تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
مارأيكم في تفسير القاسمي للقاسمي وهل تنصحون بان يبتدي فيه طالب العلم محمد جمال الدين القاسمي وكتابه محاسن التأويل https://www.islamweb.net/PicStore/Ra...970_194230.jpg تعريف بالمؤلف المؤلف هو محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي الشامي الحسني. ولد في دمشق في جمادى الأولى سنة 1283هـ وتوفي في دمشق في جمادى الأولى سنة 1332هـ . أي أنه عاش تسعة وأربعين عاماً وما بلغ الخمسين عاماً! بينما بلغت مؤلفاته وأعماله أكثر من مائة كتاب ورسالة. فيالها من حياة مليئة بالعمل والعلم والجهاد والإصلاح والتأليف والتصنيف! كان إماماً وخطيباً في دمشق ، وكان يلقي عدة دروس في اليوم الواحد ، للعامة والخاصة ، ويشارك في الحياة الاجتماعية ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقوم بواجبه في الدعوة والإصلاح ، والنصح والتذكير ، والنقاش والحوار ، ومواجهة البدع والخرافات ، والانحرافات والضلالات. وكان يلقبه محمد رشيد رضا بعلامة الشام. من أشهر كتبه المطبوعة : تفسيره محاسن التأويل وسيأتي الحديث عنه ، وقواعد التحديث في مصطلح الحديث وهو نفيس ، وإصلاح المساجد من البدع والعوائد ، وتاريخ الجهمية والمعتزلة ، وغيرها. وقد صدرت عنه عدة دراسات من آخرها ما كتبه الدكتور نزار أباظة بعنوان (جمال الدين القاسمي). وقد صدر عام 1417هـ. تفسيره محاسن التأويل ابتدأ القاسمي تفسيره في صدر شبابه حيث بدأ في تأليفه في شوال سنة 1316هـ ، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره ، وراجعه سنة 1329هـ قبل وفاته بثلاث سنوات. ويقع تفسيره في سبعة مجلدات كبار ، والطبعة القديمة منه تقع في سبعة عشر مجلداً ، وعدد صفحاتهها 6316 صفحة من غير المقدمة ، وقد استغرقت المقدمة منها الجزء الأول كاملاً ، بينما استغرقت المقدمة من الطبعة التي أملكها 200 صفحة من القطع الكبير. وقد سبق القاسميَّ إلى تفسير القرآن في زمنه الشيخ الألوسي في روح البيان ومحمد رشيد رضا وشيخه محمد عبده في تفسير المنار وطنطاوي جوهري في الجواهر ، وفي هذا المحيط المتنوع لكتب التفسير بدأ القاسمي في تأليف تفسيره. والحق أن القاسمي قرأ كثيراً في كتب السابقين ، ونقل الكثير في تفسيره ، حتى إن كثيراً من الآيات جاء شرحها معزواً إلى غيره – وتلك أمانة – دون أن يشترك بتعقيب كاشف ، ولكنه تمتع بميزة حسنة ، هي البعد عن مسائل النحو والبلاغة ، ونظريات الفلسفة والمنطق ، مما نجده لدى أمثال الزمخشري والفخر الرازي ، وصحيح أن أي تفسير لا يمكن أن يستغني عن شذور من مسائل النحو والبلاغة والمنطق ، إذا أعوز المقام تلك الشذور ، وقد جاء القاسمي بها في مناسبتها الملحَّة ، ولكن الإكثار منها كما في تفسير البحر المحيط للغرناطي ، وتفسير الكشاف للزمخشري ، ومن نحا منحاهما تضخم يكاد يكون ورماً ، وقد خلص منه تفسير محاسن التأويل. وقد افتتح التفسير بمقدمة حافلة ، تتحدث في إسهاب عن أمور جوهرية تتعلق بعلم التفسير ، إذ تتضمن الحديث عن معرفة أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، وقصص الأنبياء ، وشيوع الإسرائيليات بها ، وجريان القرآن على اللسان العربي ، ومعنى التفسير الباطن والتفسير الظاهر ، وأيهما أصح وأسلم ، والسنة المطهرة ومنزلتها من تفسير القرآن ، والمكي والمدني في كتاب الله ، والاعتدال في التفسير بالمأثور والرأي ، وأسرار التكرار في القرآن ، والأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ومسائل أخرى غاية في الأهمية.وهي مقدمة جديرة بالدراسة والفهم . وأحسن طبعات (محاسن التأويل) تلك التي أشرف عليها الأستاذ محمد فؤاد عبدالباقي ، حيث صحح التفسير ورقمه ، وخرج آياته وأحاديثه وعلق عليه. وقد صدرت طبعته الأولى بين عامي 1376-1377هـ من دار إحياء الكتب العربية ، ثم تتابعت الطبعات بعد ذلك . وقد تحدث القاسمي عن صلته بالقرآن وتفسيره ، فقال :(وإني وإن كنت حركت الهمة إلى تحصيل ما فيه من الفنون ، والاكتحال بإثمد مطالبه لتنوير العيون ، فأكببت على النظر فيه ، وشغفت بتدبر لآلي عقوده ودراريه ، وتصفحت ما قدر لي من تفاسير السابقين ، وتعرفت – حين درست – ما تخللها من الغث والسمين – ورايت كلاً – بقدر وسعه – حام حول مقاصده ، وبمقدار طاقته جال في ميدان دلائله وشواهده. وبعد أن صرفت في الكشف عن حقائقه شطراً من عمري ، ووقفت على الفحص عن دقائقه قدراً من دهري ، أردت أن أنخرط في سلك مفسريه الأكابر ، قبل أن تبلى السرائر ، وتفنى العناصر ، وأكون بخدمته موسوماً، وفي حملته منظوماً..فشحذت كليل العزم ، وأيقظت نائم الهم... واستخرت الله تعالى في تقرير قواعده ، وتفسير مقاصده ، في كتاب اسمه بعون الجليل :(محاسن التأويل). أودعه ما صفا من التحقيقات ، وأوشحه بمباحث هي المهمات ، وأوضح فيه خزائن الأسرار ، وأنقد فيه نتائج الأفكار ، وأسوق إليه فوائد التقطتها من تفاسير السلف الغابر ، وفرائد عثرت عليها في غضون الدفاتر ، وزوائد استنبطتها بفكري القاصر ، مما قادني الدليل إليه ، وقوى اعتمادي عليه. وسيحمد السابح في لججه ، والسانح في حججه ، ما أودعته من نفائسه الغريبة البرهان ، وأوردته من أحاديثه الصحاح والحسان ، وبدائعه الباهرة للأذهان... فإنها لب اللباب ، ومهتدى أولي الألباب ! ولم أطل ذيول الأبحاث بغرائب التدقيقات بل اخترت حسن الإيجاز في حل المشكلات... ولا يخفى أن من القضايا المسلمة ، والمقدمات الضرورية ، أنه مهما تأنق الخبير في تحرير دقائقه السنية ، فما هو إلا كالشرح لشذرة من معانيه الظاهرة ، وكالكشف للمعة يسيرة من أنواره الباهرة ، إذ لا قدرة لأحد على استيفاء جميع ما اشتمل عليه الكتاب ، وما تضمنه من لب اللباب ، لأنه منطو على أسرار مصونة ، وجواهر حكم مكنونة ، لا يكشفها بالتحقيق إلا من اجتباه مولاه ، ولا تتبين حقائقها إلا بالتلقي عن خيرته ومصطفاه. وكان شروعي في هذه النية الحميدة ، بعد استخارته تعالى أياماً عديدة ، في العشر الأول من شوال في الحول السادس عشر بعد الثلاثمئة وألف). والقاسمي كثيراً ما ينقل نقولاً طويلة عن علماء السلف كالإمام أحمد بن حنبل وابن جرير الطبري وابن تيمية وابن القيم وابن كثير والعز بن عبدالسلام والشاطبي وابن حزم والقرطبي وغيرهم. والحق أن النقول في كتابه قد زادت زيادة كانت مصدر العجب ، بحيث لو طار كل نص إلى أصله ما يكاد يبقى شيء للقاسمي غير تعليقات ضئيلة ، ولكن الزمن الذي ظهر فيه الكتاب أول مرة كان في حاجة إلى تلك النقول ، لتعذر مصادرها على الكثير ، وبدراسة أمثال هذه النقول الشافية نجد أنها لم تسق جزافاً ، وإنما خضعت لفحص وتأمل واستيعاب ، ثم ترجيح واختيار ، فالقارئ المتعجل يظن المفسر قد نقل ما أمامه دون جهد كبير ، وهذا عمل قل من يحسنه كالقاسمي https://vb.tafsir.net/core/images/smilies/rhm.png. ثم إن الكتاب قد ألف في أوائل القرن الماضي ، أيام كانت هذه البحوث جديدة طريفة يتقبلها القارئ باشتياق ، ولكن مُضيَّ قرنٍ عليها ، أتاح لطلاب الدراسات العليا في كليات الشريعة وأصول الدين أن يبدعو الرسائل العلمية الشافية ، وأن يبرزوا في هذا الحقل ما يروق القارئ المعاصر ، ومحاولة المقارنة بينهم وبين صنيع القاسمي محاولة ظالمة ، لأن الرجل رائد يسير الخطوات الأولى في طريق غير ممهد ، وقد مضت عقود متوالية في مضمار البحث القرآني حتى اعتدل السير ، واستقام الطريق ، وهنا يحفظ للرائد مكان الريادة ، ولا نطالبه بما نطالب به اللاحق من ابتكار وتجويد. وهو يحرص على أن يستشهد بالصحيح والحسن من الأحاديث في تفسيره. وفي اللغة يرجع إلى كتب اللغة كالقاموس والصحاح وغيرهما . منهجه في مسائل الاعتقاد كان القاسمي سلفي المنهج على منهج أهل السنة والجماعة ، فهو من أتباع شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأئمة السلف من قبل هؤلاء ومن بعدهم. وقد تعرض لمضايقات كثيرة بسبب هذا المنهج فاتهم بالوهابية – نسبة خاطئة إلى الإمام محمد بن عبدالوهاب – وحقق معه ، واتهم بتسفيه آراء الأئمة المتقدمين من أصحاب المذاهب ، ثم خرج بعد ذلك من تلك المحن وهو أقوى ما يكون حجة ، وأصلب عوداً. والقارئ في تفسيره يرى منهج السلف ظاهراً ، فهو يكثر النقل عن علماء السلف ، ويورد حججهم وأدلتهم ، وردودهم على شبه الخصوم ، مما يؤكد أن المؤلف كان يجعل همه كل همه الإصلاح ليس إلا ، وإنما يورد هذه النصوص ليلجم بها الخصوم ، فإنهم إن استطاعوا جدلاً رد أقواله ، صعب عليهم إبطال أقوال علماء بهم يقتدون ، وبعلمهم يعترفون فكانت حجتهم لهم غالبة. وهو في أحيان كثيرة لا يزيد في تفسير الآية على نقل كلام السلف فيها ، وانظر مثلاً لذلك تفسيره لقوله تعالى :(ثم استوى على العرش) فقد استغرق منه تفسير هذه الآية 47 صفحة أغلبها نقول عن السلف ، وهو إنما يربط كلامهم بعضه ببعض. وقد أكد في مقدمة تفسيره أن الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف ، أورد فيه نقولاً لبعض العلماء في إثبات ذلك. خلاصة الجواب للأخ منتقى تفسير محاسن التأويل للقاسمي من أنفس كتب التفسير ، وقد أتى فيه بدرر ونفائس ، ولكنه لا يصلح للقارئ المبتدي لأنه طويل النفس جداً ، وأكثره نقول كما تقدم عن السابقين ، ويحتاج في فهمه إلى صبر وأناة ، والمبتدئ يفتقر في الغالب إلى تلك الصفات ، وإنما يهمه في المرحلة الأولى فهم الغريب من الألفاظ والتراكيب وبعض المقدمات الضرورية ، ولذلك فإنني أنصحك يا أخ منتقى أن تراجع ما كتبه الأخ أبو مجاهد وفقه الله في هذا الملتقى حول الكتب التي يحسن بطالب علم التفسير أن يبتدأ بها ويتدرج في فهمها حتى ينال حظاً وافراً من فهم القرآن الكريم ، وتجد كلامه على هذا الرابط: http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?s=&threadid=26 ويمكننا النقاش حول هذا إن بدا لك سؤال ، أو كان ثمة إشكال ، وما أسعدنا بمشاركة الإخوة حول هذا الموضوع ، فما كتبته لا يعدو كونه اجتهاداً . وفق الله الجميع للحق والسداد ، والله أعلم منقول |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg https://i.imgur.com/kRcArgy.gif تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة الفاتحة المجلد الثانى صـ 3 الى صـ 9 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَاتِحَةُ الشَّيْءِ: أَوَّلُهُ وَابْتِدَاؤُهُ. وَلَمَّا افْتُتِحَ التَّنْزِيلُ الْكَرِيمُ بِهَا، إِمَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- كَمَا حَكَى الْقَوْلَيْنِ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ فِي تَرْتِيبِ التَّنْزِيلِ- سُمِّيَتْ بِذَلِكَ. قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ صَارَتْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ لِسُورَةِ الْحَمْدِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا «الْفَاتِحَةُ» وَحْدَهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَمًا آخَرَ بِالْغَلَبَةِ أَيْضًا، لِكَوْنِ اللَّامِ لَازِمَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِصَارًا، وَاللَّامُ كَالْعِوَضِ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْكِتَابِ، مَعَ لَمْحِ الْوَصْفِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: سُمِّيَتْ «فَاتِحَةَ الْكِتَابِ» : لِأَنَّهَا يُفْتَتَحُ بِكِتَابَتِهَا الْمَصَاحِفُ، وَيُقْرَأُ بِهَا فِي الصَّلَوَاتِ. فَهِيَ فَوَاتِحُ لِمَا يَتْلُوهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ. وَتُسَمَّى «أُمَّ الْقُرْآنِ» : لِتُقَدُّمِهَا عَلَى سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ غَيْرَهَا، وَتَأَخُّرِ مَا سِوَاهَا خَلْفَهَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ تُقَدَّمُ الْأُمُّ وَالْأَصْلُ؛ أَوْ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَالتَّعَبُّدُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَبَيَانُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ؛ أَوْ عَلَى جُمْلَةِ مَعَانِيهِ مِنَ الْحِكَمِ النَّظَرِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي هِيَ سُلُوكُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَعَارِجِ السُّعَدَاءِ، وَمَنَازِلِ الْأَشْقِيَاءِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ أَمْرٍ جَامِعٍ أُمُورًا، وَكُلَّ مُقَدَّمٍ لَهُ تَوَابِعُ تَتْبَعُهُ «أُمًّا» - فَتَقُولُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ «أُمَّ الرَّأْسِ» وَتُسَمِّي لِوَاءَ الْجَيْشِ وَرَايَتَهُمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ تَحْتَهَا «أُمًّا». وَتُسَمَّى «السَّبْعَ الْمَثَانِيَ» - جَمْعُ مَثْنَى كَمُفْعَلٍ اسْمِ مَكَانٍ، أَوْ مُثَنَّى بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّثْنِيَةِ [ ص: 4 ] عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ- لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ أَيْ تُكَرَّرُ فِيهَا. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ مَكِّيَّةٌ، وَأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ. وَأَصْلُ مَعْنَى «السُّورَةِ» لُغَةً: الْمَنْزِلَةُ مِنْ مَنَازِلِ الِارْتِفَاعِ. وَمِنْ ذَلِكَ سُورُ الْمَدِينَةِ لِلْحَائِطِ الَّذِي يَحْوِيهَا، وَذَلِكَ لِارْتِفَاعِهِ عَلَى مَا يَحْوِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ بَنِي ذُبْيَانَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ أَيْ مَنْزِلَةً مِنْ مَنَازِلِ الشَّرَفِ الَّتِي قَصَرَتْ عَنْهَا مَنَازِلُ الْمُلُوكِ. وَأَمَّا «الْآيَةُ» فَإِمَّا بِمَعْنَى: الْعَلَامَةُ- لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا تَمَامُ مَا قَبْلَهَا وَابْتِدَاؤُهَا، كَالْآيَةِ الَّتِي تَكُونُ دَلَالَةً عَلَى الشَّيْءِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ- وَإِمَّا بِمَعْنَى: الْقِصَّةِ- كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: أَلَا أَبْلِغَا هَذَا الْمُعَرِّضَ آيَةً أَيَقْظَانَ قَالَ الْقَوْلَ، إِذْ قَالَ، أَمْ حَلَمْ أَيْ رِسَالَةٌ مِنِّي، وَخَبَرًا عَنِّي- فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَاتِ «الْقَصَصَ» قِصَّةً تَتْلُو قِصَّةً. الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : [1 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ ، أَدَّبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْلِيمِهِ تَقْدِيمَ ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَمَامَ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِي وَصْفِهِ بِهَا قَبْلَ جَمِيعِ مُهِمَّاتِهِ ، وَجَعَلَ -مَا أَدَّبَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ- مِنْهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ : سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا، وَسَبِيلًا يَتْبَعُونَهُ عَلَيْهَا ، فَبِهِ افْتِتَاحُ أَوَائِلِ مَنْطِقِهِمْ ، وَصُدُورِ رَسَائِلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ ، حَتَّى أَغْنَتْ دَلَالَةُ مَا ظَهَرَ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : بِسْمِ اللَّهِ ، عَلَى مَا بَطَنَ مِنْ مُرَادِهِ الَّذِي هُوَ مَحْذُوفٌ ، [ ص: 5 ] وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاءَ مُقْتَضِيَةٌ فِعْلًا يَكُونُ لَهَا جَالِبًا ؛ فَإِذَا كَانَ مَحْذُوفًا يُقَدَّرُ بِمَا جُعِلَتِ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأً لَهُ . وَالِاسْمُ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ -كَالْكَلَامِ بِمَعْنَى التَّكْلِيمِ ، وَالْعَطَاءِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ- وَالْمَعْنَى : أَقْرَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ ، وَأَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى . وَ "اللَّهُ" عَلَمٌ عَلَى ذَاتِهِ ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ كُلُّ شَيْءٍ وَيَعْبُدُهُ وَأَصْلُهُ "إِلَاهُ" بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ أَيْ مَعْبُودٍ ؛ فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَتِهِ فِي الْكَلَامِ ؛ وَبَعْدَ الْإِدْغَامِ فُخِّمَتْ تَعْظِيمًا -هَذَا تَحْقِيقُ اللُّغَوِيِّينَ . وَ "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : هُمَا اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَنَظِيرُهُمَا فِي اللُّغَةِ "نَدِيمٌ وَنَدْمَانُ" وَهُمَا بِمَعْنًى . وَيَجُوزُ تَكْرِيرُ الِاسْمَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَ اشْتِقَاقَهُمَا عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ ، كَمَا يُقَالُ : جَادٌّ مُجِدٌّ إِلَّا أَنَّ "الرَّحْمَنِ" اسْمٌ مُخَصَّصٌ بِاللَّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ فَعَادَلَ بِهِ الِاسْمَ الَّذِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ . اهـ. وَقَدْ نَاقَشَ فِي كَوْنِ "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ الْمِصْرِيُّ فِي بَعْضِ مَبَاحِثِهِ التَّفْسِيرِيَّةِ قَائِلًا: إِنَّ ذَلِكَ غَفْلَةٌ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُسَامِحَ صَاحِبَهَا -ثُمَّ قَالَ:- وَأَنَا لَا أُجِيزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ ، فِي نَفْسِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ : إِنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً جَاءَتْ لِتَأْكِيدِ غَيْرِهَا وَلَا مَعْنًى لَهَا فِي نَفْسِهَا ، بَلْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَرْفٌ جَاءَ لِغَيْرِ مَعْنًى مَقْصُودٍ . وَالْجُمْهُورُ : عَلَى أَنَّ مَعْنَى الرَّحْمَنِ الْمُنْعِمُ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ ، وَمَعْنَى الرَّحِيمِ الْمُنْعِمُ بِدَقَائِقِهَا . وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : إِنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِنِعَمٍ عَامَّةٍ تَشْمَلُ الْكَافِرِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ ، وَالرَّحِيمَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الْخَاصَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَكُلُّ هَذَا تَحَكُّمٌ بِاللُّغَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّ الزِّيَادَةَ تَدُلُّ عَلَى الْوَصْفِ مُطْلَقًا؛ فَصِيغَةُ "الرَّحْمَنِ" تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُعْطِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ جَلِيلًا [ ص: 6 ] أَوْ دَقِيقًا. وَأَمَّا كَوْنُ أَفْرَادِ الْإِحْسَانِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ الْأَكْثَرُ حُرُوفًا أَعْظَمَ مِنْ أَفْرَادِ الْإِحْسَانِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ الْأَقَلُّ حُرُوفًا ، فَهُوَ غَيْرُ مَعْنِيٍّ وَلَا مُرَادٍ ، وَقَدْ قَارَبَ مَنْ قَالَ : إِنَّ مَعْنَى "الرَّحْمَنِ" الْمُحْسِنُ بِالْإِحْسَانِ الْعَامِّ . وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي تَخْصِيصِ مَدْلُولِ الرَّحِيمِ بِالْمُؤْمِنِينَ؛ وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَ مَنْ قَالَ : إِنَّ الثَّانِيَ مُؤَكِّدٌ لِلْأَوَّلِ -عَلَى قَوْلِهِ هَذَا- هُوَ عَدَمُ الِاقْتِنَاعِ بِمَا قَالُوهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ ، مَعَ عَدَمِ التَّفَطُّنِ لِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَالَّذِي أَقُولُ : إِنَّ لَفْظَ "رَحْمَنِ" وَصْفٌ فِعْلِيٌّ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ - كَفَعَّالٍ - وَيَدُلُّ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ عَلَى الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ -كَعَطْشَانَ وَغَرْثَانَ وَغَضْبَانَ- وَأَمَّا لَفْظُ "رَحِيمٍ" فَإِنَّهُ يَدُلُّ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ كَالْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا فِي النَّاسِ -كَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَجَمِيلٍ- وَالْقُرْآنُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي تَعْلُو عَنْ مُمَاثَلَةِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ؛ فَلَفْظُ "الرَّحْمَنِ" يَدُلُّ عَلَى مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُ الرَّحْمَةِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ إِفَاضَةُ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ ؛ وَلَفْظُ "الرَّحِيمِ" يَدُلُّ عَلَى مَنْشَأِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ ، وَعَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُسْتَغْنَى بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ ، فَإِذَا سَمِعَ الْعَرَبِيُّ وَصْفَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِـ "الرَّحْمَنِ" ، وَفَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ الْمُفِيضُ لِلنِّعَمِ فِعْلًا ، لَا يَعْتَقِدُ مِنْهُ أَنَّ الرَّحْمَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْوَاجِبَةِ لَهُ دَائِمًا -لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَنْقَطِعُ إِذَا كَانَ عَارِضًا لَمْ يَنْشَأْ عَنْ صِفَةٍ لَازِمَةٍ ثَابِتَةٍ -فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ لَفْظَ "الرَّحِيمِ" يَكْمُلُ اعْتِقَادُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَيُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ . انْتَهَى. الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : [2 ] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ" أَيِ الثَّنَاءُ بِالْجَمِيلِ ، وَالْمَدْحُ بِالْكَمَالِ ثَابِتٌ لِلَّهِ دُونَ سَائِرِ مَا يَعْبُدُ مِنْ دُونِهِ، وَدُونِ كُلِّ مَا بَرَأَ مِنْ خَلْقِهِ . وَاللَّامُ فِي "الْحَمْدُ" لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيِ اسْتِغْرَاقُ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْحَمْدِ وَثُبُوتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا وَتَمْجِيدًا- كَمَا فِي الْحَدِيثِ : « اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ» . [ ص: 7 ] قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي "طَرِيقِ الْهِجْرَتَيْنِ": الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُتَلَازِمَانِ. فَكُلُّ مَا شَمِلَهُ مُلْكَهُ وَقُدْرَتُهُ شَمِلَهُ حَمْدُهُ ، فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي مُلْكِهِ ، وَلَهُ الْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ مَعَ حَمْدِهِ ، فَكَمَا يَسْتَحِيلُ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ عَنْ مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ ، يَسْتَحِيلُ خُرُوجُهَا عَنْ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ ، وَلِهَذَا يَحْمَدُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عِنْدَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ لِيُنَبِّهَ عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ عَنْ حَمْدِهِ . فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ ، حَمْدَ شُكْرٍ وَعُبُودِيَّةٍ ، وَحَمْدَ ثَنَاءٍ وَمَدْحٍ، وَيَجْمَعُهُمَا التَّبَارُكُ ، "فَتَبَارَكَ اللَّهُ" يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَقِيبَ قَوْلِهِ : أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَالْحَمْدُ أَوْسَعُ الصِّفَاتِ وَأَعَمُّ الْمَدَائِحِ . وَالطُّرُقُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ ، وَالسَّبِيلُ إِلَى اعْتِبَارِهِ فِي ذَرَّاتِ الْعَالَمِ وَجُزْئِيَّاتِهِ ، وَتَفَاصِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَاسِعَةٌ جِدًّا ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَمْدٌ ، وَصِفَاتُهُ حَمْدٌ ، وَأَفْعَالُهُ حَمْدٌ ، وَأَحْكَامُهُ حَمْدٌ ، وَعَدْلُهُ حَمْدٌ ، وَانْتِقَامُهُ مِنْ أَعْدَائِهِ حَمْدٌ ، وَفَضْلُهُ فِي إِحْسَانِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ حَمْدٌ ، وَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ إِنَّمَا قَامَ بِحَمْدِهِ ، وَوُجِدَ بِحَمْدِهِ ، وَظَهَرَ بِحَمْدِهِ ، وَكَانَ الْغَايَةُ هِيَ حَمْدُهُ ، فَحَمْدُهُ سَبَبُ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ وَمَظْهَرُهُ وَحَامِلُهُ ، فَحَمْدُهُ رُوحُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَقِيَامُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَمْدِهِ ، وَسَرَيَانُ حَمْدِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ ، وَظُهُورُ آثَارِهِ فِيهِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِالْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ -ثُمَّ قَالَ- : وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ صِفَةِ عَلْيَاءَ ، وَاسْمِ حُسْنٍ ، وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ ، وَكُلُّ حَمْدٍ وَمَدْحٍ وَتَسْبِيحٍ وَتَنْزِيهٍ وَتَقْدِيسٍ وَجَلَالٍ وَإِكْرَامٍ فَهُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا وَأَدْوَمِهَا ؛ وَجَمِيعُ مَا يُوصَفُ بِهِ ، وَيُذْكَرُ بِهِ ، وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِهِ فَهُوَ مَحَامِدُ لَهُ وَثَنَاءٌ وَتَسْبِيحٌ وَتَقْدِيسٌ، فَسُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ لَا يُحْصِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ . اهـ. " رَبِّ الْعَالَمِينَ" الرَّبُّ يُطْلَقُ عَلَى السَّيِّدِ الْمُطَاعِ وَعَلَى الْمُصْلِحِ وَعَلَى الْمَالِكِ -تَقُولُ : رَبَّهُ يَرُبُّهُ فَهُوَ رَبٌّ كَمَا تَقُولُ : نَمَّ عَلَيْهِ يَنِمُّ فَهُوَ نَمٌّ -فَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ [ ص: 8 ] مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّرْبِيَةِ ، وَهِيَ : تَبْلِيغُ الشَّيْءِ إِلَى كَمَالِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وُصِفَ بِهِ الْفَاعِلُ مُبَالَغَةً كَمَا وُصِفَ بِالْعَدْلِ ، وَالرَّبُّ - بِاللَّامِ - لَا يُقَالُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَهُوَ فِي غَيْرِهِ عَلَى التَّقْيِيدِ بِالْإِضَافَةِ - كَرَبِّ الدَّارِ- وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ وَ "الْعَالَمِينَ" جَمْعُ عَالَمٍ وَهُوَ : الْخَلْقُ كُلُّهُ وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهُ ، وَإِيثَارُ صِيغَةِ الْجَمْعِ لِبَيَانِ شُمُولِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ الْأَجْنَاسِ ، وَالتَّعْرِيفُ لِاسْتِغْرَاقِ أَفْرَادِ كُلٍّ مِنْهَا بِأَسْرِهَا . الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : [3 ] الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِيرَادُهُمَا عَقْدُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ بَابِ قَرْنِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ الَّذِي هُوَ أُسْلُوبُ التَّنْزِيلِ الْحَكِيمِ . الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : [4 ] مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ "مَالِكِ" وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : وَرُجِّحَتْ قِرَاءَةُ "مَلِكِ" لِأَنَّهُ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ ، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ يَقْرَأُوا الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ، وَقُرَّاؤُهُمُ الْأَعْلَوْنَ رِوَايَةً وَفَصَاحَةً ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [ ص: 9 ] فَقَدْ وَصَفَ ذَاتَهُ بِأَنَّهُ الْمَلِكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَالْقُرْآنُ يَتَعَاضَدُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، وَتَتَنَاسَبُ مَعَانِيهِ فِي الْمَوَادِّ. وَثَمَّةُ مُرَجِّحَاتٍ أُخْرَى . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ قِرَاءَةَ "مَالِكِ" أَبْلَغُ ، لِأَنَّ الْمَلِكَ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ أَعْمَالَ رَعِيَّتِهِ الْعَامَّةَ ، وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ شُؤُونِهِمُ الْخَاصَّةِ . وَتَظْهَرُ التَّفْرِقَةُ فِي عَبْدٍ مَمْلُوكٍ فِي مَمْلَكَةٍ لَهَا سُلْطَانٌ ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَالِكَهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَمِيعَ شُؤُونِهِ دُونَ سُلْطَانِهِ ، وَمِنْ وُجُوهِ تَفْضِيلِهَا : إِنَّهَا تَزِيدُ بِحَرْفٍ ، وَلِقَارِئِ الْقُرْآنِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ -كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ مُتَوَاتِرٌ فِي السَّبْعِ . وَ "الدِّينِ" الْحِسَابُ وَالْمُجَازَاةُ بِالْأَعْمَالِ . وَمِنْهُ : « كَمَا تَدِينُ تُدَانُ » أَيْ : مَالِكُ أُمُورِ الْعَالَمِينَ كُلِّهَا فِي يَوْمِ الدِّينِ ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْإِضَافَةِ إِمَّا لِتَعْظِيمِهِ وَتَهْوِيلِهِ، أَوْ لِبَيَانِ تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِإِجْرَاءِ الْأَمْرِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيهِ . الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : [5 ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ الطَّبَرِيُّ : أَيْ : لَكَ ، اللَّهُمَّ نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ. إِقْرَارًا لَكَ بِالرُّبُوبِيَّةِ لَا لِغَيْرِكَ -قَالَ- وَالْعُبُودِيَّةُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ أَصْلُهَا الذِّلَّةُ ، وَأَنَّهَا تُسَمِّي الطَّرِيقَ الْمُذَلَّلَ الَّذِي قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ ، وَذَلَّلَتْهُ السَّابِلَةُ "مُعَبَّدًا" ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَعِيرِ الْمُذَلَّلِ بِالرُّكُوبِ فِي الْحَوَائِجِ "مُعَبَّدٌ" ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَبْدُ "عَبْدًا" ; لِذِلَّتِهِ لِمَوْلَاهُ انْتَهَى . https://i.imgur.com/rF4NBIWm.gif |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg https://i.imgur.com/kRcArgy.gif تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 55 الى صـ 60 الحلقة (10) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ : وَلِضَرْبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالَ ، وَاسْتِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ الْمُثُلَ [ ص: 55 ] وَالنَّظَائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ فِي إِبْرَازِ خَبِيَّاتِ الْمَعَانِي ، وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنِ الْحَقَائِقِ ، حَتَّى تُرِيَكَ الْمُتَخَيَّلَ فِي صُورَةِ الْمُحَقَّقِ ، وَالْمُتَوَهَّمَ فِي مَعْرِضِ الْمُتَيَقَّنِ ، وَالْغَائِبَ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ - وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِلْخَصْمِ الْأَلَدِّ ، وَقَمْعٌ لِسَوْرَةِ الْجَامِحِ الْأَبِيِّ . وَلِأَمْرٍ مَا ، أَكْثَرَ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ ، وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ - أَمْثَالَهُ ، وَفَشَتْ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ وَ(الْمَثَلُ) : فِي أَصْلِ كَلَامِهِمْ بِمَعْنَى : الْمِثْلُ وَهُوَ النَّظِيرُ . يُقَالُ : مِثْلٌ ، وَمَثَلٌ ، وَمَثِيلٌ - كَشِبْهٍ وَشَبَهٍ وَشَبِيهٍ - ثُمَّ قِيلَ لِلْقَوْلِ السَّائِرِ الْمُمَثِّلِ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ : مَثَلٌ . وَلَمْ يَضْرِبُوا مَثَلًا ، وَلَا رَأَوْهُ أَهْلًا لِلتَّسْيِيرِ وَلَا جَدِيرًا بِالتَّدَاوُلِ وَالْقَبُولِ ، إِلَّا قَوْلًا فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَمِنْ ثَمَّ حُوفِظَ عَلَيْهِ ، وَحُمِيَ مِنَ التَّغْيِيرِ . فَإِنَّهُ - لَوْ غُيِّرَ - لَرُبَّمَا انْتَفَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى تِلْكَ الْغَرَابَةِ . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْمَثَلِ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً . فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ بِعَيْنِهِ لَفْظَ الْمُشَبَّهِ بِهِ . فَإِنَّ وَقَعَ تَغْيِيرٌ ، لَمْ يَكُنْ مَثَلًا ، بَلْ مَأْخُوذًا مِنْهُ ، وَإِشَارَةً إِلَيْهِ - كَمَا فِي قَوْلِكَ : بِالصَّيْفِ ضَيَّعْتَ اللَّبَنَ بِالتَّذْكِيرِ . [ ص: 56 ] وَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدِ اسْتُعِيرَ الْمَثَلُ لِلْحَالِ ، أَوِ الْقِصَّةِ ، أَوِ الصِّفَةِ - إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ ، وَفِيهَا غَرَابَةٌ - كَأَنَّهُ قِيلَ : حَالُهُمُ الْعَجِيبَةُ الشَّأْنِ كَحَالِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أَيْ : - فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْعَجَائِبِ - قِصَّةَ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنَ ، ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ عَجَائِبِهَا : وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى أَيِ : الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَيْ : صِفَتُهُمْ وَشَأْنُهُمُ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ . وَلِمَا فِي الْمَثَلِ مِنْ مَعْنَى الْغَرَابَةِ قَالُوا : فُلَانٌ مُثْلَةٌ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، فَاشْتَقُّوا مِنْهُ صِفَةً لِلْعَجِيبِ الشَّأْنِ . الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : [18 ] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ" الصَّمَمُ : آفَةٌ مَانِعَةٌ مِنَ السَّمَاعِ ، سُمِّيَ بِهِ فِقْدَانُ حَاسَّةِ السَّمْعِ ، لِمَا أَنَّ سَبَبَهُ اكْتِنَازُ بَاطِنِ الصِّمَاخِ ، وَانْسِدَادُ مَنَافِذِهِ ، بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَدْخُلُهُ هَوَاءٌ يَحْصُلُ الصَّوْتُ بِتَمَوُّجِهِ . وَالْبُكْمُ : الْخَرَسُ . وَالْعَمَى : عَدَمُ الْبَصَرِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْصَرَ . [ ص: 57 ] وُصِفُوا بِذَلِكَ -مَعَ سَلَامَةِ حَوَاسِّهِمُ الْمَذْكُورَةِ- لِمَا أَنَّهُمْ سَدُّوا عَنِ الْإِصَاخَةِ إِلَى الْحَقِّ مَسَامِعَهُمْ ، وَأَبَوْا أَنْ يُنْطِقُوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ ، وَأَنْ يَنْظُرُوا وَيَتَبَصَّرُوا بِعُيُونِهِمْ ، فَجَعَلُوا كَأَنَّمَا أُصِيبَ بِآفَةٍ مَشَاعِرُهُمْ - كَقَوْلِهِ - : صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا وَكَقَوْلِهِ : أَصَمُّ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا أُرِيدُهُ وَأَسْمَعُ خَلْقَ اللَّهِ حِينَ أُرِيدُ "فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" أَيْ : - بِسَبَبِ اتِّصَافِهِمْ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ - لَا يَعُودُونَ إِلَى الْهُدَى - بَعْدَ أَنْ بَاعُوهُ ، أَوْ عَنِ الضَّلَالَةِ - بَعْدَ أَنِ اشْتَرَوْهَا ، فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتِمَّةٌ لِلتَّمْثِيلِ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ لَيْسَ مُجَرَّدَ انْطِفَاءِ نَارِهِمْ ، وَبَقَائِهِمْ فِي ظُلُمَاتٍ كَثِيفَةٍ هَائِلَةٍ- مَعَ بَقَاءِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ بِحَالِهَا- بَلِ اخْتَلَّتْ مَشَاعِرُهُمْ جَمِيعًا، وَاتَّصَفُوا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَبَقُوا جَامِدِينَ فِي مَكَانِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ، وَلَا يَدْرُونَ أَيَتَقَدَّمُونَ أَمْ يَتَأَخَّرُونَ ؟ وَكَيْفَ يَرْجِعُونَ إِلَى مَا ابْتَدَأُوا مِنْهُ. الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : [19 ] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ "أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ" تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ إِثْرَ تَمْثِيلٍ ، لِيَعُمَّ الْبَيَانُ مِنْهَا كُلَّ دَقِيقٍ وَجَلِيلٍ ، وَيُوَفِّي حَقَّهَا مِنَ التَّفْظِيعِ وَالتَّهْوِيلِ . فَإِنَّ تَفَنُّنَهُمْ فِي فُنُونِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُضْرَبَ فِي شَأْنِهِ الْأَمْثَالُ . وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْبَلِيغِ -فِي مَظَانِّ الْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ- أَنْ يُجْمِلَ وَيُوجِزَ ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ -فِي مَوَارِدِ التَّفْصِيلِ وَالْإِشْبَاعِ- أَنْ يُفَصِّلَ وَيُشْبِعَ . وَ(الصَّيِّبُ) : السَّحَابُ ذُو الصَّوْبِ ، وَالصَّوْبُ الْمَطَرُ . وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ : السَّحَابُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : أَأَنْتُمْ أَنْـزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْـزِلُونَ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ : كُلُّ مَا عَلَاكَ مِنْ سَقْفٍ وَنَحْوِهِ. [ ص: 58 ] "فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ" التَّنْوِينُ فِي الْكُلِّ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّهْوِيلِ - كَأَنَّهُ قِيلَ : فِيهِ ظُلُمَاتٌ دَاجِيَةٌ ، وَرَعْدٌ قَاصِفٌ ، وَبَرْقٌ خَاطِفٌ – "يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ " الصَّاعِقَةُ : الصَّوْتُ الشَّدِيدُ مِنَ الرِّعْدَةِ يَسْقُطُ مَعَهَا قِطْعَةُ نَارٍ تَنْقَدِحُ مِنَ السَّحَابِ - إِذَا اصْطَكَّتْ أَجْرَامُهُ- لَا تَأْتِي عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَحْرَقَتْهُ "حَذَرَ" -أَيْ : خَوْفَ - : "الْمَوْتِ" مِنْ سَمَاعِهَا- "وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ" عِلْمًا وَقُدْرَةً فَلَا يَفُوتُونَهُ . وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ مُنَبِّهَةٌ عَلَى أَنَّ مَا صَنَعُوا -مِنْ سَدِّ الْآذَانِ بِالْأَصَابِعِ- لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا ، فَإِنَّ الْقَدَرَ لَا يُدَافِعُهُ الْحَذَرُ، وَالْحِيَلَ لَا تَرُدُّ بَأْسَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَفَائِدَةُ وَضْعِ الْكَافِرِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ -الرَّاجِعِ إِلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ- الْإِيذَانُ بِأَنَّ مَا دَهَمَهُمْ - مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ الْمَحْكِيَّةِ- بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، فَيُظْهِرُ اسْتِحْقَاقُهُمْ شِدَّةَ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا فَإِنَّ الْإِهْلَاكَ النَّاشِئَ عَنِ السُّخْطِ أَشَدُّ . الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : [20 ] يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ" اسْتِئْنَافٌ آخَرُ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ - كَأَنَّهُ قِيلَ : فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْبَرْقِ ؟ فَقِيلَ : يَكَادُ يَخْطِفُ أَبْصَارَهُمْ ، أَيْ : يَأْخُذُهَا بِسُرْعَةٍ : "كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ" أَيْ : فِي ضَوْئِهِ : "وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا" أَيْ : وَقَفُوا ، [ ص: 59 ] وَثَبَتُوا فِي مَكَانِهِمْ - وَمِنْهُ : قَامَتِ السُّوقُ، إِذَا رَكَدَتْ وَكَسَدَتْ . وَقَامَ الْمَاءُ ، جَمُدَ - وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ : بِشِدَّتِهِ عَلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ غَايَةِ التَّحَيُّرِ وَالْجَهْلِ -بِمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُونَ- إِذَا صَادَفُوا مِنَ الْبَرْقِ خَفْقَةً- مَعَ خَوْفِ أَنْ يَخْطِفَ أَبْصَارَهُمُ- انْتَهَزُوا تِلْكَ الْخَفْقَةَ فُرْصَةً ، فَخَطَوْا خُطُوَاتٍ يَسِيرَةً ، فَإِذَا خَفِيَ ، وَفَتَرَ لَمَعَانُهُ ، بَقُوا وَافِقِينَ مُتَقَيِّدِينَ عَنِ الْحَرَكَةِ : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ أَيْ : لَزَادَ فِي قَصِيفِ الرَّعْدِ فَأَصَمَّهُمْ ، أَوْ فِي ضَوْءِ الْبَرْقِ فَأَعْمَاهُمْ . وَمَفْعُولُ "شَاءَ" مَحْذُوفٌ، لِأَنَّ الْجَوَابَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَذْهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لَذَهَبَ بِهَا . وَلَقَدْ تَكَاثَرَ هَذَا الْحَذْفُ فِي "شَاءَ" وَ "أَرَادَ" . لَا يَكَادُونَ يَبْرُزُونَ الْمَفْعُولَ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ- كَنَحْوِ قَوْلِهِ : فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ ؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا "إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" تَعْلِيلٌ لِلشَّرْطِيَّةِ ، وَتَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِهَا النَّاطِقِ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِزَالَةِ مَشَاعِرِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ . تَنْبِيهَاتٌ : الْأَوَّلُ : مَحْصُولُ التَّمْثِيلَيْنِ - غِبُّ وَصْفِ أَرْبَابِهِمَا بِوُقُوعِهِمْ فِي ضَلَالَتِهِمُ الَّتِي اسْتَبْدَلُوهَا بِالْهُدَى - هُوَ أَنَّهُ شَبَّهَ ، فِي الْأَوَّلِ ، حَيْرَتَهُمْ وَشِدَّةَ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِمَا يُكَابِدُ مَنْ طَفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ . وَفِي الثَّانِي : شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ مَنْ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ فِي لَيْلَةٍ تَكَاثَفَ ظُلُمَاتُهَا - بِتَرَاكُمِ السُّحُبِ ، وَانْتِسَاجِ قَطَرَاتِهَا ، وَتَوَاتَرَ فِيهَا الرُّعُودُ الْهَائِلَةُ ، وَالْبُرُوقُ الْمُخِيفَةُ ، وَالصَّوَاعِقُ الْمُخْتَلِفَةُ الْمُهْلِكَةُ ، وَهُمْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يُزَاوِلُونَ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ . وَبِذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ التَّمْثِيلَيْنِ جَمِيعًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ ، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ جَزَالَةُ الْمَعَانِي -لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ مِنْ تَشْبِيهِ الْهَيْئَاتِ الْمُرَكَّبَةِ مَا لَا يَحْصُلُ مِنْ تَشْبِيهِ مُفْرَدَاتِهَا . فَإِنَّكَ إِذَا تَصَوَّرْتَ حَالَ مَنْ طَفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا . . . إِلَخْ . وَحَالَ مَنْ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ . . إِلَخْ . حَصَلَ فِي نَفْسِكَ [ ص: 60 ] هَيْئَةٌ عَجِيبَةٌ تُوصِلُكَ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ ، عَلَى وَجْهٍ يَتَقَاصَرُ عَنْهُ تَشْبِيهُ الْمُنَافِقِ - فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ - بِالْمُسْتَوْقِدِ نَارًا ، وَإِظْهَارُهُ الْإِيمَانَ بِالْإِضَاءَةِ ، وَانْقِطَاعُ انْتِفَاعِهِ بِانْتِفَاءِ النَّارِ وَتَشْبِيهِ دِينِ الْإِسْلَامِ - فِي الثَّانِي - بِالصَّيِّبِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ - مِنْ شُبَهِ الْكُفَّارِ - بِالظُّلُمَاتِ ، وَمَا فِيهِ - مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ - بِالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ ، وَمَا يُصِيبُ الْكَفَرَةَ - مِنَ الْإِفْزَاعِ وَالْبَلَايَا وَالْفِتَنِ- مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالصَّوَاعِقِ . وَأَيْضًا فِي تَشْبِيهِ الْمُفْرَدَاتِ ، وَطَيُّ ذِكْرِ الْمُشَبَّهَاتِ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ . وَأَيْضًا فِي لَفْظِ (الْمِثْلِ) نَوْعُ إِنْبَاءٍ عَنِ التَّرْكِيبِ ، إِذِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ الْقِصَّةُ الَّتِي هِيَ فِي غَرَابَتِهَا كَالْمَثَلِ السَّائِرِ ، وَهِيَ فِي الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا . وَأَيْضًا فِي التَّمْثِيلِ الْمُرَكَّبِ اشْتِمَالٌ عَلَى التَّشْبِيهِ فِي الْمُفْرَدَاتِ إِجْمَالًا ، مَعَ أَمْرٍ زَائِدٍ : هُوَ تَشْبِيهُ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ ، وَإِيذَانُهِ بِأَنَّ اجْتِمَاعَ تِلْكَ الْمُفْرَدَاتِ مُسْتَتْبِعٌ لِهَيْئَةٍ عَجِيبَةٍ حَقِيقَةً بِأَنْ تَكُونَ مَثَلًا فِي الْغَرَابَةِ . التَّنْبِيهُ الثَّانِي : قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ "ابْنُ الْقَيِّمِ" فِي كِتَابِهِ (اجْتِمَاعُ الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى غَزْوِ الْمُعَطِّلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ" . "فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، شَبَّهَ ، سُبْحَانَهُ ، أَعْدَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ : بِقَوْمٍ أَوْقَدُوا نَارًا لِتُضِيءَ لَهُمْ ، وَيَنْتَفِعُوا بِهَا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمُ النَّارُ فَأَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهَا مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ ، وَأَبْصَرُوا الطَّرِيقَ - بَعْدَ أَنْ كَانُوا حَيَارَى تَائِهِينَ -فَهُمْ كَقَوْمٍ سَفْرٍ ضَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ ، فَأَوْقَدُوا النَّارَ لِتُضِيءَ لَهُمُ الطَّرِيقَ فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمْ - فَأَبْصَرُوا وَعَرَفُوا - طَفِئَتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ ، وَبَقُوا فِي الظُّلُمَاتِ لَا يُبْصِرُونَ ، قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمُ أَبْوَابُ الْهُدَى الثَّلَاثُ - فَإِنَّ الْهُدَى يَدْخُلُ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ : مِمَّا يَسْمَعُهُ بِإِذْنِهِ ، وَيَرَاهُ بِعَيْنِهِ ، وَيَعْقِلُ بِقَلْبِهِ ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْهُدَى : فَلَا تَسْمَعُ قُلُوبُهُمْ شَيْئًا ، وَلَا تُبْصِرُهُ ، وَلَا تَعْقِلُ مَا يَنْفَعُهَا . وَقِيلَ : لِمَا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ نَزَلُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا سَمْعَ لَهُ ، وَلَا بَصَرَ ، وَلَا عَقْلَ ، وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ . https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 61 الى صـ 66 الحلقة (11) [ ص: 61 ] وَقَالَ فِي صِفَتِهِمْ "فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" لِأَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْا فِي ضَوْءِ النَّارِ ، وَأَبْصَرُوا الْهُدَى ، فَلَمَّا طَفِئَتْ عَنْهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى مَا رَأَوْا وَأَبْصَرُوا . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ" وَلَمْ يَقُلْ : ذَهَبَ نُورُهُمْ ، وَفِيهِ سِرٌّ بَدِيعٌ : وَهُوَ انْقِطَاعُ سِرِّ تِلْكَ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ - الَّتِي هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ - مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَ : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فَذَهَابُ اللَّهِ بِذَلِكَ النُّورِ : انْقِطَاعُ الْمَعِيَّةِ -الَّتِي خَصَّ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ- فَقَطَعَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ -بَعْدَ ذَهَابِ نُورِهِمْ- ، وَلَا مَعَهُمْ ، فَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [ ص: 62 ] وَلَا مِنْ : كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى : أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ كَيْفَ جَعَلَ ضَوْءَهَا خَارِجًا عَنْهُ ، مُنْفَصِلًا ، وَلَوِ اتَّصَلَ ضَوْؤُهَا بِهِ ، وَلَابَسَهُ ، لَمْ يَذْهَبْ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَوْءَ مُجَاوَرَةٍ لَا مُلَابَسَةٍ وَمُخَالَطَةٍ ، وَكَانَ الضَّوْءُ عَارِضًا وَالظُّلْمَةُ أَصْلِيَّةً ، فَرَجَعَ الضَّوْءُ إِلَى مَعْدِنِهِ ، وَبَقِيَتِ الظُّلْمَةُ فِي مَعْدِنِهَا ، فَرَجَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى أَصْلِهِ اللَّائِقِ بِهِ : حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ قَائِمَةٌ ، وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ، تَعَرَّفَ بِهَا إِلَى أُولِي الْأَلْبَابِ مِنْ عِبَادِهِ . وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ بِنَارِهِمْ ، لِيُطَابِقَ أَوَّلَ الْآيَةِ ، فَإِنَّ النَّارَ فِيهَا إِشْرَاقٌ وَإِحْرَاقٌ : فَذَهَبَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِشْرَاقِ -وَهُوَ النُّورُ- وَأَبْقَى عَلَيْهِمْ مَا فِيهَا مِنَ الْإِحْرَاقِ -وَهُوَ النَّارِيَّةُ- وَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَالَ "بِنُورِهِمْ" وَلَمْ يَقُلْ : بِضَوْئِهِمْ مَعَ قَوْلِهِ "فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ"- لِأَنَّ الضَّوْءَ هِيَ زِيَادَةٌ فِي النُّورِ ؛ فَلَوْ قِيلَ : ذَهَبَ اللَّهُ بِضَوْئِهِمْ ، لَأَوْهَمَ الذَّهَابَ بِالزِّيَادَةِ فَقَطْ دُونَ الْأَصْلِ ؛ فَلَمَّا كَانَ النُّورُ أَصْلَ الضَّوْءِ ، كَانَ الذَّهَابُ بِهِ ذَهَابًا بِالشَّيْءِ وَزِيَادَتِهِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ عَنْهُمْ ، وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الظُّلُمَاتِ الَّذِينَ لَا نُورَ لَهُمْ ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى كِتَابَهُ (نُورًا) ، وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نُورًا) ، وَدِينَهُ (نُورًا) ، وَهُدَاهُ (نُورًا) ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ (النُّورُ) ، وَالصَّلَاةُ (نُورٌ) ؛ فَذَهَابُهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ : ذَهَابٌ بِهَذَا كُلِّهِ ، وَتَأَمَّلْ مُطَابَقَةَ هَذِهِ الْمُثُلِ - لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ كَيْفَ [ ص: 63 ] طَابَقَ هَذِهِ التِّجَارَةَ الْخَاسِرَةَ ، الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَوْلَ الضَّلَالَةِ وَالرِّضَاءَ بِهَا ، وَبَدَّلَ الْهُدَى فِي مُقَابَلَتِهَا ، وَهَوْلَ الظُّلُمَاتِ - الَّتِي هِيَ الضَّلَالَةُ وَالرِّضَاءُ بِهَا - بَدَلًا عَنِ النُّورِ - الَّذِي هُوَ الْهُدَى وَالنُّورُ - فَبَدَّلُوا الْهُدَى وَالنُّورَ ، وَتَعَوَّضُوا عَنْهُ بِالظُّلْمَةِ وَالضَّلَالَةِ ، فَيَا لَهَا مِنْ تِجَارَةٍ مَا أَخْسَرَهَا ، وَصَفْقَةٍ مَا أَشَدَّ غَبْنَهَا . وَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَالَ تَعَالَى : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فَوَحَّدَهُ ثُمَّ قَالَ : وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ فَجَمَعَهَا . فَإِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ : هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ - الَّذِي لَا صِرَاطَ يُوَصِّلُ إِلَيْهِ سِوَاهُ - وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَا بِالْأَهْوَاءِ ، وَالْبِدَعِ ، وَطُرُقِ الْخَارِجِينَ عَنْ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ - ، بِخِلَافِ طُرُقِ الْبَاطِلِ ; فَإِنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ . وَلِهَذَا ، يُفْرِدُ ، سُبْحَانَهُ ، الْحَقَّ ، وَيَجْمَعُ الْبَاطِلَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ وَقَالَ تَعَالَى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فَجَمَعَ سُبُلَ الْبَاطِلِ ، وَوَحَّدَ سَبِيلَ الْحَقِّ ، وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ : يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ فَإِنَّ تِلْكَ هِيَ طُرُقُ مَرْضَاتِهِ الَّتِي يَجْمَعُهَا سَبِيلُهُ الْوَاحِدُ ، وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ ، فَإِنَّ طُرُقَ مَرْضَاتِهِ كُلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صِرَاطٍ وَاحِدٍ ، وَسَبِيلٍ وَاحِدٍ ، وَهِيَ سَبِيلُهُ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهَا . وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَّ خَطًّا مُسْتَقِيمًا ، وَقَالَ : « هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ » . [ ص: 64 ] ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ، وَقَالَ : « هَذِهِ سُبُلٌ ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ » ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذَا مَثَلٌ لِلْمُنَافِقِين َ ، وَمَا يُوقِدُونَهُ مِنْ نَارِ الْفِتْنَةِ الَّتِي يُوقِعُونَهَا بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ" مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى "أَطْفَأَهَا اللَّهُ" وَيَكُونُ تَخْيِيبُهُمْ ، وَإِبْطَالُ مَا رَامُوهُ ، هُوَ : تَرْكَهُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْحَيْرَةِ ، لَا يَهْتَدُونَ إِلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ ، وَلَا يُبْصِرُونَ سَبِيلًا ؛ بَلْ هُمْ "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ" . وَهَذَا التَّقْدِيرُ - وَإِنْ كَانَ حَقًّا - فَفِي كَوْنِهِ مُرَادًا بِالْآيَةِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا قُصِدَ لِغَيْرِهِ ، وَيَأْبَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى "فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ" وَمَوْقِدُ نَارِ الْحَرْبِ لَا يُضِيءُ مَا حَوْلَهُ أَبَدًا ، وَيَأْبَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَمَوْقِدُ نَارِ الْحَرْبِ لَا نُورَ لَهُ ، وَيَأْبَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمُ انْتَقَلُوا مِنْ نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْبَصِيرَةِ ، إِلَى ظُلْمَةِ الشَّكِّ وَالْكُفْرِ . [ ص: 65 ] قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ الْمُنَافِقُ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ ، وَعَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ . وَلِهَذَا قَالَ : فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أَيْ : لَا يَرْجِعُونَ إِلَى النُّورِ الَّذِي فَارَقُوهُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ فَسَلَبَ الْعَقْلَ عَنِ الْكُفَّارِ - إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ وَالْإِيمَانِ -وَسَلَبَ الرُّجُوعَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ -لِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا -فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الْإِيمَانِ . فَصْلٌ ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ ، سُبْحَانَهُ ، لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ مَائِيًّا ، فَقَالَ تَعَالَى : أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ فَشَبَّهَ نَصِيبِهِمْ - مِمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النُّورِ وَالْحَيَاةِ بِنَصِيبِ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارِ الَّتِي طَفِئَتْ عَنْهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا ، وَذَهَبَ نُورُهُ ، وَبَقِيَ فِي الظُّلُمَاتِ حَائِرًا ، تَائِهًا ، لَا يَهْتَدِي سَبِيلًا ، وَلَا يَعْرِفُ طَرِيقًا ؛ وَبِنَصِيبِ أَصْحَابِ الصَّيِّبِ -وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يُصَوَّبُ ; (أَيْ يَنْزِلُ) مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ - فَشَبَّهَ الْهُدَى - الَّذِي هَدَى بِهِ عِبَادَهُ - بِالصَّيِّبِ ، لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَحْيَى بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ ، وَنَصِيبُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذَا الْهُدَى ، بِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الصَّيِّبِ إِلَّا ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ. وَلَا نَصِيبَ لَهُ - فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ - مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالصَّيِّبِ - مِنْ حَيَاةِ الْبِلَادِ ، وَالْعِبَادِ ، وَالشَّجَرِ ، وَالدَّوَابِّ ؛ وَأَنَّ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ الَّتِي فِيهِ ، وَذَلِكَ الرَّعْدَ ، وَالْبَرْقَ ، مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى كَمَالِ الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الصَّيِّبِ . فَالْجَاهِلُ - لِفَرْطِ جَهْلِهِ - يَقْتَصِرُ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِمَا فِي الصَّيِّبِ مِنْ ظُلْمَةٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَلَوَازِمِ ذَلِكَ مِنْ بَرْدٍ شَدِيدٍ ، وَتَعْطِيلِ الْمُسَافِرِ عَنْ سَفَرِهِ ، وَصَانِعٍ عَنْ صَنْعَتِهِ وَلَا بَصِيرَةَ لَهُ تَنْفُذُ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ ذَلِكَ الصَّيِّبِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالنَّفْعِ الْعَامِّ . وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ قَاصِرِ النَّظَرِ ، ضَعِيفِ الْعَقْلِ ، لَا يُجَاوِزُ نَظَرُهُ الْأَمْرَ الْمَكْرُوهَ الظَّاهِرَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ مِنْ كُلِّ مَحْبُوبٍ ، وَهَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ، إِلَّا مَنْ صَحَّتْ بَصِيرَتُهُ – [ ص: 66 ] فَإِذَا رَأَى ضَعِيفَ الْبَصِيرَةِ مَا فِي الْجِهَادِ مِنَ التَّعَبِ ، وَالْمَشَاقِّ ، وَالتَّعَرُّضِ لِإِتْلَافِ الْمُهْجَةِ ، وَالْجِرَاحَاتِ الشَّدِيدَةِ ، وَمَلَامَةِ اللُّوَّامِ ، وَمُعَادَاةِ مَنْ يَخَافُ مُعَادَاتَهُ - لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ ، وَالْغَايَاتِ الَّتِي إِلَيْهَا تَسَابَقَ الْمُتَسَابِقُو نَ ، وَفِيهَا تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُو نَ . وَكَذَلِكَ مَنْ عَزَمَ عَلَى سَفَرِ الْحَجِّ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، فَلَمْ يَعْلَمْ - مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ - إِلَّا مَشَقَّةَ السَّفَرِ ، وَمُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ ، وَمُقَاسَاةَ الشَّدَائِدِ ، وَفِرَاقَ الْمَأْلُوفَاتِ ، وَلَا يُجَاوِزُ نَظَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ آخِرَ هَذَا السَّفَرِ ، وَمَآلَهُ ، وَعَاقِبَتَهُ - فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ ، وَلَا يَعْزِمُ عَلَيْهِ . وَحَالُ هَؤُلَاءِ ، حَالُ الضَّعِيفِ الْبَصِيرَةِ وَالْإِيمَانِ ، الَّذِي يَرَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ . وَالزَّوَاجِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَالْأَوَامِرِ الشَّاقَّةِ عَلَى النُّفُوسِ الَّتِي تَفْطِمُهَا عَنْ رِضَاعِهَا مِنْ ثَدْيِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالشَّهَوَاتِ -وَالْفِطَامُ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْعَبُ شَيْءٍ ، وَأَشَقُّهُ- وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ صِبْيَانُ الْعُقُولِ ، إِلَّا مَنْ بَلَغَ مَبَالِغَ الرِّجَالِ الْعُقَلَاءِ الْأَلِبَّاءِ ، وَأَدْرَكَ الْحَقَّ عِلْمًا ، وَعَمَلًا ، وَمَعْرِفَةً ، فَهُوَ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى مَا وَرَاءِ الصَّيِّبِ ، وَمَا فِيهِ - مِنَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ - وَيَعْلَمُ أَنَّهُ حَيَاةُ الْوُجُودِ . التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاشَانِيُّ : "إِنَّمَا بُولِغَ فِي ذِكْرِ فَرِيقِ الْمُنَافِقِينَ ، وَذَمِّهِمْ ، وَتَعْيِيرِهِمْ ، وَتَقْبِيحِ صُورَةِ حَالِهِمْ ، وَتَهْدِيدِهِمْ ، وَإِبْعَادِهِمْ ، وَتَهْجِينِ سِيَرِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ : لِإِمْكَانِ قَبُولِهِمْ لِلْهِدَايَةِ ، وَزَوَالِ مَرَضِهِمُ الْعَارِضِ . عَسَى التَّقْرِيعُ يَكْسِرُ أَعْوَادَ شَكَائِمِهِمْ ، وَالتَّوْبِيخُ يُقْلِعُ أُصُولَ رَذَائِلِهِمْ ، فَتَتَزَكَّى بَوَاطِنُهُمْ ، وَتَتَنَوَّرُ قُلُوبُهُمْ ، فَيَسْلُكُوا طَرِيقَ الْحَقِّ ، وَلَعَلَّ مُوَادَعَةَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمُلَاطَفَتَهُ مْ إِيَّاهُمْ ، وَمُجَالَسَتَهُ مْ مَعَهُمْ - تَسْتَمِيلُ طِبَاعَهُمْ ، فَتُهَيِّجُ فِيهِمْ مَحَبَّةً مَا ، وَشَوْقًا تَلِينُ بِهِ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَتَنْقَادُ بِهِ نُفُوسُهُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ ، فَيَتُوبُوا وَيُصْلِحُوا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 67 الى صـ 71 الحلقة (12) القول في تأويل قوله تعالى : [21 ] يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون يا أيها الناس اعبدوا ربكم لما ذكر الله علو طبقة كتابه الكريم ، وتحزب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق : مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام . وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق ، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ، ويحظيها عند الله ويرديها ؛ أقبل عليهم بالخطاب - وهو من الالتفات المذكور عند قوله جل ذكره : إياك نعبد - وهو فن من الكلام جزل ، فيه هز وتحريك من السامع -كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما : إن فلانا من قصته كيت وكيت ، فقصصت عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث ، فقلت : يا فلان ! من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادة السداد في مصادرك ومواردك - نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء ؛ وأوجدته ، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازا من طبعه ، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة ، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول ، وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة (يا أيها الناس) لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وأسباب من المبالغة . كالإيضاح بعد الإبهام . واختيار لفظ البعيد ، وتأكيد معناه بحرف التنبيه . ومعلوم أن كل ما نادى الله له عباده : من أوامره ، ونواهيه وعظاته ، وزواجره ، ووعده ، ووعيده ، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك . . مما أنطق به كتابه - أمور عظام ، وخطوب جسام ، ومعان علمهم أن يتيقظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ - . أفاده الزمخشري - . [ ص: 68 ] والمراد بالناس : كافة المكلفين - مؤمنهم وكافرهم- فطلب العبادة من المؤمنين طلب الزيادة فيها ، والثبات عليها ، ومن الكافرين ابتداؤها "الذي خلقكم" أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود "و" –خلق- : والذين من قبلكم لعلكم تتقون أي : كي تتقون ، كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله سبحانه : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وفي إيراد "لعل" ، تشبيه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجو منه أمرا هين الحصول ; فإنه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار ، وطلب منهم الطاعة ، ونصب لهم أدلة عقلية ونقلية داعية إليها ؛ ووعد ، وأوعد ، وألطف بما لا يحصى كثرة ، لم يبق للمكلف عذر ، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجى منه - مع تمكنه من خلافه - وصار طلب الله تعالى لعبادته واتقائه بمنزلة الترجي -فيما ذكرناه- . القول في تأويل قوله تعالى : [22 ] الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنـزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " الذي جعل" - خلق - : "لكم الأرض فراشا" بساطا ومهادا غير حزنة ، "والسماء بناء" البناء ، في الأصل ، مصدر سمي به المبني -بيتا كان ، أو قبة ، أو خباء . قال بعض علماء الفلك في معنى الآية : أي كالبنيان يشد بعضه بعضا . و "السماء" يراد بها الجنس كالسماوات، والمعني بها الكواكب السيارات –قال- : فجميع السماوات [ ص: 69 ] أو الكواكب كالبناء المرتبط بعضه ببعض من كل جهة ، المتماسك كأجزاء الجسم الواحد بالجاذبية التي تحفظ نظامها في مداراتها ، وهو جذب الشمس لها . "وأنزل من السماء" أي : السحاب "ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا" النهي متفرع على مضمون ذلك الأمر ، كأنه قيل : إذا أمرتم بعبادة من هذا شأنه - من التفرد بهذه الأفعال الجليلة - فلا تجعلوا له أندادا شركاء في العبادة ، أي : أمثالا تعبدونهم كعبادته- جمع ند . وهو المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ - فإن قيل : كيف صلح تسميتها أندادا ، وهم ما كانوا يزعمون أنها تخالفه وتناوئه ، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده ؟ أجيب : بأنهم لما تقربوا إليها ، وعظموها ، وسموها آلهة - أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ، ومضادته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم . وكما تهكم بهم بلفظ الند شنع عليهم ، واستفظع شأنهم ، بأن جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط . "وأنتم تعلمون" ما بينه وبينها من التفاوت ، وأنها لا تفعل مثل أفعاله ، كقوله : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ؛ أو وأنتم من أهل العلم والمعرفة - والتوبيخ فيه آكد - أي : أنتم العرافون المميزون ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا - هو غاية الجهل ، ونهاية سخافة العقل . ومما ينبغي التفطن له - في الاعتبار بهذه الآية - ما قاله الزمخشري : من أنه سبحانه وتعالى قدم من موجبات عبادته ، وملزمات حق الشكر له : خلقهم أحياء قادرين أولا ; لأنه سابقة أصول النعم ، ومقدمتها ، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما ، ثم خلق الأرض ، التي هي مكانهم ، ومستقرهم الذي لا بد لهم منه - وهي بمنزلة عرصة المسكن ، ومتقلبه ، ومفترشه ، ثم خلق السماء- التي هي كالقبة المضروبة ، والخيمة المطنبة- على هذا القرار ، ثم ما سواه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة [ ص: 70 ] بإنزال الماء منها عليها ، والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان - من ألوان الثمار - رزقا لبني آدم ، ليكون لهم ذلك معتبرا ، ومتسلقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف . ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر ، ويتفكرون في خلق أنفسهم ؛ وخلق ما فوقهم وتحتهم ، وأن شيئا من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها ، فيتيقنوا -عند ذلك- أن لا بد لها من خالق - ليس كمثلها - حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا ، وهم يعلمون أنها [ لا ] تقدر على نحو ما هو عليه قادر . ونظير هذه الآية قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين فمضمونه أنه الخالق الرازق ، مالك الدار وساكنيها ، ورازقهم . فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره . ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ، ويحققها ، ويبطل الإشراك ، ويهدمه ، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك ، وتصحيحه . وعرفهم أن من أشرك فقد كابر عقله ، وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه - عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة ، وأراهم كيف يتعرفون : أهو من عند الله -كما يدعي- أم هو من عند نفسه -كما يدعون- ؟ بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ، ويذوقوا طباعهم ، وهم أبناء جنسه ، وأهل جلدته . فقال تعالى : القول في تأويل قوله تعالى : [23 ] وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين "وإن كنتم في ريب مما نزلنا" - أي : من القرآن الذي نزلناه – "على عبدنا" [ ص: 71 ] محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله تعالى ، والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب - مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر -كما يعرب عنه قوله تعالى : "إن كنتم صادقين" إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم - وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد- هو الارتياب في شأنه (وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال ، كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع) ، وإما للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز ، ونهاية قوتها ، وإنما لم يقل : وإن ارتبتم فيما نزلنا . . . إلخ ، لما أشير إليه - فيما سلف - من المبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه -حسبما نطق به قوله تعالى : "لا ريب فيه"- والإشعار بأن ذلك - إن وقع - فمن جهتهم لا من جهته العالية . واعتبار استقرارهم فيه ، وإحاطته بهم ، لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته : لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به ، لا قلته ولا كثرته . وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية ، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة - من التشريف ، والتنويه ، والتنبيه على اختصاصه به عز وجل ، وانقياده لأوامره تعالى - ما لا يخفى ، والأمر في قوله تعالى : "فأتوا بسورة" من باب التعجيز وإلقام الحجر ، كما في قوله تعالى : فأت بها من المغرب أو من باب المجاراة معهم -بحسب حسبانهم- حيث كانوا يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 82 الى صـ 86 الحلقة (15) وإذا عطف عليه -كما في هذه الآية - فهنا ، قد يقال : الأعمال دخلت فيه ، وعطفت عطف الخاص على العام ، وقد يقال : لم تدخل فيه ، ولكن مع العطف -كما في اسم الفقير [ ص: 82 ] والمسكين . إذا أفرد أحدهما تناول الآخر ، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان - وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البر ، والتقوى ، والمعروف . وفي الإثم ، والعدوان ، والمنكر ، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبر القرآن . وقد بين حديث جبريل أن الإيمان أصله في القلب ، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله - كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « الإسلام علانية والإيمان في القلب» . وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « ألا إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب » . فإذا كان الإيمان في القلب ، فقد صلح القلب ، فيجب أن يصلح سائر الجسد ، فلذلك هو ثمرة ما في القلب . فلهذا قال بعضهم : الأعمال ثمرة الإيمان ، وصحته ; لما كانت لازمة لصلاح [ ص: 83 ] القلب ، دخلت في الاسم ، كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع ، هذا ما أفاده الإمام ابن تيمية رحمه الله . وقوله تعالى "أن لهم جنات" جمع (جنة) : وهي البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه ، وإنما سميت : دار الثواب ، بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور ، لما أنها مناط نعيمها ، ومعظم ملاذها . وجمعها مع التنكير : لاشتمالها على جنان كثيرة في كل منها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها . وقوله : "تجري من تحتها الأنهار" صفة جنات ، ثم إن أريد بها الأشجار ، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها ، فلا بد من تقدير مضاف -أي من تحت أشجارها- ، وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار ، فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل ، وإنما جيء ذكر الجنات -مشفوعا بذكر الأنهار الجارية- لما أن أنزه البساتين ، وأكرمها منظرا ، ما كانت أشجاره مظللة ، والأنهار في خلالها مطردة ، وفي ذلك النعمة العظمى ، واللذة الكبرى . واللام في الأنهار : للجنس- كما في قولك : لفلان بستان فيه الماء الجاري- أو للعهد . والإشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية . "كلما رزقوا منها" أي : أطعموا من تلك الجنات "من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل" أي : مثل الذي رزقناه من قبل هذا الذي أحضر إلينا ، فالإشارة إلى المرزوق في الجنة لتشابه ثمارها . بقرينة قوله "وأتوا به" - أي : أتتهم الملائكة ، والولدان [ ص: 84 ] برزق الجنة – "متشابها" يشبه بعضه بعضا لونا، ويختلف طعما ، وذلك أجلب للسرور ، وأزيد في التعجب ، وأظهر للمزية ، وأبين للفضل . وترديدهم هذا القول ، ونطقهم به - عند كل ثمرة يرزقونها- دليل على تناهي الأمر في استحكام الشبه ، وأنه الذي يستملي تعجبهم ، ويستدعي استغرابهم ، ويفرط ابتهاجهم . فإن قيل : كيف موقع قوله "وأتوا به متشابها" من نظم الكلام ؟ قلت : هو كقولك : فلان أحسن بفلان، ونعم ما فعل . ورأى من الرأي كذا ، وكان صوابا . ومنه قوله تعالى : وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير "ولهم فيها أزواج مطهرة" من الحيض والاستحاضة وما يختص بهن من الأقذار والأدناس - ويجوز لمجيئه مطلقا ، أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع ، وسوء الأخلاق وسائر مثالبهن وكيدهن . وقوله تعالى "وهم فيها خالدون" هذا هو تمام السعادة ؛ فإنهم -مع هذا النعيم- في مقام أمين من الموت والانقطاع ، فلا آخر له ولا انقضاء . بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام . والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم ، إنه البر الرحيم . ولما ضرب تعالى -فيما تقدم- للمنافقين مثلين : في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد إلخ . وقوله : أو كصيب إلخ . إلى أمثال أخرى تقدمت على نزول هذه السورة ، من السور المكية ، ضربت للمشركين - نبه تعالى إلى موضع العبرة بها ، والحكمة منها ، وتضليل من لا يقدرها قدرها - ممن يتجاهل عن سرها ، ويتعامى عن نورها ، ويحول دون الاهتداء بها ، والأخذ بسببها -فقال سبحانه : [ ص: 85 ] القول في تأويل قوله تعالى: [26 ] إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" أي : يذكر مثلا ما . يقال ضرب مثلا ، ذكره ، فيتعدى لمفعول واحد . أو صير ، فلمفعولين . قال أبو إسحاق في قوله تعالى : واضرب لهم مثلا أي : اذكر لهم . وعبارة الجوهري : ضرب الله مثلا أي : وصف وبين . وفي شرح نظم الفصيح: ضرب المثل : إيراده ليمتثل به ، ويتصور ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب . يقال : ضرب الشيء مثلا ، وضرب به ، وتمثله ، وتمثل به . ثم قال : وهذا معنى قول بعضهم : ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره ، وتمثيله به . و"ما" هذه اسمية إبهامية ، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما ، وزادته شياعا وعموما - كقولك : أعطني كتابا ما، ، تريد أي كتاب كان -كأنه قيل : مثلا ما من الأمثال أي مثل كان . فهي صفة لما قبلها . أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها -كما في قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم كأنه قيل : لا يستحيي أن يضرب مثلا حقا ، أو البتة . [ ص: 86 ] و "بعوضة" بدل من "مثلا". أو هما مفعولا "يضرب" ; لتضمنه معنى الجعل والتصيير . ومعنى الآية : إنه تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ، ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها . أي لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا -ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة- كما لا يستنكف عن خلقها ، كذلك لا يستنكف عن ضرت المثل بها . كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله : يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب وقال : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون وغير ذلك من أمثال الكتاب العزيز ، فما استنكره السفهاء ، وأهل العناد والمراء ، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء ، ومضروبا بها المثل- ليس بموضع للاستنكار والاستغراب . من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهد . فإن كان المتمثل له عظيما، كان المتمثل به مثله ، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك . فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذا ، إلا أمرا تستدعيه حال المتمثل له وتستجره إلى نفسها ، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية . ألا ترى إلى الحق لما كان واضحا ، جليا أبلج ، كيف تمثل له بالضياء والنور ؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته ، كيف تمثل له بالظلمة ؟ أفاده الزمخشري . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 87 الى صـ 91 الحلقة (16) "فأما الذين آمنوا" شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر [ ص: 87 ] تحقيق حقية صدوره عنه تعالى -أي : فأما المؤمنون "فيعلمون أنه الحق من ربهم" كسائر ما ورد منه تعالى- والحق : هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره . وذلك لأن التمثل به مسوق على قضية مضربه ، ومحتذى على مثال ما يستدعيه - كما جعل بيت العنكبوت مثل الآلهة التي جعلها الكفار أندادا لله تعالى -وجعلت أقل من الذباب ، وأخس قدرا ، وضربت لها البعوضة فما دونها مثلا ; لأنه لا حال أحقر من تلك الأنداد وأقل . . . . . . . ! . فالمؤمنون الذين عادتهم الإنصاف ، والعمل على العدل والتسوية ، والنظر في الأمور بناظر العقل - إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته ، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله "وأما الذين كفروا" ممن غلبهم الجهل على عقولهم ، وغشيهم على بصائرهم- فلا يتفطنون ، ولا يلقون أذهانهم ، أو عرفوا أنه الحق ، إلا أن حب الرياسة ، وهوى الإلف والعادة ، لا يخليهم أن ينصفوا : "فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا" أي : فإذا سمعوه عاندوا ، وكابروا ، وقضوا عليه بالبطلان ، وقابلوه بالإنكار ، ولا خفاء في أن التمثيل بالبعوضة وبأحقر منها- مما لا تغبي استقامته وصحته على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ، ولا متشبث بأمارة ولا إقناع ، أن يرمي لفرط الحيرة ، والعجز عن إعمال الحيلة ، بدفع الواضح ، وإنكار المستقيم ، والتعويل على المكابرة والمغالطة- إذا لم يجد سوى ذلك معولا . "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا" جواب عن تلك المقالة الباطلة ، ورد لها ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة ، وغاية جميلة ، هي كونه ذريعة إلى هداية المستعدين للهداية ، وإضلال المنهمكين في الغواية ، وقدم الإضلال على الهداية -مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوؤهم ، ويفت في أعضادهم ، وهو السر في تخصيص هذه الفائدة بالذكر "وما يضل به" أي بالمثل أو بضربه "إلا الفاسقين" تكملة للجواب والرد ، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له . [ ص: 88 ] القول في تأويل قوله تعالى [27 ] الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" صفة للفاسقين للذم ، و"العهد" الذي وصفوا بنقضه : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه ، وعلى لسان رسله - ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به : "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" عام في كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى : كقطع الرحم ، والإعراض عن موالاة المؤمنين ، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق ، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر ، فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كل وصل وفصل "ويفسدون في الأرض" بالمنع عن الإيمان ، والاستهزاء بالحق ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه : "أولئك هم الخاسرون" لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، وعقابها بثوابها . وهذه الصفات المسوقة في الآية صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ، كما قال تعالى في سورة الرعد : أفمن يعلم أنما أنـزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب الآيات -إلى أن قال- : والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار [ ص: 89 ] القول في تأويل قوله تعالى [28 ] كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "كيف تكفرون بالله" التفات إلى خطاب المذكورين ، مبني على إيراد ما عدد من قبائحهم السابقة ، لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع . والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع ، واستبعاده ، والتعجيب منه ، لأن معهم ما يصرف عن الكفر ، ويدعو إلى الإيمان "وكنتم أمواتا" أجساما لا حياة لها عناصر ، وأغذية ، ونطفا ، ومضغا مخلقة وغير مخلقة -وإطلاق الأموات على تلك الأجسام الجمادية ، إما حقيقة- بناء على أن الميت عادم الحياة مطلقا . كما في قوله تعالى : بلدة ميتا و : وآية لهم الأرض الميتة أو استعارة ، جريا على أن إطلاق الميت فيما تصح فيه الحياة ، لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس . "فأحياكم" بخلق الأرواح ، ونفخها فيكم . وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه ، غير متراخ عنه ، بخلاف البواقي "ثم يميتكم" عندما تقضى آجالكم "ثم يحييكم" بالنشور ، والبعث ، للحساب والجزاء "ثم إليه ترجعون" -بعد الحشر- فيجازيكم بأعمالكم : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . فما أعجب كفركم مع علمكم بحالتكم هذه . . . ! فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه [ ص: 90 ] يرجعون ، فكيف نظم ما ينكرونه ، من الإحياء الأخير والرجع ، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول ، والإماتة . . . . ؟ قلت : تمكنهم من العلم بهما -لما نصب لهم من الدلائل- منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر . سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما ، وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا ، قدر على أن يحييهم ثانيا ، فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته . . ! أو الخطاب ، مع أهل الكتابين ، وإنكار اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله تعالى- إما لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر ، أو على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر ، أو لإرادة الأمرين جميعا . فإن ما عدده آيات ، وهي -مع كونها آيات- من أعظم النعم . القول في تأويل قوله تعالى : [29 ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم ، ويتم به معاشهم ، ومعنى "لكم" لأجلكم ، ولانتفاعكم . وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل . ولا فرق بين الحيوانات وغيرها ، مما ينتفع به من غير ضرر . وفي التأكيد بقوله "جميعا" أقوى دلالة على هذا . ثم استوى إلى السماء قال أبو العالية الرياحي: استوى إلى السماء أي : ارتفع . نقله عنه البخاري في صحيحه ، ورواه محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن الربيع بن أنس . [ ص: 91 ] وقال البغوي : قال ابن عباس وأكثر المفسرين : ارتفع إلى السماء . وقال الخليل بن أحمد في "ثم استوى إلى السماء" : ارتفع . رواه أبو عمر ابن عبد البر في شرح الموطأ ، نقله الذهبي في "كتاب العلو" . وقد استدل بقوله "ثم استوى" على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ، وكذلك الآية التي في (حم السجدة) . وقوله تعالى في سورة (والنازعات): والأرض بعد ذلك دحاها إنما يفيد تأخر دحوها ، لا خلق جرمها ، فإن خلق الأرض وتهيئتها -لما يراد منها- قبل خلق السماء . ودحوها بعد خلق السماء ، والدحو : هو البسط ، وإنبات العشب منها ، وغير ذلك . مما فسره قوله تعالى : أخرج منها ماءها ومرعاها الآية -وكانت قبل ذلك خربة وخالية . على أن "بعد" تأتي بمعنى "مع" ; كقوله : عتل بعد ذلك زنيم أي : مع ذلك ، فلا إشكال . وتقديم الأرض –هنا- ; لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة فسواهن سبع سماوات أي : صيرهن ، كما في آية أخرى : فقضاهن (تنبيه) قال بعض علماء الفلك : السماوات السبع -المذكورة كثيرا في القرآن- هي هذه السيارات السبع . وإنما خصت بالذكر -مع أن السيارات أكثر من ذلك- لأنها أكبر السيارات وأعظمها ؛ على أن القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد -على سبيل الحصر- فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 92 الى صـ 96 الحلقة (17) وقال بعض علماء اللغة : إن العرب تستعمل لفظ سبع ، وسبعين ، وسبعمائة للمبالغة [ ص: 92 ] في الكثرة . فالعدد إذن غير مراد . ومنه آية : سبع سنابل وآية : والبحر يمده من بعده سبعة أبحر وآية : سبعين مرة والله أعلم . وذهب بعض علماء الفلك إلى أن الحصر في السبع حقيقي ، وأن المراد به العالم الشمسي وحده دون غيره . وعبارته : إن قيل : إن كل ما يعلو الأرض -من الشمس والقمر والكواكب- هو سماء ، فلماذا خصص تعالى عددا هو سبع ؟ فالجواب : لا شك أنه يشير إلى العالم الشمسي -الذي أحطنا الآن به علما- وأن حصر العدد لا يدل على احتمال وجود زيادة عن سبع ، لأن القول بذلك ، يخرج تطبيق القرآن على الفلك ، لأن العلم أثبتها سبعا كالقرآن الذي لم يوجد فيه احتمال الزيادة -لأن الجمع يدخل فيه جميع العوالم التي لا نهاية لها- حتى يمكن أن يقال : إن سبعا للمبالغة -كسبعين وسبعمائة- ، ولا يصح أن يكون العدد سبعة للمبالغة لأنه قليل جدا بالنسبة إلى العوالم التي تعد بالملايين -مثل العالم الشمسي- ويؤيد الحصر في هذا العدد آية : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا فأخرج الشمس لأنها مركز ، [ ص: 93 ] وأخرج القمر لأنه تابع للأرض ، ولم يبق بعد ذلك إلا سبع . . . . . ! قال : وبذلك تتجلى الآن معجزة واضحة جلية . لأنه في عصر التقدم والمدنية العربية ، حينما كان العلم ساطعا على الأرض بعلماء الإسلام ، كان علماء الفلك لا يعرفون من السيارات إلا خمسا -بأسمائها العربية إلى اليوم- وهي : عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشترى ، زحل . وكانوا يفسرونها بأنها هي السماوات المذكورة في القرآن . ولما لم يمكنهم التوفيق بين السبع والخمس ، أضافوا الشمس والقمر لتمام العدد . مع أن القرآن يصرح بأن السماوات السبع غير الشمس والقمر . وذلك في قوله تعالى : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى فلفظ "وسخر" دليل يفصل تعداد الشمس والقمر عن السبع السماوات . ولذلك كان المفسرون -الذين لا يعرفون الهيئة- لا يرون أن تعد الشمس سماء ، ولا القمر ، لعلمهم أن السماوات السبع مسكونة ، وأما الشمس فنار محرقة ; فذهبوا -في تفسير السماوات- على تلك الظنون . ولما اكتشف بعد (بالتلسكوب) سيار لم يكن معلوما ، دعوه : أورانوس ، ثم سيار آخر سموه : نبتون -صارت مجاميع السيارات سبعا ، فهذا الاكتشاف -الذي ظهر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بألف ومائتي سنة- دل على معجزة القرآن ، ونبوة المنزل عليه صلى الله عليه وسلم . ثم قال : وأما كون السماوات هي السيارات السبع بدون توابعها ، فلا يفهم من الآية ، لأن الأقمار التي نثبتها ، والنجوم الصغيرة التي مع المريخ ، يلزم أن تكون تابعة للسماوات السبع - لأنها تعلونا- وهي في العالم الشمسي . وحينئذ فالسماوات السبع هي مجاميع السيارات السبع ; بمعنى : أن مجموعة زحل -بما فيها هو نفسه أي مع أقماره الثمانية- تعد سماء ، لأن فلكها طبقة فوق طبقة فلك مجموعة المشترى ، ويدل على هذا [ ص: 94 ] التطبيق قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير يشير إلى أن السماء الدنيا -أي السماء التي تلي الأرض- فلك المريخ ; فهو وما حوله من النجوم العديدة التي تسمى مصابيح ، وتعتبر كلها سماء وليس السيار نفسه .. . . ! انتهى . وقوله تعالى : وهو بكل شيء عليم اعتراض تذييلي مقرر لما قبله -من خلق السماوات والأرض وما فيها- على هذا النمط البديع المنطوي على الحكم الفائقة ، والمصالح اللائقة ، فإن علمه عز وجل بجميع الأشياء يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق . ولما ذكر تعالى الحياة والموت المشاهدين تنبيها على القدرة على ما اتبعهما به من البعث ، ثم دل على ذلك أيضا بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع ، وختم ذلك بصفة العلم- ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشري -المودع من صفة العلم- ما ظهر به فضله بقوله : القول في تأويل قوله تعالى: [30 ] وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة أي : قوما يخلف بعضهم بعضا ، قرنا بعد قرن . كما قال تعالى : وهو الذي جعلكم خلائف الأرض وقال [ ص: 95 ] ويجعلكم خلفاء الأرض وقال : ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وقال : فخلف من بعدهم خلف ويجوز أن يراد : خليفة منكم ، لأنهم كانوا سكان الأرض ، فخلفهم فيها آدم وذريته ، وأن يراد : خليفة مني ، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبي : إنا جعلناك خليفة في الأرض والغرض من إخبار الملائكة بذلك ، هو أن يسألوا ذلك السؤال ، ويجابوا بما أجيبوا به ، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم ، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم ، أو الحكمة : تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها ، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم -وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة- أو تعظيم شأن المجعول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة . قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون هذا تعجب من أن يستخلف -لعمارة الأرض وإصلاحها- من يفسد فيها ، واستعلام عن الحكمة في ذلك . أي : كيف تستخلف هؤلاء ، مع أن [ ص: 96 ] منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ، ونقدس لك -أي ولا يصدر عنا شيء من ذلك- وهلا وقع الاقتصار علينا ... ؟ فقال تعالى مجيبا لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" أي : إن لي حكمة -في خلق الخليقة- لا تعلمونها . فإن قلت : من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجبوا منه ، وإنما هو غيب ؟ أجيب : بأنهم عرفوه : إما بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية . فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف : من صلصال من حمإ مسنون أو فهموا من "الخليفة" أنه الذي يفصل بين الناس، ما يقع بينهم من المظالم ، ويردعهم عن المحارم والمآثم . قال العلامة برهان الدين البقاعي في تفسيره : وما يقال من أنه كان قبل آدم ، عليه السلام ، في الأرض خلق يعصون ، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام -كلام لا أصل له . بل آدم أول ساكنيها بنفسه . انتهى . وقوله تعالى : نسبح بحمدك أي : ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ، ملتبسين بحمدك- على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة . وقوله : ونقدس لك أي : نصفك بما يليق بك -من العلو والعزة- وننزهك عما لا يليق بك . وقيل : المعنى نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك . كأنهم قابلوا الفساد، الذي أعظمه الإشراك بالتسبيح . وسفك الدماء الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم ، بتطهير النفس عن الآثام . لا تمدحا بذلك ، ولا إظهارا للمنة ، بل بيانا للواقع https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 97 الى صـ 101 الحلقة (18) [ ص: 97 ] تنبيهات في وجوه فوائد من الآية الأول : دلت الآية على أن الله تعالى -في عظمته وجلاله- يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه ، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ، لا سيما عند الحيرة . والسؤال يكون بالمقال ، ويكون بالحال ، والتوجه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها -كالبحث العلمي ، والاستدلال العقلي ، والإلهام الإلهي- . الثاني : إذا كان من أسرار الله تعالى ، وحكمه ، ما يخفى على الملائكة ، فنخن أولى بأن يخفى علينا ، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا . . . . . . . ! الثالث : إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم ، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل -بعد الإرشاد- إلى الخضوع والتسليم . وذلك أنه -بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون- علم آدم الأسماء ، ثم عرضهم على الملائكة ، كما سيأتي بيانه . الرابع : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، عن تكذيب الناس ، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان ، على إنكار ما أنكروا ، وبطلان ما جحدوا . فإذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ، ويطلبون البيان والبرهان ، فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين . أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين . وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها . وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب ، وكونه لا ريب فيه ؛ والرسول ، وكونه يبلغ وحي الله تعالى ، ويهدي به عباده ، واختلاف الناس فيها . [ ص: 98 ] ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها ، أو قريبة منها ، مع كون الجميع في سياق موضوع واحد ، -كذا في تفسير مفتي مصر- . ولما بين سبحانه وتعالى لهم أولا على وجه الإجمال والإبهام ، أن في الخليفة فضائل غائبة عنهم ، ليستشرفوا إليها ، أبرز لهم طرفا منها ، ليعاينوه جهرة ، ويظهر لهم بديع صنعه وحكمته ، وتنزاح شبهتهم بالكلية ، فقال : القول في تأويل قوله تعالى: [31 ] وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين "وعلم آدم الأسماء كلها" إما بخلق علم ضروري بها فيه، أو إلقاء في روعه . وآدم : اسم عبراني مشتق من أدمه ، وهي لفظة عبرانية معناها التراب ، لأنه جبل من تراب الأرض . كما أن حواء كلمة عبرانية معناها "حي" ، وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء . والمراد بالأسماء ، أسماء كل شيء . قال ابن عباس : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ، ودابة ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجبل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ، وفي التوراة مصداق الآية : وهو أنه تعالى صور من الأرض كل حيوانات البر ، وكل طيور السماء ، وأحضرها إلى آدم ، لينظر ما يسميها ، وكل ما سماه آدم من نفس حية ، فهو اسمه . وسمى آدم جميع الحيوانات بأساميها ، وجميع طيور السماء ، وجميع وحوش الأرض. قال ابن جرير : وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر ، والذكرى لمن ادكر ، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عما أودع الله عز وجل في هذا القرآن ، من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن ; وذلك أن الله جل ثناؤه ، احتج فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم ، على من كان بين ظهرانيه ، من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه إياه من علوم الغيب ، التي لم يكن تعالى [ ص: 99 ] أطلع عليها من خلقه إلا خاصا ، ولم يكن مدركا علمه إلا بالأنباء والأخبار ، لتتقرر عندهم صحة نبوته ، ويعلموا أن ما آتاهم به فمن عنده . قال الحافظ ابن كثير : وهذا كان بعد سجودهم له ، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك ، لمناسبة ما بين هذا المقام ، وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة ، حين سألوا عن ذلك . فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ، ولهذا ذكر الله هذا المقام ، عقيب هذا ، ليبين لهم شرف آدم بما فضل عليهم في العلم : ثم عرضهم على الملائكة أي : عرض أهل الأسماء ، فالضمير للمسميات المدلول عليها ضمنا : فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء أي التي علمتها آدم . وإنما استنبأهم ، وقد علم عجزهم عن الإنباء ، تبكيتا لهم ، وإظهارا لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءهم من أمر الخلافة ، فإن التصرف والتدبير ، وإقامة المعدلة ، بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ، ومقادير الحقوق ، مما لا يكاد يمكن "إن كنتم صادقين" أي : في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته ، كما ينبئ عنه مقالكم . والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه ، قد يتطرق إليه باعتبار ما يلزمه من الأخبار . فإن أدنى مراتب الاستحقاق ، هو الوقوف على أسماء ما في الأرض ، ولما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم ، وبدت لهم هفوة زلتهم ، أنابوا إلى الله تعالى بالتوبة ، وذلك ما أفاده قوله تعالى : القول في تأويل قوله تعالى: [32 ] قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه ، إلا بما شاء . وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى . واعتراف منهم بالعجز والقصور عما كلفوه ، وأنه العالم بكل المعلومات التي من جملتها استعداد آدم عليه السلام ، لما نحن بمعزل من الاستعداد له ، من العلوم الخفية المتعلقة بما في الأرض من أنواع المخلوقات التي عليها يدور فلك خلافة الحكيم الذي لا يفعل [ ص: 100 ] إلا ما تقتضيه الحكمة ، ومن جملته تعليم آدم عليه السلام ما هو قابل له من العلوم الكلية ، والمعارف الجزئية ، المتعلقة بالأحكام الواردة على ما في الأرض ، وبناء أمر الخلافة عليها . القول في تأويل قوله تعالى: [33 ] قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "قال يا آدم أنبئهم" أي : أعلمهم "بأسمائهم" التي عجزوا عن علمها : فلما أنبأهم بأسمائهم قال عز وجل تقريرا لما مر من الجواب الإجمالي واستحضارا له : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض إيراد ما لا تعلمون بعنوان الغيب مضافا إلى السماوات والأرض للمبالغة في بيان كمال شمول علمه المحيط ، وغاية سعته . مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم، وعلم آدم عليه السلام ، من الأمور المتعلقة بأهل السماوات والأرض . وهذا دليل واضح على أن المراد بما لا تعلمون ، فيما سبق ، ما أشير إليه هناك ، كأنه قيل : ألم أقل لكم إني أعلم فيه من دواعي الخلافة ما لا تعلمونه فيه ، هو هذا الذي عاينتموه . وفي الآية تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى ، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم : وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون عطف على جملة : ألم أقل لكم لا على "أعلم" ، إذ هو غير داخل تحت القول . أي : ما تظهرونه بألسنتكم ، وما كنتم تخفون في أنفسكم . [ ص: 101 ] القول في تأويل قوله تعالى: [34 ] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" لما أنبأهم بأسماء ، وعلمهم ما لم يعلموا ، أمرهم بالسجود له ، على وجه التحية والتكرمة تعظيما له ، واعترافا بفضله ، واعتذارا عما قالوا فيه . وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم عليه السلام : فسجدوا إلا إبليس أبى أي : امتنع عن السجود "واستكبر" أي : تكبر ، وقال : أنا خير منه ، فالسين للمبالغة "وكان" في سابق علم الله أو صار "من الكافرين" . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 102 الى صـ 106 الحلقة (19) تنبيهات : الأول : للناس في هذا السجود أقوال : أحدها أنه تكريم لآدم ، وطاعة لله ، ولم يكن عبادة لآدم . وقيل : السجود لله ، وآدم قبلة ، أو السجود لآدم تحية ، أو السجود لآدم عبادة بأمر الله ، وفرضه عليهم . ذكر ابن الأنباري عن الفراء ، وجماعة من الأئمة : أن سجود الملائكة لآدم ، كان تحية ، ولم يكن عبادة، وكان سجود تعظيم وتسليم وتحية ، لا سجود صلاة وعبادة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قال أهل العلم : السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه . وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله . فإن الله تعالى قال : اسجدوا لآدم ولم يقل : إلى آدم . وكل حرف له معنى ، وفرق بين "سجدت له" ، وبين "سجدت إليه" . قال تعالى : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ولله يسجد [ ص: 102 ] من في السماوات والأرض أجمع المسلمون على أن السجود للأحجار ، والأشجار ، والدواب محرم ، وأما الكعبة ، فيقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ، ثم صلى إلى الكعبة ، ولا يقال صلى لبيت المقدس ، ولا للكعبة . والصواب أن الخضوع بالقلوب ، والاعتراف بالعبودية ، لا يصلي على الإطلاق إلا لله سبحانه . وأما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر . فلو أمرنا سبحانه أن نسجد لأحد من خلقه ، لسجدنا طاعة واتباعا لأمره . فسجود الملائكة لآدم عبادة لله ، وطاعة ، وقربة يتقربون بها إليه . وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم . وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام. ولم يأت أن آدم سجد للملائكة . بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العالمين . وبالجملة ، أهل السنة قالوا : إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية له . وقالت المعتزلة : كان آدم كالقبلة يسجد إليه ، ولم يسجدوا له . قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ; فإن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة ، وصالح البشر أفضل من الملائكة ، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم . وخالفت المعتزلة في ذلك وقالت : الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة ، ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس : قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا الثاني : اختلفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود ، فقيل : هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض . قال تقي الدين بن تيمية : هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود النصارى . وقيل : هم جميع الملائكة ، حتى جبريل وميكائيل . وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة . قال ابن تيمية : ومن قال خلافه فقد رد القرآن بالكذب والبهتان ، [ ص: 103 ] لأنه سبحانه قال : فسجد الملائكة كلهم أجمعون وهذا تأكيد للعموم . الثالث : للعلماء في إبليس ، هل كان من الملائكة أم لا ؟ قولان : أحدهما أنه كان من الملائكة . قاله ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، واختاره الشيخ موفق الدين ، والشيخ أبو الحسن الأشعري ، وأئمة المالكية ، وابن جرير الطبري . قال البغوي : هذا قول أكثر المفسرين ، لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم . قال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس فلولا أنه من الملائكة ، لما توجه الأمر إليه بالسجود ، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصيا ، ولما استحق الخزي والنكال . والقول الثاني : أنه كان من الجن ، ولم يكن من الملائكة . قاله ابن عباس ، في رواية ، والحسن وقتادة ، واختاره الزمخشري ، وأبو البقاء العكبري ، والكواشي في تفسيره . لقوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ، ولا ذرية للملائكة . قال في الكشاف : إنما تناوله الأمر ، وهو للملائكة خاصة ، لأن إبليس كان في صحبتهم ، وكان يعبد الله عبادتهم ، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له كان الجني الذي معهم أجدر بأن يتواضع . والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء ، وصححه البغوي . وأجابوا عن قوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن أي : من الملائكة الذين هم خزنة الجنة . [ ص: 104 ] قال ابن القيم : الصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد . فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله ; كان أصله من نار ، وأصل الملائكة من نور . فالنافي كونه من الملائكة ، والمثبت ، لم يتواردا على محل واحد . وكذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في الفتاوى المصرية : وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار . سموا "جنا" ; لاستتارهم عن الأعين ، فإبليس كان منهم . الدليل على ذلك قوله تعالى : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية. سئل الشعبي : هل لإبليس زوجة ؟ قال : ذلك عرس لم أشهده ! قال : ثم قرأت هذه الآية ، فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة. فقلت : نعم . وقال قوم : ليس له ذرية ولا أولاد ، وذريته أعوانه من الشياطين . الرابع : في قوله تعالى : وكان من الكافرين قولان : أحدهما أنه وقت العبادة كان منافقا ، والثاني أنه كان مؤمنا ثم كفر ، وهذا قول الأكثرين . فقيل في معنى الآية : "وكان من الكافرين" في علم الله ، أي كان عالما في الأزل أنه سيكفر . والذي عليه الأكثرون أن إبليس أول كافر بالله . أو يقال : معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك . واختلف الناس بأي سبب كفر إبليس ، لعنه الله . فقالت الخوارج : إنما كفر بمعصية الله ، وكل معصية كفر . وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . وقال آخرون : كفر بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله . وقال آخرون : كفر لأنه خالف الأمر الشفاهي من الله ، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود . ومخالفة الأمر الشفاهي أشد قبحا . وقال جمهور الناس : كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن ، [ ص: 105 ] واعتقد أنه محق في تمرده ، واستدل بـ : أنا خير منه كما يأتي . فكأنه ترك السجود لآدم . تسفيها لأمر الله وحكمته . وهذا الكبر عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» كذا في كتاب الاستعاذة للإمام ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى . القول في تأويل قوله تعالى: [35 ] وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ، وخلق له زوجة وأقرهما في الجنة ، أباحهما الأكل منها بقوله "وكلا منها رغدا" أي : أكلا واسعا . و"حيث" للمكان المبهم ، أي : أي مكان من الجنة شئتما . أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة . حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة . حتى لا يبقى لهما عذر في التناول مما منعا منه بقوله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة أي هذه الحاضرة من الشجر ، أي لا تأكلا منها ، وإنما علق النهي بالقربان منها ، مبالغة في تحريم الأكل ، ووجوب الاجتناب عنه . لأن القرب من الشيء مقتضى الألفة . والألفة داعية للمحبة ، ومحبة الشيء تعمي وتصم . فلا يرى قبيحا ، ولا [ ص: 106 ] يسمع نهيا ، فيقع . والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه ، كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به . وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم « العينان تزنيان » لما كان النظر داعيا إلى الألفة ، والألفة إلى المحبة ، وذلك مفض لارتكابه ، فصار النظر مبدأ الزنا . وعلى هذا قوله تعالى : ولا تقربوا الزنا ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن قال ابن العربي : سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء ، كان معناه لا تتلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء ، معناه لا تدن ، نقله ابن مفلح في كتاب الاستعاذة. ونقل الفرق المذكور بينهما أيضا السيد مرتضى في شرح القاموس عن شيخه العلامة الفاسي . قال : إن أرباب الأفعال نصوا عليه ، وظاهر القاموس أنهما مترادفان ، فإنه قال : قرب منه ، ككرم ، وقربه كسمع قربا وقربانا ، وقربانا : دنا ، فهو قريب . للواحد والجمع . انتهى . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 107 الى صـ 111 الحلقة (20) [ ص: 107 ] لطيفة : جاء في آية الأعراف "فكلا" وهنا بالواو ، لأن كل فعل عطف عليه شيء ، وكان ذلك الفعل كالشرط ، وذكر الشيء كالجزاء ، عطف بالفاء دون الواو ، كقوله تعالى : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها ذكر بالفاء ، كأنه قال : إن دخلتموها أكلتم منها ، فالأكل يتعلق وجوده بوجود الدخول . وقوله في الأعراف : اسكنوا هذه القرية وكلوا منها بالواو دون الفاء ، لأنه من السكنى ، وهو في المقام مع اللبث الطويل ، والأكل لا يختص وجوده بوجوده ، لأن من دخل بستانا قد يأكل منه ، وإن كان مجتازا ، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط ، عطف بالواو . وإذا ثبت هذا فنقول : قد يراد بـ "اسكن" الزم مكانا دخلته ، ولا تنتقل عنه ، وقد يراد ادخله واسكن فيه . ففي البقرة ، ورد الأمر ، بعد أن كان آدم في الجنة ، فكان المراد المكث ، والأكل لا يتعلق به ، فجيء بالواو . وفي الأعراف ورد قبل أن دخل الجنة ، والمراد الدخول والأكل متعلق به ، فورد بالفاء . [ ص: 108 ] تنبيه : لم يرد في القرآن المجيد ، ولا في السنة الصحيحة تعيين هذه الشجرة ; إذ لا حاجة إليه ، لأنه ليس المقصود تعرف عين تلك الشجرة ، وما لا يكون مقصودا ، لا يجب بيانه. وقوله "من الظالمين" أي : من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله تعالى . قال ابن مفلح الحنبلي في كتاب الاستعاذة: قال ابن حزم : حمل الأمر على الندب ، والنهي على الكراهة ، يقع فيه الفقهاء والأفاضل كثيرا ، وهو الذي يقع من الأنبياء عليهم السلام ، ولا يؤاخذون به ، وعلى السبيل أكل آدم من الشجرة . ومعنى قوله "فتكونا من الظالمين" أي : ظالمين لأنفسكما ، والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، فمن وضع الأمر والنهي في موضع الندب والكراهة، فقد وضع الشيء في غير موضعه. انتهى. ثم قال : وقال أبو محمد بن حزم في "الملل والنحل" : لا براءة من المعصية أعظم من حال من ظن أن أحدا لا يحلف حانثا ، وهكذا فعل آدم عليه السلام ، فإنه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا لنص القرآن ، ومتأولا وقاصدا إلى الخير ، لأنه قدر أنه يزداد حظوة عند الله فيكون ملكا مقربا ، أو خالدا فيما هو فيه أبدا ، فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله به ، وكان الواجب أن يحمل أمر ربه على ظاهره ، لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه ، ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجورا ، ولكن آدم لما فعل وأخرج عن الجنة إلى الدنيا ، كان بذلك ظالما لنفسه . وقد سمى الله تعالى قاتل الخطأ قاتلا ، كما سمى العامد ، والمخطئ لم يعمد معصية ، وجعل في مثل الخطأ عتق رقبة ، وهو لم يعمد ذنبا . انتهى. وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ، وجماعة من المتأخرين : الصواب أن آدم عليه السلام ، لما قاسمه عدو الله أنه ناصح ، وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات : أحدها القسم . والثاني الإتيان بجملة اسمية لا فعلية . والثالث تصديرها بأداة التأكيد . الرابع الإتيان بلام التأكيد في الخبر . الخامس الإتيان به اسم فاعل لا فعلا دالا على الحدث . السادس [ ص: 109 ] تقديم المعمول على العامل فيه . ولم يظن آدم أن أحدا يحلف بالله كاذبا يمين غموس ، فظن صدقه ، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة ، ورأى أن الأكل ، وإن كان فيه مفسدة ، فمصلحة الخلود أرجح ، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة اليمين في أثناء ذلك باعتذار أو توبة ، كما تجد هذا التأويل في نفس كل مؤمن أقدم على معصية. اهـ. قال ابن مفلح: فآدم عليه السلام لم يخرج من الجنة إلا بالتأويل ، فالتأويل لنص الله أخرجه ، وإلا فهو لم يقصد المعصية ، والمخالفة ، وأن يكون ظالما مستحقا للشقاء. انتهى . القول في تأويل قوله تعالى : [36 ] فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين "فأزلهما الشيطان عنها" أي : أذهبهما عن الجنة ، وأبعدهما . يقال : زل عن مرتبته ، وزل عني ذاك ، إذا ذهب عنك؛ وزل من الشهر كذا . وقال ابن جرير: فأزلهما ، بتشديد اللام ، بمعنى استزلهما ، من قولك زل الرجل في دينه ، إذا هفا فيه وأخطأ ، فأتى ما ليس له إتيان فيه ، وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه . وقرئ "فأزالهما" بالألف ، من التنحية : فأخرجهما مما كانا فيه من الرغد والنعيم والكرامة "وقلنا اهبطوا" أي : انزلوا إلى الأرض ، خطاب لآدم وحواء والشيطان ، أو خطاب لآدم وحواء خاصة، لقوله في الآية الأخرى : قال اهبطا منها جميعا وجمع الضمير لأنهما أصلا الإنس ، فكأنهما الإنس كلهم "بعضكم لبعض عدو" متعادين يبغي بعضكم على بعض: "ولكم في الأرض مستقر" منزل وموضع استقرار "ومتاع" تمتع بالعيش "إلى حين" أي : إلى الموت . [ ص: 110 ] القول في تأويل قوله تعالى: [37 ] فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم "فتلقى آدم من ربه كلمات" استقبلها بالأخذ والقبول ، والعمل بها حين علمها . قال ابن جرير : وهي الكلمات التي أخبر عنه أنه قالها متنصلا بقيلها إلى ربه ، معترفا بذنبه ، وهو قوله : ربنا ظلمنا أنفسنا الآية ، فدعا بها لكي تكون عنوانا له ولأولاده على التوبة "فتاب عليه" فرجع عليه بالرحمة والقبول ، وتجاوز عنه ، وقوله تعالى : "إنه هو التواب الرحيم" في الجمع بين الاسمين ، وعد للتائب بالإحسان مع العفو . القول في تأويل قوله تعالى: [38 ] قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون "قلنا" لآدم وحواء "اهبطوا منها" من الجنة "جميعا" ثم ذكر ذرية آدم فقال "فإما" بإدغام نون "إن" الشرطية في "ما" الزائدة "يأتينكم مني هدى" كتاب أنزله عليكم ، ورسول أبعثه إليكم "فمن تبع هداي" أقبل على الهدى وقبل : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الآخرة بأن يدخلوا الجنة . القول في تأويل قوله تعالى : [39 ] والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا بالكتاب والرسول : أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون لا يموتون ولا يخرجون . [ ص: 111 ] تنبيه : إنما كرر الأمر بالهبوط للتأكيد والإيذان بتحتم مقتضاه . وتحققه لا محالة . أو لاختلاف المقصود . فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون . والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف . فمن اتبع الهدى نجا ، ومن ضله هلك . فوائد : الأولى : ذهب كثيرون إلى أن الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام ، كانت في الأرض . قال بعضهم : هي على رأس جبل بالمشرق تحت خط الاستواء . وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة ، كما في قوله تعالى : اهبطوا مصرا واحتجوا عليه بوجوه : أحدها : أن هذه الجنة : لو كانت هي دار الثواب ، لكانت جنة الخلد ، ولو كان آدم في جنة الخلد ، لما لحقه الغرور من الشيطان بقوله : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ولما صح قوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وثانيها : أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى : وما هم منها بمخرجين https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 112 الى صـ 115 الحلقة (21) وثالثها : لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء ، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء ، لكان ذلك أولى بالذكر ، لأن نقله من الأرض إلى السماء ، من أعظم النعم . فدل ذلك على أنه لم يحصل . وذلك يوجب أن المراد من الجنة غير جنة الخلد . ورابعها : روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سيحان وجيحان والفرات والنيل ، كل من أنهار الجنة » . قال ابن مفلح : أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها آدم جنة الخلد ، دار الثواب . ثم قال : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية : وهذا قول أهل السنة والجماعة ، ومن قال إنها جنة في الأرض بالهند أو جدة ، أو غير ذلك ، فهو من الملحدة المبتدعين . والكتاب والسنة يردان هذا القول . وقد استوفى الكلام فيها في " مفتاح دار السعادة " وكتاب " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " . الفائدة الثانية : اتفق الناس أن الشيطان كان متوليا إغواء آدم ، واختلف في الكيفية . فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء : أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى وقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ومقاسمته لهما [ ص: 113 ] إني لكما لمن الناصحين والمقاسمة ظاهرها المشافهة ، ومنهم من قال : كان ذلك بالوسوسة ، كما قال : فوسوس لهما الشيطان فإغواؤه إغراؤه بوسواسه وسلطانه الذي جعل له ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » . وزعموا أن الشيطان لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها . والوسوسة : لغة ، حديث النفس والأفكار . وحديث الشيطان بما لا نفع فيه ولا خير ، والكلام الخفي . وظاهر الآيات يؤيد القول الأول . الفائدة الثالثة : لم يسم الشيطان في الآية ، إذ لا حاجة ماسة إلى اسمه ، كما تقدم في الشجرة . ولما قدم الله تعالى دعوة الناس عموما ، وذكر مبدأهم - دعا بني إسرائيل خصوصا ، وهم اليهود ، لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ، وقد جرى الكلام معهم (من هنا إلى الآية رقم 142) فتارة دعاهم بالملاطفة ، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم . وتارة بالتخويف ، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم ، وذكر عقوباتهم التي عاقبهم بها ، كما سيأتي تفصيله ، فقال تعالى : [ ص: 114 ] القول في تأويل قوله تعالى : [40 ] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون "يا بني إسرائيل" أي أولاد يعقوب . وقد هيجهم تعالى بذكر أبيهم إسرائيل ، كأنه قيل : يا بني العبد الصالح المطيع لله ، كونوا مثل أبيكم ، كما تقول : يا ابن الكريم ، افعل كذا ، ويا ابن العالم ، اطلب العلم ، اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم قال ابن جرير: نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل : اصطفاؤه منهم الرسل ، وإنزاله عليهم الكتب ، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه ، إلى التمكين لهم في الأرض ، وتفجير عيون الماء من الحجر ، وإطعام المن والسلوى ، فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر ، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم ، فيحل بهم من النقم ، ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها ، وجحد صنائعه عنده : وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون العهد هو الميثاق ، وقد أشير إليه في قوله تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار الآية . فعهد الله هو وصيته لهم ، بما ذكر في الآية . ومنها : الإيمان برسله المتناول لخاتمهم [ ص: 115 ] عليه السلام ، لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة . وعهده تعالى إياهم ، هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة ، وقوله تعالى : وإياي فارهبون قال ابن جرير : أي اخشوني واتقوا ، أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل ، والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه ، أن أحل بكم من عقوبتي إن لم تتوبوا إلي باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه ، ما أحللت بمن خالف أمري ، وكذب رسلي من أسلافكم . القول في تأويل قوله تعالى : [41 ] وآمنوا بما أنـزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون "وآمنوا بما أنزلت" أي : من القرآن : "مصدقا لما معكم" أي : موافقا بالتوحيد ، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ، وبعض الشرائع ، لما معكم من الكتاب -كما في التنوير- قال ابن جرير : أمرهم بالتصديق بالقرآن ، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة ; لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه ، نظير الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة . ففي تصديقهم بما أنزل على محمد ، تصديق منهم لما معهم من التوراة . وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة . انتهى . وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم ، لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر ، فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 116 الى صـ 120 الحلقة (22) تنبيه: كثيرا ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها ، كآية : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم وآية : ولكن [ ص: 116 ] تصديق الذي بين يديه وغيرهما . مع أنه ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم ، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي ، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة ، وقد رد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها على ما ادعوه ، بأن معنى كون القرآن مصدقا لما معهم ، ما ذكرناه قبل في تأويلها ; وحاصله أن ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هو طبق ما عندهم من حقية نبوته ، وصحة البشائر عنه ، كما قال تعالى : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم أي : أنه عليه السلام جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل ، بمعنى أن أحواله جميعا توافق البشائر . ولا تكونوا أول كافر به يعني من جنسكم أهل الكتاب ، بعد سماعكم بمبعثه . فالأولية نسبية ، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن ، أو هو تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه ، والمستفتحين على الذين كفروا به ، وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، لقوله : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا أي : لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي، بالدنيا وشهواتها ، فإنها قليلة فانية ، فالاشتراء استعارة للاستبدال وإياي فاتقون بالإيمان واتباع الحق ، والإعراض عن حطام الدنيا . [ ص: 117 ] القول في تأويل قوله تعالى : [42 ] ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [43 ] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين اللبس الخلط ، وقد يلزمه الاشتباه بين المختلطين . والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي يخترعونه أو يذكرونه في تأويله حتى يشتبه أحدهما بالآخر ، وقوله "وتكتموا" مجزوم داخل تحت حكم النهي . وتكرير الحق ، لزيادة تقبيح المنهي عنه ; إذ في التصريح باسم الحق ، ما ليس في ضميره ، والتقييد بقوله "وأنتم تعلمون" لزيادة تقبيح حالهم ; إذ الجاهل عسى يعذر ، وقوله "وأقيموا الصلاة" الآية ، أمر بلزوم الشرائع عليهم بعد الإيمان ، وذلك إقامة الصلاة بأدائها بفروضها ، والمحافظة عليها . وإعطاء الصدقة المفروضة ، والركوع لله ، أي : الخضوع لأوامره بإطاعتها . قال ابن جرير : هذا أمر من الله جل ثناؤه ، لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه ، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والدخول مع المسلمين في الإسلام ، والخضوع له بالطاعة ، ونهي منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد تظاهر حججه عليهم ، وبعد الإعذار لهم والإنذار . وبعد تذكيره نعمه إليهم ، وإلى أسلافهم تعطفا منه بذلك عليهم ، وإبلاغا إليهم في المقدرة . اهـ. وقد قيل في قوله : "واركعوا مع الراكعين" حث على إقامة الصلاة في الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس في المناجاة . [ ص: 118 ] القول في تأويل قوله تعالى : [44 ] أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون "أتأمرون الناس بالبر" أي : بما فيه لله رضا من القول أو الفعل . وجماع البر كل ما فيه طاعة لله تعالى . والهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم : "وتنسون أنفسكم" أي : تتركونها من البر كالمنسيات . والمعنى تخالفون ما تأمرون به من ذلك إلى غيره . وقوله "وأنتم تتلون الكتاب" تبكيت مثل قوله "وأنتم تعلمون" يعني تتلون التوراة ، وفيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل . "أفلا تعقلون" توبيخ عظيم بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وكأنكم في ذلك مسلوبوا العقول ، لأن العقول تأباه وتدفعه . روى الحافظ ابن كثير الدمشقي في تفسيره عن إبراهيم النخعي قال : إني لأكره القصص لثلاث آيات : قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وقوله : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وقوله إخبارا عن شعيب : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [ ص: 119 ] القول في تأويل قوله تعالى : [45 ] واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين "واستعينوا بالصبر" أي : على الوفاء بالعهد "والصلاة" أي التي سرها خشوع القلب للرب . فإنها من أكبر العون على الثبات في الأمر . قال ابن جرير : أي : استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي واتباع أمري وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري ، واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه ، والصلاة . فالآية متصلة بما قبلها . كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك "وإنها" الضمير للصلاة . وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها واشتمالها على ضروب من الصبر ؛ وجوز عود الضمير على الاستعانة بهما "لكبيرة" لشاقة ثقيلة كقوله تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه إلا على الخاشعين القول في تأويل قوله تعالى : [46 ] الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم أي محشورون إليه يوم القيامة للجزاء . والظن [ ص: 120 ] هنا بمعنى اليقين ، ومثله : إني ظننت أني ملاق حسابيه قال ابن جرير : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، نظير تسميتهم الظلمة سدفة ، والضياء سدفة ، والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخا ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده . والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصر : وأنهم إليه راجعون أي : بعد الموت فيجازيهم . القول في تأويل قوله تعالى: [47 ] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم كرر التذكير للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديد به "وأني فضلتكم" عطف على نعمتي ، عطف الخاص على العام لكماله . أي : فضلت آباءكم "على العالمين" أي عالمي زمانهم بإنزال الكتاب عليهم ، وإرسال الرسل فيهم وجعلهم ملوكا ، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام وبعده قبل أن يغيروا ، وتفضيل الآباء شرف الأبناء . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 121 الى صـ 125 الحلقة (23) القول في تأويل قوله تعالى : [48 ] واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون "واتقوا يوما" يريد يوم القيامة أي : حسابه أو عذابه "لا تجزي" فيه "نفس عن نفس شيئا" أي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق . فانتصاب "شيئا" على المفعولية . أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية . وإيراده منكرا مع تنكير النفس للتعميم والإقناط الكلي [ ص: 121 ] ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ لا يقبل "منها عدل" أي : فدية "ولا هم ينصرون" يمنعون من عذاب الله . وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة ، وذكر لمعنى العباد أو الأناسي . (تنبيه) تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة ; لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقا أخلت به من فعل أو ترك ، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع ، فعلم أنها لا تقبل للعصاة . والجواب : أنها خاصة بالكفار . ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال : فما تنفعهم شفاعة الشافعين وكما قال عن أهل النار : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ، ولا يخلص منه أحد . وفي الانتصاف : من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها . وأما من آمن بها وصدقها ; وهم أهل السنة والجماعة ، فأولئك يرجون رحمة الله ، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم . وليس في الآية دليل لمنكريها ; لأن قوله "يوما" أخرجه منكرا ، ولا شك أن في القيامة مواطن ، ويومها معدود بخمسين ألف سنة . فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة . وبعضها هو الوقت الموعود ، وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام . وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها . منها قوله تعالى : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون مع قوله : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ ص: 122 ] فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ووقتين متغايرين : أحدهما محل للتناول ، والآخر ليس محلا له ، وكذلك الشفاعة ، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة ، رزقنا الله الشفاعة ، وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة . القول في تأويل قوله تعالى : [49 ] وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ نجيناكم من آل فرعون تذكير لتفاصيل ما أجمل في قوله تعالى : نعمتي التي أنعمت عليكم من فنون النعماء . أي : واذكروا وقت تنجيتنا إياكم ، أي : آباءكم . فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم . والمراد بالآل : فرعون وأتباعه ، فإن الآل يطلق على الشخص نفسه ، وعلى أهله وأتباعه وأوليائه (قاله في القاموس). ثم بين ما أنجاهم منه بقوله "يسومونكم" أي : يبغونكم "سوء العذاب" أي : أفظعه وأشده : يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم أي : يتركونهم أحياء : وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم البلاء إما المحنة ، إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون ، أو النعمة ، إن أشير به إلى الإنجاء . قال ابن جرير : العرب تسمي الخير بلاء ، والشر بلاء . فائدة : فرعون لقب لمن ملك مصر كافرا . ككسرى لملك الفرس . وقيصر لملك الروم ، وتبع لمن ملك اليمن كافرا ، والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وخاقان لملك الترك . ولعتوه اشتق منه : تفرعن الرجل ، إذا عتا وتمرد . وسبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم (على ما روي في التوراة) خوفه من نموهم وكثرة توالدهم . وكانت أرض مصر امتلأت منهم ; فإن يوسف عليه [ ص: 123 ] السلام ، لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان إلى مصر ، أعطاهم ملكا في أرض مصر في أفضل الأرض كما أمره ملك مصر . وكان لهم في مصر مقام عظيم بسبب يوسف عليه السلام . فتكاثروا وتناسلوا . ولما توفي يوسف عليه السلام ، والملك الذي اتخذه وزيرا عنده ، انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل . إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة ، فرأى غو الإسرائيليين ، فقال لقومه : أضحى بنو إسرائيل شعبا أكثر منا وأعظم . فهلم نحتال لهم لئلا ينموا ، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا . ويخرجون من أرضنا . فسلط عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم ، وكانوا كلما اشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة ، فشق على المصريين كثرتهم واختشوا منهم ، فجعل أهل مصر يستعبدونهم جورا ويمررون عليهم حياتهم بالعمل الشديد بالطين واللبن ، وكل فلاحة الأرض ، وكل الأفعال التي استعبدوهم بها بالمشقة . وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قصه الله تعالى . ولم يزل الأمر في هذه الشدة عليهم حتى نجاهم سبحانه بإرسال موسى عليه السلام . وقوله جل ذكره . القول في تأويل قوله تعالى : [50 ] وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون وإذ فرقنا بكم البحر بيان لسبب التنجية ، وتصوير لكيفيتها ، إثر تذكيرها وبيان عظمها وهولها ، وقد بين في تضاعيف ذلك نعمة جليلة أخرى هي الإنجاء من الغرق . أي : واذكروا إذ فلقناه بسلوككم ، أو ملتبسا بكم ، أو بسبب إنجائكم . وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت مسالك . فالباء على الأول استعانة ، مثلها في : كتبت بالقلم . وعلى الثاني للمصاحبة . مثلها في : أسندت ظهري بالحائط . وعلى الثالث للسببية . والوجه الأول [ ص: 124 ] ضعيف من حيث إن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببني إسرائيل والمنصوص عليه في التنزيل أن البحر إنما انفرق بعصا موسى . قال تعالى : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم فآلة التفريق العصا لا بنو إسرائيل "فأنجيناكم" أي : من الغرق بإخراجكم إلى الساحل "وأغرقنا آل فرعون" أريد فرعون وقومه ، وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم "وأنتم تنظرون" أي : إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه . ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم . وكانت قصة إغراق آل فرعون المشار لها في هذه الآية ، على ما روي ، أن الحق تعالى لما شاء إخراج بني إسرائيل من مصر من بيت العبودية ، أوقع في نفس فرعون أن يطلقهم من مصر . بعد إباء شديد منه ، ورؤية آيات إلهية كادت تحل به وبقومه البوار . فدعا موسى وهارون وقال : اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعا . واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم . فلما ارتحلوا وأخبر فرعون أن الشعب قد هرب ، تغير قلبه عليهم وقال : ماذا فعلنا حتى أطلقناهم من خدمتنا ؟ فشد مركبته وأخذ قومه معه وسعى وراءهم ، وأدركهم وهم نازلون عند بحر القلزم ، وهو المشهور ببحر السويس فلما رأت بنو إسرائيل عسكر فرعون وراءهم ، قالوا : يا موسى أين ما وعدتنا من النصر والظفر ؟ فلو بقينا على خدمة المصريين لكان خيرا لنا من أن نهلك في هذه البرية : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وقال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون وأوحى [ ص: 125 ] الله إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وأيبس قعره ، فدخل بنو إسرائيل فيه . فتبعهم فرعون وجنوده . فخرج موسى وقومه من الجهة الثانية . وانطبق البحر على فرعون ومن معه فغرقوا كلهم . وسيأتي الإشارة إلى هذه القصة في مواضع من التنزيل . ومن أبسطها فيه سورة الشعراء . القول في تأويل قوله تعالى : [51 ] وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون وإذ واعدنا موسى أي بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم "أربعين ليلة" أي : لنعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها . وقد روي في ترجمة التوراة أنه تعالى قال لموسى : اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك ألواحا من حجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلمهم . فصعد موسى إلى الجبل وبقي هناك أربعين يوما وأربعين ليلة . وموسى : كلمة عبرانية معناها منشول من الماء "ثم اتخذتم العجل" أي : إلها ومعبودا "من بعده" أي من بعد مضيه للميقات "وأنتم ظالمون" أي : بوضع العبادة في غير موضعها ، وهو حال من ضمير اتخذتم ، أو اعتراض تذييلي . أي : وأنتم قوم عادتكم الظلم . القول في تأويل قوله تعالى : [52 ] ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون "ثم عفونا عنكم" أي : محونا ذنوبكم "من بعد ذلك" أي : الاتخاذ والظلم القبيح "لعلكم تشكرون" لكي تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة. https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 126 الى صـ 130 الحلقة (24) القول في تأويل قوله تعالى : [53 ] وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان يعني الجامع بين كونه كتابا منزلا ، وفرقانا يفرق بين الحق والباطل . يعني التوراة . كقولك : رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة . ونحوه قوله تعالى : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا ، أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرها من الآيات . أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام . وقيل : الفرقان انفراق البحر . وقيل : النصر الذي فرق بينه وبين عدوه ، كقوله تعالى : يوم الفرقان يريد به يوم بدر "لعلكم تهتدون" أي : لكي تهتدوا بالعمل فيه من الضلال . القول في تأويل قوله تعالى: [54 ] وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه [ ص: 127 ] هو التواب الرحيم هذه الآية بيان لكيفية وقوع العفو المذكور في الآية قبل . روي أن موسى عليه السلام لما رجع من الميقات ورأى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل ، غضب ورمى باللوحين من يده . فكسرهما في أسفل الجبل . ثم أحرق العجل الذي صنعوه . ثم قال : من كان من حزب الرب فليقبل إلي . فاجتمع إليه جميع بني لاوى . وقال لهم : هذا ما يقول الرب إله إسرائيل : ليتقلد كل رجل منكم سيفه . فجوزوا في وسط المحلة من باب إلى باب وارجعوا ، وليقتل الرجل منكم أخاه وصاحبه وقريبه . فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى ، فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل (وفي رواية نحو ثلاثة آلاف رجل) وفي غد ذلك اليوم كلم موسى الشعب، وقال لهم : أنتم قد أخطأتم خطيئة عظيمة ، وإني الآن أصعد إلى الرب فأتضرع إليه من أجل خطيئتكم . فصعد موسى وتضرع للرب وسأل المغفرة لقومه اهـ. ولاوى : ثالث مولود ليعقوب عليه السلام من أولاده الاثني عشر ، معناه في العربية ملتصق أو متصل . والأحبار اللاويون ينسبون إليه ، وقد اختارهم تعالى من بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام للخدمة المقدسة . وجعلهم من المقربين لديه . وبما سقناه يعلم أن قوله تعالى "فاقتلوا أنفسكم" أمر لمن لم يعبد العجل ، أعني اللاويين ، أن يقتلوا العبدة . لا كما فهمه بعضهم من قتل بعضهم بعضا مطلقا . القول في تأويل قوله تعالى : [55 ] وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون [56 ] ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم [ ص: 128 ] الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون أي : واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق ; إذ سألتم رؤيتي عيانا مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم في دار الدنيا . وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن القائلين لموسى ذلك هم السبعون المختارون . ويؤيده آية الأعراف واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب الآية . وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل ; فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك ، فمنع منه ، فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟ أفاده ابن كثير . وقد رأيت دعواهم المذكورة في الفصل الرابع والعشرين في سفر الخروج . وهذا من المواضع المحقق تحريفها . ويدل عليه ما في الفصل الثالث والثلاثين من السفر المذكور أنه تعالى قال لموسى : لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش اهـ. وجهرة ، في الأصل ، مصدر قولك جهرت بالقراءة . استعيرت للمعاينة، لما بينهما من الاتحاد . في الوضوح والانكشاف . إلا أن الأول في المسموعات ، والثاني في المبصرات ، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية ، فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس . أو على الحال من الفاعل أو المفعول . قال ابن جرير : وأصل الصاعقة كل أمر هائل رآه ، أو عاينه ، أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب ، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم ، أو فقد بعض آلات الجسم ، صوتا كان ذلك أو نارا . أو زلزلة أو رجفا (قال) ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو [ ص: 129 ] حي غير ميت قول الله عز وجل : "وخر موسى صعقا" يعني مغشيا عليه . ومنه قول جرير : وهل كان الفرزدق غير قرد أصابته الصواعق فاستدارا ! فقد علم أن موسى لم يكن ، حين غشي عليه وصعق ميتا ; لأن الله جل وعز ، أخبر عنه أنه لما أفاق قال : تبت إليك . ولا شبه جرير الفرزدق ، وهو حي ، بالقرد ميتا ، ولكن معنى ذلك ما وصفناه . وقوله تعالى "وأنتم تنظرون" أي إلى تلك الصاعقة . وقوله تعالى : ثم بعثناكم من بعد موتكم قال الراغب الأصبهاني في تفسيره : البعث إرسال المبعوث من المكان الذي فيه . لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به ، فقيل : بعثت البعير من مبركه أي : أثرته ، وبعثته في السير أي هيجته ، وبعث الله الميت أحياه ، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال . وكل ذلك واحد في الحقيقة ، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات (ثم قال) والموت حمل على المعروف ، وحمل أيضا على الأحوال الشاقة الجارية مجرى [ ص: 130 ] الموت ، وليس يقتضي قوله "فأخذتكم الصاعقة" أنهم ماتوا. ألا ترى إلى قوله : وخر موسى صعقا لكن الآية تحتمل الأمرين ، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المتعري عن الاحتمالات . انتهى . وقد يؤيد الثاني آية الأعراف المذكورة وهي : واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي فالرجفة هي المسماة بالصاعقة هنا ، والتنزيل يفسر بعضه بعضا ، والأصل توافق الآي . وقد ذكر ابن إسحاق والسدي أن الذين أخذتهم الرجفة هم الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة ، وسيأتي في الأعراف بسط ذلك إن شاء الله . دلت الآية على أن طلب رؤيته تعالى في الدنيا مستنكر غير جائز ، ولذا لم يذكر ، سبحانه وتعالى ، سؤال الرؤية إلا استعظمه ، وذلك في آيات : منها هذه . ومنها قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ومنها قوله تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا فدلت هذه التهويلات الفظيعة الواردة لطالبيها في الدنيا على امتناعها فيها . وكما أخبر تعالى بأنه لا يرى في الدنيا ، فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة في آيات عديدة ، كما تواترت الأحاديث الصحيحة بذلك ، وهي قطعية الدلالة ، لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة ، وزعموا أن العقل قد حكم بها . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 131 الى صـ 135 الحلقة (25) القول في تأويل قوله تعالى : [57 ] وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم ، فمنها تظليل الغمام عليهم ، وذلك أنهم كانت تظلهم سحابة إذا ارتحلوا . لئلا تؤذيهم حرارة الشمس ، وقد ذكر تفصيل شأنها في توراتهم في الفصل التاسع من سفر العدد ، ومنها إنزال المن . وقد روي في التوراة أنهم لما ارتحلوا من إيليم وأتوا إلى برية سين ، التي بين إيليم وسيناء ، في منتصف الشهر الثاني بعد خروجهم من مصر ، تذمروا على موسى وهارون في البرية ، وقالوا لهما : ليتنا متنا في أرض مصر إذ كنا نأكل خبزا ولحما ، فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتهلكا هذا الجمع بالجوع . فأوحى تعالى لموسى عليه السلام إني أمطر عليكم خبزا من السماء . فليخرج الشعب ، ويلتقطوا حاجة اليوم بيومها طعامهم من أجل أني أمتحنهم ، هل يمشون في شريعتي أم لا ، وليكونوا في اليوم السادس أنهم يهيئون ضعف ما يلتقطونه يوما فيوما . لأن اليوم السابع يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء . فقال لهم موسى : إن الرب تعالى يعطيكم عند المساء لحما تأكلون ، وبالغداة تشبعون خبزا . فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة ، وبالغداة أيضا وقع الندى حول المحلة . ولما غطى وجه الأرض تباين في البرية شيء رقيق كأنه مدقوق بالمدقة ، يشبه الجليد على الأرض . فلما نظر إليه بنو إسرائيل قالوا : ما هذا ؟ لأنهم لم يعرفوه . فقال لهم موسى : هذا هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا . وقد أمركم أن يلقط كل واحد على قدر ما في بيته ، وقدر مأكله . ففعل بنو إسرائيل كذلك ، ولقطوا ما بين مكثر ومقلل ، وقال لهم موسى : لا تبقوا منه شيئا إلى الغد . فلم يطيعوا [ ص: 132 ] موسى ، واستفضل منه رجال إلى الغد ، فضرب فيه الدود ونتن ، فغضب عليهم موسى ، وكانوا يلقطون غدوة ، كل إنسان يلقط على قدر ما يأكل ، فإذا أصابه حر الشمس ذاب . وقد أعطوا في اليوم السادس خبز يومين ليجلس كل رجل منهم في مكانه في اليوم السابع ، راحة وتقديسا له . وكان إذا خرج بعض الشعب ليلقط ، يوم السابع ، لا يجد في الأرض منه شيئا . ودعا آل إسرائيل اسمه المن ، وكان مثل حب الكزبرة أبيض ، وطعمه كرقاق بعسل ، وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة حتى أتوا إلى الأرض العامرة ، ودنوا من تخوم أرض كنعان . وروي في ترجمة التوراة أيضا أن المن كان يشبه لون اللؤلؤ . وكان يطوف الشعب ويلتقطونه ويطحنونه بالرحى . ويدقونه في الهاون ويطبخونه في القدور ، ويعملون منه رغفا طعمها كالخبز المعجون بالدهن . ومتى نزل الندى على المحلة ليلا كان ينزل المن معه اهـ. هذا ما كان من أمر المن . وأما السلوى فروي أيضا : أن جماعة ممن صعد مع بني إسرائيل من مصر تاقت أنفسهم للحم وجلسوا يبكون ، ووافقهم بنو إسرائيل على اشتهائه أيضا . وقالوا : من يطعمنا لحما لنأكل ؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله بمصر من غير ثمن ، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم . والآن قد يبست نفوسنا ولا تنظر عيوننا إلا المن . فلما سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم ، وعلم غضب الرب عليهم ؛ لذلك ، ابتهل إلى ربه وقال : من أين لي لحم أطعم منه هذا الجمع وهم يبكون علي ويقولون أعطنا لحما لنأكل ؟ فأوحى إليه ربه أن يجمع سبعين رجلا من شيوخ شعبه وعرفائه ، ويقبل بهم إلى خيمة الاجتماع فيكونوا معه ، ثم كلمه ربه ووعده أن يعطيه لحما يأكلون منه شهرا حتى يأنفوا منه . فأخبر موسى الشعب بذلك . ثم انحاز إلى المحلة هو وشيوخ قومه ، فخرجت ريح وحملت السلوى من البحر وألقتها على المحلة مسيرة يوم حول المحلة من كل جانب ، وكانت تطير بالجو ذراعين على الأرض ، وقام الشعب يومهم ذلك كله والليل . وفي غد اليوم الثاني ، فجمعوا السلوى أقل من جمع عشرة أكرار ، سطحوه سطيحا ويبسوه حول المحلة . [ ص: 133 ] وقبل أن ينقطع اللحم من عندهم غضب الرب تعالى على الشعب ; فضربه ضربة عظيمة جدا ، ودعي اسم ذلك الموضع قبور الشهوة . لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا . ثم خرجوا من قبور الشهوة ، وارتحلوا لغيره . انتهى . وقوله تعالى "كلوا" على إرادة القول أي قائلين لهم أو قيل لهم كلوا . وقوله "وما ظلمونا" كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة . معطوف على مضمر قد حذف للإيجاز ، والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح به . أي : فظلموا بأن أكثروا من التضجر والتذمر على ربهم وشكوى سكناهم في البرية وفراقهم مصر ، وما ظلمونا بذلك ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، بالعصيان . إذ لا يتخطاهم ضرره ، وبذلك حق عليهم العذاب الذي ضربوا به كما ذكرناه . القول في تأويل قوله تعالى : [58 ] وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنـزيد المحسنين [59 ] فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنـزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون هذا إشارة إلى ما حل ببني إسرائيل لما -نكلوا عن الجهاد- ودخولهم الأرض [ ص: 134 ] المقدسة -أرض كنعان- لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام ، وإنما أطلق على الأرض المذكورة قرية ; لأن القرية : كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا . وتقع على المدن وغيرها -كذا في "كفاية المتحفظ"- ثم إن ما قص- هنا -ذكر في سورة المائدة في قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون الآيات . وقوله تعالى "ادخلوا الباب سجدا" في التأويلات : يحتمل المراد من الباب حقيقة الباب ، وهو باب القرية التي أمروا بالدخول فيها . ويحتمل من الباب القرية نفسها ، لا حقيقة الباب- كقوله "وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية" ذكر القرية ولم يذكر الباب- ، وذلك في اللغة جائز . (ويقال : فلان دخل في باب كذا - لا يعنون حقيقة الباب ، ولكن كونه في أمر هو فيه . وقوله "سجدا" يحتمل المراد من السجود : حقيقة السجود . فيخرج على وجوه: على التحية لذلك المكان ، ويحتمل على الشكر له لما أهلك أعداءهم الجبارين ؛ ويحتمل الكناية عن الصلاة -إذ العرب قد تسمي السجود (صلاة)- كأنهم أمروا بالصلاة فيها ؛ ويحتمل أن الأمر بالسجود -لا على حقيقة السجود والصلاة- ولكن أمر بالخضوع له والطاعة والشكر على أياديه. والله أعلم . وقوله تعالى "وقولوا حطة" خبر محذوف، أي مسألتنا حطة -والأصل النصب- بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات . [ ص: 135 ] وقوله سبحانه : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم أي : بدلوا أمره تعالى لهم -بدخول الأرض مجاهدين- بالإحجام عنه ، وتثبيط الناس . ولذا قال أبو مسلم "قوله تعالى "فبدل" يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به ، لا على أنهم أتوا له ببدل. والدليل عليه : أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة . قال تعالى : سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى قوله : يريدون أن يبدلوا كلام الله ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول . فكذا هنا ، فيكون المعنى : إنهم لما أمروا بدخول الأرض -وما ذكر معه- لم يمتثلوا أمر الله ، ولم يلتفتوا إليه" . وفي تكرير "الذين ظلموا" زيادة في تقبيح أمرهم ، وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم . و(الرجز) : هو الموت بغتة ، كما تقدم . قال الراغب : وتخصيص قوله "رجزا من السماء" هو أن العذاب ضربان : ضرب قد يمكن -على بعض الوجوه- دفاعه ، أو يظن أنه يمكن فيه ذلك ، وهو كل عذاب على يد آدمي ، أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق . وضرب لا يمكن -ولا يظن- دفاعه بقوة آدمي كالطاعون ، والصاعقة ، والموت- وهو المعني بقوله "رجزا من السماء" اهـ. https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 136 الى صـ 140 الحلقة (26) القول في تأويل قوله تعالى : [60 ] وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين هذا تذكير لنعمة أخرى كفروها . روي في توراتهم أنه ارتحلت كل جماعة بني إسرائيل [ ص: 136 ] من برية سينا بأمره تعالى ، وحلوا في رقادين ، ولم يكن هناك ماء ليشربوا ، فخاصموا موسى ، وقالوا له أعطنا ماء لنشرب ، أخرجتنا من مصر لتقتلنا نحن وأولادنا ، ودوابنا بالعطش ؟ فابتهل موسى إلى ربه في السقيا ، فأوحى إليه أن امض أمام الشعب ، وخذ معك من شيوخ إسرائيل . والعصا التي ضربت بها النهر خذها بيدك . واذهب إلى صخرة حوريب ، فاضربها فيخرج منها ماء ليشرب الشعب . ففعل موسى كذلك أمام شيوخ إسرائيل . انتهى . وقوله تعالى "اثنتا عشرة عينا" أي عدد أسباط يعقوب الاثني عشر ، لكل سبط منهم عين قد عرفوها . قال الراغب: وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده ، وهذا المنكر ، مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات ، فقد ترك النظر على طريقته . إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجر الحديد ، وأن الحجر المنفر للنحل ينفره ، والحجر الحلاق يحلق الشعر ، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة . وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم ، فغير ممتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض . اهـ. وقوله : ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي لا تمشوا في الأرض بالفساد ، وخلاف أمر موسى . قال الراغب : فإن قيل : فما فائدة قوله "مفسدين" والعثو ضرب من الإفساد ؟ قيل : قد قال بعض النحويين : إن ذلك حال مؤكدة، وذكر ألفاظا مما يشبه . وقال بعض المحققين : إن العثو ، وإن اقتضى الفساد ، فليس بموضوع له ، بل هو كالاعتداء ، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد ، وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وهذا الاعتداء ليس بإفساد ، بل هو، بالإضافة إلى [ ص: 137 ] ما قوبل به ، عدل . ولولا كونه جزاء لكان إفسادا . فبين تعالى أن العثو المنهي عنه ، هو المقصود به الإفساد . فالإفساد مكروه على الإطلاق ، ولهذا قال : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل ، كما تقدم . وهذا ظاهر اهـ . القول في تأويل قوله تعالى : [61 ] وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد قال قتادة : لما ملوا طعامهم وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك ، قالوا ذلك . قال الراغب : إن قيل : كيف قال : لن نصبر على طعام واحد وكان لهم المن والسلوى ، قيل : إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة ، كقولك : فلان يفعل فعلا واحدا في كل يوم ، وإن كثرت أفعاله ، إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها اهـ. وهذا المعنى في إنكار الطعام أبلغ . لأنهم لم يكتفوا في إنكاره بقولهم "لن نصبر على طعام" ، حتى أكدوا بقولهم "واحد" أو [ ص: 138 ] أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل . فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها هو الثوم لقراءة ابن مسعود "وثومها" وللتصريح به في التوراة في هذه القصة . وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاء لتقارب مخرجيهما كقولهم للأثافي "أثاثي" ، وقولهم وقعوا في عاثور شر وعافور شر ، وللمغافير "مغاثير" "وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى" أي : أدون قدرا ، وأصل الدنو القرب في المكان ، فاستعير للخسة ، كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل : بعيد الهمة "بالذي هو خير" أي : بمقابلة ما هو خير ، أي : أرفع وأجل ، وهو المن الذي فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية ، والسلوى من أطيب لحوم الطير ، وفي مجموعهما غذاء تقوم به البنية . وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة ولا تغذية "اهبطوا مصرا" هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور، بالصرف. قال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك، لإجماع المصاحف على ذلك ؛ أي : من الأمصار ، أي انحدروا إليه "فإن لكم" فيها "ما سألتم" أي : فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في القفار ، والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير ، في أي بلد دخلتموها وجدتموه . فليس يساوي مع دناءته ، وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه . ولما حكى الله تعالى إنكار موسى عليه السلام على اليهود استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، بعد تعداد النعم ، جاء بحكاية سوء صنيعهم بالأنبياء ، وكفرهم ، واعتدائهم ، وضرب الذلة عليهم لذلك ، استطرادا فقال : وضربت عليهم الذلة والمسكنة فمن هنا إلى قوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى ، يدل هذا على قوله : ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين فإن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم . والذلة بالكسر الصغار والهوان والحقارة . والذل بالضم ضد العز . والمسكنة مفعلة من السكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفقر . والمسكين مفعيل منه -كذا في السمين- [ ص: 139 ] وفي الذلة استعارة بالكناية حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة ، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك . وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أذل الفرق ، وأشدهم مسكنة ، وأكثرهم تصاغرا ، لم ينتظم لهم جمع ، ولا خفقت على رؤوسهم راية ، ولا ثبتت لهم ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسك منهم بنصيب من المال ، وإن بلغ في الكثرة أي مبلغ ، فهو مرتد بأثواب المسكنة . "وباؤوا بغضب من الله" أي رجعوا به ، أي صار عليهم ، أو صاروا أحقاء به . من قولهم . باء فلان بفلان ، أي صار حقيقا أن يقتل بمقابلته . فالباء على التقديرين صلة باؤوا ، لا للملابسة . وإلا لاحتيج اعتبار المرجوع إليه ، ولا دلالة في الكلام عليه "ذلك" إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم "بأنهم" بسبب أنهم "كانوا يكفرون بآيات الله" الباهرة التي ظهرت على يدي عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام : ويقتلون النبيين بغير الحق كزكريا ويحيى عليهما السلام . وقتل الأنبياء في بني إسرائيل كان ظاهرا ، ولم يذكر قتل رسول من الرسل . وذلك -والله أعلم- لقوله : إنا لننصر رسلنا وقوله : إنهم لهم المنصورون وقال قوم : لم يقتل أحد من الرسل ، وإنما قتل الأنبياء ، أو رسل الرسل ، والله أعلم . كذا في التأويلات . وقوله "بغير الحق" لم يخرج مخرج التقييد ، حتى يقال إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال ، لمكان العصمة . بل المراد نعي هذا الأمر عليهم ، وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر ، حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا ، والغلو في العصيان ، [ ص: 140 ] والاعتداء ، كما يفصح عنه قوله تعالى : ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون أي : جرهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر ، وقتل الأنبياء عليهم السلام . وقيل : كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم ، كما أنه بسبب الكفر والقتل ، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي ، واعتدائهم حدود الله تعالى . وعليه فيكون ذكر علل إنزال العقوبة بهم في نهاية حسن الترتيب ; إذ بدئ أولا بما فعلوه في حق الله تعالى وهو كفرهم بآياته . ثم ثني بما يتلوه في العظم ، وهو قتل الأنبياء . ثم بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم . ثم بما يكون منهم من المعاصي المعتدية إلى الغير ، مثل الاعتداء . وهذا من لطائف أسلوب التنزيل. ثم أعلم تعالى بأن باب التوبة مفتوح على الوجه العام لليهود وغيرهم . وأن من ارتكب كبائر الذنوب التي تستوجب الغضب الإلهي ، وضرب الذلة والمسكنة ، كما حل باليهود ، إذا آمن وتاب فله في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين . وعادة التنزيل جارية بأنه متى ذكر وعد أو وعيد ، عقب بضده ليكون الكلام تاما فقيل : https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 141 الى صـ 145 الحلقة (27) القول في تأويل قوله تعالى : [62 ] إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون أي إن الذين آمنوا بما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وصاروا من جملة أتباعه . قال في فتح البيان: كأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية ، وحال من قبلها من سائر الملل ، يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحق ما ذكره الله من الأجر . ومن فاته ذلك فاته الخير كله ، والأجر دقه وجله . والمراد بالإيمان ههنا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله ، لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان [ ص: 141 ] فقال : « أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره » . ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية . فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن ، فليس بمؤمن . ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا ، ولم يبق يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا . انتهى . قال الراغب في تفسيره : تقدم أن الإيمان يستعمل على وجهين : أحدهما الإقرار بالشهادتين ، الذي يؤمن نفس الإنسان ، وماله عن الإباحة إلا بحق ، وذلك بعد استقرار هذا الدين مختص به كالإسلام . والثاني تحري اليقين فيما يتعاطاه الإنسان من أمر دينه . فقوله : [ ص: 142 ] "إن الذين آمنوا" عنى به المتدين بدين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله "من آمن بالله" عنى به المتحري للاعتقاد اليقيني ، فهو غير الأول . ولما كانت مشاهير الأديان هذه الأربع ، بين تعالى أن كل من تعاطى دينا من هذه الأديان في وقت شرعه ، وقبل أن ينسخ ، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقيني ، وأتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . ثم قال : وقول ابن عباس : إن هذا منسوخ بقوله : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام ، وأن الله عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبي عليه السلام . فأما في وقته ، فالأديان كلها منسوخة بدينه. اهـ. أي فليس مراد ابن عباس ، ومن وافقه ، أنه تعالى كان وعد من عمل صالحا من اليهود ، ومن ذكر معهم على عمله ، في الآخرة الجنة، ثم نسخه بآية : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه بل مراده ما ذكر الراغب . وهذا ما لا شبهة فيه . ولذا قال ابن جرير : ظاهر التنزيل يدل على أنه تعالى لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان ، بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله : من آمن بالله واليوم الآخر عن جميع ما ذكر في أول الآية . تنبيه : ظاهر هذه الآية ، مع تفسير الراغب "من آمن" بالمتحري للاعتقاد اليقيني ، مما قد يستدل به العنبري لمذهبه . فقد نقل الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد أن العنبري ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب ، حتى في الأصول ، ووافقه الجاحظ . قال الغزالي في " المستصفى " : ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية، إن كان معاندا على خلاف اعتقاده ، فهو آثم ، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور [ ص: 143 ] غير آثم ، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر ، فهو أيضا معذور ، وإنما الآثم المعذب المعاند فقط ; لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها . وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ، ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى ; إذ استد عليهم طريق المعرفة . ثم رده الغزالي بأدلة سمعية ضرورية ، وذلك مثل معرفتنا ضرورة أمره عليه السلام اليهود والنصارى بالإيمان به ، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ، وذلك لا ينحصر في الكتاب والسنة. ثم قال الغزالي : وأما قوله -أي : الجاحظ- : كيف يكلفهم ما لا يطيقون ؟ قلنا : نعلم ضرورة أنه كلفهم ، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون ، فلننظر فيه ، بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ، ونصب من الأدلة ، وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات ، الذين نبهوا العقول ، وحركوا دواعي النظر ، حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل اهـ. وقوله : والذين هادوا أي : تهودوا . يقال : هاد يهود ، وتهود ، إذا دخل في اليهودية . وهو هائد ، والجمع هود . وهم أمة موسى عليه السلام ، وإنما لزمهم هذا الاسم ; لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة ، ومن سبي بابل إلى وطنهم القديم ، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب (بالذال المعجمة ، فقلبتها العرب دالا مهملة) . وقوله تعالى "والنصارى" جمع نصران ، كندامى جمع ندمان ، يقال : رجل نصران ، وامرأة نصرانية ، والياء في نصراني للمبالغة ، كما في أحمري ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام -كذا في " الكشاف"- أو هو جمع نصراني ، مغير عن ناصري نسبة إلى ناصرة -القرية المعروفة- وقد نسب إليها المسيح عليه السلام ، لأنه ربي بها . وجاء في الإنجيل "يسوع الناصري" . وقوله تعالى "والصابئين" جمع صابئ ، ويقال لهم الصابئة . قال ابن جرير : الصابئ هو المستحدث ، سوى دينه ، دينا ، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه . وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب "صابئا" . يقال منه : صبا فلان يصبو صباء ، ويقال : صبأت النجوم إذا طلعت . وقد اختلف أهل [ ص: 144 ] التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم ، من أهل الملل . فقال بعضهم : يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين . وقالوا : الذي عنى الله بهذا الاسم قوما لا دين لهم ، فعن مجاهد : الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ، ولا دين لهم . وعن ابن زيد : الصابئون دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل ، يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي . وعن قتادة : أنهم قوم يعبدون الملائكة اهـ. وقال الإمام الشهرستاني ، في الكلام عن الصابئة ما مثاله : والصبوة في مقابلة الحنيفية . وفي اللغة : صبا الرجل إذا مال وزاغ . فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة . وهم يقولون : الصبوة هو الانحلال عن قيد الرجال . وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين ، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين . والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب ، والحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة . فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة ، فالصابئة قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية ، ولا يقولون بالشريعة والإسلام . فيقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد . والصابئة الأولى الذين قالوا بعاذيمون وهرمس ، وهما شيت وإدريس ، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء . وهم أصحاب الروحانيات . فيعتقدون أن للعالم صانعا حكيما مقدسا عن سمات الحدثان . والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله ، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرا وفعلا وحالة . أما الجوهر فهم المقدسون عن المواد الجسمانية ، الذين جبلوا على الطهارة ، وفطروا على التقديس والتسبيح ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . قالوا فنحن نتقرب إليهم ونتوكل عليهم ، منهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند الله ، وهو رب الأرباب . وأما الفعل ، فقالوا : الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع وتصريف الأمور من حال إلى حال ، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية ، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية ، [ ص: 145 ] فمنها مدبرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها وهي هياكلها ، ولكل روحاني هيكل ، ولكل هيكل فلك ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به نسبة الروح إلى الجسد ، فهو ربه ومدبره . وكانوا يسمون الهياكل أربابا ، وربما يسمونها آباء ، والعناصر أمهات. ففعل الروحانيات : تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات ، فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها نفوس روحانية: مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان . ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي . فمع جنس المطر ملك ، ومع كل قطرة ملك . ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو مما يصعد من الأرض فينزل ، مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياح ، وما ينزل من السماء : مثل الصواعق والشهب ، وما يحدث في الجو من الرعد ، والبرق ، والسحاب ، والضباب ، وقوس قزح ، وذوات الأذناب ، والهالة ، والمجرة ؛ وما يحدث في الأرض من الزلازل ، والمياه ، والأبخرة ، إلى غير ذلك . قالوا : وأما الحالة ، فأحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والسرور في جوار رب الأرباب كيف يخفى ؟ . هذا ملخص ما أفاده العلامة الشهرستاني في كتاب -الملل والنحل- ثم ساق مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء جرت في المفاضلة بين الروحاني المحض ، والبشرية النبوية ، وأوردها على شكل سؤال وجواب. فلتنظر ثم . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 146 الى صـ 150 الحلقة (28) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه -في الرد على المنطقيين- إن حران كانت دار هؤلاء الصابئة ، وفيها ولد إبراهيم عليه السلام ، (أو انتقل إليها من العراق . على اختلاف القولين)، وكان بها هيكل الصلة الأولى ، هيكل العقل الأول ، هيكل النفس الكلية ، هيكل زحل . هيكل المشترى . هيكل المريخ ، هيكل الشمس . وكذلك الزهرة ، وعطارد ، والقمر . وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم . ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة [ ص: 146 ] المشركين ، حتى جاء الإسلام ، ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت ، ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها ، أطباء وكتابا ، وبعضهم لم يسلم . وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور النصرانية . وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي . وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشمالي كان لهؤلاء . فإن الصابئة نوعان : صابئة حنفاء موحدون ، وصابئة مشركون . فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية . فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا . من هذه الملل الأربع : المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين ، فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل ، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل . والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء ، كالمتبعين ملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل . وهذا بخلاف المجوس والمشركين ، فإنه ليس فيهم مؤمن . فلهذا قال تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد فذكر الملل الست هؤلاء ، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة . لم يذكر في الست من كان مؤمنا ، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط . ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين ، والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين . وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ، ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ، ويقرون بمعاد الأبدان ، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم . ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه . وكذلك المشركون من الهند . وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين ، هو أرسطو . انتهى . وما قرره الإمام ابن تيمية ، يؤيد ما ذهب إليه كثير من المفسرين ، من أن معنى [ ص: 147 ] قوله تعالى "من آمن" من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملا بمقتضى شرعه ، وذلك كأهل الكتابين أو كان من الصابئة الموحدين . وذهب آخرون إلى أن معنى قوله "من آمن" من أحدث من هذه الطوائف ، إيمانا خالصا بما ذكر . قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام . وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه ، فلا ملابسة له بالمقام ، والصابئون ليس لهم دين يجوز رعايته في وقت من الأوقات . فليتأمل . وقوله تعالى "فلهم أجرهم" أي : الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان ، وهو في الأصل جعل العامل على عمله . وفي قوله "عند ربهم" مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت ، مأمون من الفوات . وقوله تعالى "ولا خوف عليهم" أي حين يخاف الكفار العقاب ويحزنون على تفويت الثواب . (تنبيه) قال العلامة البقاعي في تفسيره : وحسن وضع هذه الآية ، في أثناء قصصهم ، أنهم كانوا مأمورين بقتل كل ذكر ممن عداهم . وربما أمروا بقتل النساء أيضا . فربما ظن من ذلك أن من آمن من غيرهم لا يقبل . وقد ذكر منه في سورة المائدة ، وفي وضعها أيضا في أثناء قصصهم ، إشارة إلى تكذيبهم في قولهم : ليس علينا في الأميين سبيل وأن المدار في عصمة الدم والمال إنما هو الإيمان والاستقامة . وذلك موجود في نص التوراة في غير موضع . وفيها تهديدهم على المخالفة في ذلك بالذل والمسكنة . وسيأتي بعض ذلك عند قوله لا تعبدون إلا الله الآية . بل وفيها ما يقتضي المنع من مال المخالف [ ص: 148 ] في الدين ، فإنه قال في وسط السفر الثاني : وإذا لقيت ثور عدوك أو حماره وعليه حمولة فارددها إليه . وإذا رأيت حمار عدوك جاثما تحت حمله فهممت أن لا توازره فوازره وساعده . ثم رجع إلى قصصهم على أحسن وجه فقال : القول في تأويل قوله تعالى : [63 ] وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون "وإذ أخذنا ميثاقكم" تذكيرا لجناية أخرى لأسلافهم ، أي واذكروا وقت أخذنا لميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة ، ورفعنا فوقكم الطور ترهيبا لكم لتقبلوا الميثاق . وذلك أن الطور اقتلع من أصله ، ورفع وظلل فوقهم . والطور : هو الجبل . وقيل لهم وهو مطل فوقهم "خذوا ما آتيناكم" من الكتاب "بقوة" أي بجد واجتهاد "واذكروا ما فيه" واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه "لعلكم تتقون" لكي تتقوا المعاصي ، أو رجاء منكم أن تنتظموا في سلك المتقين ، أو طلبا لذلك . وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الأعراف : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون قال الراغب : إن قيل إن هذا يكون إلجاء ولا يستحق به الثواب ، قيل : لم يستحقوا الثواب بالالتزام ، وإنما استحقوه بالعمل بها من بعد . فأما في التزامها فمضطرون ، وقال بعض [ ص: 149 ] الناس : عنى بالطور تشديد الأمر عليهم ، وجعل ذلك مثلا . وذلك بعيد . ومثله قال القاشاني : طور الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها . فإنه بعيد يأباه ظاهر الآية الأخرى . وإن كان الإطلاق في اللغة لا ينحصر في الحقيقة . القول في تأويل قوله تعالى : [64 ] ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين "ثم توليتم" أي : أعرضتم عن الوفاء بالميثاق "من بعد ذلك" أي : من بعد أخذ ذلك الميثاق المؤكد : فلولا فضل الله عليكم ورحمته أي لكم بتوفيقكم للتوبة ، أو تأخير العذاب، لكنتم من الخاسرين أي الهالكين بالعقوبة . قال الراغب : الخاسر المطلق ، في القرآن ، هو الذي خسر أعظم ما يقتنى ، وذلك نعيم الأبد ، وهو المذكور في قوله : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وقال القفال : قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور ، تولوا عن التوراة بأمور كثيرة ; فحرفوا كلمها عن مواضعه ، وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بهم ، وعصوا أمرهم . ومنها ما عمله أوائلهم ، ومنها ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا ونهارا يخالفون موسى ويعترضون عليه ، ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك . حتى لقد خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون . وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به . حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح ، وهموا بقتله . والقرآن ، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة ، فالجملة معروفة ، وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم . فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام [ ص: 150 ] من الكتاب ، وجحودهم لحقه . وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر . والله أعلم . ثم ذكرهم تعالى بالإيقاع بمن نقض ميثاقه وفيما أخذه عليهم من تعظيم السبت بقوله : https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 156 الى صـ 160 الحلقة (30) (تنبيه) قال الراغب : قال بعض الناس : في هذه الآية دلالة على نسخ الشيء قبل [ ص: 156 ] فعله . فإن في الأول أمروا بذبح بقرة غير معينة ، وكان لهم أن يذبحوا أي بقرة شاؤوا . وفي الثاني والثالث أمروا بذبح بقرة مخصوصة . فكأنهم نهوا عما كانوا أمروا به من قبل . وليس كذلك ، فإن الأول أمر مطلق ، والثاني والثالث كالبيان له ، لما راجعوا ، ولم يسقط عنهم ذبح البقرة . بل زيد في أوصافها ، وكشف عن المراد بالأمر الأول . وفي الآية دلالة على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة . القول في تأويل قوله تعالى : [72 ] وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها أي : اختلفتم واختصمتم في شأنها ; إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر : والله مخرج ما كنتم تكتمون مظهر ، لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل ، لا يتركه مكتوما . القول في تأويل قوله تعالى : [73 ] فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون "فقلنا اضربوه" أي : المقتول "ببعضها" أي : البقرة . يعني فضربوه فحيى وأخبر بقاتله . كما دل عليه قوله "كذلك" أي : مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة "يحيي الله الموتى" يوم القيامة "ويريكم آياته" أي : دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير . ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء . والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضو ميت ، وإخباره بقاتله ، وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة "لعلكم تعقلون" لتكونوا برؤية تلك الآيات على رجاء من أن يحصل لكم عقل ، فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره ، مما تخبر به الرسل عن الله تعالى . [ ص: 157 ] قال الراغب : وقوله كذلك يحيي الله الموتى قيل هو حكاية عن قول موسى عليه السلام لقومه ، وقيل بل هو خطاب من الله تعالى لهذه الأمة ، تنبيها على الاعتبار بإحيائه الموتى . تنبيهات : (الأول) : قال الزمخشري : (فإن قلت) : فما للقصة لم تقص على ترتيبها ، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها ؟ فيقال : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ؟ (أجيب) : بأن كل ما قص من قصص بني إسرائيل ، إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الجنايات ، وتقريعا لهم عليها ، ولما جدد فيهم من الآيات العظام . وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين . فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء ، وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك . والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة ، وما يتبعه من الآية العظيمة . وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض في تثنية التقريع . ولقد روعيت نكتة ، بعد ما استؤنفت الثانية ، استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله : اضربوه ببعضها ، حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع ، وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها . وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة. اهـ. وقال الحرالي : قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر ندائهم في القتيل ، ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة . والله أعلم . (التنبيه الثاني) قال الراغب : قد استبعد بعض الناس ذلك وما حكاه الله منه ، وأنكر [ ص: 158 ] حصول ذلك الفعل على الحقيقة وقال : ذلك ممتنع من حيث الطبيعة ، وأيضا فإن ذلك لا يعرف فيه حكمة إلهية . فأما استبعاده ذلك من حيث الطبيعة فإنما هو استبعاد للإحياء والنشور ، ولذلك موضع لا يختص بالتفسير . ومن كان ذلك طريقته فلا خوض معه في تفسير القرآن . وأما الحكمة فيه فظاهرة إذ هو من المعجزات المحسوسة الباهرة للعقول . وأما تخصيص البقرة ، فإن كثيرا من حكمة الله تعالى لا يمكن للبشر الوقوف عليه . ولو لم يكن في تخصيص بقرة على وصف مخصوص إلا توافر المأمورين بذلك على طلبها ، واستيجاب الثواب في بذل ثمنها ، وجلب نفع توفر إلى صاحبها -لكان في ذلك حكمة عظيمة . وفي الآية تنبيه على أن الجماعة التي حكمهم واحد يجوز أن ينسب الفعل إليهم ، وإن كان واقعا من بعضهم ، ولا يكون ذلك كذبا ، كأن الجملة المركبة من شخص واحد يصح أن ينسب إليها ما وقع من عضو منها . وقد ذكر أكثر المفسرين قصة البقرة وصاحبها بروايات مختلفة لم نورد شيئا منها لأنه لم يرو بسند صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يتعلق به كبير فائدة . كما أن البعض من البقرة لم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه . فنحن نبهمه كما أبهمه الله تعالى ، إذ ليس في تعيينه لنا فائدة دينية ولا دنيوية ، وإن كان معينا في نفس الأمر ، وأيا كان فالمعجزة حاصلة به . القول في تأويل قوله تعالى : [74 ] ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك المخاطبون إما أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم ، والأمور التي جرت عليهم ، والعقاب الذي نزل بمن أصر على المعصية منهم ، والآيات التي [ ص: 159 ] جاءهم بها أنبياؤهم ، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم ، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم . فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب . وهذا أولى ; لأن قوله تعالى : "ثم قست قلوبكم" ، خطاب مشافهة . فحمله على الحاضرين أولى . وإما أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصا ، أو من قبل المخاطبين من سلفهم . والله أعلم . "فهي كالحجارة" في القساوة "أو أشد" منها "قسوة" أي : هي في القسوة مثل الحجارة أو زائدة عليها فيها . و "أو" للتخيير أو للترديد . بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة ، أو بما هو أقسى كالحديد ، أو من عرفها شبهها بالحجارة ، أو قال هي أقسى من الحجارة ، وترك ضمير المفضل عليه للأمن من الالتباس وإن من الحجارة لما يتفجر أي يتفتح بالسعة والكثرة "منه الأنهار" بيان لأشدية قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور ، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة "وإن منها لما يشقق" أي يتشقق "فيخرج منه الماء" أي العيون التي هي دون الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله أي يتردى من رأس الجبل من خشية الله ، انقيادا لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة ، قاله القاشاني . وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح . والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ . وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة . لا سيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها ، كما بسط في مطولات البيان . وقد رد الإمام ابن حزم، في أول كتابه "الفصل" على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزا ، ردا مسهبا . وقال : من ادعى ذلك أكذبه العيان . ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام . (قال) : ولعل معترضا يعترض بقوله تعالى يصف الحجارة : وإن منها لما يهبط من [ ص: 160 ] خشية الله فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبي . فإذ لا شك في هذا ، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون الضمير في قوله تعالى : وإن منها لما يهبط راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوما ما ، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى ، وهذا أمر يشاهد بالعيان ، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ، ويخشى العاصي . وقد أخبر عز وجل : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم وكما أخبر تعالى أن من الأعراب من يؤمن بالله من بعد أن أخبر أن الأعراب أشد كفرا ونفاقا (قال) فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/kRcArgy.gif تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 161 الى صـ 165 الحلقة (31) والوجه الثاني : أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره ، كما قلنا في قوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض : قالتا أتينا طائعين [ ص: 161 ] والوجه الثالث أن يكون الله تعالى عنى بقوله : وإن منها لما يهبط من خشية الله الجبل الذي صار دكا ، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية ، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة ، وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى ، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة . ويكون "يهبط" بمعنى "هبط" كقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا معناه : وإذ مكر ، وبين قوله تعالى ، مصدقا إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر وقوله تعالى : أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون فصح بهذا ، صحة لا مجال للشك فيها ، أن الحجارة لا تعقل . وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية ، المعهود كل ذلك عندنا . وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان ، والكعبة كذلك ، وأن الجبال تطاولت ، وخشع جبل كذا ، فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف ، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلا . ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئا منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث ، أو ما يستجاز روايته ، مما يقارب الصحة (انتهى كلام ابن حزم) . وقال ابن جرير : اختلف أهل النحو في معنى الهبوط -ما هبط من الأحجار من خشية الله- فقال بعضهم : إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله . وقال آخرون : ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه . وقال آخرون : قوله : يهبط من خشية الله [ ص: 162 ] كقوله : جدارا يريد أن ينقض ولا إرادة له . قالوا : وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله . قالزيد الخيل : بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم منه سجدا للحوافر وكما قال سويد بن أبي كاهل ، يصف عدوا له : ساجد المنخر لا يرفعه خاشع الطرف أصم المستمع يريد أنه ذليل . [ ص: 163 ] وكما قال جرير بن عطية : لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وقال آخرون : معنى قوله "يهبط من خشية الله" أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه . كما قيل : ناقة تاجرة إذا كانت ، من نجابتها وفراهتها ، تدعو الناس إلى الرغبة فيها ، كما قال جرير بن عطية : وأعور من نبهان ، أما نهاره فأعمى ، وأما ليله فبصير فجعل الصفة لليل والنهار ، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه . من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به . ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية . وتقدم رد ابن حزم له مبرهنا عليه . [ ص: 164 ] ثم رأيت الإمام الراغب حاول هنا تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله . وعبارته : قال مجاهد وابن جريج : كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به ، وقال الزجاج : الهابط منها قد جعل له معرفة ، قال ويدل على ذلك قوله : لو أنـزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وقال : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض إلى قوله والنجوم والجبال والشجر والدواب وقد روي مثل هذا عن السلف ، ولا بد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول ، وحقيقته . فإن قوما استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو ، فانطووا على شبهة ، وقوما استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه ، فيقال وبالله التوفيق : إن قوما من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب : الأول المعرفة التامة التي هي العلم التام . وذلك لعلام الغيوب الذي أحاط بكل شيء علما . والثاني معرفة متزايدة ، وهي للإنسان ، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية ، وجعل له بذلك سبيلا إلى تعرف كثير مما لم يعرفه . وليس ذلك إلا للإنسان . والثالث معرفة دون ذلك ، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها . واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها ، ودفع مضار عن أنفسها . والرابع : معرفة الناميات من الأشجار والنبات ، وهي دون ما للحيوانات ، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها . والخامس : معرفة العناصر ، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل ، والنار في [ ص: 165 ] طلب العلو ، وذلك بتسخير الله تعالى ، بلا اختيار منه . قالوا : والدلالة على ذلك أن كل واحد من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهرا ، أبى إلا العود إليه طوعا . قالوا ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه ، ويأبى الماء الذي يطفيه ، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره . هذا ما حكوه . فعلى هذا إذا قيل : لهذه الأشياء معرفة ، فليس ببعيد ، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة ، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الإنسان في أنها تميز وتختار وتريد ، فهذا مما تعافه العقول . (انتهى قول الراغب) . وهو تأويل حسن ، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف . وهو مسلم في كثير من الإطلاقات . وقوله تعالى : وما الله بغافل عما تعملون فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى . فإن الله عز وجل إذا كان عالما بما يعملونه ، مطلعا عليه غير غافل عنه ، كان لمجازاتهم بالمرصاد ، ولما بين سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم ، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان ، فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم ، والتبكيت لهم ، منكرا للطمع في إيمانهم فقال : https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/kRcArgy.gif تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 166 الى صـ 170 الحلقة (32) القول في تأويل قوله تعالى : [75 ] أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون "أفتطمعون" أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم المؤيسة عنهم "أن يؤمنوا" أي : هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم ، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة ، لا يأتي من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم . (واللام في قوله) "لكم" لتضمين [ ص: 166 ] معنى الاستجابة . كما في قوله عز وجل : فآمن له لوط أي : في إيمانهم مستجيبين لكم ، أو للتعليل أي في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم : وقد كان فريق منهم أي طائفة فيمن سلف منهم : يسمعون كلام الله وهو ما يتلونه من التوراة "ثم يحرفونه" قال ابن كثير : أي يتأولونه على غير تأويله . وقال ابن جرير : يعني بقوله "يحرفونه" يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه ، وأصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها . فكذلك قوله "يحرفونه" أي : يميلونه عن وجهه ، ومعناه الذي هو معناه ، إلى غيره : من بعد ما عقلوه أي فهموه على الجلية ، ومع هذا يخالفونه على بصيرة "وهم يعلمون" أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله . قال ابن جرير : هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السلام . وأن بقاياهم في العصر المحمدي على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسوي بغيا وحسدا . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه والظاهر أن المراد ، بالفريق منهم ، أحبارهم ، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى ، من بعد ، في قوله تعالى : واشتروا به ثمنا قليلا وقال : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [ ص: 167 ] ولقائل أن يقول ، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين . وأجاب القفال عنه فقال : يحتمل أن يكون المعنى : كيف يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادا ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه ، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق ، وهو قولك للرجل كيف تفلح ، وأستاذك فلان ؟ أي وأنت عنه تأخذ ، ولا تأخذ عن غيره . ونحوه قول الراغب : لما كان الإيمان هو العلم الحقيقي مع العمل بمقتضاه ، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم ، فحقيق أن لا يحصل لمن غبي عن كل العلوم . فذكر ذلك تبعيدا لإيمانهم لا يأسا للحكم بذلك ; إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوسا (ثم قال الراغب) وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط ، بل يكون عنادا وغلبة شهوة . (تنبيه) ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير "ثم يحرفونه" هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة ، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظي عن التوراة ، فإنه واقع بلا ريب ; فقد بدلوا بعضا منها وحرفوا لفظه ، وأولوا بعضا منها بغير المراد منه ، وكذا يقال في الإنجيل . ويشهد لذلك كلام أحبارهم ، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه (إظهار الحق): أن أهل الكتاب سلفا وخلفا ، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالبا الأسماء في تراجمهم ، ويوردون بدلها معانيها ، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد ، وأنهم يزيدون تارة شيئا بطريق التفسير في الكلام ، الذي هو كلام الله في زعمهم ، [ ص: 168 ] ولا يشيرون إلى الامتياز ، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم . ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة . ثم ساق بعضا منها فانظره . وفي (ذخيرة الألباب) ، لأحد علماء النصارى ، ما مثاله : إن بعضهم ذهب إلى أن الروح القدس لم يق الكتبة عثرة الخطأ الطفيف ، ولا كفاهم زلة القدم حتى لم يستحل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات . وفيه أيضا : إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافا عظيما في أمر التاريخ . فإذا تحريف الأسفار الخمسة أمر بين . وفيه أيضا في الفصل (31): أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفا وأربعة آلاف غلطة ، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ . انتهى . فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظي فيها . وهو المقصود . وأما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها ، فهو إفراط . قال الحافظ ابن حجر في آواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى : بل هو قرآن مجيد إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة . والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل . من ذلك قوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية . ومن ذلك [ ص: 169 ] قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم ، ويؤيده قوله تعالى : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين وقد أسلفنا تتمة هذا البحث في مقدمة التفسير في الكلام على الإسرائيليات . فارجع إليه . ثم أخبر تعالى ، عن تخلق أولئك المأيوس من إيمانهم من اليهود بأخلاق المنافقين ، وسلوكهم منهاجهم ، بقوله تعالى : [ ص: 170 ] القول في تأويل قوله تعالى : [76 ] وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون "وإذا لقوا الذين آمنوا" أي بالله ورسوله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "قالوا آمنا" أي بأنكم على الحق ، وأن محمدا هو الرسول المبشر به ، وكأنهم يقولون ذلك إرضاء لحلفائهم من الأوس والخزرج ، أو جهرا بحقيقة لا يسعهم، أمام حلفائهم، السكوت عنها . "وإذا خلا بعضهم" يعني الذين لم ينافقوا "إلى بعض" أي الذين نافقوا "قالوا" أي عاتبين عليهم : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي بما بين لكم في التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم ، ونصره . قال ابن إسحاق : أي أتقرون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي نجده في كتابنا ، اجحدوه ولا تقروا به . قال ابن جرير : أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم . والمعنى : أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم ؟ ومن حكمه تعالى وقضائه فيهم ، ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به في التوراة. اهـ. "ليحاجوكم" متعلقة بالتحديث ، دون الفتح ، أي ليقيم المؤمنون به عليكم الحجة "به عند ربكم" أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة ، فيقولون : ألم تحدثونا بما في كتابكم ، في الدنيا ، من حقية ديننا ، وصدق نبينا ؟ فيكون ذلك زائدا في ظهور فضيحتكم ، وتوبيخكم على رؤوس الخلائق ، في الموقف . لأنه ليس من اعترف بالحق ، ثم كتم ، كمن ثبت على الإنكار . |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/kRcArgy.gif تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 171 الى صـ 175 الحلقة (33) وتأول الراغب الأصفهاني قوله تعالى "عند ربكم" أي في حكمه وكتابه، كما هو وجه في آية : فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون أي في [ ص: 171 ] حكم الله وقضائه ، وهو وجه جيد ، وقوله "أفلا تعقلون" من تمام التوبيخ والعتاب ، فهو من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض . قال الراغب : ويصح أن تكون استئناف إنكار من الله عز وجل ، على سبيل ما يسمى في البلاغة (الالتفات) . ويصح أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين ، تنبيها على ما يفعله الكفار والمنافقون . القول في تأويل قوله تعالى : [77 ] أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون أي يخفون من قولهم لأصحابهم ، ومن غيره "وما يعلنون" أي يظهرون من ذلك ، فيخبر به أولياءه . قال الراغب : هذا تبكيت لهم ، وإنكار لما يتعاطونه ، مع علمهم بأن الله لا يخفى عليه خافية . ولما ذكر العلماء من اليهود الذين عاندوا بالتحريف ، مع العلم والاستيقان ، ذكر العوام الذين قلدوهم ، ونبه على أنهم في الضلال سواء ; لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه ، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن ، وهو متمكن من العلم ، فقال : القول في تأويل قوله تعالى : [78 ] ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون "ومنهم أميون" أي لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة ، فيؤمنوا . "لا يعلمون الكتاب" أي التوراة ، أي لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق "إلا أماني" بالتشديد جمع أمنية ، أصلها أمنوية (أفعولة) فأعلت إعلال سيد ، وميت. مأخوذة من تمنى الشيء : قدره وأحب أن يصير إليه . أو من تمنى : كذب . أو من تمنى الكتاب : قرأه . وعلى كل فالاستثناء منقطع ; إذ ليس ما يتمنى ، وما يختلق وما يتلى ، من جنس علم الكتاب . أي لا يعلمون الكتاب . لكن يتمنون [ ص: 172 ] أماني حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم . وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم . وغير ذلك من أمانيهم الفارغة ، المستندة إلى الكتاب ، على زعم رؤسائهم . أو لا يعلمون الكتاب ، لكن أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم . فتقبلوها على التقليد . أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم ، فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه . قال ابن جرير : وأولى ما روينا في تأويل قوله "إلا أماني" أن هؤلاء الأميين لا يفقهون ، من الكتاب الذي أنزله الله ، شيئا . ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا . والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله . بدليل قوله تعالى بعد : وإن هم إلا يظنون فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنا منهم ، لا يقينا . وقال أبو مسلم الأصفهاني : حمله على تمني القلب أولى . بدليل قوله تعالى : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم أي : تمنيهم . وقال الله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به وقال : تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون بمعنى يقدرون ويخرصون . ورجح كثيرون حمله على القراءة ، كقوله تعالى : [ ص: 173 ] إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إذ في الاستثناء ، حينئذ ، نوع تعلق بما قبله . فيكون أليق في طريقة الاستثناء . و "وإن هم إلا يظنون" ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد . من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم . فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ؟ (تنبيه) قال الراغب : قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم ، والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم ; فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة ، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم ، وهم قد ضلوا وأضلوا ، ونبهنا الله تعالى بذم الأميين ، على اكتساب المعارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه ، وبذم زعمائهم ، على تحري الصدق وتجنب الإضلال ; إذ هو أعظم من الضلال. اهـ. ولما بين حال هؤلاء في تمسكهم بحبال الأماني واتباع الظن ، عقب ببيان حال الذين أوقعوهم في تلك الورطة ، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله ، وأكل أموال الناس بالباطل ، فقيل على وجه الدعاء عليهم . القول في تأويل قوله تعالى : [79 ] فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون "فويل" فإن أضيف ، نصب . نحو : ويلك وويحك -وإذا فصل عن الإضافة ، [ ص: 174 ] رفع . نحو : ويل له . الويل : الهلاك وشدة العذاب "للذين يكتبون الكتاب" أي المحرف . أو ما كتبوه من التأويلات الزائفة "بأيديهم" تأكيد لدفع توهم المجاز . كقولك : كتبته بيميني . وقد يقال في مثل هذا : إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهدا للهيئة "ثم يقولون" لما كتبوه ، كذبا وبهتانا "هذا من عند الله ليشتروا به" أي يأخذوا لأنفسهم بمقابلته "ثمنا قليلا" أي عرضا يسيرا . ويجوز في الآية معنى آخر ; أي : فويل للذين يكتبون كتاب التوراة بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ، فيشهدون بذلك . وكان من مقتضى كتابتهم بأيديهم التي تقفهم من الكتاب على ما لا يقفون عليه ، لو كان كتابة غيرهم ، ومقتضى قولهم وإقرارهم بأنه من عند الله -الوقوف مع عهوده ومواثيقه ، إجلالا لمنزله وموحيه ، ودعوى الناس إلى ظواهره وخوافيه . ولكن لم يكن ذلك منهم . بل كان أن حرفوا كلمه عن مواضعه ليشتروا به ثمنا قليلا . وحاصل هذا الوجه إبقاء الكتاب المكتوب على أصله ، وصدقهم في قولهم : هذا من عند الله . ثم مخالفتهم لذلك . فيكون قوله تعالى "ليشتروا به" تعليلا لمحذوف دل عليه السياق . أي : ثم بعد ذلك يحرفونه ليشتروا به ، وهو وجه جيد يوافق آية "يحرفون الكلم عن مواضعه" وربما يشير إلى هذا الوجه قول مجاهد فيما رواه ابن جرير : هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه : فويل لهم مما كتبت أيديهم أي : فشدة العذاب لهم مما غيرت أيديهم "وويل لهم مما يكسبون" يصيبون من الحرام والسحت . قال الراغب : إن قيل : لم ذكر "يكسبون" بلفظ المستقبل و "كتبت" بلفظ الماضي ؟ قيل : تنبيها على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم « من سن سنة سيئة فعليه وزرها [ ص: 175 ] ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » فنبه بالآية أن ما أصلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة ، التي يعتمدها الجهلة ، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا (إن قيل) لم ذكر الكتابة دون القول . (قيل) لما كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه ; إذ هو كذب باللسان واليد ، صار أبلغ . لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره . (إن قيل) : ما الذي كانوا يكتبونه ؟ (قيل) : روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم . ثم يقولون هذا من عند الله . وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح . وهو أنه يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بوصف لنبي بعده ، فإنه أتى بلفظة معرضة وإشارة مدرجة ، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم . وقد قال العلماء : ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن بإشارات . ولو كان ذلك متجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه . ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان ; من العبراني إلى السرياني إلى العربي . وقد ذكر المحصلة ألفاظا من التوراة والإنجيل ، إذا اعتبرت وجدت دالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتعريض ، هو عند الراسخين في العلم جلي ، وعند العامة خفي . فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كانت تأويلات محرفة ، وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه ، وتبديل آياته ، وكتمان الحق عن أهله ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، طمعا في عرض الدنيا ، وقد تقدم أنه عنى بالثمن القليل ، أعراض الدنيا وإن كثرت . لقوله تعالى : قل متاع الدنيا قليل اهـ كلام الراغب رحمه الله . https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/kRcArgy.gif تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 191 الى صـ 195 الحلقة (37) القول في تأويل قوله تعالى : [91 ] وإذا قيل لهم آمنوا بما أنـزل الله قالوا نؤمن بما أنـزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين "وإذا قيل لهم" أي لليهود "آمنوا بما أنزل الله" على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه قالوا نؤمن بما أنـزل علينا من التوراة ، ولا نقر إلا بها "ويكفرون بما وراءه" حال من ضمير "قالوا" بتقدير مبتدأ . أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده وهو الحق مصدقا لما معهم منها غير مخالف له . وفيه رد لمقالتهم . لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها "قل" تبكيتا لهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم ، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم . قتلتموهم بغيا وعنادا، واستكبارا على رسل الله . فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون والخطاب للحاضرين من اليهود والماضين ، على [ ص: 192 ] طريق التغليب ، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل ، كان الاعتراض على أسلافهم اعتراضا على أخلافهم . ودلت الآية على أن المجادلة في الدين من عرف الأنبياء عليهم السلام ، وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز . ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى ، أقام دليلا آخر أقوى مما تقدمه . فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك . وهو في النسخ الموجودة بين أظهرهم الآن . وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى ، وبحضرة هارون عليهما السلام. فقال تعالى : القول في تأويل قوله تعالى : [92 ] ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ولقد جاءكم موسى بالبينات من الآيات كفلق البحر ، وإنزال المن والسلوى ، وغير ذلك من الدلائل القاطعات على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله "ثم اتخذتم العجل" معبودا من دون الله "من بعده" أي من بعد ما ذهب موسى عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل . كما قال تعالى : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار وقوله تعالى "وأنتم ظالمون" أي بعبادته . واضعين لها في غير موضعها . أو بالإخلال بحقوق آيات الله تعالى . أو هو اعتراض . أي وأنتم قوم عادتكم الظلم. ثم ذكر أمرا آخر هو أبين في عنادهم وأنهم مع الهوى فقال : القول في تأويل قوله تعالى : [ ص: 193 ] [93 ] وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين "وإذ أخذنا ميثاقكم" على الإيمان والطاعة . "ورفعنا فوقكم الطور" قائلين "خذوا ما آتيناكم" أي ما أمرتم به في التوراة "بقوة" بجد "واسمعوا" أطيعوا "قالوا سمعنا" قولك "وعصينا" أمرك . وظاهر السوق يقتضي أنهم قالوا ذلك حقيقة . قال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى : سمعوه فتلقوه بالعصيان . فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه . كقوله تعالى أن يقول له كن فيكون وأشربوا في قلوبهم العجل أي حبه على حذف المضاف . وإقامة المضاف إليه مقامه للمبالغة . أو العجل مجاز عن صورته . فلا يحتاج إلى حذف المضاف . وعلى كل ، فأشربوا استعارة تبعية. إما من إشراب الثوب الصبغ -أي تداخله فيه- أو من إشراب الماء -أي تداخله أعماق البدن- والجامع السراية في كل جزء . وإسناد الفعل إليهم إيهام لمكان الإشراب . ثم بين بقوله "في قلوبهم" للمبالغة، فظهر وجه العدول عن مقتضى الظاهر وهو : وأشرب قلوبهم العجل "بكفرهم" بسبب كفرهم . قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين أي كما زعمتم، بالتوراة . وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما في قصة شعيب أصلاتك تأمرك [ ص: 194 ] وكذا إضافة الإيمان إليهم . وقوله "إن كنتم مؤمنين" قدح في صحة دعواهم . فإن الإيمان إنما يأمر بعبادة الله وحده لا بشركة العباد لما هو في غاية البلادة . فهو غاية الاستهزاء . وحاصل الكلام : إن كنتم مؤمنين بها عاملين ، فيما ذكر من القول والعمل، بما فيها، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها . وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا . فجواب الشرط محذوف كما ترى ، لدلالة ما سبق عليه . القول في تأويل قوله تعالى : [94 ] قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين "قل" كرر الأمر بتبكيتهم لإظهار نوع آخر من أباطيلهم . وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس . لكنه لم يحك عنهم قبل الأمر بإبطاله ، بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام بقوله : إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة نصب على الحال من الدار الآخرة . والمراد الجنة . أي سالمة لكم ، خاصة بكم ، ليس لأحد سواكم فيها حق كما تقولون : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا "من دون الناس" اللام للجنس أو للعهد وهم المسلمون "فتمنوا الموت" فسلوا الموت "إن كنتم صادقين" لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الأكدار ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالموت . والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوبا ، نظرا إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب . والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه كما أشرنا إليه ، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي لأنه من ضمائر القلوب . وثم تفسير آخر للتمني [ ص: 195 ] بأن يدعوا إلى المباهلة والدعاء بالموت . وإليه ذهب ابن جرير . والأول أقرب إلى موافقة اللفظ . وقوله: القول في تأويل قوله تعالى : [95 ] ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ولن يتمنوه أبدا من المعجزات لأنه إخبار بالغيب . وكان كما أخبر به . كقوله ولن تفعلوا "بما قدمت أيديهم" بما أسلفوا من أنواع العصيان . واليد مجاز عن النفس . عبر بها عنها ، لأنها من بين جوارح الإنسان ، مناط عامة صنائعه . ولذا كانت الجنايات بها أكثر من غيرها . ولم يجعل المجاز في الإسناد، فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم ، ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء والله عليم بالظالمين أي بهم . تذييل للتهديد . والتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن سواهم . ونظير هذه الآية في سورة الجمعة قوله تعالى : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين و قد تلطف الغزالي في توجيه الإتيان بـ "لن" هنا ، و "لا" في سورة الجمعة بأن الدعوى هنا أعظم من الثانية ، إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ، وأما مرتبة الولاية فهي، وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة . فلما كانت الدعوى الأولى أعظم ، لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ "لن" لأنها أقوى الألفاظ النافية. ولما كانت [ ص: 196 ] الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة اكتفى في إبطالها بلفظ "لا" لأنه ليس في نهاية القوة ، في إفادة معنى النفي . والله أعلم . https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/kRcArgy.gif تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 196 الى صـ 200 الحلقة (38) ولما أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنون الموت ، أتبعه بأنهم في غاية الحرص على الحياة بقوله : القول في تأويل قوله تعالى: [96 ] ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون ولتجدنهم أحرص الناس على حياة التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة ، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي : على الحياة "ومن الذين أشركوا" عطف على ما قبله بحسب المعنى ؛ كأنه قيل : أحرص من الناس ومن الذين أشركوا . وإفرادهم بالذكر ، مع دخولهم في الناس ، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص . للمبالغة في توبيخ اليهود ، فإن حرصهم ، وهم معترفون بالجزاء ، لما كان أشد من حرص المشركين المنكرين له ، دل ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار . ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه، عنه ; أي وأحرص من الذين أشركوا . وأما تجويز كون الواو للاستئناف وقد تم الكلام عند قوله : "على حياة" تقديره "ومن الذين أشركوا" ناس يود أحدهم ، على حذف الموصوف ، وقول أبي مسلم: إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، ثم فسر هذه المحبة بقوله : يود أحدكم لو يعمر ألف سنة -فلا يخفى بعده . لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر، أن يكون المراد: [ ص: 197 ] ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم : إن الدار الآخرة لنا ، لا لغيرنا . والله أعلم . "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" بيان لزيادة حرصهم ، على طريق الاستئناف . و "لو" مصدرية ، بمعنى "أن" مؤول ما بعدها بمصدر ، مفعول يود . أي : يود أحدهم تعمير ألف سنة : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر "ما" حجازية ، والضمير العائد على أحدهم اسمها ، وبمزحزحه خبرها ، والباء زائدة ، وأن يعمر فاعل مزحزحه ، أي وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه، أي يبعده وينجيه، من العذاب تعميره . قال القاضي : والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ، ولو قال تعالى : وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول والله بصير بما يعملون فسوف يجازيهم عليه . وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللغة بمعنى العليم لا يخفى فساده ، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة . نعم ! لو حمل أحدهما على الآخر مجازا لم يبعد ، ولا ضرورة إليه هنا . ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى ، فلذا حمل هذا البصر على العلم- هو من باب قياس الغائب على الشاهد ، وهو بديهي البطلان . قال شمس الدين ابن القيم الدمشقي في كتاب الكافية الشافية: وهو البصير يرى دبيب النملة الس وداء تحت الصخر والصوان ويرى مجاري القوت في أعضائها ويرى عروق بياضها بعيان ويرى خيانات العيون بلحظها ويرى ، كذاك ، تقلب الأجفان وقوله تعالى : [ ص: 198 ] القول في تأويل قوله تعالى : [97 ] قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين [98 ] من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين روى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبي . فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : « أخبرني بهن جبريل آنفا » ، قال : جبريل ؟ قال : « نعم » ، قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك « أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام أهل الجنة ، فزيادة كبد حوت . وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت » قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله ! إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني . فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أي رجل عبد الله فيكم»؟ قالوا : [ ص: 199 ] خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام» ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ! فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا. وانتقصوه. قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله . وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. وساق نحوا مما تقدم . وتتمته قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، قال : « فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط ، إلا وهو وليه » . قالوا : فعندها نفارقك . ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : فما منعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدونا ، فأنزل الله عز وجل : قل من كان عدوا لجبريل إلى قوله : لو كانوا يعلمون فعندها باؤوا بغضب على غضب . وفي رواية للإمام أحمد والترمذي والنسائي في القصة : فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : « جبريل عليه السلام » . قالوا : جبريل ! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب ، عدونا . لو قلت : ميكائيل ، الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ! فأنزل الله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل إلى آخر الآية. ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم . فقد روى ابن جرير عن الشعبي قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها . فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . قال فكره ذلك ، وقال : أيما ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركه . ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم ، فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدق [ ص: 200 ] التوراة ! فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ! ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال قلت: إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان. قال ، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، وما استودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ نشدتنا به . فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت ويحكم ، إذا هلكتم . قالوا : إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدوا من الملائكة، وسلما من الملائكة . وإنه قرن به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم ؟ . قالوا: عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ؟ وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار ، والتشديد والعذاب ، ونحو هذا . وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف، ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، قال : قلت : فوالله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل ، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل . قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان . فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن ؟ فقرأ علي : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر . https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif |
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/kRcArgy.gif تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثانى صـ 206 الى صـ 210 الحلقة (40) القول في تأويل قوله تعالى : [101 ] ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون تصريح بما طوى قبل . فإن نبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ، أعقبهم التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، الذي في كتبهم نعته ، كما قال تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية ، فتنكير "رسول" للتفخيم . والجار بعده متعلق بجاء ، أو بمحذوف وقع صفة لرسول ، لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وقوله "كتاب الله" يعني التوراة ، لأنهم بكفرهم برسول الله ، المصدق لما معهم ، كافرون بها ، نابذون لها . وقيل "كتاب الله" القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول . وقوله "وراء ظهورهم" مثل لتركهم وإعراضهم عنه ، مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه ، وقلة التفات إليه ، وقوله "كأنهم لا يعلمون" جملة حالية ، أي نبذوه وراء ظهورهم ، مشبهين بمن لا يعلمه . فإن أريد بهم أحبارهم ، فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان ، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم . ففيه إيذان بأن علمهم به رصين ، لكنهم يتجاهلون . أو كأنهم [ ص: 207 ] لا يعلمون أنه كتاب الله ، أو لا يعلمون أصلا ، كما إذا أريد بهم الكل . وفي هذين الوجهين ، زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة . وهذا، وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن ، فالمراد بالعلم المنفي في "كأنهم لا يعلمون" هو العلم بأنه كتاب الله ، ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون في ذلك ، وإنما يكفرون به مكابرة وعنادا ، وقوله تعالى : القول في تأويل قوله تعالى : [102 ] واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر هو حكاية لفن آخر من زيغهم وضلالهم ، إثر نبذهم كتاب الله والعمل بما بين أيديهم . وهو اتباعهم لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والكفر ، وإنه إنما نال ذلك الملك بسبب معرفته السحر . وزادوا على ذلك فنسبوه إلى الردة والكفر لأسباب افتروها عليه ، فبرأه الله تعالى من هذا الافتراء والاختلاق ، وألصق الكفر بأولئك الشياطين الذين يضللون العقول والأفهام بتعليم السحر والشعبذة ، وإسناد التأثير إلى غير الخالق، سبحانه ، والصد عن سبيل الحق ، وابتغائهم إياها عوجا [ ص: 208 ] و "تتلو" بمعنى تقص وتحدث . من التلاوة ، وهي القراءة . أو بمعنى تكذب وتختلق ، وهو قول أبي مسلم ، قال : يقال تلا عليه ، إذا كذب ، وتلا عنه إذا صدق . وهكذا قال الراغب في تفسيره : تلا عليه كذب ، نحو روى عليه ، وقال عليه "ويقولون على الله الكذب". وقال : الآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود ، وهي منطوية على أمرين : ذم اليهود في تحري السحر وإيثاره ، وتبرئة لسليمان عليه السلام مما نسبوه إليه ، وتخرصوه عليه اهـ. وذلك أنهم زعموا أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام ، وبنى لها المعابد ، كما تراه في الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث . فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة والقحة الكبيرة ، ولما تنبه عقلاء أهل الكتاب المتأخرون لمثل هذه الفرى ، اعترفوا بأنه ليس كل قول من الأقوال المندرجة في كتبهم المقدسة إلهاميا ، بل بعضها كتب على طريقة المؤرخين ، يعني بلا إلهام ، كما في "إظهار الحق" . والمراد بالشياطين شياطين الإنس ، وهم المتمردة العصاة الأشرار الأقوياء ، الدعاة إلى الباطل . وقوله "على ملك سليمان" أي على عهد ملكه من تلك الأقاصيص المختلقة عليه . وقوله تعالى "وما كفر سليمان" تنزيه لساحته عليه السلام من الردة والشرك وعبادة الأوثان التي نسبوها إليه ، وتكذيب لمن تقولها . وقال كثيرون : هذا تبرئة من السحر ، وأنه تعالى كنى عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر ، وأن من كان نبيا كان معصوما عنه . وإنما كان كفرا لكونه يكون بالتوجه إلى الأفلاك والشياطين وعبادتها ، وزعم أنها مؤثرة دونه تعالى . [ ص: 209 ] والمعنى الأول أصرح وأوضح . وقوله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر عنى بالشياطين من ذكرناهم قبل وهم خبثاء الإنس وأشرارهم . كما في قوله تعالى : وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم وقوله : شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض والذي يعين هذا المعنى قوله "تتلو" لأن تلاوة شياطين الجن ، لا يسمعها أحد ، ومعنى "تتلو" تقص كما تقدم . وقوله "يعلمون الناس السحر" يعين هذا المعنى أيضا ، إذ لا يتعلم أحد السحر إلا من شياطين الإنس . والمراد بقوله "كفروا" كفرهم بآيات الله المنزلة ، أو عبادتهم غيره تعالى ، أو كفرهم باستعمال السحر والشعوذة ، تعمية على الحق ، وتغشية للبصائر . وجملة قوله "يعلمون الناس السحر" حالية من ضمير "كفروا" ، أو خبر ثان لـ "لكن" ، أو مستأنفة . هذا على تقدير كون الضمير للشياطين . وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل "اتبعوا" فهي إما حال منه أو استئنافية. وقوله تعالى : وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون اعلم أن للعلماء في هذه الآية وجوها كثيرة ، وأقوالا عديدة ، فمنهم من ذهب فيها مذهب الأخباريين نقلة الغث والسمين ، ومنهم من وقف مع [ ص: 210 ] ظاهرها البحت وتمحل لما اعترضه ، بما المعنى الصحيح في غنى عنه . ومنهم من ادعى فيها التقديم والتأخير ورد آخرها على أولها ، بما جعلها أشبه بالألغاز والمعميات ، التي يتنزه عنها بيان أبلغ كلام . إلى غير ذلك مما يراه المتتبع لما كتب فيها . والذي ذهب إليه المحققون أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل -وهي مدينة بالعراق على نهر الفرات- وكانا يعلمان الناس السحر، وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء ، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله . وبلغ مكر هذين الرجلين ، ومحافظتهما على اعتقاد الناس بالحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما "إنما نحن فتنة فلا تكفر" ، أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك ، أتشكر أم تكفر ، وننصح لك أن لا تكفر . يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية ، وصناعتهما روحانية ، وأنهما لا يقصدان إلا الخير . كما يفعل ذلك دجاجلة هذا الزمان ، قائلين لمن يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على زعمهم : نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة متزوجة إلى رجل غير زوجها ، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء . ولليهود في ذلك خرافات كثيرة . حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله . وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس . فجاء القرآن مكذبا لهم في دعواهم نزوله من السماء ، وفي ذم السحر، ومن يتعلمه أو يعلمه ، فقال : يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين الآية ، فـ "ما" هنا نافية ، على أصح الأقوال ، ولفظ "الملكين" هنا وارد حسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت ، كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم ، وكما يرد في كلام المسلم ، في الرد على المسيحيين ، ذكر تجسد الإله وصلبه ، وإن كان لا يعتقد ذلك . https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif |
الساعة الآن : 12:17 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour