ يُوسُفَ . [ ص: 51 ] انْظُرِ الْحَدِيثَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لِأَبِي عُبَيْدٍ . وَتَأَمَّلْ خَبَرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ صَبِيغٍ فِي سُؤَالِهِ النَّاسَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ ، وَتَأْدِيبَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ . [ ص: 52 ] وَقَدْ سَأَلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا [ الذَّارِيَاتِ : 1 - 2 ] إِلَخْ ; فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : " وَيْلَكَ سَلْ تَفَقُّهًا وَلَا تَسْأَلْ تَعَنُّتًا " ، ثُمَّ أَجَابَهُ ; فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ : أَفَرَأَيْتَ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ ؟ فَقَالَ : " أَعْمَى سَأَلَ عَنْ عَمْيَاءَ " . ، ثُمَّ أَجَابَهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ ، وَفِي الْحَدِيثِ طُولٌ . [ ص: 53 ] وَقَدْ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَكْرَهُ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ ، وَيَحْكِي كَرَاهِيَّتَهُ عَمَّنْ تَقَدَّمَ . وَبَيَانُ عَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، مِنْهَا : أَنَّهُ شُغْلٌ عَمَّا يَعْنِي مِنْ أَمْرِ التَّكْلِيفِ الَّذِي طُوِّقَهُ الْمُكَلَّفُ بِمَا لَا يَعْنِي ; إِذْ لَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فَائِدَةٌ ; لَا فِي الدُّنْيَا ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ ، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ ; فَإِنَّهُ يُسْأَلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا ; فَإِنَّ عِلْمَهُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَزِيدُهُ فِي تَدْبِيرِ رِزْقِهِ وَلَا يَنْقُصُهُ ، وَأَمَّا اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ عَنْهُ فِي الْحَالِ ; فَلَا تَفِي مَشَقَّةَ اكْتِسَابِهَا وَتَعَبَ طَلَبِهَا ، بِلَذَّةِ حُصُولِهَا ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً فِي الدُّنْيَا ، فَمِنْ شَرْطِ كَوْنِهَا فَائِدَةً شَهَادَةُ الشَّرْعِ لَهَا بِذَلِكَ ، وَكَمْ مِنْ لَذَّةٍ وَفَائِدَةٍ يَعُدُّهَا الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ ; وَلَيْسَتْ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ إِلَّا عَلَى الضِّدِّ ، كَالزِّنَى ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ عَاجِلٌ ، فَإِذًا قَطَعَ الزَّمَانَ فِيمَا لَا يَجْنِي ثَمَرَةً فِي الدَّارَيْنِ ، مَعَ تَعْطِيلِ مَا يَجْنِي الثَّمَرَةَ مِنْ فِعْلِ مَالَا يَنْبَغِي . وَمِنْهَا : أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَاءَ بِبَيَانِ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَحْوَالُ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا ، فَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ فِي التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ ; فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُلُومِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا ثَمَرَةٌ تَكْلِيفِيَّةٌ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْفِتْنَةُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَيَثُورُ بَيْنَهُمُ الْخِلَافُ وَالنِّزَاعُ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالتَّعَصُّبِ ، حَتَّى تَفَرَّقُوا شِيَعًا ، وَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَرَجُوا عَنِ السُّنَّةِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَصْلُ التَّفَرُّقِ إِلَّا بِهَذَا [ ص: 54 ] السَّبَبِ ؛ حَيْثُ تَرَكُوا الِاقْتِصَارَ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَعْنِي ، وَخَرَجُوا إِلَى مَا لَا يَعْنِي ، فَذَلِكَ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ وَالْعَالِمِ ، وَإِعْرَاضُ الشَّارِعِ - مَعَ حُصُولِ السُّؤَالِ - عَنِ الْجَوَابِ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ مِثْلِهِ مِنَ الْعِلْمِ - فِتْنَةٌ أَوْ تَعْطِيلٌ لِلزَّمَانِ فِي غَيْرِ تَحْصِيلٍ . - وَمِنْهَا : أَنَّ تَتَبُّعَ النَّظَرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَتَطَلُّبَ عِلْمِهِ - مِنْ شَأْنِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَتَبَرَّأُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ إِلَّا بِتَعَلُّقِهِمْ بِمَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ ، فَاتِّبَاعُهُمْ فِي نِحْلَةٍ هَذَا شَأْنُهَا خَطَأٌ عَظِيمٌ ، وَانْحِرَافٌ عَنِ الْجَادَّةِ . وَوُجُوهُ عَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ كَثِيرَةٌ . ; فَإِنْ قِيلَ : الْعِلْمُ مَحْبُوبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَمَطْلُوبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَقَدْ جَاءَ الطَّلَبُ فِيهِ عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فَتَنْتَظِمُ صِيغُهُ كُلَّ عِلْمٍ ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ ، وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ ; فَتَخْصِيصُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ ، وَأَيْضًا ; فَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إِنَّ تَعَلُّمَ كُلِّ عِلْمٍ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالسِّحْرِ ، وَالطَّلْسَمَاتِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُلُومِ الْبَعِيدَةِ الْغَرَضِ عَنِ الْعَمَلِ ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا قَرُبَ مِنْهُ ، كَالْحِسَابِ ، وَالْهَنْدَسَةِ ، وَشِبْهِ ذَلِكَ ، وَأَيْضًا ; [ ص: 55 ] فَعِلْمُ التَّفْسِيرِ مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ الْمَطْلُوبَةِ ، وَقَدْ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ ، وَتَأَمَّلْ حِكَايَةَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ : أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ مَرَّ بِيَهُودِيٍّ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُسْلِمٌ يَقْرَأُ عَلَيْهِ عِلْمَ هَيْئَةِ الْعَالَمِ ، فَسَأَلَ الْيَهُودِيَّ عَمَّا يَقْرَأُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَنَا أُفَسِّرُ لَهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ . فَسَأَلَهُ مَا هِيَ ؟ وَهُوَ مُتَعَجِّبٌ ، فَقَالَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ قَالَ الْيَهُودِيُّ : فَأَنَا أُبَيِّنُ لَهُ كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا ، وَتَزْيِينِهَا . فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْعَالِمُ مِنْهُ . هَذَا مَعْنَى الْحِكَايَةِ لَا لَفْظُهَا . وَأَيْضًا ; فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [ الْأَعْرَافِ : 185 ] يَشْمَلُ كُلَّ عِلْمٍ ظَهَرَ فِي الْوُجُودِ ، مِنْ مَعْقُولٍ أَوْ مَنْقُولٍ مُكْتَسَبٍ أَوْ مَوْهُوبٍ ، وَأَشْبَاهَهَا مِنَ الْآيَاتِ ، وَيَزْعُمُ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْفَلْسَفَةِ إِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي الْمَوْجُودَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ حَيْثُ تَدُلُّ عَلَى صَانِعِهَا ، وَمَعْلُومٌ طَلَبُ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْمَخْلُوقَاتِ ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الِاسْتِحْسَانِ فِي كُلِّ عِلْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ . فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ : إِنَّ عُمُومَ الطَّلَبِ مَخْصُوصٌ ، وَإِطْلَاقَهُ مُقَيَّدٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ ، وَالَّذِي يُوَضِّحُهُ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ لَمْ يَخُوضُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَ تَحْتَهَا عَمَلٌ ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ ، بَلْ قَدْ عَدَّ عُمَرُ ذَلِكَ فِي نَحْوِ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عَبَسَ : 31 ] مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي نُهِيَ [ ص: 56 ] عَنْهُ ، وَتَأْدِيبُهُ صَبِيغًا ظَاهِرٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ - لَمْ يَخُضْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ ، لَكِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ; فَدَلَّ عَلَى عَدَمِهِ . وَالثَّانِي : مَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ " الْمَقَاصِدِ " أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ لِأُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ ، وَلَا نَكْتُبُ الشَّهْرَ هَكَذَا ، وَهَكَذَا ، وَهَكَذَا إِلَى نَظَائِرِ ذَلِكَ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ هُنَالِكَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . وَعَنِ الثَّانِي : إِنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنَّمَا فَرْضُ الْكِفَايَةِ رَدُّ كُلِّ فَاسِدٍ وَإِبْطَالُهُ ، عُلِمَ ذَلِكَ الْفَاسِدُ أَوْ جُهِلَ ; إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ أَنَّهُ فَاسِدٌ ، وَالشَّرْعُ مُتَكَفِّلٌ بِذَلِكَ ، وَالْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَعْلَمْ عِلْمَ [ ص: 57 ] السِّحْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ ، مَعَ أَنَّهُ بَطَلَ عَلَى يَدَيْهِ بِأَمْرٍ هُوَ أَقْوَى مِنَ السِّحْرِ ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ، وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ; خَافَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يَخَفْ كَمَا لَمْ يَخَفِ الْعَالِمُونَ بِهِ ، وَهُمُ السَّحَرَةُ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ : لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ طه : 68 ] . وَهَذَا تَعْرِيفٌ بَعْدَ التَّنْكِيرِ ، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ ، وَالَّذِي كَانَ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِي دَعْوَاهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِذَا حَصَلَ الْإِبْطَالُ ، وَالرَّدُّ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ ، وَلَوْ بِخَارِقَةٍ عَلَى يَدِ وَلِيٍّ لِلَّهِ أَوْ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ نَاشِئٍ عَنْ فُرْقَانِ التَّقْوَى ; فَهُوَ الْمُرَادُ ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ إِذًا طَلَبُ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْعُلُومِ مِنَ الشَّرْعِ . وَعَنِ الثَّالِثِ : إِنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ مَطْلُوبٌ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنَ الْخِطَابِ ، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَعْلُومًا فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكَلُّفٌ ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ عُمَرَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عَبَسَ : 31 ] تَوَقَّفَ فِي مَعْنَى الْأَبِّ ، وَهُوَ مَعْنًى إِفْرَادِيٌّ لَا يَقْدَحُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ فِي عِلْمِ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيِّ فِي الْآيَةِ ; إِذْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ حَيْثُ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ طَعَامِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ أَصْنَافًا كَثِيرَةً مِمَّا هُوَ مِنْ طَعَامِ الْإِنْسَانِ مُبَاشَرَةً ; كَالْحَبِّ ، وَالْعِنَبِ ، وَالزَّيْتُونِ ، وَالنَّخْلِ ، وَمِمَّا هُوَ مِنْ طَعَامِهِ بِوَاسِطَةٍ ، مِمَّا هُوَ مَرْعًى لِلْأَنْعَامِ عَلَى الْجُمْلَةِ ; فَبَقِيَ التَّفْصِيلُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ فَضْلًا ; [ ص: 58 ] فَلَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَعْرِفَهُ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عُدَّ الْبَحْثُ عَنْ مَعْنَى الْأَبِّ مِنَ التَّكَلُّفِ ، وَإِلَّا ; فَلَوْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيِّ مِنْ جِهَتِهِ لَمَا كَانَ مِنَ التَّكَلُّفِ ، بَلْ مِنَ الْمَطْلُوبِ عِلْمُهُ لِقَوْلِهِ : لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ ص : 29 ] ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّاسُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ [ النَّحْلِ : 47 ] ; فَأَجَابَهُ الرَّجُلُ الْهُذَلِيُّ بِأَنَّ التَّخَوُّفَ فِي لُغَتِهِمُ التَّنَقُّصُ ، وَأَنْشَدَهُ شَاهِدًا عَلَيْهِ : تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ فَقَالَ عُمَرُ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَمَسَّكُوا بِدِيوَانِ شِعْرِكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ ; فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ " . [ ص: 59 ] وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ فِي مَحَافِلِ النَّاسِ عَنْ مَعْنَى : وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا [ الْمُرْسَلَاتِ : 1 ] ، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا [ النَّازِعَاتِ : 3 ] مِمَّا يُشَوِّشُ عَلَى الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ بِنَاءِ عَمَلٍ عَلَيْهِ ; أَدَّبَ عُمَرُ صَبِيغًا بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ . فَإِذًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا الْآيَةَ [ ق : 6 ] بِعِلْمِ الْهَيْئَةِ الَّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ - غَيْرُ سَائِغٍ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَالَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ ، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهَا ، وَعَلَى مَعْهُودِهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوحٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بِحَوْلِ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ عِلْمٍ يُعْزَى إِلَى الشَّرِيعَةِ لَا يُؤَدِّي فَائِدَةَ عَمَلٍ ، وَلَا هُوَ مِمَّا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ ، فَقَدْ تَكَلَّفَ أَهْلُ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا - الِاحْتِجَاجَ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْذِ فِي عُلُومِهِمْ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا اسْتَدَلَّ [ ص: 60 ] أَهْلُ الْعَدَدِ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [ الْمُؤْمِنُونَ : 113 ] . وَأَهْلُ [ النِّسَبِ الْعَدَدِيَّةِ أَوِ الْهَنْدَسِيَّةِ ] بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ . . . . مِائَتَيْنِ ) [ الْأَنْفَالِ : 65 ] إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ . وَأَهْلُ الْكِيمِيَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [ الرَّعْدِ : 17 ] . وَأَهْلُ التَّعْدِيلِ النُّجُومِيِّ بِقَوْلِهِ : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [ الرَّحْمَنِ : 5 ] . وَأَهْلُ الْمَنْطِقِ فِي أَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيَّةِ السَّالِبَةِ جُزْئِيَّةٌ مُوجَبَةٌ بِقَوْلِهِ : إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الْآيَةَ [ الْأَنْعَامِ : 91 ] . وَعَلَى بَعْضِ الضُّرُوبِ الْحَمْلِيَّةِ ، وَالشُّرْطِيَّةِ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ . وَأَهْلُ خَطِّ الرَّمْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [ الْأَحْقَافِ : 4 ] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : كَانَ نَبِيٌّ يَخُطُّ فِي الرَّمْلِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَسْطُورٌ [ ص: 61 ] [ ص: 62 ] [ ص: 63 ] [ ص: 64 ] [ ص: 65 ] فِي الْكُتُبِ ، وَجَمِيعُهُ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِمَا تَقَدَّمَ . وَبِهِ تَعْلَمُ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ : أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [ الْأَعْرَافِ : 185 ] لَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ عُلُومُ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ لِلْعَرَبِ بِهَا ، وَلَا يَلِيقُ بِالْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمِّيُّ بِمِلَّةٍ سَهْلَةٍ سَمْحَةٍ ، وَالْفَلْسَفَةُ عَلَى فَرْضِ أَنَّهَا جَائِزَةُ الطَّلَبِ - صَعْبَةُ الْمَأْخَذِ ، وَعِرَةُ الْمَسْلَكِ ، بَعِيدَةُ الْمُلْتَمَسِ ، لَا يَلِيقُ الْخِطَابُ بِتَعَلُّمِهَا كَيْ تَتَعَرَّفَ آيَاتِ اللَّهِ ، وَدَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ لِلْعَرَبِ النَّاشِئِينَ فِي مَحْضِ الْأُمِّيَّةِ ، فَكَيْفَ وَهِيَ مَذْمُومَةٌ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ ، مُنَبَّهٌ عَلَى ذَمِّهَا بِمَا تَقَدَّمَ [ ص: 66 ] فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ; فَالصَّوَابُ أَنَّ مَا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ ; غَيْرُ مَطْلُوبٍ فِي الشَّرْعِ . ; فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ ، كَأَلْفَاظِ اللُّغَةِ ، وَعِلْمِ النَّحْوِ ، وَالتَّفْسِيرِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ; فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ مَطْلُوبٌ ، إِمَّا شَرْعًا ، وَإِمَّا عَقْلًا ، حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ ، لَكِنْ هُنَا مَعْنًى آخَرُ لَا بُدَّ مِنَ الِالْتِفَافِ إِلَيْهِ ، وَهُوَ : https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (6) صـ67 إلى صـ79 [ ص: 67 ] وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْمَطْلُوبِ قَدْ يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ تَقْرِيبِيٌّ يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ لَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ ، وَإِنْ فُرِضَ تَحْقِيقًا . فَأَمَّا الْأَوَّلُ ; فَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ ، كَمَا إِذَا طُلِبَ مَعْنَى الْمَلِكِ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرِهِ ، أَوْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ ; فَقِيلَ : إِنَّهُ هَذَا الَّذِي أَنْتَ مِنْ جِنْسِهِ ، أَوْ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فَقِيلَ : هُوَ التَّنَقُّصُ ، أَوْ مَعْنَى الْكَوْكَبِ فَقِيلَ : هَذَا الَّذِي نُشَاهِدُهُ بِاللَّيْلِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ; فَيَحْصُلُ فَهْمُ الْخِطَابِ مَعَ هَذَا الْفَهْمِ التَّقْرِيبِيِّ حَتَّى يُمْكِنَ الِامْتِثَالُ . وَعَلَى هَذَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِي الشَّرِيعَةِ ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ ، وَغَمْطُ النَّاسِ ; فَفَسَّرَهُ بِلَازِمِهِ الظَّاهِرِ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَكَمَا تُفَسَّرُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِمُرَادِفَاتِهَا لُغَةً ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَظْهَرَ فِي الْفَهْمِ مِنْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ [ ص: 68 ] السَّلَامُ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمُورِ ، وَهُوَ عَادَةُ الْعَرَبِ ، وَالشَّرِيعَةُ عَرَبِيَّةٌ ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أُمِّيَّةٌ ; فَلَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْبَيَانِ إِلَّا الْأُمِّيُّ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مَشْرُوحًا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . فَإِذًا التَّصَوُّرَاتُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هِيَ تَقْرِيبَاتٌ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَمَا قَامَ مَقَامَهَا مِنَ الْبَيَانَاتِ الْقَرِيبَةِ . وَأَمَّا الثَّانِي : - وَهُوَ مَا لَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ - ; فَعَدَمُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْجُمْهُورِ أَخْرَجَهُ عَنِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ ; لِأَنَّ مَسَالِكَهُ صَعْبَةُ الْمَرَامِ ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ الْحَجِّ : 78 ] كَمَا إِذَا طُلِبَ مَعْنَى الْمَلِكِ ، فَأُحِيلَ بِهِ عَلَى مَعْنًى أَغْمَضَ مِنْهُ ، وَهُوَ مَاهِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْمَادَّةِ أَصْلًا ، أَوْ يُقَالُ : جَوْهَرٌ بَسِيطٌ ذُو نِهَايَةٍ وَنُطْقٍ عَقْلِيٍّ ، أَوْ طُلِبَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ فَقِيلَ : هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ الْمَائِتُ ، أَوْ يُقَالُ : مَا الْكَوْكَبُ ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ جِسْمٌ بَسِيطٌ كُرِيٌّ ، مَكَانُهُ الطَّبِيعِيُّ نَفْسُ الْفَلَكِ ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنِيرَ ، مُتَحَرِّكٌ عَلَى الْوَسَطِ ، غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَيْهِ ، أَوْ سُئِلَ عَنِ الْمَكَانِ ; فَيُقَالُ : هُوَ السَّطْحُ الْبَاطِنُ مِنَ الْجِرْمِ الْحَاوِي ، الْمُمَاسُّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنَ الْجِسْمِ الْمَحْوِيِّ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ أَزْمِنَةٍ فِي طَلَبِ تِلْكَ الْمَعَانِي ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى هَذَا ، وَلَا كَلَّفَ بِهِ . وَأَيْضًا ; فَإِنَّ هَذَا تَسَوُّرٌ عَلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ ، وَقَدِ اعْتَرَفَ أَصْحَابُهُ [ ص: 69 ] بِصُعُوبَتِهِ ، بَلْ قَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُتَعَذِّرٌ ، وَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا أَنْ لَا يُعَرَّفَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ ; إِذِ الْجَوَاهِرُ لَهَا فُصُولٌ مَجْهُولَةٌ ، وَالْجَوَاهِرُ عُرِّفَتْ بِأُمُورٍ سَلْبِيَّةٍ ; فَإِنَّ الذَّاتِيَّ الْخَاصَّ إِنْ عُلِمَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ لَمْ يَكُنْ خَاصًّا ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ، فَكَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ لِلْحِسِّ فَهُوَ مَجْهُولٌ ; فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ الْخَاصُّ بِغَيْرِ مَا يَخُصُّهُ فَلَيْسَ بِتَعْرِيفٍ ، وَالْخَاصُّ بِهِ كَالْخَاصِّ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا ; فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ، وَذَلِكَ لَا يَفِي بِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ ، هَذَا فِي الْجَوْهَرِ ، وَأَمَّا الْعَرَضُ ; فَإِنَّمَا يُعَرَّفُ بِاللَّوَازِمِ ; إِذْ لَمْ يَقْدِرُ أَصْحَابُ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا ; مَا ذُكِرَ فِي الْجَوَاهِرِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الذَّاتِيَّاتِ لَا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَى أَنْ لَيْسَ ذَاتِيٌّ سِوَاهَا ، وَلِلْمُنَازِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِلْحَادِّ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ ثَمَّ وَصْفٌ آخَرُ لَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ ; إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الصِّفَاتِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا : لَوْ كَانَ ثَمَّ ذَاتِيٌّ آخَرُ مَا عُرِفَتِ الْمَاهِيَّةُ [ دُونَهُ ] ; لِأَنَّا نَقُولُ : إِنَّمَا تُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ إِذَا عُرِفَ جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهَا ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ ذَاتِيٌّ لَمْ يُعْرَفْ ، حَصَلَ الشَّكُّ فِي مَعْرِفَةِ الْمَاهِيَّةِ . فَظَهَرَ أَنَّ الْحُدُودَ عَلَى مَا شَرَطَهُ أَرْبَابُ الْحُدُودِ يَتَعَذَّرُ الْإِتْيَانُ بِهَا ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْعَلُ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا فِيهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى تَقَرَّرَ ، وَهُوَ أَنَّ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ لَا يَعْرِفُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا بَارِيهَا ; فَتَسَوُّرُ الْإِنْسَانِ عَلَى [ ص: 70 ] مَعْرِفَتِهَا رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ ، هَذَا كُلُّهُ فِي التَّصَوُّرِ . وَأَمَّا [ فِي ] التَّصْدِيقِ ; فَالَّذِي يَلِيقُ مِنْهُ بِالْجُمْهُورِ مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُ الدَّلِيلِ فِيهِ ضَرُورِيَّةً أَوْ قَرِيبَةً مِنَ الضَّرُورِيَّةِ ، حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ ، وَقُوَّتِهِ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; فَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ طَلَبُهُ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ الْقُرْآنُ عَلَى أَمْثَالِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [ النَّحْلِ : 17 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [ يس : 79 ] إِلَى آخِرِهَا . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [ الرُّومِ : 40 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ الْأَنْبِيَاءِ : 22 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [ الْوَاقِعَةِ : 58 - 59 ] . وَهَذَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى الدَّلِيلِ فِي التَّصْدِيقِ ، وَإِلَّا فَتَقْرِيرُ الْحُكْمِ كَافٍ ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مَرَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي بَثِّ الشَّرِيعَةِ لِلْمُؤَالِفِ وَالْمُخَالِفِ ، وَمَنْ نَظَرَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ عَلِمَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَيْسَرَ الطُّرُقِ ، وَأَقْرَبَهَا إِلَى عُقُولِ الطَّالِبِينَ ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ مُتَكَلَّفٍ ، وَلَا نَظْمٍ مُؤَلَّفٍ ، بَلْ كَانُوا يَرْمُونَ بِالْكَلَامِ عَلَى عَوَاهِنِهِ ، وَلَا يُبَالُونَ كَيْفَ وَقَعَ فِي [ ص: 71 ] تَرْتِيبِهِ ، إِذَا كَانَ قَرِيبَ الْمَأْخَذِ ، سَهْلَ الْمُلْتَمَسِ ، هَذَا وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى نَظْمِ الْأَقْدَمِينَ فِي التَّحْصِيلِ ; فَمِنْ حَيْثُ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ إِيصَالَ الْمَقْصُودِ ، لَا مِنْ حَيْثُ احْتِذَاءُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ . وَأَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُرَتَّبًا عَلَى قِيَاسَاتٍ مُرَكَّبَةٍ أَوْ غَيْرِ مُرَكَّبَةٍ ، إِلَّا أَنَّ فِي إِيصَالِهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ بَعْضَ التَّوَقُّفِ لِلْعَقْلِ ; فَلَيْسَ هَذَا الطَّرِيقُ بِشَرْعِيٍّ ، وَلَا تَجِدُهُ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَا فِي السُّنَّةِ ، وَلَا فِي كَلَامِ السَّلَفِ الصَّالِحِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مَتْلَفَةٌ لِلْعَقْلِ وَمَحَارَةٌ لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ بِخِلَافِ وَضْعِ التَّعْلِيمِ ، وَلِأَنَّ الْمَطَالِبَ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ وَقْتِيَّةٌ ، فَاللَّائِقُ بِهَا مَا كَانَ فِي الْفَهْمِ وَقْتِيًّا ، فَلَوْ وُضِعَ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ غَيْرَ وَقْتِيٍّ ; لَكَانَ مُنَاقِضًا لِهَذِهِ الْمَطَالِبِ ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ . وَأَيْضًا ; فَإِنَّ الْإِدْرَاكَاتِ لَيْسَتْ عَلَى فَنٍّ وَاحِدٍ ، وَلَا هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى [ ص: 72 ] التَّسَاوِي فِي كُلِّ مَطْلَبٍ إِلَّا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا قَارَبَهَا ; فَإِنَّهَا لَا تَفَاوُتَ فِيهَا يُعْتَدُّ بِهِ فَلَوْ وُضِعَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ هَذَا الْمَطْلَبُ ، وَلَكَانَ التَّكْلِيفُ خَاصًّا لَا عَامًّا ، أَوْ أَدَّى إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنِ الشَّرِيعَةِ ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى . [ ص: 73 ] كُلُّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ فَطَلَبُ الشَّارِعِ لَهُ إِنَّمَا يَكُونُ [ مِنْ ] حَيْثُ هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّعَبُّدِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى ، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ; فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ اعْتِبَارُ جِهَةٍ أُخْرَى فَبِالتَّبَعِ وَالْقَصْدِ الثَّانِي ، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ أَحَدُهَا : مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلُ أَنَّ كَلَّ عِلْمٍ لَا يُفِيدُ عَمَلًا ; فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ غَايَةٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ ; لَكَانَ مُسْتَحْسَنًا شَرَعَا ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا شَرْعًا ; لَبَحَثَ عَنْهُ الْأَوَّلُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، [ ص: 74 ] وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، فَمَا يَلْزَمُ عَنْهُ كَذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا جَاءَ بِالتَّعَبُّدِ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [ النِّسَاءِ : 1 ] . الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [ هُودِ : 1 - 2 ] . كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [ إِبْرَاهِيمِ : 1 ] . ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [ الْبَقَرَةِ : 2 ] . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [ الْأَنْعَامِ : 1 ] ; أَيْ يُسَوُّونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ ، فَذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ . وَقَالَ : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ الْمَائِدَةِ : 92 ] . لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [ الْكَهْفِ : 2 ] . وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الْأَنْبِيَاءِ : 25 ] . إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ الْآيَةَ [ الزُّمَرِ : 2 - 3 ] . [ ص: 75 ] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُحْصَى ، كُلُّهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ ، وَإِنَّمَا أُوتُوا بِأَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ لِيَتَوَجَّهُوا إِلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ مُحَمَّدٍ : 19 ] . وَقَالَ : فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ هُودٍ : 14 ] . وَقَالَ : هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [ غَافِرٍ : 65 ] . وَمَثَلُهُ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُصَّ فِيهَا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ، لَا بُدَّ أَنْ أُعْقِبَتْ بِطَلَبِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، أَوْ جُعِلَ مُقَدِّمَةً لَهَا ، بَلْ أَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ هَكَذَا جَرَى مَسَاقُ الْقُرْآنِ فِيهَا أَلَّا تُذْكَرَ إِلَّا كَذَلِكَ ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ التَّعَبُّدَ لِلَّهِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِلْمِ ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تُحْصَى . وَالثَّالِثُ : مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْعِلْمِ هُوَ الْعَمَلُ ، وَإِلَّا فَالْعِلْمُ عَارِيَةٌ ، وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فَاطِرٍ : 28 ] . وَقَالَ : وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [ يُوسُفَ : 68 ] . قَالَ قَتَادَةُ : يَعْنِي لَذُو عَمَلٍ بِمَا عَلَّمْنَاهُ . [ ص: 76 ] وَقَالَ تَعَالَى : مَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ . . . إِلَى أَنْ قَالَ : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْآيَةَ [ الزُّمَرِ : 9 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [ الْبَقَرَةِ : 44 ] . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ [ الشُّعَرَاءِ : 94 ] ; قَالَ : قَوْمٌ وَصَفَوُا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ، وَخَالَفُوهُ إِلَى غَيْرِهِ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : إِنَّ فِي جَهَنَّمَ أَرْحَاءَ تَدُورُ بِعُلَمَاءِ السُّوءِ ، فَيُشْرِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ فِي الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : مَا صَيَّرَكُمْ فِي هَذَا ، وَإِنَّمَا كُنَّا نَتَعَلَّمُ مِنْكُمْ ، قَالُوا : إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُكُمْ بِالْأَمْرِ وَنُخَالِفُكُمْ إِلَى غَيْرِهِ . [ ص: 77 ] وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إِنَّمَا يُتَعَلَّمُ الْعِلْمُ لِيُتَّقَى بِهِ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا فُضِّلَ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُتَّقَى اللَّهُ بِهِ . وَعَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسِ خِصَالٍ ، وَذَكَرَ فِيهَا : وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ . [ ص: 78 ] وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : " إِنَّمَا أَخَافَ أَنْ يُقَالَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَعَلِمْتَ أَمْ جَهِلْتَ ، فَأَقُولُ : عَلِمْتُ ، فَلَا تَبْقَى آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آمِرَةٌ أَوْ زَاجِرَةٌ إِلَّا جَاءَتْنِي تَسْأَلُنِي فَرِيضَتَهَا ، فَتَسْأَلُنِي الْآمِرَةُ : هَلِ ائْتَمَرْتَ ؟ وَالزَّاجِرَةُ : هَلِ ازْدُجِرْتَ ؟ فَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ، [ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ ] ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ " . وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ [ ص: 79 ] الْقِيَامَةِ ، قَالَ فِيهِ : وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، فَقَالَ : مَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ ، قَالَ : كَذَّبْتَ ، وَلَكِنْ لِيُقَالَ : فُلَانٌ قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ . وَقَالَ : إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (7) صـ80 إلى صـ94 [ ص: 80 ] وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ . وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ : مَنْ حَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ الْعِلْمَ ; عَذَّبَهُ عَلَى الْجَهْلِ ، وَأَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْعَلَمُ فَأَدْبَرَ عَنْهُ ، وَمَنْ أَهْدَى اللَّهُ إِلَيْهِ عِلْمًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : " اعْلَمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا ؛ فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ حَتَّى تَعْمَلُوا " . [ ص: 81 ] وَرُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ : إِنَّ الْعُلَمَاءَ هِمَّتُهُمُ الرِّعَايَةُ ، وَإِنَّ السُّفَهَاءَ هِمَّتُهُمُ الرِّوَايَةُ . وَرُوِيَ مَوْقُوفًا أَيْضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا : كُنَّا نَتَدَارَسُ الْعِلْمَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ ; إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : تَعَلَّمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ حَتَّى تَعْمَلُوا . [ ص: 82 ] وَكَانَ رَجُلٌ يَسْأَلُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ لَهُ : كُلُّ مَا تَسْأَلُ عَنْهُ تَعْمَلُ بِهِ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَمَا تَصْنَعُ بِازْدِيَادِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْكَ ؟ . وَقَالَ الْحَسَنُ : " اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَدَعُوا أَقْوَالَهُمْ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَعْ قَوْلًا إِلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ دَلِيلًا مِنْ عَمَلٍ يُصَدِّقُهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ ، فَإِذَا سَمِعْتَ قَوْلًا حَسَنًا فَرُوَيْدًا بِصَاحِبِهِ ; فَإِنْ وَافَقَ قَوْلَهُ عَمَلُهُ ، فَنِعْمَ وَنِعْمَةَ عَيْنٍ " . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " إِنَّ النَّاسَ أَحْسَنُوا الْقَوْلَ كُلَّهُمْ ، فَمَنْ وَافَقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ حَظَّهُ ، وَمَنْ خَالَفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ ; فَإِنَّمَا يُوَبِّخُ نَفْسَهُ " . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : " إِنَّمَا يُطْلَبُ الْحَدِيثُ لِيُتَّقَى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلِذَلِكَ فُضِّلَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ كَانَ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ " . وَذَكَرَ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ; قَالَ : " أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَمَا [ ص: 83 ] يُعْجِبُهُمُ الْقَوْلُ ، إِنَّمَا يُعْجِبُهُمُ الْعَمَلُ " ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحَقِّقُ أَنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ مِنَ الْوَسَائِلِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ ; فَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ بِهِ . فَلَا يُقَالُ : إِنَّ الْعِلْمَ قَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ فَضْلُهُ ، وَإِنَّ مَنَازِلَ الْعُلَمَاءِ فَوْقَ مَنَازِلِ الشُّهَدَاءِ ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْعُلَمَاءِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; ، وَكَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى فَضْلِهِ مُطْلَقًا لَا مُقَيَّدًا ; فَكَيْفَ يُنْكَرُ أَنَّهُ فَضِيلَةٌ مَقْصُودَةٌ لَا وَسِيلَةٌ ، هَذَا وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً مِنْ وَجْهٍ ، فَهُوَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ أَيْضًا كَالْإِيمَانِ ; فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ ، وَوَسِيلَةٌ إِلَى قَبُولِهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ . لِأَنَّا نَقُولُ : لَمْ يَثْبُتْ فَضْلُهُ مُطْلَقًا ، بَلْ مِنْ حَيْثُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا ، وَإِلَّا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ ، وَتَنَاقَضَتِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ ، [ ص: 84 ] وَأَقْوَالُ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ ; فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهَا ، وَمَا ذُكِرَ آنِفًا شَارِحٌ لِمَا ذُكِرَ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ ; فَإِنَّهُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْعِلْمِ ، وَالْأَعْمَالُ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا وَسِيلَةً إِلَى الْبَعْضِ ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً فِي أَنْفُسِهَا ، أَمَّا الْعِلْمُ ; فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ ، وَأَعْلَى ذَلِكَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ ، وَلَا تَصِحُّ بِهِ فَضِيلَةٌ لِصَاحِبِهِ حَتَّى يُصَدِّقَ بِمُقْتَضَاهُ ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُتَنَاقِضٌ ; فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاللَّهِ مَعَ التَّكْذِيبِ بِهِ . قِيلَ : بَلْ قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ مَعَ التَّكْذِيبِ ; فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي قَوْمٍ : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [ النَّمْلِ : 14 ] . وَقَالَ : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ : 146 ] . وَقَالَ : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [ الْأَنْعَامِ : 20 ] . فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْمَعْرِفَةَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْعِلْمِ ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ مُغَايِرٌ لِلْكُفْرِ . نَعَمْ ، قَدْ يَكُونُ الْعِلْمُ فَضِيلَةً ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، كَالْعِلْمِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، وَالْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ فِي التَّكْلِيفِ ، إِذَا فُرِضَ أَنَّهَا لَمْ تَقَعْ فِي [ ص: 85 ] الْخَارِجِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ بِهَا حَسَنٌ ، وَصَاحِبُ الْعِلْمِ مُثَابٌ عَلَيْهِ ، وَبَالِغٌ مُبَالِغَ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَظِنَّةُ الِانْتِفَاعِ عِنْدَ وُجُودِ مَحَلِّهِ ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ وَسِيلَةً ، كَمَا أَنَّ فِي تَحْصِيلِ الطِّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَضِيلَةً ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَعْدُ ، أَوْ جَاءَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَدَاؤُهَا لِعُذْرٍ ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ تَطَهَّرَ عَلَى عَزِيمَةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ ; لَمْ يَصِحَّ لَهُ ثَوَابُ الطَّهَارَةِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ عَلَى أَنْ لَا يَعْمَلَ ؛ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ ، وَقَدْ وَجَدْنَا وَسَمِعْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ يَعْرِفُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ ، وَيَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُمْ مِنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ . فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهِ ، وَهُوَ الْعَمَلُ . فَصْلٌ وَلَا يُنْكِرُ فَضْلَ الْعِلْمِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا جَاهِلٌ ، وَلَكِنْ لَهُ قَصْدٌ أَصْلِيٌّ ، وَقَصْدٌ تَابِعٌ . فَالْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَأَمَّا التَّابِعُ ; فَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِ صَاحِبِهِ شَرِيفًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِهِ كَذَلِكَ ، وَأَنَّ الْجَاهِلَ دَنِيءٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِهِ شَرِيفًا ، وَأَنَّ قَوْلَهُ نَافِذٌ فِي الْأَشْعَارِ وَالْأَبْشَارِ ، وَحُكْمُهُ مَاضٍ عَلَى الْخَلْقِ ، وَأَنَّ تَعْظِيمَهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ; إِذْ قَامَ لَهُمْ مَقَامَ النَّبِيِّ ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَأَنَّ [ ص: 86 ] الْعِلْمَ جَمَالٌ وَمَالٌ ، وَرُتْبَةٌ لَا تُوَازِيهَا رُتْبَةٌ ، وَأَهْلُهُ أَحْيَاءٌ أَبَدَ الدَّهْرِ ، . . . إِلَى سَائِرِ مَا لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَنَاقِبِ الْحَمِيدَةِ ، وَالْمَآثِرِ الْحَسَنَةِ ، وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعِلْمِ شَرْعًا ، كَمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ يَنَالُهُ . وَأَيْضًا ; فَإِنَّ فِي الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ لَذَّةً لَا تُوَازِيهَا لَذَّةٌ ; إِذْ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَعْلُومِ ، وَالْحَوْزِ لَهُ ، وَمَحَبَّةُ الِاسْتِيلَاءِ قَدْ جُبِلَتْ عَلَيْهَا النُّفُوسُ ، وَمُيِّلَتْ إِلَيْهَا الْقُلُوبُ ، وَهُوَ مَطْلَبٌ خَاصٌّ ، بُرْهَانُهُ التَّجْرِبَةُ التَّامَّةُ ، وَالِاسْتِقْرَاءُ الْعَامُّ ، فَقَدْ يُطْلَبُ الْعِلْمُ لِلتَّفَكُّهِ بِهِ ، وَالتَّلَذُّذِ بِمُحَادَثَتِهِ ، وَلَا سِيَّمَا الْعُلُومُ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَجَالٌ ، وَلِلنَّظَرِ فِي أَطْرَافِهَا مُتَّسَعٌ ، وَلِاسْتِنْبَاطِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ فِيهَا طَرِيقٌ مُتَّبَعٌ . وَلَكِنْ كُلُّ تَابِعٍ مِنْ هَذِهِ التَّوَابِعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِلْقَصْدِ الْأَصْلِيِّ أَوْ لَا . فَإِنْ كَانَ خَادِمًا لَهُ ; فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً صَحِيحٌ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ : وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [ الْفُرْقَانِ : 74 ] . وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الصَّالِحِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ ، وَقَالَ عُمَرُ لِابْنِهِ حِينَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي هِيَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ النَّخْلَةُ : " لَأَنْ [ ص: 87 ] تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا " . وَفِي الْقُرْآنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [ الشُّعَرَاءِ : 84 ] . فَكَذَلِكَ إِذَا طَلَبَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ خَادِمٍ لَهُ ; فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ كَتَعَلُّمِهِ رِيَاءً ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ ، أَوْ يُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ ، أَوْ يَسْتَمِيلَ بِهِ قُلُوبَ الْعِبَادِ ، أَوْ لِيَنَالَ مِنْ دُنْيَاهُمْ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إِذَا لَاحَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا طَلَبَ - زَهِدَ فِي التَّعَلُّمِ ، وَرَغِبَ فِي التَّقَدُّمِ ، وَصَعُبَ عَلَيْهِ إِحْكَامُ مَا ابْتَدَأَ فِيهِ ، وَأَنِفَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ ، فَرَضِيَ بِحَاكِمِ عَقْلِهِ ، وَقَاسَ بِجَهْلِهِ ، فَصَارَ مِمَّنْ سُئِلَ فَأَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ ; فَضَّلَ وَأَضَلَّ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ : لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ ، وَلَا لِتَحْتَازُوا بِهِ الْمَجَالِسَ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ; فَالنَّارُ النَّارُ . [ ص: 88 ] وَقَالَ : مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ غَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا ، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ ، فَقَالَ : هُوَ الرَّجُلُ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ يُرِيدُ أَنْ يُجْلَسَ إِلَيْهِ الْحَدِيثَ . وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 174 ] . وَالْأَدِلَّةُ فِي الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ . [ ص: 89 ] الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا - أَعْنِي الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَهْلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ الْعِلْمُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ ، الَّذِي لَا يُخَلِّي صَاحِبَهُ جَارِيًا مَعَ هَوَاهُ كَيْفَمَا كَانَ ، بَلْ هُوَ الْمُقَيِّدُ لِصَاحِبِهِ بِمُقْتَضَاهُ ، الْحَامِلُ لَهُ عَلَى قَوَانِينِهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ : الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : الطَّالِبُونَ لَهُ وَلَمَّا يَحْصُلُوا عَلَى كَمَالِهِ بَعْدُ ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي طَلَبِهِ فِي رُتْبَةِ التَّقْلِيدِ ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ بِهِ ; فَبِمُقْتَضَى الْحَمْلِ التَّكْلِيفِيِّ ، وَالْحَثِّ التَّرْغِيبِيِّ ، وَالتَّرْهِيبِيِّ ، وَعَلَى مِقْدَارِ شِدَّةِ التَّصْدِيقِ يَخِفُّ ثِقَلُ التَّكْلِيفِ ، فَلَا يَكْتَفِي الْعِلْمُ هَاهُنَا بِالْحَمْلِ دُونَ أَمْرٍ آخَرَ خَارِجَ مَقُولِهِ ; مِنْ زَجْرٍ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى ، وَلَا احْتِيَاجَ هَاهُنَا إِلَى إِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَلَى ذَلِكَ ; إِذِ التَّجْرِبَةُ الْجَارِيَةُ فِي الْخَلْقِ قَدْ أَعْطَتْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بُرْهَانًا لَا يَحْتَمِلُ مُتَعَلِّقُهُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ . وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : الْوَاقِفُونَ مِنْهُ عَلَى بَرَاهِينِهِ ، ارْتِفَاعًا عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ [ ص: 90 ] الْمُجَرَّدِ ، وَاسْتِبْصَارًا فِيهِ حَسْبَمَا أَعْطَاهُ شَاهِدُ النَّقْلِ الَّذِي يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ تَصْدِيقًا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ ، وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ ; إِلَّا أَنَّهُ بَعْدُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَقْلِ لَا إِلَى النَّفْسِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لِلْإِنْسَانِ ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْأَشْيَاءِ الْمُكْتَسَبَةِ ، وَالْعُلُومِ الْمَحْفُوظَةِ الَّتِي يَتَحَكَّمُ عَلَيْهَا الْعَقْلُ ، وَعَلَيْهِ يُعْتَمَدُ فِي اسْتِجْلَابِهَا ، حَتَّى تَصِيرَ مِنْ جُمْلَةِ مُودَعَاتِهِ ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ ، خَفَّ عَلَيْهِمْ خِفَّةً أُخْرَى زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا ; إِذْ هَؤُلَاءِ يَأْبَى لَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُصَدَّقُ أَنْ يَكْذِبُوا ، وَمِنْ جُمْلَةِ التَّكْذِيبِ الْخَفِيِّ الْعَمَلُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لَهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَصِرْ لَهُمْ كَالْوَصْفِ رُبَّمَا كَانَتْ أَوْصَافُهُمُ الثَّابِتَةُ مِنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ الْبَاعِثَةِ الْغَالِبَةِ - أَقْوَى الْبَاعِثِينَ ; فَلَا بُدَّ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى أَمْرٍ زَائِدٍ مِنْ خَارِجٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَّسِعُ فِي حَقِّهِمْ ، فَلَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ ، بَلْ ثَمَّ أُمُورٌ أُخَرُ كَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ ، وَمُطَالَبَةِ الْمَرَاتِبِ الَّتِي بَلَغُوهَا بِمَا يَلِيقُ بِهَا ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ . وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَيْضًا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَيْهَا مِنَ التَّجْرِبَةِ ، إِلَّا أَنَّهَا أَخْفَى مِمَّا قَبْلَهَا ، فَيَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ نَظَرٍ مَوْكُولٍ إِلَى ذَوِي النَّبَاهَةِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْأَخْذِ فِي الِاتِّصَافَاتِ السُّلُوكِيَّةِ . وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : الَّذِينَ صَارَ لَهُمُ الْعِلْمُ وَصْفًا مِنَ الْأَوْصَافِ الثَّابِتَةِ بِمَثَابَةِ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْأُوَلِ ، أَوْ تُقَارِبُهَا ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى طَرِيقِ حُصُولِهَا ; [ ص: 91 ] فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُخَلِّيهِمُ الْعِلْمُ وَأَهْوَاءَهُمْ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ، بَلْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ رُجُوعَهُمْ إِلَى دَوَاعِيهِمُ الْبَشَرِيَّةِ ، وَأَوْصَافِهِمُ الْخُلُقِيَّةِ ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمُتَرْجَمُ لَهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ كَثِيرٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [ الزُّمَرِ : 9 ] . ثُمَّ قَالَ : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْآيَةَ [ الزُّمَرِ : 9 ] . فَنَسَبَ هَذِهِ الْمَحَاسِنَ إِلَى أُولِي الْعِلْمِ مِنْ أَجْلِ الْعِلْمِ ، لَا مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [ الزُّمَرِ : 23 ] . وَالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمُ الْعُلَمَاءُ لِقَوْلِهِ : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فَاطِرٍ : 28 ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ الْآيَةَ [ الْمَائِدَةِ : 83 ] . وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ قَدْ بَلَغُوا فِي عِلْمِ السِّحْرِ مَبْلَغَ الرُّسُوخِ فِيهِ ، وَهُوَ مَعْنَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ، بَادَرُوا إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْإِيمَانِ حِينَ عَرَفُوا مِنْ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقٌّ لَيْسَ بِالسِّحْرِ ، وَلَا الشَّعْوَذَةِ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ التَّخْوِيفُ وَلَا التَّعْذِيبُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ . [ ص: 92 ] وَقَالَ تَعَالَى : وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ : 43 ] . فَحَصَرَ تَعَقُّلَهَا فِي الْعَالِمِينَ ، وَهُوَ قَصْدُ الشَّارِعِ مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ . وَقَالَ : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [ الرَّعْدِ : 19 ] . ثُمَّ وَصَفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ : الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [ الرَّعْدِ : 20 ] إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الْعَامِلُونَ . وَقَالَ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ - وَالْإِيمَانُ مِنْ فَوَائِدِ الْعِلْمِ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى أَنْ قَالَ : أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [ الْأَنْفَالِ : 2 - 4 ] . وَمِنْ هُنَا قَرَنَ الْعُلَمَاءَ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فَقَالَ تَعَالَى : مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [ آلِ عِمْرَانَ : 18 ] . فَشَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَفْقَ عِلْمِهِ ظَاهِرَةُ التَّوَافُقِ ; إِذِ التَّخَالُفُ مُحَالٌ ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمُوا صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ مَحْفُوظُونَ مِنَ الْمَعَاصِي ، وَأُولُو الْعِلْمِ أَيْضًا كَذَلِكَ ; مِنْ حَيْثُ حُفِظُوا بِالْعِلْمِ ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَةٌ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَحْزَنَهُمْ ذَلِكَ وَأَقْلَقَهُمْ ، حَتَّى يَسْأَلُوا [ ص: 93 ] النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَنُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ : وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 284 ] . وَقَوْلِهِ : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ الْآيَةَ [ الْأَنْعَامِ : 82 ] . وَإِنَّمَا الْقَلَقُ وَالْخَوْفُ مِنْ آثَارِ الْعِلْمِ بِالْمُنَزَّلِ . [ ص: 94 ] وَالْأَدِلَّةُ أَكْثَرُ مِنْ إِحْصَائِهَا هُنَا ، وَجَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُلْجِئُ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَحْفُوظًا بِهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ أَوَّلًا . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ; فَقَدِ اسْتَوَى أَهْلُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَعَ مَنْ قَبْلَهُمْ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ غَيْرُ كَافٍ فِي الْعَمَلِ بِهِ ، وَلَا مُلْجِئُ إِلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا بِهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ ; لَزِمَ أَنْ لَا يَعْصِيَ الْعَالِمُ إِذَا كَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِيهِ ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ تَقَعُ مِنْهُمُ الْمَعَاصِي ، مَا عَدَا الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا فِي أَعْلَى الْأُمُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ النَّمْلِ : 14 ] . وَقَالَ : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ : 146 ] . وَقَالَ : وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [ الْمَائِدَةِ : 43 ] . وَقَالَ : وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ : 102 ] . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (8) صـ95 إلى صـ110 [ ص: 95 ] وَسَائِرُ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى ; فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ وَالْمُخَالَفَاتِ مَعَ الْعِلْمِ ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ صَادًّا عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ . وَالثَّانِي : مَا جَاءَ مِنْ ذَمِّ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ ، وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَمِنْ أَشَدِّ مَا فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ . وَفِي الْقُرْآنِ : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [ الْبَقَرَةِ : 44 ] . وَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 159 ] . وَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 174 ] . وَحَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَالْأَدِلَّةُ فِيهِ كَثِيرَةٌ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ غَيْرُ مَعْصُومِينَ بِعِلْمِهِمْ ، وَلَا هُوَ مِمَّا يَمْنَعُهُمْ عَنْ إِتْيَانِ الذُّنُوبِ ; فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّ الْعَلَمَ مَانِعٌ مِنَ الْعِصْيَانِ ؟ . فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ : أَنَّ الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ يَأْبَى لِلْعَالِمِ أَنْ يُخَالِفَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَبِدَلِيلِ التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ ، لِأَنَّ مَا صَارَ كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لَا يَتَصَرَّفُ صَاحِبُهُ إِلَّا عَلَى وَفْقِهِ اعْتِيَادًا ; فَإِنْ تَخَلَّفَ فَعَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ [ ص: 96 ] أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : مُجَرَّدُ الْعِنَادِ ، فَقَدْ يُخَالَفُ فِيهِ مُقْتَضَى الطَّبْعِ الْجِبِلِّي ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَجَحَدُوا بِهَا الْآيَةَ [ النَّمْلِ : 14 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [ الْبَقَرَةِ : 109 ] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ . وَالْغَالِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا لِغَلَبَةِ هَوًى ، مِنْ حُبِّ دُنْيَا أَوْ جَاهٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، بِحَيْثُ يَكُونُ وَصْفُ الْهَوَى قَدْ غَمَرَ الْقَلْبَ حَتَّى لَا يَعْرِفَ مَعْرُوفًا ، وَلَا يُنْكِرَ مُنْكَرًا . وَالثَّانِي : الْفَلَتَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْغَفَلَاتِ الَّتِي لَا يَنْجُو مِنْهَا الْبَشَرُ ; فَقَدْ يَصِيرُ الْعَالِمُ بِدُخُولِ الْغَفْلَةِ غَيْرَ عَالِمٍ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ : 17 ] . [ ص: 97 ] وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [ الْأَعْرَافِ : 102 ] . وَمِثْلُ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَعْتَرِضُ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَعْتَرِضُ نَحْوُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ الْجِبِلِّيَّةِ ; فَقَدْ لَا تُبْصِرُ الْعَيْنُ ، وَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ ; لِغَلَبَةِ فِكْرٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ; فَتَرْتَفِعُ فِي الْحَالِ مَنْفَعَةُ الْعَيْنِ وَالْأُذُنُ حَتَّى يُصَابَ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ : إِنَّهُ غَيْرُ مَجْبُولٍ عَلَى السَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ ، فَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ . وَالثَّالِثُ : كَوْنُهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ; فَلَمْ يَصِرِ الْعِلْمُ لَهُ وَصْفًا أَوْ كَالْوَصْفِ مَعَ عَدِّهِ مِنْ أَهْلِهَا ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى غَلَطٍ فِي اعْتِقَادِ الْعَالِمِ فِي نَفْسِهِ أَوِ اعْتِقَادِ غَيْرِهِ فِيهِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [ الْقَصَصِ : 50 ] . وَفِي الْحَدِيثِ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ - إِلَى أَنْ قَالَ - اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءً جُهَّالًا ، [ فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ] ; فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا . [ ص: 98 ] وَقَوْلُهُ : سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، أَشَدُّهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتَيِ الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ الْحَدِيثَ ، فَهَؤُلَاءِ وَقَعُوا فِي الْمُخَالَفَةِ بِسَبَبِ ظَنِّ [ ص: 99 ] الْجَهْلِ عِلْمًا ; فَلَيْسُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ، وَلَا مِمَّنْ صَارَ لَهُمْ كَالْوَصْفِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا حِفْظَ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ ; فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِمْ . [ ص: 100 ] فَأَمَّا مَنْ خَلَا عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ ; فَهُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ حِفْظِ الْعِلْمِ حَسْبَمَا نَصَّتْهُ الْأَدِلَّةُ ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرٌ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا ، وَإِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا ، وَإِنَّ مِنْ إِقْبَالِ هَذَا الدِّينِ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ حَتَّى إِنَّ الْقَبِيلَةَ لَتَتَفَقَّهُ مِنْ عِنْدِ أَسْرِهَا ، [ أَوْ قَالَ : آخِرِهَا ] حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ أَوِ الْفَاسِقَانِ ; فَهُمَا مَقْمُوعَانِ ذَلِيلَانِ ، إِنْ تَكَلَّمَا أَوْ نَطَقَا قُمِعَا وَقُهِرَا وَاضْطُهِدَا الْحَدِيثَ . وَفِي الْحَدِيثِ : سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ يَكْثُرُ الْقُرَّاءُ ، وَيَقِلُّ الْفُقَهَاءُ ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ - إِلَى أَنْ قَالَ - ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يُجَادِلُ الْمُنَافِقُ الْمُشْرِكَ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ . [ ص: 101 ] وَعَنْ عَلِيٍّ : " يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ اعْمَلُوا بِهِ ; فَإِنَّ الْعَالِمَ مَنْ عَلِمَ ثُمَّ عَمِلَ ، وَوَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ ، تُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتُهُمْ ، وَيُخَالِفُ عِلْمَهُمْ عَمَلُهُمْ ، يَقْعُدُونَ حِلَقًا يُبَاهِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أَعْمَالُهُمْ تِلْكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " . وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً ، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً ; فَإِنَّهُ قَدْ يَرْعَوِي وَلَا يَرْوِي ، وَقَدْ يَرْوِي وَلَا يَرْعَوِي " . وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : " لَا تَكُونُ تَقِيًّا حَتَّى تَكُونَ عَالِمًا ، وَلَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ جَمِيلًا حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلًا " . وَعَنِ الْحَسَنِ : " الْعَالِمُ الَّذِي وَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ ، وَمَنْ خَالَفَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ فَذَلِكَ رَاوِيَةُ حَدِيثٍ سَمِعَ شَيْئًا فَقَالَهُ " . [ ص: 102 ] وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : " الْعُلَمَاءُ إِذَا عَلِمُوا عَمِلُوا ، فَإِذَا عَمِلُوا شُغِلُوا ، فَإِذَا شُغِلُوا فُقِدُوا ، فَإِذَا فُقِدُوا طُلِبُوا ، فَإِذَا طُلِبُوا هَرَبُوا " . وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ : " الَّذِي يَفُوقُ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ جَدِيرٌ أَنْ يَفُوقَهُمْ فِي الْعَمَلِ " . وَعَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قَالَ : " عَلِمْتُمْ فَعَلِمْتُمْ وَلَمْ تَعْمَلُوا ، فَوَاللَّهِ مَا ذَلِكُمْ بِعِلْمٍ " . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : " الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ " . وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنَى كَوْنِ الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي يُلْجِئُ إِلَى الْعَمَلِ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : " كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْحَدِيثِ بِالْعَمَلِ بِهِ " ، وَمِثْلُهُ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ . وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " لَيْسَ الْعِلْمُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَدِيثِ ، إِنَّمَا الْعِلْمُ خَشْيَةُ [ ص: 103 ] اللَّهِ . وَالْآثَارُ فِي هَذَا النَّحْوِ كَثِيرَةٌ . وَبِمَا ذُكِرَ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي ; فَإِنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ ; فَلَيْسُوا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا هُمْ رُوَاةٌ - وَالْفِقْهُ فِيمَا رَوَوْا أَمْرٌ آخَرُ - أَوْ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ هَوًى غَطَّى عَلَى الْقُلُوبِ ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ . عَلَى أَنَّ الْمُثَابَرَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ ، وَعَدَمِ الِاجْتِزَاءِ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ - يَجُرُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ ، وَيُلْجِئُ إِلَيْهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ : " كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا ; فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ " . وَعَنْ مَعْمَرٍ ; أَنَّهُ قَالَ : " كَانَ يُقَالُ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ يَأْبَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ حَتَّى يُصَيِّرَهُ إِلَى اللَّهِ " . وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ : " طَلَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ وَلَيْسَ لَنَا فِيهِ نِيَّةٌ ، ثُمَّ جَاءَتِ [ ص: 104 ] النِّيَّةُ بَعْدُ . وَعَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ : " كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ " ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي كَلَامٍ آخَرَ : " كُنْتُ أَغْبِطُ الرَّجُلَ يُجْتَمَعُ حَوْلَهُ ، وَيُكْتَبُ عَنْهُ ، فَلَمَّا ابْتُلِيتُ بِهِ ، وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهُ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي " . وَعَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ ; قَالَ : " سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً يَقُولُ : " طَلَبْنَا هَذَا الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَعْقَبَنَا اللَّهُ مَا تَرَوْنَ " . وَقَالَ الْحَسَنُ : " لَقَدْ طَلَبَ أَقْوَامٌ الْعِلْمَ مَا أَرَادُوا بِهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ ، فَمَا زَالَ بِهِمْ حَتَّى أَرَادُوا بِهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ " فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ . فَصْلٌ وَيَتَصَدَّى النَّظَرُ هُنَا فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ، وَمَا هِيَ ؟ . وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِصَارِ أَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ ، وَهُوَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِالْخَشْيَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْآيَةِ ، وَعَنْهُ عَبَّرَ فِي الْحَدِيثِ فِي : أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ الْخُشُوعُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : " لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ [ ص: 105 ] الرِّوَايَةِ ، وَلَكِنَّهُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ " ، وَقَالَ أَيْضًا : " الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ نُورٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ ، وَلَيْسَ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ وَهُوَ : التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ " ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ . وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ ; فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ ، وَفِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ طَرَفٌ فَرَاجِعْهُ إِنْ شِئْتَ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ . [ ص: 106 ] [ ص: 107 ] مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُلَحُ الْعِلْمِ لَا مِنْ صُلْبِهِ ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ وَلَا مُلَحِهِ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : . الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : هُوَ الْأَصْلُ وَالْمُعْتَمَدُ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الطَّلَبِ ، وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي مَقَاصِدُ الرَّاسِخِينَ ، وَذَلِكَ مَا كَانَ قَطْعِيًّا أَوْ رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ ، وَالشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ مَنَزَّلَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فِي أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ الْحِجْرِ : 9 ] ; لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ صَلَاحُ الدَّارَيْنِ ، [ ص: 108 ] وَهِيَ الضَّرُورِيَّاتُ ، وَالْحَاجِيَّاتُ ، وَالتَّحْسِينَاتُ ، وَمَا هُوَ مُكَمِّلٌ لَهَا ، وَمُتَمَّمٌ لِأَطْرَافِهَا ، وَهِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى اعْتِبَارِهَا ، وَسَائِرُ الْفُرُوعِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَيْهَا ; فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهَا عِلْمٌ أَصِيلٌ رَاسِخُ الْأَسَاسِ ثَابِتُ الْأَرْكَانِ . هَذَا وَإِنْ كَانَتْ وَضْعِيَّةً لَا عَقْلِيَّةً ، فَالْوَضْعِيَّاتُ قَدْ تُجَارِي الْعَقْلِيَّاتِ فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ ، وَعِلْمُ الشَّرِيعَةِ مِنْ جُمْلَتِهَا ; إِذِ الْعِلْمُ بِهَا مُسْتَفَادٌ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ الْعَامِّ النَّاظِمِ لِأَشْتَاتِ أَفْرَادِهَا ، حَتَّى تَصِيرَ فِي الْعَقْلِ مَجْمُوعَةً فِي كُلِّيَّاتٍ مُطَّرِدَةٍ عَامَّةٍ ، ثَابِتَةٍ غَيْرِ زَائِلَةٍ ، وَلَا مُتَبَدِّلَةٍ ، وَحَاكِمَةٍ غَيْرِ مَحْكُومٍ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ خَوَاصُّ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّاتِ . وَأَيْضًا ; فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْوُجُودِ ، وَهُوَ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ ; فَاسْتَوَتْ مَعَ الْكُلِّيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَارْتَفَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا . فَإِذًا لِهَذَا الْقِسْمِ خَوَاصٌّ ثَلَاثٌ : بِهِنَّ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ : إِحْدَاهَا : الْعُمُومُ وَالِاطِّرَادُ ، فَلِذَلِكَ جَرَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فِي أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا الْخَاصَّةُ لَا تَتَنَاهَى ؛ فَلَا عَمَلَ يُفْرَضُ ، وَلَا حَرَكَةَ ، وَلَا سُكُونَ يُدَّعَى - إِلَّا وَالشَّرِيعَةُ عَلَيْهِ حَاكِمَةٌ إِفْرَادًا ، وَتَرْكِيبًا ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا عَامَّةٌ ، وَإِنْ فُرِضَ فِي نُصُوصِهَا أَوْ مَعْقُولِهَا خُصُوصٌ مَا ; فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عُمُومٍ ; كَالْعَرَايَا ، وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَالْقِرَاضِ ، [ ص: 109 ] وَالْمُسَاقَاةِ ، وَالصَّاعِ فِي الْمُصَرَّاةِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أُصُولٍ حَاجِيَّةٍ أَوْ تَحْسِينِيَّةٍ أَوْ مَا يُكَمِّلُهَا ، وَهِيَ أُمُورٌ عَامَّةٌ ; فَلَا خَاصَّ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا وَهُوَ عَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَالِاعْتِبَارُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ . وَالثَّانِيَةُ : الثُّبُوتُ مِنْ غَيْرِ زَوَالٍ ; فَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ فِيهَا بَعْدَ كَمَالِهَا نَسْخًا ، وَلَا تَخْصِيصًا لِعُمُومِهَا ، وَلَا تَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهَا ، وَلَا رَفْعًا لِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا لَا بِحَسَبِ عُمُومِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَلَا بِحَسَبِ خُصُوصِ بَعْضِهِمْ ، وَلَا بِحَسَبِ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، وَلَا حَالٍ دُونَ حَالٍ ، بَلْ مَا أُثْبِتَ سَبَبًا ; فَهُوَ سَبَبٌ أَبَدًا لَا يَرْتَفِعُ ، وَمَا [ ص: 110 ] كَانَ شَرْطًا ; فَهُوَ أَبَدًا شَرْطٌ ، وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ وَاجِبٌ أَبَدًا ، أَوْ مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ ، وَهَكَذَا جَمِيعُ الْأَحْكَامِ فَلَا زَوَالَ لَهَا ، وَلَا تَبَدُّلَ ، وَلَوْ فُرِضَ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لَكَانَتْ أَحْكَامُهَا كَذَلِكَ . وَالثَّالِثَةُ : كَوْنُ الْعِلْمِ حَاكِمًا لَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُفِيدًا لِعَمَلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ ; فَلِذَلِكَ انْحَصَرَتْ عُلُومُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا يُفِيدُ الْعَمَلَ أَوْ يُصَوِّبُ نَحْوَهُ ، لَا زَائِدَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا تَجِدُ فِي الْعَمَلِ أَبَدًا مَا هُوَ حَاكِمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ ، وَإِلَّا انْقَلَبَ كَوْنُهَا حَاكِمَةً إِلَى كَوْنِهَا مَحْكُومًا عَلَيْهَا ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُعَدُّ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ . فَإِذًا ; كُلُّ عِلْمٍ حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْخَوَاصُّ الثَّلَاثُ ; فَهُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهَا ، وَالْبُرْهَانُ عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْدُودُ فِي مُلَحِ الْعِلْمِ لَا فِي صُلْبِهِ - : مَا لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا ، وَلَا رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ ، بَلْ إِلَى ظَنِّيٍّ ، أَوْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى قَطْعِيٍّ إِلَّا أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ خَاصَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْخَوَاصِّ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ خَاصَّةٍ وَاحِدَةٍ ; فَهُوَ مُخَيَّلٌ ، وَمِمَّا يَسْتَفِزُّ الْعَقْلَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ الْأَوَّلِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِخْلَالٌ بِأَصْلِهِ ، وَلَا بِمَعْنَى غَيْرِهِ ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا صَحَّ أَنْ يُعَدَّ فِي هَذَا الْقِسْمِ . فَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الْأُولَى - وَهُوَ الِاطِّرَادُ وَالْعُمُومُ - فَقَادِحٌ فِي جَعْلِهِ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ لِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ يُقَوِّي جَانِبَ الِاطِّرَاحِ ، وَيُضْعِفُ جَانِبَ الِاعْتِبَارِ ; إِذِ النَّقْضُ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْوُثُوقِ بِالْقَصْدِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعِلْمُ ، وَيُقَرِّبُهُ مِنَ الْأُمُورِ الِاتِّفَاقِيَّةِ الْوَاقِعَةِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يُوثَقُ بِهِ ، وَلَا يُبْنَى عَلَيْهِ . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (9) صـ111 إلى صـ125 وَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الثَّانِيَةِ - وَهُوَ الثُّبُوتُ - فَيَأْبَاهُ صُلْبُ الْعِلْمِ وَقَوَاعِدُهُ ; [ ص: 111 ] فَإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ ، ثُمَّ خَالَفَ حَكَمُهُ الْوَاقِعَ فِي الْقَضِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْ بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَانَ حُكْمُهُ خَطَأً وَبَاطِلًا ، مِنْ حَيْثُ أَطْلَقَ الْحُكْمَ فِيمَا لَيْسَ بِمُطْلَقٍ أَوْ عَمَّ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ ; فَعَدِمَ النَّاظِرُ الْوُثُوقَ بِحُكْمِهِ ، وَذَلِكَ مَعْنَى خُرُوجِهِ عَنْ صُلْبِ الْعِلْمِ . وَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الثَّالِثَةِ - وَهُوَ كَوْنُهُ حَاكِمًا وَمَبْنِيًّا عَلَيْهِ - فَقَادِحٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ إِنْ صَحَّ فِي الْعُقُولِ لَمْ يُسْتَفَدْ بِهِ فَائِدَةٌ حَاضِرَةٌ ، غَيْرَ مُجَرَّدِ رَاحَاتِ النُّفُوسِ ، فَاسْتُوِيَ مَعَ سَائِرِ مَا يُتَفَرَّجُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَأَحْرَى فِي الِاطِّرَاحِ ، كَمَبَاحِثِ السُّوفِسْطَائِيِّينَ ، وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ . وَلِتَخَلُّفِ بَعْضِ هَذِهِ الْخَوَاصِّ أَمْثِلَةٌ يُلْحَقُ بِهَا مَا سِوَاهَا : أَحَدُهَا : الْحِكَمُ الْمُسْتَخْرَجَةُ لِمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي التَّعْبُدَاتِ كَاخْتِصَاصِ الْوُضُوءِ بِالْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ ، وَالصَّلَاةِ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ ، وَالْقِيَامِ ، وَالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ ، وَكَوْنِهَا عَلَى بَعْضِ الْهَيْئَاتِ دُونَ بَعْضٍ ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ، وَتَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فِي تِلْكَ الْأَحْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا مِنْ أَحْيَانِ اللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ ، وَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِالْأَعْمَالِ الْمَعْلُومَةِ ، وَفِي الْأَمَاكِنِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَإِلَى مَسْجِدٍ مَخْصُوصٍ ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَا تَطُورُ نَحْوَهُ ، فَيَأْتِي بَعْضُ النَّاسِ فَيُطَرِّقُ إِلَيْهِ حِكَمًا يَزْعُمُ أَنَّهَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْضَاعِ ، وَجَمِيعُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنٍّ [ ص: 112 ] وَتَخْمِينٍ غَيْرِ مُطَّرِدٍ فِي بَابِهِ ، وَلَا مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ عَمَلٌ ، بَلْ كَالتَّعْلِيلِ بَعْدَ السَّمَاعِ لِلْأُمُورِ الشَّوَاذِّ ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُعَدُّ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي دَعْوَى مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ ، وَلَا دَلِيلَ لَنَا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : تَحَمُّلُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَلَى الْتِزَامِ كَيْفِيَّاتٍ لَا يَلْزَمُ مِثْلُهَا ، وَلَا يُطْلَبُ الْتِزَامُهَا ، كَالْأَحَادِيثِ الْمُسَلْسَلَةِ الَّتِي أُتِيَ بِهَا عَلَى وُجُوهٍ مُلْتَزَمَةٍ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ ، فَالْتَزَمَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ بِالْقَصْدِ ، فَصَارَ تَحَمُّلُهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ تَحَرِّيًا لَهَا ؛ بِحَيْثُ يَتَعَنَّى فِي اسْتِخْرَاجِهَا ، وَيَبْحَثُ عَنْهَا بِخُصُوصِهَا ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ ، وَإِنْ صَحِبَهَا الْعَمَلُ ; لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ الْأَسَانِيدِ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ ، كَمَا فِي حَدِيثِ : الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ; فَإِنَّهُمُ الْتَزَمُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ حَدِيثٍ يَسْمَعُهُ [ ص: 113 ] التِّلْمِيذُ مِنْ شَيْخِهِ ; فَإِنْ سَمِعَهُ مِنْهُ بَعْدَ مَا أَخَذَ عَنْهُ غَيْرَهُ ؛ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الِاسْتِفَادَةَ بِمُقْتَضَاهُ ، [ كَذَا سَائِرُهَا ;غَيْرَ أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ وَتَحْسِينِ الظَّنِّ خَاصَّةً ] ، وَلَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهَا حَتَّى يُقَالَ : إِنَّهُ مَقْصُودٌ ; فَطَلَبُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ مُلَحِ الْعِلْمِ لَا مَنْ صُلْبِهِ . وَالثَّالِثُ : التَّأَنُّقُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ ، لَا عَلَى قَصْدِ طَلَبِ تَوَاتُرِهِ ، بَلْ عَلَى أَنْ يُعَدَّ آخِذًا لَهُ عَنْ شُيُوخٍ كَثِيرَةٍ ، وَمِنْ جِهَاتٍ شَتَّى ، وَإِنْ [ ص: 114 ] كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْآحَادِ فِي الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمْ ، فَالِاشْتِغَالُ بِهَذَا مِنَ الْمُلَحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ . خَرَّجَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيِّ ; قَالَ : خَرَّجْتُ حَدِيثًا وَاحِدًا عَنِ النَّبِيِّ مِنْ مِائَتَيْ طَرِيقٍ أَوْ مِنْ نَحْوِ مِائَتَيْ طَرِيقٍ - شَكَّ الرَّاوِي - قَالَ : فَدَاخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْفَرَحِ غَيْرُ قَلِيلٍ ، وَأُعْجِبْتُ بِذَلِكَ ; فَرَأَيْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فِي الْمَنَامِ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا أَبَا زَكَرِيَّا قَدْ خَرَّجْتُ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مِائَتَيْ طَرِيقٍ . قَالَ : فَسَكَتَ عَنِّي سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَخْشَى أَنْ يَدْخُلَ هَذَا تَحْتَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ؛ هَذَا مَا قَالَ . وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّ تَخْرِيجَهُ مِنْ طُرُقٍ يَسِيرَةٍ كَافٍ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُ ، فَصَارَ الزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ فَضْلًا . وَالرَّابِعُ : الْعُلُومُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الرُّؤْيَا مِمَّا لَا يَرْجِعُ إِلَى بِشَارَةٍ ، وَلَا نِذَارَةٍ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ بِالْمَنَامَاتِ ، وَمَا يُتَلَقَّى مِنْهَا تَصْرِيحًا ; فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً ; فَأَصْلُهَا الَّذِي هُوَ الرُّؤْيَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ [ ص: 115 ] فِي الشَّرِيعَةِ فِي مِثْلِهَا ، كَمَا فِي رُؤْيَا الْكِنَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا ; فَإِنَّ مَا قَالَ فِيهَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ نَحْتَجَّ بِهِ حَتَّى عَرَضْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ فِي الْيَقَظَةِ ; فَصَارَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ مَأْخُوذًا مِنَ الْيَقَظَةِ لَا مِنَ الْمَنَامِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ الرُّؤْيَا تَأْنِيسًا ، وَ عَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِالرُّؤْيَا . وَالْخَامِسُ : الْمَسَائِلُ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِيهَا فَلَا يَنْبَنِي عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهَا فَرْعٌ عَمَلِيٌّ ، إِنَّمَا تُعَدُّ مِنَ الْمُلَحِ ، كَالْمَسَائِلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا قَبْلُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَيَقَعُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْعُلُومِ ، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا كَثِيرٌ ، كَمَسْأَلَةِ اشْتِقَاقِ الْفِعْلِ مِنَ الْمَصْدَرِ ، وَمَسْأَلَةِ اللَّهُمَّ ، وَمَسْأَلَةِ أَشْيَاءَ ، وَمَسْأَلَةِ الْأَصْلِ فِي [ ص: 116 ] لَفْظِ الِاسْمِ ، وَإِنِ انْبَنَى الْبَحْثُ فِيهَا عَلَى أُصُولٍ مُطَّرِدَةٍ ، وَلَكِنَّهَا لَا فَائِدَةَ تُجْنَى ثَمَرَةً لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا ، فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ صُلْبِ الْعِلْمِ . وَالسَّادِسُ : الِاسْتِنَادُ إِلَى الْأَشْعَارِ فِي تَحْقِيقِ الْمَعَانِي الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ ، وَكَثِيرًا مَا يَجْرِي مِثْلُ هَذَا لِأَهْلِ التَّصَوُّفِ فِي كُتُبِهِمْ ، وَفِي بَيَانِ مَقَامَاتِهِمْ فَيَنْتَزِعُونَ مَعَانِيَ الْأَشْعَارِ ، وَيَضَعُونَهَا لِلتَّخَلُّقِ بِمُقْتَضَاهَا ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُلَحِ ؛ لِمَا فِي الْأَشْعَارِ الرَّقِيقَةِ مِنْ إِمَالَةِ الطِّبَاعِ ، وَتَحْرِيكِ النُّفُوسِ إِلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ ، وَلِذَلِكَ اتَّخَذَهُ الْوُعَّاظُ دَيْدَنًا ، وَأَدْخَلُوهُ فِي أَثْنَاءِ وَعْظِهِمْ ، وَأَمَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ ; فَالِاسْتِشْهَادُ بِالْمَعْنَى ; فَإِنْ كَانَ شَرْعِيًّا ; فَمَقْبُولٌ ، وَإِلَّا فَلَا . وَالسَّابِعُ : الِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَثْبِيتِ الْمَعَانِي بِأَعْمَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِالصَّلَاحِ ، بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ تَحْسِينِ الظَّنِّ ، لَا زَائِدَ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَكُونُ أَعْمَالُهُمْ حُجَّةً ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ ، فَإِذَا أُخِذَ ذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ فِيمَنْ يُحْسَنُ [ ص: 117 ] الظَّنُّ بِهِ ; فَهُوَ - عِنْدَمَا يَسْلَمُ مِنَ الْقَوَادِحِ - مِنْ هَذَا الْقِسْمِ ; لِأَجْلِ مَيْلِ النَّاسِ إِلَى مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ صَلَاحٌ وَفَضْلٌ ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ لِعَدَمِ اطِّرَادِ الصَّوَابِ فِي عَمَلِهِ ، وَلِجَوَازِ تَغَيُّرِهِ ; فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ - إِنْ سَلِمَ - هَذَا الْمَأْخَذَ . وَالثَّامِنُ : كَلَامُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ ; فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ أَوْغَلُوا فِي خِدْمَةِ مَوْلَاهُمْ ، حَتَّى أَعْرَضُوا عَنْ غَيْرِهِ جُمْلَةً ، فَمَالَ بِهِمْ هَذَا الطَّرَفُ إِلَى أَنْ تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ الِاطِّرَاحِ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ ، وَأَعْرَبُوا عَنْ مُقْتَضَاهُ ، وَشَأْنُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ لَا يُطِيقُهُ الْجُمْهُورُ ، وَهُمْ إِنَّمَا يُكَلِّمُونَ بِهِ الْجُمْهُورَ ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ حَقًّا ; فَفِي رُتْبَتِهِ لَا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ - فِي حَقِّ الْأَكْثَرِ - مِنَ الْحَرَجِ أَوْ تَكْلِيفِ مَالَا يُطَاقُ ، بَلْ رُبَّمَا ذَمُّوا بِإِطْلَاقٍ مَا لَيْسَ بِمَذْمُومٍ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَفِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، فَصَارَ أَخْذُهُ بِإِطْلَاقٍ مُوقِعًا فِي مَفْسَدَةٍ ، بِخِلَافِ أَخْذِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ ; فَلَيْسَ عَلَى هَذَا مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُلَحِهِ ، وَمُسْتَحْسَنَاتِهِ . وَالتَّاسِعُ : حَمْلُ بَعْضِ الْعُلُومِ عَلَى بَعْضٍ فِي بَعْضِ قَوَاعِدِهِ ; حَتَّى تَحْصُلَ الْفُتْيَا فِي أَحَدِهَا بِقَاعِدَةِ الْآخَرِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَجْتَمِعَ الْقَاعِدَتَانِ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ حَقِيقِيٍّ ، كَمَا يُحْكَى عَنِ الْفَرَّاءِ النَّحْوِيِّ ; أَنَّهُ قَالَ : مَنْ بَرَعَ فِي عِلْمٍ وَاحِدٍ سَهُلَ [ ص: 118 ] عَلَيْهِ كُلُّ عِلْمٍ . فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي - وَكَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ، وَكَانَ ابْنَ خَالَةِ الْفَرَّاءِ - : فَأَنْتَ قَدْ بَرَعْتَ فِي عِلْمِكَ ، فَخُذْ مَسْأَلَةً أَسْأَلُكَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِكَ : مَا تَقُولُ فِيمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ ، ثُمَّ سَجَدَ لِسَهْوِهِ فَسَهَا فِي سُجُودِهِ أَيْضًا ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . قَالَ : وَكَيْفَ ؟ قَالَ : لِأَنَّ التَّصْغِيرَ عِنْدَنَا لَا يُصَغَّرُ ، فَكَذَلِكَ السَّهْوُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لَا يُسْجَدُ لَهُ ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَصْغِيرِ التَّصْغِيرِ ، فَالسُّجُودُ لِلسَّهْوِ هُوَ جَبْرٌ لِلصَّلَاةِ ، وَالْجَبْرُ لَا يُجْبَرُ ، كَمَا أَنَّ التَّصْغِيرَ لَا يُصَغَّرُ . فَقَالَ الْقَاضِي : مَا حَسِبْتُ أَنَّ النِّسَاءَ يَلِدْنَ مِثْلَكَ . فَأَنْتَ تَرَى مَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ التَّصْغِيرِ وَالسَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الضَّعْفِ ; إِذْ لَا يَجْمَعُهُمَا فِي الْمَعْنَى أَصْلٌ حَقِيقِيٌّ ، فَيُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ . فَلَوْ جَمَعَهُمَا أَصْلٌ وَاحِدٌ ; لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، كَمَسْأَلَةِ الْكِسَائِيِّ مَعَ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ . رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ دَخَلَ عَلَى الرَّشِيدِ ، وَالْكِسَائِيُّ يُدَاعِبُهُ وَيُمَازِحُهُ ; فَقَالَ [ ص: 119 ] لَهُ أَبُو يُوسُفَ : هَذَا الْكُوفِيُّ قَدِ اسْتَفْرَغَكَ ، وَغَلَبَ عَلَيْكَ . فَقَالَ : يَا أَبَا يُوسُفَ إِنَّهُ لَيَأْتِيَنِي بِأَشْيَاءَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا قَلْبِي . فَأَقْبَلَ الْكِسَائِيُّ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فَقَالَ : يَا أَبَا يُوسُفَ هَلْ لَكَ فِي مَسْأَلَةٍ ؟ فَقَالَ : نَحْوٌ أَمْ فِقْهٌ . قَالَ : بَلْ فِقْهٌ . فَضَحِكَ الرَّشِيدُ حَتَّى فَحَصَ بِرِجْلِهِ ، ثُمَّ قَالَ : تُلْقِي عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِقْهًا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : يَا أَبَا يُوسُفَ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ ، وَفَتَحَ أَنْ ؟ قَالَ : إِذَا دَخَلَتْ طَلَقَتْ . قَالَ : أَخْطَأْتَ يَا أَبَا يُوسُفَ . فَضَحِكَ الرَّشِيدُ ، ثُمَّ قَالَ : كَيْفَ الصَّوَابُ ؟ قَالَ : إِذَا قَالَ أَنْ فَقَدْ وَجَبَ الْفِعْلُ ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ قَالَ إِنْ فَلَمْ يَجِبْ ، وَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ . قَالَ : فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ بَعْدَهَا لَا يَدْعُ أَنْ يَأْتِيَ الْكِسَائِيَّ . [ ص: 120 ] فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ جَارِيَةٌ عَلَى أَصْلٍ لُغَوِيٍّ لَا بُدَّ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمَيْنِ . فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ تُرْشِدُ النَّاظِرَ إِلَى مَا وَرَاءَهَا حَتَّى يَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ فِيمَا يَأْتِي مِنَ الْعُلُومِ وَيَذَرُ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهَا يَسْتَفِزُّ النَّاظِرَ اسْتِحْسَانُهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ ; فَيَقْطَعُ فِيهَا عُمْرَهُ ، وَلَيْسَ وَرَاءَهَا مَا يُتَّخَذُ مُعْتَمَدًا فِي عَمَلٍ وَلَا اعْتِقَادٍ ، فَيَخِيبُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ سَعْيُهُ ، وَاللَّهُ الْوَاقِي . وَمِنْ طَرِيفِ الْأَمْثِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَدَّثَنَاهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ : أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الْبَنَّاءِ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ : لِمَ لَمْ تَعْمَلْ إِنَّ فِي هَذَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ الْآيَةَ [ طه : 63 ] ؟ فَقَالَ فِي الْجَوَابِ : لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرِ الْقَوْلُ فِي الْمَقُولِ لَمْ يُؤَثِّرِ الْعَامِلُ فِي الْمَعْمُولِ . فَقَالَ السَّائِلَ : يَا سَيِّدِي ، وَمَا وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ عَمَلِ إِنَّ وَقَوْلِ الْكُفَّارِ فِي النَّبِيِّينَ ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُجِيبُ : يَا هَذَا إِنَّمَا جِئْتُكَ بِنُوَّارَةٍ يَحْسُنُ رَوْنَقُهَا ; فَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّ تَحُكَّهَا بَيْنَ يَدَيْكَ ، ثُمَّ تَطْلُبَ مِنْهَا ذَلِكَ الرَّوْنَقَ - أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ - فَهَذَا الْجَوَابُ فِيهِ مَا تَرَى ، وَبِعَرْضِهِ عَلَى الْعَقْلِ يَتَبَيَّنُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا لَيْسَ مِنَ الصُّلْبِ ، وَلَا مِنَ الْمُلَحِ - : مَا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَلَا ظَنِّيٍّ ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ بِالْإِبْطَالِ [ ص: 121 ] مِمَّا صَحَّ كَوْنُهُ مِنَ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ ، وَالْقَوَاعِدِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهَا فِي الْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ ، أَوْ كَانَ مُنْهَضًا إِلَى إِبْطَالِ الْحَقِّ وَإِحْقَاقِ الْبَاطِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، فَهَذَا لَيْسَ بِعِلْمٍ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ ، وَلَا حَاكِمٍ ، وَلَا مُطَّرِدٍ أَيْضًا ، وَلَا هُوَ مِنْ مُلَحِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُلَحَ هِيَ الَّتِي تَسْتَحْسِنُهَا الْعُقُولُ ، وَتَسْتَمْلِحُهَا النُّفُوسُ ; إِذْ لَيْسَ يَصْحَبُهَا مُنَفِّرٌ ، وَلَا هِيَ مِمَّا تُعَادِي الْعُلُومَ ; لِأَنَّهَا ذَاتُ أَصْلٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ هَذَا الْقِسْمِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . هَذَا وَإِنْ مَالَ بِقَوْمٍ فَاسْتَحْسَنُوهُ وَطَلَبُوهُ ; فَلِشِبْهِ عَارِضَةٍ وَاشْتِبَاهٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ ، فَرُبَّمَا عَدَّهُ الْأَغْبِيَاءُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ ، فَمَالُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ ، وَحَقِيقَةُ أَصْلِهِ وَهْمٌ وَتَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْأَهْوَاءِ ، كَالْإِغْرَابِ بِاسْتِجْلَابِ غَيْرِ الْمَعْهُودِ ، وَالْجَعْجَعَةِ بِإِدْرَاكِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ الرَّاسِخُونَ ، وَالتَّبَجُّحِ بِأَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْمَشْهُورَاتِ مُطَالَبَ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ . . . ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْخَوَاصِّ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَطْلُوبٌ ، وَلَا يَحُورُ مِنْهُ صَاحِبُهُ إِلَّا بِالِافْتِضَاحِ عِنْدَ الِامْتِحَانِ حَسْبَمَا بَيَّنَهُ الْغَزَّالِيُّ ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لِبَيَانِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا . وَمِثَالُ هَذَا الْقِسْمِ مَا انْتَحَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ إِخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ وَرَاءَ هَذَا الظَّاهِرِ ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَيْلِهِ بِعَقْلٍ ، وَلَا نَظَرٍ ، وَإِنَّمَا يُنَالُ مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ تَقْلِيدًا لِذَلِكَ الْإِمَامِ ، وَاسْتِنَادُهُمْ فِي جُمْلَةٍ مِنْ دَعَاوِيهِمْ إِلَى [ ص: 122 ] عِلْمِ الْحُرُوفِ ، وَعِلْمِ النُّجُومِ ، وَلَقَدِ اتَّسَعَ الْخَرْقُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَى الرَّاقِعِ ; فَكَثُرَتِ الدَّعَاوَى عَلَى الشَّرِيعَةِ بِأَمْثَالِ مَا ادَّعَاهُ الْبَاطِنِيَّةُ ، حَتَّى آلَ ذَلِكَ إِلَى مَالَا يُعْقَلُ عَلَى حَالٍ ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَيَشْمَلُ هَذَا الْقِسْمُ مَا يَنْتَحِلُهُ أَهْلُ السَّفْسَطَةِ وَالْمُتَحَكِّمُونَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ ، [ ص: 123 ] وَلَا ثَمَرَةَ تُجْنَى مِنْهُ ، فَلَا تَعَلُّقَ بِهِ بِوَجْهٍ . فَصْلٌ وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُعَدَّ مِنَ الثَّانِي ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي خَلْطِ بَعْضِ الْعُلُومِ بِبَعْضٍ ، كَالْفَقِيهِ يَبْنِي فِقْهَهُ عَلَى مَسْأَلَةٍ نَحْوِيَّةٍ مَثَلًا ، فَيَرْجِعُ إِلَى تَقْرِيرِهَا مَسْأَلَةً - كَمَا يُقَرِّرُهَا النَّحْوِيُّ - لَا مُقَدِّمَةً مُسَلَّمَةً ، ثُمَّ يَرُدُّ مَسْأَلَتَهُ الْفِقْهِيَّةَ إِلَيْهَا ، وَالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى أَنَّهَا مَفْرُوغٌ مِنْهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ ، فَيَبْنِي عَلَيْهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ، وَأَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِيهَا ، وَفِي تَصْحِيحِهَا وَضَبْطِهَا ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا ، كَمَا يَفْعَلُهُ النَّحْوِيُّ - صَارَ الْإِتْيَانُ بِذَلِكَ فَضْلًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ ; إِذَا افْتَقَرَ إِلَى مَسْأَلَةٍ عَدَدِيَّةٍ ، فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَسْلَمَةً لِيُفَرِّعَ عَلَيْهَا فِي عِلْمِهِ ; فَإِنْ أَخَذَ يَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيهَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْعَدَدِيُّ فِي عِلْمِ الْعَدَدِ ، كَانَ فَضْلًا مَعْدُودًا مِنَ الْمُلَحِ إِنْ عُدَّ مِنْهَا ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْعُلُومِ الَّتِي يَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا . وَيَعْرِضُ أَيْضًا لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الثَّالِثِ ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيمَنْ يَتَبَجَّحُ بِذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، أَوْ ذِكْرِ كِبَارِ الْمَسَائِلِ لِمَنْ لَا يَحْتَمِلُ عَقْلُهُ إِلَّا صِغَارَهَا ، عَلَى ضِدِّ التَّرْبِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ ، فَمِثْلُ هَذَا يُوقِعُ فِي مَصَائِبَ ، وَمِنْ أَجْلِهَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ ، [ ص: 124 ] أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " ، وَقَدْ يَصِيرُ ذَلِكَ فِتْنَةً عَلَى بَعْضِ السَّامِعِينَ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ هَذَا الْكِتَابِ . وَإِذَا عَرَضَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُعَدَّ مِنَ الثَّالِثِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَعْرِضَ لِلثَّانِي أَنْ يُعَدَّ مِنَ الثَّالِثِ ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَّلِ . فَلَا يَصِحُّ لِلْعَالِمِ فِي التَّرْبِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُرَبِّيًا ، وَاحْتَاجَ هُوَ إِلَى عَالِمٍ يُرَبِّيهِ . وَمِنْ هُنَا لَا يُسْمَحُ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ نَظَرَ مُفِيدٍ أَوْ مُسْتَفِيدٍ ; حَتَّى يَكُونَ رَيَّانَ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ ، أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا ، مَنْقُولِهَا وَمَعْقُولِهَا ، غَيْرَ مُخْلِدٍ إِلَى التَّقْلِيدِ ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْمَذْهَبِ ; فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ هَكَذَا خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقَلِبَ عَلَيْهِ مَا أَوْدَعَ فِيهِ فِتْنَةً بِالْعَرَضِ ، وَإِنْ كَانَ حِكْمَةً بِالذَّاتِ ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ . [ ص: 125 ] إِذَا تَعَاضَدَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ عَلَى الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ فَعَلَى شَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّقْلُ فَيَكُونَ مَتْبُوعًا ، وَيَتَأَخَّرَ الْعَقْلُ فَيَكُونَ تَابِعًا ، فَلَا يَسْرَحُ الْعَقْلُ فِي مَجَالِ النَّظَرِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُسَرِّحُهُ النَّقْلُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْعَقْلِ تَخَطِّي مَأْخَذَ النَّقْلِ ; لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ النَّقْلُ فَائِدَةٌ ، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ حَدَّ لَهُ حَدًّا ، فَإِذَا جَازَ تَعَدِّيهِ صَارَ الْحَدُّ غَيْرَ مُفِيدٍ ، وَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ بَاطِلٌ ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ . وَالثَّانِي : مَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ ، وَلَا يُقَبِّحُ ، وَلَوْ فَرَضْنَاهُ مُتَعَدِّيًا لِمَا حَدَّهُ الشَّرْعُ ; لَكَانَ مُحَسِّنًا وَمُقَبِّحًا ، هَذَا خَلْفٌ . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (10) صـ126 إلى صـ145 فإن قيل : هذا مشكل من أوجه : الأول : أن هذا الرأي هو رأي الظاهرية ; لأنهم واقفون مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان ، وحاصله عدم اعتبار المعقول جملة ، ويتضمن نفي القياس الذي اتفق الأولون عليه . والثاني : أنه قد ثبت للعقل التخصيص حسبما ذكره الأصوليون في نحو : والله على كل شيء قدير [ البقرة : 284 ] ، و " والله على كل شيء وكيل [ الأنعام : 102 ] ، و خالق كل شيء [ الرعد : 16 ] ، وهو نقص من مقتضى العموم ; فلتجز الزيادة لأنها بمعناه ، ولأن الوقوف دون حد النقل كالمجاوز [ ص: 132 ] له ، فكلاهما إبطال للحد على زعمك ، فإذا جاز إبطاله مع النقص ، جاز مع الزيادة ، ولما لم يعد هذا إبطالا للحد ; فلا يعد الآخر . والثالث : أن للأصوليين قاعدة قضت بخلاف هذا القضاء ، وهي أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم عند ذكر النص ، صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له ، والزيادة عليه ، ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام : لا يقضي القاضي وهو غضبان فمنعوا - لأجل معنى التشويش - القضاء مع جميع المشوشات ، وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب ; فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقف ، وذلك خلاف ما أصلت ، وبالجملة ; فإنكار تصرفات العقول بأمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه . فالجواب : أن ما ذكرت لا إشكال فيه على ما تقرر . [ ص: 133 ] أما الأول فليس القياس من تصرفات العقول محضا ، وإنما تصرفت فيه من تحت نظر الأدلة ، وعلى حسب ما أعطته من إطلاق أو تقييد ، وهذا مبين في موضعه من كتاب القياس ; فإنا إذا دلنا الشرع على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه معتبر ، وأنه من الأمور التي قصدها الشارع وأمر بها ، ونبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على العمل بها - فأين استقلال العقل بذلك ؟ بل هو مهتد فيه بالأدلة الشرعية ، يجري بمقدار ما أجرته ، ويقف حيث وقفته . وأما الثاني ; فسيأتي في باب العموم والخصوص إن شاء الله أن الأدلة المنفصلة لا تخصص ، وإن سلم أنها تخصص ; فليس معنى تخصيصها أنها تتصرف في اللفظ المقصود به ظاهره ، بل هي مبينة أن الظاهر غير مقصود في الخطاب بأدلة شرعية دلت على ذلك ، فالعقل مثلها فقوله : والله على كل شيء قدير [ البقرة : 284 ] خصصه العقل بمعنى أنه لم يرد في العموم دخول ذات البارئ وصفاته ، لأن ذلك محال ، بل المراد جميع ما عدا ذلك ; فلم [ ص: 134 ] يخرج العقل عن مقتضى النقل بوجه ، وإذا كان كذلك ; لم يصح قياس المجاورة عليه . وأما الثالث : فإن إلحاق كل مشوش بالغضب من باب القياس ، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغ ، وإذا نظرنا إلى التخصيص بالغضب اليسير ، فليس من تحكيم العقل ، بل من فهم معنى التشويش ، ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش ؛ فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود في الخطاب . هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى . وأن مطلق الغضب يتناوله اللفظ ، لكن خصصه المعنى . والأمر أسهل من غير احتياج إلى تخصيص ; فإن لفظ غضبان ، وزنه فعلان ، وفعلان في أسماء الفاعلين يقتضي الامتلاء مما اشتق منه ، فغضبان إنما يستعمل في الممتلئ غضبا ، كريان في الممتلئ ريا ، وعطشان في الممتلئ عطشا ، وأشباه ذلك ; لا أنه يستعمل في مطلق ما اشتق منه ، فكأن الشارع إنما نهى عن قضاء الممتلئ غضبا ; حتى كأنه قال : لا يقضي القاضي وهو شديد الغضب ، أو ممتلئ من الغضب ، وهذا هو المشوش ، فخرج المعنى عن كونه مخصصا ، وصار خروج يسير الغضب عن النهي بمقتضى اللفظ لا بحكم [ ص: 135 ] المعنى ، وقيس على مشوش الغضب كل مشوش ؛ فلا تجاوز للعقل إذا . وعلى كل تقدير ; فالعقل لا يحكم على النقل في أمثال هذه الأشياء ، وبذلك ظهرت صحة ما تقدم . [ ص: 136 ] [ ص: 137 ] لما ثبت أن العلم المعتبر شرعا هو ما ينبني عليه عمل ; صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية ، فما اقتضته فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة ، وهذا ظاهر ; غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية ، فإذا انحصرت ; انحصرت مدارك العلم الشرعي ، وهذا مذكور في كتاب الأدلة الشرعية حسبما يأتي إن شاء الله . [ ص: 138 ] [ ص: 139 ] من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام . وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا ، ثم علمه ، وبصره ، وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا ; غير أن ما علمه من ذلك على ضربين : ضرب منها ضروري ، داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف ، بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة ، كالتقامه الثدي ، ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا - هذا من المحسوسات - وكعلمه بوجوده ، وأن النقيضين لا يجتمعان من جملة المعقولات . وضرب منها بوساطة التعليم ، شعر بذلك أو لا ، كوجوه التصرفات الضرورية ، نحو محاكاة الأصوات ، والنطق بالكلمات ، ومعرفة أسماء الأشياء - في المحسوسات ، وكالعلوم النظرية التي للعقل في تحصيلها مجال ونظر - في المعقولات . [ ص: 140 ] وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر ; فلا بد من معلم فيها ، وإن كان الناس قد اختلفوا هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا ، فالإمكان مسلم ، ولكن الواقع في مجاري العادات أن لابد من المعلم ، وهو متفق عليه في الجملة ، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل كاختلاف جمهور الأمة والإمامية - وهم الذين يشترطون المعصوم - والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليهم السلام ، ومع ذلك فهم مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم ، علما كان المعلم أو عملا ، واتفاق الناس على ذلك في الوقوع وجريان العادة به - كاف في أنه لا بد منه ، وقد قالوا إن العلم كان في صدور الرجال ، ثم انتقل إلى الكتب ، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال ، وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال ; إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم ، وأصل هذا في الصحيح : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبضه بقبض العلماء الحديث ، فإذا كان كذلك ; فالرجال هم مفاتحه بلا شك . فإذا تقرر هذا ; فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به ، وهذا أيضا واضح في نفسه ، وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء ; إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق ؛ أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم ، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه ، عارفا بما يلزم عنه ، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه ، فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه ، وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية ; وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال . غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ ألبتة ، لأن فروع كل علم إذا انتشرت ، [ ص: 141 ] وانبنى بعضها على بعض - اشتبهت ، وربما تصور تفريعها على أصول مختلفة في العلم الواحد ، فأشكلت أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول ، فأهملها العالم من حيث خفيت عليه ، وهي في نفس الأمر على غير ذلك ، أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر ، فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح ، وأشباه ذلك ; فلا يقدح في كونه عالما ، ولا يضر في كونه إماما مقتدى به ; فإن قصر عن استيفاء الشروط نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان ; فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص . فصل وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم ، وإن خالفتها في النظر ، وهي ثلاث : إحداها : العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله ; فإن كان مخالفا له ; فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ، ولا أن يقتدى به في علم ، وهذا المعنى مبين على الكمال في كتاب الاجتهاد ، والحمد لله . [ ص: 142 ] والثانية : أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم ، وملازمته لهم ، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك ، وهكذا كان شأن السلف الصالح . فأول ذلك ملازمة الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذهم بأقواله وأفعاله ، واعتمادهم على ما يرد منه كائنا ما كان ، وعلى أي وجه صدر ، فهم فهموا مغزى ما أراد به أولا حتى علموا ، وتيقنوا أنه الحق الذي لا يعارض ، والحكمة التي لا ينكسر قانونها ، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها ، وإنما ذلك بكثرة الملازمة ، وشدة المثابرة . وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية ; حيث قال : يا رسول الله ألسنا على حق ، وهم على باطل ؟ قال : بلى . قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى . قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ قال : يا ابن الخطاب ، إني رسول الله ، ولن يضيعني الله أبدا . [ ص: 143 ] فانطلق عمر ولم يصبر ، متغيظا ، فأتى أبا بكر ; فقال له مثل ذلك . فقال أبو بكر : إنه رسول الله ، ولن يضيعه الله أبدا . قال : فنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه ; فقال : يا رسول الله أوفتح هو ؟ قال نعم . فطابت نفسه ، ورجع . فهذا من فوائد الملازمة ، والانقياد للعلماء ، والصبر عليهم في مواطن الإشكال حتى لاح البرهان للعيان . وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين : " أيها الناس اتهموا رأيكم ، والله لقد رأيتني يوم أبي جندل ، ولو أنى أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته " ، وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال ، وإنما نزلت سورة [ ص: 144 ] الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة ، لشدة الإشكال عليهم ، والتباس الأمر ، ولكنهم سلموا ، وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن ، فزال الإشكال والالتباس . وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم ; فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فقهوا ، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية ، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك ، وقلما وجدت فرقة زائغة ، ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف ، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري ، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ، ولا تأدب بآدابهم ، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون ، كالأئمة الأربعة وأشباههم . والثالثة : الاقتداء بمن أخذ عنه ، والتأدب بأدبه ، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واقتداء التابعين بالصحابة ، وهكذا في كل قرن ، وبهذا [ ص: 145 ] الوصف امتاز مالك عن أضرابه ، أعني بشدة الاتصاف به ، وإلا فالجميع ممن يهتدى به في الدين ، كذلك كانوا ، ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى ، فلما ترك هذا الوصف ; رفعت البدع رءوسها ، لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك ، أصله اتباع الهوى ، ولهذا المعنى تقرير في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (11) صـ146 إلى صـ166 فصل وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله ، فلذلك طريقان : أحدهما : المشافهة ، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما ؛ لوجهين : الأول : خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم يشهدها كل من زاول العلم والعلماء ، فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب ، ويحفظها ، ويرددها على قلبه فلا يفهمها ; فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة ، وحصل له العلم بها بالحضرة ، وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال ، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال ، وقد يحصل بأمر غير معتاد ، ولكن بأمر يهبه الله لمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم ، ظاهر الفقر ، بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه . وهذا ليس ينكر ; فقد نبه عليه الحديث الذي جاء : إن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحديث حنظلة الأسيدي حين شكا إلى [ ص: 146 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها ، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم ; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تكونون كما تكونون عندي ; لأظلتكم الملائكة بأجنحتها . وقد قال عمر بن الخطاب : " وافقت ربي في ثلاث " ، وهي من فوائد [ ص: 147 ] مجالسة العلماء ; إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم ، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم ، وتأدبهم معه ، واقتدائهم به ، فهذا الطريق نافع على كل تقدير . وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل ، وكانوا يكرهون ذلك ، وقد كرهه مالك ; فقيل له : فما نصنع ؟ قال : تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة ، وحكي عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة ، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان ، وخيف على الشريعة الاندراس . الطريق الثاني : مطالعة كتب المصنفين ، ومدوني الدواوين ، وهو أيضا نافع في بابه ; بشرطين : الأول : أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ، ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم له به النظر في الكتب ، وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه ، وهو معنى قول من قال : " كان العلم [ ص: 148 ] في صدور الرجال ، ثم انتقل إلى الكتب ، ومفاتحه بأيدي الرجال " ، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء ، وهو مشاهد معتاد . والشرط الآخر : أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد ; فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين ، وأصل ذلك التجربة ، والخبر . أما التجربة ; فهو أمر مشاهد في أي علم كان ; فالمتأخر لا يبلغ من [ ص: 149 ] الرسوخ في علم ما يبلغه المتقدم ، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري ، فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين ، وعلومهم في التحقيق أقعد ، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين ، والتابعون ليسوا كتابعيهم ، وهكذا إلى الآن ، ومن طالع سيرهم ، وأقوالهم ، وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى . وأما الخبر ففي الحديث خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك ; وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أول دينكم نبوة ورحمة ، ثم ملك ورحمة ، ثم ملك وجبرية ، ثم ملك عضوض . ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير ، وتكاثر الشر شيئا بعد [ ص: 150 ] شيء ، ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق . وعن ابن مسعود ; أنه قال : " ليس عام إلا الذي بعده شر منه ، لا أقول عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهاب خياركم ، وعلمائكم ، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم ، فيهدم الإسلام ، ويثلم " . [ ص: 151 ] ومعناه موجود في [ الصحيح ] في قوله : ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم ; فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون . وقال عليه السلام إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء . قيل : من الغرباء ؟ قال : النزاع من القبائل . وفي رواية : قيل : ومن الغرباء يا رسول الله . قال : الذين يصلحون عند فساد الناس [ ص: 152 ] وعن أبي إدريس الخولاني : " إن للإسلام عرى يتعلق الناس بها ، وإنها تمتلخ عروة عروة " . وعن بعضهم : " تذهب السنة سنة سنة ، كما يذهب الحبل قوة قوة " . وتلا أبو هريرة قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح الآية [ النصر : 1 ] . ثم قال : " والذي نفسي بيده ليخرجن من دين الله أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا " . [ ص: 153 ] وعن عبد الله ; قال : " أتدرون كيف ينقص الإسلام ؟ قالوا : نعم ، كما ينقص صبغ الثوب ، وكما ينقص سمن الدابة . فقال عبد الله : ذلك منه " . ولما نزل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] بكى عمر فقال عليه السلام [ له ] : ما يبكيك ؟ قال : يا رسول الله ! إنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل ; فلم يكمل شيء قط إلا نقص . فقال عليه السلام : صدقت . والأخبار هنا كثيرة ، وهي تدل على نقص الدين والدنيا ، وأعظم ذلك العلم ; فهو إذا في نقص بلا شك . فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم - أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم ، على أي نوع كان ، وخصوصا علم الشريعة الذي هو [ ص: 154 ] العروة الوثقى ، والوزر الأحمى ، وبالله تعالى التوفيق . [ ص: 155 ] كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله ، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط ، أو لا ، فإن جرى فذلك الأصل صحيح ، وإلا ; فلا . وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد - بالفرض - لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف ، كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال الجوارح ، فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه ، وإلا لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه ، وذلك فاسد لأنه من باب انقلاب العلم جهلا . ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله : أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر الله تعالى ، وخبر رسوله ، وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق ، وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد ، فإذا كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري فلم يطرد ، ولا استقام بحسبها في العادة ; فليس بأصل يعتمد عليه ، [ ص: 156 ] ولا قاعدة يستند إليها . ويقع ذلك في فهم الأقوال ، ومجاري الأساليب ، والدخول في الأعمال . فأما فهم الأقوال ; فمثل قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ النساء : 141 ] إن حمل على أنه إخبار ; لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله ، فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه ، وهو تقرير الحكم الشرعي ، فعليه يجب أن يحمل . [ ص: 157 ] ومثله قوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ البقرة : 233 ] ، إن حمل على أنه تقرير حكم شرعي ، استمر وحصلت الفائدة ، وإن حمل على أنه إخبار بشأن الوالدات لم تتحكم فيه فائدة زائدة على ما علم قبل الآية . وأما مجاري الأساليب فمثل قوله : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا إلخ [ المائدة : 93 ] . فهذه صيغة عموم تقتضي بظاهرها دخول كل مطعوم ، وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط ، ومن جملته الخمر ، لكن هذا الظاهر يفسد جريان [ ص: 158 ] الفهم في الأسلوب ، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر ، لأن الله تعالى لما حرم الخمر ; قال : ليس على الذين آمنوا فكان هذا نقضا للتحريم فاجتمع الإذن والنهي معا ، فلا يمكن للمكلف امتثال . ومن هنا خطأ عمر بن الخطاب من تأول في الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم في الخمر ، وقال له " إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله " . إذ لا يصح أن يقال للمكلف : اجتنب كذا ، ويؤكد النهي بما يقتضي التشديد فيه جدا ، ثم يقال : فإن فعلت فلا جناح عليك . [ ص: 159 ] وأيضا ; فإن الله أخبر أنها تصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في الله ، وهو بعد استقرار التحريم كالمنافي لقوله : إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات [ المائدة : 93 ] ; فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت ; لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يطاق . وأما الدخول في الأعمال ; فهو العمدة في المسألة ، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة ; لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا ، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد ، فلا يستمر الإطلاق ، وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة ، لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد والاستمرار فتصح ، وفي ضمنه تدخل أحكام الرخص ; إذ هو الحاكم فيها ، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا . ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية ; لم يأمن الغلط ، بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات ، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم ، كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين . وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر : [ ص: 160 ] إحداهما : أنه كتب إلي بعض شيوخ المغرب في فصل يتضمن ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه ، والشغل به ، فقال فيه : " وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته ; فرغ سره منه بالخروج عنه ، ولو كان يساوي خمسين ألفا كما فعله المتقون " . فاستشكلت هذا الكلام ، وكتبت إليه بأن قلت : أما أنه مطلوب بتفريغ السر منه فصحيح ، وأما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب ، فلا أدري ما هذا الوجوب ؟ ولو كان واجبا بإطلاق لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم ، وديارهم ، وقراهم ، وأزواجهم ، وذرياتهم ، وغير ذلك مما يقع لهم [ ص: 161 ] به الشغل في الصلاة ، وإلى هذا ; فقد يكون الخروج عن المال سببا للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال . وأيضا ; فإذا كان الفقر هو الشاغل فماذا يفعل ; فإنا نجد كثيرا ممن يحصل له الشغل بسبب الإقلال ، ولا سيما إن كان له عيال لا يجد إلى إغاثتهم سبيلا ، ولا يخلو أكثر الناس عن الشغل بآحاد هذه الأشياء ، أفيجب على هؤلاء الخروج عما سبب لهم الشغل في الصلاة ، هذا ما لا يفهم ، وإنما الجاري على الفقه والاجتهاد في العبادة طلب مجاهدة الخواطر الشاغلة خاصة ، وقد يندب إلى الخروج عما شأنه أن يشغله من مال أو غيره ، إن أمكنه الخروج عنه شرعا ، وكان مما لا يؤثر فيه فقده تأثيرا يؤدي إلى مثل ما فر منه أو أعظم ، ثم ينظر بعد في حكم الصلاة الواقع فيها الشغل كيف حال صاحبها من وجوب الإعادة أو استحبابها أو سقوطها ؟ وله موضع غير هذا . اه حاصل المسألة . فلما وصل إليه ذلك ; كتب إلي بما يقتضي التسليم فيه ، وهو صحيح ; لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جار في الواقع على استقامة ; لاختلاف أحوال الناس فلا يصح اعتماده أصلا فقهيا ألبتة . والثانية : مسألة الورع بالخروج عن الخلاف ; فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا ، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها . [ ص: 162 ] ولا زلت منذ زمان استشكله حتى كتبت فيها إلى المغرب ، وإلى إفريقية ; فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر ، بل كان من جملة الإشكالات الواردة ; أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيها اختلافا يعتد به ، فيصير إذا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات ، وهو خلاف وضع الشريعة . وأيضا ; فقد صار الورع من أشد الحرج ; إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة ، ولا معاملة ، ولا أمر من أمور التكليف ، من خلاف يطلب الخروج عنه ، وفي هذا ما فيه . فأجاب بعضهم : بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه ؛ المختلف [ ص: 163 ] فيه اختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة ، وليس أكثر مسائل الفقه هكذا ، بل الموصوف بذلك أقلها لمن تأمل من محصلي موارد التأمل ، وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل ، وأما الورع من حيث ذاته ، ولو في هذا النوع فقط - فشديد مشق ، لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي [ ص: 164 ] عنه ، وقد قال عليه السلام حفت الجنة بالمكاره ، هذا ما أجاب به . فكتبت إليه : بأن ما قررتم من الجواب غير بين ؛ لأنه إنما يجري في المجتهد وحده ، والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة لا عند تعارض الأقوال ، فليس مما نحن فيه ، وأما المقلد ; فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع ، وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين ، والعامي في عامة أحواله لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين ، والذي دليله أضعف ، ولا يعلم هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا ; لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر ، وليس العامي كذلك ; وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به ، والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة ، والخلاف الذي لا يعتد به قليل كالخلاف في المتعة ، وربا النساء ، ومحاش النساء ، وما أشبه ذلك . [ ص: 165 ] وأيضا ; فتساوي الأدلة أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين ، فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين ، ولا يكونان كذلك عند بعض ; فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه ، ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد ; لأن ما يأمره به من الاجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده ، واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له ، من غير أن يخرج عن الخلاف ، لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعي أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله ، وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر ، فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور ، وهو شديد جدا ، ومن يشاد هذا الدين يغلبه ، وهذا هو الذي أشكل على السائل ، ولم يتبين جوابه بعد . ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه ، كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد ; إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل ; لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج ، بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة . وإذا تأملنا مناط المسألة وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع - بينا ; فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع ، وإن كان شديدا في مخالفة النفس ، وورع الخروج من الخلاف صعب في الوقوع قبل النظر في [ ص: 166 ] مخالفة النفس ; فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج ، وأنه ليس ما أشرتم إليه . اه . ما كتبت به ، وهنا وقف الكلام بيني وبينه . ومن تأمل هذا التقرير ; عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد ، ولا يجري في الواقع مجرى الاستقامة للزوم الحرج في وقوعه ; فلا يصح أن يستند إليه ، ولا يجعل أصلا يبنى عليه . والأمثلة كثيرة ; فاحتفظ بهذا الأصل ; فهو مفيد جدا ، وعليه ينبني كثير من مسائل الورع ، وتمييز المتشابهات ، وما يعتبر من وجه الاشتباه وما لا يعتبر ، وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (12) صـ167 إلى صـ195 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . كتاب الأحكام والأحكام الشرعية قسمان : أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف ، والآخر يرجع إلى خطاب الوضع ; فالأول ينحصر في الخمسة ; فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل ، وهي جملة : [ ص: 170 ] [ ص: 171 ] القسم الأول خطاب التكليف المسألة الأولى [ في المباح ] المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل ، ولا مطلوب الاجتناب ، أما كونه ليس بمطلوب الاجتناب ; فلأمور : [ ص: 172 ] أحدها : أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك ، من غير مدح ولا ذم ، لا على الفعل ، ولا على الترك ، فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخيير ، لم يتصور أن يكون التارك به مطيعا ، لعدم تعلق الطلب بالترك ; فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب ، ولا طلب فلا طاعة . والثاني : أن المباح مساو للواجب والمندوب في أن كل واحد منهما غير مطلوب الترك ، فكما يستحيل أن يكون تارك الواجب والمندوب مطيعا بتركه شرعا ; لكون الشارع لم يطلب الترك فيهما ، كذلك يستحيل أن يكون تارك المباح مطيعا شرعا . لا يقال : إن الواجب والمندوب يفارقان المباح بأنهما مطلوبا الفعل ; فقد قام المعارض لطلب الترك ، وليس المباح كذلك ; فإنه لا معارض لطلب الترك فيه . لأنا نقول : كذلك المباح فيه معارض لطلب الترك ، وهو التخيير في الترك ; فيستحيل الجمع بين طلب الترك عينا ، وبين التخيير فيه . والثالث : أنه إذا تقرر استواء الفعل والترك في المباح شرعا ، فلو جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بتركه ; جاز أن يكون فاعله مطيعا بفعله ، من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه ، وهذا غير صحيح باتفاق ، ولا معقول في نفسه . [ ص: 173 ] والرابع : إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره ، بأن يترك ذلك المباح ، وأنه كنذر فعله . وفي الحديث : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، فلو كان ترك المباح طاعة للزم بالنذر ، لكنه غير لازم ; فدل على أنه ليس بطاعة . وفي الحديث : أن رجلا نذر أن يصوم قائما ، ولا يستظل ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس ، وأن يستظل ، ويتم صومه ، قال مالك : أمره عليه السلام أن يتم ما كان لله طاعة ، ويترك ما كان لله معصية ; فجعل نذر ترك المباح معصية كما ترى . [ ص: 174 ] والخامس : أنه لو كان تارك المباح مطيعا بتركه - وقد فرضنا أن تركه وفعله عند الشارع سواء - لكان أرفع درجة في الآخرة ممن فعله ، وهذا باطل قطعا ; فإن القاعدة المتفق عليها أن الدرجات في الآخرة منزلة على أمور الدنيا ، فإذا تحقق الاستواء في الدرجات ، وفعل المباح وتركه في نظر الشارع متساويان ، فيلزم تساوي درجتي الفاعل والتارك إذا فرضنا تساويهما في الطاعات ، والفرض أن التارك مطيع دون الفاعل ، فيلزم أن يكون أرفع درجة منه ، هذا خلف ومخالف لما جاءت به الشريعة ، اللهم إلا أن يظلم الإنسان فيؤجر على ذلك وإن لم يطع ; فلا [ ص: 175 ] كلام في هذا . والسادس : أنه لو كان ترك المباح طاعة ; للزم رفع المباح من أحكام الشرع ، من حيث النظر إليه في نفسه ، وهو باطل بالإجماع ، ولا يخالف في هذا الكعبي ; لأنه إنما نفاه بالنظر إلى ما يستلزم ، لا بالنظر إلى ذات الفعل ، وكلامنا إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل لا بالنظر إلى ما يستلزم . وأيضا ; فإنما قال الكعبي ما قال بالنظر إلى فعل المباح ; لأنه مستلزم ترك حرام ، بخلافه بالنظر إلى تركه ; إذ لا يستلزم تركه فعل واجب فيكون واجبا ، ولا فعل مندوب فيكون مندوبا ، فثبت أن القول بذلك يؤدي إلى رفع المباح بإطلاق ، وذلك باطل باتفاق . والسابع : أن الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار ; فترك المباح إذا فعل مباح . وأيضا ; القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد ، [ ص: 176 ] حسبما يأتي إن شاء الله ، وذلك يستلزم رجوع الترك إلى الاختيار كالفعل ; فإن جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بنفس الترك ، جاز أن يكون فاعله مطيعا ، وذلك تناقض محال . فإن قيل : هذا كله معارض بأمور : أحدها : أن فعل المباح سبب في مضار كثيرة : منها أن فيه اشتغالا عما هو الأهم في الدنيا من العمل بنوافل الخيرات ، وصدا عن كثير من الطاعات . ومنها أنه سبب في الاشتغال عن الواجبات ، ووسيلة إلى الممنوعات ، لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضراوة الخمر ، وبعضها يجر إلى بعض إلى أن تهوي بصاحبها في المهلكة ، والعياذ بالله . ومنها أن الشرع قد جاء بذم الدنيا والتمتع بلذاتها ; كقوله تعالى : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] . [ وقوله ] : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها [ هود : 15 ] . وفي الحديث : إن أخوف ما أخاف عليكم أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم الحديث . وفيه : إن مما ينبت الربيع ما يقتل [ ص: 177 ] حبطا أو يلم . وذلك كثير شهير في الكتاب والسنة ، وهو كاف في طلب ترك المباح ; لأنه أمر دنيوي لا يتعلق بالآخرة من حيث هو مباح . - ومنها : ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة ، وقد جاء : إن حلالها حساب ، وحرامها عذاب ، وعن بعضهم : " اعزلوا عني حسابها " ، [ ص: 178 ] حين أتي بشيء يتناوله ، والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب ، وأن سرعة الانصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد ، والمباح صاد عن ذلك ; فإذا تركه أفضل شرعا ، فهو طاعة ، فترك المباح طاعة . فالجواب : أن كونه سببا في مضار - لا دليل فيه من أوجه : أحدها : أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين ، ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر ; فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع ; صار ممنوعا من باب سد الذرائع ، لا من جهة كونه مباحا ، [ ص: 179 ] وعلى هذا يتنزل قول من قال : " كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " . وروي مرفوعا . وكذلك كل ما جاء من هذا الباب ; فذم الدنيا إنما هو لأجل أنها تصير ذريعة إلى تعطيل التكاليف . وأيضا ; فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح ، كالمال إذا لم تؤد زكاته ، والخيل إذا ربطها تعففا ، ولكن نسي حق الله في رقابها ، وما أشبه ذلك . والثاني : أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة ; فليس تركه أفضل بإطلاق ، بل هو ثلاثة أقسام : قسم يكون ذريعة إلى منهي عنه ، فيكون من تلك الجهة مطلوب الترك . وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به ; كالمستعان به على أمر أخروي ; ففي الحديث : نعم المال الصالح للرجل الصالح ، وفيه : ذهب أهل الدثور [ ص: 180 ] بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم . . . إلى أن قال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أجرا ، وإن كان قاضيا لشهوته ; لأنه يكف به عن الحرام ، وذلك في الشريعة كثير ; لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به ، كان لها حكم ما توسل بها إليه . وقسم لا يكون ذريعة إلى شيء ; فهو المباح المطلق ، وعلى الجملة فإذا فرض ذريعة إلى غيره ; فحكمه حكم ذلك الغير ، وليس الكلام فيه . والثالث : أنه إذا قيل : إن ترك المباح طاعة على الإطلاق ; لكونه وسيلة إلى ما ينهى عنه ، فهو معارض بمثله ; فيقال : بل فعله طاعة بإطلاق ; لأن كل مباح ترك حرام ، ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح ، فقد شغل النفس به عن جميعها ، وهذا الثاني أولى ; لأن الكلية هنا تصح ، ولا يصح أن يقال : كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهي عنه بإطلاق ، فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلا على أن ترك المباح طاعة . وأما قوله : " إنه سبب في طول الحساب " فجوابه من أوجه : أحدها : أن فاعل المباح إن كان يحاسب عليه ; لزم أن يكون التارك [ ص: 181 ] محاسبا على تركه ، من حيث كان الترك فعلا ، ولاستواء نسبة الفعل والترك شرعا ، وإذ ذاك يتناقض الأمر على فرض المباح ، وذلك محال فما أدى إليه مثله . وأيضا ; فإنه إذا تمسك بأن حلالها حساب ، ثم قضى بأن التارك لا يحاسب ، مع أنه آت بحلال وهو الترك ، فقد صار الحلال سببا لطول الحساب وغير سبب له ، لأن طول الحساب إنما نيط به من جهة كونه حلالا بالفرض ، وهذا تناقض من القول . والثاني : أن الحساب إن كان ينهض سببا لطلب الترك ، لزم أن يطلب ترك الطاعات من حيث كانت مسئولا عنها كلها ، فقد قال تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ الأعراف : 6 ] فقد انحتم على الرسل عليهم الصلاة والسلام ، أن يسألوا عن الرسالة وتبليغ الشريعة ، ولم يكن هذا مانعا من الإتيان بذلك ، وكذلك سائر المكلفين . لا يقال : إن الطاعات يعارض طلب تركها طلبها . لأنا نقول : كذلك المباح ؛ يعارض طلب تركه التخيير فيه ، وإن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة . والثالث : أن ما ذكر من الحساب على تناول الحلال قد يقال : إنه راجع إلى أمر خارج عن نفس المباح ; فإن المباح هو أكل كذا مثلا ، وله مقدمات وشروط ولواحق لا بد من مراعاتها ، فإذا روعيت صار الأكل مباحا ، وإن لم تراع كان التسبب والتناول غير مباح . وعلى الجملة فالمباح كغيره من الأفعال له أركان ، وشروط ، وموانع ، ولواحق تراعى ، والترك في هذا كله كالفعل ، فكما أنه إذا تسبب للفعل ، كان تسببه مسئولا عنه ، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسئولا عنه . [ ص: 182 ] ولا يقال : إن الفعل كثير الشروط والموانع ، ومفتقر إلى أركان بخلاف الترك ; فإن ذلك فيه قليل ، وقد يكفي مجرد القصد إلى الترك . لأنا نقول : حقيقة المباح إنما تنشأ بمقدمات ، كان فعلا أو تركا ، ولو بمجرد القصد . وأيضا ; فإن الحقوق تتعلق بالترك كما تتعلق بالفعل ، من حقوق الله أو حقوق الآدميين أو منهما جميعا ، يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه . وتأمل حديث سلمان وأبي الدرداء - رضي الله عنهما - يبين لك هو ، وما في معناه - أن الفعل والترك في المباح على الخصوص ، لا فرق بينهما من هذا الوجه ، فالحساب يتعلق بطريق الترك كما يتعلق بطريق الفعل ، وإذا كان الأمر كذلك ; ثبت أن الحساب إن كان راجعا إلى طريق المباح ؛ فالفعل والترك سواء ، وإن كان راجعا إلى نفس المباح أو إليهما معا ; فالفعل والترك أيضا سواء . وأيضا ; إن كان في المباح ما يقتضي الترك ; ففيه ما يقتضي عدم الترك ; لأنه من جملة ما امتن الله به على عباده ، ألا ترى إلى قوله تعالى : والأرض وضعها للأنام إلى قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن : 10 - 22 ] . [ ص: 183 ] وقوله : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه إلى قوله : ولعلكم تشكرون [ النحل : 14 ] . وقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] . إلى غير ذلك من الآيات التي نص فيها على الامتنان بالنعم ، وذلك يشعر بالقصد إلى التناول والانتفاع ، ثم الشكر عليها ، وإذا كان هكذا فالترك له قصدا يسأل عنه ، لم تركته ؟ ولأي وجه أعرضت عنه ؟ وما منعك من تناول ما أحل لك ، فالسؤال حاصل في الطرفين ، وسيأتي لذلك تقرير في المباح الخادم لغيره إن شاء الله . وهذه الأجوبة أكثرها جدلي ، والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق ، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه ، إما في جهة تناوله ، واكتسابه ، وإما في جهة الاستعانة به على التكليفات ، فمن حاسب نفسه في ذلك ، وعمل على ما أمر به فقد شكر نعم الله ، وفي ذلك قال تعالى : قل من حرم زينة الله إلى قوله : خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] . أي : لا تبعة فيها ، وقال تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 7 - 8 ] . وفسره النبي عليه السلام بأنه العرض ، لا الحساب الذي فيه مناقشة [ ص: 184 ] وعذاب ، وإلا لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة ، وإليه يرجع قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ الأعراف : 6 ] . أعني سؤال المرسلين ، ويحققه أحوال السلف في تناول المباحات كما سيذكر على إثر هذا . والثاني : من الأمور المعارضة ، أن ما تقدم مخالف لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة ، والتابعين ، والعلماء المتقين ; فإنهم تورعوا عن المباحات كثيرا ، وذلك منقول عنهم تواترا ، كترك الترفه في المطعم ، والمشرب ، والمركب ، والمسكن ، وأعرقهم في ذلك عمر بن الخطاب ، وأبو ذر ، وسلمان ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعلي بن أبي طالب ، وعمار ، وغيرهم - رضي الله عنهم - وانظر إلى ما حكاه ابن حبيب في كتاب الجهاد ، وكذلك الداودي في كتاب " الأموال " ففيه الشفاء ، ومحصوله أنهم تركوا المباح من حيث هو مباح ، ولو كان ترك المباح غير طاعة لما فعلوه . والجواب عن ذلك من أوجه : أحدها : أن هذه أولا حكايات أحوال ; فالاحتجاج بمجردها من غير نظر [ ص: 185 ] فيها لا يجدي ; إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحا ؛ لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد ، وسيأتي إن شاء الله أن حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الاحتجاج . والثاني : أنها معارضة بمثلها في النقيض . فقد كان عليه السلام يحب الحلواء والعسل . ويأكل اللحم ، ويختص بالذراع ، وكانت تعجبه . وكان يستعذب له الماء . [ ص: 186 ] وينقع له الزبيب والتمر . ويتطيب بالمسك . [ ص: 187 ] ويحب النساء . وأيضا ; فقد جاء كثير من ذلك عن الصحابة والتابعين ، والعلماء المتقين ، بحيث يقتضي أن الترك عندهم كان غير مطلوب ، والقطع أنه لو كان مطلوب الترك عندهم شرعا ، لبادروا إليه مبادرتهم لكل نافلة وبر ، ونيل منزلة ودرجة ; إذ لم يبادر أحد من الخلق إلى نوافل الخيرات مبادرتهم ، ولا شارك أحد أخاه المؤمن ممن قرب عهده أو بعد في رفده وماله مشاركتهم ، يعلم ذلك من طالع سيرهم ، ومع ذلك فلم يكونوا تاركين للمباحات أصلا ، ولو كان مطلوبا لعلموه قطعا ، ولعملوا بمقتضاه مطلقا من غير استثناء ، لكنهم لم يفعلوا ; فدل ذلك على أنه عندهم غير مطلوب ، بل قد أراد بعضهم أن يترك شيئا من المباحات فنهوا عن ذلك ، وأدلة هذه الجملة كثيرة ، وانظر في باب المفاضلة بين الفقر والغنى في " مقدمات ابن رشد " . [ ص: 188 ] والثالث : إذا ثبت أنهم تركوا منه شيئا ، طلبا للثواب على تركه ، فذلك لا من جهة أنه مباح فقط للأدلة المتقدمة ، بل لأمور خارجة ، وذلك غير قادح في كونه غير مطلوب الترك - منها : أنهم تركوه من حيث هو مانع من عبادات ، وحائل دون خيرات ، فيترك ليمكن الإتيان بما يثاب عليه ، من باب التوصل إلى ما هو مطلوب ، كما كانت عائشة - رضي الله عنها - يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح فتتصدق به ، وتفطر على أقل ما يقوم به العيش ، ولم يكن تركها التوسع من حيث كان الترك مطلوبا ، وهذا هو محل النزاع . - ومنها : أن بعض المباحات قد يكون مورثا لبعض الناس أمرا لا يختاره لنفسه ، بالنسبة إلى ما هو عليه من الخصال الحميدة ، فيترك المباح لما يؤديه إليه ، كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيره إلى الشام ، أتي بفرس ، فلما ركبه فهملج تحته ، أخبر أنه أحس من نفسه ، فنزل [ ص: 189 ] عنه ، ورجع إلى حماره ، وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم ، حين لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه ، وهو المعصوم ، ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره ، وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع ، فيترك من حيث هو وسيلة كما قيل : " إني لأدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال ، ولا أحرمها " وفي الحديث : لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس . [ ص: 190 ] وهذا بمثابة من يعلم أنه إذا مر لحاجته على الطريق الفلانية نظر إلى محرم أو تكلم فيما لا يعنيه أو نحوه . - ومنها : أنه قد يترك بعض الناس ما يظهر " لغيره " أنه مباح ، إذا تخيل فيه إشكالا وشبهة ، ولم يتخلص له حله ، وهذا موضع مطلوب الترك على الجملة بلا خلاف ; كقوله : " كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " ولم يتركوا كل ما لا بأس به ، وإنما تركوا ما خشوا أن يفضي بهم إلى مكروه أو ممنوع . - ومنها : أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله ; إما للعون به على طاعة الله ، وإما لأنه يحب أن يكون عمله كله خالصا لله ، لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له ; فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا ، بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة أو عونا على [ ص: 191 ] عبادة ، أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ ; لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني ، ومن ذلك أن يتركه حتى يصير مطلوبا كالأكل والشرب ونحوهما ; فإنه - إذا كان لغير حاجة - مباح ، كأكل بعض الفواكه ، فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء ، ثم يأكل قصدا لإقامة البنية ، والعون على الطاعة ، وهذه كلها أغراض صحيحة منقولة عن السلف ، وغير قادحة في مسألتنا . - ومنها : أن يكون التارك مأخوذ الكلية في عبادة من علم أو تفكر أو عمل ، مما يتعلق بالآخرة ، فلا تجده يستلذ بمباح ، ولا ينحاش قلبه إليه ، ولا يلقي إليه بالا ، وهذا وإن كان قليلا ، فالترك على هذا الوجه يشبه الغفلة عن المتروك ، والغفلة عن تناول المباح ليس بطاعة ، بل هو في طاعة بما اشتغل به ، وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أتيت بمال عظيم فقسمته ، ولم تبق لنفسها شيئا ، فعوتبت على تركها نفسها دون شيء ، فقالت : " لا تعنيني ، لو كنت ذكرتني لفعلت " ، ويتفق مثل هذا للصوفية ، وكذلك إذا ترك المباح لعدم قيام النفس له ، هو في حكم المغفول عنه . - ومنها : أنه قد يرى بعض ما يتناوله من المباح إسرافا ، والإسراف مذموم ، وليس في الإسراف حد يوقف دونه كما في الإقتار ، فيكون التوسط [ ص: 192 ] راجعا إلى الاجتهاد بين الطرفين ; فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلا تحت الإسراف فيتركه لذلك ، ويظن من يراه ممن ليس ذلك - إسرافا في حقه ؛ أنه تارك للمباح ، ولا يكون كما ظن ; فكل أحد فيه فقيه نفسه . والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك - مطلوب ، وهو شرط من شروط تناول المباح ، ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك ، ولا مطلوب الفعل ، كدخول المسجد لأمر مباح هو مباح ، ومن شرطه أن لا يكون جنبا ، والنوافل من شرطها الطهارة وذلك واجب ، ولا يصير دخول المسجد ولا النافلة بسبب ذلك - واجبين ، فكذلك هنا تناول المباح مشروط بترك الإسراف ، ولا يصير ذم الإسراف في المباح ذما للمباح مطلقا . وإذا تأملت الحكايات في ترك بعض المباحات عمن تقدم ، فلا تعدو هذه الوجوه ، وعند ذلك لا تكون فيها معارضة لما تقدم ، والله أعلم . والثالث من الأمور المعارضة : ما ثبت من فضيلة الزهد في الدنيا ، وترك لذاتها ، وشهواتها ، وهو مما اتفق على مدح صاحبه شرعا ، وذم تاركه على الجملة ، حتى قال الفضيل بن عياض : " جعل الشر كله في بيت ، وجعل مفتاحه حب الدنيا ، وجعل الخير كله في بيت ، وجعل مفتاحه الزهد " . وقال الكتاني الصوفي : " الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ، ولا مدني ، [ ص: 193 ] ولا عراقي ، ولا شامي - الزهد في الدنيا ، وسخاوة النفس ، والنصيحة للخلق " . قال القشيري : يعني أن هذه الأشياء لا يقول أحد : إنها غير محمودة ، والأدلة من الكتاب والسنة على هذا لا تكاد تنحصر ، والزهد حقيقة إنما هو في الحلال ، أما الحرام ; فالزهد فيه لازم من أمر الإسلام ، عام في أهل الإيمان ، ليس مما يتجارى فيه خواص المؤمنين مقتصرين عليه فقط ، وإنما تجاروا فيما صاروا به من الخواص ، وهو الزهد في المباح ، فأما المكروه فذو طرفين ، وإذا ثبت هذا فمحال عادة أن يتجاروا فيه هذه المجاراة ، وهو لا فائدة فيه ، ومحال أن يمدح شرعا مع استواء فعله وتركه . والجواب من أوجه : أحدها : أن الزهد - في الشرع - مخصوص بما طلب تركه حسبما يظهر من الشريعة ، فالمباح في نفسه خارج عن ذلك لما تقدم من الأدلة ، فإذا أطلق بعض المعبرين لفظ الزهد على ترك الحلال ، فعلى جهة المجاز بالنظر إلى ما يفوت من الخيرات أو لغير ذلك مما تقدم . والثاني : أن أزهد البشر لم يترك الطيبات جملة إذا وجدها ، وكذلك من بعده من الصحابة والتابعين مع تحققهم في مقام الزهد . والثالث : أن ترك المباحات إما أن يكون بقصد أو بغير قصد ; فإن كان بغير قصد فلا اعتبار به ، بل هو غفلة ، لا يقال فيه : " مباح " فضلا عن أن يقال فيه : " زهد " ، وإن كان تركه بقصد ; فإما أن يكون [ ص: 194 ] القصد مقصورا على كونه مباحا ، فهو محل النزاع ، أو لأمر خارج ، فذلك الأمر إن كان دنيويا كالمتروك ؛ فهو انتقال من مباح إلى مثله لا زهد ، وإن كان أخرويا ; فالترك إذا وسيلة إلى ذلك المطلوب ; فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب ، لا من جهة مجرد الترك ، ولا نزاع في هذا . وعلى هذا المعنى فسره الغزالي ; إذ قال : " الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه " فلم يجعله مجرد الانصراف عن الشيء خاصة ، بل بقيد الانصراف إلى ما هو خير منه ، وقال في تفسيره : " ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة ، لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه ، وإلا فترك المحبوب لغير الأحب محال " . ثم ذكر أقسام الزهد ، فدل على أن الزهد لا يتعلق بالمباح من حيث هو مباح على حال ، ومن تأمل كلام المعتبرين فهو دائر على هذا المدار . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (13) صـ195 إلى صـ 217 فصل وأما كون المباح غير مطلوب الفعل ; فيدل عليه كثير مما تقدم ; لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء . [ ص: 195 ] وقد استدل من قال : إنه مطلوب ، بأن كل مباح ترك حرام ، وترك الحرام واجب ، فكل مباح واجب . . . ، إلى آخر ما قرر الأصوليون عنه ، لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح - مع قطع النظر عما يستلزم - مستوي الطرفين ، وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح ; لوجوه : أحدها : لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا ألبتة ; فلا [ ص: 196 ] يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا ، وهذا باطل باتفاق ; فإن الأمة قبل هذا المذهب لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة ، كما تحكم عليها بسائر الأحكام ، وإن استلزمت ترك الحرام ; فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم ؛ لأنه أمر خارج عن ماهية المباح . والثاني : أنه لو كان كما قال ؛ لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة ، وذلك باطل على مذهبه ، ومذهب غيره . بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين ، كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا ; لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف ، وقد فرضناه واجبا ، فليس بمباح ، فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا ; إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف . والثالث : أنه لو كان كما قال ; لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية ; لاستلزامها ترك الحرام ، فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة ، وتصير واجبة . فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه ; فهو باطل ; لأنه يعتبر جهة الاستلزام ، [ فلذلك نفى المباح ، فليعتبر جهة الاستلزام ] في الأربعة الباقية فينفها ، وهو خلاف الإجماع والمعقول ; فإن اعتبر في الحرام والمكروه [ ص: 197 ] جهة النهي ، وفي المندوب جهة الأمر - كالواجب - لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح ; إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما . فإن قال : يخرج المباح عن كونه [ مباحا ] بما يؤدي إليه أو بما يتوسل به إليه ، فذلك غير مسلم ، وإن سلم فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، والخلاف فيه معلوم ، فلا نسلم أنه واجب ، وإن سلم فكذلك الأحكام الأخر ، فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات ، والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين ، وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع . فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه ، ولا في تركه دون فعله ، بل قصده جعله لخيرة المكلف ، فما كان من المكلف من فعل أو ترك ، فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه ; فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة ، أيهما فعل فهو قصد الشارع ، لا أن للشارع قصدا في الفعل بخصوصه ، ولا في الترك بخصوصه . لكن يرد على مجموع الطرفين إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد ، وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص ، وإلى تركه على الخصوص . فأما الأول فأشياء ، منها : الأمر بالتمتع بالطيبات ; كقوله [ ص: 198 ] تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا [ البقرة : 168 ] . وقوله : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله [ البقرة : 172 ] . وقوله : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا [ المؤمنون : 51 ] . إلى أشباه ذلك مما دل الأمر به على قصد الاستعمال . وأيضا ; فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها ، وقررت عليهم - فهم منها القصد إلى التنعم بها ، لكن بقيد الشكر عليها . ومنها : أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطيبات ، وجعل ذلك من أنواع ضلالهم ، فقال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا [ الأعراف : 32 ] أي : خلقت لأجلهم خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] لا تباعة فيها ولا إثم ; فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها . - ومنها : أن هذه النعم هدايا من الله للعبد ، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد ، هذا غير لائق في محاسن العادات ، ولا في مجاري الشرع ، بل قصد المهدي أن تقبل هديته ، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه ; فليقبل ، ثم ليشكر له عليها . [ ص: 199 ] وحديث ابن عمر ، وأبيه عمر في مسألة قصر الصلاة - ظاهر في هذا المعنى ، حيث قال عليه السلام : إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ، زاد في حديث ابن عمر الموقوف عليه : أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ؛ ألم تغضب ؟ ، وفي الحديث : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه . [ ص: 200 ] وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب ; كالفطر في السفر أو التحريم ، كما قاله طائفة في قوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ النساء : 25 ] إلى آخرها ، وإذا تعلقت المحبة بالمباح ; كان راجح الفعل . فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه . وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص - فجميع ما تقدم من ذم التنعمات والميل إلى الشهوات على الجملة ، وعلى الخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة ، كالطلاق السني ; فإنه جاء في الحديث ، وإن لم يصح أبغض الحلال إلى الله الطلاق ، ولذلك لم [ ص: 201 ] يأت به صيغة أمر في القرآن ، ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم ، وإنما جاء مثل قوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] . فإن طلقها فلا تحل له من بعد [ البقرة : 230 ] . يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] . فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف [ الطلاق : 1 ] . [ ص: 202 ] ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة ، وجاء : كل لهو باطل إلا ثلاثة . وكثير من أنواع اللهو مباح ، واللعب أيضا مباح ، وقد ذم . فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافي قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر ، وذلك مما يدل على أن المباح يتعلق به الطلب فعلا [ ص: 203 ] وتركا على غير الجهات المتقدمة . والجواب من وجهين : أحدهما : إجمالي ، والآخر : تفصيلي . فالإجمالي أن يقال : إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوي الطرفين ، فكل ما ترجح أحد طرفيه فهو خارج عن كونه مباحا ; إما لأنه ليس بمباح حقيقة ، وإن أطلق عليه لفظ المباح ، وإما لأنه مباح في أصله ، ثم صار غير مباح لأمر خارج ، وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة . وأما التفصيلي ; فإن المباح ضربان : أحدهما : أن يكون خادما لأصل ضروري ، [ أو حاجي ] أو تكميلي . والثاني : أن لا يكون كذلك . فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له ; فيكون مطلوبا ، ومحبوبا فعله ، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها - مباح في نفسه ، وإباحته بالجزء ، وهو خادم لأصل ضروري ، وهو إقامة الحياة ; فهو [ ص: 204 ] مأمور به من هذه الجهة ، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب ; فالأمر به راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي ، ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد ، لا من حيث هو جزئي معين . والثاني : إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة ، أو لا يكون خادما لشيء ، كالطلاق ; فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود ، وهو ضروري ، ولإقامة مطلق الألفة ، والمعاشرة ، واشتباك العشائر بين الخلق ، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما ، فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ، ونقضا عليه - كان مبغضا ، ولم يكن فعله أولى من تركه إلا لمعارض أقوى ; كالشقاق ، وعدم إقامة حدود الله ، وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص ، وفي هذا الزمان - مباح وحلال ، وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا ، وقد تقدم ، ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري - كالدين على الكافر ، والتقوى على العاصي - كان من تلك الجهة مذموما ، وكذلك اللهو ، واللعب ، والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ، ولا يلزم عنه محظور - فهو مباح ، ولكنه مذموم [ ص: 205 ] ولم يرضه العلماء ، بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش ، ولا في إصلاح معاد ; لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية . وفي القرآن : ولا تمش في الأرض مرحا ; إذ يشير إلى هذا المعنى . وفي الحديث : كل لهو باطل إلا ثلاثة ، ويعني بكونه باطلا أنه عبث أو كالعبث ، ليس له فيه فائدة ، ولا ثمرة تجنى ، بخلاف اللعب مع الزوجة ; فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا ، وهو النسل ، وبخلاف تأديب الفرس ، وكذلك اللعب بالسهام ; فإنهما يخدمان أصلا تكميليا ، وهو الجهاد ، فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل ، وجميع هذا يبين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه . [ ص: 206 ] وهذا الجواب مبني على أصل آخر ثابت في الأحكام التكليفية فلنضعه [ ها ] هنا ، وهي : المسألة الثانية فيقال : إن الإباحة بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقي ، فالمباح يكون مباحا بالجزء ، مطلوبا بالكل على جهة الندب أو الوجوب ، ومباحا بالجزء منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع . فهذه أربعة أقسام : فالأول : كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب ، والمركب والملبس ، مما سوى الواجب من ذلك ، والمندوب المطلوب في محاسن العبادات أو المكروه في محاسن العادات ، كالإسراف ; فهو مباح بالجزء ، فلو ترك بعض الأوقات مع القدرة عليه ; لكان جائزا كما لو فعل ، فلو ترك جملة ; [ ص: 207 ] لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه ، ففي الحديث : إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم ، وإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، وقوله في الآخر حين حسن من هيئته أليس هذا أحسن ؟ ، وقوله : إن الله [ ص: 208 ] جميل يحب الجمال بعد قول الرجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ، ونعله حسنة ، وكثير من ذلك ، وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها . والثاني : كالأكل ، والشرب ، ووطء الزوجات ، والبيع والشراء ، ووجوه الاكتسابات الجائزة ; كقوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] . أحل لكم صيد البحر وطعامه [ المائدة : 96 ] . أحلت لكم بهيمة الأنعام [ المائدة : 1 ] . وكثير من ذلك ، كل هذه الأشياء مباحة بالجزء ; أي : إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها ; فذلك جائز ، أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان ، [ ص: 209 ] أو تركها بعض الناس - لم يقدح ذلك ، فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها ، فكان الدخول فيها واجبا بالكل . والثالث : كالتنزه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ، واللعب المباح بالحمام ، أو غيرها ؛ فمثل هذا مباح بالجزء ، فإذا فعل يوما ما أو في حالة ما - فلا حرج فيه ; فإن فعل دائما كان مكروها ، ونسب فاعله إلى قلة العقل ، وإلى خلاف محاسن العادات ، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح . والرابع : كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها ، وإن كانت مباحة ; فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئات أهل العدالة ، وأجري صاحبها مجرى الفساق ، وإن لم يكن كذلك ; ، وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا ، وقد قال الغزالي : " إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة ، كما أن المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة " ، ومن هنا قيل : " لا صغيرة مع [ ص: 210 ] الإصرار . [ ص: 211 ] فصل إذا كان الفعل مندوبا بالجزء ، كان واجبا بالكل ، كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها ، وصلاة الجماعة ، وصلاة العيدين ، وصدقة التطوع ، والنكاح ، والوتر ، والفجر ، والعمرة ، وسائر النوافل الرواتب ; فإنها مندوب إليها بالجزء ، ولو فرض تركها جملة ; لجرح التارك لها ، ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام ، ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه ، وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح ، فلا تقبل شهادته ، لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين ، وقد توعد الرسول عليه السلام من داوم على ترك الجماعة ، فهم أن يحرق عليهم بيوتهم ، كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبح ; فإن سمع أذانا أمسك ، وإلا أغار ، والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو [ ص: 212 ] مقصود للشارع ; من تكثير النسل ، وإبقاء النوع الإنساني ، وما أشبه ذلك ، فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائما ، أما إذا كان في بعض الأوقات ; فلا تأثير له ، فلا محظور في الترك . فصل إذا كان الفعل مكروها بالجزء كان ممنوعا بالكل ; كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة ، وسماع الغناء المكروه ; فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة لم تقدح في العدالة ; فإن داوم عليها قدحت في عدالته ، وذلك دليل على المنع بناء على أصل الغزالي ، قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج : " إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة [ ص: 213 ] لم تقبل شهادته ، وكذلك اللعب الذي يخرج به عن هيئة أهل المروءة ، والحلول بمواطن التهم لغير عذر ، وما أشبه ذلك . فصل أما الواجب إن قلنا إنه مرادف للفرض ; فإنه لا بد أن يكون واجبا بالكل والجزء ; فإن العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي ، وإذا كان واجبا بالجزء فهو كذلك بالكل من باب أولى ، ولكن هل يختلف حكمه بحسب الكلية والجزئية أم لا . أما بحسب الجواز فذلك ظاهر ; فإنه إذا كانت هذه الظهر المعينة فرضا على المكلف ؛ يأثم بتركها ، ويعد مرتكب كبيرة ، فينفذ عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله ; فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك ، وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة مع من كثر ذلك منه وداوم عليه ، وما أشبه ذلك ; فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها . وأما بحسب الوقوع ; فقد جاء ما يقتضي ذلك كقوله عليه السلام في تارك الجمعة : [ من ترك الجمعة ] ثلاث مرات طبع الله على قلبه ; فقيد [ ص: 214 ] بالثلاث كما ترى ، وقال في الحديث الآخر : من تركها استخفافا بحقها أو تهاونا ، مع أنه لو تركها مختارا غير متهاون ، ولا مستخف ؛ لكان تاركا للفرض ; فإنما قال ذلك لأن [ تركها ] مرات أولى في التحريم ، وكذلك لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون ، وانبنى على ذلك في الفقه أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر لم تجز شهادته . قاله سحنون ، وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون : إذا تركها مرارا لغير عذر لم تجز شهادته . وكذلك [ ص: 215 ] يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك : إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة ; فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته ، وصار في عداد من فعل كبيرة ; بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة . وأما إن قلنا : إن الواجب ليس بمرادف للفرض فقد يطرد فيه ما تقدم فيقال : إن الواجب إذا كان واجبا بالجزء كان فرضا بالكل ، لا مانع يمنع من ذلك ; فانظر فيه وفي أمثلته منزلا على مذهب الحنفية ، وعلى هذه الطريقة يستتب التعميم ; فيقال في الفرض : إنه يختلف بحسب الكل والجزء كما تقدم بيانه أول الفصل . وهكذا القول في الممنوعات : إنها تختلف مراتبها بحسب الكل والجزء ، وإن عدت في الحكم في مرتبة واحدة وقتا ما أو في حالة ما ؛ فلا تكون كذلك في أحوال أخر ، بل يختلف الحكم فيها كالكذب من غير عذر ، وسائر الصغائر مع المداومة عليها ; فإن المداومة لها تأثير في كبرها ، وقد ينضاف الذنب إلى [ ص: 216 ] الذنب فيعظم بسبب الإضافة ; فليست سرقة نصف النصاب كسرقة ربعه ، ولا سرقة النصاب كسرقة نصفه ، ولذلك عدوا سرقة لقمة ، والتطفيف بحبة - من باب الصغائر ، مع أن السرقة معدودة من الكبائر ، وقد قال الغزالي : " قلما يتصور الهجوم على الكبيرة بغتة ، من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر - قال : - ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ، ولم يتفق عوده إليها ، ربما كان العفو إليها أرجى من صغيرة واظب عليها عمره " . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (14) صـ218 إلى صـ 238 فصل هذا وجه من النظر مبني على أن الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية من غير اتفاق . ولمدع أن يدعي اتفاق أحكامها ، وإن اختلفت بالكلية والجزئية . أما في المباح ; فمثل قتل كل مؤذ ، والعمل بالقراض ، والمساقاة ، وشراء العرية ، والاستراحة بعد التعب ، حيث لا يكون ذلك متوجه الطلب والتداوي ، إن قيل : إنه مباح ; فإن هذه الأشياء إذا فعلت دائما أو تركت دائما لا يلزم من [ ص: 217 ] فعلها ولا من تركها إثم ، ولا كراهة ، ولا ندب ، ولا وجوب ، وكذلك لو ترك الناس كلهم ذلك اختيارا فهو كما لو فعلوه كلهم . وأما في المندوب فكالتداوي إن قيل بالندب فيه ; لقوله عليه السلام : تداووا ، وكالإحسان في قتل الدواب المؤذية ; لقوله : إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ; فإن هذه الأمور لو تركها الإنسان دائما لم يكن مكروها ، ولا ممنوعا ، وكذلك لو فعلها دائما . [ ص: 218 ] وأما في المكروه ; فمثل قتل النمل إذا لم تؤذ ، والاستجمار بالحممة والعظم ، وغيرهما مما ينقي ; إلا أن فيه تلويثا أو حقا للجن ، فليس النهي عن ذلك نهي تحريم ، ولا ثبت أن فاعل ذلك دائما يحرج به ، ولا يؤثم ، وكذلك البول في الجحر ، واختناث الأسقية في الشرب ، وأمثال ذلك كثيرة . [ ص: 219 ] وأما في الواجب والمحرم ، فظاهر أيضا التساوي ; فإن الحدود وضعت على التساوي ، فالشارب للخمر مائة مرة كشاربها مرة واحدة ، وقاذف الواحد كقاذف الجماعة ، وقاتل نفس واحدة كقاتل مائة نفس ، في إقامة الحدود عليهم ، وكذلك تارك صلاة واحدة مع المديم الترك ، وما أشبه ذلك . وأيضا ; فقد نص الغزالي على أن الغيبة أو سماعها ، والتجسس ، وسوء الظن ، وترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وأكل الشبهات ، وسب الولد والغلام ، وضربهما بحكم الغضب زائدا على حد المصلحة ، وإكرام السلاطين الظلمة ، والتكاسل عن تعليم الأهل والولد ما يحتاجون إليه من أمر الدين - جار دوامها مجرى الفلتات في غيرها ; لأنها غالبة في الناس على الخصوص ، كما كانت الفلتات في غيرها غالبة ; فلا يقدح في العدالة دوامها كما لا تقدح فيها الفلتات ، فإذا ثبت هذا ; استقامت الدعوى في أن الأحكام قد تستوي وإن اختلفت الأفعال بحسب الكلية والجزئية . ولصاحب النظر الأول أن يجيب بأن ما استشهد به على الاستواء محتمل . [ ص: 220 ] أما الأول ; فإن الكلي والجزئي يختلف بحسب الأشخاص والأحوال ، والمكلفين ، ودليل ذلك أنا إذا نظرنا إلى جواز الترك في قتل كل مؤذ بالنسبة إلى آحاد الناس ، خف الخطب ، فلو فرضنا تمالؤ الناس كلهم على الترك ، داخلهم الحرج من وجوه عدة ، والشرع طالب لدفع الحرج قطعا ، فصار الترك منهيا عنه نهي كراهة إن لم يكن أشد ، فيكون الفعل إذا مندوبا بالكل إن لم نقل واجبا ، وهكذا العمل بالقراض ، وما ذكر معه ؛ فلا استواء إذا بين الكلي والجزئي فيه ، وبحسبك في المسألة أن الناس لو تمالئوا على الترك ; لكان ذريعة إلى هدم معلم شرعي ، وناهيك به ، نعم قد يسبق ذلك النظر إذا تقارب ما بين الكلي والجزئي ، وأما إذا تباعد ما بينهما فالواقع ما تقدم ، ومثل هذا النظر جار في المندوب والمكروه . وأما ما ذكره في الواجب والمحرم فغير وارد ; فإن اختلاف الأحكام في الحدود ظاهر ، وإن اتفقت في بعض ، وما ذكره الغزالي فلا يسلم بناء على هذه القاعدة ، وإن سلم ففي العدالة وحدها لمعارض راجح ، وهو أنه لو قدح دوام ذلك فيها لندرت العدالة ; فتعذرت الشهادة . [ ص: 221 ] فصل إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة فقد يطلب الدليل على صحتها ، والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم في أثناء التقرير ، بل هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها ، ولكن إن طلب مزيدا في طمأنينة القلب ، وانشراح الصدر ، فيدل على ذلك جمل ، منها : ما تقدمت الإشارة إليه في التجريح بما داوم عليه الإنسان مما لا يجرح به لو لم يداوم عليه ، وهو أصل متفق عليه بين العلماء في الجملة ، ولولا أن للمداومة تأثيرا ، لم يصح لهم التفرقة بين المداوم عليه ، وما لم يداوم عليه من الأفعال ، لكنهم اعتبروا ذلك فدل على التفرقة ، وأن المداوم عليه أشد ، وأحرى منه إذا لم يداوم عليه ، وهو معنى ما تقدم تقريره في الكلية والجزئية ، وهذا المسلك لمن اعتبره كاف . - ومنها : أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق ، وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات ; إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها ، ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك ، بل لولا ذلك لم تجر الكليات على حكم الاطراد كالحكم بالشهادة ، وقبول خبر الواحد مع وقوع الغلط والنسيان في الآحاد ، لكن الغالب الصدق ، فأجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات ، ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق ، ولامتنع الحكم إلا بما هو معلوم ، ولاطرح الظن بإطلاق ، وليس كذلك ; ، بل حكم بمقتضى ظن الصدق ؛ وإن برز [ ص: 222 ] بعد في بعض الوقائع الغلط في ذلك الظن ، وما ذاك إلا اطراح لحكم الجزئية في حكم الكلية ، وهو دليل على صحة اختلاف الفعل الواحد بحسب الكلية والجزئية ، وأن شأن الجزئية أخف . - ومنها : ما جاء في الحذر من زلة العالم ، [ فإن زلة العالم ] في علمه أو عمله ، - إذا لم تتعد لغيره - في حكم زلة غير العالم ، فلم يزد فيها على غيره ; فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها ، وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ، ولم تتعد إلى غيره ; فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والاتباع على ذلك الفعل أو على مقتضى القول ; فصارت عند الاتباع عظيمة جدا ، ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به ، ويجري مجراه كل من علم عملا فاقتدى به فيه ; إن صالحا فصالح ، وإن طالحا فطالح ، وفيه جاء : من سن سنة حسنة أو سيئة ، و إن نفسا لا تقتل ظلما ; إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ; لأنه [ ص: 223 ] أول من سن القتل ، وقد عدت سيئة العالم كبيرة لهذا السبب ، وإن كانت في نفسها صغيرة ، والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها ، وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الجزئية والكلية ، وهو المطلوب . المسألة الثالثة المباح يطلق بإطلاقين : أحدهما : من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك . والآخر من حيث يقال : لا حرج فيه ، وعلى الجملة فهو على أربعة أقسام : [ ص: 224 ] أحدها : أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل . والثاني : أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك . والثالث : أن يكون خادما لمخير فيه . والرابع : أن لا يكون فيه شيء من ذلك . فأما الأول ; فهو المباح بالجزء ، المطلوب الفعل بالكل ، وأما الثاني : فهو المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل ، بمعنى أن المداومة عليه منهي عنها ، وأما الثالث والرابع فراجعان إلى هذا القسم الثاني . ومعنى هذه الجملة ; أن المباح - كما مر - يعتبر بما يكون خادما له إن كان خادما ، والخدمة هنا قد تكون في طرف الترك ; كترك [ ص: 225 ] الدوام على التنزه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ; فإن ذلك هو المطلوب ، وقد يكون في طرف الفعل ; كالاستمتاع بالحلال من الطيبات ; فإن الدوام فيه بحسب الإمكان من غير سرف - مطلوب ، من حيث هو خادم لمطلوب ، وهو أصل الضروريات بخلاف المطلوب الترك ; فإنه خادم لما يضادها ، وهو الفراغ من الاشتغال بها ، والخادم للمخير فيه [ ص: 226 ] على حكمه . وأما الرابع : فلما كان غير خادم لشيء يعتد به كان عبثا أو كالعبث عند العقلاء ، فصار مطلوب الترك [ أيضا ] ; لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا ، فهو إذا خادم [ لمطلوب الترك فصار مطلوب ] الترك بالكل ، والقسم الثالث مثله أيضا لأنه خادم له ; فصار مطلوب الترك أيضا . وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق ، وإنما هو مباح بالجزء خاصة ، وأما بالكل ; فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك . فإن قيل : أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين ؟ [ ص: 227 ] فالجواب أن لا ; لأن ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه ، من غير اعتبار أمر خارج ، وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه ، فإذا نظرت إليه في نفسه ; فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء ، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة ; فهو المسمى بالمطلوب بالكل ، فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس ، قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه ; فلا قصد له في أحد الأمرين ، وهذا معقول واقع بهذا الاعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك ; ، وهو - من جهة ما هو وقاية للحر والبرد ، وموار للسوأة ، وجمال في النظر - مطلوب الفعل ، وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين ، ، ولا بهذا الوقت المعين ، فهو نظر بالكل لا بالجزء . المسألة الرابعة إذا قيل في المباح : إنه لا حرج فيه - وذلك في أحد الإطلاقين المذكورين - ; فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك ; لوجوه : أحدها : أنا إنما فرقنا بينهما بعد فهمنا من الشريعة القصد إلى التفرقة ؛ فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء فيه التخيير بين الفعل والترك ; كقوله تعالى : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم [ البقرة : 223 ] . وقوله : وكلا منها رغدا حيث شئتما [ البقرة : 35 ] . [ ص: 228 ] وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا [ البقرة : 58 ] . والآية الأخرى في معناها ; فهذا تخيير حقيقة . وأيضا ; فالأمر في المطلقات - إذا كان الأمر للإباحة - يقتضي التخيير حقيقة كقوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] . فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] . كلوا من طيبات ما رزقناكم [ الأعراف : 160 ] . وما أشبه ذلك ; فإن إطلاقه - مع أنه يكون على وجوه - واضح في التخيير في تلك الوجوه إلا ما قام الدليل على خروجه عن ذلك . وأما القسم المطلوب الترك بالكل فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا ، بل هو مسكوت عنه أو مشار إلى بعضه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح ; كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها ; فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه ، وجاء : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها [ الجمعة : 11 ] ، وهو الطبل أو ما في معناه ، وقال تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] . وما تقدم من قول بعض الصحابة : حدثنا يا رسول الله - حين ملوا ملة - ; فأنزل الله عز وجل : الله نزل أحسن الحديث [ الزمر : 23 ] . وفي الحديث : كل لهو باطل . [ ص: 229 ] وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تجتمع مع التخيير في الغالب فإذا ورد في الشرع بعض هذه الأمور مقدرة ، أو كان فيها بعض الفسحة في بعض الأوقات أو بعض الأحوال ، فمعنى نفي الحرج على معنى الحديث الآخر ، وما سكت عنه فهو عفو أي مما عفي عنه ، وهذا إنما يعبر به في العادة ، [ ص: 230 ] إشعارا بأن فيه ما يعفى عنه ، أو ما هو مظنة عنه ، أو هو مظنة لذلك فيما تجري به العادات . وحاصل الفرق أن الواحد صريح في رفع الإثم والجناح ، وإن كان قد يلزمه الإذن في الفعل والترك إن قيل به ، إلا أن قصد اللفظ فيه نفي الإثم خاصة ، وأما الإذن فمن باب " ما لا يتم الواجب إلا به " أو من باب " الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا " ، " والنهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده أم لا " ، والآخر صريح في نفس التخيير ، وإن كان قد يلزمه نفي الحرج عن الفعل ; فقصد اللفظ فيه التخيير خاصة ، وأما رفع الحرج ; فمن تلك الأبواب . والدليل عليه أن رفع الجناح قد يكون مع الواجب ; كقوله تعالى : [ ص: 231 ] فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] . وقد يكون مع مخالفة المندوب كقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] . فلو كان رفع للجناح يستلزم التخيير في الفعل والترك ؛ لم يصح مع الواجب ، ولا مع مخالفة المندوب ، وليس كذلك التخيير المصرح به ; فإنه لا يصح مع كون الفعل واجبا دون الترك ، ولا مندوبا ، [ وبالعكس ] . والثاني : أن لفظ التخيير مفهوم منه قصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك ، وأنهما على سواء في قصده ، ورفع الحرج مسكوت عنه ، وأما لفظ رفع الجناح ; فمفهومه قصد الشارع إلى رفع الحرج في الفعل إن وقع من المكلف ، وبقي الإذن في ذلك الفعل مسكوتا عنه ، فيمكن أن يكون مقصودا له ، لكن بالقصد الثاني كما في الرخص ; فإنها راجعة إلى رفع الحرج كما سيأتي بيانه إن شاء الله ، فالمصرح به في أحدهما مسكوت عنه في الآخر ، وبالعكس ، فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع لا حرج فيه ، فلا يؤخذ منه حكم الإباحة ; إذ قد يكون كذلك ; وقد يكون مكروها ; فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه ; فليتفقد هذا في الأدلة . والوجه الثالث : مما يدل على أن ما لا حرج فيه غير مخير فيه على [ ص: 232 ] الإطلاق ، أن المخير فيه لما كان هو الخادم للمطلوب الفعل ، صار خارجا عن محض اتباع الهوى ، بل اتباع الهوى فيه مقيد ، وتابع بالقصد الثاني ، فصار الداخل فيه داخلا تحت الطلب بالكل ، فلم يقع التخيير فيه إلا من حيث الجزء ، ولما كان مطلوبا بالكل وقع تحت الخارج عن اتباع الهوى من هذا الوجه ، وقد عرفنا اعتناء الشارع بالكليات ، والقصد إليها في التكاليف ; فالجزئي الذي لا يخرمه ليس بقادح في مقتضاه ، ولا هو مضاد له ، بل هو مؤكد له ; فاتباع الهوى في المخير فيه تأكيد لاتباع مقصود الشارع من جهة الكلي ، فلا ضرر في اتباع الهوى هنا ؛ لأنه اتباع لقصد الشارع ابتداء ، وإنما اتباع الهوى فيه خادم له . وأما قسم ما لا حرج فيه ; فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم ، ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة ، لكنه لقلته وعدم دوامه ، ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه ; لم يحفل به ، فدخل تحت المرفوع الحرج ; إذ الجزئي منه لا يخرم أصلا مطلوبا ، وإن كان فتحا لبابه في الجملة ، فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي ، حتى يجتمع مع غيره من جنسه ، والاجتماع مقو ، ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه ، وهو المضاد للمطلوب فعله ، وإذا ثبت أنه كاتباع الهوى من غير دخول تحت كلي أمر ، اقتضت الضوابط الشرعية أن لا يكون [ ص: 233 ] مخيرا فيه ; فتصريح بما تقدم في قاعدة اتباع الهوى ، وأنه مضاد للشريعة ، [ والله أعلم وبه التوفيق ] . المسألة الخامسة إن المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط ; فإن خرج عن ذلك القصد كان له حكم آخر ، والدليل على ذلك أن المباح كما تقدم هو : ما خير فيه بين الفعل والترك ، بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام ، فهو إذا من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك ، ولا حاجي ، ولا تكميلي من حيث هو جزئي ، فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة ، وكذلك المباح الذي يقال : " لا حرج فيه " أولى أن يكون راجعا إلى الحظ ، وأيضا ; فالأمر والنهي راجعان إلى حفظ ما هو ضروري أو حاجي أو تكميلي ، وكل واحد منها قد فهم من الشارع قصده إليه ، فما خرج عن ذلك فهو مجرد نيل حظ ، وقضاء وطر . فإن قيل : فما الدليل على انحصار الأمر في المباح في حظ المكلف لا في غير ذلك ، وأن الأمر والنهي راجعان إلى حق الله لا إلى حظ المكلف ؟ ، ولعل [ ص: 234 ] بعض المباحات يصح فيه أن لا يؤخذ من جهة الحظ ، كما صح في بعض المأمورات والمنهيات أن تؤخذ من جهة الحظ . فالجواب أن القاعدة المقررة أن الشرائع إنما جيء بها لمصالح العباد ؛ فالأمر والنهي والتخيير جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه ، لأن الله غني عن الحظوظ منزه عن الأغراض ; غير أن الحظ على ضربين : أحدهما : داخل تحت الطلب ، فللعبد أخذه من جهة الطلب ، فلا يكون ساعيا في حظه ، وهو مع ذلك لا يفوته حظه ، لكنه آخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه ، وهذا معنى كونه بريئا من الحظ ، وقد يأخذه من حيث الحظ ; إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب ، فطلبه من ذلك الوجه - صار حظه تابعا للطلب ، فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ ، وسمي باسمه ، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب ، وبالله التوفيق . والثاني : غير داخل تحت الطلب ; فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره ; لأن الطلب مرفوع عنه بالفرض ، فهو قد أخذه إذا من جهة حظه ، فلهذا يقال في المباح : إنه العمل المأذون فيه ، المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة . المسألة السادسة الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال ، والتروك بالمقاصد ، فإذا عريت عن المقاصد ; لم تتعلق بها ، والدليل على ذلك أمور : أحدها : ما ثبت من أن الأعمال بالنيات ، وهو أصل متفق عليه في [ ص: 235 ] الجملة ، والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع ، ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال ; إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب خطاب الوضع خاصة ، أما في غير ذلك ; فالقاعدة مستمرة ، وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد ; كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات ، والجمادات ، والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ، ولا سمعا ، فكذلك ما كان مثلها . والثاني : ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون ، والنائم ، والصبي ، والمغمى عليه ، وأنها لا حكم لها في الشرع بأن يقال فيها : جائز أو ممنوع أو واجب أو غير ذلك ; كما لا اعتبار بها من البهائم . وفي القرآن وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] . وقال : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] . قال : قد فعلت . [ ص: 236 ] وفي معناه روي الحديث : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وإن لم يصح سندا ; فمعناه متفق على صحته . [ ص: 237 ] وفي الحديث أيضا : رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم ، والمغمى عليه حتى يفيق ; فجميع هؤلاء لا قصد لهم ، وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم . والثالث : الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة ، وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق . فإن قيل : هذا في الطلب ، وأما المباح فلا تكليف فيه ، قيل : متى صح تعلق التخيير ، صح تعلق الطلب ، وذلك يستلزم قصد المخير ، وقد فرضناه غير قاصد ، هذا خلف . ولا يعترض هذا بتعلق الغرامات والزكاة بالأطفال ، والمجانين ، وغير ذلك ; لأن هذا من قبيل خطاب الوضع ، وكلامنا في خطاب التكليف ، ولا [ ص: 238 ] بالسكران ; لقوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] ; فإنه قد أجيب عنه في أصول الفقه ، ولأنه في عقوده وبيوعه محجور عليه لحق نفسه كما حجر على الصبي والمجنون ، وفي سواهما ، لما أدخل السكر على نفسه ; كان كالقاصد لرفع الأحكام التكليفية ; فعومل بنقيض المقصود ، أو لأن الشرب سبب لمفاسد كثيرة ، فصار استعماله له تسببا في تلك المفاسد ، فيؤاخذه الشرع بها ، وإن لم يقصدها كما وقعت مؤاخذة أحد ابني آدم بكل نفس تقتل ظلما ، وكما يؤاخذ الزاني بمقتضى المفسدة في اختلاط الأنساب ، وإن لم يقع منه غير الإيلاج المحرم ، ونظائر ذلك كثيرة ، فالأصل صحيح ، والاعتراض عليه غير وارد . [ ص: 239 ] المسألة السابعة المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم من الاعتبار المتقدم ، وجدته خادما للواجب ; لأنه إما مقدمة له ، أو تكميل له ، أو تذكار به ، كان من جنس الواجب أولا . فالذي من جنسه كنوافل الصلوات مع فرائضها ، ونوافل الصيام ، والصدقة ، والحج ، وغير ذلك مع فرائضها ، والذي من غير جنسه كطهارة الخبث في الجسد ، والثوب ، والمصلى ، والسواك ، وأخذ الزينة ، وغير ذلك مع الصلاة ، وكتعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، وكف اللسان عما لا يعني مع الصيام ، وما أشبه ذلك . فإذا كان كذلك ; فهو لاحق بقسم الواجب بالكل ، وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبا بالكل والجزء ، ويحتمل هذا المعنى تقريرا ، ولكن ما تقدم مغن عنه بحول الله . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (15) صـ239 إلى صـ 259 فصل المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع ، كان كالمندوب مع الواجب ، وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودا ، وهو أعظمها ، ومنه ما يكون وسيلة وخادما للمقصود ، كطهارة الحدث ، وستر العورة ، واستقبال القبلة ، والأذان للتعريف بالأوقات ، وإظهار شعائر الإسلام مع الصلاة ، فمن حيث كان وسيلة حكمه مع المقصود حكم المندوب مع الواجب ، يكون وجوبه بالجزء دون وجوبه بالكل ، وكذلك بعض الممنوعات ؛ منه ما يكون مقصودا ، ومنه ما يكون وسيلة له ، كالواجب حرفا بحرف ، فتأمل ذلك . المسألة الثامنة ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعا ، ولا عتب ، ولا ذم ، وإنما العتب والذم في إخراجه عن وقته ، سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا لأمرين : أحدهما : أن حد الوقت إما أن يكون لمعنى قصده الشارع أو لغير معنى ، وباطل أن يكون لغير معنى ، فلم يبق إلا أن يكون لمعنى ، وذلك المعنى [ ص: 241 ] هو أن يوقع الفعل فيه ، فإذا وقع فيه فذلك مقصود الشارع من ذلك التوقيت ، وهو يقتضي قطعا موافقة الأمر في ذلك الفعل الواقع فيه ، فلو كان فيه عتب أو ذم ، للزم أن يكون لمخالفة قصد الشارع في إيقاعه في ذلك الوقت الذي وقع فيه العتب بسببه ، وقد فرضناه موافقا ، هذا خلف . والثاني : أنه لو كان كذلك ; للزم أن يكون الجزء من الوقت الذي وقع فيه العتب ليس من الوقت المعين ، لأنا قد فرضنا الوقت المعين مخيرا في أجزائه إن كان موسعا ، والعتب مع التخيير متنافيان ، فلا بد أن يكون خارجا عنه ، وقد فرضناه جزءا من أجزائه ، هذا خلف محال ، وظهور هذا المعنى غير محتاج إلى دليل . فإن قيل : قد ثبت أصل طلب المسارعة إلى الخيرات ، والمسابقة إليها ، وهو أصل قطعي ، وذلك لا يختص ببعض الأوقات دون بعض ، ولا ببعض الأحوال دون بعض ، وإذا كان السبق إلى الخيرات مطلوبا بلا بد ; فالمقصر عنه معدود في المقصرين ، والمفرطين ، ولا شك أن من كان هكذا ; فالتعب لاحق به في تفريطه وتقصيره ، فكيف يقال : لا عتب عليه ؟ ويدل على تحقيق هذا ما روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه لما سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله قال : [ ص: 242 ] رضوان الله أحب إلينا من عفوه ; فإن رضوانه للمحسنين ، وعفوه عن المقصرين . وفي مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا ; فقد قال في المسافرين يقدمون [ ص: 243 ] الرجل لسنه يصلي بهم فيسفر بصلاة الصبح ، قال : " يصلي الرجل وحده في أول الوقت أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار في جماعة " فقدم كما ترى حكم المسابقة ، ولم يعتبر الجماعة التي هي سنة يعد من تركها مقصرا ; فأولى أن يعد من ترك المسابقة مقصرا . وجاء عنه أيضا فيمن أفطر في رمضان لسفر أو مرض ، ثم قدم أو صح في غير شعبان من شهور القضاء ، فلم يصمه حتى مات ; فعليه الإطعام ، وجعله مفرطا ، كمن صح أو قدم في شعبان ; فلم يصمه حتى دخل رمضان الثاني ، مع أن القضاء ليس على الفور عنده . قال اللخمي : جعله مترقبا ليس على الفور ، ولا على التراخي ، فإن قضى في شعبان مع القدرة عليه قبل شعبان فلا إطعام لأنه غير مفرط ، وإن مات قبل شعبان فمفرط ، وعليه الإطعام ، نحو قول الشافعية في الحج : إنه على التراخي ; فإن مات قبل الأداء كان آثما فهذا أيضا - رأي الشافعية - مضاد لمقتضى الأصل المذكور . فأنت ترى أوقاتا معينة شرعا ; إما بالنص ، وإما بالاجتهاد ، ثم صار من قصر عن المسابقة فيها ملوما معاتبا ، بل آثما في بعضها ، وذلك مضاد لما [ ص: 244 ] تقدم . فالجواب : أن أصل المسابقة إلى الخيرات لا ينكر ; غير أن ما عين له وقت معين من الزمان هل يقال : إن إيقاعه في وقته المعين له مسابقة ; فكيف يكون الأصل المذكور شاملا له ، أم يقال : ليس شاملا له ؟ والأول هو الجاري على مقتضى الدليل فيكون قوله عليه السلام حين سئل عن أفضل الأعمال فقال : الصلاة لأول وقتها يريد به وقت الاختيار مطلقا ، ويشير إليه أنه عليه السلام حين علم الأعرابي الأوقات صلى في أوائل الأوقات وأواخرها ، وحد ذلك حدا لا يتجاوز ، ولم ينبه فيه على تقصير ، وإنما نبه على التقصير والتفريط بالنسبة إلى ما بعد ذلك من أوقات الضرورات إذا صلى فيها من لا ضرورة له ; إذ قال : تلك صلاة المنافقين الحديث ; [ ص: 245 ] فبين أن وقت التفريط هو الوقت الذي تكون الشمس فيه بين قرني الشيطان . فإنما ينبغي أن يخرج عن وصف المسابقة والمسارعة ، من خرج عن الإيقاع في ذلك الوقت المحدد ، وعند ذلك يسمى مفرطا ومقصرا وآثما أيضا عند بعض الناس ، وكذلك الواجبات الفورية . وأما المقيدة بوقت العمر ; فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول ، كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة في أول أزمنة الإمكان ; فإن العاقبة مغيبة ، فإذا عاش المكلف ما في مثله يؤدى ذلك المطلوب ، فلم يفعل مع سقوط الأعذار - عد ولا بد مفرطا ، وأثمه الشافعي ; لأن المبادرة هي المطلوب ، لا أنه على التحقيق مخير بين أول الوقت وآخره ; فإن آخره غير معلوم ، وإنما المعلوم منه ما في اليد الآن ، فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور ; فلا تعود عليه بنقض . وأيضا ; فلا ينكر استحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين ، لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا ، وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة ، وهذا كما في الواجب المخير في خصال الكفارة ; فإن للمكلف الاختيار في الأشياء المخير فيها ، وإن كان الأجر فيها يتفاوت فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض ، كما يقول بذلك مالك في الإطعام في كفارة رمضان مع وجود التخيير في الحديث ، وقول مالك به ، وكذلك العتق في كفارة الظهار أو القتل أو غيرهما ; هو مخير في أي الرقاب شاء ، مع أن الأفضل أعلاها ثمنا ، [ ص: 246 ] وأنفسها عند أهلها ، ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه ، ولا يعد مختار غير الأعلى مقصرا ، ولا مفرطا ، وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام في كفارة اليمين ، وما أشبه ذلك من المطلقات التي ليس للشارع قصد في تعيين بعض أفرادها مع حصول الفضل في الأعلى منها ، وكما أن الحج ماشيا أفضل ، ولا يعد الحاج راكبا مفرطا ، ولا مقصرا ، وكثرة الخطا إلى المساجد أفضل من قلتها ، ولا يعد من كان جار المسجد بقلة خطاه له مقصرا ، بل المقصر هو الذي قصر عما حد له ، وخرج عن مقتضى الأمر المتوجه إليه ، وليس في مسألتنا ذلك . وأما حديث أبي بكر - رضي الله عنه - فلم يصح ، وإن فرضنا صحته فهو معارض بالأصل القطعي ، وإن سلم فمحمول على التأخير عن جميع الوقت المختار ، وإن سلم ; فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور ، لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر . وأما مسائل مالك ; فلعل استحبابه لتقديم الصلاة ، وترك الجماعة - مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة ، وكان الإمام قد أخر إليه ، وما ذكر في إطعام التفريط في قضاء رمضان ، بناء على القول بالفور في القضاء - فلا يتعين فيها ما ذكر في السؤال ; فلا اعتراض بذلك ، وبالله التوفيق . المسألة التاسعة الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين - كانت من حقوق الله ; كالصلاة ، والصيام ، والحج ، أو من حقوق الآدميين كالديون ، والنفقات ، والنصيحة ، وإصلاح ذات البين ، وما أشبه ذلك - : أحدهما : حقوق محدودة شرعا . [ ص: 247 ] والآخر حقوق غير محدودة . فأما المحدودة المقدرة ; فلازمة لذمة المكلف مترتبة عليه دينا ، حتى يخرج عنها ، كأثمان المشتريات ، وقيم المتلفات ، ومقادير الزكوات ، وفرائض الصلوات ، وما أشبه ذلك ; فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته دينا عليه . والدليل على ذلك التحديد والتقدير ; فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين ، فإذا لم يؤده فالخطاب باق عليه ، ولا يسقط عنه إلا بدليل . وأما غير المحدودة فلازمة له ، وهو مطلوب بها ، غير أنها لا تترتب في ذمته ؛ لأمور : أحدها : أنها لو ترتبت في ذمته لكانت محدودة معلومة ; إذ المجهول لا يترتب في الذمة ، ولا يعقل نسبته إليها ، فلا يصح أن يترتب دينا ، وبهذا استدللنا على عدم الترتب ; لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار ، والتكليف بأداء ما لا يعرف له مقدار - تكليف بمتعذر الوقوع ، وهو ممتنع سمعا . ومثاله : الصدقات المطلقة ، وسد الخلات ، ودفع حاجات المحتاجين ، وإغاثة الملهوفين ، وإنقاذ الغرقى ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات . [ ص: 248 ] فإذا قال الشارع : وأطعموا القانع والمعتر [ الحج : 36 ] أو قال : " اكسوا العاري " أو وأنفقوا في سبيل الله [ البقرة : 195 ] ; فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار ، فإذا تعينت حاجة تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص ، فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه ، وسد خلته ، بمقتضى ذلك الإطلاق ; فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التي من أجلها أمر ابتداء ، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين ; فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع ، فيحتاج إلى مقدار من الطعام ، فإذا تركه حتى أفرط عليه ; احتاج إلى أكثر منه ، وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا ، [ وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه ، فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به ] . فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان ، لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة ، وهذا معنى كونه مجهولا ، فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر لا بمقتضى النص ، فإذا زال الوقت الحاضر صار في الثاني مكلفا بشيء آخر لا بالأول ، أو سقط عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة . والثاني : أنه لو ترتب في ذمته أمر ; لخرج إلى ما لا يعقل لأنه في كل وقت [ ص: 249 ] من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها ، فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا ، ثم لم يفعل فترتب في ذمته ، ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد ، فإما أن يقال : إنه مكلف أيضا بسدها أولا ، والثاني باطل ; إذ ليس هذا الثاني بأولى بالسقوط من الأول ; لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة فيرتفع التكليف ، والخلة باقية ، هذا محال ; فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت ، وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد - قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية ، وهذا غير معقول في الشرع . والثالث : أن هذا يكون عينا أو كفاية ، وعلى كل تقدير يلزم إذا لم يقم به أحد أن يترتب إما في ذمة واحد غير معين ، وهو باطل لا يعقل ، وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا ، فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد ، أو غير مقسط ، فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم ، وهو باطل كما تقدم . والرابع : لو ترتب في ذمته لكان عبثا ، ولا عبث في التشريع ; فإنه إذا كان المقصود دفع الحاجة ; فعمران الذمة ينافي هذا المقصد ; إذ المقصود إزالة هذا العارض ، لا غرم قيمة العارض ، فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب ; كان عبثا غير صحيح . لا يقال : إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها ; إذ المقصود بها سد [ ص: 250 ] الخلات ، وهي تترتب في الذمة . لأنا نقول : نسلم أن المقصود ما ذكرت ، ولكن الحاجة التي تسد بالزكاة غير متعينة على الجملة ; ألا ترى أنها تؤدى اتفاقا وإن لم تظهر عين الحاجة ؟ فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة ، فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها ، بخلاف ما نحن فيه ; فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها ، ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره ، بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب ، فالمال غير مطلوب لنفسه فيها ، فلو ارتفع العارض بغير شيء لسقط الوجوب ، والزكاة ونحوها لا بد من بذلها ، وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت ، ولذلك عينت ، وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم . فإن قيل : لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة ، لكان مانعا من أصل التكليف أيضا ; لأن العلم بالمكلف به شرط في التكليف ; إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق فلو قيل لأحد : أنفق مقدارا لا تعرفه أو صل صلوات لا تدري كم هي أو انصح من لا تدريه ولا تميزه ، وما أشبه ذلك ، لكان تكليفا بما لا يطاق ; إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي ، وإذا علم بالوحي ; صار معلوما لا مجهولا ، والتكليف بالمعلوم صحيح ، هذا خلف . فالجواب : أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع ; كما لو قال : أعتق رقبة ، وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان ، فهذا [ ص: 251 ] هو الممتنع ، أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف ؛ فالتكليف به صحيح ، كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة ; إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقي ، فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة ، فما لم يتعين فيه خلة فلا طلب ، فإذا تعينت وقع الطلب ، هذا هو المراد هنا ، وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره . وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين ; فلم يتمحض لأحدهما ، هو محل اجتهاد كالنفقة على الأقارب ، والزوجات ، ولأجل ما فيه من الشبه بالضربين ، اختلف الناس فيه : هل له ترتب في الذمة أم لا ؟ فإذا ترتب فلا يسقط بالإعسار ، فالضرب الأول لاحق بضروريات الدين ، ولذلك محض بالتقدير ، والتعيين ، والثاني لاحق بقاعدة التحسين ، والتزيين ، ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين ، والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين ; فلا بد فيه من النظر في كل واقعة على التعيين ، والله أعلم . [ ص: 252 ] فصل وربما انضبط الضربان الأولان بطلب العين والكفاية ; فإن حاصل الأول أنه طلب مقدر على كل عين من أعيان المكلفين ، وحاصل الثاني إقامة الأود العارض في الدين وأهله ; وإلا أن هذا الثاني قد يدخل فيه ما يظن أنه طلب عين ، ولكنه لا يصير طلبا متحتما في الغالب إلا عند كونه كفاية ; كالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وأما إذا لم يتحتم فهو مندوب ، وفروض الكفايات مندوبات على الأعيان فتأمل هذا الموضع ، وأما الضرب الثالث ; فآخذ شبها من الطرفين أيضا ; فلذلك اختلفوا في تفاصيله حسبما ذكره الفقهاء ، والله أعلم . [ ص: 253 ] المسألة العاشرة يصح أن يقع بين الحلال والحرام مرتبة العفو ، فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة هكذا على الجملة ، ومن الدليل على ذلك أوجه : أحدها : ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين مع القصد إلى الفعل ، وأما دون ذلك فلا ، وإذا لم يتعلق بها حكم منها مع وجدانه ، ممن شأنه أن تتعلق به ، فهو معنى العفو المتكلم فيه ، أي : لا مؤاخذة به . والثاني : ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص ، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها . [ ص: 254 ] وقال ابن عباس : " ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض - صلى الله عليه وسلم - كلها في القرآن : ويسألونك عن المحيض [ البقرة : 222 ] . ويسألونك عن اليتامى [ البقرة : 220 ] . يسألونك عن الشهر الحرام [ البقرة : 217 ] . ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم " . يعني : أن هذا كان الغالب عليهم . [ ص: 255 ] وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : " ما لم يذكر في القرآن ; فهو مما عفا الله عنه " ، وكان يسأل عن الشيء لم يحرم ; فيقول : عفو ، وقيل له : ما تقول في أموال أهل الذمة ، فقال : العفو ، [ يعني لا تؤخذ منهم زكاة ] . وقال عبيد بن عمير : " أحل الله حلالا ، وحرم حراما ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو " . والثالث : ما يدل على هذا المعنى في الجملة ; [ ص: 256 ] كقوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم الآية [ التوبة : 43 ] ; فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص . وقد ثبت في الشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد ، حسبما بسطه الأصوليون ، ومنه قوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 68 ] . وقد كان النبي عليه السلام يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم ، بناء على حكم البراءة الأصلية ; إذ هي راجعة إلى هذا المعنى ، ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها ، وقد قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته . وقال : ذروني ما تركتكم ; فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، ما نهيتكم عنه فانتهوا ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم . [ ص: 257 ] وقرأ عليه السلام قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت الآية [ آل عمران : 97 ] ; فقال رجل : يا رسول الله أكل عام ، فأعرض ، ثم قال يا رسول الله أكل عام ، فأعرض ، ثم قال : يا رسول الله أكل عام ، فقال رسول الله : والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو لم تقوموا بها لكفرتم ، فذروني ما تركتكم ، ثم ذكر معنى ما تقدم . وفي مثل هذا نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية [ المائدة : 101 ] . ثم قال : عفا الله عنها [ المائدة : 101 ] . أي : عن تلك الأشياء ; فهي إذا عفو . وقد كره عليه السلام المسائل ، وعابها ، ونهى عن كثرة السؤال ، وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب ، فذكر الساعة ، وذكر قبلها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا ، قال أنس : فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك ، وأكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : سلوني ، فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي ؟ قال : أبوك حذافة ، فلما أكثر أن يقول سلوني ، برك عمر بن الخطاب على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال عمر ذلك [ ص: 258 ] فنزلت الآية ، وقال أولا : والذي نفسي بيده ; لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي ، فلم أر كاليوم في الخير والشر ، وظاهر من هذا المساق أن قوله : سلوني في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال حتى يروا عاقبة السؤال ، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى : إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] ، وقد ظهر من هذه الجملة ما يعفى عنه ، وهو ما نهي عن السؤال عنه . فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه أيضا ; فلما سكت عن التكرار كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته ، وإن فرض أن الاحتمال الآخر مراد ، فهو مما يعفى عنه ، ومثل هذا قصة أصحاب البقرة لما شددوا بالسؤال ، - وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاءوا - ; شدد عليهم حتى ذبحوها ، وما كادوا يفعلون [ البقرة : 71 ] . [ ص: 259 ] فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه ، وعن حكمه ، ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه ، فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة ، وأنها ليست من الأحكام الخمسة . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (16) صـ260 إلى صـ 277 فصل ويظهر هذا المعنى في مواضع من الشريعة ، منها ما يكون متفقا عليه - ومنها ما يختلف فيه . - فمنها : الخطأ والنسيان ; فإنه متفق على عدم المؤاخذة به ، فكل فعل صدر عن غافل أو ناس أو مخطئ فهو مما عفي عنه ، وسواء علينا أفرضنا تلك الأفعال مأمورا بها أو منهيا عنها أم لا ; لأنها إن لم تكن منهيا عنها ، ولا مأمورا بها ، ولا مخيرا فيها - فقد رجعت إلى قسم ما لا حكم له في الشرع ، وهو معنى العفو ، وإن تعلق بها الأمر والنهي ؛ فمن شرط المؤاخذة به ذكر الأمر والنهي ، والقدرة على الامتثال ، وذلك في المخطئ والناسي والغافل محال ، ومثل ذلك النائم ، والمجنون ، والحائض ، وأشباه ذلك . - ومنها : الخطأ في الاجتهاد ، وهو راجع إلى الأول ، وقد جاء [ ص: 260 ] في القرآن عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : 43 ] . وقال لولا كتاب من الله سبق الآية [ الأنفال : 68 ] . - ومنها : الإكراه ، كان مما يتفق عليه أو مما يختلف فيه ، إذا قلنا بجوازه فهو راجع إلى العفو ، كان الأمر والنهي باقيين عليه أو لا ; فإن حاصل ذلك أن تركه لما ترك ، وفعله لما فعل - لا حرج عليه فيه . - ومنها : الرخص كلها على اختلافها ; فإن النصوص دلت على ذلك ؛ حيث نص على رفع الجناح ، ورفع الحرج ، وحصول المغفرة ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة ; لأنها إن كانت مباحة فلا إشكال ، وإن كانت مطلوبة فيلزمها العفو عن نقيض المطلوب ، فأكل الميتة إذا قلنا بإيجابه فلابد أن يكون نقيضه ، وهو الترك ، معفوا عنه ، وإلا لزم اجتماع النقيضين في التكليف بهما ، وهو محال ، ومرفوع عن الأمة . - ومنها : الترجيح بين الدليلين عند تعارضهما ، ولم يمكن الجمع ، فإذا ترجح أحد الدليلين كان مقتضى المرجوح في حكم العفو ; لأنه إن لم يكن كذلك لم يمكن الترجيح ، فيؤدي إلى رفع أصله ، وهو ثابت بالإجماع ، ولأنه يؤدي إلى الخطاب بالنقيضين ، وهو باطل ، وسواء علينا أقلنا ببقاء الاقتضاء في الدليل المرجوح ، وإنه في حكم الثابت ، أم قلنا : إنه في حكم العدم ؛ لا فرق بينهما في لزوم العفو . - ومنها : العمل على مخالفة دليل لم يبلغه أو على موافقة دليل بلغه ، وهو في نفس الأمر منسوخ أو غير صحيح ; لأن الحجة لم تقم عليه بعد ; إذ لا [ ص: 261 ] بد من بلوغ الدليل إليه ، وعلمه به ، وحينئذ تحصل المؤاخذة به ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق . - ومنها : الترجيح بين الخطابين عند تزاحمهما ، ولم يمكن الجمع بينهما ، لا بد من حصول العفو بالنسبة إلى المؤخر حتى يحصل المقدم ; لأنه الممكن في التكليف بهما ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وهو مرفوع شرعا . - ومنها : ما سكت عنه فهو عفو ; لأنه إذا كان مسكوتا عنه مع وجود مظنته ، فهو دليل على العفو فيه ، وما تقدم من الأمثلة في الأدلة السابقة فهو مما يصح التمثيل به ، والله أعلم . فصل ولمانع مرتبة العفو أن يستدرك عليه بأوجه : أحدها : أن أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون ; إما أن تكون بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف ، وهو الاقتضاء أو التخيير ، أو لا تكون بجملتها داخلة ; فإن كانت بجملتها داخلة ، فلا زائد على الأحكام الخمسة ، وهو المطلوب ، وإن لم تكن داخلة بجملتها لزم أن يكون بعض المكلفين خارجا عن حكم خطاب التكليف ، ولو في وقت أو حالة ما ، لكن ذلك باطل ؛ لأنا فرضناه مكلفا ; فلا يصح خروجه ، فلا زائد على الأحكام الخمسة . والثاني : أن هذا الزائد إما أن يكون حكما شرعيا أو لا ; فإن لم يكن حكما شرعيا فلا اعتبار به . [ ص: 262 ] والذي يدل على أنه ليس حكما شرعيا أنه مسمى بالعفو ، والعفو إنما يتوجه حيث يتوقع للمكلف حكم المخالفة لأمر أو نهي ، وذلك يستلزم كون المكلف به قد سبق حكمه ، فلا يصح أن يتوارد عليه حكم آخر لتضاد الأحكام . وأيضا ; فإن العفو إنما هو حكم أخروي لا دنيوي ، وكلامنا في الأحكام المتوجهة في الدنيا . وأما إن كان العفو حكما شرعيا ; فإما من خطاب التكليف ، أو من خطاب الوضع ، وأنواع خطاب التكليف محصورة في الخمسة ، وأنواع خطاب الوضع محصورة أيضا في الخمسة التي ذكرها الأصوليون ، وهذا ليس منها ، فكان لغوا . والثالث : أن هذا الزائد إن كان راجعا إلى المسألة الأصولية ، وهي أن يقال : هل يصح أن يخلو بعض الوقائع عن حكم الله أم لا ، فالمسألة مختلف فيها ، فليس إثباتها أولى من نفيها إلا بدليل ، والأدلة فيها متعارضة ، فلا يصح إثباتها إلا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه . وأيضا ; إن كانت اجتهادية فالظاهر نفيها بالأدلة المذكورة في كتب الأصول ، وإن لم تكن راجعة إلى تلك المسألة فليست بمفهومة ، وما تقدم من الأدلة على إثبات مرتبة العفو لا دليل فيه ، فالأدلة النقلية غير مقتضية للخروج عن الأحكام الخمسة ; لإمكان الجمع بينهما ، ولأن العفو أخروي . وأيضا ; فإن سلم للعفو ثبوت ، ففي زمانه عليه السلام لا في غيره ، ولإمكان تأويل تلك الظواهر ، وما ذكر من أنواعه فداخلة أيضا تحت الخمسة ; [ ص: 263 ] فإن العفو فيها راجع إلى رفع حكم الخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، والحرج ، وذلك يقتضي إما الجواز بمعنى الإباحة ، وإما رفع ما يترتب على المخالفة من الذم وتسبيب العقاب ، وذلك يقتضي إثبات الأمر والنهي مع رفع آثارهما لمعارض ، فارتفع الحكم بمرتبة العفو ، وأن يكون أمرا زائدا على الخمسة ، وفي هذا المجال أبحاث أخر . فصل وللنظر في ضوابط ما يدخل تحت العفو - إن قيل - به نظر ; فإن الاقتصار به على محال النصوص نزغة ظاهرية ، والانحلال في اعتبار ذلك على الإطلاق خرق لا يرقع ، والاقتصار فيه على بعض المحال دون بعض تحكم يأباه المعقول والمنقول ، فلا بد من وجه يقصد نحوه في المسألة حتى تتبين بحول الله ، والقول في ذلك ينحصر في ثلاثة أنواع : أحدها : الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض قصد نحوه وإن قوي معارضه . والثاني : الخروج عن مقتضاه عن غير قصد أو عن قصد ، لكن بالتأويل . والثالث : العمل بما هو مسكوت عن حكمه رأسا . فأما الأول : فيدخل تحته العمل بالعزيمة ، وإن توجه حكم الرخصة ظاهرا ; فإن العزيمة لما توخيت على ظاهر العموم أو الإطلاق ؛ كان الواقف معها واقفا على دليل مثله معتمد على الجملة ، وكذلك العمل بالرخصة ، وإن [ ص: 264 ] توجه حكم العزيمة ; فإن الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج ، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف ، وكلاهما أصل كلي ، فالرجوع إلى حكم الرخصة وقوف مع ما مثله معتمد . لكن لما كان أصل رفع الحرج واردا على أصل التكليف ورود المكمل ، ترجح جانب أصل العزيمة بوجه ما ، غير أنه لا يخرم أصل الرجوع ; لأن بذلك المكمل قيام أصل التكليف . وقد اعتبر في مذهب مالك هذا ، ففيه : إن سافر في رمضان أقل من أربعة برد ، فظن أن الفطر مباح به فأفطر ، فلا كفارة عليه ، وكذلك من أفطر فيه بتأويل ، وإن كان أصله غير علمي ، بل هذا جار في كل متأول ; كشارب المسكر ظانا أنه غير مسكر ، وقاتل المسلم ظانا أنه كافر ، وآكل المال الحرام عليه ظانا أنه حلال له ، والمتطهر بماء نجس ظانا أنه طاهر ، وأشباه ذلك ، ومثله المجتهد المخطئ في اجتهاده . وقد خرج أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جاء يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فسمعه يقول : اجلسوا ، فجلس بباب المسجد ، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : تعال يا عبد الله بن مسعود . فظاهر من هذا أنه رأى الوقوف [ ص: 265 ] مع مجرد الأمر ، وإن قصد غيره ، مسارعة إلى امتثال أوامره . وسمع عبد الله بن رواحة وهو بالطريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يقول : اجلسوا ، فجلس في الطريق ، فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما شأنك . فقال : سمعتك تقول : اجلسوا ، فجلست . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - زادك الله طاعة ، [ ص: 266 ] وظاهر هذه القصة أنه لم يقصد بالأمر بالجلوس ، ولكنه لما سمع ذلك سارع إلى امتثاله ، ولذلك سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه جالسا في غير موضع جلوس . وقد قال عليه السلام : لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة ، فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلي ، ولم يرد منا ذلك . فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحدة من الطائفتين . ويدخل هاهنا كل قضاء قضى به القاضي من مسائل الاجتهاد ، ثم يتبين له خطؤه ما لم يكن قد أخطأ نصا أو إجماعا أو بعض القواطع ، وكذلك الترجيح بين الدليلين ; فإنه وقوف مع أحدهما وإهمال للآخر ، فإذا فرض مهملا للراجح فذلك لأجل وقوفه مع المرجوح ، وهو في الظاهر دليل يعتمد مثله ، وكذلك العمل بدليل منسوخ أو غير صحيح ; فإنه وقوف مع ظاهر دليل يعتمد [ ص: 267 ] مثله في الجملة ، فهذه وأمثالها مما يدخل تحت معنى العفو المذكور . وإنما قلنا : " الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض " ، فشرط فيه المعارضة لأنه إن كان غير معارض لم يدخل تحت العفو ، لأنه أمر أو نهي أو تخيير عمل على وفقه ، فلا عتب يتوهم فيه ، ولا مؤاخذة تلزمه بحكم الظاهر ، فلا موقع للعفو فيه . وإنما قيل : " وإن قوي معارضه " لأنه إن لم يقو معارضه لم يكن من هذا النوع ، بل من النوع الذي يليه على إثر هذا ; فإنه ترك لدليل ، وهنا وإن كان إعمالا لدليل أيضا ; فأعماله من حيث هو أقوى عند الناظر أو في نفس الأمر ، كإعمال الدليل غير المعارض ; فلا عفو فيه . وأما النوع الثاني ، وهو الخروج عن مقتضى الدليل عن غير قصد أو عن قصد ، لكن بالتأويل ، فمنه الرجل يعمل عملا على اعتقاد إباحته ; لأنه لم يبلغه دليل تحريمه أو كراهيته ، أو يتركه معتقدا إباحته إذا لم يبلغه دليل وجوبه أو ندبه ، كقريب العهد بالإسلام لا يعلم أن الخمر محرمة فيشربها ، أو لا يعلم [ ص: 268 ] أن غسل الجنابة واجب ، فيتركه ، وكما اتفق في الزمان الأول حين لم تعلم الأنصار طلب الغسل من التقاء الختانين ، ومثل هذا كثير يتبين للمجتهدين ، وقد روي عن مالك أنه كان لا يرى تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ، ويراه من التعمق ، حتى بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل ; فرجع إلى القول به ، وكما اتفق لأبي يوسف مع مالك في المد والصاع ، حتى رجع إلى القول بذلك . ومن ذلك العمل على المخالفة خطأ أو نسيانا ، ومما يروى من الحديث : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ; فإن صح [ ص: 269 ] فذلك ، وإلا فالمعنى متفق عليه . ومما يجري مجرى الخطأ والنسيان في أنه من غير قصد ، وإن وجد القصد - الإكراه المضمن في الحديث ، وأبين من هذا العفو عن عثرات ذوي الهيئات ; فإنه ثبت في الشرع إقالتهم في الزلات ، وأن لا يعاملوا بسببها معاملة غيرهم ، جاء في الحديث : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ، وفي حديث آخر : تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة والصلاح ، وروي العمل بذلك عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ; فإنه قضى به في رجل من آل عمر بن الخطاب شج رجلا ، وضربه فأرسله ; وقال : أنت من ذوي الهيئات . وفي خبر آخر : عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال : استأدى علي مولى لي جرحته يقال : له سلام البربري إلى ابن حزم فأتاني فقال : جرحته ؟ قلت : نعم . قال : سمعت خالتي عمرة تقول : [ ص: 270 ] قالت عائشة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم فخلى [ ص: 271 ] سبيله ، ولم يعاقبه . وهذا أيضا من شئون رب العزة سبحانه ; فإنه قال : " ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " الآية [ النجم : 31 - 32 ] ، لكنها أحكام أخروية ، وكلامنا في الأحكام الدنيوية . ويقرب من هذا المعنى درء الحدود بالشبهات ; فإن الدليل يقوم هنالك مفيدا للظن في إقامة الحد ، ومع ذلك فإذا عارضه شبهة وإن ضعفت ، غلب [ ص: 272 ] حكمها ، ودخل صاحبها في حكم العفو ، وقد يعد هذا المجال مما خولف فيه الدليل بالتأويل ، وهو من هذا النوع أيضا ، ومثال مخالفته بالتأويل مع المعرفة بالدليل ، ما وقع في الحديث في تفسير قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية [ المائدة : 93 ] عن قدامة بن مظعون حين قال لعمر بن الخطاب : إن كنت شربتها فليس لك أن تجلدني ، قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية [ المائدة : 93 ] . فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله . قال القاضي إسماعيل : وكأنه أراد أن هذه الحالة تكفر ما كان من شربه ; لأنه كان ممن اتقى وآمن وعمل الصالحات ، وأخطأ في التأويل ، بخلاف من استحلها ; كما في حديث علي - رضي الله عنه - ، ولم يأت في حديث قدامة أنه حد . [ ص: 273 ] ومما وقع في المذهب في المستحاضة تترك الصلاة زمانا جاهلة بالعمل - أنه لا قضاء عليها فيما تركت ، قال في مختصر ما ليس في المختصر : لو طال بالمستحاضة والنفساء الدم فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر ، ولا المستحاضة شهرا ، لم يقضيا ما مضى إذا تأولنا في ترك الصلاة دوام ما بهما من الدم ، وقيل في المستحاضة : إذا تركت بعد أيام أقرائها يسيرا أعادته ، وإن كان كثيرا فليس عليها قضاؤه بالواجب ، وفي سماع أبي زيد عن مالك : أنها إذا تركت الصلاة بعد الاستظهار جاهلة ، لا تقضي صلاة تلك الأيام ، واستحب ابن القاسم لها القضاء ; فهذا كله مخالفة للدليل مع الجهل والتأويل ; فجعلوه من قبيل العفو ، ومن ذلك أيضا المسافر يقدم قبل الفجر ، فيظن أن من لم يدخل قبل غروب الشمس فلا صوم له ، أو تطهر الحائض قبل طلوع الفجر ; فتظن أنه لا يصح صومها حتى تطهر قبل الغروب ، فلا كفارة هنا ، وإن خالف الدليل لأنه متأول ، وإسقاط الكفارة هو معنى العفو . وأما النوع الثالث ، وهو العمل بما هو مسكوت عن حكمه ففيه نظر ، فإن خلو بعض الوقائع عن حكم لله - مما اختلف فيه ، فأما على القول بصحة [ ص: 274 ] الخلو ، فيتوجه النظر ، وهو مقتضى الحديث وما سكت عنه فهو عفو ، وأشباهه مما تقدم . وأما على القول الآخر فيشكل الحديث ; إذ ليس ثم مسكوت عنه بحال ، بل هو إما منصوص ، وإما مقيس على منصوص ، والقياس من جملة الأدلة الشرعية ، فلا نازلة إلا ولها في الشريعة محل حكم ; فانتفى المسكوت عنه إذا ، ويمكن أن يصرف السكوت على هذا القول إلى ترك الاستفصال مع وجود مظنته ، وإلى السكوت عن مجاري العادات مع استصحابها في الوقائع ، وإلى السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم عليه السلام . فالأول : كما في قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ المائدة : 5 ] ، فإن هذا العموم يتناول بظاهره ما ذبحوا لأعيادهم ، وكنائسهم ، وإذا نظر إلى المعنى [ أشكل ] ، لأن في ذبائح الأعياد زيادة تنافي أحكام الإسلام فكان للنظر هنا مجال ، ولكن مكحولا سئل عن المسألة فقال : كله ، قد علم الله ما يقولون ، وأحل ذبائحهم ، يريد - والله أعلم - أن الآية لم يخص عمومها ، وإن وجد هذا الخاص المنافي . وعلم الله مقتضاه ، ودخوله تحت عموم [ ص: 275 ] اللفظ ، ومع ذلك فأحل ما ليس فيه عارض وما هو فيه ، لكن بحكم العفو عن وجه المنافاة . وإلى نحو هذا يشير قوله عليه السلام : وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان ، فلا تبحثوا عنها ، وحديث الحج أيضا مثل هذا ، حين قال : أحجنا هذا لعامنا أو للأبد ؟ لأن اعتبار اللفظ يعطي أنه للأبد ، فكره عليه السلام سؤاله ، وبين له علة ترك السؤال عن مثله ، وكذلك حديث : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما . . . إلخ ، يشير إلى هذا المعنى ; فإن السؤال عما لم يحرم ، ثم يحرم لأجل المسألة إنما يأتي في الغالب من جهة إبداء وجه فيه يقتضي التحريم ، مع أن له أصلا يرجع إليه في الحلية ، وإن اختلفت فروعه في أنفسها ، أو دخلها معنى يخيل الخروج عن حكم ذلك الأصل ، ونحو حديث : ذروني ما تركتكم ، وأشباه ذلك . والثاني : كما في الأشياء التي كانت في أول الإسلام على حكم الإقرار ، ثم حرمت بعد ذلك بتدريج كالخمر ; فإنها كانت معتادة الاستعمال في الجاهلية ، ثم جاء الإسلام فتركت على حالها قبل الهجرة ، وزمانا بعد ذلك ، [ ص: 276 ] ولم يتعرض في الشرع للنص على حكمها حتى نزل : يسألونك عن الخمر والميسر [ البقرة : 219 ] ; فبين ما فيها من المنافع ، والمضار ، وأن الأضرار فيها أكبر من المنافع ، وترك الحكم الذي اقتضته المصلحة ـ وهو التحريم ـ لأن القاعدة الشرعية أن المفسدة إذا أربت على المصلحة فالحكم للمفسدة ، والمفاسد ممنوعة ، فبان وجه المنع فيهما ، غير أنه لما لم ينص على المنع ـ وإن ظهر وجهه ـ تمسكوا بالبقاء مع الأصل الثابت لهم بمجاري العادات ، ودخل لهم تحت العفو إلى أن نزل ما في سورة المائدة من قوله تعالى : فاجتنبوه ; فحينئذ استقر حكم التحريم ، وارتفع العفو ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية [ المائدة : 93 ] ; فإنه لما حرمت قالوا : كيف بمن مات ، وهو يشربها فنزلت الآية ، فرفع الجناح هو معنى العفو . ومثال ذلك الربا المعمول به في الجاهلية وفي أول الإسلام ، وكذلك بيوع الغرر الجارية بينهم ، كبيع المضامين ، والملاقيح ، والثمر قبل بدو صلاحه ، وأشباه ذلك كلها كانت مسكوتا عنها ، وما سكت عنه ، فهو في معنى [ ص: 277 ] العفو ، والنسخ بعد ذلك لا يرفع هذا المعنى لوجود جملة منه باقية إلى الآن على حكم إقرار الإسلام كالقراض ، والحكم في الخنثى بالنسبة إلى الميراث ، وغيره ، وما أشبه ذلك مما نبه عليه العلماء . والثالث : كما في النكاح والطلاق والحج والعمرة وسائر أفعالهما إلا ما غيروا ، فقد كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام فيفرقون بين النكاح والسفاح ويطلقون ، ويطوفون بالبيت أسبوعا ، ويمسحون الحجر الأسود ، ويسعون بين الصفا والمروة ويلبون ، ويقفون بعرفات ، ويأتون مزدلفة ويرمون الجمار ، ويعظمون الأشهر الحرم ، ويحرمونها ، ويغتسلون من الجنابة ، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ، ويصلون عليهم ، ويقطعون السارق ويصلبون قاطع الطريق إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم ; فكانوا على ذلك إلى أن جاء الإسلام فبقوا على حكمه حتى أحكم الإسلام منه ما أحكم وانتسخ ما خالفه فدخل ما كان قبل ذلك في حكم العفو مما لم يتجدد فيه خطاب زيادة على التلقي من الأعمال المتقدمة ، وقد نسخ منها ما نسخ ، وأبقي منها ما أبقي على المعهود الأول . فقد ظهر بهذا البسط مواقع العفو في الشريعة ، وانضبطت . ـ والحمد لله ـ على أقرب ما يكون ، إعمالا لأدلته الدالة على ثبوته ، إلا أنه بقي النظر في العفو هل هو حكم أم لا ؟ ، وإذا قيل : حكم ; فهل يرجع إلى خطاب التكليف أم إلى خطاب الوضع ؟ هذا محتمل كله ، ولكن لما لم يكن مما ينبني عليه حكم عملي ، لم يتأكد البيان فيه ، فكان الأولى تركه . والله الموفق للصواب . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (18) صـ288 إلى صـ 287 المسألة الثانية عشرة ما أصله الإباحة للحاجة أو الضرورة إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا ، هل يكر على أصل الإباحة بالنقض أولا ; هذا محل نظر وإشكال ، والقول فيه أنه لا يخلو إما أن يضطر إلى ذلك المباح أم لا ، وإذا لم يضطر إليه فإما أن يلحقه بتركه حرج أم لا . فهذه أقسام ثلاثة : أحدها : أن يضطر إلى فعل ذلك المباح ; فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل ، وعدم اعتبار ذلك العارض لأوجه : ـ منها : أن ذلك المباح قد صار واجب الفعل ، ولم يبق على أصله من الإباحة ، وإذا صار واجبا لم يعارضه إلا ما هو مثله في الطرف الآخر أو أقوى منه ، وليس فرض المسألة هكذا ; فلم يبق إلا أن يكون طرف الواجب أقوى ; فلا بد من الرجوع إليه ، وذلك يستلزم عدم معارضة الطوارئ . [ ص: 288 ] والثاني : أن محال الاضطرار مغتفرة في الشرع ، أعني أن إقامة الضرورة معتبرة ، وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتلبة ، كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك ، في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة ، وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه ، فما نحن فيه من ذلك النوع فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية . والثالث : أنا لو اعتبرنا العوارض ، ولم نغتفرها لأدى ذلك إلى رفع الإباحة رأسا ، وذلك غير صحيح ـ كما سيأتي في كتاب المقاصد : من أن المكمل إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتباره ـ واعتبار العوارض هنا إنما هي من ذلك الباب ; فإن البيع والشراء حلال في الأصل ، فإذا اضطر إليه وقد عارضه موانع في طريقه ، ففقد الموانع من المكملات كاستجماع الشرائط ، وإذا اعتبرت أدى إلى ارتفاع ما اضطر إليه ، وكل مكمل عاد على أصله بالنقض فباطل ; فما نحن فيه مثله . القسم الثاني : أن لا يضطر إليه ولكن يلحقه بالترك حرج ، فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة وترك اعتبار الطوارئ ; إذ الممنوعات قد أبيحت رفعا للحرج ـ كما سيأتي لابن العربي في دخول الحمام ـ وكما إذا كثرت المناكر في الطرق والأسواق ، فلا يمنع ذلك التصرف في الحاجات إذا كان الامتناع من التصرف حرجا بينا ، وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] . [ ص: 289 ] وقد أبيح الممنوع رفعا للحرج كالقرض الذي فيه بيع للفضة بالفضة ليس يدا بيد ، وإباحة العرايا ، وجميع ما ذكره الناس في عوارض النكاح ، وعوارض مخالطة الناس ، وما أشبه ذلك وهو كثير . هذا وإن ظهر ببادئ الرأي الخلاف هاهنا ; فإن قوما شددوا فيه على أنفسهم ، وهم أهل علم يقتدى بهم ، ومنهم من صرح في الفتيا بمقتضى الانكفاف واعتبار العوارض ، فهؤلاء إنما بتوا في المسألة على أحد وجهين : إما أنهم شهدوا بعدم الحرج لضعفه عندهم ، وأنه مما هو معتاد في التكاليف ، والحرج المعتاد مثله في التكاليف غير مرفوع ، وإلا لزم ارتفاع جميع التكاليف أو أكثرها ، وقد تبين ذلك في القسم الثاني من قسمي الأحكام . وإما أنهم عملوا وأفتوا باعتبار الاصطلاح الواقع في الرخص ، فرأوا أن كون المباح رخصة يقضي برجحان الترك مع الإمكان ، وإن لم يطرق في طريقه عارض ، فما ظنك به إذا طرق العارض ، والكلام في هذا المجال أيضا مذكور في قسم الرخص . [ ص: 290 ] وربما اعترضت في طريق المباح عوارض يقضي مجموعها برجحان اعتبارها ، ولأن ما يلحق فيها من المفاسد أعظم مما يلحق في ترك ذلك المباح ، وإن الحرج فيها أعظم منه في تركه ، وهذا أيضا مجال اجتهاد إلا أنه يقال : هل يوازي الحرج اللاحق بترك الأصل الحرج اللاحق بملابسة العوارض أم لا ؟ ، وهي مسألة نرسمها الآن بحول الله تعالى ، وهي : المسألة الثالثة عشرة فنقول : لا يخلو أن يكون فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل من باب المكمل له في بابه أو من باب آخر هو أصل في نفسه ; فإن كان هذا الثاني : فإما أن يكون واقعا أو متوقعا ; فإن كان متوقعا فلا أثر له مع وجود الحرج ، لأن الحرج بالترك واقع ، وهو مفسدة ، ومفسدة العارض متوقعة متوهمة فلا تعارض الواقع ألبتة ، وأما إن كان واقعا فهو محل الاجتهاد في الحقيقة ، وقد تكون مفسدة العوارض فيه أتم من مفسدة ترك المباح ، وقد يكون الأمر بالعكس ، والنظر في هذا بابه باب التعارض والترجيح ، وإن كان الأول فلا [ ص: 291 ] يصح التعارض ، ولا تساوي المفسدتين ، بل مفسدة فقد الأصل أعظم ، والدليل على ذلك أمور : أحدها : أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف ، وقد مر بيان ذلك في موضعه ، وإذا كان فقد الصفة لا يعود بفقد الموصوف على الإطلاق بخلاف العكس ، كان جانب الموصوف أقوى في الوجود والعدم ، وفي المصلحة والمفسدة ، فكذا ما كان مثل ذلك . والثاني : أن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي ، وقد علم أن الكلي إذا عارضه الجزئي فلا أثر للجزئي ، فكذلك هنا لا أثر لمفسدة فقد المكمل في مقابلة وجود مصلحة المكمل . والثالث : أن المكمل من حيث هو مكمل إنما هو مقو لأصل المصلحة ومؤكد لها ; ففوته إنما هو فوت بعض المكملات ، مع أن أصل المصلحة باق ، وإذا كان باقيا لم يعارضه ما ليس في مقابلته ، كما أن فوت أصل المصلحة لا يعارضه بقاء مصلحة المكمل ، وهو ظاهر . والقسم الثالث : من القسم الأول ـ وهو أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج ـ ; فهو محل اجتهاد ، وفيه تدخل قاعدة الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو المعصية ; فإن هذا الأصل متفق عليه في الاعتبار ، [ ص: 292 ] ومنه ما فيه خلاف كالذرائع في البيوع ، وأشباهها ، وإن كان أصل الذرائع أيضا متفقا عليه ، ويدخل فيه أيضا قاعدة تعارض الأصل والغالب ، والخلاف فيه شهير . ومجال النظر في هذا القسم دائر بين طرفي نفي وإثبات متفق عليهما ; فإن أصل التعاون على البر والتقوى أو الإثم والعدوان مكمل لما هو عون عليه ، وكذلك أصل الذرائع ، ويقابله في الطرف الآخر أصل الإذن الذي هو مكمل لا مكمل . ولمن يقول باعتبار الأصل من الإباحة أن يحتج بأن أصل الإذن راجع إلى معنى ضروري ; إذ قد تقرر أن حقيقة الإباحة ـ التي هي تخيير ـ حقيقة تلحق بالضروريات ، وهي أصول المصالح فهي في حكم الخادم لها ، إن لم تكن في الحقيقة إياها ، فاعتبار المعارض في المباح اعتبار لمعارض الضروري في الجملة ، وإن لم يظهر في التفصيل كونه ضروريا ، وإذا كان كذلك ; صار جانب المباح أرجح من جانب معارضه الذي لا يكون مثله ، وهو خلاف الدليل . وأيضا ; إن فرض عدم اعتبار الأصل لمعارضه المكمل ، وأطلق هذا النظر أوشك أن يصار فيه إلى الحرج الذي رفعه الشارع لأنه مظنته ; إذ عوارض [ ص: 293 ] المباح كثيرة ، فإذا اعتبرت فربما ضاق المسلك ، وتعذر المخرج ، فيصار إلى القسم الذي قبله ، وقد مر ما فيه . ولما كان إهمال الأصل من الإباحة هو المؤدي إلى ذلك لم يسغ الميل إليه ، ولا التعريج عليه . وأيضا ; فإذا كان هذا الأصل دائرا بين طرفين متفق عليهما ، وتعارضا عليه لم يكن الميل إلى أحدهما بأولى من الميل إلى الآخر ، ولا دليل في أحدهما إلا ويعارضه مثل ذلك الدليل ، فيجب الوقوف إذا ; إلا أن لنا فوق ذلك أصلا أعم ، وهو أن أصل الأشياء إما الإباحة ، وإما العفو ، وكلاهما يقتضي الرجوع إلى مقتضى الإذن فكان هو الراجح . ولمرجح جانب العارض أن يحتج بأن مصلحة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدم تحصيلها ، وهو دليل على أنها لا تبلغ مبلغ الضروريات ، وهي كذلك أبدا لأنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيرا فيها ، وقد فرضت كذلك ; هذا خلف . وإذا تخير المكلف فيها ; فذلك قاض بعدم المفسدة في تحصيلها ، وجانب العارض يقضي بوقوع المفسدة أو توقعها ، وكلاهما صاد عن سبيل التخيير فلا يصح ، ـ والحالة هذه ـ أن تكون مخيرا فيها ، وذلك معنى اعتبار العارض المعارض دون أصل الإباحة . وأيضا ; فإن أصل المتشابهات داخل تحت هذا الأصل ; لأن التحقيق فيها أنها راجعة إلى أصل الإباحة ; غير أن توقع مجاوزتها إلى غير الإباحة هو الذي اعتبره الشارع ، فنهى عن ملابستها ، وهو أصل قطعي مرجوع إليه في أمثال [ ص: 294 ] هذه المطالب ، وينافي الرجوع إلى أصل الإباحة . وأيضا ; فالاحتياط للدين ثابت من الشريعة ، مخصص لعموم أصل الإباحة إذا ثبت ; فإن المسألة مختلف فيها ، فمن قال : إن الأشياء قبل ورود الشرائع على الحظر ، فلا نظر في اعتبار العوارض لأنها ترد الأشياء إلى أصولها ، فجانبها أرجح . ومن قال : الأصل الإباحة أو العفو ; فليس ذلك على عمومه باتفاق ، بل له مخصصات ، ومن جملتها أن لا يعارضه طارئ ولا أصل ، وليست مسألتنا بمفقودة المعارض ، ولا يقال : إنهما يتعارضان لإمكان تخصيص أحدهما بالآخر ، كما لا يصح أن يقال : إن قوله عليه السلام : لا يرث المسلم الكافر معارض لقوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ النساء : 11 ] . [ ص: 295 ] وأوجه الاحتجاج من الجانبين كثيرة ، والقصد التنبيه على أنها اجتهادية كما تقدم . والله أعلم . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (19) صـ298 إلى صـ 307 القسم الثاني من قسمي الأحكام وهو يرجع إلى خطاب الوضع ، وهو ينحصر في الأسباب والشروط والموانع ، والصحة والبطلان ، والعزائم والرخص ; فهذه خمسة أنواع ، فالأول ينظر فيه في مسائل : [ ص: 298 ] النوع الأول في الأسباب المسألة الأولى الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان : أحدهما : خارج عن مقدور المكلف . والآخر : ما يصح دخوله تحت مقدوره . فالأول قد يكون سببا ، ويكون شرطا ، ويكون مانعا . فالسبب : مثل كون الاضطرار سببا في إباحة الميتة ، وخوف العنت سببا في إباحة نكاح الإماء ، والسلس سببا في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج ، وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سببا في إيجاب تلك الصلوات ، وما أشبه ذلك . والشرط : ككون الحول شرطا في إيجاب الزكاة ، والبلوغ شرطا في التكليف مطلقا ، والقدرة على التسليم شرطا في صحة البيع ، والرشد شرطا في دفع مال اليتيم إليه ، وإرسال الرسل شرطا في الثواب والعقاب ، وما كان نحو [ ص: 299 ] ذلك . والمانع : ككون الحيض مانعا من الوطء والطلاق والطواف بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصيام ، والجنون مانعا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات ، وما أشبه ذلك . وأما الضرب الثاني : فله نظران : نظر من حيث هو مما يدخل تحت خطاب التكليف ـ مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه ـ من جهة اقتضائه للمصالح أو المفاسد جلبا أو دفعا ; كالبيع والشراء للانتفاع ، والنكاح للنسل ، والانقياد للطاعة لحصول الفوز ، وما أشبه ذلك ، وهو بين . [ ص: 300 ] ونظر من جهة ما يدخل تحت خطاب الوضع إما سببا أو شرطا أو مانعا . أما السبب : فمثل كون النكاح سببا في حصول التوارث بين الزوجين وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع ، والذكاة سببا لحلية الانتفاع بالأكل ، والسفر سببا في إباحة القصر والفطر ، والقتل والجرح سببا للقصاص ، والزنى وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابا لحصول تلك العقوبات ، وما أشبه ذلك ; فإن هذه الأمور وضعت أسبابا لشرعية تلك المسببات . وأما الشرط : فمثل كون النكاح شرطا في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثا ، والإحصان شرطا في رجم الزاني ، والطهارة شرطا في صحة الصلاة ، والنية شرطا في صحة العبادات ; فإن هذه الأمور ، وما أشبهها ; ليست بأسباب ، ولكنها شروط معتبرة في صحة تلك المقتضيات . وأما المانع فككون نكاح الأخت مانعا من نكاح الأخرى ، ونكاح المرأة مانعا من نكاح عمتها وخالتها ، والإيمان مانعا من القصاص للكافر ، والكفر [ ص: 301 ] مانعا من قبول الطاعات ، وما أشبه ذلك ، وقد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سببا وشرطا ومانعا كالإيمان هو سبب في الثواب ، وشرط في وجوب الطاعات أو في صحتها ، ومانع من القصاص منه للكافر ، ومثله كثير . غير أن هذه الأمور الثلاثة لا تجتمع للشيء الواحد ، فإذا وقع سببا لحكم شرعي فلا يكون شرطا فيه نفسه ولا مانعا له ؛ لما في ذلك من التدافع ، وإنما يكون سببا لحكم ، وشرطا لآخر ، ومانعا لآخر ، ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد ، ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة ، كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف . المسألة الثانية مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات ، وإن صح التلازم بينهما عادة ، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب ، وإذا نهي عنه لم يستلزم [ ص: 302 ] النهي عن المسبب ، وإذا خير فيه لم يلزم أن يخير في مسببه . مثال ذلك : الأمر بالبيع مثلا ، لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع ، والأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية البضع ، والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح ، والنهي عن القتل العدوان لا يستلزم النهي عن الإزهاق ، والنهي عن التردي في البئر لا يستلزم النهي عن تهتك المردى فيها ، والنهي عن جعل الثوب في النار لا يستلزم النهي عن نفس الإحراق ، ومن ذلك كثير . والدليل على ذلك : ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب ، وإنما المسببات من فعل الله ، وحكمه لا كسب فيه للمكلف ، وهذا يتبين في علم آخر ، والقرآن والسنة دالان عليه ، فمما يدل على ذلك ما يقتضي ضمان الرزق كقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] . وقوله : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود : 6 ] . وقوله : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] إلى آخر الآية . وقوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا الآية [ الطلاق : 2 ] . إلى غير ذلك مما يدل على ضمان الرزق ، وليس المراد نفس التسبب [ ص: 303 ] إلى الرزق ، بل الرزق المتسبب إليه . ولو كان المراد نفس التسبب لما كان المكلف مطلوبا بتكسب فيه على حال ، ولو بجعل اللقمة في الفم ومضغها أو ازدراع الحب أو التقاط النبات أو الثمرة المأكولة ، لكن ذلك باطل باتفاق ، فثبت أن المراد إنما هو عين المسبب إليه ، وفي الحديث : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير الحديث . [ ص: 304 ] وفيه : اعقلها ، وتوكل ففي هذا ونحوه بيان لما تقدم . [ ص: 305 ] ومما يبينه قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ الواقعة : 58 - 59 ] . أفرأيتم ما تحرثون [ الواقعة : 63 ] . أفرأيتم الماء الذي تشربون [ الواقعة : 68 ] . أفرأيتم النار التي تورون [ الواقعة : 71 ] . [ ص: 306 ] وأتى على ذلك كله والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] . الله خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] . وإنما جعل إليهم العمل ليجازوا عليه ، ثم الحكم فيه لله وحده . واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به ، وإذا كان كذلك ; دخلت الأسباب المكلف بها في مقتضى هذا العموم الذي دل عليه العقل والسمع ، فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات ، فإذا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب ، فخرجت المسببات عن خطاب التكليف ; لأنها ليست من مقدورهم ، ولو تعلق بها لكان تكليفا بما لا يطاق ، وهو غير واقع كما تبين في الأصول . ولا يقال : إن الاستلزام موجود ، ألا ترى أن إباحة عقود البيوع والإجارات وغيرها تستلزم إباحة الانتفاع الخاص بكل واحد منها ، وإذا تعلق بها التحريم كبيع الربا والغرر والجهالة استلزم تحريم الانتفاع المسبب عنها ، وكما في التعدي والغصب والسرقة ونحوها ، والذكاة في الحيوان إذا كانت على وفق المشروع مباحة ، وتستلزم إباحة الانتفاع ، فإذا وقعت على غير المشروع كانت ممنوعة ، واستلزمت منع الانتفاع . . . إلى أشياء من هذا النحو كثيرة ; فكيف يقال : إن الأمر بالأسباب والنهي عنها ، لا يستلزم الأمر بالمسببات ، ولا النهي عنها ، [ ص: 307 ] وكذلك في الإباحة ؟ لأنا نقول : هذا كله لا يدل على الاستلزام من وجهين : أحدهما : أن ما تقدم من الأمثلة أول المسألة قد دل على عدم الاستلزام ، وقام الدليل على ذلك ، فما جاء بخلافه فعلى حكم الاتفاق لا على حكم الالتزام . الثاني : أن ما ذكر ليس فيه استلزام بدليل ظهوره في بعض تلك الأمثلة ، فقد يكون السبب مباحا والمسبب مأمور به ، فكما نقول في الانتفاع بالمبيع : إنه مباح ، نقول في النفقة عليه : إنها واجبة إذا كان حيوانا ، والنفقة من مسببات العقد المباح ، وكذلك حفظ الأموال المتملكة مسبب عن سبب مباح ، وهو مطلوب ، ومثل ذلك الذكاة ; فإنها لا توصف بالتحريم إذا وقعت في غير المأكول كالخنزير والسباع العادية والكلب ونحوها ، مع أن الانتفاع محرم في جميعها أو في بعضها ، ومكروه في البعض . هذا في الأسباب المشروعة ، وأما الأسباب الممنوعة فأمرها أسهل ; لأن معنى تحريمها أنها في الشرع ليست بأسباب ، وإذا لم تكن أسبابا لم تكن لها مسببات ; فبقي المسبب عنها على أصلها من المنع ، لا أن المنع تسبب عن وقوع أسباب ممنوعة ، وهذا كله ظاهر ; فالأصل مطرد ، والقاعدة مستتبة . وبالله التوفيق . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (21) صـ318 إلى صـ 327 فصل وأما أن للمكلف القصد إلى المسبب فكما إذا قيل لك : لم تكتسب ؟ قلت : لأقيم صلبي ، وأقوم في حياة نفسي وأهلي أو لغير ذلك من المصالح التي توجد عن السبب ، فهذا القصد إذا قارن التسبب صحيح ; لأنه التفات إلى العادات الجارية ، وقد قال تعالى : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله [ الجاثية : 12 ] . وقال : ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله [ الروم : 23 ] . وقال : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] . [ ص: 318 ] فمن حيث عبر بالقصد إلى الفضل عن القصد إلى السبب الذي هو الاكتساب ، وسيق مساق الامتنان من غير إنكار ، أشعر بصحة ذلك القصد ، وهذا جار في أمور الآخرة كما هو جار في أمور الدنيا ; كقوله تعالى : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات [ الطلاق : 11 ] ، وأشباه ذلك مما يؤذن بصحة القصد إلى المسبب بالسبب . وأيضا ; فإنما محصول هذا أن يبتغى ما يهيئ الله له بهذا السبب ، فهو راجع إلى الاعتماد على الله واللجأ إليه في أن يرزقه مسببا يقوم به أمره ، ويصلح به حاله ، وهذا لا نكير فيه شرعا ، وذلك أن المعلوم من الشريعة أنه شرعت لمصالح العباد ، فالتكليف كله إما لدرء مفسدة ، وإما لجلب مصلحة أو لهما معا ، فالداخل تحته مقتض لما وضعت له ، فلا مخالفة في ذلك لقصد الشارع ، والمحظور إنما هو أن يقصد خلاف ما قصده ، مع أن هذا القصد لا ينبني عليه عمل غير مقصود للشارع ، ولا يلزم منه عقد مخالف ، فالفعل موافق ، والقصد [ ص: 319 ] موافق ، فالمجموع موافق . فإن قيل : هل يستتب هذان الوجهان في جميع الأحكام العادية ، والعبادية أم لا ؟ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي أن قصد المسببات لازم في العاديات ، لظهور وجوه المصالح فيها بخلاف العبادات ; فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى ; فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات لأن المعاني المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح فيها أو المفاسد ، وهي ظاهرة في العاديات ، وغير ظاهرة في العباديات ، وإذا كان كذلك ; فالالتفات إلى المسببات ، والقصد إليها معتبر في العاديات ، ولا سيما في المجتهد ; فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها ، ولولا ذلك لم يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع فيبطل القياس ، وذلك غير صحيح ; فلا بد من الالتفات إلى المعاني التي شرعت لها الأحكام ، والمعاني هي مسببات الأحكام ، أما العباديات فلما كان الغالب عليها فقد ظهور المعاني الخاصة بها ، والرجوع إلى مقتضى النصوص فيها ، [ ص: 320 ] كان ترك الالتفات أجرى على مقصود الشارع فيها ، والأمران بالنسبة إلى المقلد سواء ، في أن حقه أن لا يلتفت إلى المسببات إلا فيما كان من مدركاته ومعلوماته العادية في التصرفات الشرعية . فالجواب أن الأمرين في الالتفات وعدمه سواء ، وذلك أن المجتهد إذا نظر في علة الحكم عدى الحكم بها إلى محل هي فيه ; لتقع المصلحة المشروع لها الحكم ، هذا نظره خاصة ، ويبقى قصده إلى حصولها بالعمل أو عدم القصد مسكوتا عنه بالنسبة إليه ، فتارة يقصد إذا كان هو العامل وتارة لا يقصد ، وفي الوجهين لا يفوته في اجتهاده أمر كالمقلد سواء ، فإذا سمع قوله عليه الصلاة والسلام : لا يقضي القاضي وهو غضبان متفق عليه نظر إلى علة منع القضاء ، فرآه الغضب ، وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم ، فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين ، والوجع وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن ، فإذا وجد في نفسه شيئا من ذلك ، وكان قاضيا امتنع من القضاء بمقتضى النهي ; فإن قصد بالانتهاء مجرد النهي فقط من غير التفات إلى الحكمة التي لأجلها نهي عن القضاء ; حصل مقصود الشارع ، وإن لم يقصده القاضي ، وإن قصد به ما ظهر قصد الشارع إليه من مفسدة عدم استيفاء الحجاج ; حصل مقصود الشارع أيضا فاستوى قصد القاضي إلى المسبب وعدم قصده ، وهكذا المقلد فيما فهم حكمته من الأعمال ، وما لم يفهم ; فهو [ ص: 321 ] كالعبادات بالنسبة إلى الجميع ، وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة ، وإن لم يعلم ذلك على التفصيل ، ويصح القصد إلى مسبباتها الدنيوية والأخروية على الجملة ; فالقصد إليها أو عدم القصد كما تقدم . المسألة السادسة إذا تقرر ما تقدم ; فللدخول في الأسباب مراتب تتفرع على القسمين ; فالالتفات إلى المسببات بالأسباب له ثلاث مراتب : أحدها : أن يدخل فيها على أنه فاعل للمسبب أو مولد له ; فهذا شرك أو مضاه له ـ والعياذ بالله ـ والسبب غير فاعل بنفسه ، والله خالق كل شيء ، والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] . وفي الحديث : أصبح من عبادي مؤمن بي ، وكافر الحديث ; فإن [ ص: 322 ] المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب [ فاعلا بنفسه ، وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام ] . والثانية : أن يدخل في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة ، وهذا هو المتكلم على حكمه قبل ; ومحصوله طلب المسبب عن السبب لا باعتقاد الاستقلال ، بل من جهة كونه موضوعا على أنه سبب لمسبب ، فالسبب لا بد أن يكون سببا لمسبب لأنه معقوله ، وإلا لم يكن سببا ; فالالتفات إلى المسبب من هذا الوجه ليس بخارج عن مقتضى عادة الله في خلقه ، ولا هو مناف لكون السبب واقعا بقدرة الله تعالى ; فإن قدرة الله تظهر عند وجود السبب ، وعند عدمه فلا ينفي وجود السبب كونه خالقا للمسبب ، لكن هنا قد يغلب الالتفات إليه حتى يكون فقد المسبب مؤثرا ومنكرا ، وذلك لأن العادة غلبت على النظر في السبب بحكم كونه سببا ، ولم ينظر إلى كونه موضوعا بالجعل لا مقتضيا بنفسه ، وهذا هو غالب أحوال الخلق في الدخول في الأسباب . والثالثة : أن يدخل في السبب على أن المسبب من الله تعالى ; لأنه المسبب فيكون الغالب على صاحب هذه المرتبة اعتقاد أنه مسبب عن قدرة الله وإرادته من غير تحكيم لكونه سببا ; فإنه لو صح كونه سببا محققا لم يتخلف كالأسباب العقلية ، فلما لم يكن كذلك ; تمحض جانب التسبيب [ ص: 323 ] الرباني بدليل السبب الأول ، وهنا يقال لمن حكمه : فالسبب الأول عن ماذا تسبب ؟ ، وفي مثله قال عليه الصلاة والسلام : فمن أعدى الأول ؟ . فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله ; فالله هو المسبب لا هي ; إذ ليس له شريك في ملكه ، وهذا كله مبين في علم الكلام ، وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه ، واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه ، وذلك صحيح . فصل وترك الالتفات إلى المسبب له ثلاث مراتب : إحداها : أن يدخل في السبب من حيث هو ابتلاء للعباد ، [ وامتحان لهم ، لينظر كيف يعملون من غير التفات إلى غير ذلك ، وهذا مبني على أن الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد ] ، وامتحانا لهم ; فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة ، وهي على ضربين : [ ص: 324 ] أحدهما : ما وضع لابتلاء العقول ، وذلك العالم كله من حيث هو منظور فيه ، وصنعة يستدل بها على ما وراءها . والثاني : ما وضع لابتلاء النفوس ، وهو العالم كله أيضا من حيث هو موصل إلى العباد المنافع والمضار ، ومن حيث هو مسخر لهم ، ومنقاد لما يريدون فيه ، لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر ، ولتجري أعمالهم تحت حكم الشرع ; ليسعد بها من سعد ويشقى من شقي ، وليظهر مقتضى العلم السابق ، والقضاء المحتم الذي لا مرد له ; فإن الله غني عن العالمين ، ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط ، لكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها . والأدلة على هذا المعنى كثيرة ، كقوله سبحانه : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ هود : 7 ] . الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] . إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ الكهف : 7 ] . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون [ يونس : 14 ] . ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا [ الكهف : 12 ] . [ ص: 325 ] وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا إلى قوله : ويعلم الصابرين [ آل عمران : 142 ] . وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم [ آل عمران : 154 ] . ثم صرفكم عنهم ليبتليكم [ آل عمران : 152 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن وضع الأسباب ، إنما هي للابتلاء فإذا كانت كذلك ; فالآخذ لها من هذه الجهة آخذ لها من حيث وضعت مع التحقق بذلك فيها ، وهذا صحيح ، وصاحب هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها ; لأنه إذا تسبب بالإذن فيما أذن فيه لتظهر عبوديته لله فيه ، لا ملتفتا إلى مسبباتها ، وإن انجرت معها فهو كالمتسبب بسائر العبادات المحضة . والثانية : أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الالتفات إلى الأسباب من حيث هي أمور محدثة ، فضلا عن الالتفات إلى المسببات ، بناء على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده سواه ، واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة ; لأن بقاء الالتفات إلى ذلك كله بقاء مع المحدثات ، وركون إلى الأغيار ، وهو تدقيق في نفي الشركة ، وهذا أيضا في موضعه صحيح ، ويشهد له من الشريعة ما دل على نفي الشركة كقوله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ الكهف : 110 ] . وقوله : فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 2 - 3 ] . وسائر ما كان من هذا الباب ، وكذلك دلائل طلب الصدق في التوجه لله [ ص: 326 ] رب العالمين كل ذلك يشعر بهذا المعنى المستنبط في خلوص التوجه ، وصدق العبودية ، فصاحب هذه المرتبة متعبد لله تعالى بالأسباب الموضوعة على اطراح النظر فيها من جهته ، فضلا عن أن ينظر في مسبباتها ; فإنما يرجع إليها من حيث هي وسائل إلى مسببها وواضعها ، وسلم إلى الترقي لمقام القرب منه ; فهو إنما يلحظ فيها المسبب خاصة . والثالثة : أن يدخل في السبب بحكم الإذن الشرعي مجردا عن النظر في غير ذلك ، وإنما توجهه في القصد إلى السبب ; تلبية للأمر لتحققه بمقام العبودية لأنه لما أذن له في السبب أو أمر به لباه من حيث قصد الآمر في ذلك السبب ، وقد تبين له أنه مسببه ، وأنه أجرى العادة به ، ولو شاء لم يجرها ، كما أنه قد يخرقها إذا شاء ، وعلى أنه ابتلاء وتمحيص ، وعلى أنه يقتضي صدق التوجه به إليه ، فدخل على ذلك كله ، فصار هذا القصد شاملا لجميع ما تقدم ، لأنه توخى قصد الشارع من غير نظر في غيره ، وقد علم قصده في تلك الأمور ، فحصل له كل ما في ضمن ذلك التسبب مما علم ومما لم يعلم ، فهو طالب للمسبب من طريق السبب ، وعالم بأن الله هو المسبب ، وهو المبتلي به ، ومتحقق [ ص: 327 ] في صدق التوجه به إليه ، فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب ، لكن ذلك كله منزه عن الأغيار ، مصفى من الأكدار . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (26) صـ369 إلى صـ 380 فصل - ومنها : أن المسببات قد تكون خاصة ، وقد تكون عامة ، ومعنى كونها خاصة : أن تكون بحسب وقع السبب ، كالبيع المتسبب به إلى إباحة الانتفاع بالمبيع ، والنكاح الذي يحصل به حلية الاستمتاع ، والذكاة التي بها يحصل حل الأكل ، وما أشبه ذلك ، وكذلك جانب النهي ، كالسكر الناشئ عن شرب الخمر ، وإزهاق الروح المسبب عن حز الرقبة . وأما العامة ; فكالطاعة التي هي سبب في الفوز بالنعيم ، والمعاصي التي هي سبب في دخول الجحيم ، وكذلك أنواع المعاصي التي يتسبب عنها فساد في الأرض ، كنقص المكيال والميزان المسبب عنه قطع الرزق ، والحكم بغير الحق الناشئ عنه الدم ، وختر العهد الذي يكون عنه تسليط العدو ، والغلول الذي يكون عنه قذف الرعب ، وما أشبه ذلك ، ولا شك أن أضداد [ ص: 369 ] [ ص: 370 ] [ ص: 371 ] هذه الأمور يتسبب عنها أضداد مسبباتها . فإذا نظر العامل فيما يتسبب عن عمله من الخيرات أو الشرور ، اجتهد في اجتناب المنهيات ، وامتثال المأمورات ، رجاء في الله وخوفا منه ، ولهذا جاء الإخبار في الشريعة بجزاء الأعمال ، وبمسببات الأسباب ، والله أعلم بمصالح عباده ، والفوائد التي تنبني على هذه الأصول كثيرة . فصل فإن قيل : تقرر في المسألة التي قبل هذه أن النظر في المسببات يستجلب مفاسد ، والجاري على مقتضى هذا أن لا يلتفت إلى المسبب في التسبب ، وتبين الآن أن النظر في المسببات يستجر مصالح ، والجاري على مقتضى هذا أن يلتفت إليها ; فإن كان هذا على الإطلاق كان تناقضا ، وإن لم يكن على الإطلاق ; فلا بد من تعيين موضع الالتفات الذي يجلب المصالح ، من الالتفات الذي يجر المفاسد بعلامة يوقف عندها أو ضابط يرجع إليه . فالجواب : أن هذا المعنى مبسوط في غير هذا الموضع ، ولكن ضابطه أنه إن كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب والتكملة له والتحريض على المبالغة في إكماله ; فهو الذي يجلب المصلحة ، وإن كان [ ص: 372 ] من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال أو بالإضعاف أو بالتهاون به ; فهو الذي يجلب المفسدة . وهذان القسمان على ضربين : أحدهما : ما شأنه ذلك بإطلاق ; بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه بالنسبة إلى كل مكلف ، وبالنسبة إلى كل زمان ، وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف . والثاني : ما شأنه ذلك لا بإطلاق ، بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض . وأيضا ; فإنه ينقسم من جهة أخرى قسمين : أحدهما : ما يكون في التقوية أو التضعيف مقطوعا به . والثاني : مظنونا أو مشكوكا فيه ; فيكون موضع نظر وتأمل ; فيحكم بمقتضى الظن ، ويوقف عند تعارض الظنون ، وهذه جملة مجملة غير مفسرة ، ولكن إذا روجع ما تقدم وما يأتي ; ظهر مغزاه ، وتبين معناه بحول الله . ويخرج عن هذا التقسيم نظر المجتهدين ; فإن على المجتهد أن ينظر في الأسباب ومسبباتها لما ينبني على ذلك من الأحكام الشرعية ، وما تقدم من التقسيم راجع إلى أصحاب الأعمال من المكلفين ، وبالله التوفيق . فصل [ ص: 373 ] وقد يتعارض الأصلان معا على المجتهدين ; فيميل كل واحد إلى ما غلب على ظنه : فقد قالوا في السكران إذا طلق أو أعتق أو فعل ما يجب عليه الحد فيه أو القصاص : عومل معاملة من فعلها عاقلا اعتبارا بالأصل الثاني ، وقالت طائفة : بأنه كالمجنون اعتبارا بالأصل الأول على تفصيل لهم في ذلك مذكور في الفقه ، واختلفوا أيضا في ترخص العاصي بسفره بناء على الأصلين أيضا ، واختلفوا في قضاء صوم التطوع ، وفي قطع التتابع بالسفر [ ص: 374 ] الاختياري إذا عرض له فيه عذر أفطر من أجله ، وكذلك اختلفوا في أكل الميتة إذا اضطر بسبب السفر الذي عصى بسببه ، وعليهما يجري الخلاف أيضا في المسألة المذكورة قبل هذا بين أبي هاشم وغيره ، فيمن توسط أرضا مغصوبة . المسألة الحادية عشرة الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح ، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد ، مثال ذلك : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; فإنه أمر مشروع لأنه سبب لإقامة الدين ، وإظهار شعائر الإسلام ، وإخماد الباطل على أي وجه كان ، وليس بسبب ـ في الوضع الشرعي ـ لإتلاف مال أو نفس ، ولا نيل من عرض ، وإن أدى إلى ذلك في الطريق ، وكذلك الجهاد موضوع لإعلاء كلمة الله ، وإن أدى إلى مفسدة في المال أو النفس ، ودفع المحارب مشروع لرفع القتل والقتال وإن أدى إلى القتل والقتال ، والطلب بالزكاة مشروع لإقامة ذلك الركن من أركان الإسلام ، وإن أدى إلى القتال ، كما فعله أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ، وأجمع عليه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ، وإقامة الحدود ، والقصاص مشروع لمصلحة الزجر عن الفساد ، وإن أدى إلى إتلاف النفوس وإهراق الدماء ، وهو في نفسه مفسدة ، وإقرار حكم الحاكم مشروع لمصلحة فصل الخصومات ، وإن أدى إلى [ ص: 375 ] الحكم بما ليس بمشروع هذا في الأسباب المشروعة . وأما في الأسباب الممنوعة ; فالأنكحة الفاسدة ممنوعة ، وإن أدت إلى إلحاق الولد ، وثبوت الميراث وغير ذلك من الأحكام وهي مصالح ، والغصب ممنوع للمفسدة اللاحقة للمغصوب منه ، وإن أدى إلى مصلحة الملك عند تغير المغصوب في يد الغاصب أو غيره من وجوه الفوت . فالذي يجب أن يعلم أن هذه المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة ، [ والمصالح الناشئة عن الأسباب الممنوعة ] ليست بناشئة عنها في الحقيقة ، وإنما هي ناشئة عن أسباب أخر مناسبة لها . والدليل على ذلك ظاهر ; فإنها إذا كانت مشروعة ; فإما أن تشرع للمصالح أو للمفاسد أو لهما معا أو لغير شيء من ذلك ، فلا يصح أن تشرع للمفاسد ; لأن السمع يأبى ذلك ، فقد ثبت الدليل الشرعي على أن [ تلك ] [ ص: 376 ] الشريعة إنما جيء بالأوامر فيها جلبا للمصالح ، وإن كان ذلك غير واجب في العقول فقد ثبت في السمع ، وكذلك لا يصح أن تشرع لهما معا بعين ذلك الدليل ، ولا لغير شيء لما ثبت من السمع أيضا ; فظهر أنها شرعت للمصالح . وهذا المعنى يستمر فيما منع ، إما أن يمنع لأن فعله مؤد إلى مفسدة أو إلى مصلحة أو إليهما أو لغير شيء ، والدليل جار إلى آخره ; فإذا لا سبب مشروع إلا وفيه مصلحة لأجلها شرع ; فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة ; فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب المشروع . وأيضا ; فلا سبب ممنوع إلا وفيه مفسدة لأجلها منع ; فإن رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر ، فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع ، وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما وضع له في الشرع إن كان مشروعا ، وما منع لأجله إن كان ممنوعا ، وبيان ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا ، لم يقصد به الشارع إتلاف نفس ولا مال ، وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع لرفع الحق ، وإخماد الباطل ، كالجهاد ليس مقصوده إتلاف النفوس ، بل إعلاء الكلمة ، لكن يتبعه في الطريق الإتلاف من جهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي تنازع الفريقين ، وشهر السلاح ، وتناول القتال ، والحدود وأشباهها يتبع المصلحة فيها الإتلاف ، من جهة أنه لا يمكن إقامة المصلحة إلا بذلك ، وحكم الحاكم سبب لدفع التشاجر وفصل الخصومات بحسب الظاهر ، حتى تكون المصلحة ظاهرة ، وكون الحاكم مخطئا راجع إلى أسباب أخر ، من تقصير في النظر أو كون [ ص: 377 ] الظاهر على خلاف الباطن ، ولم يكن له على ذلك دليل ، وليس بمقصود في أمر الحاكم ، ولا ينقض الحكم إذا كان له مساغ ما بسبب أمر آخر ، وهو أن الفسخ يؤدي إلى ضد ما نصب له الحاكم من الفصل بين الخصوم ، ورفع التشاجر ; فإن الفسخ ضد الفصل . وأما قسم الممنوع ; فإن ثبوت تلك الأحكام إنما نشأ من الحكم بالتصحيح لذلك النكاح بعد الوقوع ، لا من جهة كونه فاسدا حسبما هو مبين في موضعه ، والبيوع الفاسدة من هذا النوع ، لأن لليد القابضة هنا حكم الضمان شرعا ، فصار القابض كالمالك للسلعة بسبب الضمان لا بسبب العقد ، فإذا فاتت عينها تعين المثل أو القيمة ، وإن بقيت على غير تغير ، ولا وجه من وجوه الفوت ، فالواجب ما يقتضيه النهي من الفساد فإذا حصل فيها تغير أو نحوه مما ليس بمفيت للعين ; تواردت أنظار المجتهدين هل يكون ذلك في حكم الفوت جملة بسبب التغير أم لا ؟ فبقي حكم المطالبة بالفسخ ، إلا أن في المطالبة بالفسخ حملا على صاحب السلعة إذا ردت عليه متغيرة مثلا ، كما [ ص: 378 ] أن فيها حملا على المشتري ، حيث أعطى ثمنا ، ولم يحصل له ما تعنى فيه من وجوه التصرفات التي حصلت في المبيع ، فكان العدل النظر فيما بين هذين ، فاعتبر في الفوت حوالة الأسواق ، والتغير الذي لم يفت العين ، وانتقال الملك ، وما أشبه ذلك من الوجوه المذكورة في كتب الفقهاء ، وحاصلها أن عدم الفسخ وتسليط المشتري على الانتفاع ليس سببه العقد المنهي عنه ، بل الطوارئ المترتبة بعده ، والغصب من هذا النحو أيضا ; فإن على اليد العادية حكم الضمان شرعا ، والضمان يستلزم تعين المثل أو القيمة في الذمة ، فاستوى في هذا المعنى مع المالك بوجه ما ، فصار له بذلك شبهة ملك فإذا حدث في المغصوب حادث تبقى معه العين على الجملة ; صار محل اجتهاد ، نظرا إلى حق صاحب المغصوب ، وإلى الغاصب ; إذ لا يجني عليه غصبه أن يحمل عليه في الغرم عقوبة له ، كما أن المغصوب منه لا يظلم بنقص حقه ، فكان في [ ص: 379 ] ذلك الاجتهاد بين هذين ، فالسبب في تملك الغاصب المغصوب ليس نفس الغصب ، بل التضمين أولا ، منضما إلى ما حدث بعد في المغصوب ، فعلى هذا النوع أو شبهه يجري النظر في هذه الأمور . والمقصود أن الأسباب المشروعة لا تكون أسبابا للمفاسد ، والأسباب الممنوعة لا تكون أسبابا للمصالح ; إذ لا يصح ذلك بحال . فصل وعلى هذا الترتيب يفهم حكم كثير من المسائل في مذهب مالك وغيره . ففي المذهب أن من حلف بالطلاق أن يقضي فلانا حقه إلى زمان كذا ، ثم خاف الحنث بعدم القضاء فخالع زوجته حتى انقضى الأجل ووقع الحنث وليست بزوجة ثم راجعها ، أن الحنث لا يقع عليه ، وإن كان قصده مذموما وفعله مذموما ; لأنه احتال بحيلة أبطلت حقا ، فكانت المخالعة ممنوعة ، وإن أثمرت عدم الحنث لأن عدم الحنث لم يكن بسبب المخالعة ، بل بسبب أنه حنث ، ولا زوجة له فلم يصادف الحنث محلا . وكذلك قول اللخمي فيمن قصد بسفره الترخص بالفطر في رمضان أن له أن يفطر ، وإن كره له هذا القصد ; لأن فطره بسبب المشقة اللازمة للسفر لا بسبب نفس السفر المكروه ، وإن علل الفطر بالسفر فلاشتماله على المشقة لا لنفس السفر ، ويحقق ذلك أن الذي كره له السفر الذي هو من كسبه ، والمشقة خارجة عن كسبه ، فليست المشقة هي عين المكروه له بل سببها ، والمسبب هو السبب في الفطر . [ ص: 380 ] فأما لو فرضنا أن السبب الممنوع لم يثمر ما ينهض سببا لمصلحة أو السبب المشروع لم يثمر ما ينهض سببا لمفسدة ، فلا يكون عن المشروع مفسدة تقصد شرعا ، ولا عن الممنوع مصلحة تقصد شرعا ، وذلك كحيل أهل العينة في جعل السلعة واسطة في بيع الدينار بالدينارين إلى أجل ، فهنا طرفان وواسطة : طرف لم يتضمن سببا ثابتا على حال كالحيلة المذكورة ، وطرف تضمن سببا قطعا أو ظنا كتغيير المغصوب في يد الغاصب ، فيملكه على التفصيل المعلوم ، وواسطة لم ينتف فيها السبب ألبتة ، ولا ثبت قطعا ، فهو محل أنظار المجتهدين . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (27) صـ381 إلى صـ 390 فصل هذا كله إذا نظرنا إلى هذه المسائل الفرعية بهذا الأصل المقرر ; فإن تؤملت من جهة أخرى ، كان الحكم آخر ، وتردد الناظرون فيه لأنه يصير محلا للتردد . وذلك أنه قد تقرر أن إيقاع المكلف الأسباب في حكم إيقاع المسببات ، وإذا كان كذلك ; اقتضى أن المسبب في حكم الواقع باختياره ، فلا يكون سببا شرعيا ، فلا يقع له مقتضى ، فالعاصي بسفره لا يقصر ولا يفطر ; لأن المشقة كأنها واقعة بفعله ; لأنها ناشئة عن سببه ، والمحتال للحنث بمخالعة امرأته لا يخلصه احتياله من الحنث ، بل يقع عليه إذا راجعها ، وكذلك المحتال لمراجعة زوجته بنكاح المحلل ، وما أشبه ذلك ; فهاهنا إذا روجع الأصلان ، كانت المسائل في محل الاجتهاد ، فمن ترجح عنده أصل قال بمقتضاه ، والله أعلم . فصل ما تقدم في هذا الأصل نظر في مسببات الأسباب ، من حيث كانت الأسباب مشروعة أو غير مشروعة ، أي : من جهة ما هي داخلة تحت نظر الشرع ، لا من جهة ما هي أسباب عادية لمسبباب عادية ; فإنها إذا نظر إليها من [ ص: 382 ] هذا الوجه كان النظر فيها آخر ; فإن قصد التشفي بقصد القتل متسبب فيما هو عنده مصلحة أو دفع مفسدة ، وكذلك تارك العبادات الواجبة إنما تركها فرارا من إتعاب النفس ، وقصدا إلى الدعة والراحة بتركها ، فهو من جهة ما هو فاعل بإطلاق أو تارك بإطلاق ، متسبب في درء المفاسد عن نفسه أو جلب المصالح لها ، كما كان الناس في أزمان الفترات ، والمصالح والمفاسد هنا هي المعتبرة بملائمة الطبع ومنافرته ; فلا كلام هنا في مثل هذا . المسألة الثانية عشرة الأسباب ـ من حيث هي أسباب شرعية ـ لمسببات إنما شرعت لتحصيل مسبباتها ، وهي المصالح المجتلبة أو المفاسد المستدفعة ، والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان : أحدهما : ما شرعت الأسباب لها ; إما بالقصد الأول ، وهي متعلق المقاصد الأصلية أو المقاصد الأول أيضا ، وإما بالقصد الثاني ، وهي متعلق المقاصد التابعة ، وكلا الضربين مبين في كتاب المقاصد . [ ص: 383 ] والثاني : ما سوى ذلك مما يعلم أو يظن أن الأسباب لم تشرع لها أو لا يعلم ولا يظن أنها شرعت لها أو لم تشرع لها ، فتجيء الأقسام ثلاثة : أحدها : ما يعلم أو يظن أن السبب شرع لأجله ، فتسبب المتسبب فيه صحيح ; لأنه أتى الأمر من بابه ، وتوسل إليه بما أذن الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضا في التوسل إليه ; لأنا فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا ، ثم يتبعه اتخاذ السكن ، ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم ، أو نحو ذلك أو الخدمة أو القيام على مصالحه أو التمتع بما أحل الله من النساء أو التجمل بمال المرأة أو الرغبة في جمالها أو الغبطة بدينها أو التعفف عما حرم الله أو نحو ذلك حسبما دلت عليه الشريعة ، فصار إذا ما قصده هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة ، وهذا كاف ، وقد تبين في كتاب المقاصد أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح ، فلا سبيل إلى القول بفساد هذا التسبب . لا يقال : إن القصد إلى الانتفاع مجردا لا يغني دون قصد حل البضع بالعقد أولا ; فإنه الذي ينبني عليه ذلك القصد ، والشارع إنما قصده بالعقد أولا [ ص: 384 ] الحل ، ثم يترتب عليه الانتفاع ، فإذا لم يقصد إلا مجرد الانتفاع فقد تخلف قصده عن قصد الشارع ، فيكون مجرد القصد إلى الانتفاع غير صحيح ، ويتبين هذا بما إذا أراد التمتع بفلانة كيف اتفق بحل أو غيره ، فلم يمكنه ذلك إلا بالنكاح المشروع ، وقصده أنه لو أمكنه بالزنا لحصل مقصوده ، فإذا عقد عليها ، والحال هذه فلم يكن قاصدا لحله ، وإذا لم يقصد حلها فقد خالف قصد الشارع بالعقد فكان باطلا ، والحكم في كل فعل أو ترك جار هذا المجرى . لأنا نقول هو على ما فرض في السؤال صحيح ، وذلك أن حاصل قصد هذا القاصد أنه لم يقدر على ما قصد من وجه غير جائز ، فأتاه من وجه قد جعله الشارع موصلا إليه ، ولم يكن قصده بالعقد أنه ليس بعقد ، بل قصد انعقاد النكاح بإذن من إليه الإذن ، وأدى ما الواجب أن يؤدى فيه ، لكن ملجأ إلى ذلك ، فله بهذا التسبب الجائز مقتضاه ، ويبقى النظر في قصده إلى المحظور الذي لم يقدر عليه ; فإن كان عند عزم على المعصية لو قدر عليها أثم عند المحققين ، وإن كان خاطرا على غير عزيمة ، فمغتفر كسائر الخواطر ، فلم يقترن إذا بالعقد ما يصيره باطلا ; لوقوعه كامل الأركان ، حاصل الشروط ، منتفي الموانع ، وقصد القاصد للعصيان لو قدر عليه خارج عن قصده الاستباحة [ ص: 385 ] بالوجه المقصود للشارع ، وهذا القصد الثاني موجود عنده لا محالة ، وهو موافق لقصد الشارع بوضع السبب ، فصح التسبب ، وأما إلزام قصد الحل فلا يلزم ، بل يكفي القصد إلى إيقاع السبب المشروع ، وإن غفل عن وقوع الحل به ; لأن الحل الناشئ عن السبب ليس بداخل تحت التكليف كما تقدم . والثاني : ما يعلم أو يظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداء ، فالدليل يقتضي أن ذلك التسبب غير صحيح ، لأن السبب لم يشرع أولا لهذا المسبب المفروض ، وإذا لم يشرع له فلا يتسبب عنه حكمته في جلب مصلحة ولا دفع مفسدة بالنسبة إلى ما قصد بالسبب ، فهو إذا باطل ، هذا وجه . ووجه ثان : وهو أن هذا السبب بالنسبة إلى هذا المقصود المفروض غير مشروع ، فصار كالسبب الذي لم يشرع أصلا ، وإذا كان التسبب غير المشروع أصلا لا يصح ، فكذلك ما شرع إذا أخذ لما لم يشرع له . ووجه ثالث : أن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبب المعين دليل على أن في ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة أو أن المصلحة المشروع لها السبب منتفية بذلك المسبب ، فيصير السبب بالنسبة إليه عبثا ; فإن كان الشارع قد نهى عن ذلك التسبب الخاص ، فالأمر واضح ، فإذا قصد بالنكاح [ ص: 386 ] مثلا التوصل إلى أمر فيه إبطاله كنكاح المحلل أو بالبيع التوصل إلى الربا مع إبطال البيع ، وما أشبه ذلك من الأمور التي يعلم أو يظن أن الشارع لا يقصدها ، كان هذا العمل باطلا لمخالفته لقصد الشارع في شرع النكاح والبيع ، وهكذا سائر الأعمال ، والتسببات العادية ، والعبادية . فإن قيل : كيف هذا والناكح في المثال المذكور ؟ وإن كان قصد رفع النكاح بالطلاق لتحل للأول ، فما قصده إلا ثانيا عن قصد النكاح ; لأن الطلاق لا يحصل إلا في ملك نكاح ، فهو قصد نكاحا يرتفع بالطلاق ، والنكاح من شأنه ووضعه الشرعي أن يرتفع بالطلاق ، وهو مباح في نفسه فيصح ، لكن كونه قصد مع ذلك التحليل للأول أمر آخر ، وإن كان مذموما ; فإنه إذا اقترن أمران مفترقان في أنفسهما فلا تأثير لأحدهما في الآخر ; لانفكاك أحدهما من الآخر تحقيقا كالصلاة في الدار المغصوبة . وفي الفقه ما يدل على هذا : فقد اتفق مالك وأبو حنيفة على صحة التعليق في الطلاق قبل النكاح والعتق قبل الملك ، فيقول للأجنبية إن تزوجتك ; فأنت طالق ، وللعبد إن اشتريتك فأنت حر ، ويلزمه الطلاق إن تزوج ، والعتق إذا اشترى ، وقد علم أن مالكا وأبا حنيفة يبيحان له أن يتزوج المرأة ، وأن يشتري العبد . وفي " المبسوطة " عن مالك فيمن حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلى ثلاثين سنة ، ثم يخاف العنت قال : " أرى له جائزا أن يتزوج ، ولكن إن تزوج طلقت عليه " ، مع أن هذا النكاح ، وهذا الشراء ليس فيهما شيء مما قصده الشارع [ ص: 387 ] بالقصد الأول ، ولا بالقصد الثاني إلا الطلاق ، والعتق ، ولم يشرع النكاح للطلاق ، ولا الشراء للخروج عن اليد ، وإنما شرعا لأمور أخر ، والطلاق والعتاق من التوابع غير المقصودة في مشروعيتهما ، فما جاز هذا إلا لأن وقوع الطلاق أو العتق ثان عن حصول النكاح أو الملك ، وعن القصد إليه فالناكح قاصد بنكاحه الطلاق ، والمشتري قاصد بشرائه العتق ، وظاهر هذا القصد المنافاة لقصد الشارع ، ولكنه مع ذلك جائز عند هذين الإمامين ، وإذا كان كذلك ; فأحد الأمرين جائز ; إما جواز التسبب بالمشروع إلى ما لم يشرع له السبب ; وإما بطلان هذه المسائل . وفي مذهب مالك من هذا كثير جدا ، ففي المدونة فيمن نكح وفي نفسه أن يفارق ، أنه ليس من نكاح المتعة ، فإذا تزوج المرأة ليمين لزمته أن يتزوج على امرأته فقد فرضوا المسألة ، وقال مالك : إن النكاح حلال ; فإن شاء أن يقيم عليه أقام ، وإن شاء أن يفارق فارق ، وقال ابن القاسم : وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا قال : وهو عندنا نكاح ثابت ، الذي يتزوج يريد أن يبر في يمينه ، وهو بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها لا يريد حبسها ، ولا ينوي ذلك ، على ذلك نيته وإضماره في تزويجها ; فأمرهما واحد ; فإن شاء أن يقيما أقاما ، لأن أصل النكاح حلال ، ذكر هذه في " المبسوطة " . وفي الكافي في الذي يقدم البلدة فيتزوج المرأة ، ومن نيته أن يطلقها بعد السفر : " أن قول الجمهور جوازه " . [ ص: 388 ] وذكر ابن العربي مبالغة مالك في منع نكاح المتعة ، وأنه لا يجيزه بالنية ، كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة ، وإن لم يلفظ بذلك ، ثم قال : وأجازه سائر العلماء ، ومثل بنكاح المسافرين قال : وعندي أن النية لا تؤثر في ذلك ; فإنا لو ألزمناه أن ينوي بقلبه النكاح الأبدي لكان نكاحا نصرانيا ، فإذا سلم لفظه لم تضره نيته ، ألا ترى أن الرجل يتزوج على حسن العشرة رجاء الأدمة ، فإن وجدها وإلا فارق ، كذلك يتزوج على تحصيل العصمة ; فإن اغتبط ارتبط ، وإن كره فارق ، وهذا كلامه في كتاب الناسخ والمنسوخ ، وحكى اللخمي عن مالك [ فمن نكح لغربة ] أو لهوى ليقضي أربه ، ويفارق فلا بأس . فهذه مسائل دلت على خلاف ما تقدم في القاعدة المستدل عليها ، وأشدها مسألة حل اليمين لأنه لم يقصد النكاح رغبة فيه ، وإنما قصد أن يبر في يمينه ، ولم يشرع النكاح لمثل هذا ، ونظائر ذلك كثيرة ، وجميعها صحيح مع القصد المخالف لقصد الشارع ، وما ذلك إلا لأنه قاصد للنكاح أولا ، ثم [ ص: 389 ] الفراق ثانيا ، وهما قصدان غير متلازمين ; [ وإلا ] فإن جعلتهما متلازمين في المسألة الأولى بحيث يؤثر أحدهما في الآخر ، فليكن كذلك في هذه المسائل ، وحينئذ يبطل جميع ما تقدم ، فعلى الجملة يلزم إما بطلان هذا كله ، وإما بطلان ما تقدم . فالجواب من وجهين أحدهما إجمالي ، والآخر تفصيلي . فأما الإجمالي : فهو أن نقول أصل المسألة صحيح لما تقدم من الأدلة ، وما اعترض به ليس بداخل تحتها ، ولا هي منها بدليل قولهم بالجواز والصحة فيها ، فما اتفقوا منها على جوازه فلسلامته من مقتضى أصل المسألة ، وما اختلفوا فيه فلدخوله عند المانعين تحتها ، ولسلامته عند المجيزين ; لأن العلماء لا يتناقض كلامهم ، ولا ينبغي أن يحمل على ذلك ما وجد إلى غيره سبيل ، وهذا جواب يكفي المقلد في الفقه وأصوله ، ويورد على العالم من باب تحسين الظن بمن تقدم من السلف الصالح ليتوقف ، ويتأمل ، ويلتمس المخرج ، ولا يتعسف بإطلاق الرد . وأما التفصيلي : فنقول : إن هذه المسائل لا تقدح فيما تقدم ، أما مسألة [ ص: 390 ] التعليق فقد قال القرافي : " إنها من المشكلات على الإمامين ، وإن من قال بشرعية النكاح في صورة التعليق قبل الملك ، فقد التزم المشروعية مع انتفاء الحكمة المعتبرة فيه شرعا " قال : " وكان يلزم أن لا يصح العقد على المرأة ألبتة ، لكن العقد صحيح إجماعا ; فدل على عدم لزوم الطلاق تحصيلا لحكمة العقد ، قال : فحيث أجمعنا على شرعيته دل ذلك على بقاء حكمته ، وهو بقاء النكاح المشتمل على مقاصده قال : وهذا موضع مشكل على أصحابنا انتهى قوله . وهو عاضد لما تقدم ، ولكن النظر فيه راجع إلى أصل آخر ندرجه أثناء هذه المسألة للضرورة إليه ، وهي : https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (28) صـ391 إلى صـ 399 المسألة الثالثة عشرة وذلك أن السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم أو يظن وقوع الحكمة به أو لا فإن علم أو ظن ذلك فلا إشكال في المشروعية ، وإن لم يعلم ، ولا ظن ذلك فهو على ضربين : أحدهما : أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة أو لأمر خارجي . فإن كان الأول ; ارتفعت المشروعية أصلا فلا أثر للسبب شرعا ألبتة بالنسبة إلى ذلك المحل ، مثل الزجر بالنسبة إلى غير العاقل إذا جنى ، والعقد [ ص: 391 ] على الخمر ، والخنزير ، والطلاق بالنسبة إلى الأجنبية ، والعتق بالنسبة إلى ملك الغير ، وكذلك العبادات ، وإطلاق التصرفات بالنسبة إلى غير العاقل ، وما أشبه ذلك . والدليل على ذلك أمران : الأول أن أصل السبب قد فرض أنه لحكمة بناء على قاعدة إثبات المصالح حسبما هو مبين في موضعه ، فلو ساغ شرعه مع فقدانها جملة لم يصح أن يكون مشروعا ، وقد فرضناه مشروعا هذا خلف . والثاني : أنه لو كان كذلك ; لزم أن تكون الحدود وضعت لغير قصد الزجر ، والعبادات لغير قصد الخضوع لله ، وكذلك سائر الأحكام ، وذلك باطل باتفاق القائلين بتعليل الأحكام . وأما إن كان امتناع وقوع حكم الأسباب ـ وهي المسببات ـ لأمر خارجي مع قبول المحل من حيث نفسه فهل يؤثر ذلك الأمر الخارجي في شرعية السبب أم يجري السبب على أصل مشروعيته ، هذا محتمل ، والخلاف فيه سائغ ، وللمجيز أن يستدل على ذلك بأمور : أحدها : أن القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان ولا نوادر التخلف ، وسيأتي لهذا المعنى تقرير في موضعه إن شاء الله . [ ص: 392 ] والثاني : وهو الخاص بهذا المكان أن الحكمة إما أن تعتبر بمحلها وكونه قابلا لها فقط ، وإما أن تعتبر بوجودها فيه ، فإن اعتبرت بقبول المحل فقط فهو المدعى ، والمحلوف بطلاقها في مسألة التعليق قابلة للعقد عليها من الحالف وغيره ، فلا يمنع ذلك إلا بدليل خاص في المنع ، وهو غير موجود ، وإن اعتبرت بوجودها في المحل ، لزم أن يعتبر في المنع فقدانها مطلقا لمانع أو لغير مانع ، كسفر الملك المترفه ; فإنه لا مشقة له في السفر أو هو مظنة لعدم وجود المشقة فكان القصر والفطر في حقه ممتنعين ، وكذلك إبدال الدرهم بمثله ، وإبدال الدينار بمثله مع أنه لا فائدة في هذا العقد ، وما أشبه ذلك من المسائل التي نجد الحكم فيها جاريا على أصل مشروعيته ، والحكمة غير موجودة . ولا يقال : إن السفر مظنة المشقة بإطلاق ، وإبدال الدرهم بالدرهم [ ص: 393 ] مظنة لاختلاف الأغراض بإطلاق ، وكذلك سائر المسائل التي في معناها ، فليجز التسبب بإطلاق ، بخلاف نكاح المحلوف بطلاقها بإطلاق ; فإنها ليست بمظنة للحكمة ، ولا توجد فيها على حال . لأنا نقول : إنما نظير السفر بإطلاق نكاح الأجنبية بإطلاق ; فإن قلتم بإطلاق الجواز مع عدم اعتبار وجود المصلحة في المسألة المقيدة فلتقولوا بصحة نكاح المحلوف بطلاقها ; لأنها صورة مقيدة من مطلق صور نكاح الأجنبيات ، بخلاف نكاح القرابة المحرمة كالأم والبنت مثلا ; فإنها محرمة بإطلاق فالمحل غير قابل بإطلاق ، فهذا من الضرب الأول ، وإذا لم يكن ذلك فلا بد من القول به في تلك المسائل ، وإذ ذاك يكون بعض الأسباب مشروعا ، وإن لم توجد الحكمة ولا مظنتها ، إذا كان المحل في نفسه قابلا ;لأن قبول المحل في نفسه مظنة للحكمة وإن لم توجد وقوعا ، وهذا معقول . والثالث : أن اعتبار وجود الحكمة في محل عينا لا ينضبط ; لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب ، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها ، فكم ممن طلق على أثر إيقاع النكاح ، وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو مانع منع ، وإذا لم نعلم وقوع الحكمة فلا يصح [ ص: 394 ] توقف مشروعية السبب على وجود الحكمة ; لأن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب ، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة ، وهو دور محال ، فإذا لا بد من الانتقال إلى اعتبار مظنة قبول المحل لها على الجملة كافيا . وللمانع أيضا أن يستدل على ما ذهب إليه بأوجه ثلاثة : أحدها : إن قبول المحل ; إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن [ ص: 395 ] خاصة ، وإن فرض غير قابل في الخارج ، فما لا يقبل لا يشرع التسبب فيه ، وإما بكونه توجد حكمته في الخارج ، فما لا توجد حكمته في الخارج لا يشرع أصلا ، كان في نفسه قابلا لها ذهنا أو لا ، فإن كان الأول ; فهو غير صحيح ; لأن الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد ، وهي حكم المشروعية فما ليس فيه مصلحة ، ولا هو مظنة مصلحة موجودة في الخارج ، فقد ساوى ما لا يقبل المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج من حيث المقصد الشرعي ، وإذا استويا امتنعا أو جازا ، لكن جوازهما يؤدي إلى جواز ما اتفق على منعه ، فلا بد من القول بمنعهما مطلقا ، وهو المطلوب . الثاني : أنا لو أعملنا السبب هنا مع العلم بأن المصلحة لا تنشأ عن ذلك السبب ، ولا توجد به ; لكان ذلك نقضا لقصد الشارع في شرع الحكم ; لأن التسبب هنا يصير عبثا ، والعبث لا يشرع بناء على القول بالمصالح ، فلا فرق بين هذا وبين القسم الأول ، وهذا هو [ معنى ] كلام القرافي . والثالث : أن جواز ما أجيز من تلك المسائل إنما هو باعتبار وجود [ ص: 396 ] الحكمة ; فإن انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق ، بل الظن بوجودها غالب ; غير أن المشقة تختلف باختلاف الناس ، ولا تنضبط ، فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة ضبطا للقوانين الشرعية ، كما جعل التقاء الختانين ضابطا لمسبباته المعلومة ، وإن لم يكن الماء عنه لأنه مظنته ، وجعل الاحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكليف ; لأنه غير منضبط في نفسه ، إلى أشياء من ذلك كثيرة . وأما إبدال الدرهم بمثله ، فالمماثلة من كل وجه قد لا تتصور عقلا ; فإنه ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما ، كما أنه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ، ولو في نفي ما سواهما عنهما ، ولو فرض التماثل من كل وجه فهو نادر ، ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا ، والغالب المطرد اختلاف الدرهمين ، والدينارين ، ولو بجهة الكسب ، فأطلق الجواز لذلك ، [ وإذا كان ذلك ] كذلك ; فلا دليل في هذه المسائل على مسألتنا . فصل وقد حصل في ضمن هذه المسألة الجواب عن مسألة التعليق . وأما مسألة النكاح للبر في اليمين ، وما ذكر معها ; فإنه موضع فيه احتمال [ ص: 397 ] للاختلاف ، وإن كان وجه الصحة هو الأقوى ، فمن نظر إلى أنه نكاح صدر من أهله في محله القابل له كما تقدم بسطه لم يمنع ، ومن نظر إلى أنه لما كان له نية ـ المفارقة أو كان مظنة لذلك ـ أشبه النكاح المؤقت ; لم يجز هذا ، وإن كان ابن القاسم لم يحك في مسألة نكاح البر خلافا ، فقد غمزه هو أو غيره بأنه لا يقع به الإحصان ، وهذا كاف فيما فيه من الشبهة ، فالموضع مجال نظر المجتهدين . وإذا نظرنا إلى مذهب مالك ، وجدنا نكاح البر نكاحا مقصودا لغرضه المقصود ، لكن على أن يرفع حكم اليمين ، وكونه مقصودا به رفع اليمين يكفي بأنه قصد للنكاح المشروع الذي تحل به المرأة للاستمتاع وغيره من مقاصده ، إلا أنه يتضمن رفع اليمين ، وهذا غير قادح ، وكذلك النكاح لقضاء الوطر مقصود أيضا ; لأن قضاء الوطر من مقاصده على الجملة ، ونية الفراق بعد ذلك أمر خارج إلى ما بيده من الطلاق الذي جعل الشارع له ، وقد يبدو له فلا يفارق ، وهذا هو الفرق بينه وبين نكاح المتعة ; فإنه في نكاح المتعة بان على شرط التوقيت . وكذلك نكاح التحليل لم يقصد به ما يقصد بالنكاح ، إنما قصد به تحليلها للمطلق الأول بصورة نكاح زوج غيره ، لا بحقيقته ; فلم يتضمن غرضا [ ص: 398 ] من أغراضه التي شرع لها . وأيضا ; فمن حيث كان لأجل الغير لا يمكن فيه البقاء معها عرفا أو شرطا ; فلم يمكن أن يكون نكاحا يمكن استمراره . وأيضا ; فالنص بمنعه عتيد ، فيوقف عنده على أنه لو لم يكن في نكاح المحلل تراوض ولا شرط ، وكان الزوج هو القاصد لذلك ; فإن بعض العلماء يصحح هذا النكاح اعتبارا بأنه قاصد الاستمتاع على الجملة ثم الطلاق ، فقد قصد على الجملة ما يقصد بالنكاح من أغراضه المقصودة ، ويتضمن ذلك العود إلى الأول إن اتفق على قول ، ولا يتضمنه على قول ، [ ص: 399 ] وذلك بحكم التبعية ، وإن كان هذا من الأقوال المرجوحة فلا يخلو من وجه من النظر . ومما يدل على أن حل اليمين إذا قصد بالنكاح لا يقدح فيه ، أنه لو نذر أو حلف على فعل قربة من صلاة أو حج أو عمرة أو صيام أو ما أشبه ذلك من العبادات أنه يفعله ، ويصح منه قربة ، وهذا مثله ، فلو كان هذا من اليمين وشبهه قادحا في أصل العقد ، لكان قادحا في أصل العبادة ; لأن شرط العبادة التوجه بها إلى المعبود قاصدا بذلك التقرب إليه ، فكما تصح العبادة المنذورة أو المحلوف عليها ، وإن لم يقصد بها إلا حل اليمين ، وإلا لم يبر فيه ، فكذلك هنا بل أولى ، وكذلك من حلف أن يبيع سلعة يملكها فالعقد ببيعها صحيح ، وإن لم يقصد بذلك إلا حل اليمين ، وكذلك إن حلف أن يصيد أو يذبح هذه الشاة أو ما أشبه ذلك . وهذا كله راجع إلى أصلين : أحدهما : إن الأحكام المشروعة للمصالح لا يشترط وجود المصلحة في كل فرد من أفراد محالها ، وإنما يعتبر أن يكون مظنة لها خاصة . والثاني : أن الأمور العادية إنما يعتبر في صحتها أن لا تكون مناقضة لقصد الشارع ، ولا يشترط ظهور الموافقة ، وكلا الأصلين سيأتي إن شاء الله تعالى . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (29) صـ400 إلى صـ 412 فصل والقسم الثالث من القسم الأول هو أن يقصد بالسبب مسببا لا يعلم ، ولا يظن أنه مقصود الشارع أو غير مقصود له ، وهذا موضع نظر ، وهو محل إشكال ، واشتباه ، وذلك أنا لو تسببنا لأمكن أن يكون ذلك السبب غير موضوع لهذا المسبب المفروض ، كما أنه يمكن أن يكون موضوعا له ولغيره ، فعلى الأول يكون التسبب غير مشروع ، وعلى الثاني : يكون مشروعا ، وإذا دار العمل بين أن يكون مشروعا أو غير مشروع ، كان الإقدام على التسبب غير مشروع . لا يقال : إن السبب قد فرض مشروعا على الجملة ; فلم لا يتسبب به ؟ لأنا نقول : إنما فرض مشروعا بالنسبة إلى شيء معين مفروض معلوم لا مطلقا ، وإنما كان يصح التسبب [ به ] مطلقا ، إذا علم شرعيته لكل ما يتسبب عنه على الإطلاق والعموم ، وليس ما فرضنا الكلام فيه من هذا ، بل علمنا أن كثيرا من الأسباب شرعت لأمور تنشأ عنها ، ولم تشرع لأمور وإن كانت تنشأ عنها ، وتترتب عليها كالنكاح ; فإنه مشروع لأمور كالتناسل وتوابعه ، ولم يشرع عند الجمهور للتحليل ولا ما أشبهه ، فلما علمنا أنه مشروع لأمور مخصوصة ، كان ما جهل كونه مشروعا له مجهول الحكم ، فلا تصح مشروعية الإقدام حتى يعرف الحكم . ولا يقال : الأصل الجواز ; لأن ذلك ليس على الإطلاق ، فالأصل في الأبضاع المنع ; إلا بأسباب [ ص: 401 ] مشروعة ، والحيوانات الأصل في أكلها المنع حتى تحصل الذكاة المشروعة ، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة بعد تحصيل أشياء لا مطلقا ، فإذا ثبت هذا ، وتبين مسبب لا ندري أهو مما قصده الشارع بالتسبب المشروع أم مما لم يقصده ، وجب التوقف حتى يعرف الحكم فيه ، ولهذا قاعدة يتبين بها ما هو مقصود الشارع من مسببات الأسباب ، وما ليس بمشروع ، وهي مذكورة في كتاب " المقاصد " [ والله المستعان ] . المسألة الرابعة عشرة كما أن الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا ، كذلك غير المشروعة يترتب عليها أيضا أحكام ضمنا ، كالقتل يترتب عليه القصاص ، والدية في مال الجاني أو العاقلة ، وغرم القيمة إن كان المقتول عبدا ، والكفارة ، وكذلك التعدي يترتب عليه الضمان والعقوبة ، والسرقة يترتب عليها الضمان ، والقطع ، وما أشبه ذلك من الأسباب الممنوعة في خطاب التكليف المسببة لهذه الأسباب في خطاب الوضع . [ ص: 402 ] وقد يكون هذا السبب الممنوع يسبب مصلحة من جهة أخرى ليس ذلك سببا فيها ; كالقتل يترتب عليه ميراث الورثة ، وإنفاذ الوصايا ، وعتق المدبرين ، وحرية أمهات الأولاد ، [ وكذلك ] الأولاد ، وكذلك الإتلاف بالتعدي يترتب عليه ملك المتعدي للمتلف تبعا لتضمينه القيمة ، والغصب يترتب عليه ملك المغصوب إذا تغير في يديه على التفصيل المعلوم بناء على تضمينه ، وما أشبه ذلك . فأما الضرب الأول ; فالعاقل لا يقصد التسبب إليه ; لأنه عين مفسدة عليه لا مصلحة فيها ، وإنما الذي من شأنه أن يقصد . الضرب الثاني : وهو إذا قصد فالقصد إليه على وجهين : أحدهما : أن يقصد به المسبب الذي منع لأجله لا غير ذلك ; كالتشفي [ ص: 403 ] في القتل ، والانتفاع المطلق في المغصوب والمسروق ، فهذا القصد غير قادح في ترتب الأحكام التبعية المصلحية ; لأن أسبابها إذا كانت حاصلة حصلت مسبباتها ; إلا من باب سد الذرائع كما في حرمان القاتل ، وإن كان لم يقصد إلا التشفي أو كان القتل خطأ عند من قال بحرمانه ، ولكن قالوا : إذا تغير المغصوب في يد الغاصب أو أتلفه ; فإن من أحكام [ ذلك ] التغير أنه إن كان كثيرا فصاحبه غير مخير فيه ، ويجوز للغاصب الانتفاع به على ضمان القيمة ، على كراهية عند بعض العلماء ، وعلى غير كراهية عند آخرين . وسبب ذلك أن قصد هذا المتسبب لم يناقض قصد الشارع في ترتب هذه الأحكام ; لأنها ترتبت على ضمان القيمة أو التغير أو مجموعهما ، وإنما ناقضة في إيقاع السبب المنهي عنه ، والقصد إلى السبب بعينه ; ليحصل به غرض مطلق غير القصد إلى هذا المسبب بعينه الذي هو ناشئ عن الضمان أو القيمة أو [ ص: 404 ] مجموعهما ، وبينهما فرق ، وذلك أن الغصب يتبعه لزوم الضمان على فرض تغيره ، فتجب القيمة بسبب التغير الناشئ عن الغصب ، وحين وجبت القيمة وتعينت ، صار المغصوب لجهة الغاصب ملكا له ; حفظا لمال الغاصب أن يذهب باطلا بإطلاق ; فصار ملكه تبعا لإيجاب القيمة عليه لا بسبب الغصب ، فانفك القصدان ، فقصد القاتل التشفي غير قصده لحصول الميراث ، وقصد الغاصب الانتفاع غير قصده لضمان القيمة ، وإخراج المغصوب عن ملك المغصوب منه ، وإذا كان كذلك ; جرى الحكم التابع الذي لم يقصده القاتل والغاصب على مجراه ، وترتب نقيض مقصوده فيما قصد مخالفته وذلك عقابه ، وأخذ المغصوب من يده أو قيمته ، وهذا ظاهر إلا ما سدت فيه الذريعة . والثاني أن يقصد توابع السبب ، وهي التي تعود عليه بالمصلحة ضمنا ; كالوارث يقتل الموروث ليحصل له الميراث ، والموصى له يقتل الموصي ليحصل له الموصى به ، والغاصب يقصد ملك المغصوب فيغيره ليضمن قيمته [ ص: 405 ] ويتملكه ، وأشباه ذلك ; فهذا التسبب باطل ; لأن الشارع لم يمنع تلك الأشياء في خطاب التكليف ليحصل بها في خطاب الوضع مصلحة ، فليست إذا بمشروعة في ذلك التسبب ، ولكن يبقى النظر هل يعتبر في ذلك التسبب المخصوص كونه مناقضا في القصد لقصد الشارع عينا حتى لا يترتب عليه ما قصده المتسبب ، فتنشأ من هنا قاعدة المعاملة بنقيض المقصود ، ويطلق الحكم باعتبارها إذا تعين ذلك القصد المفروض ، وهو مقتضى الحديث في حرمان القاتل الميراث ، ومقتضى الفقه في حديث المنع من جمع المفترق ، وتفريق المجتمع خشية الصدقة ، وكذلك ميراث المبتوتة في المرض أو تأبيد التحريم على من نكح في العدة ، إلى كثير من هذا أو يعتبر جعل الشارع ذلك سببا للمصلحة المترتبة ، ولا يؤثر في ذلك قصد هذا القاصد ; فيستوي في الحكم مع الأول ، هذا مجال للمجتهدين فيه اتساع نظر ، ولا سبيل إلى القطع بأحد الأمرين ، فلنقبض عنان الكلام فيه . الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا [ ص: 406 ] النوع الثاني في الشروط والنظر فيه في مسائل : المسألة الأولى أن المراد بالشرط في هذا الكتاب ما كان وصفا مكملا لمشروطه فيما اقتضاه ذلك المشروط ; أو فيما اقتضاه الحكم فيه ; كما نقول : إن الحول أو [ ص: 407 ] [ ص: 408 ] [ ص: 409 ] إمكان النماء مكمل لمقتضى الملك أو لحكمة الغنى ، والإحصان مكمل لوصف الزنى في اقتضائه للرجم ، والتساوي في الحرمة مكمل لمقتضى القصاص أو لحكمة الزجر ، والطهارة والاستقبال وستر العورة مكملة لفعل الصلاة أو لحكمة الانتصاب للمناجاة والخضوع ، وما أشبه ذلك ، وسواء علينا أكان وصفا للسبب أو العلة أو المسبب أو المعلول أو لمحالها أو لغير ذلك مما يتعلق به مقتضى الخطاب الشرعي ; فإنما هو وصف من أوصاف ذلك المشروط ، ويلزم من ذلك أن يكون مغايرا له ، بحيث يعقل المشروط مع الغفلة عن الشروط ، وإن لم ينعكس كسائر الأوصاف مع الموصوفات حقيقة أو اعتبارا ، ولا فائدة في التطويل هنا ; فإنه تقرير اصطلاح . [ ص: 410 ] وإذ ذكر اصطلاح هذا الكتاب في الشرط فليذكر اصطلاحه في السبب والعلة والمانع . فأما السبب فالمراد به : ما وضع شرعا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم ، كما كان حصول النصاب سببا في وجوب الزكاة ، والزوال سببا في وجوب الصلاة ، والسرقة سببا في وجوب القطع ، والعقود أسبابا في إباحة الانتفاع أو انتقال الأملاك ، وما أشبه ذلك . وأما العلة فالمراد بها : الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو [ ص: 411 ] الإباحة ، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي ; فالمشقة علة في إباحة القصر والفطر في السفر ، والسفر هو السبب الموضوع سببا للإباحة ، فعلى الجملة العلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة لا مظنتها ، كانت ظاهرة أو غير ظاهرة ، منضبطة أو غير منضبطة ، وكذلك نقول في قوله عليه الصلاة والسلام : لا يقضي القاضي وهو غضبان فالغضب سبب ، وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة ، على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما ، ولا مشاحة في الاصطلاح . وأما المانع : فهو السبب المقتضي لعلة تنافي علة ما منع ; لأنه إنما يطلق بالنسبة إلى سبب مقتض لحكم لعلة فيه ، فإذا حضر المانع وهو مقتض علة تنافي تلك العلة ، ارتفع ذلك الحكم ، وبطلت تلك العلة ، لكن من شرط كونه مانعا أن يكون مخلا بعلة السبب الذي نسب له المانع ; فيكون رفعا [ ص: 412 ] لحكمه ، فإنه إن لم يكن كذلك ; كان حضوره مع ما هو مانع له من باب تعارض سببين أو حكمين متقابلين ، وهذا بابه كتاب التعارض والترجيح فإذا قلنا : الدين مانع من الزكاة ، فمعناه أنه سبب يقتضي افتقار المديان إلى ما يؤدي به دينه ، وقد تعين فيما بيده من النصاب ، فحين تعلقت به حقوق الغرماء انتفت حكمة وجود النصاب ، وهي الغنى الذي هي علة وجوب الزكاة فسقطت ، وهكذا نقول في الأبوة المانعة من القصاص ; فإنها تضمنت علة تخل بحكمة القتل العمد العدوان ، وما أشبه ذلك مما هو كثير . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (30) صـ413 إلى صـ 421 الشروط على ثلاثة أقسام : أحدها : العقلية ; كالحياة في العلم ، والفهم في التكليف . والثاني : العادية كملاصقة النار الجسم المحرق ـ في الإحراق ، ومقابلة الرائي للمرئي ، وتوسط الجسم الشفاف في الإبصار ـ ، وأشباه ذلك . والثالث : الشرعية كالطهارة في الصلاة ، والحول في الزكاة ، والإحصان في الزنى ، وهذا الثالث هو المقصود بالذكر ; فإن حدث التعرض لشرط من شروط القسمين الأولين ، فمن حيث تعلق به حكم شرعي في خطاب الوضع أو خطاب التكليف ، ويصير إذ ذاك شرعيا بهذا الاعتبار ; فيدخل تحت القسم الثالث . افتقرنا إلى بيان أن الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف ، وليس بجزء ، والمستند فيه الاستقراء في الشروط الشرعية ; ألا ترى أن الحول هو المكمل لحكمة حصول النصاب وهي الغنى ; فإنه إذا ملك فقط لم يستقر عليه حكمه إلا بالتمكن من الانتفاع به في وجوه المصالح ; فجعل الشارع الحول مناطا لهذا التمكن الذي ظهر به وجه الغنى ، والحنث في اليمين مكمل [ ص: 414 ] لمقتضاها ; فإنها لم يجعل لها كفارة إلا وفي الإقدام عليها جناية ما على اسم الله ، وإن اختلفوا في تقريرها ، فعلى كل تقدير لا يتحقق مقتضى الجناية إلا عند الحنث ، فعند ذلك كمل مقتضى اليمين ، والزهوق أيضا مكمل لمقتضى إنفاذ المقاتل الموجب للقصاص أو الدية ، ومكمل لتقرر حقوق الورثة في مال المريض مرضا مخوفا ، والإحصان مكمل لمقتضى جناية الزنى الموجبة للرجم ، وهكذا سائر الشروط الشرعية مع مشروطاتها . وربما يشكل هذا التقرير بما يذكر من أن العقل شرط التكليف ، والإيمان شرط في صحة العبادات والتقربات ; فإن العقل إن لم يكن فالتكليف محال عقلا أو سمعا كتكليف العجماوات ، والجمادات فكيف يقال : إنه مكمل ، بل هو العمدة في صحة التكليف ، وكذلك لا يصح أن يقال : إن الإيمان مكمل للعبادات ; فإن عبادة الكافر لا حقيقة لها يصح أن يكملها الإيمان ، وكثير من هذا . ويرتفع هذا الإشكال بأمرين : أحدهما : أن هذا من الشروط العقلية لا الشرعية ، وكلامنا في الشروط الشرعية . [ ص: 415 ] والثاني : أن العقل في الحقيقة شرط مكمل لمحل التكليف وهو الإنسان لا في نفس التكليف ، ومعلوم أنه بالنسبة إلى الإنسان مكمل ، وأما الإيمان فلا نسلم أنه شرط لأن العبادات مبنية عليه ; ألا ترى أن معنى العبادات التوجه إلى المعبود بالخضوع والتعظيم بالقلب والجوارح ؟ وهذا فرع الإيمان ; فكيف يكون أصل الشيء ، وقاعدته التي ينبني عليها شرطا فيه ؟ هذا غير معقول ، ومن أطلق هنا لفظ الشرط ; فعلى التوسع في العبارة . وأيضا ; فإن سلم في الإيمان أنه شرط ; ففي المكلف لا في التكليف ، ويكون شرط صحة عند بعض ، وشرط وجوب عند بعض ، فيما عدا التكليف بالإيمان حسبما ذكره الأصوليون في مسألة خطاب الكفار بالفروع . الأصل المعلوم في الأصول أن السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط فلا يصح أن يقع المسبب دونه ، ويستوي في ذلك شرط الكمال ، وشرط الإجزاء ، فلا يمكن الحكم بالكمال مع فرض توقفه على شرط ، [ كما لا يصح الحكم بالإجزاء مع فرض توقفه على شرط ] ، وهذا من كلامهم ظاهر ; فإنه لو صح وقوع المشروط بدون شرطه لم يكن شرطا فيه ، وقد فرض كذلك ، هذا خلف . وأيضا ; لو صح ذلك ، لكان متوقف الوقوع على شرطه غير متوقف الوقوع عليه معا ، وذلك محال . وأيضا ; فإن الشرط من حيث هو [ شرط ] يقتضي أنه لا يقع المشروط [ ص: 416 ] إلا عند حضوره فلو جاز وقوعه دونه ، لكان المشروط واقعا وغير واقع معا ، وذلك محال ، والأمر أوضح من الإطناب فيه . ولكنه ثبت في كلام طائفة من الأصوليين أصل آخر ، وعزي إلى مذهب مالك أن الحكم إذا حضر سببه وتوقف حصول مسببه على شرط فهل يصح وقوعه بدون شرطه أم لا ؟ قولان ; اعتبارا باقتضاء السبب أو بتخلف الشرط ، فمن راعى السبب وهو مقتض لمسببه ، غلب اقتضاءه ولم يراع توقفه على الشرط ، ومن راعى الشرط وأن توقف السبب عليه مانع من وقوع مسببه ; لم يراع حضور السبب بمجرده إلا أن يحضر الشرط فينتهض السبب عند ذلك في اقتضائه . وربما أطلق بعضهم جريان الخلاف في هذا الأصل مطلقا ، ويمثلون ذلك بأمثلة منها : إن حصول النصاب سبب في وجوب الزكاة ، ودوران الحول شرطه ، ويجوز تقديمها قبل الحول على الخلاف . واليمين سبب في الكفارة ، والحنث شرطها ، ويجوز تقديمها قبل الحنث على أحد القولين . وإنفاذ المقاتل سبب في القصاص أو الدية ، والزهوق شرط ، ويجوز العفو قبل الزهوق وبعد السبب ، ولم يحكوا في هذه الصورة خلافا . وفي المذهب : إذا جعل الرجل أمر امرأة يتزوجها بيد زوجة هي في ملكه ، [ ص: 417 ] إن شاءت طلقت أو أبقت ، فاستأذنها في التزويج فأذنت له ، فلما تزوجها أرادت هذه أن تطلق عليه ، وقال مالك : ليس لها ذلك ; بناء على أنها قد أسقطت بعد جريان السبب وهو التمليك ، وإن كان قبل حصول الشرط وهو التزوج . وإذا أذن الورثة عند المرض المخوف في التصرف في أكثر من الثلث جاز ، مع أنهم لا يتقرر ملكهم إلا بعد الموت ، فالمرض هو السبب لتملكهم ، والموت شرط فينفذ إذنهم عند مالك ـ خلافا لأبي حنيفة والشافعي ـ ، وإن لم يقع الشرط ، ومن الناس من قال بإنفاذ ; إذنهم في الصحة والمرض ; فالسبب على رأي هؤلاء هو القرابة ، ولا بد لهم من القول بأن الموت شرط . وفي المذهب : من جامع فالتذ ولم ينزل فاغتسل ثم أنزل ، ففي وجوب الغسل عليه ثانية قولان ، ونفي الوجوب بناء على أن سبب الغسل انفصال الماء عن مقره ، وقد اغتسل فلا يغتسل له مرة أخرى ، هذه حجة سحنون وابن المواز ، فالسبب هو الانفصال ، والخروج شرط ولم يعتبر ، إلى كثير من المسائل تدار على هذا الأصل . وهو ظاهر المعارضة للأصل الأول ; فإن الأول يقضي بأنه لا يصح وقوع المشروط بدون شرطه بإطلاق ، والثاني يقضي بأنه صحيح عند بعض العلماء ، وربما صح باتفاق كما في مسألة العفو قبل الزهوق ، ولا يمكن أن يصح الأصلان معا بإطلاق ، والمعلوم صحة الأصل الأول ; فلا بد من النظر [ ص: 418 ] في كلامهم في الأصل الثاني . أما أولا : فنفس التناقض بين الأصلين كاف في عدم صحته عند العلم بصحة الأصل الأول . وأما ثانيا : فلا نسلم أن تلك المسائل جارية على عدم اعتبار الشرط ; فإنا نقول : من أجاز تقديم الزكاة قبل [ حلول ] الحول مطلقا من غير أهل مذهبنا فبناء على أنه ليس بشرط في الوجوب ، وإنما هو شرط في الانحتام ، فالحول كله كأنه وقت ـ عند هذا القائل ـ لوجوب الزكاة موسع ، ويتحتم في آخر الوقت كسائر أوقات التوسعة ، وأما الإخراج قبل الحول بيسير ـ على مذهبنا ـ فبناء على أن ما قرب من الشيء فحكمه حكمه ، فشرط الوجوب حاصل . وكذلك القول في شرط الحنث : من أجاز تقديم الكفارة عليه فهو عنده شرط في الانحتام من غير تخيير لا شرط في وجوبها . وأما مسألة الزهوق فهو شرط في وجوب القصاص أو الدية ، لا أنه شرط في صحة العفو ، وهذا متفق عليه ; إذ العفو بعده لا يمكن فلا بد من وقوعه قبله إن وقع ، ولا يصح أن يكون شرطا ; إذ ذاك في صحته ، ووجه صحته [ ص: 419 ] أنه حق من حقوق المجروح التي لا تتعلق بالمال ; فجاز عفوه عنه مطلقا كما يجوز عفوه عن سائر الجراح ، وعن عرضه إذا قذف ، وما أشبه ذلك ، والدليل على أن مدرك حكم العفو ليس ما قالوه ، أنه لا يصح للمجروح ولا لأوليائه استيفاء القصاص أو أخذ دية النفس كاملة قبل الزهوق باتفاق ، ولو كان كما قالوه لكان في هذه المسألة قولان . وأما مسألة تمليك المرأة ; فإنها لما أسقطت حق نفسها فيما شرطت على الزوج قبل تزوجه ، لم يبق لها ما تتعلق به بعده ; لأن ما كانت تملكه بالتمليك قد أسقطت حقها فيه بعد ما جرى سببه ، فلم يكن لتزوجه تأثير فيما تقدم من الإسقاط ، وهو فقه ظاهر . ومسألة إذن الورثة بينة المعنى ; فإن الموت سبب في صحة الملك لا في تعلقه ، والمرض سبب في تعلق حق الورثة بمال الموروث لا في تملكهم له ، فهما سببان ، كل واحد منها يقتضي حكما لا يقتضيه الآخر ، فمن حيث [ ص: 420 ] كان المرض سببا لتعلق الحق ، وإن لم يكن ملكا ، كان إذنهم واقعا في محله ; لأنهم لما تعلق حقهم بمال الموروث ، صارت لهم فيه شبهة ملك ، فإذا أسقطوا حقهم فيه لم يكن لهم بعد ذلك مطالبة ; لأنهم صاروا ـ في الحال الذي أنفذوا تصرف المريض فيه حالة المرض ـ كالأجانب فإذا حصل الموت لم يكن لهم فيه حق ; كالثلث . و [ قول ] القائل بمنع الإنفاذ يصح مع القول بأن الموت شرط ; لأنهم أذنوا قبل التمليك ، وقبل حصول الشرط ، فلا ينفذ كسائر الشروط مع مشروطاتها . وأما مسألة الإنزال ; فيصح بناؤها على أنه ليس بشرط في هذا الغسل ، [ ص: 421 ] أو لأنه لا حكم له ; لأنه إنزال من غير اقتران لذة . فعلى الجملة هذه الأشياء لم يتعين فيها التخريج على عدم اعتبار الشرط . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (31) صـ422 إلى صـ 435 الشروط المعتبرة في المشروطات شرعا على ضربين : أحدهما : ما كان راجعا إلى خطاب التكليف ; إما مأمورا بتحصيلها كالطهارة للصلاة ، وأخذ الزينة لها ، وطهارة الثوب ، ـ وما أشبه ذلك ـ ، وإما منهيا عن تحصيلها كنكاح المحلل الذي هو شرط لمراجعة الزوج الأول ، والجمع بين المفترق ، والفرق بين المجتمع خشية الصدقة ، الذي هو شرط لنقصان الصدقة ، وما أشبه ذلك فهذا الضرب واضح قصد الشارع فيه ، فالأول مقصود الفعل ، والثاني مقصود الترك ، وكذلك الشرط المخير فيه ـ إن اتفق ـ فقصد الشارع فيه جعله لخيرة المكلف : إن شاء فعله فيحصل المشروط ، وإن شاء تركه فلا يحصل . والضرب الثاني : ما يرجع إلى خطاب الوضع ; كالحول في الزكاة ، والإحصان في الزنى ، والحرز في القطع ، وما أشبه ذلك ; فهذا الضرب ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو شرط ، ولا في عدم تحصيله ، فإبقاء النصاب حولا حتى تجب الزكاة فيه ليس بمطلوب الفعل أن يقال : يجب على [ صاحبه ] إمساكه حتى تجب عليه الزكاة فيه ، ولا مطلوب الترك أن يقال : [ ص: 422 ] يجب عليه إنفاقه خوفا أن تجب فيه الزكاة ، وكذلك الإحصان لا يقال : إنه مطلوب الفعل ليجب عليه الرجم إذا زنى ، ولا مطلوب الترك لئلا يجب عليه الرجم إذا زنى . وأيضا ; فلو كان مطلوبا لم يكن من باب خطاب الوضع ، وقد فرضناه كذلك ; هذا خلف ، والحكم فيه ظاهر . فإذا توجه قصد المكلف إلى فعل الشرط أو إلى تركه ، من حيث هو فعل داخل تحت قدرته ، فلا بد من النظر في ذلك ، وهي : المسألة السابعة فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أو منهيا عنه أو مخيرا فيه أو لا ، فإن كان ذلك فلا إشكال فيه ، وتنبني [ ص: 423 ] الأحكام التي تقتضيها الأسباب على حضوره ، وترتفع عند فقده ، كالنصاب إذا أنفق قبل الحول للحاجة إلى إنفاقه أو أبقاه للحاجة إلى إبقائه أو يخلط ماشيته بماشية غيره لحاجته إلى الخلطة أو يزيلها لضرر الشركة أو لحاجة أخرى أو يطلب التحصن بالتزويج لمقاصده أو يتركه لمعنى من المعاني الجارية على الإنسان ، إلى ما أشبه ذلك . وإن كان فعله أو تركه من جهة كونه شرطا قصدا لإسقاط حكم الاقتضاء في السبب أن لا يترتب عليه أثره ; فهذا عمل غير صحيح وسعي باطل ، دلت على ذلك دلائل العقل والشرع معا . فمن الأحاديث في هذا الباب قوله : لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق [ ص: 424 ] بين مجتمع خشية الصدقة . [ ص: 425 ] وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ البيع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله . وقال : من أدخل فرسا بين فرسين ، وهو لا يأمن أن تسبق ، فليس بقمار ، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق ; فهو قمار . [ ص: 426 ] [ ص: 427 ] وقال في حديث بريرة حين اشترط أهلها أن يكون الولاء لهم : من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط الحديث . ونهى [ عليه الصلاة والسلام ] عن بيع وشرط ، وعن بيع وسلف ، وعن شرطين في بيع ، وسائر أحاديث الشروط المنهي عنها . [ ص: 428 ] ومنه حديث : من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه . وحديث : إن اليمين على نية المستحلف . وعليه جاءت الآية إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية [ آل عمران : 77 ] . وفي القرآن أيضا : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله الآية [ البقرة : 229 ] . وآية شهادة الزور والأحاديث فيها من هذا أيضا . وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 29 ] . وما جاء من الأحاديث . وقال : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] . [ ص: 429 ] وما جاء من أحاديث لعن المحلل والمحلل له والتيس المستعار . وحديث التصرية في شراء الشاة على أنها غزيرة الدر . وسائر أحاديث النهي عن الغش . [ ص: 430 ] والخديعة . والخلابة . والنجش . وحديث امرأة رفاعة القرظي حين طلقها ، وتزوجها عبد الرحمن بن [ ص: 431 ] الزبير . والأدلة أكثر من أن يؤتى عليها هنا . [ ص: 432 ] وأيضا ; فإن هذا العمل يصير ما انعقد سببا لحكم شرعي جلبا لمصلحة أو دفعا لمفسدة ، عبثا لا حكمة له ، ولا منفعة به ، وهذا مناقض لما ثبت في قاعدة المصالح وأنها معتبرة في الأحكام . وأيضا ; فإنه مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد ، وحصل في الوجود ، صار مقتضيا شرعا لمسببه ، لكنه توقف على حصول شرط هو تكميل للسبب ، فصار هذا الفاعل أو التارك بقصد رفع حكم السبب قاصدا لمضادة الشارع في وضعه سببا ، وقد تبين [ أن ] مضادة قصد الشارع باطلة فهذا العمل باطل . فإن قيل : المسألة مفروضة في سبب توقف اقتضاؤه للحكم على شرط ، فإذا فقد الشرط بحكم القصد إلى فقده ; كان كما لو لم يقصد ذلك ، ولا تأثير للقصد ، وقد تبين أن الشرط إذا لم يوجد لم ينهض السبب أن يكون مقتضيا ; كالحول في الزكاة ; فإنه شرط لا تجب الزكاة بدونه بالفرض ، والمعلوم من قصد الشارع أن السبب إنما يكون سببا مقتضيا عند وجود الشروط لا عند فقدها ، فإذا لم ينتهض سببا ، كانت المسألة كمن أنفق النصاب قبل حلول الحول لمعنى [ ص: 433 ] من معاني الانتفاع فلا تجب عليه الزكاة ; لأن السبب لم يقتض إيجابها لتوقفه على ذلك الشرط الذي ثبت اعتباره شرعا ، فمن حيث قيل فيه : إنه مخالف لقصد الشارع يقال : إنه موافق ، وهكذا سائر المسائل . فالجواب : إن هذا المعنى إنما يجري فيما إذا لم يقصد رفع حكم السبب ، وأما مع القصد إلى ذلك فهو معنى غير معتبر لأن الشرع شهد له بالإلغاء على القطع ، ويتبين ذلك بالأدلة المذكورة إذا عرضت المسألة عليها ; فإن الجمع بين المتفرق أو التفرقة بين المجتمع قد نهي عنها إذا قصد بها إبطال حكم السبب ، بالإتيان بشرط ينقصها حتى تبخس المساكين ; فالأربعون شاة فيها شاة بشرط الافتراق ، ونصفها بشرط اختلاطها بأربعين أخرى مثلا ، فإذا جمعها بقصد إخراج النصف فذلك هو المنهي عنه ; كما أنه إذا كانت مائة مختلطة بمائة وواحدة ففرقها قصدا أن يخرج واحدة فكذلك ، وما ذاك إلا أنه أتى بشرط أو رفع شرطا يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول ، فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج ، وكذلك قوله : ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله فنهى عن القصد إلى رفع شرط الخيار الثابت [ ص: 434 ] له بسبب العقد ، وعن الإتيان بشرط الفرس المحللة [ للجعل ] بقصد أخذه ، لا بقصد المسابقة معه ، ومثله مسائل الشروط ; فإنها شروط يقصد بها رفع أحكام الأسباب الواقعة ; فإن العقد على الكتابة اقتضى أنه عقد على جميع ما ينشأ عنه ، ومن ذلك الولاء ، فمن شرط أن الولاء له من البائعين ; فقد قصد بالشرط رفع حكم السبب فيه ، واعتبر هكذا سائر ما تقدم تجده كذلك ; فعلى هذا الإتيان بالشروط أو رفعها بذلك القصد هو المنهي عنه ، وإذا كان منهيا عنه [ ص: 435 ] كان مضادا لقصد الشارع فيكون باطلا . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (32) صـ436 إلى صـ 444 فصل هذا العمل هل يقتضي البطلان بإطلاق أم لا ؟ الجواب : إن في ذلك تفصيلا ، وهو أن نقول : لا يخلو أن يكون الشرط الحاصل في معنى المرتفع أو المرفوع في حكم الحاصل معنى أو لا . فإن كان كذلك ; فالحكم الذي اقتضاه السبب على حاله قبل هذا العمل ، والعمل باطل ضائع لا فائدة فيه ولا حكم له ، مثل أن يكون وهب المال قبل الحول لمن راوضه على أن يرده عليه بعد الحول بهبة أو غيرها ، وكالجامع بين المفترق ريثما يأتي الساعي ، ثم ترد إلى التفرقة أو المفرق بين المجتمع كذلك ; ، ثم يردها إلى ما كانت عليه ، وكالناكح لتظهر صورة الشرط ، ثم تعود إلى مطلقها ثلاثا ، وأشباه ذلك ; لأن هذا الشرط المعمول فيه لا معنى له ، ولا فائدة فيه تقصد شرعا . وإن لم يكن كذلك ; فالمسألة محتملة ، والنظر فيها متجاذب ثلاثة أوجه : أحدها أن يقال : إن مجرد انعقاد السبب كاف ; فإنه هو الباعث على [ ص: 436 ] الحكم ، وإنما الشرط أمر خارجي مكمل ، وإلا لزم أن يكون الشرط جزء العلة والفرض بخلافه ، وأيضا فإن القصد فيه قد صار غير شرعي ، فصار العمل فيه مخالفا لقصد الشارع ، فهو في حكم ما لم يعمل فيه ، واتحد مع القسم الأول في الحكم ، فلا يترتب على هذا العمل حكم ، ومثال ذلك : إن أنفق النصاب قبل الحول في منافعه أو وهبه هبة بتلة لم يرجع فيها أو جمع بين المفترق أو فرق بين المجتمع ، ـ وكل ذلك بقصد الفرار من الزكاة ـ ، لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبل الحول ، وما أشبه ذلك ; فقد علمنا ـ حين نصب الشارع ذلك السبب للحكم ـ ; أنه قاصد لثبوت الحكم به ، فإذا أخذ هذا برفع حكم السبب مع انتهاضه سببا ; كان مناقضا لقصد الشارع ، وهذا باطل ، وكون الشرط ـ حين رفع أو وضع ـ على وجه يعتبره الشارع على الجملة قد أثر فيه القصد الفاسد ; فلا يصح أن ينتهض شرطا شرعيا ، فكان كالمعدوم بإطلاق ، والتحق بالقسم الأول . والثاني أن يقال : إن مجرد انعقاد السبب غير كاف ; فإنه وإن كان باعثا ; قد جعل في الشرع مقيدا بوجود الشرط ، فإذا ليس كون السبب باعثا بقاطع في أن الشارع قصد إيقاع المسبب بمجرده ، وإنما فيه أنه قصده إذا وقع شرطه فإذا كان كذلك ; فالقاصد لرفع حكم السبب مثلا بالعمل في رفع الشرط لم يناقض قصده قصد الشارع من كل وجه ، وإنما قصد لما لم يظهر فيه قصد الشارع للإيقاع أو عدمه ، وهو الشرط أو عدمه ، لكن لما كان ذلك القصد آيلا لمناقضة [ ص: 437 ] قصد الشارع على الجملة ، لا عينا ; لم يكن مانعا من ترتب أحكام الشروط عليها . وأيضا ; فإن هذا العمل لما كان مؤثرا وحاصلا وواقعا ، لم يكن القصد الممنوع فيه مؤثرا في وضعه شرطا شرعيا أو سببا شرعيا ، كما كان تغير المغصوب سببا أو شرطا في منع صاحبه منه ، وفي تملك الغاصب له ، ولم يكن فعله بقصد العصيان سببا في ارتفاع ذلك الحكم . وعلى هذا الأصل ينبني صحة ما يقول اللخمي فيمن تصدق بجزء من ماله لتسقط عنه الزكاة أو سافر في رمضان قصدا للإفطار أو أخر صلاة حضر عن وقتها الاختياري ليصليها في السفر ركعتين أو أخرت امرأة صلاة بعد دخول وقتها رجاء أن تحيض فتسقط عنها ، قال : فجميع ذلك مكروه ، ولا يجب على هذا في السفر صيام ، ولا أن يصلي أربعا ، ولا على الحائض قضاؤها ، وعليه أيضا يجري الحكم في الحالف ليقضين فلانا حقه إلى شهر ، وحلف بالطلاق الثلاث ، فخاف الحنث فخالع زوجته لئلا يحنث ، فلما انقضى الأجل راجعها فهذا الوجه يقتضي أنه لا يحنث لوقوع الحنث ، وليست بزوجة لأن الخلع ماض شرعا ، وإن قصد به قصد الممنوع . والثالث : أن يفرق بين حقوق الله تعالى ، وحقوق الآدميين ، فيبطل العمل في الشرط في حقوق الله ، وإن ثبت له في نفسه حكم شرعي ; كمسألة الجمع بين المفترق ، والفرق بين المجتمع ، ومسألة نكاح المحلل على القول بأنه نافذ ماض ولا يحلها ذلك للأول ; لأن الزكاة من حقوق الله ، وكذلك المنع من نكاح المحلل حق الله ، لغلبة حقوق الله في النكاح على حقوق الآدميين ، وينفذ مقتضى الشرط في حقوق الآدميين ; كالسفر ليقصر أو ليفطر أو نحو ذلك . [ ص: 438 ] هذا كله ما لم يدل دليل خاص على خلاف ذلك ; فإنه إن دل دليل خاص على خلافه صير إليه ، ولا يكون نقضا على الأصل المذكور ; لأنه إذ ذاك دال على إضافة هذا الأمر الخاص إلى حق الله أو إلى حق الآدميين ، ويبقى بعد ما إذ اجتمع الحقان محل نظر واجتهاد ; فيغلب أحد الطرفين بحسب ما يظهر للمجتهد ، والله أعلم . الشروط مع مشروطاتها على ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكون مكملا لحكمة المشروط ، وعاضدا لها بحيث لا يكون فيه منافاة لها على حال ; كاشتراط الصيام في الاعتكاف عند من يشترطه ، واشتراط الكفء ، والإمساك بالمعروف ، والتسريح بإحسان في النكاح ، واشتراط الرهن والحميل والنقد أو النسيئة في الثمن في البيع ، واشتراط العهدة في الرقيق ، واشتراط مال العبد ، وثمرة الشجر ، وما أشبه ذلك ، وكذا اشتراط الحول في الزكاة ، والإحصان في الزنى ، وعدم الطول في نكاح الإماء ، والحرز في القطع ; فهذا القسم لا إشكال في صحته شرعا ; لأنه مكمل لحكمة كل سبب يقتضي حكما ; فإن الاعتكاف لما كان انقطاعا إلى العبادة على [ ص: 439 ] وجه لائق بلزوم المسجد ، كان للصيام فيه أثر ظاهر ، ولما كان غير الكفء مظنة للنزاع وأنفة أحد الزوجين أو عصبتهما ، وكانت الكفاءة أقرب إلى التحام الزوجين والعصبة ، وأولى بمحاسن العادات ; كان اشتراطها ملائما لمقصود النكاح ، وهكذا الإمساك بمعروف ، وسائر تلك الشروط المذكورة تجري على هذا الوجه ; فثبوتها شرعا واضح . والثاني : أن يكون غير ملائم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته ، بل هو على الضد من الأول ; كما إذا اشترط في الصلاة أن يتكلم فيها إذا أحب أو اشترط في الاعتكاف أن يخرج عن المسجد إذا أراد بناء على رأي مالك أو اشترط في النكاح أن لا ينفق عليها أو أن لا يطأها وليس بمجبوب ولا عنين أو شرط في البيع أن لا ينتفع بالمبيع أو إن انتفع فعلى بعض الوجوه دون بعض أو شرط الصانع على المستصنع أن لا يضمن المستأجر عليه إن تلف ، وأن يصدقه في دعوى التلف ، وما أشبه ذلك ; فهذا القسم أيضا لا إشكال في إبطاله ; لأنه مناف لحكمة السبب ، فلا يصح أن يجتمع معه ; فإن الكلام في الصلاة مناف لما شرعت له من الإقبال على الله تعالى والتوجه إليه والمناجاة له ، وكذلك المشترط في الاعتكاف الخروج مشترط ما ينافي حقيقة الاعتكاف من لزوم المسجد ، واشتراط الناكح أن لا ينفق ينافي استجلاب المودة المطلوبة فيه ، وإذا اشترط أن لا يطأ أبطل حكمة النكاح الأولى وهي التناسل ، وأضر بالزوجة فليس من الإمساك بالمعروف الذي هو مظنة الدوام والمؤالفة ، وهكذا سائر الشروط المذكورة ; إلا أنها إذا كانت باطلة فهل تؤثر في المشروطات أم لا ؟ هذا محل نظر يستمد من المسألة التي قبل هذه . [ ص: 440 ] والثالث : أن لا يظهر في الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة ، وهو محل نظر ، هل يلحق بالأول من جهة عدم المنافاة أو بالثاني من جهة عدم الملاءمة ظاهرا ؟ ، والقاعدة المستمرة في أمثال هذا التفرقة بين العبادات والمعاملات ، فما كان من العبادات لا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة ; لأن الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني ، والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن ; إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات ، فكذلك ما يتعلق بها من الشروط ، وما كان من العاديات يكتفى فيه بعدم المنافاة ; لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد ، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه ، والله أعلم . النوع الثالث في الموانع وفيه مسائل المسألة الأولى الموانع ضربان : أحدهما : ما لا يتأتى فيه اجتماعه مع الطلب . والثاني : ما يمكن فيه ذلك ، وهو نوعان : أحدهما : يرفع أصل الطلب . والثاني : لا يرفعه ، ولكن يرفع انحتامه . وهذا قسمان : أحدهما : أن يكون رفعه بمعنى أنه يصير مخيرا فيه لمن قدر عليه . والآخر : أن يكون رفعه بمعنى أنه لا إثم على مخالف الطلب . [ ص: 442 ] فهذه أربعة أقسام . فأما الأول ; فنحو زوال العقل بنوم أو جنون أو غيرهما ، وهو مانع من أصل الطلب جملة ; لأن من شرط تعلق الخطاب إمكان فهمه ; لأنه إلزام يقتضي التزاما ، وفاقد العقل لا يمكن إلزامه ، كما لا يمكن ذلك في البهائم والجمادات ; فإن تعلق طلب يقتضي استجلاب مصلحة أو درء مفسدة ، فذلك راجع إلى الغير كرياضة البهائم وتأديبها ، والكلام في هذا مبين في الأصول . وأما الثاني ; فكالحيض والنفاس ، وهو رافع لأصل الطلب ، وإن أمكن حصوله معه ، لكن إنما يرفع مثل هذا الطلب بالنسبة إلى ما لا يطلب به ألبتة ; كالصلاة ودخول المسجد ومس المصحف وما أشبه ذلك ، وأما ما يطلب به بعد رفع المانع ، فالخلاف بين أهل الأصول فيه مشهور لا حاجة لنا إلى ذكره هنا ، والدليل على أنه غير مطلوب حالة وجود المانع أنه لو كان كذلك ; [ ص: 443 ] لاجتمع الضدان ; لأن الحائض ممنوعة من الصلاة ، والنفساء كذلك ; فلو كانت مأمورة بها أيضا لكانت مأمورة حالة كونها منهية بالنسبة إلى شيء واحد ، وهو محال ، وأيضا ;إذا كانت مأمورة أن تفعل ، وقد نهيت أن تفعل ، لزمها شرعا أن تفعل وأن لا تفعل معا ، وهو محال ، وأيضا فلا فائدة في الأمر بشيء لا يصح لها فعله حالة وجود المانع ، ولا بعد ارتفاعه لأنها غير مأمورة بالقضاء باتفاق . وأما الثالث : فكالرق والأنوثة بالنسبة إلى الجمعة والعيدين والجهاد ; فإن هؤلاء قد لصق بهم مانع من انحتام هذه العبادات الجارية في الدين مجرى التحسين والتزيين ; لأنهم من هذه الجهة غير مقصودين بالخطاب فيها إلا [ ص: 444 ] بحكم التبع ، فإن تمكنوا منها جرت بالنسبة إليهم مجراها مع المقصودين بها ، وهم الأحرار الذكور ، وهذا معنى التخيير بالنسبة إليهم مع القدرة عليها ، وأما مع عدم القدرة عليها فالحكم مثل الذي قبل هذا . وأما الرابع ; فكأسباب الرخص ، هي موانع من الانحتام ، بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلا إلى جهة الرخصة ، كقصر المسافر ، وفطره ، وتركه للجمعة ، وما أشبه ذلك . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (33) صـ445 إلى صـ 458 الموانع ليست بمقصودة للشارع ، بمعنى أنه لا يقصد تحصيل المكلف لها ولا رفعها ، وذلك أنها على ضربين : ضرب منها داخل تحت خطاب التكليف ـ مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه ـ ، وهذا لا إشكال فيه من هذه الجهة ; كالاستدانة المانعة من انتهاض سبب الوجوب بالتأثير لوجوب إخراج الزكاة ، وإن وجد النصاب فهو متوقف على فقد المانع ، وكذلك الكفر المانع من صحة أداء الصلاة والزكاة أو من وجوبهما ، ومن الاعتداد بما طلق في حال كفره ، إلى غير ذلك من الأمور الشرعية التي منع منها الكفر ، وكذلك الإسلام مانع من انتهاك حرمة الدم والمال والعرض إلا [ ص: 445 ] بحقها ; فالنظر في هذه الأشياء وأشباهها من جهة خطاب التكليف خارج عن مقصود المسألة . والضرب الثاني : هو المقصود ، وهو الداخل تحت خطاب الوضع من حيث هو كذلك ; فليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو مانع ، ولا في عدم تحصيله ; فإن المديان ليس بمخاطب برفع الدين إذا كان عنده نصاب لتجب عليه الزكاة ، كما أن مالك النصاب غير مخاطب بتحصيل الاستدانة لتسقط عنه ، لأنه من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف ، وإنما مقصود الشارع فيه أنه إذا حصل ارتفع مقتضى السبب . والدليل على ذلك : أن وضع السبب مكمل الشروط ، يقتضي قصد الواضع إلى ترتب المسبب عليه ، وإلا فلو لم يكن كذلك ; لم يكن موضوعا على أنه سبب ، وقد فرض كذلك ، هذا خلف ، وإذا ثبت قصد الواضع إلى حصول المسبب ; ففرض المانع مقصودا له أيضا إيقاعه قصد إلى رفع ترتب المسبب على السبب ، وقد ثبت أنه قاصد إلى نفس الترتب ، هذا خلف ; فإن القصدين متضادان ، ولا هو أيضا قاصد إلى رفعه ; لأنه لو كان قاصدا إلى ذلك لم يثبت في الشرع مانعا . وبيان ذلك أنه لو كان قاصدا إلى رفعه من حيث هو مانع ; لم يثبت حصوله معتبرا شرعا ، وإذا لم يعتبر ; لم يكن مانعا من جريان حكم السبب ، وقد فرض كذلك ، وهو عين التناقض . فإذا توجه قصد المكلف إلى إيقاع المانع أو إلى رفعه ففي ذلك تفصيل ، وهي : [ ص: 446 ] فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف ; مأمورا به أو منهيا عنه أو مخيرا فيه ، أو لا . فإن كان الأول فظاهر ; كالرجل يكون بيده له نصاب ، لكنه يستدين لحاجته إلى ذلك ، وتنبني الأحكام على مقتضى حصول المانع . وإن كان الثاني ، وهو أن يفعله مثلا من جهة كونه مانعا ، قصدا لإسقاط حكم السبب المقتضي أن لا يترتب عليه ما اقتضاه ، فهو عمل غير صحيح . والدليل على ذلك من النقل أمور ، من ذلك قوله جل وعلا : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا الآية [ القلم : 17 ] ; فإنها تضمنت الإخبار بعقابهم على قصد التحيل لإسقاط حق المساكين ، بتحريهم المانع من إتيانهم ، وهو وقت الصبح الذي لا يبكر في مثله المساكين عادة ، والعقاب إنما يكون لفعل محرم . وقوله تعالى : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] ، نزلت بسبب مضارة الزوجات بالارتجاع أن لا ترى بعده زوجا آخر مطلقا ، [ ص: 447 ] وأن لا تنقضي عدتها إلا بعد طول ; فكان الارتجاع بذلك القصد ; إذ هو مانع من حلها للأزواج . وفي الحديث : قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ، وفي بعض الروايات وأكلوا أثمانها . وقال عليه الصلاة والسلام : ليشربن ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها . [ ص: 448 ] وفي رواية : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير ، والخمر والمعازف الحديث . وفي بعض الحديث : يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها ، والسحت بالهدية ، والقتل بالرهبة ، والزنى بالنكاح ، والربا بالبيع . فكأن المستحل هنا رأى أن المانع [ ص: 449 ] هو الاسم ; فنقل المحرم إلى اسم آخر ، حتى يرتفع ذلك المانع فيحل له . وقال تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] ; فاستثنى الإضرار ، فإذا أقر في مرضه بدين لوارث أو أوصى بأكثر من الثلث قاصدا حرمان الوارث أو نقصه بعض حقه بإبداء هذا المانع من تمام حقه ; كان مضارا ، والإضرار ممنوع باتفاق . وقال تعالى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها الآية [ النحل : 91 ] . قال أحمد بن حنبل : عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان ، يبطلون الأيمان بالحيل ، [ وقال تعالى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها [ النحل : 91 ] . وفي الحديث : لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ . وفيه : إذا سمعتم به ـ يعني الوباء ـ بأرض ; فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها ; فلا تخرجوا فرارا منه . [ ص: 450 ] والأدلة هنا في الشرع كثيرة من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح ـ رضى الله تعالى عنهم ـ . وما تقدم من الأدلة والسؤال والجواب في الشروط جار معناه في الموانع ، ومن هنالك يفهم حكمها ، وهل يكون العمل باطلا أم لا ; فينقسم إلى الضربين ; فلا يخلو أن يكون المانع المستجلب مثلا في حكم المرتفع أو لا ; فإن كان كذلك ; فالحكم متوجه كصاحب النصاب استدان لتسقط عنه الزكاة ، بحيث قصد أنه إذا جاز الحول رد الدين من غير أن ينتفع به ، وإن لم يكن كذلك ; ، بل كان المانع واقعا شرعا ; كالمطلق خوفا من انحتام الحنث عليه ; فهو محل نظر ـ على وزان ما تقدم في الشروط ـ ، ولا فائدة في التكرار . [ ص: 451 ] النوع الرابع في الصحة والبطلان وفيه مسائل : المسألة الأولى في معنى الصحة ، ولفظ الصحة يطلق باعتبارين : أحدهما : أن يراد بذلك ترتب آثار العمل عليه في الدنيا ; كما نقول في العبادات : إنها صحيحة بمعنى أنها مجزئة ومبرئة للذمة ومسقطة للقضاء فيما فيه قضاء ، وما أشبه ذلك من العبادات المنبئة عن هذه المعاني ، وكما نقول في العادات إنها صحيحة بمعنى أنها محصلة شرعا للأملاك ، واستباحة الأبضاع ، وجواز الانتفاع ، وما يرجع إلى ذلك . والثاني : أن يراد به ترتب آثار العمل عليه في الآخرة ، كترتب الثواب ، فيقال : هذا عمل صحيح ، بمعنى أنه يرجى به الثواب في الآخرة ; ففي [ ص: 452 ] العبادات ظاهر ، وفي العادات يكون فيما نوى به امتثال أمر الشارع ، وقصد به مقتضى الأمر والنهي ، وكذلك في المخير ، إذا عمل به من حيث إن الشارع خيره لا من حيث قصد مجرد حظه في الانتفاع غافلا عن أصل التشريع ، فهذا أيضا يسمى عملا صحيحا بهذا المعنى ، وهو وإن كان إطلاقا غريبا لا يتعرض له علماء الفقه ; فقد تعرض له علماء التخلق كالغزالي وغيره ، وهو مما يحافظ عليه السلف المتقدمون ، وتأمل ما حكاه الغزالي في كتاب النية والإخلاص من ذلك . في معنى البطلان ، وهو ما يقابل معنى الصحة ; فله معنيان : أحدهما : أن يراد به عدم ترتب آثار العمل عليه في الدنيا ; كما نقول في العبادات : إنها غير مجزئة ولا مبرئة للذمة ولا مسقطة للقضاء ، فكذلك نقول : إنها باطلة بذلك المعنى ، غير أن هنا نظرا ; فإن كون العبادة باطلة ; إنما هو لمخالفتها لما قصد الشارع فيها حسبما هو مبين في موضعه ، ولكن قد تكون المخالفة راجعة إلى نفس العبادة فيطلق عليها لفظ البطلان إطلاقا ; كالصلاة من غير نية أو ناقصة ركعة أو سجدة أو نحو ذلك مما يخل بها من الأصل ، وقد تكون راجعة إلى وصف خارجي منفك عن حقيقتها وإن كانت [ ص: 453 ] متصفة به ; كالصلاة في الدار المغصوبة مثلا ; فيقع الاجتهاد : في اعتبار الانفكاك ; فتصح الصلاة لأنها واقعة على الموافقة للشارع ، ولا يضر حصول المخالفة من جهة الوصف . أو في اعتبار الاتصاف ، فلا تصح بل تكون في الحكم باطلة من جهة أن الصلاة الموافقة إنما هي المنفكة عن هذا الوصف ، وليس الصلاة في الدار المغصوبة كذلك ; ، وهكذا سائر ما كان في معناها . ونقول أيضا في العادات : إنها باطلة ، بمعنى عدم حصول فوائدها بها شرعا ; من حصول أملاك واستباحة فروج ، وانتفاع بالمطلوب ، ولما كانت العاديات في الغالب راجعة إلى مصالح الدنيا ; كان النظر فيها راجعا إلى اعتبارين : أحدهما : من حيث هي أمور مأذون فيها أو مأمور بها شرعا . والثاني : من حيث هي راجعة إلى مصالح العباد . فأما الأول ; فاعتبره قوم بإطلاق ، وأهملوا النظر في جهة المصالح ، وجعلوا مخالفة أمره مخالفة لقصده بإطلاق ; كالعبادات المحضة سواء ، وكأنهم مالوا إلى جهة التعبد ـ وسيأتي في كتاب " المقاصد " بيان أن في كل ما يعقل معناه تعبدا ـ ، وإذا كان كذلك ; فمواجهة أمر الشارع بالمخالفة يقضي بالخروج في ذلك الفعل عن مقتضى خطابه ، والخروج في الأعمال عن خطاب الشارع يقضي بأنها غير مشروعة ، وغير المشروع باطل ، فهذا كذلك ; كما لم تصح [ ص: 454 ] العبادات الخارجة عن مقتضى خطاب الشارع . وأما الثاني : فاعتبره قوم أيضا لا مع إهمال الأول ، بل جعلوا الأمر منزلا على اعتبار المصلحة ، بمعنى أن المعنى الذي لأجله كان العمل باطلا ينظر فيه ; فإن كان حاصلا أو في حكم الحاصل ، بحيث لا يمكن التلافي فيه ; بطل العمل من أصله ، وهو الأصل فيما نهى الشرع عنه ; لأن النهي يقتضي أن لا مصلحة للمكلف فيه ، وإن ظهرت مصلحته لبادئ الرأي ، فقد علم الله أن لا مصلحة في الإقدام ، وإن ظنها العامل ، وإن لم يحصل ولا كان في حكم الحاصل ، لكن أمكن تلافيه ، لم يحكم بإبطال ذلك العمل ; كما يقول مالك [ ص: 455 ] في بيع المدبر : إنه يرد إلا أن يعتقه المسترق فلا يرد ; فإن البيع إنما منع لحق العبد في العتق أو لحق الله في العتق الذي انعقد سببه من سيده وهو التدبير ; فإن البيع يفيته في الغالب بعد موت السيد ، فإذا أعتقه المشتري حصل قصد الشارع في العتق ; فلم يرد لذلك ، وكذلك الكتابة الفاسدة ترد ما لم يعتق المكاتب ، وكذلك بيع الغاصب للمغصوب موقوف على إجازة المغصوب منه أو رده لأن المنع إنما كان لحقه ، فإذا أجازه جاز ، ومثله البيع والسلف منهي عنه ، فإذا أسقط مشترط السلف شرطه جاز ما عقداه ، ومضى على بعض الأقوال ، وقد يتلافى بإسقاط الشرط شرعا ، كما في حديث بريرة ، وعلى مقتضاه جرى الحنفية في تصحيح العقود الفاسدة كنكاح الشغار ، والدرهم بالدرهمين ، ونحوهما إلى غير ذلك من العقود التي هي باطلة على وجه ; فيزال ذلك الوجه فتمضي العقدة ، فمعنى هذا الوجه أن نهي الشارع كان لأمر ، فلما زال ذلك الأمر ارتفع النهي ، فصار العقد موافقا لقصد الشارع ; إما على حكم الانعطاف إن قدرنا رجوع الصحة إلى العقد الأول أو غير حكم الانعطاف إن قلنا : إن تصحيحه وقع الآن لا قبل ، وهذا الوجه بناء على أن مصالح العباد مغلبة على حكم التعبد . والثاني من الإطلاقين : أن يراد بالبطلان عدم ترتب آثار العمل عليه في [ ص: 456 ] الآخرة ، وهو الثواب ، ويتصور ذلك في العبادات والعادات . فتكون العبادة باطلة بالإطلاق الأول ; فلا يترتب عليها جزاء ; لأنها غير مطابقة لمقتضى الأمر بها ، وقد تكون صحيحة بالإطلاق الأول ، ولا يترتب عليها ثواب أيضا . فالأول : كالمتعبد رئاء الناس ; فإن تلك العبادة غير مجزئة ، ولا يترتب عليها ثواب . والثاني : كالمتصدق بالصدقة يتبعها بالمن والأذى ، وقد قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس الآية [ البقرة : 264 ] . وقال : لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر : 65 ] . وفي الحديث : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ إن لم يتب . [ ص: 457 ] على تأويل من جعل الإبطال حقيقة . [ ص: 458 ] وتكون أعمال العادات باطلة أيضا ; بمعنى عدم ترتب الثواب عليها ، سواء علينا أكانت باطلة بالإطلاق الأول أم لا ; فالأول كالعقود المفسوخة شرعا ، والثاني كالأعمال التي يكون الحامل عليها مجرد الهوى والشهوة من غير التفات إلى خطاب الشارع فيها كالأكل والشرب والنوم وأشباهها ، والعقود المنعقدة بالهوى ، ولكنها وافقت الأمر أو الإذن الشرعي بحكم الاتفاق لا بالقصد إلى ذلك ; فهي أعمال مقرة شرعا لموافقتها للأمر أو الإذن ; لما يترتب عليها من المصلحة في الدنيا ، فروعي فيها هذا المقدار من حيث وافقت قصد الشارع فيه ، وتبقى جهة قصد الامتثال مفقودة ; فيكون ما يترتب عليها في الآخرة مفقودا أيضا ; لأن الأعمال بالنيات . والحاصل أن هذه الأعمال التي كان الباعث عليها الهوى المجرد ، إن وافقت قصد الشارع بقيت ببقاء حياة العامل ; فإذا خرج من الدنيا فنيت بفناء الدنيا وبطلت ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ النحل : 96 ] . من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ الشورى : 20 ] . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها [ الأحقاف : 20 ] . وما أشبه ذلك مما هو نص أو ظاهر أو فيه إشارة إلى هذا المعنى ; فمن هنا أخذ من تقدم بالحزم في الأعمال العادية أن يضيفوا إليها قصدا يجدون به أعمالهم في الآخرة . وانظر في الإحياء وغيره . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (34) صـ459 إلى صـ 469 ما ذكر من إطلاق البطلان بالمعنى الثاني يحتمل تقسيما ، لكن بالنسبة إلى الفعل العادي ; إذ لا يخلو الفعل العادي ـ إذا خلا عن قصد التعبد ـ أن يفعل بقصد أو بغير قصد ، والمفعول بقصد ; إما أن يكون القصد مجرد الهوى والشهوة من غير نظر في موافقة قصد الشارع أو مخالفته ، وإما أن ينظر مع ذلك في الموافقة فيفعل أو في المخالفة فيترك ; إما اختيارا وإما اضطرارا ; فهذه أربعة أقسام : أحدها : أن يفعل من غير قصد كالغافل والنائم ، فقد تقدم أن هذا الفعل لا يتعلق به خطاب اقتضاء ولا تخيير ، فليس فيه ثواب ولا عقاب ; لأن الجزاء في الآخرة إنما يترتب على الأعمال الداخلة تحت التكليف ، فما لا يتعلق به خطاب تكليف لا يترتب عليه ثمرته . والثاني : أن يفعل لقصد نيل غرضه مجردا ، فهذا أيضا لا ثواب له على ذلك كالأول ، وإن تعلق به خطاب التكليف أو وقع واجبا كأداء الديون ورد الودائع والأمانات ، والإنفاق على الأولاد ، وأشباه ذلك ، ويدخل تحت هذا ترك المنهيات بحكم الطبع ; لأن الأعمال بالنيات ، وقد قال في الحديث : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ، ومعنى الحديث [ ص: 460 ] متفق عليه ، ومقطوع به في الشريعة . فهذا القسم والذي قبله باطل بمقتضى الإطلاق الثاني . والثالث : أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا ، كالقاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية ، ولما لم يمكنه بالزنى لامتناعها أو لمنع أهلها ، عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد ، فهذا أيضا باطل بالإطلاق الثاني ; لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطرا ، ومن حيث كان موصلا إلى غرضه لا من حيث أباحه الشرع ، وإن كان غير باطل بالإطلاق الأول ، ومثل ذلك الزكاة المأخوذة كرها ; فإنها صحيحة على الإطلاق الأول ; إذ كانت مسقطة للقضاء أو مبرئة للذمة ، وباطلة على هذا الإطلاق الثاني ، وكذلك ترك المحرمات خوفا من العقاب عليها في الدنيا أو استحياء من الناس أو ما أشبه هذا ، ولذلك كانت الحدود كفارات فقط ، فلم يخبر الشارع عنها أنها مرتبة ثوابا [ ص: 461 ] على حال ، وأصل ذلك كون الأعمال بالنيات . والرابع : أن يفعل لكن مع استشعار الموافقة اختيارا ; كالفاعل للمباح بعد علمه بأنه مباح ، حتى إنه لو لم يكن مباحا لم يفعله ; فهذا القسم إنما يتعين النظر فيه في المباح ، أما المأمور به يفعله بقصد الامتثال أو المنهي عنه يتركه بذلك القصد أيضا ; فهو من الصحيح بالاعتبارين ، كما أنه لو ترك المأمور به أو فعل المنهي عنه قصدا للمخالفة ، فهو من الباطل بالاعتبارين ; فإنما يبقى النظر في فعل المباح أو تركه من حيث خاطبه الشرع بالتخيير فاختار أحد الطرفين من الفعل أو الترك لمجرد حظه فتحتمل في النظر ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون صحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني ، وهذا هو الجاري على الأصل المتقدم في تصور المباح بالنظر إلى نفسه لا بالنظر إلى ما يستلزم . والثاني : أن يكون صحيحا بالاعتبارين ، معا بناء على تحريه في نيل حظه مما أذن له فيه دون ما لم يؤذن له فيه ، وعلى هذا نبه الحديث في الأجر في وطء الزوجة ، وقولهم : أيقضي شهوته ، ثم يؤجر فقال : أرأيتم لو وضعها في حرام ، وهذا مبسوط في كتاب " المقاصد " من هذا الكتاب . [ ص: 462 ] والثالث : أن يكون صحيحا بالاعتبارين معا في المباح الذي هو مطلوب الفعل بالكل ، وصحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني في المباح الذي هو مطلوب الترك بالكل ، وهذا هو الجاري على ما تقدم في القسم الأول من قسمي الأحكام ، ولكنه مع الذي قبله باعتبار أمر خارج عن حقيقة الفعل المباح ، والأول بالنظر إليه في نفسه . فصل وأما ما ذكر من إطلاق الصحة بالاعتبار الثاني ، فلا يخلو أن يكون عبادة أو عادة ; فإن كان عبادة فلا تقسيم فيه على الجملة ، وإن كان عادة ; فإما أن يصحبه مع قصد التعبد قصد الحظ أو لا ، والأول إما أن يكون قصد الحظ غالبا أو مغلوبا ; فهذه ثلاثة أقسام : أحدها : ما لا يصحبه حظ ; فلا إشكال في صحته . والثاني : كذلك ; لأن الغالب هو الذي له الحكم ، وما سواه في حكم [ ص: 463 ] المطرح . والثالث : محتمل لأمرين : أن يكون صحيحا بالاعتبار الثاني أيضا ; إعمالا للجانب المغلوب ، واعتبارا بأن جانب الحظ غير قادح في العاديات بخلاف العباديات ، وأن يكون صحيحا بالاعتبار الأول دون الثاني ; إعمالا لحكم الغلبة ، وبيان هذا التقسيم والدليل عليه مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب ، والحمد لله . [ ص: 464 ] النوع الخامس في العزائم والرخص . والنظر فيه في مسائل : المسألة الأولى العزيمة : ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء . ومعنى كونها " كلية " أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض ، ولا ببعض الأحوال دون بعض ; كالصلاة مثلا ; فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال ، وكذلك الصوم والزكاة والحج والجهاد وسائر شعائر الإسلام الكلية ، ويدخل تحت هذا ما شرع لسبب مصلحي في الأصل ; كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين من البيع ، والإجارة ، وسائر عقود المعاوضات ، وكذلك أحكام الجنايات ، والقصاص ، والضمان ، وبالجملة جميع كليات الشريعة . ومعنى " شرعيتها ابتداء " أن يكون قصد الشارع بها إنشاء [ ص: 465 ] الأحكام التكليفية على العباد من أول الأمر ، فلا يسبقها حكم شرعي قبل ذلك ، فإن سبقها وكان منسوخا بهذا الأخير ، كان هذا الأخير كالحكم الابتدائي تمهيدا للمصالح الكلية العامة . ولا يخرج عن هذا ما كان من الكليات واردا على سبب ; فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك ، فإذا وجدت اقتضت أحكاما ; كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] . وقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله [ الأنعام : 108 ] . وقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] . وقوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم الآية [ البقرة : 187 ] . وقوله : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه [ البقرة : 203 ] . وما كان مثل ذلك ; فإنه تمهيد لأحكام وردت [ شيئا ] بعد شيء بحسب [ ص: 466 ] الحاجة إلى ذلك ; فكل هذا يشمله اسم العزيمة ; فإنه شرع ابتدائي حكما ، كما أن المستثنيات من العمومات وسائر المخصوصات كليات ابتدائية أيضا ; كقوله [ تعالى ] : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [ البقرة : 229 ] . وقوله تعالى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة [ النساء : 19 ] . وقوله تعالى : فاقتلوا المشركين [ التوبة : 5 ] . ونهى - صلى الله عليه وسلم ـ عن قتل النساء والصبيان ، هذا وما أشبهه من العزائم ; لأنه راجع إلى أحكام كلية ابتدائية . وأما الرخصة ; فما شرع لعذر شاق ، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه . فكونه " مشروعا لعذر " هو الخاصة التي ذكرها علماء الأصول . [ ص: 467 ] وكونه شاقا ; فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة ، فلا يسمى ذلك رخصة ; كشرعية القراض مثلا ; فإنه لعذر في الأصل ، وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض ، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز ، وكذلك المساقاة والقرض والسلم ، فلا يسمى هذا كله رخصة ، وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع ، وإنما يكون مثل هذا داخلا تحت أصل الحاجيات الكليات ، والحاجيات لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة ، وقد يكون العذر راجعا إلى أصل تكميلي فلا يسمى رخصة أيضا ، وذلك أن من لا يقدر على الصلاة قائما أو يقدر بمشقة ، فمشروع في حقه الانتقال إلى الجلوس ، وإن كان مخلا بركن من أركان الصلاة ، لكن بسبب المشقة استثني فلم يتحتم عليه القيام ; فهذا رخصة محققة ; فإن كان هذا المترخص إماما ; فقد جاء في الحديث : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، ثم قال : وإن صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون فصلاتهم جلوسا وقع لعذر ; إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة ، بل لطلب الموافقة للإمام وعدم المخالفة عليه ، فلا يسمى مثل هذا رخصة ، وإن كان مستثنى لعذر . [ ص: 468 ] وكون هذا المشروع لعذر " مستثنى من أصل كلي " يبين لك أن الرخص ليست بمشروعة ابتداء ; فلذلك لم تكن كليات في الحكم ، وإن عرض لها ذلك ; فبالعرض ، فإن المسافر إذا أجزنا له القصر والفطر ; فإنما كان ذلك بعد استقرار أحكام الصلاة والصوم ، هذا وإن كانت آيات الصوم نزلت دفعة واحدة ; فإن الاستثناء ثان عن استقرار حكم المستثنى منه على الجملة ، وكذلك أكل الميتة للمضطر في قوله تعالى : فمن اضطر الآية [ البقرة : 173 ] . وكونه " مقتصرا به على موضع الحاجة " خاصة من خواص الرخص أيضا لا بد منه ، وهو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية ، وما شرع من الرخص ; فإن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة ; فإن المصلي إذا انقطع سفره ، وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم ، والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصل قاعدا ، وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم ، وكذلك سائر الرخص بخلاف القرض والقراض والمساقاة ، ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة ; فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الاصطلاح لأنه مشروع أيضا ، وإن زال العذر فيجوز للإنسان أن يقترض ، وإن لم يكن به حاجة إلى الاقتراض ، وأن يساقي حائطه وإن كان قادرا على عمله بنفسه أو بالاستئجار عليه ، وأن يقارض بماله وإن كان قادرا على التجارة فيه بنفسه أو بالاستئجار ، وكذلك ما أشبهه . فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي ، والرخصة راجعة [ ص: 469 ] إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي . https://i.imgur.com/hqB6iOP.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (35) صـ470 إلى صـ 484 فصل https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpgوقد تطلق الرخصة على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقا ، من غير اعتبار بكونه لعذر شاق فيدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة ، وبيع العرية بخرصها تمرا ، وضرب الدية على العاقلة ، وما أشبه ذلك ، وعليه يدل قوله : نهى عن بيع ما ليس عندك ، [ ص: 470 ] وأرخص في السلم ، وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات ; فقد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل ، فيجري عليها حكمها في التسمية ، كما جرى عليها حكمها في الاستثناء من أصل ممنوع ، وهنا أيضا يدخل ما تقدم في صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور ، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك أيضا ، لكن هاتين المسألتين تستمدان من أصل التكميلات لا [ ص: 471 ] من أصل الحاجيات ; فيطلق عليها لفظ الرخصة وإن لم تجتمع معها في أصل واحد ، كما أنه قد يطلق لفظ الرخصة وإن استمدت من أصل الضروريات ، كالمصلي لا يقدر على القيام ; فإن الرخصة في حقه ضرورية لا حاجية ، وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا عليه لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه ، وهذا كله ظاهر . فصل وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة ، والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] . وقوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] . فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين ، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الأحاديث : أنه عليه الصلاة والسلام صنع شيئا ترخص فيه ، [ ص: 472 ] ويمكن أن يرجع إليه معنى الحديث الآخر : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، وسيأتي بيانه بعد إن شاء الله ; فكان ما جاء في هذه الملة السمحة من المسامحة واللين رخصة ، بالنسبة إلى ما حملته الأمم السالفة من العزائم الشاقة . فصل وتطلق الرخصة أيضا على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقا ، مما هو راجع إلى نيل حظوظهم ، وقضاء أوطارهم ; فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] . وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا الآية [ طه : 132 ] . وما كان نحو ذلك ما دل على أن العباد ملك الله على الجملة والتفصيل ; فحق عليهم التوجه إليه ، وبذل المجهود في عبادته ; لأنهم عباده وليس لهم حق لديه ولا حجة عليه ، فإذا وهب لهم حظا ينالونه ، فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود ، واعتناء بغير ما اقتضته العبودية . فالعزيمة في هذا الوجه هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم ، كانت الأوامر وجوبا أو ندبا ، والنواهي كراهة أو تحريما ، وترك كل [ ص: 473 ] ما يشغل عن ذلك من المباحات ، فضلا عن غيرها ; لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة ، والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة ، فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف ، فالعزائم حق الله على العباد ، والرخص حظ العباد من لطف الله ، فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب من حيث كانا معا توسعة على العبد ورفع حرج عنه ، وإثباتا لحظه ، وتصير المباحات ـ عند هذا النظر ـ تتعارض مع المندوبات على الأوقات ، فيؤثر حظه في الأخرى على حظه في الدنيا أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه ; فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا أو آخذا له حقا لربه ، فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله ، وحق الله هو المقدم والمقصود ; فإن [ على ] العبد بذل المجهود ، والرب يحكم ما يريد . وهذا الوجه يعتبره الأولياء من أصحاب الأحوال ، ويعتبره أيضا غيرهم ممن رقى عن الأحوال ، وعليه يربون التلاميذ ، ألا ترى أن من مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم ، واجتناب الرخص جملة ، حتى آل الحال بهم أن عدوا [ ص: 474 ] أصل الحاجيات كلها أو جلها من الرخص ، وهو ما يرجع إلى حظ العبد منها حسبما بان لك في هذا الإطلاق الأخير ، وسيأتي لهذا الذي ذهبوا إليه تقرير في هذا النوع إن شاء الله تعالى . فصل ولما تقررت هذه الإطلاقات الأربعة ، ظهر أن منها ما هو خاص ببعض الناس ، وما هو عام للناس كلهم ; فأما العام للناس كلهم فذلك الإطلاق الأول ، وعليه يقع التفريع في هذا النوع ، وأما الإطلاق الثاني فلا كلام عليه هنا ; إذ لا تفريع يترتب عليه ، وإنما يتبين به أنه إطلاق شرعي ، وكذلك الثالث ; وأما الرابع فلما كان خاصا بقوم لم يتعرض له على الخصوص ، إلا أن التفريع على الأول يتبين به التفريع عليه ; فلا يفتقر إلى تفريع خاص بحول الله تعالى . المسألة الثانية حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة ، والدليل على ذلك أمور : أحدها : موارد النصوص عليها كقوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] . وقوله : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] . وقوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية [ ص: 475 ] [ النساء : 101 ] . وقوله : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] الآية إلى آخرها . وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله : فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] ، وقوله : فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ، ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة ، بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة ، وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل ، كقوله تعالى : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة [ البقرة : 236 ] . ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] . ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ البقرة : 235 ] . إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح ، وبجواز الإقدام خاصة . [ ص: 476 ] وقال تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 185 ] . وفي الحديث : كنا نسافر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمنا المقصر ومنا المتم ، ولا يعيب بعضنا على بعض . والشواهد على ذلك كثيرة . [ ص: 477 ] والثاني : أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه ; حتى يكون من ثقل التكليف في سعة واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة ، وهذا أصله الإباحة كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ البقرة : 29 ] . قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] . متاعا لكم ولأنعامكم [ النازعات : 33 ] . بعد تقرير نعم كثيرة . وأصل الرخصة السهولة ، ومادة [ رخ ص ] للسهولة واللين كقولهم : شيء رخص : بين الرخوصة ، ومنه الرخص ضد الغلاء ، ورخص له في الأمر فترخص هو فيه إذا لم يستقص له فيه ، فمال هو إلى ذلك ، وهكذا سائر استعمال المادة . والثالث : إنه لو كانت الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا لكانت عزائم لا رخصا ، والحال بضد ذلك ; فالواجب هو الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه ، [ ص: 478 ] والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر ، ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات : إنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها ، فإذا كان كذلك ; ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين ، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة . فإن قيل : هذا معترض من وجهين : أحدهما : إن ما تقدم من الأدلة لا يدل على مقصود المسألة ; إذ لا يلزم من رفع الجناح والإثم عن الفاعل للشيء أن يكون ذلك الشيء مباحا ; فإنه قد يكون واجبا أو مندوبا ، أما أولا ; فقد قال تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] ، وهما مما يجب الطواف بينهما ، وقال تعالى : ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى [ البقرة : 203 ] ، والتأخر مطلوب طلب الندب ، وصاحبه أفضل عملا من المتعجل ، إلى غير ذلك من المواضع التي في هذا المعنى . ولا يقال : إن هذه المواضع نزلت على أسباب ، حيث توهموا الجناح كما ثبت في حديث عائشة ; لأنا نقول : مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب ، [ ص: 479 ] وهي توهم الجناح كقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] . وقوله : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم [ النور : 61 ] إلى آخرها . وقوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج [ النور : 61 ] . [ استدراك : 4 ] . ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ البقرة : 235 ] . جميع هذا وما كان مثله متوهم فيه الجناح والحرج ، وإذا استوى الموضوعان لم يكن في النص على رفع الإثم والحرج والجناح دلالة على حكم الإباحة على الخصوص ، فينبغي أن يؤخذ حكمه من محل آخر ودليل خارجي . [ ص: 480 ] والثاني : أن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها ، فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية ، ونصوا على طلب الجمع بعرفة والمزدلفة ، وأنه سنة ، وقيل في قصر المسافر : إنه فرض أو سنة أو مستحب ، وفي الحديث : إن الله يحب أن تؤتى رخصه ، وقال ربنا تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] إلى كثير من ذلك ; فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل . فالجواب عن الأول : إنه لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول والاستعمال ، فإذا خلينا واللفظ كان راجعا إلى معنى الإذن في الفعل على الجملة ; فإن كان لرفع الجناح والحرج سبب خاص فلنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب ; فقد يتوهم فيما هو مباح شرعا أن فيه إثما بناء على استقرار عادة تقدمت أو رأي عرض كما توهم بعضهم الإثم في الطواف بالبيت بالثياب ، وفي بعض المأكولات حتى نزل : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] ، وكذلك في الأكل من بيوت الآباء [ ص: 481 ] والأمهات ، وسائر من ذكر في الآية ، وفي التعريض بالنكاح في العدة ، وغير ذلك ، فكذلك قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] يعطي معنى الإذن ; وأما كونه واجبا فمأخوذ من قوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ البقرة : 158 ] أو من دليل آخر ; فيكون التنبيه هنا على مجرد الإذن الذي يلزم الواجب من جهة مجرد الإقدام مع قطع النظر عن جواز الترك أو عدمه . ولنا أن نحمله على خصوص السبب ، ويكون مثل قوله في الآية من شعائر [ الحج : 36 ] قرينة صارفة للفظ عن مقتضاه في أصل الوضع ; أما ما له سبب مما هو في نفسه مباح فيستوي مع ما لا سبب له في معنى الإذن ولا إشكال فيه ، وعلى هذا الترتيب يجري القول في الآية الأخرى ، وسائر ما جاء في هذا المعنى . والجواب عن الثاني أنه قد تقدم أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين [ ص: 482 ] متنافيين فلا بد أن يرجع الوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية ، لا إلى الرخص بعينها ، وذلك أن المضطر الذي لا يجد من الحلال ما يرد به نفسه ، أرخص له في أكل الميتة قصدا لرفع الحرج عنه وردا لنفسه من ألم الجوع ; فإن خاف التلف وأمكنه تلافي نفسه بأكلها كان مأمورا بإحياء نفسه لقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها إذا أمكنه تلافيه ، بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه ، فلا شك أن الزوال عنه مطلوب ، وأن إيقاع نفسه فيه ممنوع ، ومثل هذا لا يسمى رخصة ; لأنه راجع إلى أصل كلي ابتدائي ، فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة هو مأمور بإحياء نفسه ، فلا يسمى رخصة من هذا الوجه ، وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه . فالحاصل أن إحياء النفس على الجملة مطلوب طلب العزيمة ، وهذا فرد من أفراده ، ولا شك أن الرخصة مأذون فيها لرفع الحرج ، وهذا فرد من أفرادها ; فلم تتحد الجهتان ، وإذا تعددت الجهات زال التدافع ، وذهب التنافي ، [ ص: 483 ] وأمكن الجمع . وأما جمع عرفة والمزدلفة ونحوه ، فلا نسلم أنه عند القائل بالطلب رخصة ، بل هو عزيمة متعبد بها عنده ، ويدل عليه حديث عائشة ـ رضى الله عنها ـ في القصر : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين الحديث ، وتعليل القصر بالحرج والمشقة لا يدل على أنه رخصة ; إذ ليس كل ما كان رفعا للحرج يسمى رخصة على هذا الاصطلاح العام ، وإلا فكان يجب أن تكون الشريعة كلها رخصة لخفتها بالنسبة إلى الشرائع المتقدمة أو يكون شرع الصلاة خمسا رخصة ; لأنها شرعت في السماء خمسين ، ويكون القرض والمساقاة والقراض وضرب الدية على العاقلة رخصة ، وذلك لا يكون كما تقدم ، فكل ما خرج عن مجرد الإباحة فليس برخصة . وأما قوله : إن الله يحب أن تؤتى رخصه فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . [ ص: 484 ] وأيضا ; فالمباحات منها ما هو محبوب ومنها ما هو مبغض كما تقدم بيانه في الأحكام التكليفية فلا تنافي . وأما قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وما كان نحوه ; فكذلك أيضا لأن شرعية الرخص المباحة تيسير ورفع حرج ، وبالله التوفيق . |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (36) صـ485 إلى صـ 496 المسألة الثالثة أن الرخصة إضافية لا أصلية ، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده ، وبيان ذلك من أوجه : أحدها : إن سبب الرخصة المشقة ، والمشاق تختلف بالقوة والضعف ، وبحسب الأحوال ، وبحسب قوة العزائم وضعفها ، وبحسب الأزمان ، وبحسب الأعمال ، فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة ، وأرض مأمونة ، وعلى بطء وفي زمن الشتاء ، وقصر الأيام ; كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر ، وكذلك الصبر على شدائد السفر ومشقاته يختلف ; فرب [ ص: 485 ] رجل جلد ضري على قطع المهامه ، حتى صار له ذلك عادة لا يحرج بها ، ولا يتألم بسببها ، يقوى على عباداته ، وعلى أدائها على كمالها ، وفي أوقاتها ، ورب رجل بخلاف ذلك ، وكذلك في الصبر على الجوع والعطش ، ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة ، وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر على ضبطها ، وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها ، وإذا كان كذلك ; فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس ، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة ; فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة ، وترك كل مكلف على ما يجد ، أي : إن كان قصر أو فطر ففي السفر ، وترك كثيرا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض ، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر ، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر ، وهذا لا مرية فيه ; فإذا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ، ولا ضابط مأخوذ باليد ، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه ; فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع ، ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب ، وكما ذكر عن الأولياء ; فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك ، هذا وجه . والثاني : إنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس ، وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا [ ص: 486 ] الشدائد ، وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم ، من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك ، وطالت عليهم الآماد ، وهم على أول أعمالهم حرصا عليها ، واغتناما لها ; طمعا في رضى المحبوبين ، واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم ، بل لذة لهم ونعيم ، وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد ، وألم أليم ، فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات ، وذلك يقضي بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات . والثالث : ما يدل على هذا من الشرع ; كالذي جاء في وصال الصيام ، وقطع الأزمان في العبادات ; فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد ، ثم فعله من بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علما بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم ، ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم ، ويقطعهم عن سلوك طريقهم ; فلا حرج في حقهم ، وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته ، وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيا ، ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك ; ، لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة على نوع من أنواعها ، وهو غير منتهض إلا أن يجعل [ ص: 487 ] منضما إلى ما قبله ، فالاستدلال بالمجموع صحيح حسبما هو مذكور في فصل العموم في كتاب الأدلة . فإن قيل : الحرج المعتبر في مشروعية الرخصة ; إما أن يكون مؤثرا في المكلف بحيث لا يقدر بسببه على التفرغ لعادة ولا لعبادة أو لا يمكن له ذلك على حسب ما أمر به أو يكون غير مؤثر ، بل يكون مغلوب صبره ومهزوم عزمه ، فإن كان الأول فظاهر أنه محل الرخصة ، إلا أنه يطلب فيه الأخذ بالرخصة وجوبا أو ندبا على حسب تمام القاطع عن العمل أو عدم تمامه ، وإذا كانت مأمورا بها ; فلا تكون رخصة كما تقدم بل عزيمة ، وإن كان الثاني فلا حرج في العمل ولا مشقة ، إلا [ ما ] في الأعمال المعتادة ، وذلك ينفي كونه حرجا ينتهض علة للرخصة ، وإذا انتفى محل الرخصة في القسمين ولا ثالث لهما ; ارتفعت الرخصة من أصلها ، والاتفاق على وجودها معلوم ، هذا خلف ; [ ص: 488 ] فما انبنى عليه مثله . فالجواب من وجهين : أحدهما : أن هذا السؤال منقلب على وجه آخر ; لأنه يقتضي أن تكون الرخص كلها مأمورا بها وجوبا أو ندبا ; إذ ما من رخصة تفرض إلا وهذا البحث جار فيها ، فإذا كان مشترك الإلزام لم ينهض دليلا ، ولم يعتبر في الإلزامات . والثاني : إنه إن سلم ; فلا يلزم السؤال لأمرين : أحدهما : إن انحصار الرخص في القسمين لا دليل عليه ; لإمكان قسم ثالث بينهما ، وهو أن لا يكون الحرج مؤثرا في العمل ، ولا يكون المكلف رخي البال عنده ، وكل أحد يجد من نفسه في المرض أو السفر حرجا في الصوم ، مع أنه لا يقطعه عن سفره ، ولا يخل به في مرضه ، ولا يؤديه إلى الإخلال بالعمل ، وكذلك سائر ما يعرض من الرخص ، جار فيه هذا التقسيم ، والثالث : هو محل الإباحة ; إذ لا جاذب [ له ] يجذبه لأحد الطرفين . والآخر : أن طلب الشرع للتخفيف حيث طلبه ليس من جهة كونه [ ص: 489 ] رخصة ، بل من جهة كون العزيمة لا يقدر عليها أو كونها تؤدي إلى الإخلال بأمر من أمور الدين أو الدنيا ، فالطلب من حيث النهي عن الإخلال لا من حيث العمل بنفس الرخصة ، ولذلك نهي عن الصلاة بحضرة الطعام ، ومع مدافعة الأخبثين ، ونحو ذلك ; فالرخصة باقية على أصل الإباحة من حيث هي [ ص: 490 ] رخصة فليست بمرتفعة من الشرع بإطلاق ، وقد مر بيان جهتي الطلب والإباحة ، والله أعلم . المسألة الرابعة الإباحة المنسوبة إلى الرخصة ; هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج ، أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك ؟ فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر ، وذلك ظاهر في قوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] ، وقوله في الآية الأخرى : فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ; فلم يذكر في ذلك أن له الفعل والترك ، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم . وكذلك قوله : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 184 ] ، ولم يقل : فله الفطر ، ولا فليفطر ، ولا يجوز له ، بل ذكر نفس العذر وأشار إلى أنه إن أفطر ; فعدة من أيام أخر . وكذلك قوله : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] على القول بأن المراد القصر من عدد الركعات ، ولم يقل : فلكم أن [ ص: 491 ] تقصروا أو فإن شئتم فاقصروا . وقال [ تعالى ] في المكره : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره الآية إلى قوله : ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله [ النحل : 106 ] ; فالتقدير أن من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولم يقل : فله أن ينطق أو إن شاء فلينطق . وفي الحديث : أكذب امرأتي ؟ قال له : لا خير في الكذب . قال له : أفأعدها وأقول لها ؟ قال : لا جناح عليك ، ولم يقل له نعم ، ولا افعل إن [ ص: 492 ] شئت . والدليل على أن التخيير غير مراد في هذه الأمور ، أن الجمهور أو الجميع يقولون : من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الإكراه مأجور ، وفي أعلى الدرجات ، والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر ; فكذلك غيره من المواضع [ ص: 493 ] المذكورة وسواها . وأما الإباحة التي بمعنى التخيير ففي قوله تعالى : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم [ البقرة : 223 ] ، يريد : كيف شئتم : مقبلة ومدبرة وعلى جنب ; فهذا تخيير واضح ، وكذلك قوله : وكلا منها رغدا حيث شئتما [ البقرة : 35 ] ، وما أشبه ذلك ، وقد تقدم في قسم خطاب التكليف فرق ما بين المباحين . فإن قيل : ما الذي ينبني على الفرق بينهما ؟ قيل : ينبني عليه فوائد كثيرة ، ولكن العارض في مسألتنا أنا إن قلنا : الرخصة مخير فيها حقيقة لزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير ، وليس كذلك إذا قلنا : إنها مباحة بمعنى رفع الحرج عن فاعلها ; إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير ; ألا ترى أنه موجود مع الواجب ؟ ، وإذا كان كذلك ; تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود شرعا ، فإذا عمل بها لم يكن بين المعذور وبين غيره في العمل بها فرق ، لكن العذر رفع التأثيم عن المنتقل عنها إن اختار لنفسه الانتقال ، وسيأتي لهذا بسط إن شاء الله تعالى . المسألة الخامسة الترخص المشروع ضربان : أحدهما : أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعا ; كالمرض الذي يعجز معه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلا أو عن الصوم لفوت [ ص: 494 ] النفس . أو شرعا كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة أو على إتمام أركانها ، وما أشبه ذلك . والثاني : أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها ، وأمثلته ظاهرة . فأما الأول ; فهو راجع إلى حق الله ; فالترخص فيه مطلوب ، ومن هنا جاء : ليس من البر الصيام في السفر ، وإلى هذا المعنى يشير النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان ، و إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء إلى ما كان نحو ذلك ; فالترخص في هذا الموضع ملحق بهذا الأصل ، ولا كلام أن الرخصة هاهنا جارية مجرى العزائم ، ولأجله قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوف التلف ، وأن من لم يفعل ذلك فمات دخل النار . وأما الثاني : فراجع إلى حظوظ العباد لينالوا من رفق الله وتيسيره بحظ ; إلا أنه على ضربين : [ ص: 495 ] أحدهما : أن يختص بالطلب حتى لا يعتبر فيه حال المشقة أو عدمها ; كالجمع بعرفة والمزدلفة ; فهذا أيضا لا كلام فيه أنه لاحق بالعزائم ، من حيث صار مطلوبا مطلقا طلب العزائم حتى عده الناس سنة لا مباحا ، لكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه رخصة ; إذ الطلب الشرعي في الرخصة لا ينافي كونها رخصة ; كما يقوله العلماء في أكل الميتة للمضطر ; فإذا هي رخصة من حيث وقع عليها حد الرخصة ، وفي حكم العزيمة من حيث كانت مطلوبة طلب العزائم . والثاني : أن لا يختص بالطلب ، بل يبقى على أصل التخفيف ورفع الحرج ، فهو على أصل الإباحة ، فللمكلف الأخذ بأصل العزيمة ، وإن تحمل في ذلك مشقة ، وله الأخذ بالرخصة . والأدلة على صحة الحكم على هذه الأقسام ظاهرة ، فلا حاجة إلى إيرادها ، فإن تشوف أحد إلى التنبيه على ذلك فنقول : أما الأول ; فلأن المشقة إذا أدت إلى الإخلال بأصل كلي ; لزم أن لا يعتبر فيه أصل العزيمة ; إذ قد صار إكمال العبادة هنا والإتيان بها على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها ، فالإتيان بما قدر عليها منها ـ وهو مقتضى الرخصة ـ هو المطلوب ، وتقرير هذا الدليل مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب . [ ص: 496 ] وأما الثاني ; فإذا فرض اختصاص الرخصة المعينة بدليل يدل على طلب [ العمل بها على الخصوص ، خرجت من هذا الوجه عن أحكام الرخصة في نفسها ، كما ثبت عند مالك ] [ الدليل على ] طلب الجمع بعرفة والمزدلفة ، فهذا وشبهه مما اختص عن عموم حكم الرخصة ، ولا كلام فيه . وأما الثالث ; فما تقدم من الأدلة واضح في الإذن في الرخصة أو في رفع الإثم عن فاعلها . |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
الساعة الآن : 06:36 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour