دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدرس الأول: مدارسة القرآن محمد بن سند الزهراني الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أما بعْدُ: فنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا بَلَغَنَا وَإِيَّاكُمْ رَمَضَانَ؛ أَنْ يُعِينَنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَى صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ، وَنَحْنُ فِي مَطْلَعِ هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ يَجْدُرُ بِنَا أَنْ نَجْمَعَ مَعَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ فَهْمَ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرُهِ، وَالنَّظِرُ إلَى هِدَايَاتِهِ؛ وَذَلِكَ بِمُدَارَسَةِ الْقُرْآنِ؛ سَعْيًا لِلْعَمَلِ بِهِ وَتَحْكِيمِهِ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران:79]. وَسُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَقَدْ كَانَ يَتَدَارَسُ الْقُرْآنَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ومن الثِّمَارِ الْعَظِيمَةِ وَالْمَعَانِي الْجَلِيلَةِ وَالْمُكْتَسِبَاتِ الْكَبِيرَةِ لِمَنْ اهْتَدَى بِالْقُرْآنِ. أنّ المُدارسة سَبِيلُ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ، فَالْعِلْمُ عُمُومًا وعِلْمُ الْقُرْآنَ خُصُوصًا لَا يُمْكِنُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُحَصِّلَهُ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ وَالْمُشَارَكَةِ مَعَ الْآخَرِينَ، إنَّ مَنْ يَسْعَى لِحِفْظِ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يُدْرِكَ أَنَّ أَعْظَمَ عَوْنٍ عَلَى ذَلِكَ فِي مُرَاجَعَةِ وَاسْتِذْكَارِ وَاسْتِيعَابِ أَحْكَامِهِ؛ تَدَبُّرًا وَعَمَلًا؛ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ خِلَالِ الْمُدَارَسَةِ. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « تَعاهَدُوا هذا القُرْآنَ، فَوالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقلها»[1]. وَلْنَعْلَمْ -أَيُّهَا الْكِرَامُ- وَنَحْنُ فِي مَطْلَعِ هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ؛ أَنَّ مُدَارَسَةَ الْقُرْآنِ طَرِيقٌ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِفَضَائِلِ الْخَيْرِ، وَتَحْلِيَتِهَا بِنَعِيمِ الصَّلَاحِ وَهِدَايَتِهَا سَبِيلُ الرَّشَادِ. قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران:164]. مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الْمُدَارَسَةِ تَسْكُنُ النُّفُوسُ الطَّيِّبَةَ، وَتَعْرِفُ طَرِيقَ الْخَيْرِ مِنْ الشَّرِّ، وتُحصِّل مِنْ الْمَعَانِي وَالْقِيَمِ مَا لَا تُحَصِّلُهُ فِيمَا لَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ عَلَى انْفِرَادٍ. إِنَّ مُدَارَسَةَ الْقُرْآنِ مَدْعَاةٌ لِتَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَالسَّكِينَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَسَبَبٌ لِإِحْفَافِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ؛ حِفْظًا وَعِنَايَةً وَتَوْفِيقًا؛ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ فيما بيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ»؛ رواه مسلم. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْأَسَاسَ مِنْ الْمُدَارَسَةِ الْقُرْآنِيَّةِ مَعَ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - هُوَ اسْتِخْلَاصُ وَاسْتِخْرَاجُ الْمَنْهَجِ الْقُرْآنِيِّ؛ لِيَكُونَ مَنْهَجًا وَاضِحًا فِي تَكْوِينِ وَبِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُتَمَيِّزَةِ، فَيَحْمِلُ الْعَبْدُ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَقِيدَةً صَافِيَةً، وَعِبَادَةً مُخْلِصَةً، وَخُلُقًا فَاضِلًا، وَأَدَبًا جَمًّا. وَبِهَذَا: يَسِيرُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانًا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [1] أخرجه البخاري (5033)، ومسلم (791). |
رد: دروس رمضانية
الدَّرْسُ الثَّانِي: فضائل آية الكرسي محمد بن سند الزهراني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.فَضْلُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ: آيَةُ اَلْكُرْسِيِّ آيةٌ مُبَارَكَةٌ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ، وَقَدْرٌ رَفِيعٌ، فهي أَعْظَمُ آيِ الْقُرْآنِ شَأْنًا، وَأَفْضَلُهَا قَدْرًا، وَأَرْفَعُهَا مَكَانَةً، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا. فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهَا أَفْضَلُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أبا المنذرِ! أتَدري أيُّ آيةٍ من كتابِ اللهِ معَك أعظَمُ؟ قال: قُلتُ: اللهُ ورَسولُه أعلمُ، قال: يا أبا المنذِرِ، أتَدري أيُّ آيةٍ من كتابِ اللهِ معَكَ أعظمُ؟ قلتُ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، قال: فضَربَ في صَدري، وقال: [ واللهِ ] لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذرِ!»[1]؛ أَيْ: هَنِيئًا لَكَ هَذَا الْعِلْمُ الَّذِي سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَيَسَّرَهُ لَكَ، ومَنَّ عَلَيْكَ بِهِ، وَأَقْسَمَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى ذَلِكَ؛ تَعْلِيَةً لِهَذَا الشَأن، وَتَفْخِيمًا لِهَذَا الْمَرَامِ. وَلَكَ أَنْ تَتَأَمَّلَ هُنَا لِتُدْرِكَ كَمَالَ هَذَا الْفِقْهِ، أَنَّ أُبَي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَخْتَرْ هذه الْآيَةَ مِنْ بَيْنِ عَشْرِ آيَاتٍ أَوْ عِشْرِينَ أَوْ مِائَةِ آيَةٍ أَوْ مِائَتَيْنِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهَا مِنْ بَيْنِ مَا يَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ آلَافِ آيَةٍ، كَيْفَ لَا؟ وَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَيِّدُ الْقُرَّاءِ، جَمَعَ الْقُرْآنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِفْظَهُ فمَعَهُ علمًا مباركًا، وَكَانَ رَأْسًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَآيَاتُ الْقَصَصِ كَثِيرٌ، وَآيَاتُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَالْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ جِدًا، فَلِمَاذَا هَذِهِ الْآيَةُ؟! وَكَانَ جَوَابُهُ دُونَ مُهْلَةٍ زَمَنِيَّةٍ؛ لِيُرَاجِعَ الْآيَاتِ وَيَتَأَمَّلَ فِي دَلَالَاتِهَا، وَإِنَّمَا أَجَابَ فِي نَفْسِ الْوَقْفَةِ بَعْدَ أَنْ أَعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَدْ كَانَ نَظَرُ أُبَي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الْآيَةِ عَمِيقًا وَدَقِيقًا، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى شَأْنِ التَّوْحِيدِ فِي قُلُوبِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-. فَمَا أَعْظَمَهُ مِنْ فِقْهٍ! وَمَا أَجَّلَهُ مِنْ مَقْصِدٍ! أَنْ يَجِدَ الْعَبْدُ مَا يُعرِّفهُ بِخَالِقِهِ، لِيَقُومَ مَقَامَ الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَمِنْ هُنَا: كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ هِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَكَانَتْ تَاجُ آيَاتِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ؛ بِمَا فِيهَا مَنْ عِلْمٍ بِاَللَّهِ، وَمِنْ عَجَائِبِ اَلْأَسْرَارِ وَالْأَنْوَارِ. وَإِنَّ مِمَّا نُشَاهِدُهُ فِي وَاقِعِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ كِبَارًا وَصِغَارًا عِنَايَتَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ حِفْظًا وَمُدَارَسَةً وَتِلَاوَةً؛ ذَلِكَ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ بِذَاتِهَا مَسْلَكٌ إِلَى اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَحِصْنٌ حَصِينٌ لِلْمُؤْمِنِ. فَمَنْ تَلَاهَا بِيَقِينٍ وَإِخْلَاصٍ فَهِيَ خَيْرُ أَوْرَادِهِ وَأَذْكَارِهِ؛ سَوَاءٌ بُعيِدَ صَلَاتِهِ أَوْ عِنْدَ مَنَامِهِ بِلَيْلِهِ أَوْ نَهَارِهِ، أَوْ سَفَرِهِ وَحَضَرِهِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ. جاء في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا أوَيْتَ إلى فِراشِكَ فاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، مِن أوَّلِهَا حتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ: فلا يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، ولَا يَقْرَبَكَ شيطَانٌ حتَّى تُصْبِحَ»[2]. تِلْكَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ فَضَائِلَ، وَتِلْكَ بَعْضُ آثَارِهَا الصَّحِيحَةِ؛ اجْعَلْهَا أَسَاسَ وِرَدِّك وَمِنْهَاجَ حَيَاتِك، وَمَجَالَ تَدَبُّرِك وَتَفَكُّرِكَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [1] أخرجه عبدالله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (21278) باختلاف يسير، وأخرجه مسلم (810) مختصراً. [2] أخرجه البخاري، رقم 2311. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ الثَّالِثُ: مَقَاصِدُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ محمد بن سند الزهراني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.• سُورَةُ الْبَقَرَةِ ذَكَرَ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتِهَا أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَمَوْضُوعُهَا الرَّئِيسِيُّ وَمَقْصِدُهَا الْأَعْظَمُ قِيَامُ النَّاسِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابَ النَّوَاهِي. فَهِيَ سُورَةُ الِاسْتِجَابَةِ وَالطَّاعَةِ وَالِالْتِزَامِ؛ بِذَلِكَ كَمَنْهَجٍ وَعَقِيدَةٍ ثَابِتَةٍ رَاسِخَةٍ لِأَخْذِ أَحْكَامِ اللَّهِ بِجِدٍّ وَقُوة، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ. اُفْتُتِحَتْ السُّورَةُ بِذِكْرِ أَقْسَامِ النَّاسِ فِي الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَطَاعَتِهِ، ابْتَدَأَتْ بِذِكْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى؛ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - بِأَنَّهُمْ ﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ [البقرة:3]، ثم ذَكر الله - جَلَّ وَعَلَا - ما أعدَّ لهُم من الفلاحِ والنعيم؛ ﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[البقرة:5]، إِنَّهُمْ أُمَّةُ الِاسْتِجَابَةِ وَالْمُسَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ أَمَامَ أَمْرِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ؛ فَهُمْ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ عَمَلًا، وَشِعَارُهُمْ فِي ذَلِكَ: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾[الحجر:99]. أَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي: فَهُمْ الْمُعَانِدُونَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لأمر اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - بَلْ أَعْلَنُوا الْعِنَادَ وَالتَّحَدِّيَ وَالصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُمْ الْكُفَّارُ الَّذِينَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ، وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ؛ فَتَوَعَدَهُمْ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ. وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ: فَهُمْ الْمُنَافِقُونَالَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَالِاسْتِجَابَةَ لِأَمْرِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَيُبْطِنُونَ النِّفَاقَ وَالْبُغْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. أَمَامَ هَذِهِ الْمُغَايَرَةِ وَالْمُخَالَفَةِ لِمَنْهَجِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ تَوَاعَدَهُمْ اللَّهُ -جَلّ وَعَلَا- بِأَشَدِّ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء:145]، أَمَامَ هَذِهِ اَلْحَقَائِقِ ذِكَرَ اَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَهَا ثَلَاثُ نَمَاذِجَ فِي غَايَةِ اَلْوُضُوحِ؛ أَمَامَ اَلِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ عَدَمِهَا: النَّمُوذَجُ الْأَوَّلُ: قِصَّةُ آدَمَ؛ وَهِيَ قِصَّةٌ فَرْدِيَّةٌ، أَسْكَنَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - الْجَنَّةَ وَزَوَّجَهُ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمَا الْأَكْلَ مِنْ الشَّجَرَةِ، فَإِنْ اسْتَجَابَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَمَوْلَاهُ تَنَعَّمًا بِالنَّعِيمِ الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ، فَأَغْرَاهُ اللَّهُ بِالشَّيْطَانِ؛ يُزَيِّنُ لَهُ حَتَّى أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا عَصَى أَهْبَطَهُ اللَّهُ مِنْ الْجَنَّةِ. فَانْتَبِهْ، فَهَذِهِ الْأَوَامِرُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَكَ، إِنْ أَخَذْتَ بِهَا سَعِدْتَ، وَنِلْتَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَإِنْ تَخَلَّفْتَ نَالِكَ مَا نَالَ أَبَاكَ. النَّمُوذَجُ الثَّانِي: لَيْسَتْ قِصَّةَ فَرْدٍ، وَإِنَّمَا قِصَّةُ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ، قَصَّهَا اللَّهُ عَلَيْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة:40] الآية، وَذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا قِصَّةَ الْبَقَرَةِ، فَهَلْ اسْتَجَابَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَأُمَّةٍ لِأَمْرِ اللَّهِ؟ لَا وَاَللَّهِ، وَإِنَّمَا لَجَؤُوا إِلَى التَّعَنُّتِ وَالتَّبَاطُؤِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الْمُسَاءَلَةِ وَالْبَحْثِ، فَشَدِّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. النَّمُوذَجُ الثَّالِثُ: وَهُوَ نَمُوذَجٌ لِمَنْ اسْتَجَابَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَسَارَعَ وَسَابِقَ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي وَفَّى وَكَانَ أُمَّةً؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ [البقرة:124]؛ تَمَامُهُ فِي الْعَقِيدَةِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ، وَالْعِبَادَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، فَزَكَّاهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَأَثْنَى عَلَيْهِ. إنَّ القارئ لسورة البقرة يَرَى مِنْ خِلَالِ تَتَبُّعِ أَحْكَامِهَا أَنَّهَا كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ؛ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. وَخُلَاصَةُ هَذَا الدَّرْسِ: تُبَيَّنَ لَكَ هَذِهِ السُّورَةُ الْعَظِيمَةُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَا الْوَاجِبُ عَلَيْكَ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَسْمَعُ وَأُطِعُ وَسَلَّمْ أَمْرَك لِلَّهِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَتَخَلَّفَ عَمَّا أوَجَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ تَتَمَلَّصَ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنَّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ صَارَ مَصِيرُك مَصِيرَ أَبِيك آدَمَ، أَوْ مَصِيرِكُمْ كَأُمَّةٍ كَمَصِيرِ بَنِي إسْرَائِيلَ الَّذِينَ فَضَّلَهُمْ اللَّهُ عَلَى الْعَالَمِينَ؛ فَتَمَرَّدُوا عَلَى الشَّرْعِ، فَسَلَبَهُمْ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - ذَلِكَ التَّفْضِيلَ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ. اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلِمْنَا، وَبِكَ آمَنَّا، وَعَلَيْكَ تَوَكُّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ؛ أَنْ تَظِلَّنَا أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني الدَّرْسُ الرَّابِعُ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَسُنَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ فِي السُّنَّةِ الْحَثُّ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ قِرَاءَتِهَا، وَجَعْلِهَا وَرْدًا يَوْمِيًّا يُحَافِظُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ، وَيَتَكَرَّرُ مَعَهُ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ؛ فِي صَبَاحِهِ وَمَسَاءَهِ، فِي يَقَظَتِهِ وَعِنْدَ نَوْمِهِ، فِي صَلَاتِهِ وبَعد أَوْرَادِهِ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ مَوَاضِعَ كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي: عِنْدَ أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، فَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا جَاءَ عِنْدَ النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ؛ فَيَقُولُ أَبِي مُخَاطِبًا الْجِنَّ: (فَمَا يُنَجِّينَا مِنْكُمْ؟)، قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة:255]، مَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أَجِيرٌ مِنَّا حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ أَجِيرَ مِنَّا حَتَّى يُمْسِيَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى رَسُولَ اَللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «صَدَقَ اَلْخَبِيثُ»). الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: عِنْدَ النَّوْمِ؛كَمَا جَاءَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ: «إِذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِك فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَختَم الْآيَةَ: ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ» [1] الحديث. فقال لهُ النبيّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: « أَمَّا أَنَّهُ صَدَقَك وَهُوَ كَذُوبٌ». بَقِيَّةُ الْمَوَاضِعِ الْخَمْسِ: دُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ جَاءَ عِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَن قرأَ آيةَ الكرسيِّ في دُبرِ كلِّ صلاةٍ مَكتوبةٍ لم يمنعْهُ مِن دخولِ الجنَّةِ إلَّا أن يموتَ» [2]. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: (بَلَغَنِي عَنْ شَيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- أَنَّهُ قَالَ: مَا تَرَكْتُهَا عَقِبَ كُلِّ صَلَاةٍ) وَعَلَى هَذَا: فَيَتَّضِحُ مِنْ خِلَالِ هَذِهِ النُّصُوصِ قُوَّةُ أَثَرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِحِفْظِ الْعَبْدِ، وَطَرْدِ الشَّيَاطِينِ، وَإِبْعَادِهِمْ مِنْ الْمَكَانِ، وَالْوِقَايَةِ مِنْ كَيْدِهِمْ وَشُرُورِهِمْ، وَإِذَا قُرأَت عَلَى الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ أَبْطَلْتُهَا؛ كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (فَأَهْلُ الْإِخْلَاصِ والْإِيمَانِ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا يَهْرُبُونَ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَيَهْرُبُونَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَآخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ) [3]. إِنَّ التَّرْغِيبَ مِنْ الْإِكْثَارِ فِي قِرَاءَتِهَا؛ كَمَا جَاءَ فِي سُّنَّةِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَلِيلٌ عَلَى مَسِيسِ حَاجَةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهَا، وإلى مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي لَا يَصْمُدُ أَمَامَهُ بَاطِلٌ، بَلْ يَهْدِمُ أَرْكَانَهُ، وَيُزَلْزِلُ بُنْيَانَهُ، وَيُفَرِّقُ جَمْعَهُ، وَيَقْطَعُ دَابِرَهُ، وَيَمْحُو عَيْنَهُ وَأَثَرَهُ. • وَقَدْ أَفَادَتْ النُّصُوصُ الْمُتَقَدِّمَةُ اسْتِحْبَابَ قِرَاءَةِ الْمُسْلِمِ لِهَذِهِ الْآيَةِ ثَمَانَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِذَا تَيَسَّرَ لِلْمُسْلِمِ هَذَا التَّكْرَارُ الْيَوْمِيُّ مَعَ اسْتِحْضَارِهِ لِلْمَعَانِي الْعَظِيمَةِ وَالدَّلَالَاتِ الْجَلِيلَةِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي الْمَقَاصِدِ وَالْغَايَاتِ؛ يَعْظُمُ قَدْرُ التَّوْحِيدِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَتَقْوَى أَوَاصِرُهُ فِي فُؤَادِهِ؛ فَيَكُونُ مُسْتَمْسِكًا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا. إِنَّ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ هَجْرُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ هَدْيَ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَكْرَارِهَا، وَيَزْدَادُ بِكَ الْعَجَبُ عِنْدَمَا تَرَى حِرْصَ النَّاسِ عَلَى تَكْرَارِهَا دُونَ اسْتِذْكَارٍ لِمَعَانِيهَا بِلَا تَدَبُّرٍ وَلَا فَهْمٍ، فَعِنْدَهَا يَضْعُفُ الْأَثَرُ، وَيَقِلُّ الِانْتِفَاعُ. وَخُلَاصَةُ هَذَا الدَّرْسِ: أَنَّ هَذَا التَّكْرَارَ لِهَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ مَعَ التَّدَبُّرِ لَهُ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ جَلِيلَةٌ فِي بِنَاءِ مَقَامِ التَّوْحِيدِ دَاخِلَ نُفُوسِنَا؛ وَذَلِكَ بِاسْتِحْضَارِ أَرْكَانِهِ وَتَعْمِيقِ أُصُولِهِ فِي الْقَلْبِ، وَتَوْسِيعِ مِسَاحَتِهِ فِيهِ حُبًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَخُشُوعًا وَتَوَكُّلًا، وَإِنَابَةً لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا. فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إِيمَانًا كَامِلًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَتَوْبَةً نَصُوحَةً، وَعَمَلًا صَالِحًا مُتَقَبِّلًا مَبْرُورًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [1] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 145/12. [2] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (9928) واللفظ له، والطبراني (8 /134) (7532)، وابن السني في ((عمل اليوم والليلة)) (124). [3] [ابن تيمية:4/ 131]. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدرس الخامس: آية الكرسي والتوحيد محمد بن سند الزهراني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَالتَّوْحِيدِ؛ قَالَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [البقرة:255]؛ بَدَأَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِلَفْظِ الْجَلَالَةِ (اللَّهِ)، وَاخْتُتِمَتْ بِالْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَهَذِهِ أَعْظَمُ كَلِمَةٍ لِلتَّعْرِيفِ بِاَللَّهِ، فَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فَهِيَ مُنْطَلَقُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، هِيَ عُنْوَانُهُ الْجَامِعُ، وَحْدَّهُ الْمَانِعُ، وَهِيَ الْهُوِيَّةُ وَالْقَضِيَّةُ وَالرَّايَةُ وَالشِّعَارُ، وَهِيَ أَصْلُ الْأُصُولِ، وَأُسُّ الِاعْتِقَادِ، وَأَعْظَمُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَخَيْرُ مَا وَرَدَ فِي التَّسْبِيحَاتِ وَالْأَذْكَارِ عَبْرَ كُلِّ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَعْصَارِ. فَقَدْ حُدِّدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُبَارَكَةُ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الْخَالِدَةِ: ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ وَهِيَ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ، بَلْ هِيَ أَعْظَمُ الْكَلِمَاتِ، قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَخُلِقَتْ لِأَجْلِهَا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبِهَا أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَلِأَجْلِهَا نُصِبَتْ الْمَوَازِينُ، وَوُضِعَتْ الدَّوَاوِينُ، وَقَامَ سُوقُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَبِهَا انْقَسَمَتْ الْخَلِيقَةُ إِلَى مُؤْمِنِينَ وَكُفَّارٍ. وَعَلَيْهَا: نُصِبَتْ الْقِبْلَةُ، وَأُسِّسَتْ الْمِلَّةُ، وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَمِفْتَاحُ الْجَنَّةِ دَارُ السَّلَامِ، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّقْوَى وَالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ، وَشَهَادَةُ الْحَقِّ، وَدَعْوَةُ الْحَقِّ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الشِّرْكِ، وَهِيَ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَأَجَلُّ الْعَطَايَا وَالْمِنَنِ. يَقُولُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: (مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ مِنَ الْعِبَادِ نِعْمَةً أَعْظَمُ مِنْ أَنَّ عَرفهُم لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَنْهَا يُسْأَلُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فَلَا تَزُولُ قَدَمَ عَبْدٍ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ: • ماذا كنتُم تعبدون؟ • وبماذا أجبتُم المرسلين؟ فَجَوَابُ الْأُولَىبِتَحْقِيقِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)؛ عِلْمًا وَإِقْرَارًا وَعَمَلًا، وَجَوَابُ الثَّانِيَةِ بِتَحْقِيقِ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ عِلْمًا وَإِقْرَارًا وَانْقِيَادًا وَطَاعَةً. فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْلَمَ أَمَامَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْعُظْمَى أَمَرًا عَظِيمًا جَسِيمًا، هُوَ لُبُّ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَسَاسُهُ؛ أَلَا وَهُوَ أَنَّ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَدْلُولًا لَا بُدَّ مِنْ فَهْمِهِ، وَمَعْنًى لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادِهِ؛ إذْ غَيْرُ نَافِعٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ النُّطْقَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ غَيْرِ فَهْمِ مَعْنَاهَا، وَلَا العمل بِمُقْتَضَاهَا، وَلَعَلَّ هَذَا يَكُونُ فِي الدَّرْسِ الْقَادِمِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ السَّادِسُ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَمفهوم التَّوْحِيدِ محمد بن سند الزهراني • قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [البقرة:255]؛ تَقْرِيرٌ مِنْهُ - جَلَّ جَلَالُهُ - أَنَّهُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَهُ الْمَخْلُوقِينَ - جَلَّ جَلَالُهُ وَعَزَّ ثَنَاؤُهُ - وَأَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، لَا يَنْبَغِي لِلْقُلُوبِ أَنْ تَخْضَعَ لِسِوَاهُ، وَلَا أَنْ تَرْكَعَ لِغَيْرِهِ، بَلْ لَهُ وَحْدَهُ تَذلُ وَتَخَنُّعٌ، وَبِهِ تَتَعَلَّقُ وَتُودَعُ، وَلَهُ تَحَنٌ وَتَشْتَاقُ، وَإِلَيْهِ تَفْزَعُ وَتَتَضَرَّعُ، وَإِلَيْهِ تُسَاقُ مَوَاجِيدَ الْمَحَبَّةِ وَمَشَاعِرَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَمَنْ خَرَمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَرَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ، كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَغُلِقَتْ دُونَهُ أَبْوَابُ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ، وَالْعِلْمُ بِهِ - جَلَّ فِي عَلَاهُ - وَكَانَ مِنْ الْخَاسِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ؛ يقول - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: ﴿ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف:86]. • وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ بِقُلُوبِهِمْ مَعْنَى مَا نَطَقُوا بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، إذْ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَقْتَضِي الْعِلْمَ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، فَلَوْ كَانَتْ عَنْ جَهْلٍ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً، وَتَقْتَضِي الصِّدْقَ، وَتَقْتَضِي الْعَمَلَ بِذَلِكَ. • وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْعِلْمِ بِهَا مَعَ الْعَمَلِ وَالصِّدْقِ، فَبِالْعِلْمِ يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْ طَرِيقَةِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِلَا عِلْمٍ، وَبِالْعَمَلِ يَنْجُو مِنْ طَرِيقِة الْيَهُودِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَلَا يَعْمَلُونَ، وَبِالصِّدْقِ يَنْجُو مِنْ طَرِيقَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ مَا لَا يُبْطِنُونَ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. • وَالْحَاصِلُ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا تَنْفَعُ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَدْلُولَهَا بِالنَّفْيِ (لَا إِلَهَ)، وَالْإِثْبَاتِ (إِلَّا اللَّهُ)، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ وَعَمِلَ بِهِ، فَإِنْ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مَعْنَاهَا لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلَّا اللَّهُ، إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ؛ وَذَلِكَ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ. • قال تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة:163]، وَآيَاتُ التَّوْحِيدِ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًا، وَهِيَ تُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) هُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَإِفْرَادِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ، فَهَذَا هُوَ الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ؛ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء:25]. وَبِهَذَا يَعِيشُ الْمُسْلِمُ فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ مُوَحِّدًا، مُخْلِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَذَلِكَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ خُضُوعًا وَتَذَلُّلًا، وَطَمَعًا وَرَغَبًا، وَإِنَابَةً وَتَوَكُّلًا وَدُعَاءً وَطَلَبًا، فَصَاحِبُ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) لَا يَسْأَلُ إلَّا اللَّهَ، وَلَا يَسْتَغِيثُ إلَّا بِاَللَّهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ، وَلَا يَرْجُو غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا يَذْبَحُ إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَصْرَفُ شيئًا مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَيَكَفُرُ بِجَمِيعِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. فَاللَّهُمَّ إِنَّا نِشهدُكَ ونُشهِدُ مَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ السَّابِعُ: الحي برهان على التوحيد محمد بن سند الزهراني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.الْبُرْهَانُ الْأَوَّلُ عَلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ فِيهَا مِنْ الْبَرَاهِينِ السَّاطِعَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. • وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ هَذِهِ اَلْبَرَاهِينِ فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ مَجِيئًا مُتَنَاسِقًا؛ بُرْهَانًا يَتْلُوهُ بُرْهَانٌ، وَحُجَّةُ يَتَّبِعَهَا حُجَّةً، إِلَى أَنْ تَمَّ عِقْدٌ مُبَارَكٌ وَنَظَّمٌ فَرِيدٌ لِبَرَاهِينِ اَلتَّوْحِيدِ. وَسَنَتَطَرَّقُ بِإِذْنِ اَللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لِكُلِّ بُرْهَانِ مِنْ هَذِهِ اَلْبَرَاهِينِ فِي دَرْسٍ مُسْتَقِلٍّ بِإِذْنِ اَللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -: اَلْبُرْهَان اَلْأَوَّلِ: اَلْحَيُّ: وَهَذَا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ عَلَى وُجُوبِ إِفْرَادِ اَللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِالْعِبَادَةِ، فَهُوَ اَلْمُتَّصِفُ بِأَنَّهُ اَلْحَيُّ اَلَّذِي لَا يَمُوتُ حَيَاةً كَامِلَةً، لَيْسَتْ مَسْبُوقَةً بِعَدَمٍ وَلَا يَلْحَقُهَا زَوَالٌ وَفِنَاءٌ، وَلَا يَعْتَرِيهَا نَقْصٌ وَعَيْبٌ، جُلُّ رَبِّنَا وَتَقَدَّسَ، وَهِيَ حَيَاةٌ تَسْتَلْزِمُ كَمَالَ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ اَلَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعبَد ويُركَع لَهُ ويُسجَد لهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان:58]. أَمَّا اَلْحَيُّ اَلَّذِي يَمُوتُ، أَوْ اَلْمَيِّتِ اَلَّذِي لَيْسَ هُوَ بِحَيٍّ، أَوْ اَلْجَمَادِ اَلَّذِي لَيْسَ لَهُ حَيَاةٌ أَصْلًا، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ اَلْعِبَادَةِ شَيْئًا؛ إِذْ اَلْعِبَادَة حَق لِلْحَيِّ اَلَّذِي لَا يَمُوتُ. • إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَعَانِي اِسْمِ اَللَّهِ اَلْحَيِّ: أَنَّ اَللَّهَ يَمْنَحُ اَلْحَيَاةَ لِلْأَحْيَاءِ، يَمْنَحُ اَلْحَيَاةَ لِلْأَحْيَاءِ فِي اَلدُّنْيَا، وَيَمْنَحُ أَهْلَ اَلْجَنَّةِ حَيَاتَهُمْ اَلْأَبَدِيَّةَ اَلْأَزَلِيَّةَ اَلسَّرْمَدِيَّةَ، اَلَّتِي لَا تَزُولُ وَلَا تَحَوُّل، بَلْ هِيَ خُلُودٌ أَبَدِيٌّ بِلَا مَوْتٍ وَلَا فِنَاءً. • وَعَلَى هَذَا فَحَيَاتَنَا سِرّ مِنْ أَغْمَضِ أَسْرَارِ اَلْوُجُودِ وَأَعْقَدِهَا، بِدءً مِنْ أَضْخَمِ مَا خَلَقَ اَللَّهُ وَانْتِهَاءً بِأَضْعَف مَا أَوْجَدَ اَللَّهُ؛ مِمَّا لَا نَرَاهُ بِالْعَيْنِ اَلْمُجَرَّدَةِ، فَلَا أَحَدَ مِنَّا يَعْرِفُ مَعْنَى اَلْحَيَاةِ؛ رُغْمَ أَنَّهَا صِفَةُ قَائِمَةٌ بِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وَإِنَّمَا اَلَّذِي نَعْرِفُهُ هُوَ أَعْرَاضُ اَلْحَيَاةِ وَآثَارِهَا. أَلَّا تَرَوْنَ اَلصَّخْرَةَ اَلصَّمَّاءَ! قَارَنُوا بَيْنُهَا وَبَيْنَ كَائِنِ حَيٍّ يَتَحَرَّكُ، وَيَتَنَفَّسَ وَيَحُسُّ وَيَشْعُرُ، اَلْفَرْقُ شَاسِعٌ، وَالْبَوْنُ هَائِلٌ؛ وَلِذَلِكَ تَحَدَّى اَللَّهُ تَعَالَى اَلنَّاس بِهِ، وَجَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى بَعَثِ اَلنَّاسِ فِي اَلدَّارِ اَلْآخِرَةِ، وَعَلَى مَرَدِّهِمْ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ. • قال الله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾ [يس: 78 - 90]. وَهَكَذَا يَسْتَشْعِرُ اَلْمُسْلِمُ مِنْ هَذَا اَلِاسْمِ اَلْعَظِيمِ اَلْحَيِّ اَلْحَقِيقَةَ اَلَّتِي تَقْهَرُ اَلْعُقُولَ، وَتُثِيرُ اَلْقُلُوبَ، وَتَمْلَأُ اَلنَّفْسَ اَلطُّمَأْنِينَةَ فَقْرًا إِلَيْهِ تَعَالَى، فَيَمْتَلِئُ هَذَا اَلْقَلْبِ تَوْحِيدًا، وَإِخْلَاصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَهُوَ اَللَّهُ اَلْأَوَّلُ اَلَّذِي لَيْسَ قِبَلَهِ شَيْءٌ، وَالْآخَرُ اَلَّذِي لَيْسَ بَعْدهُ شَيْءً، وَالظَّاهِرُ اَلَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وَالْبَاطِنُ اَلَّذِي لَيْسَ دَوَّنَهُ شَيْءٌ. ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء:111]. والحمد لله رب العالمين. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
اَلدَّرْس اَلثَّامِنِ: القيوم برهان على التوحيد محمد بن سند الزهراني اَلْحَمْدِ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ. • اَلْبُرْهَانُ اَلثَّانِي مِنْ بَرَاهِينِ اَلتَّوْحِيدِ بِآيَةِ اَلْكُرْسِيِّ فِي قَوْلِ اَللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّوم ﴾ [البقرة:255]. اَلْقَيُّومْ:هُوَ اَلْقَائِمُ بِشُؤُونِ اَلْكَوْنِ، القَيِّمُ عَلَى خَلُقِهِ وَتَدْبِيرُ أَمْرِهِ، وَإِصْلَاحُ شَأْنِهِ وَحِفْظُ نِظَامِهِ، وَرِعَايَةُ مَصَالِحِهِ مِنْ اَلذَّرَّاتِ إِلَى اَلْمَجَرَّاتِ، وَمِنْ اَلسَّمَاوَاتِ إِلَى اَلْأَرْضِ، وَمَا فِيهَا مِنْ كَائِنَاتٍ وَمَخْلُوقَاتٍ؛ ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة:255]، وقال تعالى: ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴾ [طه:111]. فَمِنْ مَعَانِي اَلْقَيُّومْ: اَلْقَائِمُ عَلَى عِبَادِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ اَلْمُحْصِي لِأَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، وَحَسَنَاتِهِمْ وَسَيِّئَاتِهِمْ وَأَخْطَائِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيَهِمْ، فَهُوَ اَلَّذِي يُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا فِي اَلْآخِرَةِ. •قال الله تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف:49]. ولَلْقِيومِيَّة عِنْدَ اَلتَّدَبُّرِ وَقَعُ فِي اَلنَّفْسِ رَهِيبٌ؛ إِذْ يُشَاهِدُ اَلْقَلْبُ كَيْفَ يَقُومُ اَلرَّبُّ اَلْجَلِيلُ بِشُؤُونِ كُلِّ هَذِهِ اَلْعَوَالِمِ وَالْمَخْلُوقَاتِ، وَكَيْفَ يَحْفَظُ نِظَامَ اَلْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ اَلسَّبَّاحَاتِ، وَالنُّجُومِ اَلسَّيَّارَاتِ، وَكَيْفَ يَسُدُّ حَاجَاتِ اَلْخَلَائِقِ مِنْ ذَرَّاتِ اَلْأَرْوَاحِ، مِنْ كُلِّ اَلْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ وَالطَّبَقَات. وَلَوْ تَأَمَّلْتُ فِعْلًا وَاحِدًا مِنْ قَيُّومِيَّتِهِ؛ لِرَجْعِ ذَلِكَ عَلَى اَلْقَلْبِ بِبُرْهَانِ قَاسِمْ، فَجَعَلَهُ دكًّا، وَخَرَّ اَلْقَلْبُ صَعْقًا، فَانْظُرْ كَيْفَ يُجِيبُ فِي تَجَلٍّ وَاحِدٍ مِنْ تَجَلِّيَاتِ فِعْلٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ جَمِيعُ حَاجَاتِ اَلْعِبَادِ مِنْ اَلْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْحَيَوَانِ وَالطُّيُورِ وَالْحِيتَانِ وَالْحَشَرَاتِ. كُلُّ يَدْعُو بِلُغَتِهِ مَعَ اِخْتِلَافِهَا وَكَثْرَتِهَا وَتَفَاوُتِ طَبَقَاتِهَا، نَاهِيكَ عَنْ تَعَدُّدِ لُغَاتِ كُلِّ جِنْسٍ فِي ذَاتِهِ، وَاخْتِلَافُهَا فِي نَوْعِهَا، فَيُجِيبُ اَلْقَيُّومْ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - كُلُّ أُولَئِكَ جَمِيعًا، وَيُعْطِي كُلُّ ذِي مَسْأَلَةِ مَسْأَلَتِهَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَشْغَلُهُ دُعَاءٌ عَنْ سَمَاعِ دُعَاءٍ آخَرَ وَإِجَابَتِهِ، وَلَا تَتَزَاحَمُ عَلَيْهِ اَلطَّلَبَاتُ وَقَضَاءَ اَلْحَاجَاتِ. وَهُوَ - جَلَّ جَلَالُهُ - بَقِيومِيتَهْ يُدَبِّرَ حَرَكَةَ اَلْكَوَاكِبِ وَالْمَجَرَّاتِ وَالْأَرْضِينَ وَالسَّمَاوَاتُ، وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ يَنْفَلِتُ عَنْ طَوَّعِهِ، أَوْ يَشَذُّ عَنْ نِظَامِ تَدْبِيرِهِ، فَسُبْحَانُهُ مِنْ رَبٍّ عَظِيمٍ حَيِّ قَيُّومْ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، مَا أَعْظَمَهُ مِنْ رَبٍّ! وَلَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ مَا أَشْقَى مِنْ كَفَر بهِ وَجَحَدَ! وَبِاَللَّهِ اَلتَّوْفِيقِ، وَصَلَّى اَللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدْ. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
اَلدَّرْس اَلتَّاسِعِ: لا تأخذهُ سِنةٌ ولا نوم برهان على التوحيد محمد بن سند الزهراني اَلْحَمْدِ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ. • قَالَ اَللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾ [البقرة:255]، وَهَذَا هُوَ الْبُرْهَانُ الثَّالِثُ مِنْ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ قَيُّومِيَّتِهِ وَكَمَالِ رُبُوبِيَّتِهِ. • وَالسُّنَّةُ: هِيَ الْغَفْوَةُ الْخَفِيفَةُ مِنْ النُّعَاسِ الَّذِي هُوَ مُقَدِّمَةُ النَّوْمِ، وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّ الْحَيِّ الْقَيُّومِ -جَلَّ جَلَالُهُ-، بَلْهُ النُّعَاسَ أَوْ النَّوْمُ، وَقَدْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: ﴿ لا تَأْخُذُهُ ﴾، بِمَعْنَى لَا تَغْلِبُهُ وَلَا تَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السِنةُ وَالنُّعَاسَ وَالنَّوْمَ كُلَّهَا إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى ذَاتِ الْوَسْنَانِ أَوْ النَّائِمِ غَفْلَةً، وَيُسَيْطِرُ عَلَيْهِ عَنْوَةً وَتَتَمَكَّنُ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ إِرَادَةٍ مِنْهُ. فَهِيَ مِنْ الْأَحْوَالِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ قَهْرًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَمَا النَّوْمُ وَطَبَقَاتُهُ إلَّا أَحَدُ مَخْلُوقَاتِهِ الْخَاضِعَةِ لِعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَيْفَ يَغْفُو أَوْ يَنَامُ مَنْ هُوَ قَيُّومُ الْعَالَمِينَ. • إِذًا يَخْتَلُّ اَلنِّظَامُ اَلْوُجُودِيُّ كُلُّهُ، وَتَنْهَارُ سَمَاوَاتُهُ عَلَى أَرَاضِيهِ، وَتَهْوَى الْمَخْلُوقَاتُ جَمِيعًا فِي غِيَابَاتِ اَلْعَدَمِ؛ كَلًّا، كَلًّا، فَالرَّبُّ اَلْجَلِيلُ لَا يَنَامُ. • يقول - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعَهُ، يُرفَع إِلَيْهِ عملُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وعَمل النَّهَارَ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابَهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرِقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» الحديث. ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَسُبْحَانَهُ مِنْ مَلَكٍ عَظِيمٍ. • وَهُنَا مَلْمَحٌ مُهِمٌّ: فَإِنَّ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُفِيدَةِ هُنَا أَنَّ كُلَّ نَفْيٍ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾؛ فَهَذَا النَّفْيُ يَتَضَمَّنُ ثُبُوتَ كَمَالٍ ضِدَّ الْمَنْفِيِّ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَالنَّفْيُ عَنْ اللَّهِ السِنَّةُ وَالنَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِكَمَالِ ضِدِّهَا، وَهِيَ كَمَالُ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ وَقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ بَرَاهِينِ وُجُوبُ تَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ. وَالْعَبْدُ حِينَ يَقْرَأُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾؛ فَإِنَّهُ يَجِدُ جَمَالَ الْأَمَانِ فِي نَفْسِهِ، يرتفعُ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالْقَلَقُ، يطمئنُ إِلَى تَدْبِيرِ اللَّهِ، فَيَسْتَشْعِرُ الْعَبْدُ عَظَمَةَ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ أَبَدًا، يُدَبِّرُ أَمْرَ مَمْلَكَتِهِ سَرْمَدًا، مَتَى مَا رَفَعَ الْعَبْدُ يَدَيْهِ طَلَبَ وَوَجَدَ، وَدَعَا فَسَمِعَ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ عَظِيمٍ لَا تَأْخُذُهُ سِنة وَلَا نَوْمٌ. وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ الْعَاشِرُ: له ما في السماوات وما في الأرض برهان من براهين التوحيد محمد بن سند الزهراني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.• وَمِنْ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ؛ قَوْلُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿ لهُ ما فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ [البقرة:255]، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ بِمَثَابَةِ الْمِفْتَاحِ لِكُنُوزِ الْمُلْكِ، اللَّهُ هُوَ الْمَالِكُ سُبْحَانَهُ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَمَا سِوَاهُ لَا يَمْلِكُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. • قال تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ [سبأ:22]. • إِنَّ مُلك اللَّهِ الْعَظِيمَ مُحِيطٌ بِكُلِّ الْعَالَمِينَ، مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَاَللَّهُ وَحْدَهُ تَعَالَى الْمَالِكُ الْخَالِقُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَهَذَا الْبُرْهَانُ الْعَظِيمُ السَّاطِعُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بِيَدِهِ الْعَطَاءُ وَالْمَنْعُ وَالْخَفْضُ وَالرَّفْعُ؛ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ. إِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ يَجْرِي مِنْ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الِاسْتِغْنَاءُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ عَنْ سَائِرِ خَلْقِهِ، وَالثِّقَةُ فِي عَظَمَةِ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَسِعَةِ غِنَاهُ، وَهُوَ وَاَللَّهِ دَوَاءٌ لِلْعَبْدِ الْمُسْتَجِيرِ بِمَوْلَاهُ، فلا يَخَافَ إلَّا اللَّهَ، وَلَا يَخْشَى إلَّا اللَّهُ، وَلَا يَتَوَكَّلَ وَلَا يَسْتَعِينَ وَلَا يَسْتَغِيثَ إِلَّا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَيَنَامُ الْعَبْدُ قَرِيرَ الْعَيْنِ، كَيْفَ لَا! وَهُوَ فِي كَنَفِ اللَّهِ وَمُلْكِ اللَّهِ وَسُلْطَانِ اللَّهِ، فَلْتَهْنَأْ قُلُوبُ الْمُوَحِّدِينَ بِهَذِهِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ؛ ﴿ لهُ ما فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾. • مَالِكٌ لِنَاصِيَةِ كُلُّ جَبَّارٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، قَاهِرٌ بِعَظَمَةِ مُلْكِهِ وَجَبَرُوتِ سُلْطَانِهِ فَوْقَ جَمِيعِ عِبَادِهِ، فَكُلُّ شَيْءٍ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَمْلُوكٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، خَاضِعُونَ لَهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، لَا مَلْجَأَ لِأَحَدٍ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا مَنَجَى لَهُ إِلَّا بِهِ، لَا مَهْرَبَ مِنْهُ وَلَا مَفَرَّ. وَعِنْدَهَا يَمْتَلِئُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحَّدِ أَمَامَ حَقِيقَةِ هَذَا الْمَعْنَى ﴿ لهُ ما فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾، يَمْتَلِئُ شُعُورًا عَمِيقًا بِسَعَادَةِ الْغِنَى الْعَالِي بِاَللَّهِ، وَمَقَامًا عَظِيمًا مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ اللَّهِ. اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبِّ الْأَرَضِينَ وَرَبِّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؛ رَبُّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقُ الْحُبِّ وَالنَّوَى، وَمَنْزِلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ؛ نَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَنْ الَّذِي يشفع عنده إلا بإذنه برهان من البراهين الدالة على توحيد الله محمد بن سند الزهراني الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ. • وَمِنْ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ؛ قَوْلُ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة:255]، وفي آياتٍ أخرى قوله سبحانه: ﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ﴾ [الأنعام:51]، وقوله سبحانه: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ﴾ [الزمر:44]. •وَجَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: لَقَدْ ظننتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَلَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَوْلَى مِنْك؛ لِمَا رَأَيْت مِنْ حِرْصِك عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ»[1]. • إِنَّ عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ قَائِمَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ، فَهِيَ مِلْكٌ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَا تُطْلَبُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تُنَالُ إلَّا بِمَنِّهِ، وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26]. وفي قوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾؛ مَعْنَاهَا: أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ يَتَجَرَّأُ عَلَى التَّدَخُّلِ عِنْدَ اللَّهِ، وَالشَّفَاعَةِ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ، اللَّهُمَّ إذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ، وَذَلِكَ لِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ رَهْبَةِ الْمُخَاطَبَةِ لله ذِي الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْعَظَمَةِ. فَإِذَا اسْتَشْعَرْتَ فِي نَفْسِكَ أَيُّهَا الْمُوَحَّدُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمُثْبَتَةَ هِيَ الشَّفَاعَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِشُرُوطِهَا؛ وَهِيَ الْإِذْنُ مِنْ اللَّهِ، وَالرِّضَا عَلَى الْمَشْفُوعِ؛ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. • هُنَا يَظْهَرُ لَكَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ؛ وَهُوَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إنَّمَا تُنَالُ بِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ كَانَ أَكْمَلَ تَوْحِيدًا كَانَ أَحْرَى بِالشَّفَاعَةِ، لَا إِنَّهَا تُنَالُ بِالشِّرْكِ كَمَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، فَيَا لِهَنَاءِ الْمُوَحِّدِينَ الصَّادِقِينَ مَعَ اللَّهِ، وَيَا لِيَقِينِهِمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ مِنْ تَحْقِيقِ الْإِخْلَاصِ. • وَبِهَذَا يَمْتَلِئُ يَقِينُ الْمُوَحَّدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ الْإِرَادَةُ الْمُطْلَقَةُ فِيمَا يَحْكُمُ وَيُرِيدُ، لَا أَحَدَ بِمَقْدُورِهِ رَدَّ قَضَاءِ اللَّهِ إِذَا قَضَى، فَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، مَاضٍ فِيهِمْ حُكْمُهُ، عَدَلٌ فِيهِمْ قَضَاؤُهُ، فَلَا فِرَارَ لِلْعَبْدِ مِنْ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا النَّجَاةُ مِنْ عِقَابِهِ إِلَّا بِعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. فَاَللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانًا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا أَخْرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، وَآخِرَ دَعْوَانَا أَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [1] أخرجه البخاري، رقم 99. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ الثَّانِيَ عَشَرَ: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم برهان من البراهين الدالة على توحيد الله محمد بن سند الزهراني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.• وَمِنْ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ؛ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾[البقرة:255]، وَرَدَّ اسْمُ اللَّهِ الْعَلِيمِ فِي الْقُرْآنِ فِي مِائَةٍ وَسَبْعَةً وَخَمْسِينَ مَوْضِعًا مِنْ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ كَقَوْلِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾[المائدة:109]، وقوله سبحانه: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾[الروم:54]، وفي قول الله - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء:70]، وورد بلفظ العالم في ثلاثة عشر موضعًا ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الأنعام:73]، يقول الله - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾ [سبأ:3]، وورد بلفظ العلام في أربعة مواضع: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة:109]. فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَحِكْمَةً، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. • قال الله - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام:59]، فَاَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِلْمِ الْمُطْلَقِ، فَهُوَ يَعْلَمُ الدَّقَائِقَ وَالتَّفَاصِيلَ وَالظَّوَاهِرَ وَالْبَوَاطِنَ، وَالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْمَعَانِيَ وَالْمَادِّيَّاتِ، وَقَدْ كَتَبَ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ، ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء:85]. وَهُنَا يَسْتَشْعِرُ الْمُوَحِّدُ مَقَامَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ لِلَّهِ،وَأَنَّ الْعَلِيمَ الْخَبِيرَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلَى، وَبِهَذَا يَحْمِلُ الْمُسْلِمُ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ الْخَالِيَةَ مِنْ الدَّعَاوَى الْجَاهِلَةِ وَالْخُرَافَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْكَهَنَةُ وَالْمُنَجِّمُونَ وَالْعَرَّافُونَ وَالدَّجَّالُونَ؛ لِتَضْلِيلِ النَّاسِ، وَالزَّعْمِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا خَفِيَ مِنْ غُيُوبِهِمْ، وَيُخْبِرُونَ السُّذَّجَ مِنْهُمْ بِمَا تُخْفِيهِ أَبْرَاجُهُمْ وَأَيَّامُهُمْ الْمُقْبِلَةُ، فَالْآيَةُ كاسِمَةٌ لِهَذَا الْجَهْلِ الْمُبِينِ. إِنَّ مَقَامَ التَّوْحِيدِ بِمَا يَحْمِلُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ عَقِيدَةٍ صَادِقَةٍ،وَإِيمَانُهُمْ بِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ؛ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، يُورِثُ هَذَا الْعِلْمَ الْخَشْيَةَ مِنْ اللَّهِ، وَيُوجِبُ مُرَاقَبَتَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِعِلْمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَتَحْتَ سُلْطَانِهِ، وَيُوجِبُ مَحَبَّتَهُ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْعِلْمِ مَحْبُوبٌ لِلنُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ التَّوَّاقَةِ، وَيُوجِبُ مَحَبَّةَ الْعِلْمِ وَالسَّعْيَ فِيهِ وَتَحْصِيلَهُ، وَالتَّلَذُّذَ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ، وَيَكْرَهُ الْجَهْلَ وَالْجُهَلَاءَ، فَعِلْمُ الشَّرِيعَةِ وَالْوَحْيَ وَالْآخِرَةِ مَحْبُوبٌ؛ لِأَنَّهُ يُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ بِهِ وَالْقُرْبَ مِنْهُ، وَمَعْرِفَةَ مَا يُرِيدُ، وَمَا يُحِبُّ، وَمَا يَكْرَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. إِنَّ الْإِيمَانَ بِهَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ يُولَدُ فِي النَّفْسِ تَسْلِيمًا؛ لِمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ فِي كَوْنِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن:11]. وَالْعَبْدُ يُبْتَلَى فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ، فَتُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسْلَمُ، فَالْإِيمَانُ بِالرَّبِّ الْعَلِيمِ يَجْعَلُ الْعَبْدَ أَقْرَبَ إِلَى رَبِّهِ وَأَكْثَرَ اسْتِشْعَارًا بِمَعِيَّتِهِ. وَهُوَ العليمُ أَحَاطَ عِلْمًا بِالَّذِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في الكونِ مِنْ سِرٍّ ومنْ إِعْلانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبكلِّ شَيْءٍ عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قاصي الأمور لديهِ مثل الداني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا جهل يسبق علمهُ كلا ولا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ينسى كما الإنسان ذو نسيان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ الثَّالِثَ عَشَرَ: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ برهان من براهين التوحيد محمد بن سند الزهراني الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ. ♦ قال الله - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [البقرة:255]؛ بُرْهَانٌ آخَرُ مِنْ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا، يَقِفُ الْمُوَحِّدُ الصَّادِقُ مَوْقِفَ الْإِجْلَالِ لِلَّهِ، مَهْمَا بَلَغَ مِنْ الْعِلْمِ وَالِاخْتِرَاعِ، فَلَا عُلُومَ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا وَهِيَ مَنٌّ مِنْ اَللَّهِ وَهُدًى مِنْهُ تَعَالَى، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ هَدَى الْبَشَرِيَّةَ إلَيْهِ لَظَلَّتْ فِي ضَلَالِهَا الْقَدِيمِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ؛ يَقِينًا ثَابِتًا وَإِيمَانًا صَادِقًا. ♦ قال الله - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾؛ إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُقِرُّونَ مَصُونَ، مَصُونٌ بِعِزَّتِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَحِجَابِ سُلْطَانِهِ، فَلَا أَحَدَ يَنَالُ مِنْهُ شَيْئًا؛ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنًا مِنْهُ تَعَالَى وَفَضْلًا، فَكُلُّ الْمَعَارِفِ الْبَشَرِيَّةِ؛ سَوَاءٌ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ أَوْ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ الْكُشُوفَاتِ وَالِاخْتِرَاعَاتِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَجَالَاتِ وَالْمَيَادِينِ كُلِّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا هَيَّأَ لِلْإِنْسَانِيَّةِ مِنْ سُنَنِ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْخِيرِ، فَأَعْمَارُ الْبَشَرِ عَلَى مَقَادِيرَ مَعْلُومَةٍ عِنْدَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، مَضْبُوطَةً بِإِرَادَتِهِ، لَا شَيْءَ مِنْهَا يَزِيدُ أَوْ يَنْقُصُ عَمَّا حَدَّهُ تَعَالَى لَهُمْ؛ سَوَاءٌ فِي مِقْدَارِهِ أَوْ فِي أَجَلِهِ. إِنَّ مَا نُشَاهِدُهُ فِي زَمَانِنَا هَذَا مِنْ السُّرْعَةِ فِي الِاكْتِشَافَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالتِّقْنِيَّةِ؛ يَبْنِي الْمُوَحِّدُ الْعَارِفُ بِاللَّهِ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى حَقِيقَةٍ رَاسِخَةٍ وَيَقِينٍ تَامٍّ؛ إِنَّمَا هُوَ قَدْرٌ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ، وَعَطَاءٌ مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ؛ مَحْكُومٌ بِإِرَادَةِ اللَّهِ، لَا يَزِيدُ عَمَّا قَدَّرَهُ، وَلَا يُنْقِصُ شَيْئًا. • وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ؛ فعَجزُ الْمَخْلُوقِ وقصور عِلْمِهِ وَمَحْدُودِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا الْقَلِيلُ؛ إِذْعَانٌ بِمَقَامِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:85]. إِنَّ بَرَاهِينَ التَّوْحِيدِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَاضِحَةٌ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ: فَأَوَّلُهَا: خُرُوجُهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا؛ ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل:78]. ثَانِيًا:هَذَا الْعِلْمُ الْمُتَرَاكِمُ فِي سَنَوَاتِ أَعْمَارهِمْ عَائِدٌ إِلَى الضَّعْفِ وَالِاضْمِحْلَالِ؛ ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [الحج:5]. ثَالِثًا: وَفِي أَثْنَاءِ بِنَاءِ هَذَا اَلْعِلْمِ يَعْتَرِيهِ اَلْقُصُورُ وَالنِّسْيَانُ. قال الله - جَلَّ وَعَلَا -: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه:115]. وفي قوله تعالى: ﴿ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾؛ بُرْهَانٌ آخَرُ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَالْأُمُورُ كُلُّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ؛ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ انْتَ عَلَّامَ الْغُيُوبِ. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ الرَّابِعَ عَشَرَ ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ محمد بن سند الزهراني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.وَمِنْ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -:﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ [البقرة:255]؛ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ تَتَضَمَّنُ أَصْلًا عَظِيمًا مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ فِي الْإِسْلَامِ؛ أَلَا وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَمَعْنَاهُ: رَاجِعٌ إِلَى إِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَسْمَاءٍ حُسْنَى وَصِفَاتٍ عُليا، وَكَذَا مَا أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؛ مِمَّا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، ثُمَّ نَفْيِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْ ذَاتِهِ -جَلَّ جَلَالُهُ- مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْمِثَالِ، وَهُوَ مَعْنَى التَّنْزِيهِ وَالتَّسْبِيحِ. فَالْجُمَلُ الْمَنْفِيَّةُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ نَفْيٌ لِمَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ وَجْهِهِ وَكَمَالِ ذَاتِهِ سُبْحَانَهُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾، وَأَمَّا الْجُمَلُ الْمُثْبَتَةُ فَفِيهَا إِثْبَاتٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾، وقوله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾. فَهَذِهِ عَقِيدَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ الْمُتَّبِعِينَ؛ عَقِيدَةٌ سَالِمَةٌ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالتَّعْطِيلِ وَمِنْ التَّكْيِيفِ وَالتَّمْثِيلِ، فَالْكُرْسِيُّ وَالْعَرْشُ مَثَلًا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِوَجْودِهِمَا، ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾[طه:5]، ثُمَّ الْإِيمَانُ بِاسْتِوَاءِ الرَّحْمَنِ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَا يَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ اسْتِحْضَارُ الذِّهْنِ لِحَقِيقَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا لِجَوْهَرِ الْكُرْسِيِّ وَهَيْئَتِهِ، وَلَا لِكَيْفِيَّةِ اسْتِوَاءِ الرَّحْمَنِ عَلَى عَرْشِهِ. تَمَامًا كَمَا نُؤْمِنُ بِاَللَّهِ - جَلَّ جَلَالُهُ - وَبِوُجُودِهِ وَذَاتِهِ، وَلَا نَسْتَحْضِرُ لَهُ هَيْئَةً وَلَا صُورَةً، فَعِلْمُ ذَلِكَ كُلَّهُ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى:11]، وَبِهَذَا الْمَنْهَجِ السَّدِيدِ يَسِيرُ الْعَبْدُ مَعَ الدَّلِيلِ، وَيَتَعَامَلُ مَعَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَخْذِهَا بِظَاهِرِهَا، أَمَّا مَنْ يَتَجَرَّأُ عَلَى اللَّهِ فِي بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَيَصِفُ اللَّهُ بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ؛ تَعْطِيلًا وَتَشْبِيهًا وَتَمْثِيلًا وَتَكْيِيفًا؛ فَذَاكَ ظُلْمٌ وَافْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ. وَمِنْ أَجْمَلِ مَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ فِي تَقْرِيرِ تَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: (آمَنْتُ بِاَللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ، وَآمَنْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اَللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وَبِهَذَا يَمْتَلِئُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحَّدِ بِأَنْوَارِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ يَسْتَشْعِرُ عَظَمَةَ اللَّهِ، وَجَلَالُ اللَّهِ - جَلَّ جَلَالُهُ - فَالْكُرْسِيُّ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (هُوَ مَوْضِعُ قَدم الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى). قال الله عنه: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ [البقرة:255]؛ فسبحانك الله وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ الْخَامِسَ عَشَرَ ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ محمد بن سند الزهراني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.وَمِنْ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ قَوْلُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾[البقرة:255]، وَهَذَانِ بُرْهَانَانِ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ سِوَاهُ؛ بِذِكْرِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَكَمَالِ عَظَمَتِهِ، فَجَمِيعُ مَعَانِي الْعُلُوِّ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ عُلُوُّ الذَّاتِ، وَعُلُوُّ الْقَهْرِ، وَعُلُوِّ الْقُدْرَةِ، وَعُلُوِّ الْحُجَّةِ، فَهُوَ عُلُوُّ ذَاتٍ وَعُلُوُّ صِفَاتٍ؛ وَلِذَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه:5]. وَقَدْ جُبِلَتْ الْفِطْرُ عَلَى الْإِيمَانِ بِعُلُوِّهِ؛ فَلَا نَجِدُ دَاعِيًا وَلَا مُبْتَهِلًا إِلَّا يَتَوَجَّهُ بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾[الملك:16]، فَالْعُلُوُّ الْكَامِلُ لَهُ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ، وَالْعُلُوُّ الدَّائِمُ لَهُ - جَلَّ وَعَلَا. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَلَّا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ». وَمِنْ عُلُوِّهِ أَنَّ جَعْلَ الرِّفْعَةِ وَالْعُلُوَّ لِكِتَابِهِ وَلِدِينِهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ الصَّادِقِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى ﴾[طه:68]. قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ». وَمَعَ عُلُوِّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَهُوَ قَرِيبٌ مُجِيبٌ سَمِيعٌ، وَلِذَا يُنَادِيهِ الْعَبْدُ نِدَاءً خَفِيًّا، ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾ [مريم:3]، فَيَرَى فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ جُودَ اللَّهِ، وَكَرَّمَ اللَّهُ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا بُرْهَانٌ عَظِيمٌ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، فَيَكُونُ التَّوْحِيدُ إِذْعَانًا لِلَّهِ وَدُعَاءً وَرَجَاءً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَدِمْ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الْإِسْلَامِ. وفي قوله تعالى: ﴿ الْعَظِيمُ ﴾؛ إِثْبَاتِ عَظَمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ مَهْمَا عَظُمَ شَأْنُهُ فَهُوَ أَحْقَرُ أَنْ تُقَارَنَ عَظَمَتُهُ بِعَظَمَةِ مِنْ خَلْقِهِ وَأَوْجَدَهُ. جاء في الحديث القدسي قال الله تعالى: « الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمَن نازعَني واحدًا منهُما، قذفتُهُ في النَّارِ» [1]. وَمِنْ الْعُبُودِيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الِاسْمِ: أَنْ يُعَظِّمَ اَلْعَبْدُ رَبَّهُ، وَأَنْ يَذِلَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَنْكَسِرَ لِجَنَابِهِ الْعَظِيمِ، وَأَنْ يُفْرِدَهُ بِالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَالِانْكِسَارِ، وَقَدْ مَكَرَ الشَّيْطَانُ بِأَقْوَامٍ فَقَلَبُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ، وَوَقَعُوا فِي الشِّرْكِ الصُراح، وَأَخْرَجُوهُ مَخْرَجَ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ، وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ وَأَحَلُّ مِنْ أَنْ يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِغَيْرِ وَسَائِطَ وَشُفَعَاءَ وَآلِهَةٍ تُقَرَّبُ إلَيْهِ، وَهَذَا ظَنٌّ مِنْهُمْ فَاسِدٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَرِدَاهُمْ وَأَوْقَعُهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ، وَاِتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ، وَجَعْلِ الْوُسَطَاءَ أَوْ الشُّفَعَاءَ زَاعِمِينَ بذَلِكَ أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ أَحْسَنُوا بِرَبِّهِمْ الظَّنَّ لَوَحَدُوهُ حَقَّ تَوْحِيدِهِ. لَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو عِنْدَ اَلْكَرْبِ وَيَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ اَلْعَظِيمُ اَلْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» [2]. فَمِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - التَّأَلُّهَ لَهُ؛ حبًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَاسْتِحْضَارًا لِعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَاسْتِعْدَادًا لِلِقَائِهِ، وَذَلِكَ بِطَاعَةِ أَمْرِهِ وَمُبَاعَدَةِ نَهْيِهِ، وَالِاسْتِغْفَارُ عَنْ التَّقْصِيرِ، وَالِاعْتِرَافُ بِالْجَهْلِ عِنْدَهَا يَخْضَعُ الْعَبْدُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَيَسْجُدُ الْعَقْلَ وَيَسْكُنُ الْقَلْبَ وَيَسْتَسْلِمُ وَتَلِينُ الْجَوَارِحُ، وَتَنْسَاقُ الْأَبْدَانُ لِمُرَادِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -. فَاَللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانًا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ. [1] أخرجه أبو داود (4090)، وأحمد (9359) واللفظ لهما، وابن ماجه (4174) باختلاف يسير. [2] أخرجه البخاري (6346)، ومسلم (2730) باختلاف يسير. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ السَّادِسَ عَشَرَ آية الكرسي والتربية محمد بن سند الزهراني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.تُرَبِّي فِينَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ تَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ صِدْقًا وَإِخْلَاصًا، فَهِيَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا عَشْرُ جُمَلٍ جَاءَتْ جَمِيعًا لِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ، وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَمَنْ أَرَادَ لِنَفْسِهِ السَّلَامَةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابَ الرِّضَا وَالْقَبُولِ، فَلَا يُقْدِمُ عَلَى عَمَلٍ حَتَّى يَخْلُوَ لَهُ مَعَ اللَّهِ خَلْوَةً؛ يَتَحَقَّقُ فِيهَا مِنْ إِخْلَاصِ مَقْصِدِهِ وَنِيَّتِهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذَا الْمَقَامُ هُوَ سِرٌّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ، لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمُرَاقَبَةِ النَّفْسِ عَلَى الدَّوَامِ، وَتَصْفِيَتِهَا مِنْ شَوَائِبِ الْهَوَى، فَإِذَا قَامَتْ النَّفْسُ مَقَامَ صِدْقٍ مَعَ اللَّهِ لِمَدَاخِلِهَا وَمَخَارِجِهَا، ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾ [الإسراء: 80]، تَحَرَّكَ الْقَلْبُ إِلَى مَوْلَاهُ، وَارْتَقَى عَلَى حظوظ النَّفْسِ وَدَوَاعِي الْهَوَى، فَعِنْدَهَا يَفُوز القلب الصادق بِإِخْلَاصِهِ إلى محراب الْخَلْوَةِ مَعَ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ إِخْلَاصًا وَمَحَبَّةً وَرَجَاءً، فَيَصْفُو الْقَلْبَ إِلَى اللَّهِ، وَلِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذَا الْأَمْرُ يَحْتَاجُ إِلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَمُكَابَدَةٍ فِي السَّيْرِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَدَرَّجُ بِمَنَازِلِهِ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابَ الرِّضَا وَالْقَبُولِ، إِنَّ أَعْظَمَ مَا يُعِيقُ الْعَبْدَ فِي سَيْرِهِ إلَى اللَّهِ خَرَابُ قَلْبِهِ مِنْ الْإِخْلَاصِ وَمَقَامِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ، فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَجْرِي ظَاهِرُهُ عَلَى مِيزَانِ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ؛ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَصَدَقَةٍ وَحَجٍّ وَعُمْرَةٍ. لكن قلبهُ الَّذِي هو محل نظر الرب ﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88-89]؛ لَا يَصْفُو فِي كُلِّ ذَلِكَ أَوْ فِي بَعْضِهِ مِنْ الْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ الَّتِي تُعِيقُهُ، وَتَكُونُ سَبَبًا فِي حِرْمَانِهِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. فَأَهْوَاءُ الْعُجْبِ وَحُبُّ الصَّدَارَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالتَّسْمِيعِ وَالتَّلْمِيعُ مِنْ أَخَطَرِ مبطلات الأعمال؛ إِنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ تُرَبِّي فِينَا أَنْ نَجْعَلَ حَيَاتَنَا كُلَّهَا لِلَّهِ، وَنُحَقِّقُ مَعْنَى (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، حَقًّا وَصِدْقًا، وَقَدْ ظَهَرَ بِالْأَدِلَّةِ وَالْعِيَانِ أَنَّهُ لَا وُصُولَ إِلَى السَّعَادَةِ إلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ. فَالْعَمَلُ بِغَيْرِ نِيَّةِ عَنَاءٍ، وَالنِّيَّةُ بِغَيْرِ إِخْلَاصٍ رِيَاءً، ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان:23]. فَاللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأْرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. |
رد: دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني
الدَّرْسُ السَّابِعَ عَشَرَ مُشَاهَدَ وَأَسْرَارِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ فِي الْعِبَادَاتِ محمد بن سند الزهراني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.• تُرَبِّي فِينَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ مُشَاهَدَةَ أَسْرَارِهِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ، فَيَسْتَشْعِرُ الْعَبْدُ مُصَاحَبَةَ هَذَا الِاسْمِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، فَاَللَّهُ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، وَهُنَا يَسْتَيْقَنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَائِمٌ بِتَدْبِيرِ أُمُورِ الْعِبَادِ، وَأَرْزَاقِهِمْ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ؛ كَمَا أَنَّ مَنْ أَعْطَى هَذَا الِاسْمَ حَقَّهُ مِنْ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَقَدْ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ، وَانْقَطَعَ رَجَاؤُهُ مِنْ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَغْنَى عَمَّا فِي أَيْدِيهِمْ إلَى مَا فِي يَدِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَنَّ الْعِبَادَ مُفْتَقِرُونَ إلَى خَالِقِهِمْ فِي قِيَامِهِمْ وَقُعُودِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، وَفِي كُلِّ شُئُونِهِمْ؛ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَفِي حَيَاتِهِمْ وَبُعْدِ مَمَاتِهِمْ. • قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي شَرْحِ اسْمِ اللَّهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ: (فَانْتَظَمَ هَذَانِ الِاسْمَانِ صِفَاتُ الْكَمَالِ وَالْغِنَى التَّامِّ، وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ، فَكَأَنَّ الْمُسْتَغِيثَ بِهَا مُسْتَغِيثٌ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَبِكُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ مِمَّا أَوْلَى الِاسْتِغَانَةُ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ أَنْ يَكُونَا مَظِنَّةَ تَفْرِيجِ الْكُرُوبَاتِ وَإِغَاثَةِ اللَّهَفَاتِ وَإِنَالَةِ الطَّلَبَاتِ)[1] . هَكَذَا هِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ الَّتِي تُدَارَسْنَاهَا خِلَالَ هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ: • آيَةُ الْكُرْسِيِّ نَسْتَشْعِرُ فِيهَا عَظَمَةَ الْجَلِيلِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. • آيَةُ الْكُرْسِيِّ الَّتِي هِيَ حِصْنُ حَصِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ. • آيَةُ الْكُرْسِيِّ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ لَا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ. • الْآيَةُ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحٌ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ. • الْآيَةَ الَّتِي مَنْ لَزِمَ قِرَاءَتَهَا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ. • الْآيَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى. • الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى عَشْرِ جُمَلٍ كُلُّهَا تَتَحَدَّثُ عَنْ اللَّهِ. • الْآيَةُ الْمُبْتَدِئَةُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَمُخْتَتَمَةٌ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْعَظِيمِ. • الْآيَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى خَمْسِ أَسْمَاءٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ. • اَلْآيَةُ الْوَحِيدَةُ اَلَّتِي تَحَدَّثَتْ عَنْ الْكُرْسِيِّ. فَهَنِيئًا لِمَنْ حَفِظَهَا وَتَتَدَبَّرُهَا، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عَهِدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنهُ لا يغفر الذنوب إلا أنت، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ. [1] بدائع الفوائد - ط الكتاب العربي 2 /184. |
الساعة الآن : 07:31 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour