ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الحوارات والنقاشات العامة (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=49)
-   -   الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=302593)

ابوالوليد المسلم 21-03-2024 02:13 PM

الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (1)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذا المصطلح الذي ظَهَر في زمننا: "الدين الإبراهيمي"، وما تَفَرَّع عنه، مثل: "الولايات الإبراهيمية المتحدة"، متزامنًا ظهوره مع حملات التطبيع مع اليهود وكيانهم الصهيوني، والتي رتبت لها إدارة الرئيس الأمريكي -الخاسر في الانتخابات الأخيرة- "ترامب" بقيادة زوج ابنته -اليهودي- كوشنر، والذي صار له وجود متكرر في منطقتنا العربية الإسلامية؛ لتغيير بوصلة العداوة الإستراتيجية مع إسرائيل إلى وجهات عديدة داخلية بين دول المنطقة، وصراعات عديدة داخل كل دولة تقتتل فيها الشعوب والدول؛ إضافة إلى الخطر المدعم والمصنوع للشيعة ودولتهم الحديثة إيران، التي تهدف إلى نشر الدِّين الشيعي في دول المنطقة وغيرها.
وكان هذا المصطلح -ولا يزال- هادفًا إلى نسيان الهوية الإسلامية للشعوب والدول، بل وفقدان حقيقة ملة إبراهيم -عليه السلام-؛ رغم أن هذه الملة هي التي بُعث بها كل الأنبياء؛ الذين جعلهم الله من بعد إبراهيم -عليه السلام- مِن نسله، وخاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123)، بل هو -صلى الله عليه وسلم- الذي أظهرها في العالم، ونشرها على حقيقتها في كل مكان، بعد أن حصرها اليهود في أنفسهم بظنهم أنهم شعب الله المختار، وكذا النصارى.
فبيَّن الله -تعالى- عدم صحة انتساب الطائفتين إلى إبراهيم -عليه السلام-، فقال -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:67-68).
وإن مِن أعجب ما يتعجب منه المرء أن يُستعمل هذا الاصطلاح حاليًا -عند مَن أنشأه- في ضد المعنى الأساسي الأكبر الذي قامت عليه ملة إبراهيم، وهو التوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من كل ما يُعبد من دونه، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف:26-28).
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هي كلمة لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته مَن يقولها".
وقال الله -عز وجل-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَن َّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4).
والقوم إنما يريدون استعماله في اختراع دين جديد، يزعمون فيه تساوي الأديان على تناقضها واختلافها؛ بزعم اجتماعها في تعظيم شخص إبراهيم -عليه السلام-، وهذا يقتضي الجمع بين المتناقضين: بين عبادة الله، وعبادة غيره، وتصحيح هذين المتناقضين، وكذا يقتضي الجمع بين الإيمان برسالة عيسى ومحمد -صلى الله عليهما وسلم- وبين تكذيبهما، وتصحيح هذين النقيضين.
وفي شأن عيسى -صلى الله عليه وسلم- الجمع بين اعتقاد نبوته وبين اعتقاد ألوهيته وبنوته لله، وبين اعتقاد أنه ابن زنا -والعياذ بالله-، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا! سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقد جعل الله -عز وجل- اتهام مريم بالفاحشة كفرًا، فقال -تعالى- عن بني إسرائيل: (وَبِكُفرِهِم وَقَولِهِم عَلى مَريَمَ بُهتانًا عَظيمًا) (النساء:156)؛ فهذا الدِّين الجديد يقتضي تصحيح كل هذه المتناقضات!
والهدف من هذا الدين الإبراهيمي الجديد في حقيقة الأمر: تحقيق تبعية دول المنطقة كلها للكيان الإسرائيلي؛ الأقرب في زعمهم إلى إبراهيم ووراثته، فينبغي أن يدين الجميع لهم بالتبعية، والإقرار لهم بالرياسة، والاعتراف بتقدمهم وتفوقهم العسكري، والاقتصادي، والإعلامي والتكنولوجي دون منازعة، بل ضرورة تسليم القيادة لهم رغم تعصبهم الشديد لقوميتهم القائمة على الدين، ودولتهم الدينية الوحيدة التي تجمع شتات اليهود في العالم على اختلاف قومياتهم وألسنتهم وأوطانهم؛ فهي الدولة الوحيدة في العالم التي جُعل الدين فيها قومية؛ فمَن أقرَّ لهم بهذه القيادة قرَّبوه وأدنوه ورفعوه، ومَن نازعهم في ذلك حاربوه وعادوه، وحاولوا إهلاكه.
والعجب أيضًا: أن أناسًا ينتسبون إلى القومية العربية وإلى الوطنية -على اختلاف أوطان المسلمين- ينادون بهذا المصطلح، ويسعون لتطبيق هذا المشروع من الاتحاد؛ الذي معناه فقدان هوية أوطانهم، بل فقدان معالم هذه الأوطان وحدودها أصلًا، ومعالم هذه القومية بالكلية، والذوبان في ملك اليهود، كما يزعم اليهود أنهم المقصودون بقول نوح -عليه السلام- في روايتهم لكتابهم المقدس: "أن يكون أبناء حام ويافث عبيد العبيد لأبناء سام!"، مع أن العرب يشاركونهم في السامية؛ إلا أنها غير معتبرة عندهم، ولا عند أي دول العالم الغربي وثقافاته المختلفة.
وقد أحببت أن أوضح في هذه السلسلة من المقالات حقيقة دين إبراهيم -عليه السلام- الذي هو دين الأنبياء جميعًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالْأَنْبِيَاء ُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) (متفق عليه).
وحقيقة هذا الدِّين واضحة وضوح الشمس في آيات القرآن، وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تحتمل لبسًا ولا شَكًّا؛ إلا لجاهلٍ بها، أو منافقٍ لا يؤمن بالقرآن ولا بالرسول -عليه الصلاة والسلام-، ولا يحتاج الأمر إلى كبير تأمل أو استعداد لجدال في دلالة الآيات، والأحاديث على حقيقة هذا الدين؛ فإنها واضحة الدلالة بحكم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو السراج المنير؛ ولكن تحتاج إلى تدبر ومعرفة تفسيرها السهل الميسر؛ لتستقر في القلوب وتهيئها لأعظم مهمة خُلِق من أجلها الإنسان، قال -تعالى-: (وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ) (الذاريات:56)، وقال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 161-163).
وبجمع هذه الآيات والأحاديث التي تتحدث عن ملة إبراهيم ودين إبراهيم ودعوة إبراهيم، وصفاته وأخلاقه وأحواله؛ يتضح لكل مسلم -بل لكل عاقل- أنه لا سبيل لاتباع ملة إبراهيم إلا باتباع ملة محمد -صلى الله عليه وسلم- والإيمان به، كما قال الله -تعالى-: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:156-157).
ولولا عِظَم هذه المسألة وأهميتها لما دعا بها إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- أثناء بناء الكعبة، قال -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة:127-129).
ولَمَا بشَّرتْ بها التوراةُ -أعني نبوة محمد صلى الله عليه وسلم- كما قال الله -تعالى-: (الَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَعرِفونَهُ كَما يَعرِفونَ أَبناءَهُم وَإِنَّ فَريقًا مِنهُم لَيَكتُمونَ الحَقَّ وَهُم يَعلَمونَ) (البقرة:146)، وبشَّر المسيح -عليه السلام- مُصرحًا باسم النبي الأمي أحمد -صلى الله عليه وسلم-، كما قال الله -تعالى-: (وَإِذ قالَ عيسَى ابنُ مَريَمَ يا بَني إِسرائيلَ إِنّي رَسولُ اللَّهِ إِلَيكُم مُصَدِّقًا لِما بَينَ يَدَيَّ مِنَ التَّوراةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسولٍ يَأتي مِن بَعدِي اسمُهُ أَحمَدُ فَلَمّا جاءَهُم بِالبَيِّناتِ قالوا هذا سِحرٌ مُبينٌ) (الصف:6).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).
ونسأل الله التيسير إلى التمام، والإعانة منه على ما يُحب ويرضى، وعليه التكلان.




ابوالوليد المسلم 21-03-2024 02:14 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (2)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن القرآن العظيم قد بيَّن دين إبراهيم وملة إبراهيم -عليه السلام- بيانًا شافيًا كافيًا، في مواطنَ كثيرةٍ مِن القرآن الكريم، وقد بلغ عدد الآيات التي ذُكر فيها إبراهيم -عليه السلام- ثلاثًا وستين آية، وإن تلاوة الآيات مع معرفة تفسيرها وتدبرها لمن أعظم الأمور أهمية في هذا الوقت الذي يحاول فيه البعض التلبيس على الناس في حقيقة الملة الإبراهيمية.
ولنبدأ أولًا في ذكر الآيات، ثم نذكر بعد ذلك تفسيرها وما فيها مِن أنواع العلوم؛ ففي سورة البقرة اثنتا عشرة آية:
- قال الله -عز وجل-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تقبلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:124-127).
- وقال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة:130).
- وقال الله -تعالى-: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:132-133).
- وقال الله -تعالى-: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:135-136).
- وقال الله -تعالى-: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:140).
- وقال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
- وقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).
وفي سورة آل عمران سبع آيات:
قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران:33).
- وقال الله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (آل عمران:65).
- وقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:67-68).
- وقال الله -تعالى-: (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:84).
- وقال الله -تعالى-: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران:95).
- وقال الله -تعالى-: (فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (آل عمران:97).
وفي سورة النساء ثلاث آيات:
- قال الله -تعالى-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (النساء:54).
- وقال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء:125).
- وقال الله -تعالى-: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) (النساء:163).
وفي سورة الأنعام خمس آيات:
- وقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:74-75).
- وقال الله -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام:83).
- وقال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:161).
- وقال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (الأنعام:70).
وفي سورة التوبة آيتان:
- وقال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (التوبة:70).
- (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة:114).
وفي سورة هود ثلاث آيات:
- قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود:74-76).
- وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (هود:69).
وفي سورة يوسف آيتان:
- قال الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف:6).
- وقال الله -تعالى-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف:38).
وفي سورة إبراهيم آية:
- قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم:35).
وفي سورة الحجر آية:
-قال الله -تعالى-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) (الحجر:51).
وفي سورة النحل آيتان:
- قال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:120).
- وقال الله -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123).
وفي سورة مريم ثلاث آيات:
- قال الله -تعالى-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) (مريم:41).
- وقال الله -تعالى-: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (مريم:46).
- وقال الله -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم:58).
وفي سورة الأنبياء أربع آيات:
- قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) (الأنبياء:51).
- وقال الله -تعالى-: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء:60).
- وقال الله -تعالى-: (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء:62).
- وقال الله -تعالى-: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69).
وفي سورة الحج ثلاث آيات:
- قال الله -تعالى-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج:26).
- وقال الله -تعالى-: (وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ) (الحج:43).
- وقال الله -تعالى-: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78).
وفي سورة الشعراء آية:
- قال الله -تعالى-: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ) (الشعراء:69).
وفي سورة العنكبوت آيتان:
- قال الله -تعالى-: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (العنكبوت:16).
- وقال الله -تعالى-: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ) (العنبكوت:31).
وفي سورة الأحزاب آية:
- قال الله -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (الأحزاب:7).
وفي سورة الصافات ثلاث آيات:
- قال الله -تعالى-: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ) (الصافات:83).
- وقال الله -تعالى-: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ) (الصافات:104).
- وقال الله -تعالى-: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (الصافات:109).
وفي سورة "ص" آية:
- قال الله -تعالى-: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (ص:45).
وفي سورة الشورى آية:
قال الله -تعالى-: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى:13).
وفي سورة الزخرف آية:
- وقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) (الزخرف:26).
وفي سورة الذاريات آية:
- قال الله -تعالى-: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) (الذاريات:24).
وفي سورة النجم آية:
- قال الله -تعالى-: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37).
وفي سورة الحديد آية:
- قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:26).
وفي سورة الممتحنة آية:
- قال الله -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4).
وفي سورة الأعلى آية:
- قال الله -تعالى-: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (الأعلى:19).





ابوالوليد المسلم 21-03-2024 02:15 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (3)




قصة بناء الكعبة (1)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن ارتباط الكعبة بإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ثم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- له أهمية عظيمة ببيان الدين الحق الذي هو دين إبراهيم ودين محمد -صلى الله عليهما وسلم-؛ لأن الكعبة هي أول بيت بُني لعبادة الله في الأرض، قال -عز وجل- (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96)، بناه إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-.
وهو البيت الذي جعله الله قِبْلةً لآخِر الأمم ولآخِر الزمان خلافًا للأمم السابقة من بني إسرائيل التي كانت قبلتهم لبيت المقدس، الذي بناه أيضًا إبراهيم -عليه السلام- أو إسحاق أو يعقوب -عليهما السلام-؛ إذ بيْن بناء الكعبة وبين بناء المسجد الأقصى أربعون عامًا، كما في حديث أبي ذر -رضي الله عنه- في صحيح مسلم: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أوَّلُ؟ قالَ: (المَسْجِدُ الحَرامُ) قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: (المَسْجِدُ الأقْصى)، قُلتُ: كَمْ بيْنَهُما؟ قالَ: (أرْبَعُونَ سَنَةً).
وهذا الأمر له إشارات في الكتب المتقدمة في تحوُّل المدينة المقدسة من القدس إلى المدينة المقدسة الجديدة "مكة المكرمة"، وهذا لِيَدُلَّنا على أن دين إبراهيم والحجَّ إلى بيت الله الحرام سيكون في آخر الزمان حول الكعبة المشرفة، وعند الأمة التي تعظمها "وهي الأمة الإسلامية" التي هي الأمة العظيمة التي بشَّر الله إبراهيم في إسماعيل أن يجعل مِن ذريته أمة عظيمة لا غيرها؛ إذ لا عظمة للعرب أصلًا بعد إسماعيل -عليه السلام- إلا بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجهم الله به مِن الظلمات إلى النور.
فلن يكون دين إبراهيم أبدًا إلا باتِّباع القِبلة التي بناها، وعظَّمها الله ببنائه هو وابنه إسماعيل إيَّاها، وإسماعيل هو أبو الأمة العظيمة أمة الإسلام، قال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة:124-130).
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "يقول -تعالى- مُنبهًا على شرف إبراهيم خليله -عليه السلام-، وأن الله -تعالى- جعله إمامًا للناس يُقتدَى به في التوحيد؛ حين قام بما كلَّفه الله به من الأوامر والنواهي.
ولهذا قال: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين؛ اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، أي: اختباره له بما كلَّفه به من الأوامر والنواهي. (فَأَتَمَّهُنَّ) أي: قام بهن كُلِّهن، كما قال -تعالى- (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم: 37)، أي: وَفَّى جميع ما شُرع له، فعمل به -صلوات الله عليه وسلامه-، وقال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:120-123)، وقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:161)، وقال -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:67-68).
وقوله -تعالى-: (بِكَلِمَاتٍ) أي: بشرائع وأوامر ونواهٍ، فإن الكلمات تطلق ويُراد بها الكلمات القدرية، كقوله -تعالى- عن مريم -عليه السلام-: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم:12)، وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله -تعالى-: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) (الأنعام:115)، أي: كلماته الشرعية -(قلتُ: والصحيح أن قوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا): تشمل الكلمات الشرعية والكلمات الكونية أيضًا؛ فإنها كلها عدل وصدق)-، وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل؛ إن كان أمرًا أو نهيًا، ومِن ذلك هذه الآية الكريمة: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) أي: قام بهن. (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) أي: جزاءً على ما فعل، كما قام بالأوامر وترك الزواجر؛ جعله الله للناس قدوة وإمامًا يُقتدَى به، ويُحتذى حذوه.
وقد اخْتُلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل -عليه السلام-؛ فرُوي عن ابن عباس في ذلك روايات، فقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: قال ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك. وكذا رواه أبو إسحاق السبيعي، عن التميمي، عن ابن عباس.
وروى عبد الرزاق أيضًا عن ابن عباس: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفَرْق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وأبي صالح، وأبي الجلد نحو ذلك.
قلتُ: وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَشرٌ منَ الفِطرةِ: قصُّ الشّاربِ، وإعفاءُ اللِّحيةِ والسِّواكُ والاستِنشاقُ وقصُّ الأظفارِ وغَسلُ البَراجمِ ونَتفُ الإبطِ وحَلقُ العانةِ وانتِقاصُ الماءِ، قالَ زَكَريّا: قالَ مُصعبٌ: ونَسيتُ العاشِرَةَ إلّا أن تَكونَ المَضمضَةُ).
قال وكيع: انتقاص الماء؛ يعني: الاستنجاء.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الفطرةُ خمسٌ: الختانُ، والاستحدادُ، وتقليمُ الأظفارِ، ونتفُ الإبطِ، وقصُ الشاربِ) ولفظه لمسلم.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) قال: عشر؛ ست في الإنسان، وأربع في المشاعر؛ فأما التي في الإنسان: حلق العانة، ونتف الإبط، والختان -وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة- وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والسواك، وغُسل يوم الجمعة. والأربعة التي في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة.
وقال داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: ما ابْتُلِي بهذا الدِّين أحد فقام به كله إلا إبراهيم، قال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) قلت له: وما الكلمات التي ابْتَلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهمًا، منها: عشر آيات في براءة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112)، إلى آخر الآية، وعشر آيات في أول سورة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون) (المؤمنون:1)، و(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) (المعارج:1)، وعشر آيات في الأحزاب: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب:35)، فأتمهن كلهن؛ فكُتبت له براءة، قال الله: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37). وهكذا رواه الحاكم، وأبو جعفر ابن جرير، وأبو محمد ابن أبي حاتم بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند به" (تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-.


ابوالوليد المسلم 22-03-2024 01:15 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (4)






قصة بناء الكعبة (2)

كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124).
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس، قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فِراق قومه في الله حين أُمر بمفارقتهم، ومحاجَّته نُمْروذ في الله حين وقَّفه على ما وقَّفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه، وصبره على قذفه إيَّاه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم، والهجرة -بعد ذلك- من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتُلِي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلمَّا مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء؛ قال الله له: (أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة:131)، على ما كان مِن خلاف الناس وفراقهم.
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشمس فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه، وابتلاه بالختان فرضي عنه، وابتلاه بابنه فرضي عنه.
وروى ابن جرير عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: إي والله، ابتلاه بأمرٍ فصبر عليه؛ ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فأحسن في ذلك، وعرف أن ربَّه دائم لا يزول، فوجَّه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما كان من المشركين، ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك، وابتلاه بذبح ابنه والختان، فصبر على ذلك.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عمَّن سمع الحسن يقول في قوله: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) قال: ابتلاه الله بذبح ولده، وبالنار، والكوكب والشمس، والقمر.
وروى ابن جرير عن الحسن في الآية قال: ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر؛ فوجده صابرًا.
وقال العَوفي عن ابن عباس: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) فمنهن قال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، ومنهن: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) (البقرة:127)، ومنهن: الآيات في شأن المَنْسك والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رُزق ساكنو البيت، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- بُعث في دينهما (قلتُ: أي: دين إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-).
وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إمامًا؟ قال: نعم. قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين، قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم. قال: وأمنًا. قال: نعم. قال: وتجعلنا مسلمين لك ومِن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال: نعم. قال: وترزق أهله مِن الثمرات مَن آمن منهم بالله؟ قال: نعم.
قال ابن أبي نُجيح: سمعته من عكرمة، فعرضته على مجاهد؛ فلم ينكره.
وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نُجيح، عن مجاهد: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) قال: ابتُلي بالآيات التي بعدها: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) قال: الكلمات: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)، وقوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وقوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125). وقوله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تقبلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:127)، الآيات، قال: فذلك كله مِن الكلمات التي ابتُلي بهنَّ إبراهيم.
قال السدي: الكلمات التي ابتلى بهنَّ إبراهيمَ ربُّه: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) (التوبة:127-129)".
وقال القرطبي -رحمه الله-: وفي الموطأ وغيره، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيِّب يقول: إبراهيم -عليه السلام- أول مَن اختتن، وأول مَن ضاف الضيف، وأول مَن استحدَّ، وأول مَن قلَّم أظفاره، وأول مَن قصَّ الشارب، وأول مَن شاب، فلمَّا رأى الشيب قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب، زدني وقارًا.
وذكر ابن أبي شيبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه، قال: أول مَن خطب على المنابر إبراهيم، قال غيره: وأول مَن برَّد البريد، وأول مَن ضرب بالسيف، وأول مَن استاك، وأول مَن استنجى بالماء، وأول مَن لبس السراويل (قلتُ: وواضح أن هذه مِن الإسرائيليات والتي قبلها؛ فتحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة).
ورُوي عن مُعاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إِنْ أتَّخذِ المنبرَ فقد اتّخذَهُ أبي إبراهيمُ، وإِنْ أتّخذِ العصا فقدِ اتّخذَها أبي إبراهيمُ". قال ابن كثير: "هذا حديث لا يثبت، والله أعلم".
ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية.
قال أبو جعفر ابن جرير ما حاصله: إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذُكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع. قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.
غَيْرَ أنَّه قد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في نظير معنى ذلك خبران: أحدهما: عن سهل بن معاذ بن أنس، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا أُخبِرُكم لِمَ سَمَّى اللهُ خليلَه: (الَّذِي وَفّى)؟! لأنَّه كان يقولُ كلَّما أصبَحَ: (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (الروم:17)، حَتَّى يَخْتِمَ الْآيَةَ. والآخر: عن أبي أُمَامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى) (النجم:37)، أَتدرونَ ما وَفّى؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: وَفّى عملَ يومِه؛ أربعَ ركعاتٍ في النَّهارِ".
ثم عقَّب ابن كثير قائلًا: ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين، وهو كما قال؛ فإنه لا تجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما، وضعفُهما مِن وجوه عديدة، فإن كُلًا مِن السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء، مع ما في متن الحديث؛ مما يدل على ضعفه. والله أعلم" (انتهى كلام ابن كثير).
قلتُ: والذي يظهر لي من هذه النقول الكثيرة التي رواها ابن كثير عن ابن جرير وغيره، أن السلف يفسرون هذه الآية بما فسروه على سبيل المثال؛ لا يقصدون الحصر والتعيين، بل كل ما ابتلاه الله به من الأوامر فهو من هذه الكلمات، والعموم أقرب.
ويجوز أن يكون بعضها من المسائل العظيمة: كالدعوة إلى التوحيد، والإلقاء في النار، والصبر على ذلك، والابتلاء بذبح الولد والابتلاء ببناء الكعبة، وكذا الختان؛ فإن هذه الأمور مِن الأمور التي تشق على أكثر الخلق، وقام بها إبراهيم -عليه السلام- على الوجه الأكمل.
وهذه التفسيرات لا تتناقض، وإن كان كما سبق أن بيَّنَّا أن بعضها مِن الأخبار الإسرائيلية التي لا دليل عليها: كمسألة اتخاذ المنبر، ولبس السراويل، وليس فيها معنى يُستفاد منه، والله أعلى وأعلم.
وأما ما ذكرنا فهو الذي فيه القدوة للخلق جميعًا بإبراهيم أبي الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
ولنا بقية في هذا المجال -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 22-03-2024 01:16 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (5)



قصة بناء الكعبة (3)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124).
قوله -تعالى-: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "لما جعل اللهُ إبراهيم إمامًا، سأل اللهَ أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته؛ فأُجيب إلى ذلك، وأُخْبر أنه سيكون مِن ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يُقتدى بهم، والدليل على أنه أُجيب إلى طلبته: قول الله -تعالى- في سورة العنكبوت: (وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (العنكبوت:27)، فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم، ففي ذريته -صلوات الله وسلامه عليه-.
وأما قوله -تعالى-: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)؛ فقد اختلفوا في ذلك، فقال خَصِيفٌ، عن مجاهد في قوله: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون.
وقال ابن أبي نُجيح عن مجاهد: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال: لا يكون لي إمام ظالم. وفي رواية: لا أجعل إمامًا ظالمًا يُقتدى به. وقال سفيان، عن منصور عن مجاهد في -قوله تعالى-: : (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال: لا يكون إمام ظالم يُقتدى به.
روى ابن أبي حاتم عن مجاهد، في قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال: أما مَن كان منهم صالحًا؛ فسأجعله إمامًا يُقتدى به، وأما مَن كان ظالمًا؛ فلا ولا نُعْمةَ عين.
وقال سعيد بن جبير: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) المراد به: المشرك، لا يكون إمام ظالم، يقول: لا يكون إمام مُشرك.
وقال ابن جريج، عن عطاء، قال: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فأبى أن يجعل من ذريته إمامًا ظالمًا. قلتُ لعطاء: ما عهدُه؟ قال: أمره.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: قال الله لإبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فأبى أن يفعل، ثم قال: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (قلتُ: أبى أن يفعل أن تكون ذريته كلهم أئمة، وإنما جعل الله الإمامة في الصالحين من ذريته).
قال محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده -ولا ينبغي أن يُوليَه شيئًا مِن أمره وإن كان مِن ذرية خليله- ومُحْسن ستنفذ فيه دعوته، وتبلغ له فيه ما أراد مِن مسألته.
وقال العَوفي، عن ابن عباس: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال: يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه فيه.
وروى ابن جرير عن ابن عباس، قال: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال: ليس للظالمين عهد، وإنْ عاهدتَه اُنْقُضْه. ورُوي عن مجاهد، وعطاء، ومُقاتل بن حيان نحو ذلك.
وقال الثوري عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: ليس لظالم عهد.
وعن قتادة، في قوله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال: لا ينال عهدُ الله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به، وأكل وعاش. وكذا قال إبراهيم النخعي، وعطاء، والحسن، وعكرمة.
وقال الربيع بن أنس: عهد الله الذي عهد إلى عباده: دينه، يقول: لا ينال دينُه الظالمين، ألا ترى أنه قال: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحَاقَ وَمَنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِيْنٌ) (الصافات:113)، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق. وكذا رُوي عن أبي العالية، وعطاء، ومقاتل بن حيان.
وقال جويبر عن الضحاك: لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا وليًّا لي يطيعني.
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن علي بن أبي طالب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال: "لَا طَاعَةَ إِلَّا في المَعْرُوفِ".
وقال السدي: "لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" يقول: عهدي نبوتي.
فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير، وابن أبي حاتم -رحمهما الله تعالى-.
واختار ابن جرير أن هذه الآية -وإن كانت ظاهرة في الخبر- أنه لا ينال عهدُ اللهِ بالإمامة ظالمًا، ففيها إعلام مِن الله لإبراهيم الخليل -عليه السلام- أنه سيوجد مِن ذريتك مَن هو ظالم لنفسه، كما تقدَّم عن مجاهد وغيره، والله أعلم. وقال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد المالكي: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكمًا، ولا مفتيًا، ولا شاهدًا، ولا راويًا" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وقال القرطبي -رحمه الله- في مسائل هذه الآية: "السابعة عشرة: قوله -تعالى-: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، الإمام: القدوة. ومنه قيل لخَيْط البناء: إمام. وللطريق: إمام؛ لأنه يُؤَمُّ فيه للمسالك، أي يُقْصَد. فالمعنى: جعلناك للناس إمامًا يأتمُّون بك في هذه الخِصَال، ويقتدي بك الصالحون. فجعله اللهُ -تعالى- إمامًا لأهل طاعته؛ فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه -والله أعلم- أنه كان حنيفًا".
وقال في المسألة المُوَفِّيَة عشرين: "قوله -تعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ): اخْتُلف في المراد بالعهد، فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه: النبوة، وقاله السدي. وقال مجاهد: الإمامة. وقال قتادة: الإيمان. وقال عطاء: الرحمة. وقال الضحاك: دين الله -تعالى-. وقيل: عهده أمره. ويُطلق العهد على الأمر، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا) (آل عمران:183)، أي: أمرنا -يعني: اليهود-. وقال: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ) (يس:60)، يعني: ألم أُقدِّم إليكم الأمر به، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي: لا يجوز أن يكونوا بمَحَلِّ مَن يُقبل منهم أوامر الله ولا يقيمون عليها، على ما يأتي بيانه بعد هذا آنفًا -إن شاء الله تعالى-.
وروى معمر عن قتادة في قوله -تعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال: لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمَن به، وأكل وعاش وأبصر.
قال الزجَّاج: وهذا قول حسن، أي: لا ينال أماني الظالمين، أي: لا أُؤَمِّنُهم من عذابي.
وقال سعيد بن جبير: الظالم هنا: المشرك. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مُصرِّف: لا ينال عهدي الظالمون، برفع الظالمون. الباقون بالنصب. (قلتُ: هذه قراءة شاذة مخالفة لرسم المصحف، لا يجوز التلاوة في الصلاة وغيرها بها)، وأسكن حمزة وحفص وابن محيصن الياء في عهدي، وفتحها الباقون.
الحادية والعشرون: استدل جماعة مِن العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون مِن أهل العدل والإحسان والفضل، مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يُنازِعوا الأمر أهله، على ما تقدَّم مِن القول فيه؛ فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل؛ لقوله -تعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي -رضي الله عنهم-، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهلُ المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحَرَّةُ التي أوقعها بهم مُسلمُ بنُ عقبة.
والذي عليه الأكثر مِن العلماء: أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى مِن الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج؛ فاعلمه.
(قلتُ: أما خروج مَن خرج مِن الأفاضل؛ فكان على ما رأوه مِن أن المصلحة راجحة في الخروج، والخروج على الظالم مبني على مراعاة المصالح والمفاسد، وقد وقع اجتهادهم خطأ منهم. وإن كان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- هو إمام وقته ومَبْغِيٌّ عليه وليس باغيًا؛ بل مَن بُويع له بعده -مِن مروان ثم عبد الملك، ومَن ولَّاهم عبد الملك كالحجاج- هم البُغاة عليه؛ ولكن قُتِل مظلومًا؛ فلما استقر الأمر لعبد الملك بن مروان صار هو الخليفة، وبايعه عبدالله بن عمر لتغلبه. وقد ذكر العلماء العلة في الصبر على طاعة الإمام الجائر -مع عدم لزوم طاعته إلا في المعروف- أنها: الحرص على الأمن، ومنع إراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء والفساد في الأرض؛ وبهذا تتفق أقوال السلف في الحقيقة؛ وإن اختلفت اجتهاداتهم في تطبيق الواقع).
الثانية والعشرون: قال ابنُ خُوَيْزِ مَنْدَاد: وكل مَن كان ظالمًا لم يكن نبيًّا، ولا خليفة، ولا حاكمًا، ولا مفتيًا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يُعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدَّم من أحكامه مُوافقًا للصواب ماضٍ غير منقوض. وقد نصَّ مالك على هذا في الخوارج والبغاة؛ أن أحكامهم لا تُنقض إذا أصابوا بها وجهًا مِن الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع، أو يخالفوا النصوص. وإنما قلنا ذلك؛ لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم يُنقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئًا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة، ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا؛ فدلَّ على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يُتعرَّض لأحكامهم.
(قلتُ: وهذا يدلُّ على أن جماهير العلماء يرون الخوارج مِن أهل الملة؛ لأنه لا نزاع في أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال).
الثالثة والعشرون: قال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: وأما أخذ الأرزاق مِن الأئمة الظلمة؛ فلذلك ثلاثة أحوال:
- إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذًا على مُوجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون مِن يد الحجاج، وغيره.
- وإن كان مُختلطًا حلالًا وظلمًا -كما في أيدي الأمراء اليوم- فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كَلِصٍّ في يده مالٌ مسروقٌ، ومالٌ جيد حلال وقد وكَّله فيه رجل؛ فجاء اللص يتصدق به على إنسان؛ فيجوز أن تُؤخذ منه الصدقة، وإن كان قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق، إذا لم يكن شيء معروف بنهب، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحًا لازمًا -وإن كان الورع التنزه عنه-، وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها، وإنما تحرم لجهاتها.
- وإن كان ما في أيديهم ظلمًا صراحًا؛ فلا يجوز أن يُؤخذ مِن أيديهم. ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبًا -غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب- فهو كما لو وُجِد في أيدي اللصوص وقُطَّاع الطريق، ويُجعل في بيت المال ويُنتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يُعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين" (انتهى مِن تفسير القرطبي).
(قلتُ: وكلام ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد في غاية الإتقان والأهمية كذلك).


ابوالوليد المسلم 22-03-2024 01:17 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (6)




قصة بناء الكعبة (4)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124).
في الآية فوائد عظيمة، منها:
1- أن سنة الله في خلقه في هذه الحياة: الابتلاء والمحنة؛ ولو كانوا أحبَّ خلقه إليه؛ فإبراهيم -عليه السلام- خليل الرحمن، والرسول -صلى الله عليه وسلم- خليل الرحمن، وهما أشدُّ الناس بلاءً؛ قال الله -تعالى-: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:2-3)، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).
وسُئِل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ فقال: (الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ مِن النَّاسِ؛ يُبْتَلى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِيْنِهِ؛ فَإِنْ كَانَ في دِيْنِهِ صَلَابَةٌ؛ زِيْدَ في بَلَائِهِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
2- ومنها: أن الإمامة في الدِّين لا تُنال إلا بالابتلاء، وكذا التمكين؛ قيل للشافعي -رحمه الله-: "أيُّهما أفضل للرجل: أن يُمكَّن أو يُبتلى؟ قال: لا يُمكَّن حتى يُبتلى".
ومَن ظن أنه ينال الإمامة في الدِّين أو التمكين في الأرض بغير ابتلاء؛ فهو كبني إسرائيل الذين قالوا موسى -لما أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وبيَّن لهم وعد الله لهم بالنصر، وأنها مكتوبة لهم-: (يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِيْنَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة:22).
فهم لا يكتفون بأن يفتحوا لهم الأبواب ويدعوهم للدخول ليدخلوا عليهم؛ بل يشترطون أن يخرجوا منها لينالوا ثمرة سهلة، بلا جهد ولا عمل، ورغم الخطة المحكمة التي قالها رجلان مِن الذين يخافون أنعم الله عليهما، قالا: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:23-24).
فإيَّاكم -أيها الدعاة- أن تكونوا أمثالهم؛ فتظنون أن اختيار الله لكم لنصرة دينه والتمكين له في الأرض يكون دون جهدٍ وابتلاءٍ ومحنةٍ؛ فلم يفعل الله ذلك لمَن هو أحبُّ إليه منكم؛ خليليه في الوجود: إبراهيم ومحمد -صلى الله عليهما وآلهما وسلم-.
3- أن الإمامة لا يَلزم أن تكون معها إقامة دولة؛ فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لم يكن رئيسًا أو ملكًا أو غلب ملوك زمانه حتى حلَّ محلهم، وهو إمام الأنبياء، وكل نبي بعده؛ فهو مِن ذريته، مُؤْتم به، يتَّبع ملته، وهو إمام للناس جميعًا يقتدون به في الخير؛ فلا يلزم للإمامة السلطة والحكم، وإن كان ذلك لا يعني سقوط وجوب إقامة الدولة والخلافة في هذه الأمة المحمدية؛ فإنها واجبة بالإجماع بعد النصوص، ولكن لا تقتصر الإمامة على السلطة، بل هؤلاء أئمة الدِّين بعد عهد الخلافة الراشدة عامتهم ليسوا حكامًا ولا خلفاء، ولا ملوكًا؛ فأئمة التابعين: كالفقهاء السبعة، وأصحاب ابن مسعود، وأصحاب معاذ، وأصحاب ابن عمر، وأصحاب ابن عباس؛ جميعهم لم يتولوا ولاية، ولا رياسة، والأئمة الأربعة، وشيوخهم وتلامذتهم؛ عامتهم لم يتولوا ولاية -حاشا عمر بن عبد العزيز- وأئمة الحديث كذلك: كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم مِن أصحاب السنن والمسانيد، لم يتولوا ولاية.
فلا تجعلوا -أيها الدعاة- همتكم وهدفكم في إمامة الحكم والسلطة التي هي غالبًا -منذ قرونٍ متطاولةٍ- إذا وُجدت؛ طَردت إمامة العلم والتربية للأمة، والتوجيه لها؛ وذلك لكي يحافِظ الملوك على مُلكهم، ويتنافسوا أيُّهم أعلى شأنًا فيها.
فاحرصوا -أيها الدعاة- على أن تكونوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى، بتعليم الناس الخير وتربيتهم وإصلاحهم -أفرادًا ومجتمعات- على سبيل الأنبياء، وارجوا أن يعلو الدِّين وأهله، ولا تحلموا أن تكونوا حكامًا وسلاطين، أو ملوكًا وروؤساء.
4- ومنها: أن الإمامة في الدِّين إنما تكون بالصبر واليقين؛ إذ صبر إبراهيم -عليه السلام- على جميع الطاعات -رغم مشقتها وصعوبتها-، وترك جميع المنهيات -ولو كانت من أعظم العوائد والتقاليد، والعلاقات الأسرية والاجتماعية-؛ فصبر على فِراق الأهل والوطن لله -عز وجل-، كما صبر على جميع الابتلاءات في الله: كالإلقاء في النار -وهو مِن أعظمها-، وتأخُّر الولد إلى الكِبَر، ثم ذبح الولد، وكذا أخذ الجبار لأهله، والختان على كِبَر السن بآلةٍ كالَّةٍ صعبةٍ؛ فصبر على ذلك كله وغيره مما ذُكر في الكتاب والسُّنة، وكل هذا مع اليقين التام، كما وصفه الله -عز وجل- فقال: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75).
وقد بيَّن الله -سبحانه- أن الإمامة في الدِّين إنما تُنال مع الصبر واليقين، فقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
واستيعاب الفضائل هو مما مدح الله به إبراهيم -عليه السلام-، فقال -تعالى-: (وَإِبْرَاهِيْمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37)، والسابقون مِن هذه الأمة هم الجامعون لخصال الخير، وليس فقط المتخصصين في نوعٍ واحدٍ منها، وفي حديث الصديق -رضي الله عنه- لما سأل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (رواه مسلم).
وكذا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ؛ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ؛ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ؛ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ؛ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) (متفق عليه).
فانظروا إلى هذه الهمة العالية، وعظموا مقاصدكم في السبق إلى أبواب الخير، واجتهدوا -يا أبناء الإسلام، ويا أبناء الدعوة- في التوفيق بين أنواع الخيرات ما استطعتم، والاستيعاب لخصال الإيمان وشعبه، ولا تقتصروا على نوعٍ واحدٍ منها؛ فإن مقصدكم في إحياء الدِّين والتمكين له في الأرض، وإعادة بناء دولته بعد اندراسها؛ لهو أشرف مقصد، فلا يتناسب معه الهمم الدنيئة، أو المقاصد الضعيفة؛ فلابد مِن محاولة الاستيعاب للفضائل أو أكثرها، جعلنا الله وإيَّاكم أئمة للمتقين.
5- ومنها: أن الرغبة في استمرار الإمامة في الدِّين، والخير في الذرية مِن بعده مِن المقاصد العظيمة التي اهتم بها الأنبياء؛ إذ طلب إبراهيم -عليه السلام- أن يكون مِن ذريته أئمة في الدِّين، وقد وصف الله -عز وجل-عباد الرحمن، فقال -سبحانه وتعالى- عن دعائهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِيْنَ إِمَامًا) (الفرقان:74).
وسُرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بسيادة الحَسَن بن علي -رضي الله عنهما-؛ وإن كان ذلك بالتنازل عن الإمامة بمعنى الحكم والسلطة؛ لينال معنى الإمامة في الصلح بين المسلمين، فقال عن الحسن: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (رواه البخاري)، وكان مِن الجزاء على ذلك عند الله -سبحانه- أن يصير المهدي في آخر الزمان مِن نسل الحسن بن علي -رضي الله عنهما-؛ يواطِئ اسمه اسم النبي -صلى الله عليه وسلم-، واسم أبيه اسم أبيه، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئتْ ظلمًا وجَوْرًا.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 23-03-2024 12:31 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (7)



قصة بناء الكعبة (5)

كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124).
مِن فوائد هذه الآية:
الفائدة الخامسة: أن الإمامة لا ينالها -بأمر الله الشرعي- ظالمٌ:
وأجمع ما قيل في ذلك قول ابن خُوَيْز مَنْدَاد المالكي: "الظالم لا يصلح أن يكون خليفة، ولا حاكمًا ولا مفتيًا ولا شاهدًا ولا راويًا".
والظلم نوعان: ظلم أكبر؛ وهو الشرك بالله، قال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ? إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13)، ولا نزاع أنه لا ينال الظالم -هذا الظلم الأكبر- أيَّ نوع من الإمامة التي ذكرها ابن خُوَيْز مَنْدَاد؛ فلا يكون خليفة ولا قاضيًا، ولا مفتيًا، ولا شاهدًا ولا راويًا، ويُرد كل ذلك منه.
والنوع الثاني من الظلم: الظلم الأصغر -وهو أشمل-؛ ظلم العبد لنفسه بالمعاصي دون الشرك؛ وهو الذي قال فيه الصحابة لما سمعوا قول الله -عز وجل-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82)، قالوا: "أيُّنا لم يظلم نفسه؟!".
وهو -الظلم الأصغر- يشمل الصغائر، وهي تُكفَّر باجتناب الكبائر، مع المحافظة على الفرائض، قال الله -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء:31)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّلَواتُ الخَمْسُ، والْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضانُ إلى رَمَضانَ، مُكَفِّراتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذا اجْتَنَبَ الكَبائِرَ) (رواه مسلم).
والكبائر وهي لا تكفر إلا بالتوبة؛ فمَن لم يتب ظلَّ حكم الظالم ملازمًا لمرتكبها؛ وبالتالي: لا يصح أن يكون إمامًا يُقتدَى به في الدِّين شرعًا، وإنما قلنا: شرعًا؛ ليخرج مِن ذلك ما يقع كونًا وقَدَرًا؛ فقد يتولى بعض الولايات في بعض الأزمان وفي بعض الأمكنة ظالمون، ولكن هذا ليس مِن شرع الله -سبحانه-، ولا يجوز فعله، وإن كان تغييره يخضع لقضية المصالح والمفاسد، ولا يمضي أمرُ الظالم إلا ما وافق الشرع.
وإن كان إدراكُ الفرق بين المطلوب شرعًا والممكن المتاح الواقع قدرًا ضروريًّا للغاية؛ وذلك أن عدم إدراك الفرق يترتب عليه: إهمال موازين القدرة والعجز، والقوة والضعف، والمصلحة والمفسدة، وعامة الفتن تقع من هذا الباب؛ فيرى بعض الناس أن المطلوب شرعًا تولية العدل هذه الولايات وعدم تولية الظالم، ولا يرون القدرة والقوة على ذلك؛ فيصطدمون بالواقع المؤلم، ويهلك في ذلك الآلاف وأكثر؛ لأنهم لم يراعوا قاعدة المصالح والمفاسد التي مِن أجلها أَمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على أئمة الجور، وقال: (فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ) (متفق عليه)، مع وجود المنكرات، وإن كان قد مَنَع مِن الرضا والمتابعة، فقال: (فَمْنَ أنَكَرَ فَقَدْ بَرِيءَ، ومَنْ كَرِهَ فقدْ سَلِمَ، ولكن مَنْ رضِيَ وتابَعَ) (رواه مسلم).
بل في الحقيقة مِن أجل هذه القاعدة شَرَع الله التدرج في أمر جهاد الكفار فمَن دونهم؛ فكان الجهاد منهيًّا عنه، قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (النساء:77)، وذلك عندما كان المسلمون مستضعفين بمكة، ثم صار مأذونًا فيه في أول قدومهم المدينة، قال الله -تعالى-: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج:39)، ثم صار مأمورًا به لمَن قاتلنا دون مَن يقاتِل؛ وهو قتال الدفع، قال -تعالى-: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190)، ثم صار مأمورًا به لكل الكفار حسب القدرة والاستطاعة؛ وهو جهاد الطلب، قال -تعالى-: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (التوبة:36)، مع بقاء إعمال هذا الترتيب حسب الحاجة إليه، وحسب القدرة والمصلحة، وبقاء تشريع أنواع العهود المختلفة حسب مصلحة المسلمين.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فمَن كان في أرض هو فيها مستضعف، عمل فيها بآيات الصبر والصفح والعفو عمَّن آذى الله ورسوله، ومَن كان عنده القدرة التامة، عمل بآيات قتال المشركين كافة" (انتهى بمعناه).
ومثل الجهاد: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ هو نوع منه، فلابد مِن رعاية القدرة والعجز، والمصلحة والمفسدة؛ وإن كان هذا لا يعني زوال المطلوب شرعًا مِن قصد المكلفين وفهمهم للدِّين، وتبليغهم لغيرهم -الدِّين- مِن الأجيال القادمة؛ فلا يتغير المطلوب شرعًا بالعجز عنه؛ بل يَظلُّ معلومًا ومنقولًا للأجيال؛ حتى يأتي الحين الذي يتمكَّن فيه المسلمون منه، ولا يكون أهل الحق كأهل التبديل والتحريف الذين يُشرِّعون ترك ما أمر الله به القادرين عامًّا مطلقًا؛ لعجزهم في زمنٍ مِن الأزمان عنه؛ فيُبدَّل الدِّين، ويُفقَد جيلًا بعد جيلٍ! ومِن هذا الباب العمل بهذه الآية الكريمة: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
فمَن يُشرِّع للناس تولية الظالمين دائمًا، وإهدار ما أمر الله به مِن عدم كونهم أئمة؛ بل يجعلهم كالخلفاء الراشدين في الحقوق، مع تضييعهم الواجبات؛ فيُلزِم باتِّباعهم في ترك الواجبات، وفعل المحرمات، وتشريع المخالفات؛ فالناس في هذا المقام ثلاث فِرَق:
الفرقة الأولى: نظرت إلى المطلوب شرعًا؛ دون النظر إلى القدرة والعجز، والمصلحة والمفسدة؛ فزعمت أنها تقاتِل حتى لا تكون فتنة، ويكون قتالُهم هو الفتنة: كالخوارج الذين جَمَعوا مع فساد العمل فساد الاعتقاد، وكالمُخطِئين مِن أهل السُّنة الذين خَرَجوا على الولاة؛ لظلمهم، فحدثت الفتن العظيمة، وإن كان أمرهم عند أهل السُّنة أنهم مجتهدون مخطئون لهم أجرٌ واحدٌ، مغفورٌ لهم خطؤهم، وليسوا كالخوارج كلاب النار المذمومين في الدنيا والآخرة؛ لفساد عقيدتهم، وتكفيرهم المسلمين، واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم؛ فمَن جعل طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص والحسين بن علي -رضي الله عنهم-، وسعيد بن جبير ومَن معه -رحمهم الله- وأمثالهم كالخوارج في الذمِّ؛ فقد ابتدع بدعة ضلالة، وسوَّى بين ما فرَّق بينه أهل السنة؛ رغم وجود القتال.
والفرقة الثانية: نظرت إلى الواقع دون المشروع؛ فجعلت الظلم عدلًا، والفساد صلاحًا، وبدَّلت الشرع؛ إرضاءً للظالمين، وحَللوا وحَرَّموا على أهوائهم؛ فصاروا أعظم فتنة مِن الفرقة الأولى، وعظم ضررهم في تحريف الكتاب، وتبديل الدِّين على أجيالٍ تلو أجيالٍ.
والفرقة الثالثة: جمعت في نظرها بين معرفة الشرع المطلوب -فحكمتْ به حكمًا عامًّا مطلقًا- وبين الواقع المقدَّر والمقدور عليه، والمعجوز عنه؛ فراعت المصالح والمفاسد، ولم تأمر في الواقِع المعين إلا بالممكن المقدور المتاح الذي يترتب عليه تحصيل أكبر قدرٍ مِن المصالح -وإن فات بعضها-، ودفع أكبر قدرٍ مِن المفاسد -وإن احْتُمِل بعضها-؛ مع بقاء الأمر العام المطلق هو الموافِق للشرع؛ فلم يفتنوا الناس، ولم يبدِّلوا الدِّين، ولا حَرَّفوا الكتاب، وهؤلاء هم أهل الحق مِن أهل السُّنة والجماعة.
نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا منهم، وأن يلحقنا بهم صالحين.


ابوالوليد المسلم 23-03-2024 12:33 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (8)



قصة بناء الكعبة (6)

كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبعد أن ذكر الله -تعالى- أنه جعل خليله إبراهيم -عليه السلام- إمامًا للناس -ومَن كان مِن ذريته عادلًا غير ظالم-؛ ذكر -سبحانه وتعالى- قصة بناء الكعبة المُشَرَّفة قِبلة إمام البشرية كافة، وأمته إلى آخر الزمان، وخير الخليقة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وهذا تمهيدًا لنسخ القبلة مِن بيت المقدس إلى استقبال الكعبة؛ فقال -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال العوفي عن ابن عباس: قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) يقول: لا يقضون منه وطرًا؛ يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) يقول: يثوبون. رواهما ابن جرير. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) قال: يثوبون إليه ثم يرجعون.
قال: وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبير في رواية وعطاء، ومجاهد، والحسن، وعطية، والربيع بن أنس، والضحاك، نحو ذلك.
وروى ابن جرير عن عبدة بن أبي لبابة، في قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرًا.
وعن ابن زيد: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) قال: يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه، وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى، أورده القرطبي:
جعل البيت مثابًا لهم ليس مـنه الدهر يقضون الوطر
وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة، وقتادة، وعطاء الخراساني: (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) أي: مجمعًا.
(وَأَمْنًا) قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمنًا للناس.
وقال أبو جعفر الرازي عن أبي العالية: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) يقول: أمنًا مِن العدو، وأن يحمل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يُتخطف الناس من حولهم، وهم آمنون لا يُسْبَون.
وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، قالوا: مَن دخله كان آمنا.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله -تعالى- يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا مِن كونه مثابة للناس؛ أي: جعله محلًّا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا ولو ترددت إليه كل عام؛ استجابة من الله -تعالى- لدعاء خليله إبراهيم -عليه السلام- في قوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) إلى أن قال: (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (إبراهيم:37-40).
ويصفه -تعالى- بأنه جعله أمنًا؛ مَن دخله أَمِن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يَلْقَى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له، كما وصفها في سورة المائدة بقوله -تعالى-: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (المائدة:97)، أي: يرفع عنهم بسبب تعظيمها السوء كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولًا، وهو خليل الرحمن -"قلتُ: بل الشرف؛ لأن الله شَرَّفه وحرمه قبل أن يخلق الناس، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ) (متفق عليه)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) (رواه البخاري)"- كما قال -تعالى-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) (الحج:26)، وقال -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 96-97).
وفي هذه الآية الكريمة نبَّه -تعالى- على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده، فقال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة:125)، وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام: ما هو؟ فروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قال: مقام إبراهيم: الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك.
وروى أيضًا عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فقال: سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكره هاهنا -أي: في هذه السورة-، فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد -يعني الحجر الذي عليه القبة الصغيرة الصفراء-، ثم قال: و(مَقَام إِبْرَاهِيمَ) يُعَدُّ كَثِير، (مَقَام إِبْرَاهِيمَ) الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف، وصلاتان بعرفة (الظهر والعصر)، والمشعر، ومنى، ورمي الجمار، والطواف بين الصفا والمروة. فقلت: أفسره ابن عباس؟ قال: لا، ولكن قال: مقام إبراهيم: الحج كله. قلتُ: أسمعت ذلك ؟ لهذا أجمع. قال: نعم، سمعته منه.
وروى سفيان الثوري عن سعيد بن جبير: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قال: الحجر مقام إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة. ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه.
وقال السدي: المقام: الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلتْ رأسه. حكاه القرطبي وضعفه، ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس -(قلتُ: والراجح الأول؛ أنه الحجر الذي كان يبني عليه إبراهيم الكعبة المشرفة)-.
وروى ابن أبي حاتم عن جابر يحدِّث عن حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لما طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له عمر: هذا مقام أبينا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله -عز وجل-: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) -(قلتُ: هذا لا يثبت؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثبت في الصحيح أنه صَلَّى الركعتين مباشرة عقب طوافه)-.
وروى عثمان بن أبي شيبة عن أبي ميسرة قال: قال عمر: قلت: يا رسول الله، هذا مقام خليل ربنا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) -(قلتُ: والذي يظهر أن هذا كان سابقًا على حجة الوداع)-.
وروى ابن مردويه عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مرَّ بمقام إبراهيم، فقال: يا رسول الله، أليس نقوم بمقام خليل ربنا؟ قال: بلى. قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرًا حتى نزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).
وروى ابن مردويه عن جابر قال: لما وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم، قال له عمر: يا رسول الله، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)؟ قال: نعم. قال الوليد: قلت لمالك: هكذا حدثك (وَاتَّخِذُوا) قال: نعم. هكذا وقع في هذه الرواية، وهو غريب.
وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه.
وقال البخاري: باب قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، مثابة: يثوبون يرجعون. حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب. وقال: وبلغني معاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض نسائه، فدخلت عليهن، فقلتُ: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه، فقالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءَه حتى تعظهن أنت؟! فأنزل الله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ) الآية (التحريم:5)" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 23-03-2024 12:34 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (9)




قصة بناء الكعبة (7)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ورَوَى الإمام أحمد عن أنسٍ قال: قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: وَافَقْتُ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- فِي ثَلَاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ نساءكَ يدخلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَاجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نِسَاؤُهُ فِي الْغَيْرَةِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) (التَّحْرِيمِ:?)، فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ. وقد رواه البخاري عن عمرو بن عون، والترمذي عن أحمد بن منيع، وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسندٍ آخر، ولفظ آخر، عن عمر قال: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَفِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ.
وروى أبو حاتم الرازي عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلَاثٍ -أَوْ وَافَقْتُ رَبِّي- قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ حَجَبْتَ النِّسَاءَ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَالثَّالِثَةُ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُصَلِّي عَلَى هَذَا الْكَافِرِ الْمُنَافِقِ! فَقَالَ: "إِيهًا عنك يا بنَ الْخَطَّابِ"، فَنَزَلَتْ: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (التَّوْبَةِ:??). وهذا إسناد صحيح أيضًا، ولا تعارض بين هذا ولا هذا؛ بل الكل صحيح، ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قُدِّم عليه، والله أعلم.
وروى ابن جريج عن جابر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعًا؛ حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).
(قلتُ: الصحيح كما في صحيح مسلم مِن حديث جابر الطويل؛ أنه قرأ الآية وهو في طريقه إلى خلف المقام، وليس بعد أن صلَّى الركعتين).
وروى ابن جرير عن جابر قال: اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الرُّكْنَ، فَرْمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَرَأَ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه، من حديث حاتم بن إسماعيل.
وروى البخاري بسنده، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ.
هذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام: إنما هو الحَجَر الذي كان إبراهيم -عليه السلام- يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجِدَار أتاه إسماعيل -عليه السلام- ليقوم فوقه ويناوله الحجارة؛ فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جدارات الكعبة، كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري. وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا؛ تعرفه العرب في جاهليتها؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ عَـلـَى قـَدَمَـيْـهِ حَـافِـيًا غَـيْـرَ نَاعِلِ
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا، كما روى عبد الله بن وهب عن أنس بن مالك قال: رَأَيْتُ الْمَقَامَ فِيهِ أَثَرُ أَصَابِعِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وإخْمَص قَدَمَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ مَسْحُ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ.
(قلتُ: ولا يُستغرب ذلك؛ فإنه لم يكن على ذلك الحجر شيء في أول الإسلام؛ بل كان يمكن نقله ولمسه مباشرة قبل أن يُبني عليه الحاجز النحاسي كالقبة الموجود الآن).
ورَوَى ابن جرير عن قتادة: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى): إنما أُمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. وقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا مَن رَأَى أثر عَقِبِه وأصابعه فيه، فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى.
قلتُ -أي: ابن كثير-: وقد كان هذا المقام مُلصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحِجْر، يُمْنَةَ الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك (قلت: أي يكون الباب بين الحجر الأسود وبين مقام إبراهيم مُلاصقًا للكعبة أمام المكان الذي هو فيه الآن بعيدًا عن الكعبة).
قال: وكان الخليل -عليه السلام- لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا -والله أعلم- أُمِر بالصلاة هناك عند فراغ الطواف، وناسَب أن يكون عند مقام إبراهيم؛ حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخَّره عن جدار الكعبة أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين؛ الذين أُمِرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اقْتَدَوْا باللَّذَين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم يُنكِر ذلك أحدٌ مِن الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-.
روى عبد الرزاق، عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا: قالوا: أول مَن نقله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
وروى عن مجاهد قال: أول مَن أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده عن عائشة -رضي الله عنها-: أن المقام كان زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزمان أبي بكر -رضي الله عنه- مُلتصقًا بالبيت، ثم أخَّره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. هذا إسناد صحيح مع ما تقدَّم.
وروى ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة -وهو إمام المكيين في زمانه-: كان المقام في سُقْعِ البيت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحوَّله عمر إلى مكانه بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إيَّاه من موضعه هذا؛ فردَّه عمر إليه.
وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. وقال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بها أم لا؟
فهذه الآثار مُتعاضِدَةٌ على ما ذكرناه، والله أعلم.
(قلتُ: والذي قالته عائشة -كما رواه البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ- أنه كان ملصقًا بالبيت؛ فهذا هو الصحيح، فليس بينه وبين البيت مسافة).
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن مجاهد: قال عمر: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)؛ فكان المقام عند البيت؛ فحوَّله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى موضعه هذا. قال مجاهد: كان عمر يرى الرأي؛ فينزل به القرآن.
قال ابن كثير: هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالِف لما تقدم من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد: أن أول مَن أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وهذا أصح من طريق ابن مردويه، مع اعتضاد هذا بما تقدَّم. والله أعلم" (انتهى من تفسير ابن كثير).


ابوالوليد المسلم 24-03-2024 01:17 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (10)




قصة بناء الكعبة (8)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد طالعتنا الأخبار خلال اليومين الماضيين بتبشير الأمم المتحدة العراق بأنه دخل التاريخ -وكأنه لم يدخله مِن قَبْل!-؛ لأن "بابا الفاتيكان" أقام لأول مرة الصلاة الإبراهيمية الجامعة لليهود والنصارى والمسلمين، بعد أن أعلن رغبته عن ذلك هناك في زيارته للعراق قَبْلها بيوم، وقال: "أريد أن نصلي جميعًا كأبناء إبراهيم".
ونحن بصدد كتابة مقالاتنا عن دين إبراهيم -عليه السلام- وتعلُّق هذا الدِّين بالكعبة المشرفة، التي بَنَاها كأول مسجد وُضع في الأرض أَوَّل لعبادة الله، كما نَصَّ عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي ذر -رضي الله عنه-، لما سأله: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً) (متفق عليه).
وهو -عليه الصلاة والسلام- الذي أَذَّن في الناس بالحج إلى بيت الله الحرام، قال الله -تعالى-: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:27-29).
وحجَّ موسى -صلى الله عليه وسلم-، كما مَرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بوادي الأزرق، فقال: (أَيُّ وَادٍ هذا؟) فقالوا: هذا وادِي الأزْرَقِ، قالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابنُ مَرْيَمَ بفَجِّ الرَّوْحاءِ، حاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُما) (رواه مسلم)؛ هذا يدل على أن الأنبياء جميعًا يَحُجُّون إلى بيت الله الحرام، فكل مَن لم يحج إلى بيت الله الحرام؛ فليس مؤمنًا ولا مسلمًا، قال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ? وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:97). فمَن أبى الحج، ولم يعترف بالكعبة المشرفة قبلة؛ فهو من الكافرين.
ونؤكِّد أن الصلاة الإبراهيمية كانت على التوحيد الخالص؛ لا الشرك بعبادة غير الله، قال الله -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 30-33).
وأن الصلاة الإبراهيمية الَحقَّة كانت على تصديق الرسل والإيمان بهم، والبشارة بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- الذي قال عن نفسه: (أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني)، قال الله -تعالى- عن إبراهيم: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (الشعراء:83-84)، وقال -عليه الصلاة والسلام- هو وابنه إسماعيل -كما ذكر الله -عز وجل- عنهما في سورة البقرة -وهما يبنيان البيت-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ > رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة:127-129).
وقد استجاب الله دعوتهما -عليهما الصلاة والسلام- ببَعْثَة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وجعل به الأمة العظيمة التي سألها إبراهيمُ ربَّه في ولده إسماعيل، كما في التوراة في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين 12: 13 عن قول الله -عز وجل- لإبراهيم: "وأما إسماعيل فقد سَمِعْتُ لك فيه، هَا أنا أُباركُه وأُثمِّره وأُكَثِّره كثيرًا جدًّا، اثني عشر رئيسًا يَلِد، وأجعله أمةً كبيرةً".
وهل وُجدت للعرب أمة عظيمة، أو دولة -أصلًا- يرأسها رؤساء، ويلي أمرها خلفاء؛ إلا بعد بَعْثَة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أخبر بمثل ما جاء في التوراة؟!
فقد روى البخاري ومسلم عن جابر بن سَمُرة -رضي الله عنهما- قال: دخلت مع أبي على النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمعته يقول: (إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمِ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً)، قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيَ عَلَيَّ، قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: (كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) (رواه مسلم). وفي رواية: (لَا يَزَالُ الإسلامُ عَزيزًا إلى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً) (رواه مسلم). وفي لفظ: (لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا مَنِيعًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً) (رواه مسلم). وفي لفظ للبخاري: (يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا).
وتفسير الحديث عند العلماء على أقوال:
منها: أنهم المستحقون للخلافة العادلون -كما ذكره النووي ورجَّحه ابن كثير-، وأنهم يكتملون إلى يوم القيامة. وهو أيضًا ترجيح القرطبي.
ومنها: أنهم اثنا عشر خليفة في زمنٍ واحدٍ. وهو أضعف الأقوال؛ لأن الأحاديث الصحيحة فيها أن كُلَّهم يجتمع الناس عليه.
ومنها: أنهم الذين اجتمع الناس عليهم وكانت الكلمة واحدة، وثَبَتَ لهم المُلك -ولو كانوا على غير العدل-؛ أولهم: الخُلَفَاء الأربعة، ثم معاوية -رضي الله عنه-، ثم يزيد بن معاوية، ثم اختلف الناس بعده حتى اجتمعوا على عبد الملك بن مروان، ثم أبناؤه الأربعة، ومنهم مَن يتوقف عند ذلك، ومنهم مَن يزيد على هؤلاء: الوليد بن يزيد؛ لأن الناس اجتمعوا عليه، ثم قتلوه؛ فتفرَّقت الأمة وحدثت الفتن.
وقيل غير ذلك.
والمقصود: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بتفصيل ما ورد في التوراة عن وعد الله لإبراهيم -عليه السلام-.
والخلاصة: أن دينَ إبراهيم -عليه السلام- الحقَّ مرتبط ارتباطًا لا ينفك عن الكعبة قِبْلة المسلمين، ومَن صلَّى لغيرها بعد بعثة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وأمر ربِّه له أن يُولِّي وجهه شطر المسجد الحرام، قال -تعالى-: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:144-145).
وكلُّ مَن آمن بالقرآن يعتقد اعتقادًا جازمًا أن مَن ولَّى وجهه في صلاته إلى غير الكعبة المشرفة؛ لم يكن مسلمًا ولا مؤمنًا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ المُسْلِمُ) (رواه البخاري).
ولا تُقبلُ صلاة لغير الكعبة التي بَنَاها إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، ولا تكون عبادة لله أصلًا؛ بل هي عبادة لغيره؛ فضلًا عن أن يُسمِّي العابدُ غيرَ اللهِ إلهًا، قال الله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 65-68).
فلا يغرَّنَّ الباطلُ أحدًا مِن المسلمين؛ فإن المقصود مما يحدث جميعًا في هذا الزَّمَان هو ضياع هُوية المسلمين وولائهم لدينهم خاصة؛ فهم المقصودون لإزالة البُعد الديني في عداوة المسلمين لليهود حول المسجد الأقصى وأرض فلسطين؛ بزعم التعايش والتسامح!
ونقول: هل فَقَدَ المسلمون التعايش والتسامح طيلة ألف وأربعمائة سنة وزيادة، حَكَموا فيها معظمَ العالم المسكون في ذلك الوقت؟!
وبقية الملل الأخرى عاش أهلُها -ويعيشون- في ظلِّ الإسلام آمنين مطمئنين حين خضعوا لسلطان الإسلام، دون مداهنة من المسلمين، أو تصحيح لعقائد الشرك والكفر، ودون أن يُصلُّوا معًا صلاة واحدة يُسمُّونها: إبراهيمة!
ولو كان المسلمون لا يتعايشون مع الكفار دون الموالاة والمداهنة لهم -التي ظهرت في هذا الزمان باسم: الدِّين الإبراهيمي، والصلاة الإبراهيمية، والولايات الإبراهيمية المتحدة، ومعبد الديانات الإبراهيمية-؛ لما وُجدَ كافرٌ واحدٌ في بلاد الإسلام مِن المغرب إلى الصين؛ فقد بقي اليهودُ في الأندلس والمغرب وتونس، وبقي الأقباط في مصر، وبقي المجوس في فارس، وبقي الهندوس والبوذيُّون في الهند.
وهذا كله مِن أدلِّ الأدلة على سَمَاحة الإسلام؛ فهم باقون إلى يومنا هذا، وهو يدل على عدم المداهنة؛ لأن المسلمين لم يَعْرِفوا قط في تاريخهم تصحيح مِلَّة مَن يُكذِّب رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ويُكذِّب القرآن، ويعبد غيرَ الله صراحة؛ فهذه المداهنة، والمولاة، والإقرار بالباطل، وتصحيح ملة غير المسلمين، تنافي أصل شهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله".
فاللهم إنا نبرأ إليك مِن كلِّ هذا الضلال، ونشهدك أننا برآء مما يعبدون؛ إلا الذي فَطَرَنا -سبحانه وتعالى-، وأننا نشهد أننا لا نرى تابعًا لإبراهيم -عليه السلام-؛ بل ولا لموسى وعيسى؛ إلا مَن صدَّق إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ونشهد أن مَن كذَّب واحدًا من هؤلاء؛ وخاصةً محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وكذَّب القرآن الذي جاء به، وأبى أن يتابعَ محمدًا على شريعة الإسلام أنه كافر مشرك غير مقبول عند الله.
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره في تفسير قوله -تعالى-: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125): "قال الحسن البصري: "قوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) أمرهما الله أن يُطهِّراه مِن الأذى والنَّجَس، ولا يصيبه من ذلك شيء. وقال ابن جريج: قلتُ لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ): أمرناه، كذا قال. والظاهر أن هذا الحرف، إنما عُدِّي بـ(إِلَى)؛ لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ) قال: مِن الأوثان.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: (طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ): إن ذلك مِن الأوثان، والرفث، وقول الزور والرجس.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن عبيد بن عمير، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء وقتادة: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ) أي: بلا إله إلا الله مِن الشرك" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 24-03-2024 01:18 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (11)




قصة بناء الكعبة (9)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا ‌بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة:125-126).
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "وقال ابن جرير -رحمه الله-: فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين. والتطهير الذي أمرهما الله به في البيت هو تطهيره مِن الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومِن الشرك". ثم أورد سؤالًا فقال: فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ وأجاب بوجهين: أحدهما: أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سنة لمن بعدهما؛ إذ كان الله -تعالى- قد جعل إبراهيم إمامًا يُقتدَى به كما قال عبد الرحمن بن زيد: (أَنْ طَهِّرَا ‌بَيْتِيَ) قال: مِن الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها.
قلتُ: -أي: ابن كثير-: "وهذا الجواب مفرَّع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم -عليه السلام-، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
الجواب الثاني: أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له، فيبنياه مطهرًا من الشرك والريب، كما قال -جل ثناؤه-: (‌أَفَمَنْ ‌أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ) (التوبة:109)، قال: فكذلك قوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا ‌بَيْتِيَ) أي: ابنيا بيتي على طُهرٍ مِن الشرك بي والريب، كما قال السدي: (أَنْ طَهِّرَا ‌بَيْتِيَ): ابنيا بيتي للطائفين.
وملخص هذا الجواب: أن الله -تعالى- أمرَ إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به، والعاكفين عنده، والمصلين إليه مِن الركع السجود، كما قال -تعالى-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ ‌مَكَانَ ‌الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج:26)، الآيات.
(قلتُ: وهذا الجواب الثاني أظهر؛ لعدم صحة دليل على عبادة الأوثان عند الكعبة، وإنما أُمِرَ أن يطهِّره مِن الشرك الذي كان موجودًا في الأرض، ولا يلزم أن يكون عند الكعبة -عند موضعها-).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد اختلف الفقهاء: أيهما أفضل: الصلاة عند البيت أو الطواف؟ فقال مالك -رحمه الله-: الطواف به لأهل الأمصار أفضل مِن الصلاة عنده، وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقًا.
(قلتُ: الأظهر أن الغُرَبَاء يكثِرون من الطواف والصلاة معًا؛ لأن الله جمعَ بين العبادات كلها بالواو، فتقتضي مطلق الجمع، والطواف بالبيت صلاة كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يخلو الزائر مِن الطواف والصلاة؛ قائمًا وراكعًا وساجدًا).
والمراد مِن ذلك: الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته، المؤسَّس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدُّون أهله المؤمنين عنه، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ ‌وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج:25).
ثم ذكر أن البيت إنما أُسس لمَن يعبد الله وحده لا شريك له؛ إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها، وركوعها، وسجودها، ولم يذكر العاكفين؛ لأنه تقدَّم (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ ‌وَالْبَادِ)، وفي هذه الآية الكريمة: ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفي بذكر الركوع والسجود عن القيام؛ لأنه قد عُلِم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام. وفي ذلك أيضًا رَدٌّ على مَن لا يَحُجُّهُ من أهل الكتابين: اليهود والنصارى؛ لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك، وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئًا مِن ذلك؛ فكيف يكونون مقتدين بالخليل، وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حج البيتَ موسى بن عمران وغيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
(قلتُ: وقد ثَبَت بالنص حج يونس بن متى، وثبت في صحيح مسلم وغيره قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابنُ مَرْيَمَ بفَجِّ الرَّوْحاءِ، حاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُما) (رواه مسلم)، فمَن لم يحج بيت الله الحرام؛ فليس مِن إبراهيم، ولا إبراهيم منه، والأنبياء جميعًا من بعده امتثلوا أمر الله -سبحانه وتعالى- بالحج ما أمكنهم ذلك).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وتقدير الكلام إذًا: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) أي: تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل، (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي: طهراه من الشرك والريب، وابنياه خالصًا لله، معقلًا للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية، ومن قوله -تعالى-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) (النور:36)، الآية.
ومِن السُّنَّة مِن أحاديث كثيرة، مِن الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك مِن صيانتها مِن الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك؛ ولهذا قال -عليه الصلاة السلام-: (إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ) (رواه مسلم).
(قلتُ: ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي الذي بال في المسجد: إن المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا القذر، إنما هي للصلاة، ولذكر الله، وتلاوة القرآن، وهو ثابت في الصحيح، فيجب تطهير المسجد الحرام وجميع المساجد مِن الرجس المعنوي بالشرك، وتكذيب الأنبياء، وتكذيب كتب الله ورسله، ومِن الشرك الحسي مِن القذارات والنجاسات، ما ينفِّر الناس عن العبادة فيها).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد اختلف الناس في أول مَن بَنَى الكعبة، فقيل: الملائكة قبل آدم. وروي نحوه عن ابن عباس، وكعب الأحبار، وقتادة، وعن وهب بن منبه: أن أول مَن بناه شيث -عليه السلام-، وغالب مَن يذكر هذا إنما يأخذه مِن كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب، ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث في ذلك؛ فعلى الرأس والعين" (انتهى باختصارٍ مِن ابن كثير).
وقد أحسن -رحمه الله- في ردِّ هذه الآثار، والذي عندنا أن مكان البيت مُحَرَّمٌ منذ خَلَقَ الله السموات والأرض؛ للأحاديث الثابتة في ذلك، وأظهر الله -عز وجل- التحريم على لسان إبراهيم هو الذي رفع القواعد من البيت، فهناك قواعد موجودة ثابتة لما بَنَى عبد الله بن الزبير الكعبة وَصَلَ في الحفر إلى صخور كأسنان الإبل متصلة بعضها ببعض ممتدة تحت مكان الكعبة الحالية، وبإضافة عدة أذرع من الحجر كما وصف النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما حاولوا كسرها أو إزالتها ارتجَّ عليهم المكان فبنوا عليها الكعبة كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بزيادة عدة أذرع من الحجر فيها، لكن هدم الحجاج بعد قتل ابن الزبير ما بناه وردها الي المساحة التي كانت عليها أيام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد تمنى عبد الملك ابن مروان لما بلغه الحديث عن عائشة -رضى الله عنها- أن يكون قد ترك ابن الزبير وما تولاه، لكن قدَّر الله وما شاء فعل. والله أعلى وأعلم.


ابوالوليد المسلم 24-03-2024 01:19 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (12)




قصة بناء الكعبة (10)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة:126).
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "رَوَى الإمام أبو جعفر بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّم بَيْتَ اللَّهِ وأمَّنَه وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا فَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا وَلَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا) (رواه مسلم).
وروى ابن جرير -أيضًا- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَلِيلَهُ وَإِنِّي عبدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّم مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، عِضَاهَها وصَيْدَها، لَا يُحْمَلُ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرَةً إِلَّا لِعَلَفِ بَعِيرٍ". و(لَابَتَيْهَا): الحجارة السُّود على طرفي المدينة، "العِضَاه": شجر البادية.
وهذه الطريق غريبة، ليست في شيء من الكتب الستة، وأصل الحديث في صحيح مسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كانَ النّاسُ إذا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جاؤُوا به إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَإِذا أَخَذَهُ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قالَ: (اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا في ثَمَرِنا، وَبارِكْ لَنا في مَدِينَتِنا، وَبارِكْ لَنا في صاعِنا، وَبارِكْ لَنا في مُدِّنا، اللَّهُمَّ إنَّ إبْراهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وإنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وإنَّه دَعاكَ لِمَكَّةَ، وإنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بمِثْلِ ما دَعاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ معهُ، قالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ له فيُعْطِيهِ ذلكَ الثَّمَرَ). وفي لفظ لمسلم: (بَرَكَةً مع بَرَكَةٍ، ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَن يَحْضُرُهُ مِنَ الوِلْدانِ).
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي طلحة: (اِلْتَمِسْ لي غُلامًا مِن غِلْمانِكُمْ يَخْدُمُنِي) فَخَرَجَ بي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَراءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كُلَّما نَزَلَ. وَقالَ في الحَديثِ: ثُمَّ أَقْبَلَ حتّى إذا بَدا له أُحُدٌ، قالَ: هذا جَبَلٌ يُحِبُّنا وَنُحِبُّهُ، فَلَمّا أَشْرَفَ على المَدِينَةِ، قالَ: (اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّمُ ما بيْنَ جَبَلَيْها مِثْلَ ما حَرَّمَ به إبْراهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بارِكْ لهمْ في مُدِّهِمْ وَصاعِهِمْ). وفي لفظ لهما: (اللَّهُمَّ بارِكْ لهمْ في مِكْيالِهِمْ، وبارِكْ لهمْ في صاعِهِمْ، ومُدِّهِمْ)، زاد البخاري: (يَعْنِي أهْلَ المَدِينَةِ).
ولهما -أيضًا- عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اللهمَّ اجْعَلْ بالمدِينَةِ ضِعْفَي ما جعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البَرَكةِ)".
ثم قال: "والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم -عليه السلام- لمكة؛ لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة، وتمسك بها مَن ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل. وقيل: إنها محرمة منذ خُلقت مع الأرض. وهذا أظهر وأقوى، والله أعلم.
وقد وردت أحاديث أخرى تدل على أن الله -تعالى- حرَّم مكة قبل خلق السماوات والأرض، كما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: (إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمه اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّهُ لَمْ يحِل الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا ساعة من نهار، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَا يُعْضَد شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا تُلْتَقَط لُقَطَتُه إِلَّا مَنْ عرَّفها، وَلَا يُخْتَلَى خَلاهَا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رسول الله، إلا الإذْخَر فإنه لقَينهم ولبيوتهم. فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ) (وهذا لفظ مسلم).
(قُلْتُ: والحديث يدل على أن تحريم مكة يوم خلق الله السماوات والأرض، وليس كما ذكر ابن كثير قبل خلق السموات والأرض. وقوله: (لَا يُعْضَد شَوْكُهُ) يعني: لا يُنزع شجر الشوك ولا يقطع. (وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ) يعني: لا يُهيَّج؛ فضلًا عن صيده، (وَلَا تُلْتَقَط لُقَطَتُه إِلَّا مَنْ عرَّفها) أي: إلى الأبد لا إلى سنة، (لَا يُخْتَلَى خَلاهَا) أي: لا يقطع حشيشها إلا الإذخر).
وروى البخارى مُعلقًا، وابن ماجة متصلًا عن صفية بنت شيبة، قالت: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ عَامَ الْفَتْحِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللهَ حرَّم مكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السماواتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُها، وَلَا يَأْخُذُ لُقَطَتَها إِلَّا مُنْشِد) فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ؛ فَإِنَّهُ لِلْبُيُوتِ وَالْقُبُورِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِلَّا الإذْخَر).
وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد -وهو يبعث البعوث إلى مكة- (يعني: الجيوش لقتال ابن الزبير): ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولًا قال به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغد من يوم الفتح، سَمِعَتْه أذناي ووعاه قلبي، وأبصَرَتْه عيناي حين تكلَّم به، إنه حَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إِنَّ مَكَّةَ حرَّمها اللهُ ولم يُحرِّمْها النَّاسُ، فلا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بها دمًا، ولا يَعْضِدُ بها شجرةً، فإن أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهدُ الغَائِبَ". فقيل لأبي شُرَيح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بخَرَبَة. رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظه".
(قلتُ: وكلام عمرو بن سعيد لأبي شريح -رضي الله عنه- يدل على قلة تعظيمه للحديث، ثم للصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ولحرمة بلد الله الحرام! فإنما يُعاقب مَن آوى إلى مكة مرتكبًا جُرمًا خارجها، بأن يُلجَأ إلى الخروج، فإذا خرج أُخذ وعُوقب بعقوبته الشرعية، وأما مَن ارتكب بها جُرمًا؛ فهو الذي لم يُراعِ حرمة الحرم؛ فيُعاقب فيها).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "فإذا عُلِم هذا؛ فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدَّالة على أن الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وبين الأحاديث الدَّالة على أن إبراهيم -عليه السلام- حرمها؛ لأن إبراهيم بلَّغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إيَّاها، وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم -عليه السلام- لها، كما أنه قد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكتوبًا عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لَمُجَنْدَلٌ في طِينَتِه، ومع هذا قال إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) (البقرة:129)، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره؛ ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ بَدْءِ أَمْرِكَ. فَقَالَ: (دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَرَأَتْ أُمِّي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نور أضاءت لَهُ قُصُورُ الشَّامِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
أَيْ: أخْبِرْنا عَنْ بَدْءِ ظُهُورِ أَمْرِكَ.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة، كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة، كما هو مذهب مالك وأتباعه؛ فيذكر في موضع آخر بأدلتها" (انتهى من تفسير ابن كثير -رحمه الله-).
قلتُ: الصحيح تفضيل مكة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي هَذَا) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمكة يوم أن خرج منها: (وَاللَّهِ إِنَّكِ، لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ، مَا خَرَجْتُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). والله أعلم.


ابوالوليد المسلم 25-03-2024 12:01 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (13)




قصة بناء الكعبة (11)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:126-128).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله -تعالى- إخبارًا عن الخليل أنه قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) أي: من الخوف، لا يَرْعَب أهلَه، وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا".
(قلتُ: أمَّا شرعًا: فمعلوم تحريم مكة بالأدلة المستفيضة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيان أن ذلك كان مِن تحريم إبراهيم لها، وهو الذي تناقله أبناؤه وذريته إلى زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى زمننا هذا، إلى يوم القيامة.
وأما قدرًا: فالأغلب الأعم فيما وقع في مكة أنها تكون آمنة؛ إلا استثناءً يسيرًا لا يقدح في هذه القاعدة؛ كزمن القتال بين الحجاج وعبد الله بن الزبير، وقد ضَرَبَ الحجاجُ مكة بالمنجنيق، ووقع شيء من حجارته داخل المسجد، بل واحترق البيت حتى بناه عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- على قواعد إبراهيم، وانتهى الأمر بمقتل عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- عند ‌الحَجُونِ بمكة مظلومًا -رضي الله تعالى عنه وغفر له-. وكزمن القرامطة الذين اقتلعوا الحجر الأسود وقتلوا الحجيج، وكزمن الواقعة التي وقعت في زمننا في عام 1400 من الهجرة المعروفة بواقعة جُهَيْمَان، التي وقع فيها اقتتال داخل المسجد، وقُتل مَن قُتل داخله وحوله.
فهذه الوقائع المعدودة وقعت عبر الزمان كله، لا تقدح في القاعدة أنه قد جعله الله -عز وجل- بلدًا آمنًا لا يرعب أهله. وكالساعة -أيضًا- التي أُحِلَّت فيها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولكنها لا تنافي حرمته؛ لأنها شُرِع فيها القتال فيه كما وَصَفَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أنها أُحِلَّت له ساعة من نهار.
ويجب على المسلمين من كلِّ الأجناس والقوميات والبلدان تعظيم حرمة مكة وعدم التعرض لأهلها أو لمقيم فيها بنوعٍ من الأذى؛ وإلَا فالله -عز وجل- يذقه مِن عذابٍ أليمٍ).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "كقوله -تعالى-: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران:97)، وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت:67)، إلى غير ذلك من الآيات. وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيها. وفي صحيح مسلم عن جابر: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ)".
(قلتُ: وهذا يدل على ضلال الجماعة الذين قاموا بأحداث الحرم عام 1400هـ؛ لأنهم حملوا السلاح بمكة وخزَّنوه في الحَرَم -ولا حول ولا قوة إلا بالله-، ثم استعملوه في قتل مَن دخل عليهم يريد إخراجهم من الحرم، الذي اعتصموا به وظلُّوا يقتلون الناس حوله. ولا حول ولا قوة إلا بالله).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال في هذه السورة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) أي: اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا، وناسَب هذا؛ لأنه قبل بناء الكعبة. وقال -تعالى- في سورة إبراهيم: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) (إبراهيم:35)، وناسب هذا هناك؛ لأنه -والله أعلم- كأنه وقع دعاءً مرةً ثانيةً بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنًا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة؛ ولهذا قال في آخر الدعاء: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم:39).
وقوله -تعالى-: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): قال أُبي بن كعب في قوله: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): هو قول الله -تعالى-. وهذا قول مجاهد وعكرمة، وهو الذي صوَّبه ابن جرير.
قال: وقرأ آخرون: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، فجعلوا ذلك مِن تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم؛ يسأل ربه أن مَن كفر فَأَمْتِعُهُ قليلًا. وعن مجاهد: "ومَن كفر فَأَمْتِعُهُ قليلًا" يقول: ومَن كفر فارزقه رزقًا قليلًا أيضًا، ثم اضْطَرُّهُ إلى عذاب النار، وبئس المصير.
وقال محمد بن إسحاق: لما عَنَّ لإبراهيم الدعوة على مَن أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعًا إلى الله ومحبته، وفراقًا لمَن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده، بخبر الله له بذلك قال الله: (ومَنْ كَفَرَ) فإني أرزق البر والفاجر، وأُمَتِّعُهُ قليلًا.
وعن ابن عباس في قوله -تعالى-: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قال: كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله: (ومَنْ كَفَرَ) أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقًا لا أرزقهم؟! أمتعهم قليلًا، ثم أَضْطَرُّهم إلى عذاب النار وبئس المصير، ثم قرأ ابن عباس: (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (الإسراء:20)، رواه ابن مردويه. وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضًا.
وهذا كقوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ . مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) (يونس:69- 70)، وقوله -تعالى-: (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) (لقمان:23-24)، وقوله -تعالى-: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (الزخرف:33- 35).
(قلتُ: فينبغي لكل عاقلٍ أن يتدبَّر هذه الآيات، وما تضمنته من المعاني العظيمة، فإن الله يعطي الدنيا لمَن أحبَّ ولمَن كره، ولكنه لا يعطي الدِّين إلا لمَن أحبَّه، فمَن أعطاه الله الدين فقد أحبَّه؛ فلا يغترن بتقلب الذين كفروا في البلاد، وما أعطاهم الله من كثرة المال، وكثرة أنواع النعيم والرخاء والتقدُّم في علوم الدنيا؛ فإنهم كما وصفهم الله لا يعلمون (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7)، وإن انكسار المسلمين أمام الأفكار الغربية؛ لأنهم أهل رزق واسع في دنياهم، وتقدُّم دنيوي؛ مِن أعظم الأمور خطرًا على المسلمين؛ فليحذر المسلمون مِن أن يتبعوا خطواتهم، فإنما هي طيباتهم عُجَّلت لهم في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة يضطرهم الله إلى عذاب جهنم وبئس المصير).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي: ثم أُلْجِئُه بعد متاعه في الدنيا وبَسْطِنا عليه من ظلِّها إلى عذاب النار وبئس المصير. ومعناه: أن الله -تعالى- يُنْظِرُهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كقوله -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (الحج:48)، وفي الصحيحين: (لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ؛ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ)، وفي الصحيح أيضًا: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) ثم قرأ قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102).
وقرأ بعضهم: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا) الآية، جعله مِن تمام دعاء إبراهيم، وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة، وتركيب السياق يأبى معناها، والله أعلم؛ فإن الضمير في (قَالَ) راجع إلى الله -تعالى- في قراءة الجمهور، والسياق يقتضيه، وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في (قَالَ) عائدًا على إبراهيم، وهذا خلاف نظم الكلام، والله -سبحانه- هو العلَّام.
وأما قوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، فالقواعد: جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول -تعالى-: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- البيت، ورفعهما القواعد منه، وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وحكى القرطبي وغيره عن أُبَي وعن ابن مسعود أنهما كانا يقرآن: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". قلتُ: ويدل على هذا قولهما بعده: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، فهما في عملٍ صالحٍ، وهما يسألان الله -تعالى- أن يتقبل منهما".
(قلتُ: قراءة أُبَي وابن مسعود كأنها قراءة تفسيرية، أو أنها كانت قراءة نُسِخَت تلاوتها. والله أعلى وأعلم).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "روى ابن أبي حاتم عن وُهَيْب بن الوَرْد: أنه قرأ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) ثم يبكي، ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يُتَقَبَّل منك!
وهذا كما حكى الله -تعالى- عن حال المؤمنين الخُلَّص في قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا) أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقُرُبَات (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) (المؤمنون:60)، أي: خائفة أن لا يتقبل منهم، كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال بعض المفسرين: الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم، والداعي إسماعيل. والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان، كما سيأتي بيانه" (انتهى من تفسير ابن كثير -رحمه الله-).
(قلتُ: وهذه الآية دليل على أن هناك قواعد أسفل البيت رفع إبراهيم وإسماعيل البيت عليها، ورفعا هذه القواعد حتى ظهرت على سطح الأرض؛ أي: بَنَيَا على هذه القواعد حتى ارتفع البناء وظهر على سطح الأرض، وقد سبق أن ذكرنا أن عبدَ الله بن الزبير لما بنى الكعبة وَصَل إلى حجارة مُسنَّمَة أسفل الكعبة على وَفْق ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من زيادة البيت على ما بَنَتْه قريش في زمنِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته، وأنه أوسع مِن الحالي بخمسة أذرع من الحِجْر؛ فهذه التي بَنَى عليها إبراهيم -والله أعلم- البيت، ورفع هذه القواعد فلم تعد مدفونة في الأرض؛ بل صارت على سطح الأرض).
نسأل الله -عز وجل- أن ييسر للمسلمين على الدوام حج بيت الله الحرام، والاعتمار إليه في كل زمان.


ابوالوليد المسلم 25-03-2024 12:02 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (14)




قصة بناء الكعبة (12)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:127).
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أَوَّلَ ما اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِن قِبَلِ أُمِّ إسْمَاعِيلَ؛ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا علَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بهَا إبْرَاهِيمُ وبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وهي تُرْضِعُهُ، حتَّى وضَعَهُما عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ في أَعْلَى المَسْجِدِ، وليسَ بمَكَّةَ يَومَئذٍ أَحَدٌ، وليسَ بهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُما هُنَالِكَ، ووَضَعَ عِنْدَهُما جِرَابًا فيه تَمْرٌ، وسِقَاءً فيه مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ: يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فِيهِ إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟ فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيْهِ فَقالَ: (رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) حتَّى بَلَغَ: (يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:??)، وجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وتَشْرَبُ مِن ذلكَ المَاءِ، حتَّى إذَا نَفِدَ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابنُهَا، وجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قالَ: يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهيةَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ في الأرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عليه، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ: هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حتَّى إذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإنْسَانِ المَجْهُودِ حتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا ونَظَرَتْ: هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذلكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ -قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (فَذلكَ سَعْيُ النَّاسِ بيْنَهُما)-، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ علَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقالَتْ: قدْ أَسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هي بالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بعَقِبِهِ -أَوْ قالَ: بجَنَاحِهِ- حتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وتَقُولُ بيَدِهَا هَكَذَا، وجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ في سِقَائِهَا وهو يَفُورُ بَعْدَ ما تَغْرِفُ. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قالَ: لو لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا).
قالَ: فَشَرِبَتْ وأَرْضَعَتْ ولَدَهَا، فَقالَ لَهَا المَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ؛ فإنَّ هَاهُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هذا الغُلَامُ وأَبُوهُ، وإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ، وكانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عن يَمِينِهِ وشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذلكَ حتَّى مَرَّتْ بهِمْ رُفْقَةٌ مِن جُرْهُمَ -أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِن جُرْهُمَ- مُقْبِلِينَ مِن طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا في أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقالوا: إنَّ هذا الطَّائِرَ لَيَدُورُ علَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بهذا الوَادِي وما فيه مَاءٌ، فأرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بالمَاءِ، فَرَجَعُوا فأخْبَرُوهُمْ بالمَاءِ، فأقْبَلُوا، قالَ: وأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقالوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، ولَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ في المَاءِ، قالوا: نَعَمْ، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (فألْفَى ذلكَ أُمَّ إسْمَاعِيلَ وهي تُحِبُّ الإنْسَ)، فَنَزَلُوا وأَرْسَلُوا إلى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا معهُمْ، حتَّى إذَا كانَ بهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ منهمْ، وشَبَّ الغُلَامُ وتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وأَنْفَسَهُمْ وأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً منهمْ، ومَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَ ما تَزَوَّجَ إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عنْه، فَقالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ في ضِيْقٍ وشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إلَيْهِ، قالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السَّلَامَ، وقُولِي له: يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأنَّهُ آنَسَ شيئًا، فَقالَ: هلْ جَاءَكُمْ مِن أَحَدٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيخٌ كَذَا وكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، وسَأَلَنِي: كيفَ عَيْشُنَا؟ فأخْبَرْتُهُ أنَّا في جَهْدٍ وشِدَّةٍ، قالَ: فَهلْ أَوْصَاكِ بشَيءٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويقولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قالَ: ذَاكِ أَبِي، وقدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وتَزَوَّجَ منهمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عنْهمْ إبْرَاهِيمُ ما شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ علَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عنْه، فَقالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قالَ: كيفَ أَنْتُمْ؟ وسَأَلَهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقالَتْ: نَحْنُ بخَيْرٍ وسَعَةٍ، وأَثْنَتْ علَى اللَّهِ، فَقالَ: ما طَعَامُكُمْ؟ قالتِ: اللَّحْمُ، قالَ: فَما شَرَابُكُمْ؟ قالتِ: المَاءُ. قالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لهمْ في اللَّحْمِ والمَاءِ، قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (ولَمْ يَكُنْ لهمْ يَومَئذٍ حَبٌّ، ولو كانَ لهمْ دَعَا لهمْ فِيهِ)، قالَ: فَهُما لا يَخْلُو عليهما أَحَدٌ بغيرِ مَكَّةَ إلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السَّلَامَ، ومُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قالَ: هلْ أَتَاكُمْ مِن أَحَدٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وأَثْنَتْ عليه، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي: كيفَ عَيْشُنَا؟ فأخْبَرْتُهُ أنَّا بخَيْرٍ، قالَ: فأوْصَاكِ بشَيءٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، هو يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قالَ: ذَاكِ أَبِي، وأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ.
ثُمَّ لَبِثَ عنْهمْ ما شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذلكَ وإسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا له تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِن زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ، فَصَنَعَا كما يَصْنَعُ الوَالِدُ بالوَلَدِ والوَلَدُ بالوَالِدِ، ثُمَّ قالَ: يا إسْمَاعِيلُ، إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بأَمْرٍ، قالَ: فَاصْنَعْ ما أَمَرَكَ رَبُّكَ، قالَ: وتُعِينُنِي؟ قالَ: وأُعِينُكَ، قالَ: فإنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا، وأَشَارَ إلى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ علَى ما حَوْلَهَا، قالَ: فَعِنْدَ ذلكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأْتي بالحِجَارَةِ وإبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حتَّى إذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بهذا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ له فَقَامَ عليه، وهو يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وهُما يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، قالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وهُما يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
قال البخاري -رحمه الله-: "باب: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، القواعد: أَسَاسُهُ، واحدتُها: قاعدة. والقواعد من النساء واحدها قاعد"، ثم رَوَى بسنده عن عائشة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَلَمْ تَرَيْ أنْ قَوْمَكِ بَنَوْا الكَعْبَةَ، واقْتَصَرُوا عن قَواعِدِ إبْراهِيمَ)، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ ألا تَرُدُّها على قَواعِدِ إبْراهِيمَ؟ قالَ: (لَوْلا حِدْثانُ قَوْمِكِ بالكُفْرِ). فقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ: لَئِنْ كانَتْ عائِشَةُ سَمِعَتْ هذا مِن رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ما أُرى رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيانِ الحِجْرَ؛ إلّا أنَّ البَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ على قَواعِدِ إبْراهِيمَ".
ورواه مسلم من حديث نافع قال: سمعتُ عبدَ الله بن أبي بكر بن أبي قحافة يحدِّث عبد الله بن عمر عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَديثُو عَهْدٍ بجاهِلِيَّةٍ، أوْ قالَ: بكُفْرٍ، لأَنْفَقْتُ كَنْزَ الكَعْبَةِ في سَبيلِ اللهِ، ولَجَعَلْتُ بابَها بالأرْضِ، ولأَدْخَلْتُ فيها مِنَ الحِجْرِ).
وروى البخاري عن الأسود قال: قالَ لي ابنُ الزُّبَيْرِ: كانَتْ عائِشَةُ تُسِرُّ إلَيْكَ كَثِيرًا فَما حَدَّثَتْكَ في الكَعْبَةِ؟ قُلتُ: قالَتْ لِي: قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عَائِشَةُ، لَوْلا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ -قالَ: ابنُ الزُّبَيْرِ- بكُفْرٍ، لَنَقَضْتُ الكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَها بابَيْنِ: بابٌ يَدْخُلُ النّاسُ وبابٌ يَخْرُجُونَ)، قال: فَفَعَلَهُ ابنُ الزُّبَيْرِ. انفرد بروايته البخاري.
وفي هذه الأحاديث فوائد عظيمة نذكرها في المقال القادم -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 25-03-2024 12:03 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (15)




قصة بناء الكعبة (13)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي قصة إسكان إبراهيم هاجر وإسماعيل مكة المكرمة، ثم قصة بناء الكعبة من الفوائد ما يأتي:
الأولى: هذا الحديث رواه البخاري موقوفًا على ابن عباس؛ إلا أن في ثناياه جُملًا مرفوعةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- تعليقًا على أحداث القصة؛ مما يدل على رفعه كله، ثم هو مما لا يُقال من قِبَل الرأي، وليس مما يؤخذ من أهل الكتاب؛ فليس عندهم خبر من ذلك، فهو في جميعه له حكم الرفع، وهكذا رواه البخاري فساقه كسائر الأحاديث المرفوعة.
الثانية: قوله: "أَوَّلَ ما اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِن قِبَلِ أُمِّ إسْمَاعِيلَ؛ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا علَى سَارَةَ": المِنْطَق: ما تَشُدُّ به المرأة وسطها، قال ابن حجر -رحمه الله-: "وكان السبب في ذلك: أن سارة كانت وهبت هاجر لإبراهيم فحملت منه بإسماعيل؛ فلما ولدته غارت منها، فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء، فاتخذت هاجر مِنْطقًا فشدَّت به وسطها وهربت، وجرَّت ذيلها لتخفي أثرها على سارة. ويُقال: إن إبراهيم شفع فيها، وقال لسارة: حللي يمينك بأن تثقبي أذنيها وتخفضيها، وكانت أول من فعل ذلك. ووقع في رواية ابن علية عند الإسماعيلي: "أول ما أخذت العرب جرَّ الذيول عن أمِّ إسماعيل، وذكر الحديث. ويُقال: إن سارة اشتدَّت بها الغيرة؛ فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة لذلك" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
وقول ابن حجر -رحمه الله-: "ويُقال: إن سارة اشتدت بها الغيرة، فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمة إلى مكة لذلك"؛ إشارة منه -والله أعلم- إلى تضعيف هذا السبب، وإلا فقد كان يكفي أن يخرج بهما إلى مكان مجاور لا تراها فيه سارة، ولا ترى ابنها، وليس بعيدًا بآلاف الأميال عن إبراهيم -عليه السلام-، ثم هذا مخالف لظاهر القرآن؛ حيث علَّل إبراهيم -عليه السلام- إسكانه هاجر وإسماعيل في مكة بإقامة الصلاة، فقال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37)، فالغرض كان إقامة الصلاة في هذه البقعة المشرفة، وتعميرها لتصبح بلدًا محرمًا، تهوي إليه أفئدة من الناس، ويرزقون من الثمرات كما يرزقون الشكر، بهذا قال قبل تعمير مكة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة:126)، وبعد أن عمرت بالعرب من جُرْهُم قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) (إبراهيم:35).
وفي قوله: "لِتُعْفِي أَثَرَهَا عَنْ سَارَةَ": دليل على احتمال الغيرة بين الضرائر؛ لأنها من طبيعة المرأة؛ رغم أن سارة قد أَهْدت هاجر لإبراهيم ليتخذها سُرِّيَّة؛ عساه أن يرزق منها الولد؛ لكونها عجوزًا عقيمًا، فهي تعرف ذلك مسبقًا؛ بل تقصده، فهذه بلا شك أعظم صور التضحية بالنفس لإسعاد الحبيب، لكن قد غارت منها لما حملت ثم وضعت، وإبراهيم تحمَّل ذلك، كما أن منزلة سارة عند الله اقتضت مغفرة الله لها ما حاولت أن تؤذي به هاجر؛ لأنها كانت المرأة الوحيدة التي آمنت بإبراهيم من قومها، وهاجرت معه وتركت أهلها وقومها ووطنها من أجل الدِّين، فهي قديمة الصحبة لإبراهيم، ثم هي التي ضحت بجزء من قلبها ومشاعرها بإهدائها هاجر لإبراهيم، فهذا هو الحب الحقيقي أن تضحي بشيء من مشاعرها من أجل مَن تحب، لا أن تنكد عليه حياته أو تفارقه وتهدم الأسرة؛ ولذا احتملت هاجر مثل ذلك، وهربت منها ولم تواجِهَّا رغم أنها الشابة الصغيرة الأقوى، كما تحمَّل إبراهيم أيضًا.
وإن صح ما ذُكر من ثقب الأذنين والختان لِبَرِّ قسمها، فقد ذكره ابن حجر بصيغة التضعيف، وهو دليل على عدم السماح من الزوج بالضرر من إحدى الضرائر لضرتها؛ بل حوَّل إبراهيم الأمر إلى مصلحة لهاجر ومنفعتها؛ لأن ثقب الأذن زينة، والختان أنضر للوجه وأحظى للرجل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنضارة لوجود النعيم والمتعة خلافًا لما يظنه كثيرٌ مِن الناس من أن الختان من أجل تقليل الشهوة؛ فإنه ليس كذلك لا شرعًا ولا طبًّا؛ بل الختان الشرعي بإزالة القلفة التي على البظر تكشف هذا العضو الحساس من المرأة، فيكون ذلك أكمل لاستمتاعها فيَنْضُر وجهها سرورًا، وهذا التجاوب في العلاقة الحميمة باكتمال المتعة سبب لكون المرأة حَظِيَّة عند زوجها، والله أعلم.
الثالثة: قوله: "ثُمَّ جَاءَ بهَا إبْرَاهِيمُ وبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وهي تُرْضِعُهُ، حتَّى وضَعَهُما عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ في أَعْلَى المَسْجِدِ": (عِنْدَ البَيْتِ) أي: عند مكانه؛ لأنه لم يكن قد بُني بعد. و(الدوحة): الشجرة الكبيرة، وفي هذا كمال توكُّل إبراهيم -عليه السلام- على الله -تعالى- فلا يقدر إنسان أن يضع ابنه ووحيده وذكره -وقد رزقه الله إياه على الكِبَر- في مكان صحراوي جبلي قفر، ليس فيه شيء من أسباب الحياة على الإطلاق لا ماء ولا زرع ولا بشر، ولاشيء كما قالت هاجر، وبلا حارس ولا أنيس؛ إلا بالتوكل التام على الله وحسن الظن به، واليقين بحفظ الله ورعايته، وعدم تضييعه لهم، والله -سبحانه- يجعل مآل الطائعين لأحسن حال، وكيف يضيع مَن أطاعه؟! أو كيف يُنَعِّم مَن عصاه إلى نهاية أمره؟!
وقوله: "ووَضَعَ عِنْدَهُما جِرَابًا فيه تَمْرٌ، وسِقَاءً فيه مَاءٌ" فيه الأخذ بالأسباب ولو كانت ضعيفة للغاية، فالسقاء: القربة الصغيرة، فكم تكفي لشرب امرأة مُرضع في حر مكة المكرمة؟! ولكنها سنة الأنبياء في كمال التوكل مع الأخذ بالأسباب، كما أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فانفلق، كما اختفى النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار من المشركين المطاردين رغم وصولهم إلى الغار؛ ولكن مع كمال التوكل ينفع السبب البسيط الضعيف.
الرابعة: قوله: "فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ: يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟ فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا... " الحديث.
نتأمل فيه تحمُّل إبراهيم للسؤال بطريقة استنكارية لا تتناسب مع ما علمته هاجر من رحمته ورأفته وحلمه -عليه الصلاة والسلام-، فإذا كان إبراهيم حليمًا على الكفار المشركين المكذبين للرسل، يجادل فيهم ربه لتأخير العذاب عنهم مع أفعالهم الشنيعه القبيحة الإجرامية التي لم يسبقهم بها أحدٌ مِن البشر، مع استحقاقهم للعذاب لتكذيبهم نبيهم، ومحاولتهم العدوان على ضيوفه، كما تعودوا على قطع الطريق بفعل الفاحشة -أعني: قوم لوط- قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (هود:74-75)، فمدحه الله -عز وجل- على حلمه وإنابته ودعائه، ولم يتسجب لمجادلته في قوم لوط، فإذا كان هذا حاله وحلمه على الكفار المشركين، فكيف تكون رحمته ورأفته بابنه الرضيع، وأم ولده الذين لا ذنب لهم؟!
وإذا كان يدعو للكافرين والعصاة، كما قال الله -تعالى- عنه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم:35-36)، وإنما يدعو لهم بالمغفرة والرحمة؛ لأن يتوبوا ويؤمنوا ويطيعوا، فإن المشرك لا يغفر الله له إلا بالتوبة والإسلام، فكيف تكون رحمته بالمؤمنين الطائعين؟!
يكاد القلب يطير عجبًا من امتثال إبراهيم لأمر ربه، وصبره العجيب على مفارقة ولده الوحيد الصغير الرضيع في هذا المكان الذي لا تمكن فيه الحياة، إلا بأمر الله -سبحانه-، لكنها التضحية وجلالة الخُلَّة فعظيم المحبة لله هي التي أوجبت هذه التضحية العظيمة، فهذا الموقف قريب من موقف ذبح ولده، وإن كان الذبح أعظم، فسبحان مَن اجتباه وهداه وجعله إمام الحنفاء.
وفي عدم إجابته -عليه السلام- لهاجر ثلاث مرات أو عدة مرات؛ حين سألت السؤال بالطريقة المخالفة لما ينبغي من الأدب معه -عليه السلام- فلم يعنفها، ولم يضربها أو يسيء إليها بكلمة؛ بل يربيها ويعلمها بالسكوت وعدم الالتفات، كما يعلمها بالكلام وبالإجابة والالتفات حين سألت السؤال بالطريقة المناسبة الصحيحة المستفسرة غير الاستنكارية حين سألته: "آلله أمرك بهذا؟"، التفت إليها، وقال: "نعم"، فعندها رضيت هاجر بالله، وتوكلت على الله كما توكل إبراهيم -عليه السلام-، ورضيت ربًّا مدبرًا لا يضيع أولياءه ومَن أطاعه، فرضي الله عنها وأجزل مثوبتها على صبرها، وتوكلها ويقينها، وحسن ظنها بربها، ورزقنا متابعة الصالحين في أعمالهم وأحوالهم.
وللفوائد بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 27-03-2024 02:38 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (16)



قصة بناء الكعبة (14)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنستكمل ما في قصة إسكان إبراهيم هاجر وإسماعيل -عليهم السلام- مكة المكرمة، من فوائد:
الفائدة الخامسة:
قوله: (فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيْهِ فَقالَ: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37)، فيه: أن أعظم الأسباب بعد التوكل على الله الدعاء والتضرع إليه -سبحانه-، وفيه رفع اليدين في الدعاء واستقبال القبلة؛ حتى ولو لم يوجد بناء للكعبة، وفيه التوسل إلى الله -سبحانه وتعالى- باسم الربوبية (ربنا، ربي)، وهذا أكثر أنواع الأدعية القرآنية والنبوية، ومثله التوسل إلى الله باسم الألوهية (اللهم)، وهذان الاسمان -الرب والإله؛ ومنه اشتُق اسم الله- أعظم ما يتوسل به العبد لله -عز وجل-؛ خاصة إذا اسحضر بقلبه مظاهر الربوبية من الخلق والرزق والتدبير، ومِلْك الضر والنفع، والحياة والموت والنشور، والمِلْك والمُلْك، والأمر والنهي والسيادة في جميع الوجود، واستحضر بقلبه مظاهر الألوهية من حاجة العباد إلى محبته والانقياد له، وذلهم وفقرهم وحاجتهم إلى هذه العبودية، وليس فقط إلى رزقهم واستمرار حياتهم، بل هم يحتاجون إلى حبه والانقياد لأمره وشرعه والخضوع له.
وقد جعل الله -عز وجل- لذة المحبة له يدركها ويجدها المؤمنون العابدون دون غيرهم، وجعلها -سبحانه وتعالى- عندهم أعظم نعيم الدنيا وأعظم فرح فيها، كما قال -عز وجل-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهُنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانَ: أَنْ يَكُونَ اللهُ ورسولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ ممَّا سِواهُمَا ... ) (متفق عليه).
وفي قوله: (إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ): توسل إلى الله بحال الفقر والحاجة، فهم ذرية؛ رضيع صغير وأمه التي لا تستطيع شيئًا. وقال: (ذُرِّيَّتِي) وهاجر ليست من ذريته؛ إما تغليبًا لأن إسماعيل هو المقصود وذريته مِن بعده، وإما لأن الذرية من هاجر -رضي الله عنها- وهي سبب نسل إسماعيل -عليه السلام- الذين عمَّروا مكة وعبدوا الله عند الكعبة المشرفة قرونًا عديدية على التوحيد، قبل أن يقع الشرك فيهم زمن عمرو بن لُحَيّ الخُزاعي.
وقد كان أبو هريرة -رضي الله عنه- عند ذكر هاجر -رضي الله عنها- يقول: "فهذه أمكم يا بني ماء السماء"، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه برعاية قومها المصريين بعد آلاف السنين من رحيلها؛ رعايةً لرحمها -رضي الله عنها- فقال: (إِنَّكُم سَتَفْتَحُون مِصْرَ أَرْضًا يُذْكَرُ فيها القِيرَاطُ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِها خَيْرًا فَإِنَّ لهم ذِمَّةً وَرَحِمًا) (رواه مسلم)، وهي رحم لا يصل مثلها إلا الأنبياء.
وفي قوله: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ): تضرع بالفقر إلى الله في أمر الرزق، فكما أنهم ذرية ضعفاء، فالوادي ليس فيه زرع ولا ماء ولا أنيس، وهذا الذي بحثت عنه هاجر أولًا؛ حين قالت: (إلى مَنْ تَتْرُكُنَا في هذا الوادِي الذي لَيْسَ فِيه أَنِيْسٌ ولا شَيْءٌ؟)، فهي تحب الأنس وتنظر إلى الأنيس أولًا، وهذا الوادي ليس فيه شيء على الإطلاق، ولا يصلح للسكنى؛ إلا بما أنبع الله فيه من زمزم، فسبحان الله! أرض أودية مكة أغلبها صخرية، وحولها جبال لا تصلح للزراعة، ولا للحركة، ولا للاستقرار؛ بل ولا للحياة أصلًا؛ ولذا لم تُسْكَن قبل إسماعيل وأمه، فسبحان الله جعلها الله أكثر بقعة تعجُّ بالبشر! لا يوجد مكان في العالم أزحم من هذه البقعة على مدار الأيام والليالي، وقلوب الخلق تهوي إلى هذه البقعة؛ مَن شاء الله منهم يهوون حجَّها، وطائفة يهوون السكنى فيها.
وقوله: (عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ): يعني مكانه الذي سيكون فيه البناء؛ وذلك أن الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو الذي كان فيه البيت قبل أن يُرفع؛ وإن كانت الآثار في رفعه عند الطوفان لم تصح، وهذا على القول بأن الملائكة التي بنته، أو آدم الذي بناه أول مرة، أو غير ذلك، وكلها آثار لم تصح، والله أعلم.
وقوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ): فيه بيان السبب الذي مِن أجله سافر إبراهيم بولده وأم ولده هذه المسافة الهائلة -آلاف الأميال-، إلى هذه البقعة التي لا توجد فيها أسباب الحياة، وهو إقامة الصلاة في هذا المكان الذي عظمه الله وشرفه وضاعف فيه أجر الصلاة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شدِّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، أعظمها: المسجد الحرام؛ بل لا يجب شد الرحال والسفر إلى مسجدٍ منها إلا المسجد الحرام، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، ومَسْجِدِي هذا، والمَسْجِدِ الأَقْصى) (متفق عليه)، وفي رواية: (إنَّما يُسافَرُ إلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ: مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ إِيلِياءَ) (رواه مسلم).
فلم تكن العلة في هذه الرحلة العظيمة مجرد الغيرة التي وقعت بين سارة وهاجر، وطلب سارة أن يذهب بهاجر بعيدًا عنها كما في بعض الروايات؛ بل السبب الذي لم يذكر إبراهيمُ -عليه السلام غيره هو إقام الصلاة، وتعمير هذه البقعة المباركة، وتكوين البلدة الحرام.
وقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ): فيه دليل على خَلْق الله لأفعال العباد، وإرادتهم وأهوائهم، فالله الذي جعل الأفئدة تهوي إلى الحج إلى مكة، وإلى السكنى فيها على القولين في التفسير، وفي هذا لمَن تأمله أوضح الرد على مَن زعم أن معنى خلق الله لأفعال العباد وإرادتهم هو جعلهم مريدين شائين، ولا يلزم إرادة ومشيئة منه -سبحانه- لكلِّ فِعْلٍ مِن أفعال العباد وإرادة من إراداتهم! بل هذا التفصيل لهم كالنهر الذي يجري في مجرى مُعَيَّن لا يلزم إرادة لكل قطرة! وهو قول باطل مُخَالِف لظَاهِر الكتاب والسُّنة، قال -تعالى-: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) (الإنسان:30)، أَيْ: أَيُّ مشيئة؛ فهذا اللفظ عام يشمل كل مشيئة، فلابد لأي مشيئة للعباد أن يشاء الله وجودها، وهو الذي يخلقها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إِلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) (رواه النسائي والحاكم، وحسنه الألباني).
فكل حركة وسكنة وإرادة وهوى للعباد، فالله خالقه وجاعله تفصيلًا، وهذه الآية صريحة في ذلك؛ لأن حُبَّ مَن شاء الله له الذهاب إلى مكة، وهواهم أن يسكنوا فيها، ويحجوا إليها -رغم المشقة البالغة في السفر وفي الحياة- هو مشيئة تفصيلية، والله هو الذي جعله فيهم، كما دعا به إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وليس معنى ذلك الجبر كما يقوله الجبرية؛ بل الله يجعل ويخلق، والعباد يفعلون ويكسبون بإرادتهم المخلوقة، وهذا القَدْرُ مِن كسبهم وفعلهم هو الذي يُحَاسَبون عليه كسائر الأهواء والرغبات، التي إنما توجد في الإنسان قبل أن يدرك منافعها ومقاصدها، ولكنه يجدها في نفسه فيفعلها، فأول ذلك النَّفَس عند أول ولادته، ثم الطعام والشراب وهو رضيع، ثم حب التَّمَلُّك وهو ابن نحو السنة والسنتين، وكذا التواصل مع البشر حوله، والكلام والحركة، واستكشاف ما حوله، ثم الرغبة الجنسية بعد ذلك، وكلها يجدها الإنسان قد وُجِدت في نفسه، لكنه الذي يفعل تفاصيلها، والله خالقه وخالق هواه وإرادته وأفعاله الاختيارية والاضطرارية معًا؛ فله الحمد، وله المُلك -سبحانه وتعالى-.
ونقول في المَثَل المضروب -مَثَلُ النَّهْر-: بل كل قطرة، الله خالقها وخالق حركتها تفصيلًا؛ فلابد مِن مشيئته -سبحانه- في تحركها في هذا الاتجاه، ثم أعظم رغبة وهوىً يجعله الله في قلب العبد هي الرغبة في العبودية له، ومحبته -سبحانه-، ومحبة أنبيائه ورسله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بحبه وقربه.


ابوالوليد المسلم 27-03-2024 02:39 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (17)



قصة بناء الكعبة (15)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنستكمل ما في قصة إسكان إبراهيم هاجر وإسماعيل -عليهم السلام- مكة المكرمة، مِن فوائد:
الفائدة السادسة:
قوله: (فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيْهِ فَقالَ: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37):
فقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: لو قال: "أفئدة الناس"؛ لازدحم عليه فارس والروم، واليهود والنصارى، والناس كلهم، ولكن قال: (مِّنَ النَّاسِ) فاختص به المسلمون.
فاعلم أيها المسلم المحب لبيت الله الحرام، المشتاق لأداء الحج والعمرة نعمة الله عليك أن جعلك مِن أهل هذه الدعوة المباركة، وأوصل إليك نورها عبر آلاف السنين من حين قالها إبراهيم -عليه السلام- إلى أن وُلِدتَ ووُجِدتَ وصِرتَ مُحبًّا لبيت الله الحرام.
ولنتأمل قوله: (أَفْئِدَةً) ولم يقل: أبدانًا؛ فإبراهيم لم يهتم بالأبدان في دعوته؛ بل اهتم بالقلوب، ولم يسأل الله شكل عبادة حول البيت، بل حقيقة العبادة التي أصلها عبادة القلب، وحبه وخضوعه وذله، وهذا ذكره الله -سبحانه- في كلِّ العبادات، فقال في أول أمر يمر به قارئ المصحف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21)، والتقوى في القلب كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (التَّقْوَى هَاهُنَا) -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1-2)، وليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، تُسْعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خُمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا نِصْفُهَا) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وهذه أحاديث حسنة.
وقال -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة:103)، وقال في الحج: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج:37)، وقال -عز وجل-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32).
فليكن همنا في كل عبادتنا تحقيق حقيقتها في عبودية القلب، وليس بالشكل والكميات فقط، قال الله -سبحانه- عن القرآن: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29)، فذكر الله -سبحانه- التدبر والتذكر ولم يذكر الختمة؛ مع أن ختم القرآن كل مدَّة مشروع؛ بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- بأن يختمه كل شهر، فقال له: (وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)، قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ)، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ)، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم).
وقد فهم الصحابة ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال ابن مسعود -رضي الله عنه- لرجل قال له: "إني لأقرأ المفصل في ركعة، قال: هذًّا كهذِّ الشِّعْر؟! (أي: القراءة السريعة جدًّا)، إني لأعلم النظائر التي كان يقرأ بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عشرين سورة في عشر ركعات".
فلنهتم بالتدبر أكثر من كمية القراءة، كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أَمِرُّوه على القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدكم آخرَ السورة".
وقوله: (وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ): لم يقل -عليه السلام-: "لعلهم يأكلون"، أو "لعلهم يعيشون"، بل قال: "لعلهم يشكرون"؛ فالشكر هو الغاية المقصودة، وإنما كانت النعم الدنيوية -بل والدينية- سببًا لتحقيق الشكر بشهود نعمة الله وتعظيمه بها ومحبته عليها، وأن النعم كلها منه وحده لا شريك له، وإجراء اللسان بالثناء عليه والحمد له -سبحانه-، ثم استخدام هذه النعم في طاعته؛ وإلَّا فأي نعمة دنيوية لا تكون سببًا للشكر والطاعة والعبادة تقلبها معصية الناس وكفرهم إلى نقمةٍ وعذابٍ، قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7).
وإنما يعمل إبليس عمله على الناس حتى لا يشكروا نعم الله عليهم، فقال: (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:17)، وهذا ظنه الذي صَدَّقه عليهم، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ:20)، فالزموا الشكر عبادَ اللهِ يزدكم ربكم من نعمه وفضله، وينجيكم من كيد عدوكم.
وبعد، فهذه الدعوة المباركة التي غيَّرت وجه الأرض، فالدعاء مِن أعظم أسباب تغيير الحياة على وجه الأرض، فالله -سبحانه- قدَّر مقادير وقدَّر لها أسبابًا، ومما قدَّره الله -سبحانه وتعالى- تعمير مكة المكرمة، وتعمير بيته الحرام للقيام والسجود، والركوع والطواف، والاعتكاف، وسائر أنواع العبادات، وقد (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (المائدة:97)؛ فبه يقوم أمر الناس، وإذا أوشكت الدنيا على الانتهاء أَذِن الله -قَدَرًا- في هدمه ولا بقاء للناس من غير الكعبة المشرفة، فمِن أشراط الساعة الكبرى: هدم الكعبة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ) (متفق عليه)، وأما قبل ذلك فلا قِوام للناس إلا ببيت الله الحرام، والحج إليه والاعتمار، وبتوجُّه المؤمنين إلى هذه القبلة المشرَّفة.
كيف عُمَّرت هذه البقعة، وكيف اتجهت إليها قلوب الملايين، وتتجه وجوههم إليها، وتريد قلوبهم أن تذهب إلى هذا المكان؟!
يذهب الملايين في كل عام إلى هذه البقعة المشرفة وما حولها من البقاع المقدسة؛ لأداء فرض الحج الذي أمر الله -سبحانه- بأدائه وافترضه على الناس، وجعله ركنًا من أركان الإسلام، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ، وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).
عُمَّرت هذه البقعة بهذه الدعوة المباركة من إبراهيم -عليه السلام-، بل وقلوب الملايين مِن المسلمين غير مَن يحج ويعتمر، تهفو وتهوي إلى هذه البقعة؛ دعوة غيَّرت وجه الحياة!
إذا نظرنا كيف تكونت هذه البلدة؟
كيف صارت بلدًا آمنًا حرامًا؟!
كان ذلك بدعوة!
فتأمل هذه المسألة جيدًا؛ لتعرف أثر الدعاء في تعمير البلاد، وأيضًا في خرابها؛ فدعوة نوح -عليه السلام-: (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (نوح:26)، غيَّرت وجه الحياة على ظهر الأرض أيضًا، فكم مِن الدعوات تغيِّر وجه الحياة! وكم مِن الدعوات تذهب بلا أثر! ربما كان أثرها في صاحبها فقط على حسب قوة الإيمان والقرب من الله القوي العزيز الحكيم القدير؛ الذي يملك كل شيء، له ملك السماوات والأرض، وما بينهما، مالك الملك.
وهنا يبرز السؤال: لماذا ندعو كثيرًا ولا نرى أثرًا، وربما نجد الأثر بعد حين، وقد يجد البعض أثرًا وقد لا يجد؟!
كل هذا حسب قوة القلوب، وقوة الدعاء، هناك دعوات تتزلزل لها الأرض والسماوات، وهناك دعوات تُجَاب مِن ساعتها، وهناك دعوات يُؤجِّل اللهُ -عز وجل- إجابتها، والبعض قد يُؤجَّل إلى يوم القيامة بما شاء -سبحانه-، والله -عز وجل- أمر المؤمنين بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وهو لا يخلف الميعاد: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60).
فإذا كنا نريد أن تتغير الحياة في عالمنا، ونريد أن يعود الناس للتوحيد، وأن يقوي اللهُ أهلَ الإسلام على أعدائهم، وإذا كنا نريد أن ينصر الله -عز وجل- المسلمين في المشارق والمغارب، وأن يكف أيدي الظالمين عنهم، وأن يرفع تسلط العدو عن أرضهم وبلادهم، وأبدانهم وأولادهم، وحرماتهم ومقدساتهم؛ فلابد أن نعمِّر قلوبنا أولًا بالقرب من الله -عز وجل-، وكثرة ذكره؛ فالأذكار التي تُذكر في مواطن الذكر المختلفة لها الأثر العجيب إذا استحضر الإنسان معانيها، واقترب من الله -عز وجل- بها، فهي تغيِّر بالتأكيد من الإنسان، وتغير من المجتمع، وتغير من وجه العالم بأسره.
دعا إبراهيم -عليه السلام- فصارت أفئدة الخلق تهوي في كلِّ زمان؛ ليس فقط إلى ذريته المباشرة إسماعيل -عليه السلام-، بل إلى مَن كان مِن نسله.
هَوَت القلوب وأحبت هذه البقعة، مستعدة أن تنفق الغالي والثمين حتى تصل إلى هذه البقعة؛ لتقضي فيها لحظات تظل حية في القلوب، لتشتاق إلى العودة مرة أخرى، (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة:125)، ولا يرى أحدًا أنه قد قَضَى مِن البيت وطرًا؛ لأنه بَيْت مبارك؛ أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله.
إن هذه البقعة الصخرية في مكة، التي لا يمكن أن ينبت فيها نبات؛ تراها جبالًا صخورًا صماء من كلِّ جانب؛ ومع ذلك تعج بالحياة بهذه الطريقة العجيبة، وتأتي القلوب إليها والأبدان من كلِّ مكان بقدرة الله -سبحانه وتعالى-.
بلدة تكونت بدعوة؛ فأنَّى لنا بدعوة تشبهها؟!


ابوالوليد المسلم 27-03-2024 02:41 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (18)



قصة بناء الكعبة (16)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة السابعة: قوله في الحديث: (وجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وتَشْرَبُ مِن ذلكَ المَاءِ، حتَّى إذَا نَفِدَ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابنُهَا، وجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قالَ: يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهيةَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ):
فيه الأخذ بالأسباب وإن كانت ضعيفة للغاية؛ فلا شك أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حين تركهم إلى الشام بجراب تمر وسقاء ماء لا يمكن أن يكون قد اعتمد على ذلك في طعامهم وشرابهم، فهذا مما لا تقوم به الحياة مدة وجيزة من الزمن، بل هو قد توكل على الله -عز وجل- وحده، وهكذا فعلت هاجر حين قالت: (إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا)؛ رضيتْ بالله -عز وجل- مدبرًا معينًا حافظًا وكيلًا، ولكن التوكل على الله لا ينافي أخذ الأسباب المقدور عليها مهما كانت ضعيفة، وقد يجعلها الله -عز وجل- ضعيفة للغاية ليتمحض التوكل.
ومِن هذا الباب أمر الله -سبحانه- نبيه موسى -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَنِ ‌اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء:63)، فليس في العادة أن ضرب البحر بالعصا يفلقه؛ ولكنه تعويد للبشر على الامتثال للأمر والأخذ بالأسباب المتاحة، مع عدم الاعتماد عليها ولا التوكل عليها، فالأخذ بالأسباب واجب، وهو هدي الأنبياء، والاعتقاد في الأسباب شرك، وهو لا يجوز في حق كل مؤمن.
ثم قَدَّر الله أن تنفد الأسباب وتنتهي؛ فنفد الماء، وعطشت هاجر، ولم يعد في ثدييها لبن ترضع ابنها؛ فعطشت وعطش ابنها.
يقدِّر الله البلاء إلى غايته قبل أن يأتي الفرج من عنده، فهذه سنة الله في أنبيائه وأوليائه؛ فقد ترك الله الكفار يمسكون بإبراهيم -عليه السلام- ويحبسونه، ويشعلون النار حتى تعظم جدًّا، ويضعونه بالمنجنيق ويلقونه فيها، ولم يأتِ الفرج إلا في اللحظة الأخيرة وهو في الهواء؛ حين أُلقي في النار، وقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"؛ هنا جاء الفرج، وبأعظم طريق؛ بكلام الله -سبحانه- مباشرة للنار: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى? إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69)؛ فقد ظلت نارًا لم تُطفَأ، فلم يرسل الله عليه مطرًا يطفئها أو ريحًا، أو ملائكة تأخذ إبراهيم -عليه السلام- وهو في الطريق إلى النار، بل بكلامه -سبحانه- وأمره الكوني للنار أن تظل نارًا على كلِّ أحد -فلا يستطيع أن يقرب منها- إلا على إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فتكون عليه بردًا وسلامًا؛ ليُبْتَلى ويَحصُل كمال الصبر وكمال التوكل.
وكذلك لم يأتِ الفرج في محنة الذبح إلا بعد أن: (‌أَسْلَمَا ‌وَتَلَّهُ ‌لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) (الصافات:103-105).
وكذلك في قصة موسى -صلى الله عليه وسلم- ونجاة بني إسرائيل من فرعون، بعد أن وصلوا إلى ساحل البحر، ووصل فرعون سريعًا رغم الأخذ بالأسباب بالسير ليلًا؛ ليسبق فرعونَ وجُندَه، ولكن تنتهي الأسباب وتضمحل، قال الله -تعالى-: (‌فَأَرْسَلَ ‌فِرْعَوْنُ ‌فِي ‌الْمَدَائِنِ ‌حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ . فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ . فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ . فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:53-62)، وبعدها جاء الفرج؛ فانفلق البحر.
وهكذا في قصة مريم -عليها السلام-: فرغم أن مجرد الحمل بلا زوج بلاء عظيم، ولكن يزيد البلاء بأن الولادة كانت صعبة، وبنفس ما تجد النساء من ألم المخاض، حتى تمنت الموت فجاءها المخاض إلى جذع النخلة، (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا . فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (مريم:23-24)، وقد كان في قدرة الله -سبحانه- أن تمر الولادة بلا ألم، ولكن لابد للابتلاء أن يأخذ مداه.
وفي قصة هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- أخذا بالأسباب الممكنة، فاتجها جنوبًا لا شمالًا -وجهتهما الأصلية-، وعَمَّيَا أثرهما على المشركين بمرور أغنام مولى أبي بكر على الطريق، ومع ذلك اضمحلت الأسباب حتى وصل المشركون للغار: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40)، فلابد أن يصل البلاء إلى غايته، ويحصل التوكل والصبر التام، ثم يأتي الفرج.
وفي قصة هاجر -عليها السلام- وصل البلاء إلى غايته بالعطش، وإن مِن أشد الأمور على أمٍّ أن ترى ابنها يعطش ويتلمظ، أو يتلبط من العطش مُتألمًا، ولا تستطيع أن تصنع له شيئًا؛ بل وصل الأمر إلى أن تراه ينشغ للموت، أي: يتنفس الأنفاس الأخيرة، وهي في ذلك راضية بالله مدبرًا معينًا، صابرة متوكلة؛ لكن النظر إلى الولد وهو يموت فوق الطاقة؛ فلهذا ذهبت بعيدًا كراهية أن تنظر إلى ابنها في تلك الحال، وأيضًا لتستكمل الأخذ بالأسباب، فتبحث عن الماء بالنظر من فوق الجبال القريبة لِيُلْهِمَهَا اللهُ السعي بين الصفا والمروة، لتأخذ ثواب ملايين البشر الذين يسعون بين الصفا والمروة إلى يوم القيامة، عساهم أن يستحضروا حال هاجر -رضي الله عنها- وهي تسعى، مِن كمال الافتقار إلى الله، وشدة التضرع، وكمال التوكل.
وفي بُعْدِها عن النظر إلى ابنها وهو يموت إرشادٌ لنا؛ لما فيه مِن تخفيف البلاء بعدم النظر، فأشد شيءٍ على أم وأب أن يرى أحدهما وجه ابنه يتألم، فضلًا عن أن يموت؛ فليترك المؤمن ذلك حتى تتم المحنة وتمر، تجد هذا المعنى في قوله -تعالى- لإبراهيم وإسماعيل: (فَلَمَّا ‌أَسْلَمَا ‌وَتَلَّهُ ‌لِلْجَبِينِ)، فلم يجعل إبراهيمُ وجهَ إسماعيل قِبَل وجهه أثناء الذبح؛ لئلا تمنعه الرحمة الفطرية في تلك الحال من الامتثال لأمر الله؛ فوضعه على جبينه مُوجِّهًا وجهه للأرض لا إلى وجهه.
وكذلك تجد هذا المعنى في قوله -تعالى- عن نوح وابنه الكافر: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود:42-43)، فأبعد الله عن نوح رؤية وجه ابنه حين الغرق بأن حال بينهما الموج، فَفَقْدُ الابن بلاء شديد، وهلاكه على الكفر وإباؤه النصح أشد، ولكن مِن رحمة الله بنوح -عليه السلام- أنه لم يجعله يرى وجه ابنه وهو يعاني الغرق رحمةً منه -سبحانه-؛ فحال بينهما الموج، وغرق ابنه بعيدًا عن عينه.
فاللهم لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا؛ فانصرنا على القوم الكافرين.


ابوالوليد المسلم 29-03-2024 12:02 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (19)



قصة بناء الكعبة (17)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة الثامنة:
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في الحديث: "فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ في الأرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عليه، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ: هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حتَّى إذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإنْسَانِ المَجْهُودِ حتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا ونَظَرَتْ: هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذلكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ"، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (فَذلكَ سَعْيُ النَّاسِ بيْنَهُما)، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ علَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقالَتْ: قدْ أَسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ".
دلَّ هذا الجزء من الحديث على أصل مشروعية السعي بين الصفا والمروة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158)، وسعى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما في حجه وعمرته، وقال: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ) (رواه مسلم)، وقال: (اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
ومفيد لنا في هذا الأمر: استحضار حالة هاجر -رضي الله عنها- وهي في شدة العطش والإجهاد، والخوف على نفسها وابنها الذي تراه يصارع الموت، وتحاول أن تسابق الزمن لتصل إلى غواثٍ قبل أن يموت ابنها، وربما لحقته هي أيضًا؛ بسبب هذا العطش الشديد، فهي تأخذ بالأسباب مرات قدر طاقتها.
وقدَّر الله أن تكون أشواطها سبعًا قبل أن تسمع صوت المَلَك بما شرعه الله للمسلمين من السعي سبعًا بين الصفا والمروة، وفي كل مرة تقف على الصفا ثم المروة ولا تجد أحدًا، وتسعى في بطن الوادي -وهي المسافة بين الميلين الأخضرين حاليًا-؛ لأنها المنطقة الوحيدة المنبسطة بين الجبلين التي استطاعت سرعة السعي فيها قليلًا، وهي في غاية الإجهاد والتعب والعطش.
فلنبذل كل ما في وسعنا في طاعة الله، ولنأخذ من الأسباب ما نستطيع؛ ولكن ليكن تعلقنا وافتقارنا بالله -سبحانه وتعالى- حده، ونتضرع إليه وحده، كما كانت تفعل هاجر وهي تسعى بين الصفا والمروة، وهي التي رضيت بالله ربًّا لا يضيعها هي وابنها، ولنجتهد ونحن في السعي؛ فلنستحضر حالها ونتشبه بها في دعائها وتضرعها حتى تجد غواثًا -رضي الله عنها-.
ثم في نهاية الشوط السابع على المروة أتتها بشائر الفرج وإجابة الدعوات؛ حين سمعت صوتًا فسكَّتت نفسها بقولها: "صَهٍ" تتسمَّع؛ فسمعت الصوت مرة أخرى، فتأكدت من وجود أحدٍ وأن الأمر ليس خيالًا، فنادت مَن علمت وجوده وإن لم ترَ شخصه، فقالت: "قدْ أَسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ".
ذكر ابن حجر -رحمه الله- في رواية إبراهيم بن نافع: "أنها كانت في كل مرة تتفقد إسماعيل وتنظر ما حدث له بعدها، وفي روايته: فلم تُقِرُّها نفسُها فتشاهده في حال الموت، فرجعت" (انتهى).
هذا يوضِّح لنا قدرَ الصبر والمعاناة التي عانتها هاجر -عليها السلام- وهي تحدِّث نفسها في كل سعيها بموت ابنها، وتتوقعه في كل مرة، فإذا وجدت أنه لم يمت لم تتركها نفسها أن تنظر إليه؛ فتعود للسعي إلى أن جاء الفرج في نهاية السعي في الشوط السابع الذي سعته في شمس حارة وأرض غير ممهدة، وتسير على صخور جبلية ومرتفعات إلا جزءًا يسيرًا هو بطن الوادي، وهي جائعة عطشى مجهدة -رضي الله عنها وأرضاها-، ولقد أكرمها الله فصارت الأسوة الحسنة لآلاف الملايين عبر الأزمنة في السعي بين الصفا والمروة، وفي الافتقار لله والتضرع له، والرضا به ربًّا معينًا، وكمال التوكل عليه وحده.
الفائدة التاسعة:
قوله: "فَإِذَا هي بالمَلَكِ" -وفي رواية: "فإذا جبريل"-: قال ابن حجر -رحمه الله-: "وفي حديث علي عند الطبري بإسنادٍ حسنٍ: فنادَاها جِبريلُ، فقال: مَن أنتِ؟ قالت: أنا هاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إبراهيمَ، قال: فَإِلى مَن وَكَلَكُما؟ قالت: إلى اللهِ. قال: وَكَلَكُما إلى كافٍ" (انتهى).
وهذا فيه إثبات كرامة الأولياء برؤية الملائكة ورؤية جبريل -عليه السلام- خاصةً، وسماع كلامهم، وهذا مِن أعظم الكرامات، ولا أعلم نزاعًا في عدم نبوة هاجر -رضي الله عنها-، لكنها أم ولد لنبي، وأم نبي، وجدة نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
وفي هذه الرواية -التي ذكرها ابن حجر عند الطبري في سؤال جبريل لها: "مَنْ أَنْتِ؟"- لم تَنْسِب هاجر نفسها إلى أبيها، ولا إلى قبيلتها، ولا إلى بلدها الأصلي مصر، بل لم تنسب نفسها إلا إلى إبراهيم -عليه السلام-، بقولها: "أنا هاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إبراهيمَ"، فالانتساب إلى الأنبياء والصالحين -ولو على سبيل الرق- هو الشرف، فصحبتها لإبراهيم -عليه السلام- هي التي غيَّرت حياتها إلى معرفة الله وتوحيده، ومحبته، والتوكل عليه والثقة به -سبحانه وتعالى-؛ إذ لم تتعلم هذا من أهلها، ولا قومها المشركين؛ قوم الجبار الذي أراد سارة بسوء فكفَّ الله يده عنها ثلاث مرات، فأطلقها وأعطاها هاجر، فوهبتها سارة لإبراهيم -عليه السلام- يتخذها سُرِّيَّة علامة على جودها وكرم خلقها وتضحيتها في سبيل مَن تحب، زوجها إبراهيم -النبي الكريم صلى الله عليه وسلم-، فاتخذها إبراهيم سُرِّيَّة، وليست زوجة؛ ولذا لم تقل: "أنا زوجة إبراهيم"، بل قالت: "أَنَا هاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إبراهيمَ".
فقد بلغ حبُّ إبراهيم -عليه السلام- في قلبها مبلغًا أنساها أن تنتسب إلى غيره، -أو تعمدت عدم الانتساب لغيره- مِن الأهل والقبيلة والوطن، وهذا يعلِّمنا: أنه لا قيمة لنا إلا باتباع الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- والانتساب إليهم، ولا سبيل لذلك إلا باتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي علَّمنا الله به سيرتهم وهديهم، وعملهم، وعمل أهلهم وأصحابهم.
ووالله إن البشرية لا تساوي شيئًا دون تعليمهم وهدايتهم التي هدانا الله بها؛ فلنحذر أن نعظِّم مِن أهل أو قرابة ولو كان أبًا أو أمًّا أو مالًا أو وطنًا فوق تعظيمنا وتوقيرنا للأنبياء، وخاصة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فبه رحمنا الله، ونسأل الله أن يرحمنا في الآخرة كما رحمنا به في الدنيا، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
وفي امتحان جبريل -عليه السلام- لها بقوله: "إلى مَن وَكَلَكُمَا؟": تذكير لها بلحظة سؤالها لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وهو مرتحل عنها إلى الشام "آللهُ أَمَرَكَ بِهَذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضَيِّعُنا"، فجبريل -عليه السلام- يؤكِّد لها: أن حسن ظنها بربها ورضاها به ربًّا معينًا لا يضيعها هي وابنها، كان في موضعه، فالله هو الذي أرسله لكفايتها وابنها من عنده -سبحانه-، فقال: "وَكَلَكُمَا إلى كَافٍ"؛ هو -سبحانه- لم يضيعهما، ولم يتركهما، بل كفاهما من فضله، ورحمته وغناه، وكرمه وإحسانه، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق:3)، فهو -سبحانه- حسبنا ونعم الوكيل، وهو حسب كلِّ مَن توكل عليه ورضي به.
فاللهم إنَّا نشهدك أنَّا رضينا بك ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- نبيًّا.


ابوالوليد المسلم 29-03-2024 12:03 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (20)




قصة بناء الكعبة (18)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة العاشرة:
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في الحديث: "فَإِذَا هي بالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بعَقِبِهِ -أَوْ قالَ: بجَنَاحِهِ- حتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وتَقُولُ بيَدِهَا هَكَذَا، وجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ في سِقَائِهَا وهو يَفُورُ بَعْدَ ما تَغْرِفُ. وفي رواية: بِقَدْرِ مَا تَغْرِفُ. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قالَ: لو لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا). قالَ: فَشَرِبَتْ وأَرْضَعَتْ ولَدَهَا".
في ضرب جبريل -عليه السلام- الأرض بعقبه -أي: رجله أو بجناحه، وربما بهما معًا؛ فنبعت زمزم- فضيلة عظيمة لزمزم؛ لأنها نبعت بضرب جبريل -عليه السلام- الأرض، ومِن فضائلها ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّها مُبَارَكَةٌ، إِنَّها طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ) (أخرجه الطيالسي، وصححه الألباني)، وأصله في مسلم بلفظ: (إِنَّها طَعَامُ طُعْمٍ)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، فالنية مختلفة ينويها العبد المؤمن في أمر الدنيا والآخرة؛ فيجعله الله -عز وجل- له، يجيبه في دعوته.
وقد طُمِرت زمزم بعد عهودٍ مِن تعمير مكة بقبيلة جُرْهُم التي أتت لما رأت الماء، وتزوج منهم إسماعيل -عليه السلام- كما سيأتي في الحديث، لكِنْ طُمِرت بعد ذلك؛ حتى حفرها عبد المطلب، وهي قصة عجيبة نذكرها كما ذكرها ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" عن محمد بن إسحاق؛ لما فيها مِن الفوائد الجليلية.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ذِكْرُ تجديد حفر زمزم على يدي عبد المطلب بن هاشم، التي كان قد دَرَس رَسْمُها بعد طَمِّ جُرْهم لها إلى زمانه.
قال محمد بن إسحاق: ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ، إِذْ أُتِيَ فَأُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ وَكَانَ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مِنْ حَفْرِهَا، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ الْمِصْرِيُّ عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ الْغَافِقِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَ زَمْزَمَ حِينَ أُمِرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِحَفْرِهَا قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي لَنَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ لِي: احْفِرْ طِيبَةَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا طِيبَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فَجَاءَنِي، فَقَالَ: احْفِرْ بَرَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا بَرَّةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرِ الْمَضْنُونَةَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْمَضْنُونَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ فَجَاءَنِي قَالَ: احْفِرْ زَمْزَمَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا زَمْزَمُ؟ قَالَ: لَا تَنْزِفُ أَبَدًا (أي: لا تنضب) وَلَا تُذِمُّ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَم، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، عِنْدَ نُقْرَةِ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ، عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ.
قَالَ: فَلَمَّا بَيَّنَ لِي شَأْنَهَا، وَدَلَّ عَلَى مَوْضِعِهَا، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ صُدِقَ، غَدَا بِمِعْوَلِهِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -وَلَيْسَ لَهُ يَوْمئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ- فَحَفَرَ فَلَمَّا بَدَا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ الطَّيُّ كَبَّرَ فَعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ حَاجَتَهُ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ إِنَّهَا بِئْرُ أَبِينَا إِسْمَاعِيلَ، وَإِنَّ لَنَا فِيهَا حَقًّا فَأَشْرِكْنَا مَعَكَ فِيهَا. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ خُصِصْتُ بِهِ دُونَكُمْ، وَأُعْطِيتُهُ مِنْ بَيْنِكُمْ، قَالُوا لَهُ: فَأَنْصِفْنَا فَإِنَّا غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى نُخَاصِمَكَ فِيهَا. قَالَ: فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمْكُمْ إِلَيْهِ. قَالُوا: كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدِ بْنِ هُذَيْمٍ. قَالَ: نَعَمْ. وَكَانَتْ بِأَشْرَافِ الشَّامِ فَرَكِبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَرَكِبَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَفَرٌ فَخَرَجُوا وَالْأَرْضُ إِذْ ذَاكَ مَفَاوِزُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِهَا نَفَدَ مَاءُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابُهُ فَعَطِشُوا حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ فَاسْتَسْقَوْا مَنْ مَعَهُمْ فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: إِنَّا بِمَفَازَةٍ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَى أَنْفُسِنَا مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ.
فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَرَى أَنْ يَحْفِرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُفْرَتَهُ لِنَفْسِهِ بِمَا بِكُمُ الْآنَ مِنَ الَقُوَّةِ، فَكُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ دَفَعَهُ أَصْحَابُهُ فِي حُفْرَتِهِ ثُمَّ وَارَوْهُ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ رَجُلًا وَاحِدًا فَضَيْعَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةٍ رَكْبَ جَمِيعًا.
فَقَالُوا: نِعْمَ مَا أَمَرْتَ بِهِ فَحَفَرَ كُلُّ رَجُلٍ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً، ثُمَّ قَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ عَطْشَى، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ -لَا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ لَا نَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا-، لَعَجْزٌ فَعَسَى أَنْ يَرْزُقَنَا اللَّهُ مَاءً بِبَعْضِ الْبِلَادِ، فَارْتَحَلُوا حَتَّى إِذَا بَعَثَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَاحِلَتَهُ انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِ خُفِّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ فَكَبَّرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ أَصْحَابُهُ، وَاسْتَقَوْا حَتَّى مَلَئُوا أَسْقِيَتَهُمْ، ثُمَّ دَعَا قَبَائِلَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَقَالَ: هَلُمُّوا إِلَى الْمَاءِ فَقَدْ سَقَانَا اللَّهُ فَجَاءُوا فَشَرِبُوا وَاسْتَقَوْا كُلُّهُمْ، ثُمَّ قَالُوا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ: قَدْ وَاللَّهِ قُضِيَ لَكَ عَلَيْنَا وَاللَّهِ مَا نُخَاصِمُكَ فِي زَمْزَمَ أَبَدًا، إِنَّ الَّذِي سَقَاكَ هَذَا الْمَاءَ بِهَذِهِ الْفَلَاةِ لَهُو الَّذِي سَقَاكَ زَمْزَمَ فَارْجِعْ إِلَى سِقَايَتِكَ رَاشِدًا فَرَجَعَ وَرَجَعُوا مَعَهُ، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى الْكَاهِنَةِ، وَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَمْزَمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَذَا مَا بَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي زَمْزَمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ حِينَ أُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ: ثُمَّ ادْعُ بِالْمَاءِ الرِّوَى غَيْرِ الْكَدِرْ، يَسْقِي حَجِيجَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَبَرْ، لَيْسَ يَخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا عَمَرْ. قَالَ: فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: تَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَحْفِرَ زَمْزَمَ قَالُوا: فَهَلْ بُيِّنَ لَكَ أَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: فَارْجِعْ إِلَى مَضْجَعِكَ الَّذِي رَأَيْتَ فِيهِ مَا رَأَيْتَ فَإِنْ يَكُ حَقًّا مِنَ اللَّهِ يُبَيِّنْ لَكَ، وَإِنْ يَكُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَنْ يَعُودَ إِلَيْكَ. فَرَجَعَ وَنَامَ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: احْفِرْ زَمْزَمْ إِنَّكَ إِنْ حَفَرْتَهَا لَنْ تَنْدَمْ، وَهِيَ تُرَاثٌ مِنْ أَبِيكَ الْأَعْظَمْ، لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذِمْ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمْ مِثْلَ نَعَامٍ حَافِلٍ لَمْ يُقْسَمْ، وَيَنْذِرُ فِيهَا نَاذِرٌ لِمُنْعِمْ، تَكُونُ مِيرَاثًا وَعَقْدًا مُحْكَمْ، لَيْسَتْ كَبَعْضِ مَا قَدْ تَعْلَمْ، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: وَأَيْنَ هِيَ؟ قِيلَ لَهُ: عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ، حَيْثُ يَنْقُرُ الْغُرَابُ غَدًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. قَالَ: فَغَدَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ، وَلَيْسَ لَهُ يَوْمئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ -زَادَ الْأُمَوِيُّ: وَمَوْلَاهُ أَصْرَمُ- فَوَجَدَ قَرْيَةَ النَّمْلِ، وَوَجَدَ الْغُرَابَ يَنْقُرُ عِنْدَهَا بَيْنَ الْوَثَنَيْنِ إِسَافٍ وَنَائِلَةَ، اللَّذَيْنِ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْحَرُ عِنْدَهُمَا فَجَاءَ بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ لِيَحْفِرَ حَيْثُ أُمِرَ فَقَامَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ تَحْفِرُ بَيْنَ وَثَنَيْنَا اللَّذَيْنِ نَنْحَرُ عِنْدَهُمَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِابْنِهِ الْحَارِثِ: ذُدْ عَنِّي حَتَّى أَحْفِرَ فَوَاللَّهِ لَأَمْضِيَنَّ لِمَا أُمِرْتُ بِهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ غَيْرُ نَازِعٍ خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، وَكَفُّوا عَنْهُ فَلَمْ يَحْفِرْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى بَدَا لَهُ الطَّيُّ فَكَبَّرَ، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ صُدِقَ فَلَمَّا تَمَادَى بِهِ الْحَفْرُ وَجَدَ فِيهَا غَزَالَتَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ اللَّتَيْنِ كَانَتْ جُرْهُمٌ قَدْ دَفَنَتْهُمَا، وَوَجَدَ فِيهَا أَسْيَافًا قَلْعِيَّةً وَأَدْرَاعَا فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَنَا مَعَكَ فِي هَذَا شِرْكٌ وَحَقٌّ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ هَلُمَّ إِلَى أَمْرٍ نِصْفٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، نَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ قَالُوا: وَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: أَجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ قَدَحَيْنِ، وَلِي قَدَحَيْنِ، وَلَكُمْ قَدَحَيْنِ فَمَنْ خَرَجَ قَدَحَاهُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لَهُ، وَمَنْ تَخَلَّفَ قَدَحَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ قَالُوا: أَنْصَفْتَ فَجَعَلَ لِلْكَعْبَةِ قَدَحَيْنِ أَصْفَرَيْنِ، وَلَهُ أَسْوَدَيْنِ، وَلَهُمْ أَبْيَضَيْنِ، ثُمَّ أَعْطَوُا الْقِدَاحَ لِلَّذِي يَضْرِبُ عِنْدَ هُبَلَ -وَهُبَلُ أَكْبَرُ أَصْنَامِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلُ يَعْنِي: هَذَا الصَّنَمَ-، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ.
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ جَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ الْمَحْمُودْ، رَبِّي فَأَنْتَ الْمُبْدِئُ الْمُعيِدْ، وَمُمْسِكُ الرَّاسِيَةِ الْجُلْمُودْ، مِنْ عَنْدِكَ الطَّارِفُ وَالتَّلِيدْ، إِنْ شِئْتَ أَلْهَمْتَ كَمَا تُرِيدْ، لِمَوْضِعِ الْحِلْيَةِ وَالْحَدِيدْ، فَبَيِّنِ الْيَوْمَ لِمَا تُرِيدْ، إِنِّي نَذَرْتُ الْعَاهِدَ الْمَعْهُودْ، اجْعَلْهُ لِي رَبِّ فَلَا أَعُودْ. قَالَ: وَضَرَبَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ فَخَرَجَ الْأَصْفَرَانِ عَلَى الْغَزَالَتَيْنِ لِلْكَعْبَةِ، وَخَرَجَ الْأَسْوَدَانِ عَلَى الْأَسْيَافِ وَالْأَدْرَاعِ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَتَخَلَّفَ قَدَحَا قُرَيْشٍ فَضَرَبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْأَسْيَافَ بَابًا لِلْكَعْبَةِ، وَضَرَبَ فِي الْبَابِ الْغَزَالَتَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَانَ أَوَّلَ ذَهَبٍ حُلِّيَتْهُ الْكَعْبَةُ -فِيمَا يَزَعُمُونَ- ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَقَامَ سِقَايَةَ زَمْزَمَ لِلْحَاجِّ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: أَنَّ مَكَّةَ كَانَ فِيهَا أَبْيَارٌ كَثِيرَةٌ قَبْلَ ظُهُورِ زَمْزَمَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ عَدَّدَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَسَمَّاهَا، وَذَكَرَ أَمَاكِنَهَا مِنْ مَكَّةَ، وَحَافِرِيهَا إِلَى أَنْ قَالَ: فَعَفَتْ زَمْزَمُ عَلَى الْبِئَارِ كُلِّهَا، وَانْصَرَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَيْهَا لِمَكَانِهَا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلِفَضْلِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ الْمِيَاهِ، وَلِأَنَّهَا بِئْرُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَافْتَخَرَتْ بِهَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَعَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ" (انتهى من البداية والنهاية).
وتأمل أنه رغم أنهم يعبدون الأوثان ويستقسمون بالأزلام؛ إلا أنه لما ظهر الماء في زمزمٍ كبَّروا جميعًا، ولما جعل عبد المطلب -قبل الاستقسام بالأزلام- يدعو، دعا الله وحده لا شريك له، وأثنى عليه بالوحدانية، فيا عجبًا لهذه العقول! كيف تشرك بالله بعد ذلك، وهي تعلم أنه الإله الذي لا إله إلا هو؟!


ابوالوليد المسلم 29-03-2024 12:04 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (21)




قصة بناء الكعبة (19)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة الحادية عشرة:
قول ابن عباس -رضي الله عنهما- في الحديث: "قال النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْماعِيلَ، لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قالَ: لو لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الماءِ- لَكانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِيْنًا).
قال ابن الجوزي: "كان ظهور زمزم نعمة من الله محضة بغير عمل عامل، فلما خالطها تحويط هاجر داخلها كسب البشر؛ فقُصِرَت على ذلك".
فسبحان الله! كم كان أثر التوكل والافتقار إلى الله وحده عظيمًا! فحدثت النعمة الواسعة، وكم كان كسب البشر وحرصهم وقلقهم على المستقبل وتفكيرهم في الأسباب سببًا لِقَصْرِ النعمة على ما ظنوه وأرادوه!
وفي الرواية: "فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ" أي: تجعله مثل الحوض، وفي رواية: "تَحْفُر"، وفي حديث علي: "فَجَعَلَتْ تَحْبِسُ الماءَ، فَقَال: دَعِيْهِ، فَإِنَّهُ رُوَاء"، وفي هذا الحديث: (لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ زَمْزَم)؛ هذا كله دليل على أن حرصها وادخارها الماء في السقاء، وتحويطها في الحوض قلَّل مِن فوران الماء، ولو لم تفعل لكانت زمزم عينًا ظاهرة جارية على وجه الأرض، لا تحتاج إلى سقي بالدلاء والآلات.
فسبحان الله! كان يمكن أن تكون زمزم نهرًا جاريًا لولا الحرص.
هل أكل آدم من الشجرة إلا من أجل الحرص على الخلود والبقاء، قال الله -تعالى-: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) (طه:120)، وفي الآية الأخرى قال -سبحانه-: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (الأعراف:20).
وفي الحديث الصحيح قال الله -عز وجل- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) (متفق عليه)، وفي الحديث الآخر: (أَنْفِقْ بِلَالًا، ولا تَخْشَ مِن ذِي العَرْشِ إِقْلَالًا) (أخرجه البزار في مسنده، وصححه الألباني)، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيح: "لقَدْ تُوُفِّيَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وما في رَفِّي مِن شيءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إلّا شَطْرُ شَعِيرٍ في رَفٍّ لِي، فأكَلْتُ منه، حتّى طالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ" (متفق عليه).
الفائدة الثانية عشرة:
قوله في الحديث: "فَقالَ لَهَا المَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ؛ فإنَّ هَاهُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هذا الغُلَامُ وأَبُوهُ، وإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ": فيه أن الله لا يضيع مَن أطاعه وسعى إلى تعبيد الناس لربهم، فطاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ومعصية الله لا تأتي إلا بالشر، والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، فيا عباد الله المؤمنين، ويا أيها الدعاة، لا تخافوا الضيعة من طاعتكم لله ودعوتكم الناس إلى عبادة الله، فمهما ضاقت عليكم السبل، ومهما انفردتم في طريقكم واغتربتم في الناس، وابتعد الناس عنكم فاعلموا أن الله لا يضيعكم، ويا مَن تُعَمِّرون بيوت الله أبشروا، فإن الله لا يضيع مَن عمَّر بيوته وإن سعى مَن سعى مِن الناس إلى تضيعيهم فلن يضيعوا.
الفائدة الثالثة عشرة:
قوله في الحديث: "وكانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عن يَمِينِهِ وشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذلكَ حتَّى مَرَّتْ بهِمْ رُفْقَةٌ مِن جُرْهُمَ -أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِن جُرْهُمَ- مُقْبِلِينَ مِن طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا في أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقالوا: إنَّ هذا الطَّائِرَ لَيَدُورُ علَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بهذا الوَادِي وما فيه مَاءٌ، فأرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بالمَاءِ، فَرَجَعُوا فأخْبَرُوهُمْ بالمَاءِ، فأقْبَلُوا، قالَ: وأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقالوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، ولَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ في المَاءِ، قالوا: نَعَمْ. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (فألْفَى ذلكَ أُمَّ إسْمَاعِيلَ وهي تُحِبُّ الإنْسَ، فَنَزَلُوا وأَرْسَلُوا إلى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا معهُمْ، حتَّى إذَا كانَ بهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ منهمْ)".
في هذا الجزء من الحديث تدبير الله لأم إسماعيل وولدها؛ بل لأهل الإسلام عبر الزمان، وتيسير مرور الرفقة من جُرهم لبداية تكوين البلدة مكة المكرمة وتعميرها؛ بأن سخَّر الله -سبحانه وتعالى- الطيور التي تحوم حول الماء، وسخَّر -سبحانه- مرور طائفة من العرب الرُّحَّل في ذات المكان وذات التوقيت، وهم من قوم من أحسن الناس خُلُقًا، وأكرمهم سجية، فاستأذنوا على أم إسماعيل ولم يغلبوها على الماء؛ رغم أنها قالت: لا حق لكم في الماء، وهي امرأة ضعيفة وحيدة غريبة، لا أحد معها من أهلها، ومع ذلك فقبلوا ذلك بكل يسر وسهولة، ولم يعتدوا عليها كالجبابرة الذين يأخذون من الناس حقوقهم ويستعبدونهم لمجرد أنهم أقوى منهم، فسبحان الله! كم كان في الأرض في ذلك الوقت وقبلها وبعدها جماعات من الناس جبارين؛ كمسلك قوم عاد الذين قال لهم هود -عليه السلام-: (وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (الشعراء:130)، وكالملك الجبار في مصر الذي أراد أخذ سارة من إبراهيم؛ فحفظها الله وكفَّ يده وأخدمها هاجر.
فقد كان من الممكن أن يمر بهاجر -وهي وحدها، وطفلها رضيع- قوم جبارون أو قوم قساة؛ خصوصًا أن الطبيعة الصحراوية تجعل القسوة غالبة على القبائل التي تعيش فيها، ومع ذلك فقد استجاب الله دعوة إبراهيم، ومِن تمام هذه الدعوة بجعل الأفئدة تهوي إليهم أن جاء هؤلاء القوم الصالحون، الذين أحبوا إسماعيل وقدَّروا أمه وعظموها، واستجابوا بعد ذلك لدعوة إسماعيل -عليه السلام- كما سيأتي في الحديث، وبقيت عشرة قرون منهم على التوحيد قبل أن يحدث الشرك.
وفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أم إسماعيل: (فألْفَى ذلكَ أُمَّ إسْمَاعِيلَ وهي تُحِبُّ الإنْسَ) تأكيد وتصريح بطبيعة هاجر -رضي الله عنها- من حبها الأنس بالناس وكراهية الوحدة والانفراد، كما قالت لإبراهيم حين تركها في مكة أول ما أتى: "إِلَى مَن تَتْرُكُنَا في هَذَا الوَادِي الذي لَيْسَ بِهِ أَنِيسٌ ولا شَيءٌ؟!"، فهي بحثت أولًا عن الأنس، ثم ذكرت الأشياء التي تفتقدها في هذا المكان، فلما رزقها الله -عز وجل- زمزم طعام طعم وشراب سقم، بقيت الوحشة والغربة، فرزقها الله -عز وجل- هذه الرفقة الطيبة التي كانت علاجًا لوحشتها، وكانت سدادًا لفقرها إلى الأنيس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وهي تُحِبُّ الإنْسَ"، وكأنها طبيعة لعامة المصريين يحبون الأنس والاجتماع والصحبة، ويكرهون الانفراد والخلوة.
وفي رفع هذا الجزء من الحديث والذي قبله مِن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا) دليل على رفع الحديث كله؛ فإنه لا يُقَال مِن قِبَل الرأي، ولا هو مِن أخبار بني إسرائيل، فدلَّ ذلك على أن الحديث كله مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الفائدة الرابعة عشرة:
قوله في الحديث: "وشَبَّ الغُلَامُ وتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ منهمْ، وأَنْفَسَهُمْ وأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ": قَدَّر الله -سبحانه وتعالى- بقاء هذه الأمة العربية واللغة العربية، وكم كان مِن الشعوب والأمم واللغات في ذلك الزمن البعيد قد بادت! وبعضها لم يكن عنده من أسباب السيادة، ومع ذلك بادوا بعد أن سادوا، أما العرب فلم يكن عندهم من أسباب السيادة والقوة والملك والدولة، ومع ذلك فقدَّر الله بقاءهم وهم باقون -بحمد الله تبارك وتعالى- إلى اليوم، ومنزلتهم في الأمم ببركة نشأة إسماعيل -عليه السلام- فيهم، وهو لم يكن عربيًّا؛ فأبوه إبراهيم -عليه السلام- من أرض كنعان -أو من حوران على ما يذكرون-، وأمه مصرية هاجر -رضي الله عنها-، ولكن كما قالوا: العربية اللسان، وإسماعيل أبو العرب المستعربة؛ لأن العرب العاربة هم الذين كان منهم هذه القبيلة، ولم يبقَ منهم مَن يذكر، وإنما دخلت العرب العاربة في المستعربة في نسل إسماعيل، وإنما بقاء الأمم وبقاء الشعوب واللغات بانتسابهم إلى الأنبياء، وحفاظهم على هذه النسبة الشريفة الكريمة.
ثم كان بعد ذلك ورود القرآن -نعمة الله عز وجل العظمى على البشرية كلها وعلى العرب خصوصًا- باللغة العربية، بلسان عربي مبين؛ أعظم الأسباب على الإطلاق في بقاء هذه الأمة وهذه اللغة العربية.
فاللهم لك الحمد كما تقول، وخير مما نقول، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، يدبر الأمر -سبحانه وتعالى- بما يشاء، وكيف يشاء، فاللهم لك الحمد.


ابوالوليد المسلم 30-03-2024 11:57 AM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (22)




قصة بناء الكعبة (20)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة الخامسة عشرة:
قوله في الحديث: "حتَّى إذَا كانَ بهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ منهمْ، وشَبَّ الغُلَامُ وتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ منهمْ، وأَنْفَسَهُمْ وأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ": فيه ما جعل الله عليه الأنبياء قبل بعثتهم مِن القبول في الناس والمحبة لهم، فإن قوله: "أَنْفَسَهُمْ" معناه: رغبهم فيه؛ فكان نفيسًا عندهم، فقدَّر الله -عز وجل- لإسماعيل قبولًا في هؤلاء العرب؛ وذلك تمهيدًا لقبول دعوته -عليه الصلاة والسلام-، وظهور منزلته فيهم؛ حتى نشأت الأجيال المتتابعة من العرب -أبناء إسماعيل- على الإسلام كما وصف الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا . وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (مريم:54-55).
الفائدة السادسة عشرة:
قوله: "فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً منهمْ، ومَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَ ما تَزَوَّجَ إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عنْه، فَقالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ في ضِيقٍ وشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إلَيْهِ، قالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السَّلَامَ، وقُولِي له: يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ".
قال ابن حجر -رحمه الله-: "في رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ: "فَقَدِمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَدْ مَاتَتْ هَاجَرُ" قَوْلُهُ: "يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ" أَيْ: يَتَفَقَّدُ حَالَ مَا تَرَكَهُ هُنَاكَ. قَالَ ابن التِّينِ: هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ كَانَ عِنْدَمَا بَلَغَ السَّعْيَ، وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ تَرَكَ إِسْمَاعِيلَ رَضِيعًا، وَعَادَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهِ لَذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بَيْنَ زَمَانِ الرَّضَاعِ وَالتَّزْوِيجِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيُ هَذَا الْمَجِيءِ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَاءَ وَأُمِرَ بِالذَّبْحِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ.
قُلْتُ -أي: ابن حجر-: وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ مَجِيئِهِ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ فِي خَبَرٍ آخَرَ؛ فَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَزُورُ هَاجَرَ كُلَّ شَهْرٍ عَلَى الْبُرَاقِ؛ يَغْدُو غَدْوَةً فَيَأْتِي مَكَّةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقِيلُ فِي مَنْزِلِهِ بِالشَّامِ.
وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ -بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ- نَحْوَهُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَزُورُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ عَلَى الْبُرَاقِ؛ فَعَلَى هَذَا فَقَوله: "فجَاء إِبْرَاهِيمُ بعد مَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ"؛ أَيْ: بَعْدَ مَجِيئِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِرَارًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
قلتُ: والصحيح أن الذبيح إسماعيل، وعلى هذا جمهور العلماء، وإن كانت المسألة اجتهادية؛ إلا أن الأدلة ظاهرة في أن إبراهيم أُمِر بذبح ولده الوحيد، كما ورد ذلك في التوراة: "اذبح ابنك بكرك"، وإسماعيل هو البكر باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، وفي القرآن قال الله -تعالى- في سورة "ص": (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ . سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ . وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (ص:107-112)، فكان التبشير بإسحاق مجازة له على امتثال الأمر بذبح إسماعيل -عليه السلام-، والصحيح: أنه قد وقع الأمر بالذبح قبل هذه الزيارة، وقصة الذبح كانت قبل أن يأتي، وقد تزوَّج إسماعيل وقد ماتت هاجر -عليها السلام-.
قال ابن حجر -رحمه الله-: "قَوْلُهُ: "فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا" أَيْ: يَطْلُبَ لَنَا الرِّزْقَ، وَفِي رِوَايَةِ ابن جُرَيْجٍ: "وَكَانَ عَيْشُ إِسْمَاعِيلَ الصَّيْدَ يَخْرُجُ فَيَتَصَيَّدُ"، وَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ: "وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يَرْعَى مَاشِيَتَهُ وَيَخْرُجُ مُتَنَكِّبًا قَوْسَهُ فَيَرْمِي الصَّيْدَ"، وَفِي حَدِيث ابن إِسْحَاقَ "وَكَانَتْ مَسَارِحُهُ الَّتِي يَرْعَى فِيهَا السِّدْرَةَ إِلَى السِّرِّ مِنْ نَوَاحِي مَكَّةَ".
وقَوْلُهُ: "ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ" زَادَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ: "وَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ ضِيَافَةٌ؟". قَوْلُهُ: "فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ"، فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ: "فَقَالَ لَهَا: هَل مِن مَنْزِلٍ؟ قَالَت: لَا هَا اللَّهِ إِذَنْ، قَالَ: فَكَيْفَ عَيْشُكُمْ؟ قَالَ: فَذَكَرَتْ جَهْدًا، فَقَالَتْ: أَمَّا الطَّعَامُ فَلَا طَعَامَ، وَأَمَّا الشَّاءُ فَلَا تُحْلَبُ إِلَّا الْمَصْرَ -أَيِ: الشَّخْبَ- وَأَمَّا الْمَاءُ فَعَلَى مَا تَرَى مِنَ الْغِلَظِ". وَالشَّخْبُ السَّيَلَانُ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
في هذا الجزء من القصة بيان صفات المرأة التي لا يصلح الاستمرار في معاشرتها، وهي غير الشاكرة، الساخطة على العيش، فعيش إسماعيل -عليه السلام- لم يتغير بين المرأة الأولى والثانية؛ فكلتاهما كانتا سواء، لكن واحدة تذكر سوء الحال وتأبى أن تضيف مَن نزل بها، وتتسخط على ما عندها من الطعام، حتى تقول: لا طعام، وما عندها من الشراب تصفه بالغِلَظ! فالمرأة التي لا تشكر، والتي لا تحترم الكبير، ولا تحسن إلى ضيوف أزواجها، وترى دائمًا أنها في شرِّ حالٍ، وفي ضيقٍ وشدةٍ لا تشكر نعمة الله، ولا ترى ما عندها من النعم؛ لا تستحق المعاشرة؛ ولهذا أمر إبراهيمُ -عليه السلام- ابنه إسماعيلَ بطلاقها؛ ولكن بالكناية التي لم تفهمها المرأة ولم تعيها، ولكن وعاها إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-.
والجمع بين العتبة والمرأة في أنها كناية عن المرأة؛ لما فيها مِن الصفات الموافقة لها، وهو حفظ الباب وصون ما بداخله، وكونها محلًا للوطء (أفاده ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري).
الفائدة السابعة عشرة:
قوله في الحديث: "فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأنَّهُ آنَسَ شيئًا، فَقالَ: هلْ جَاءَكُمْ مِن أَحَدٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيخٌ كَذَا وكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، وسَأَلَنِي: كيفَ عَيْشُنَا؟ فأخْبَرْتُهُ أنَّا في جَهْدٍ وشِدَّةٍ، قالَ: فَهلْ أَوْصَاكِ بشَيءٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويقولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قالَ: ذَاكِ أَبِي، وقدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا".
في هذا الجزء من الحديث: حسن استعمال المعاريض والكنايات في الموضع الذي يحسن فيه ذلك؛ حتى لا يواجه المسيء بإساءته في وجهه فيحصل من ذلك ضرر.
وفيه: أن الرجل إذا غاب عن بيته ثم عاد إليه، فينبغي أن يسألهم عمَّن جاء، وأن ينظر في فعلهم وكلامهم، مع هذا الذي كان عندهم.
الفائدة الثامنة عشرة:
قوله في الحديث: "وتَزَوَّجَ منهمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عنْهمْ إبْرَاهِيمُ ما شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ علَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عنْه، فَقالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قالَ: كيفَ أَنْتُمْ؟ وسَأَلَهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقالَتْ: نَحْنُ بخَيْرٍ وسَعَةٍ، وأَثْنَتْ علَى اللَّهِ، فَقالَ: ما طَعَامُكُمْ؟ قالتِ: اللَّحْمُ، قالَ: فَما شَرَابُكُمْ؟ قالتِ: المَاءُ. قالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لهمْ في اللَّحْمِ والمَاءِ، قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: ولَمْ يَكُنْ لهمْ يَومَئذٍ حَبٌّ، ولو كانَ لهمْ دَعَا لهمْ فِيهِ. قالَ: فَهُما لا يَخْلُو عليهما أَحَدٌ بغيرِ مَكَّةَ إلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السَّلَامَ، ومُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قالَ: هلْ أَتَاكُمْ مِن أَحَدٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وأَثْنَتْ عليه، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي: كيفَ عَيْشُنَا؟ فأخْبَرْتُهُ أنَّا بخَيْرٍ، قالَ: فأوْصَاكِ بشَيءٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، هو يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قالَ: ذَاكِ أَبِي، وأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ".
قال ابن حجر -رحمه الله-: "في قوله: "نَحْنُ بخَيْرٍ وسَعَةٍ" فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ: "نَحْنُ فِي خَيْرِ عَيْشٍ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَنَحْنُ فِي لَبَنٍ كَثِيرٍ وَلَحْمٍ كَثِيرٍ وَمَاءٍ طَيِّبٍ"، قَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ"، فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "قال: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَرَكَةٌ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ"، وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فِي طَعَامِ أَهْلِ مَكَّةَ وَشَرَابِهِمْ بَرَكَةٌ.
قَوْلُهُ: "فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ"، فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ :"لَيْسَ أَحَدٌ يَخْلُو عَلَى اللَّحْمِ وَالْمَاءِ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا اشْتَكَى بَطْنَهُ"، وفِي حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ نَحْوَهُ: "فَقَالَتِ: انْزِلْ رَحِمَكَ اللَّهُ فَاطْعَمْ وَاشْرَبْ، قَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ النُّزُولَ. قَالَتْ: فَإِنِّي أَرَاكَ أَشْعَثَ أَفَلَا أَغْسِلُ رَأْسَكَ وَأَدْهُنُهُ. قَالَ: بَلَى إِنْ شِئْتِ، فَجَاءَتْهُ بِالْمَقَامِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَبْيَضُ مِثْلُ الْمَهَاةِ وَكَانَ فِي بَيْتِ إِسْمَاعِيلَ مُلْقًى، فَوَضَعَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَقَدَّمَ إِلَيْهَا شِقَّ رَأْسِهِ وَهُوَ عَلَى دَابَّتِهِ فَغَسَلَتْ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ، فَلَمَّا فَرَغَ حَوَّلَتْ لَهُ الْمَقَامَ حَتَّى وَضَعَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى وَقَدَّمَ إِلَيْهَا بِرَأْسِهِ فَغَسَلَتْ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْسَرَ، فَالْأَثَرُ الَّذِي فِي الْمَقَامِ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيهِ مَوْضِعُ الْعَقِبِ وَالْأُصْبُعِ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
وهذا الحديث يدل على صفات المرأة الصالحة الراضية بعيشها وبما رزق الله، التي تثني على الله -سبحانه وتعالى-، والتي تكرم ضيوف زوجها ولا تستخف بهم، وإنما تسعى في خدمتهم وإن لم تكن تعرفهم؛ حتى غسلت رأس إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وعرضت عليه النزول الذي لم تعرضه المرأة الأولى، فالمرأة الصالحة هي القنوعة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتاهُ) (رواه مسلم)، فمَن كانت راضية قنوعة صابرة رغم أن حالها يشكوه غيرها، ويراه ضيقًا وشدة، ولكن من نعمة الله على العبد والأَمَة أن يرضيا بما رزق الله -سبحانه وتعالى-، فأمره إبراهيم -عليه السلام- أن يثبِّت عتبة بابه، ودعا لهم في طعامهم وشرابهم، وهكذا البركة تحصل بدعوات الصالحين.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 30-03-2024 11:58 AM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (23)




قصة بناء الكعبة (21)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة التاسعة عشرة:
قوله في الحديث: "ثُمَّ لَبِثَ عنْهمْ ما شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذلكَ وإسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا له تَحْتَ دَوْحَةٍ، قَرِيبًا مِن زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ، فَصَنَعَا كما يَصْنَعُ الوَالِدُ بالوَلَدِ والوَلَدُ بالوَالِدِ، ثُمَّ قالَ: يا إسْمَاعِيلُ، إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بأَمْرٍ، قالَ: فَاصْنَعْ ما أَمَرَكَ رَبُّكَ، قالَ: وتُعِينُنِي؟ قالَ: وأُعِينُكَ، قالَ: فإنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا، وأَشَارَ إلى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ علَى ما حَوْلَهَا.
قالَ: فَعِنْدَ ذلكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأْتي بالحِجَارَةِ وإبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حتَّى إذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بهذا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ له فَقَامَ عليه، وهو يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وهُما يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:???)، قالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وهُما يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)".
قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: "النَّبْلُ: السَّهْمُ قَبْلَ أَنْ يُرَكَّبَ فِيهِ نَصْلُهُ وَرِيشُهُ، وَهُوَ السَّهْمُ الْعَرَبِيُّ.
وقَوْلُهُ: "عِنْدَ دَوْحَةٍ": هِيَ الَّتِي نَزَلَ إِسْمَاعِيلُ وَأُمُّهُ تَحْتَهَا أَوَّلَ قُدُومِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: "فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ" يَعْنِي مِنَ الِاعْتِنَاقِ وَالْمُصَافَحَةِ، وَتَقْبِيلِ الْيَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ قَالَ: "سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ: بَكَيَا حَتَّى أَجَابَهُمَا الطَّيْرُ"، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَبَاعَدَ لِقَاؤُهُمَا" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله- باختصارٍ).
ولقد كانت متابعة إبراهيم -عليه السلام- لتركته متكررة كما سبق أنه كان يأتيهم كل شهر على البراق ويرجع، وربما لم ينزل؛ هذا فيه أنه لا يجوز أن يترك الأب ذريته دون رعاية سنواتٍ طويلةٍ، كما يحدث كثيرًا الآن في سفر بعض الآباء طول العام، وربما أعوامًا متتابعة، وهو لا يرى ذريته ولا يتابعهم، ولا شك أن هذا فيه خطر كبير.
والظاهر: أن إبراهيم قد أتاه مرتين قبل أن يلقاه في هذه المرة؛ مرة حين أمره أن يطلق الزوجة الأولى، والمرة الثانية حين أمره أن يثبت الزوجة الثانية، ولا شك أن هذا بينه مدة طويلة؛ ولذلك وقع الاشتياق الشديد والبكاء حين التقيا، وهذا يدل على التراحم، والحب المستقر في القلوب بين الأب وابنه، وهكذا يجب أن نُحَافِظ على الأسرة -وإن تباعد اللقاء- فيكون هناك حرص ونصيحة ومتابعة؛ حتى يأذن الله -عز وجل- بلقاء مستمر.
قوله: "إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بأَمْرٍ":
قال ابن حجر -رحمه الله-: "فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا"، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ عِنْدَ الْفَاكِهِيِّ: "أَنَّ عُمُرَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِائَةَ سَنَةٍ، وَعُمُرَ إِسْمَاعِيلَ ثَلَاثِينَ سَنَةً" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
والمشهور: أن إبراهيم إنما رُزق بإسماعيل بعد ثمانين سنة، وليس عندنا نص في ذلك؛ إلا أن إبراهيم بنص القرآن قد قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم:39)، وقال -سبحانه وتعالى- عن سارة: (قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) (هود:72)، فكان سن إبراهيم كبيرًا بلا شك، ومع ذلك امتثل أمر الله -سبحانه وتعالى-، فكما امتثل أمره بالختان وهو ابن ثمانين سنة، امتثل بناء بيت الله بعد أكثر من ذلك بلا شك فوق المائة سنة على الراجح أو على الأقرب.
قَوْلُهُ: "وَتُعِينُنِي، قَالَ: وَأُعِينُكَ":
قال ابن حجر -رحمه الله-: "وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ"، قَالَ ابن التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَبْنِي أَولًا وَحْدَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُعِينَهُ إِسْمَاعِيلُ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ الثَّانِي مُتَأَخِّرًا بَعْدَ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ؛ بَلِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ، بِأَن يكون أَمَرَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَأَنَّ إِسْمَاعِيلَ يُعِينُهُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ الْبَيْتَ وَتُعِينَنِي"، وَتَخَلَّلَ بَيْنَ قَوْلِهِ: "أَبْنِيَ الْبَيْتَ" وَبَيْنَ قَوْلِهِ: "وَتُعِينَنِي" قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ: "فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
وهذا يدلنا على مبادرة إسماعيل بالاستجابة للأمر كما بادر حين أمره الله أن يذبحه، وقال الله -عز وجل-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات:102)، فهكذا التربية العظيمة على التوحيد والطاعة والامتثال السريع لأمر الله -سبحانه وتعالى- مهما كلَّف الإنسانَ ذلك، فهذا إسماعيل -عليه السلام- قد ربَّاه أبوه وربَّته أمه على الامتثال لطاعة الله -سبحانه وتعالى- فَلْنُربِّ أبناءنا على هذا الامتثال السريع، والاستجابة لأمر الله -سبحانه وتعالى-.
قَوْلُهُ: "وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ":
قال ابن حجر -رحمه الله-: "وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ: "فَبَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا يَوْمَئِذٍ غَيْرُهُمَا" يَعْنِي فِي مُشَارَكَتِهِمَا فِي الْبِنَاءِ؛ وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَزَلَ الْجُرْهُمِيُّونَ مَعَ إِسْمَاعِيلَ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
هذا -والله أعلم- لِشرفِ البيت قد خصَّ الله -عز وجل- إبراهيم بالبناء وإسماعيل بالإعانة، ولم يجعل معهما أحدًا؛ تكريمًا وتشريفًا أن لا يكون شاركهما في بناء الكعبة المشرفة غيرهما من الناس، كما ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي وضع الحجر الأسود في موضعه بعد أن تنازعت قريش حين بنت الكعبة قبل النبوة، فأمرهم أن يأتوا بثوب وتأخذ بكل طرف منه قبيلة من قريش، ثم وضع الحجر الأسود عليه، ثم وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة في موضعه؛ تكريمًا له وتوفيقًا من الله -عز وجل-.
قَوْلُهُ: "رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ":
قال ابن حجر -رحمه الله-: "فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ: الْقَوَاعِدُ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ كَانَتْ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ" (وهذا إسناد صحيح). زَاد أَبُو جَهْمٍ: "وَأَدْخَلَ الْحِجْرَ فِي الْبَيْتِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ زَرْبًا لِغَنَمِ إِسْمَاعِيلَ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ بِحِجَارَةٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ سَقْفًا وَجَعَلَ لَهُ بَابًا، وَحَفَرَ لَهُ بِئْرًا عِنْدَ بَابِهِ خِزَانَةً لِلْبَيْتِ يُلْقَى فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْبَيْتِ".
وقَوْلُهُ: "جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ" يَعْنِي: الْمَقَامَ. وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "حَتَّى ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ، فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ" زَادَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ "وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُومُ عَلَى الْمَقَامِ يَبْنِي عَلَيْهِ وَيَرْفَعُهُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الرُّكْنُ وَضَعَهُ يَوْمَئِذٍ مَوْضِعَهُ وَأَخَذَ الْمَقَامَ فَجَعَلَهُ لَاصِقًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ جَاءَ جِبْرِيلُ فَأَرَاهُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، ثُمَّ قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْمَقَامِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَوَقَفَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ تِلْكَ الْمَوَاقِفَ، وَحَجَّهُ إِسْحَاقُ وَسَارَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِالشَّامِ".
وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق مُجَاهِد عَن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: "قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْحَجَرِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ، فَأَسْمَعَ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، فَأَجَابَهُ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ".
وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: "وَاللَّهِ مَا بَنَيَاهُ بِقِصَّةٍ وَلَا مَدَرٍ، وَلَا كَانَ لَهُمَا مِنَ السَّعَةِ وَالْأَعْوَانِ مَا يَسْقُفَانِهِ" (انتهى كلام ابن حجر من فتح الباري).
وقد أطلنا الكلام على هذا الحديث؛ لما فيه مِن الفوائد العظيمة الجسيمة التي نحتاج إليها في مناحي الحياة كلها، وفي التوكل على الله والتوحيد والرضا بالله -عز وجل- ربًا مُدبرًا معينًا، والامتثال لله -سبحانه وتعالى-، وفي تربية الزوجة والأولاد، ومعالم البيت المسلم الصالح، وغير ذلك مما أشرنا إليه.
نسأل الله أن يلحقنا بالصالحين، وأن يرزقنا حج بيته الحرام، إنه على كل شيء قدير.


ابوالوليد المسلم 30-03-2024 12:00 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (23)


قصة بناء الكعبة (22)

كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:127).
تدل هذه الآية الكريمة على أن: القواعد كانت قبل أن يبني إبراهيم -عليه السلام-، والله -عز وجل- أعلم مَن الذي بناها قبل ذلك أو مَن الذي وضعها، والآثار التي وردت في ذلك كلها من الإسرائيليات أو من الأخبار المرسلة والمقطوعة، لم يثبت منها شيء للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما الذي ثبت هو وجود هذه القواعد أسفل البيت وأوسع من البناء الحالي، ويدل على ذلك قصة بناء الكعبة قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكذلك قصة بناء عبد الله بن الزبير للكعبة؛ عندما احترقت زمن حصار جنود يزيد بن معاوية لعبد الله بن الزبير ورَمْي مكة بالمنجنيق.
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "ذِكْر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل -عليه السلام- بمدد طويلة، وقبل مَبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس سنين، وقد نَقَل معهم في الحجارة، وله مِن العمر خمس وثلاثون سنة -صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدِّين-.
قال محمد بن إسحاق بن يسار، في السيرة: ولما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسًا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يَهمون بذلك لِيسْقِفُوها، ويهابون هدمها، وإنما كانت رَضْمًا فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دُوَيْك مولى بني مُلَيح بن عمرو بن خزاعة، فقطعت قريش يده. ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دُوَيْك. وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة، لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها.
وكان بمكة رجل قبطي نجار (أي: مصري)، فتَهَيَّأ لهم في أنفسهم بعضُ ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تُطرح فيها ما يُهدى لها كل يوم، فتُشْرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون. وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احْزَأَلَّتْ (ارتفعت واسْتَوْفَزَت للوثوق) وكَشَّت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يومًا تُشْرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها، فذهب بها. فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه. فقال: يا معشر قريش، لا تُدْخِلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
قال ابن إسحاق: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.
قال: ثم إن قريشًا تجزَّأَت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزُهْرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وسُهْم، وكان شق الحِجْر لبني عبد الدار بن قُصي، ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو الحطيم.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفَرِقوا منه (خافوا)، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها: فأخذ المِعْول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم تَرُعِ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربَّص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس -أساس إبراهيم عليه السلام- أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة (قلتُ: أظنه تصحيفًا، والصواب كالأَسْنِمَة؛ أي: أسنمة الجمال) آخذ بعضها بعضًا.
قال محمد بن إسحاق: فحدثني بعض مَن يروي الحديث أن رجلًا من قريش، ممَّن كان يهدمها، أدخل عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضًا أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن -يعني: الحجر الأسود- فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا، وأعدوا للقتال. فقرَّبت بنو عبد الدار جَفْنة مملوءة دمًا، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجَفْنة، فسموا: لَعْقَة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان عامَئِذٍ أسنَّ قريش كلهم، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه؛ ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال -صلى الله عليه وسلم-: هَلُمَّ إليَّ ثوبًا؛ فأُتِي به، فأخذ الركن -يعني: الحجر الأسود- فوضعه فيه بيده، ثم قال: لِتَأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا؛ ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه؛ وضعه هو بيده -صلى الله عليه وسلم-، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين.
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر ذراعًا، وكانت تُكْسى القَبَاطِي، ثم كُسِيت بعدُ البَرَودَ، وأول مَن كساها الديباج: الحجاج بن يوسف.
قال ابن كثير: قلتُ: ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذٍ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم -عليه السلام- وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابًا شرقيًا، وبابًا غربيًا ملصقين بالأرض، كما سمع ذلك مِن خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج، فردَّها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما روى مسلم بن الحجاج في صحيحه: عن عطاء، قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، وكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قَدِم الناس الموسم يريد أن يجرئهم أو يحزبهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس، أشيروا عليَّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها؟ قال ابن عباس: فإني قد فَرَق لي رأي فيها، أرى أن تصلح ما وَهَى منها، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه وأحجارًا أسلم الناس عليها، وبُعث عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف بيت ربكم -عز وجل-؟! إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري، فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها.
فتحاماها الناس (أي: خافوا) أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر مِن السماء، حتى صعده رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة يُسْتَر عليها الستور، حتى ارتفع بناؤه.
وقال ابن الزبير: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّي عَلَى بِنَائِهِ، لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُعٍ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ)، قَالَ: (فَأَنَا الْيَوْمَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ)، قَالَ: فَزَادَ فِيهِ خَمْسَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى أُسًّا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ، فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشْرَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ. فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ: أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ، أَمَّا مَا زَادَ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، ‌وَأَمَّا ‌مَا ‌زَادَ ‌فِيهِ ‌مِنَ ‌الْحِجْرِ ‌فَرُدَّهُ ‌إِلَى ‌بِنَائِهِ، ‌وَسُدَّ ‌الْبَابَ ‌الَّذِي ‌فَتَحَهُ، ‌فَنَقَضَهُ ‌وَأَعَادَهُ ‌إِلَى ‌بِنَائِهِ (رواه مسلم).
قال ابن كثير -رحمه الله-: وقد كانت السُّنَّة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-؛ لأنه هو الذي ودَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولكن خَشِيَ أن تُنْكِره قلوبُ بعض الناس؛ لحداثة عهدهم بالإسلام وقُرْب عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذه السُّنَّة على عبد الملك بن مروان؛ ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها رَوَت ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال -يعني عبد الملك-: وددنا أنَّا تركناه وما تَوَلَّى.
كما روى مسلم عن عبد الله بن عبيد قال: وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ -يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ- سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهَا، قَالَ الْحَارِثُ: بَلَى أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهَا، قَالَ: سَمِعْتَهَا تَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (‌إِنَّ ‌قَوْمَكِ ‌اسْتَقْصَرُوا ‌مِنْ ‌بُنْيَانِ ‌الْبَيْتِ، ‌وَلَوْلَا ‌حَدَاثَةُ ‌عَهْدِهِمْ ‌بِالشِّرْكِ، ‌أَعَدْتُ ‌مَا ‌تَرَكُوا ‌مِنْهُ، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ)، فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ.
وزاد عليه الوليد بن عطاء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ فِي الْأَرْضِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا، وَهَلْ تَدْرِينَ لِمَ كَانَ قَوْمُكِ رَفَعُوا بَابَهَا؟)، قَالَتْ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: (تَعَزُّزًا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا هُوَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا يَدَعُونَهُ يَرْتَقِي، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَفَعُوهُ فَسَقَطَ)، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ، لِلْحَارِثِ: أَنْتَ سَمِعْتَهَا تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَنَكَتَ سَاعَةً بِعَصَاهُ، ثُمَّ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُ وَمَا تَحَمَّلَ.
وروى مسلم عن أبي قزعة: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ قَالَ: قَاتَلَ اللهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَيْثُ يَكْذِبُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا عَائِشَةُ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ حَتَّى أَزِيدَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، فَإِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرُوا فِي الْبِنَاءِ)، فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا سَمِعْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُحَدِّثُ هَذَا قَالَ: لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ، لَتَرَكْتُهُ عَلَى مَا بَنَى ابْنُ الزُّبَيْرِ" (انتهى كلام ابن كثير -رحمه الله- بتصرفٍ يسيرٍ).


ابوالوليد المسلم 01-04-2024 11:59 AM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (25)




قصة بناء الكعبة (23)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة:127-131).
في هذه الآيات بيان حال المؤمنين في إشفاقهم من عدم القبول؛ خوفًا من التقصير في العبادة ظاهرًا أو باطنًا، فآفات النفس الإنسانية لا يحيط بها إلا الله -سبحانه- الذي يعلم السر وأخفى، والذي يعلم مَن خَلَق، وما يُسِرُّه الإنسان في نفسه داخل في السر، فما هو أخفى مِن أعماق النفس البشرية العجيبة، وإراداتها الخفية التي تخفى على صاحبها، لا يطلع عليها إلا الله، فمن أين يجزم الإنسان لنفسه بالإخلاص والصدق حتى يجزم بالقبول؟!
وإذا كان خليل الله إبراهيم وابنه إسماعيل الرسول النبي -صلى الله عليهما وسلم- يبنيان لله بيته الحرام، ويخافان من عدم القبول؛ فكيف بحال مَن دونهما؟! فلن يدخل الجنة أحد بعمله؛ إلا أن يتغمدنا الله برحمته، وقد قال بعض السلف: "مَن ظن في عمله الإخلاص فهو يحتاج إلى الإخلاص".
ولا يزال المؤمن ينظر في عيوب عمله وآفات نفسه ويخشى مِن الرد وعدم القبول، ولا يأمن مكر الله على دخائل في نفسه لا يعلمها؛ قد تنمو مع الزمن، وقد تظهر مع الابتلاء، وحال إبليس عبرة وعظة لكل سائرٍ إلى الله، وهذا أمر عظيم الأهمية في لزوم التزكية، والتهذيب للنفس ودوام المراقبة والمراجعة، فاللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، قال الله -سبحانه وتعالى- (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
وفي هذه الآيات الكريمات التعلُّق بأسماء الله وصفاته، ومشاهدة اطلاعه -سبحانه- بسمعه وعلمه على أقوال العباد وأعمالهم ودعائهم، وفيها عظم الرجاء في القبول؛ رغم التقصير والنقص والآفات.
ثم بيَّن -تعالى- أن الإسلام هو دين إبراهيم وبنيه -إسماعيل وإسحاق- وبعدهم يعقوب وذريتهم جميعًا، فكَذَب مَن نسب إلى إبراهيم دينًا غير دين الإسلام، وقد بيَّن -سبحانه- ارتباط دين الإسلام بالكعبة والحج إليها من زمن إبراهيم إلى يوم القيامة، أو إلى ما قبل ذلك بيسير؛ حين يهدم الكعبة ذو السويقتين من الحبشة؛ حين لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله، كما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وفي هذه الآيات ارتباط هذا الدِّين بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- من حين مبعثه إلى يوم القيامة، وقد خص الله رسالته باسم الإسلام عَلَمًا على هذا الدين وهذه الشريعة دون شرائع مَن سبقهم من الرسل؛ كموسى وعيسى -عليهما السلام-؛ رغم أن دينهم الإسلام ودين جميع الأنبياء، لكن -بفضل الله- كان الاسم العَلَم "الإسلام" على هذه الشريعة المحمدية، واسم "المسلمون" العَلَم على أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، رغم أن أتباع موسى وعيسى مسلمون حقيقة، قال الله -تعالى-: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (يونس:84-86).
وقال -سبحانه وتعالى- عن فرعون حين أراد أن يعلن دخوله في دين موسى -صلى الله عليه وسلم-: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس:90).
وقال -سبحانه وتعالى- عن المسيح -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه: (عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:52).
وقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) (المائدة:111).
فلا يصح أبدًا الانتساب إلى دين إبراهيم ومنهج إبراهيم وملة إبراهيم؛ إلا باتباع محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الشريعة الإٍسلامية؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) (رواه أحمد، وحسنه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، وَالأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلَّاتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَالذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابنُ مَرْيَمَ إمامًا مُقْسِطًا، وحَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، ويَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، ويَضَعَ الجِزْيَةَ، ويَفِيضُ المالُ حتّى لا يَقْبَلَهُ أحَدٌ) (متفق عليه).
وقال -سبحانه وتعالى-: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133).
وقد سبقت الرواية بحج سارة وإسحاق -عليه السلام-، وقال -تعالى- عن صهر موسى -عليه السلام-: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص:27).
وهذا يدل على معرفة الأمم السابقة بالحج وتوقيتهم به، بل وفعلهم له، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: (أَيُّ وَادٍ هَذَا؟) فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ، قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ)، ولما مرَّ بِثَنِيَّةِ هَرْشَى قال -صلى الله عليه وسلم-: (أيُّ ثَنِيَّةٍ هذِه؟) قالوا: ثَنِيَّةُ هَرْشى، قالَ: )كَأَنِّي أنْظُرُ إلى يُونُسَ بنِ مَتّى -عليه السَّلامُ- على ناقَةٍ حَمْراءَ جَعْدَةٍ عليه جُبَّةٌ مِن صُوفٍ، خِطامُ ناقَتِهِ خُلْبَةٌ وهو يُلَبِّي) (رواه مسلم). وكل هذه الأحاديث في الصحيح.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح أيضًا: (والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابنُ مَرْيَمَ بفَجِّ الرَّوْحاءِ، حاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُما) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيُحَجَّنَّ البَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) (رواه البخاري).
فلا دين إبراهيمي إلا بالحج فعلًا أو عزمًا ونية، وإلا باستقبال القبلة الكعبة المشرفة، وإلا باتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-، فمَن زعم جمع الديانات الثلاثة -اليهودية والنصرانية والإسلام- باسم دين إبراهيم؛ فهو يقول أبطل الباطل ويُكَذب القرآن العظيم؛ لأن مَن كذَّب كلام الله -عز وجل- في الشهادة بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، ولبيته الحرام بوجوب استقباله كان مُكذبًا لله -عز وجل- مشركًا به كافرًا به.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "قوله -تعالى- حكايةً لدعاء إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:128). قال ابن جرير: يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعَين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدًا سواك، ولا في العبادة غيرك. وروى ابن أبي حاتم: عن عبد الكريم: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال: مخلصين لك، (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ) قال: مخلصة.
وروى أيضًا عن سلَّام بن أبي مُطيع في هذه الآية: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)، قال: كانا مسلمين، ولكنهما سألاه الثبات.
وقال عكرمة: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال الله: قد فعلت، (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ)، قال الله: قد فعلت.
وقال السدي: ‏(وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ)‏ يعنيان العرب.
قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم؛ لأن مِن ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله -تعالى-: (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف: 159).
قلتُ -أي: ابن كثير-: وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي؛ فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي مَن عداهم، والسياق إنما هو في العرب؛ ولهذا قال بعده: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ... )، والمراد بذلك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد بعث فيهم كما قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ) (الجمعة:2). ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود؛ لقوله -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف: 158)، وغير ذلك من الأدلة القاطعة.
وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- كما أخبر الله -تعالى- عن عباده المتقين المؤمنين، في قوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74).
وهذا القَدْر مرغوب فيه شرعًا، فإن مِن تمام محبة عبادة الله -تعالى- أن يحب أن يكون مِن صلبه مَن يعبد الله وحده لا شريك له؛ ولهذا قال الله -تعالى- لإبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)، وهو قوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم:35).
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ).
(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) قال ابن جريج، عن عطاء (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا): أخرجها لنا، عَلِّمْناها.
وقال مجاهد: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) مذابحنا، وروي عن عطاء أيضًا، وقتادة نحو ذلك. (قلتُ: أي: الأماكن التي نذبح فيها ذبائحنا تقربًا إلى الله -عز وجل-).
وقال سعيد بن منصور: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد، قال: قال إبراهيم: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) فأتاه جبرائيل، فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد. فرفع القواعد وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله. ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبر وارْمِهِ، فكبر ورماه. ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه، فكبر ورماه. فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام. فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات. قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرار. قال: نعم. وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك.
وروى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس، قال: إن إبراهيم لما أُرِيَ أوامر المناسك، عَرَضَ له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى، فقال: مناخ الناس هنا. فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرَّض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة الوسطى، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جمعًا. فقال: هذا المشعر. ثم أتى به عرفة. فقال: هذه عرفة. فقال له جبريل: أعرفت؟" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 01-04-2024 12:00 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (26)‏




‏ قصة بناء الكعبة (24)‏
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة:127-131).
في هذه الأيام المباركة التي تتجه فيها أبدان عشرات الألوف من الحجاج لبيت الله الحرام، وتتجه قلوب مئات الملايين إلى هذه البقعة المكرمة -الكعبة المشرفة- تشتاق لبيت الله الحرام شوقًا إلى الله -سبحانه- وحبًّا له في الحقيقة وتعظيمًا لشعائره، تشكو إلى الله حرمانها من الحج لبيت الله الحرام والوقوف بمشاعره؛ التي جعل فيها حياة القلوب وهداية الأرواح، كما وصف الله -عز وجل- الكعبة: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96).
تذكَّروا قصة بناء إبراهيم للكعبة مع ابنه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-، ودعاءهما لبعثة النبي الأمي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ الذي افترض الله على الإنس والجن إلى يوم القيامة اتباعه والإيمان به، ومحبته فوق الوالد والولد والناس أجمعين.
وجعل مَن كذَّبه مُكذبًا لجميع الأنبياء؛ فلا يكون مُتبعًا لمَن انتسَب إليهم -كموسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم- إذا لم يؤمن بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:156-158).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).
نؤكِّد على هذه المعاني في هذه الأيام المباركة؛ التي تشهد في نفس الوقت محاولات تضييع هوية الأمة وخداع أبنائها؛ بادِّعاء مساواة الملل، وتحقيق التطبيع مع اليهود، وإقامة العلاقات الكاملة الدبلوماسية والاقتصادية؛ بل والسماح بالتجنُّس لأصحاب الأموال منهم في بلاد المسلمين وأرض الجزيرة العربية؛ بزعم السلام الذي لم يَرَ المسلمون من علاماته شيئًا في حقيقة تعامل اليهود معهم على أرض فلسطين، بل وغيرها مِن البلاد التي يشنون فيها المؤامرات لتكبيل إرادة بلاد المسلمين.
وكذلك تقوم هذه المحاولات لإلهاء الأجيال القادمة -بل والحالية- عن حقيقة عداوة هؤلاء اليهود للأنبياء وكفرهم بهم، وعدوانهم على الأمة كلها بالاعتداء على أرض فلسطين والمسجد الأقصى، وقد أبوا الحج إلى بيت الله الحرام من قديم، وأبوا اتباع القرآن والرسول -صلى الله عليه وسلم-.
فليحذر المسلمون جميعًا من تضييع عقيدتهم بـ(إِنَّ الدينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ) (آل عمران:19)، وبـ(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وليحذروا مِن تضييع قضيتهم في التفريط في القدس والمسجد الأقصى وأرض فلسطين كلها، وليعلموا أن ضعف الأمة اليوم وقوة أعدائها يوشك أن يتبدل، فالله يداول الأيام بين الناس، وهو مالك الملك يؤتي الملك مَن يشاء، وينزع الملك مِن مَن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وَلْيُوقن كل مسلم أن وعد الله للأمة بالنصر قائم بشرط تحقيق العبودية والإيمان والعمل الصالح، قال الله -عز وجل-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ . وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:105-107)، وقال -عز وجل-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات:171-173)، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، فلا تبيعوا قضيتكم، ولا تبيعوا أمتكم، ولا تبيعوا دينكم؛ لإرضاء أعداء الله، فإن غدًا لِنَاظِره قريب، وَلَتَعْلَمُنَّ نبأه بعد حين.
وقال الله -عز وجل- عن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- في دعائهما أثناء بناء الكعبة: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولًا منهم -أي: من ذرية إبراهيم-، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَر الله السابق في تعيين محمدٍ -صلوات الله وسلامه عليه- رسولًا في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجمين من الإنس والجن، كما روى الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنِّي عِندَ اللهِ لخاتَمُ النَّبيِّينَ وإنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ في طِينتِه، وسأُنَبِّئكم بأوَّلِ ذلك: دَعْوةِ أبي إبراهيمَ، وبِشارةِ عيسى بي، ورُؤْيا أُمِّي التي رأتْ، وكذلك أُمَّهاتُ النَّبيِّينَ يَرَيْنَ".
(قلتُ: وإن كان في إسناد الحديث مقال؛ إلا أنه محمول على معنى: أن الله قَدَّر نبوَّته، وليس ابتدأ خلقه وآدم مجندل في طينته، فآدم أبو البشر والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قُدِّر وجوده نبيًّا، أما وجوده -صلى الله عليه وسلم- فمعلوم نسبه أنه وُلِد في عام الفيل، ولم يكن موجودًا قبل ذلك إلا في القدر).
قال ابن كثير -رحمه الله-: وروى الإمام أحمد أيضًا عن أبي أمامة قال: "قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ما كانَ أوَّلِ بدءُ أمرِكَ؟ قالَ: دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبُشرى عيسى بي، ورأت أمِّي أنَّهُ خرج منها نورٌ أضاءت لَهُ قصورُ الشّامِ". والمراد: أن أول مَن نوَّه بذكره وشهره في الناس إبراهيم -عليه السلام-، ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا، وهو عيسى ابن مريم -عليه السلام-، حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا، وقال: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف:6)؛ ولهذا قال في هذا الحديث: "دَعْوَةُ أبي إِبْراهيمَ، وبُشرى عيسى".
وقوله: "وَرَأَتْ أمي أَنَّه خَرجَ مِنها نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ" قيل: كان منامًا رأته حين حملت به، وقَصَّتْه على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة. وتخصيص الشام بظهور نوره -صلى الله عليه وسلم- إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام؛ ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلًا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها؛ ولهذا جاء في الصحيحين: (لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ على الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ كَذلكَ). وفي صحيح البخاري: (وَهُمْ بِالشَّامِ).
(قلتُ: يعني آخر الزمان قبل نزول عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم-؛ وإلا فقد احتُلت الشام من التتر والصليبيين والاحتلال الغربي في زماننا، ثم الباطنية من النصيرية الملحدين).
قال ابن كثير -رحمه الله-: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ) يعني: أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-. فقيل له: قد اسْتُجِيبَتْ لك، وهو كائن في آخر الزمان. وكذا قال السدي وقتادة" (انتهى من تفسير ابن كثير -رحمه الله-).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 01-04-2024 12:01 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (27)



قصة بناء الكعبة (25)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله -تعالى- عن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة:129).
تضمنت هذه الآية الكريمة الحكمة من البعثة النبوية المباركة؛ وهي تلاوة آيات الله المنزلة، وهي قراءتها المقصود منها اتباعها، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة، والتزكية.
وهذا يدل دلالة ظاهرة على لزوم اتباع السنة؛ لأن الله -تعالى- جعل تلاوة الآيات غير تعليم الكتاب؛ فتلاوة الآيات قراءتها، أما تعليمها الذي يقوم بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو تبيين ما فيها من الأخبار والأحكام في العقيدة والعمل والسلوك؛ التي لا سبيل إلى معرفتها والعمل بها إلا من خلال بيان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم الحكمة: السنة.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله -تعالى-: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) يعني: القرآن. (وَالْحِكْمَةَ) يعني: السنة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم. وقيل: الفَهْم في الدين. ولا مُنافاة. (وَيُزَكِّيهِمْ): قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني طاعة الله، والإخلاص.
وقال محمد بن إسحاق: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) يعلمهم الخير فيفعلوه، والشر فيتقوه، ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته، وتجنبوا ما سخط من معصيته.
وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي: العزيز الذي لا يُعْجِزه شيء، وهو قادر على كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محالها بعلمه وحكمته وعدله" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وقال ابن جرير -رحمه الله- عن ابن وَهْب، قَالَ: "قُلْت لِمَالِكِ: مَا الْحِكْمَة؟ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ، وَالْفِقْه فِي الدِّين، وَالِاتِّبَاع لَهُ. وعن ابْن زَيْد قَالَ: الكتاب القرآن، والحِكْمَة: الدِّين؛ الَّذِي لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا بِهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمهُمْ إيَّاهَا. قَالَ: وَالْحِكْمَة: الْعَقْل فِي الدِّين، وَقَرَأَ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة:269). وَقَالَ لِعِيسَى: (وَيُعَلِّمهُ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل) (آل عمران:48). وَقَرَأَ ابْن زَيْد: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) (الأعراف:175)، قَالَ: لَمْ يَنْتَفِع بِالْآيَاتِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ مَعَهَا حِكْمَة. قَالَ: والحِكْمَة شَيْء يَجْعَلهُ اللَّه فِي الْقَلْب يُنَوِّر لَهُ بِهِ. وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل عِنْدنَا فِي الْحِكْمَة: أَنَّهَا العِلْم بِأَحْكَامِ اللَّه؛ الَّتِي لَا يُدْرَك عِلْمُها إلَّا بِبَيَانِ الرَّسُول -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمَعْرِفَة بِهَا، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ نَظَائِره.
وَهُوَ عِنْدِي مَأْخُوذ مِنْ "الْحُكْم" الَّذِي بِمَعْنَى الْفَصْل بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل بِمَنْزِلَةِ "الجِلْسَة وَالْقَعْدَة" من "الْجُلُوس وَالْقُعُود"، يُقَال مِنْهُ: إنَّ فُلَانًا لَحَكِيم بَيِّنٌ الْحِكْمَة؛ يَعْنِي أَنَّهُ لَبَيِّن الْإِصَابَة فِي الْقَوْل وَالْفِعْل.
وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيل الْآيَة: رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتك، وَيُعَلِّمهُمْ كِتَابك الَّذِي تُنَزِّلهُ عَلَيْهِمْ وَفَصْلَ قَضَائِك، وَأَحْكَامَك الَّتِي تُعَلِّمهُ إيَّاهَا" (انتهى من ابن جرير).
ولا تعارض بين التفسيرين؛ فلا فَهْم ولا عقل في الدين دون معرفة السنة، ولا فصل بين الحق والباطل إلا بمعرفة السنة، كما أنه لا فَهْم ولا عمل بالقرآن إلا بتعليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إيَّانا فَهْمَ الكتاب وكيفية العمل به؛ كبيان كيفية الصلوات والزكاة، والصيام، والحج، والحلال والحرام.
وكأن الحكمة -التي هي السنة- هي القسم الثالث من السنة، التي استقلت السنة فيه بتبيين الأحكام؛ فإن السنة مع القرآن على ثلاثة أقسام:
الأول: ما جاءت به السنة بتأكيد ما جاء في القرآن؛ كالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالحج والصيام إجمالًا.
الثاني: ما جاءت السنة فيه ببيان ما أُجْمل في القرآن، وتخصيص عامِّه وتقييد مُطلقه؛ كهيئة الصلاة وترتيب أركانها وقيامها، وركوعها وسجودها وعدد ركعاتها ومواقيتها، وغير ذلك، وما جاء في السنة من بيان نِصاب الزكاة والقَدْر الذي يُخرج من كل صنف من أصناف المال، وما يُؤخذ منه الزكاة وما لا يُؤخذ، وكذا صفة حجته -صلى الله عليه وسلم- بيان للمجمل الواجب في القرآن، قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (آل عمران:97)، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسَكَكُمْ) (رواه مسلم)، فكانت سنته بيانًا لذلك المجمل الواجب، وكذا جاءت السنة ببيان كيفية قطع يد السارق، فهي تقطع من الرسغ من اليد اليمني، وكذا جاءت السنة بتقييد مطلق السارق وتخصيص عمومه؛ لأنه الذي سرق مِن حرز ما يبلغ نصاب السرقة وهو ربع دينار فصاعدًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تُقْطَعُ يَدُ السّارِقِ إلّا في رُبْعِ دِينارٍ فَصاعِدًا) (رواه مسلم)، ونحو ذلك.
القسم الثالث: وهو ما استقلت السنة ببيانه؛ كتحريم الحمار الأهلي وكل ذي ناب من السباع، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ألا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتابَ ومِثْلَهُ معه، ألا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعانٌ على أرِيكَتِه يَقولُ: علَيكُم بِهذا القُرآنِ، فما وجَدْتُم فيه من حلالٍ فأَحِلُّوهُ، وما وجدْتُم فيه من حَرامٍ فَحرِّمُوه، ألا لا يَحِلُّ لَكُم لَحمُ الحِمارِ الأَهْلِيِّ، ولا كُلِّ ذِي نابٍ من السَّبُعِ، ولا لُقَطَةُ مُعاهَدٍ، إِلّا أنْ يَستغْنِيَ عنها صاحِبُها... ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وكذا تحريم الذهب والحرير على الرجال وإباحتهم للنساء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أمسك بيديه ذهبًا وحريرًا، فقال: (إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، ونحو ذلك.
وإن كان ذلك داخلًا في القرآن بالاعتبار الأوسع؛ لدخوله في قوله -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر:7)، والأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- المتكرر كثيرًا جدًّا في القرآن، وهكذا فَهِم الصحابة -رضي الله عنهم-.
روى مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ اللَّهُ الواشِماتِ والْمُسْتَوْشِماتِ، والنّامِصاتِ والْمُتَنَمِّصاتِ، والْمُتَفَلِّجاتِ لِلْحُسْنِ المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللهِ". قالَ: فَبَلَغَ ذلكَ امْرَأَةً مِن بَنِي أَسَدٍ يُقالُ لَها: أُمُّ يَعْقُوبَ وَكانَتْ تَقْرَأُ القُرْآنَ، فأتَتْهُ فَقالَتْ: ما حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أنَّكَ لَعَنْتَ الواشِماتِ والْمُسْتَوْشِماتِ، والْمُتَنَمِّصاتِ والْمُتَفَلِّجاتِ، لِلْحُسْنِ المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللهِ، فَقالَ عبدُ اللهِ: ما لي لا أَلْعَنُ مَن لَعَنَ رَسولُ اللهِ -صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-؟ وَهو في كِتابِ اللهِ فَقالتِ المَرْأَةُ: لقَدْ قَرَأْتُ ما بيْنَ لَوْحَيِ المُصْحَفِ فَما وَجَدْتُهُ فَقالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لقَدْ وَجَدْتِيهِ، قالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7)".
فالفرق بين هذا القِسْم والذي قبله: أن الذي قبله موجود إجمالًا في الكتاب، لكن يحتاج لبيانٍ من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أما القسم الثالث فلا وجود له في القرآن إلا من خلال الأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
أما التزكية فقد سبق ما نقله ابن كثير -رحمه الله-.
وهذه الآية الكريمة تبيِّن أن الله ما أراد مِن عباده في الدِّين إلا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وليس مما أراده الله من عباده أن يرجعوا في عقائدهم إلى علوم الفلسفة والمنطق اليوناني وعلم الكلام، وكذا في الأصول، ولم يجعل -سبحانه- مرجعنا في معرفة الأحكام العملية إلى آراء الرجال ومذاهبهم دون الأدلة من الكتاب والسنة، وما دلت عليه من الإجماع والقياس، وغيرها، وليست أقوال العلماء إلا شرحًا وبيانًا للكتاب والسنة؛ أما أن تُجعل مصدرًا للتشريع يُلْزم الناس بأخذها كأنها النصوص؛ فهذا مُحْدث بعد القرون الثلاثة الخيرية؛ بل بعد الأئمة الأربعة المُّتبَعين وغيرهم، فإنهم ما أمروا أصحابهم ولا علموهم إلا أن يستدلوا بالأدلة من الكتاب والسنة، ويتبعوا هذا الدليل دون الأقوال المجردة، ولو نظر ناظر في كتب المتقدمين من أصحاب الأئمة الفضلاء لوجد تعظيم السنة أمرًا ظاهرًا لديهم جميعًا.
أما ما هو أسوأ مِن التقليد المجرد للمذاهب؛ فهو الانتقاء منها بالتشهي والترخص؛ للبحث في رُخَصها دون دليل، والاختلاف ليس بحجة بالإجماع، والتقليد ليس بحجة كما نقل ذلك أبو عمر بن عبد البر في كتابه الرائع: "جامع بيان العلم وفضله"، ونقل الإجماع على عدم جواز الانتقاء من المذاهب بالتشهي.
وكذلك لم يجعل -سبحانه- في التزكية لازمًا علينا إلا هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتزكيته لنا، وليست مقامات الصوفية المخترعة المحدثة، وأحوالهم مِن نحو: السُّكْر والدَّهَش، والهيمان والفناء، والجمع والفرق؛ مما لا يفهمه أكثر الناس، مما لم يَرَد قط في كتاب الله وسنة رسول -صلى الله عليه وسلم-.
والأشد من ذلك: أنهم جعلوا ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الخوف والرجاء، والشكر، والصبر والرضا، والتوكل، وغيرها من أعمال القلوب من مقامات العوام؛ دون الخواص، وخواص الخواص؛ الذين جعلوا لهم المقامات التي اخترعوها من الفناء، وما يشير إليه أو يؤدي إليه.
فعلم الكلام والتقليد الأعمى والتصوف المُحْدث؛ خاصةً الفلسفي منه القائم على وحدة الوجود، ووحدة الأديان، والخرافي القائم على الغلو في الأولياء -بل وغير الأولياء!-: كتارك الصلاة، والزكاة، وبائعي المخدرات على أبواب المساجد، وغيرهم؛ بل من الكفار الزنادقة؛ كمَن يخطب عاريًا كما ولدته أمه، ويقول للناس: أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس صلى الله عليه وسلم! فقال الناس: كَفَر كَفَر، فسلَّ السيفَ (مع أنه كان عاريًا) ثم نزل، فهرب الناس من المسجد!
وقال الشعراني: وفعل ذلك رضي الله عنه في ثلاثين جمعة في نفس اليوم؛ أي: في ثلاثين بلدة! ونعوذ بالله من الضلال، وكالحلاج المقتول على الزندقة بإجماع علماء عصره الذي يقول:
كَفَرتُ بِدينِ اللَهِ وَالكُفرُ واجِبٌ عَـلَيَّ وَهــو عـِـنـدَ المُـســلـِمـيـنَ قَــبـيـحُ
وكابن ابن عربي الذي يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحـبي إذا لم يكن ديـني إلى ديـنه دانـي
لقد صارَ قلـبي قابلًا كلَّ صُــورةٍ فـمرعىً لغُـــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قـرآنِ
أديـنُ بدينِ الحب أنَّى توجَّــهــتْ ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
وهذه الزندقة الظاهرة في مساواة الملل؛ حتى عبادة الأوثان، ما دام -بزعمهم- كان الحبُّ موجودًا.
وكلا نوعي التصوف الفلسفي والخرافي يخدمان على بعضهما، والمتكلمون والمقلدون -المعرضون عن الأدلة من الكتاب والسنة- وهؤلاء الصوفية كل هؤلاء مِن أخطر ما يصرف الناس عن الحكمة من البعثة النبوية، رزقنا الله حبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- واتباعه، وحشرنا معه يوم القيامة.


ابوالوليد المسلم 02-04-2024 10:23 AM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (28)




قصة بناء الكعبة (26)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:130-133).
تُبين هذه الآيات حقيقة الدِّين الإبراهيمي والملة الإبراهيمية؛ الذي هو نفسه دين ابنيه إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام-، ودين ابن ابنه يعقوب -الذي هو إسرائيل عليه السلام-؛ الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل وكل اليهود في العالم، وسموا دولتهم باسمه تلبيسًا على العالم وتزويرًا أنهم أتباعه ونسله، وذلك أنهم ليسوا على ملته وليسوا على دينه؛ إذ إن دينه هو التوحيد والاستسلام لأمر الله وشرعه، كما دلت عليه هذه الآيات، وهذا مُستلزِم للإيمان بكل الرسل -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-؛ خاصة خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان بما أنزل اللهُ إليه من القرآن والحكمة، فمَن كفر به وكذَّب القرآن فقد كفر بدين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ودين جميع الأنبياء وتبرأ منهم، وهم جميعًا منه أبرياء.
وقد مَنَّ الله على أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بالإيمان بجميع الأنبياء ومحبتهم وتوليهم، فيا أيها المسلمون لا تكفروا بنعمة الله عليكم ومِنَّته العظيمة لديكم، بالاستجابة إلى دعاة مساواة الأديان، فتجعلون المسلمين كالمجرمين، قال الله -تعالى-: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم: 34-36).
أتجعلون مَن كذَّب نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، وكتابكم القرآن العظيم كمَن آمن بهما؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
كيف وقد جمع اليهود إلى ذلك التكذيب بعيسى -صلى الله عليه وسلم-، وقولهم على مريم البهتان العظيم؟!
قال الله -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا . وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) (النساء:155-156).
فكيف تتخذون هؤلاء وأمثالهم أولياءً وأحبابًا وأنصارًا؟!
ألا تحبون ربكم وتوحدونه؟!
ألا تحبون الأنبياء الذين كَفَر اليهود بهم جميعًا؟! فانتبهوا يا أولي الألباب.
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآيات: "يقول -تبارك وتعالى- ردًّا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه مِن الشرك بالله، المخالف لملة إبراهيم الخليل، إمام الحنفاء، فإنه جرَّد توحيد ربه -تبارك وتعالى- فلم يدعُ معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ مِن كلِ معبودٍ سواه، وخالف في ذلك سائر قومه، حتى تبرأ من أبيه، فقال: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 78-79)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (الزخرف:26-27)، وقال -تعالى-: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة:114)، وقال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (النحل:120-122)؛ ولهذا وأمثاله قال -تعالى-: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة:130)، أي: ظلم نفسه بسفهه، وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق مَن اصْطُفِي في الدنيا للهداية والرشاد، مِن حداثة سنه إلى أن اتخذه اللهُ خليلًا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء؛ فمَن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغي؛ فأي سَفَهٍ أعظم من هذا؟! أم أي ظلم أكبر من هذا؟! كما قال -تعالى-: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13).
قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه. ويشهد لصحة هذا القول قولُ الله -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:67-68).
وقوله -تعالى-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا.
وقوله: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) أي: وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله، أو يعود الضمير على الكلمة، وهي قوله: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)؛ لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصَّوْا أبناءهم بها مِن بعدهم كقوله -تعالى-: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (الزخرف:28)، وقد قرأ بعض السلف (وَيَعْقُوبُ) بالنصب عطفًا على بنيه، كأن إبراهيم وَصَّى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك، وقد ادَّعى القشيري -فيما حكاه القرطبي عنه-: أن يعقوب إنما وُلد بعد وفاة إبراهيم، ويحتاج مثل هذا إلى دليلٍ صحيحٍ. والظاهر -والله أعلم-: أن إسحاق وُلِد له يعقوب في حياة الخليل وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود:71)، وقد قُرئ بنصب (يَعْقُوبَ) هاهنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره مِن بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضًا فقد قال الله -تعالى- في سورة العنكبوت: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (العنكبوت:27)، وقال في الآية الأخرى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) (الأنبياء:72)، وهذا يقتضي أنه وُجد في حياته، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر: قُلْتُ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ). قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى). قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً).
فزعم ابن حبان أن بين سليمان -الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس، وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه- وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أُنكر على ابن حبان (قلتُ: يعني: زعم ابن حبان أن المدة بين سليمان وإبراهيم أربعون سنة! وهذا باطل بلا شك)، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين، والله أعلم.
وأيضًا: فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة المُوصَين.
وقوله: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) أي: أحسنوا في حال الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويُبعث على ما مات عليه.
وقد أجرى الله الكريم عادته بأن مَن قصد الخير وُفق له ويُسر عليه، ومَن نوى صالحًا ثُبِّت عليه، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ)؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: (إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ فِيما يَبْدُو لِلنّاسِ... وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ النّارِ، فِيما يَبْدُو لِلنّاسِ... ) (متفق عليه)، وقد قال الله -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل:5-10) (انتهى من تفسير ابن كثير).
وأما جواب ابن كثير -رحمه الله- عن حديث: (إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النّارِ... ) إلخ، بأنه: (فِيما يَبْدُو لِلنّاسِ) فهذا ليس بصحيح؛ لأنه ليس هناك في عمل أهل النار ما يكون صالحًا في الباطن، ومِن عمل أهل النار في الظاهر؛ ولذلك لا يُسمَّى ما عمله الإنسان رياءً وسمعةً مِن عمل أهل الجنة، ولا يقرِّبه ذلك إلى الجنة؛ بل يقربه إلى النار، والحديث إنما ذكر أنه يقربه عمله إلى الجنة وهو مِن أعمال أهل الجنة، ولكن هذا الحديث معناه: عدم الوثوق بالخواتيم؛ لأن الله -عز وجل- جعل الأعمالَ بالخواتيم، وجعل وجود قلة من الناس كانوا على الخير والهدى ثم تبدَّل حالهم وحصل لهم الحَوْر -أي: الفساد- بعد الكَوْر -أي: الصلاح-، كما استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن الحَوْرِ بَعدَ الكَوْرِ) (رواه مسلم والنسائي واللفظ له)؛ لكي لا يأمن الإنسان على نفسه، ولكي لا يأمن مكر الله، (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99).
ولا يزال المؤمن يدعو بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قَلبي على دِينِكَ) (رواه الترمذي وصححه الألباني)، وبقوله: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنا على طاعَتِكَ) (رواه مسلم)؛ ولذلك لا يكون ما ذكره جوابًا صحيحًا على الحديث، وإنما كما ذكرنا يكون عمله صالحًا، لكنه قبل الوفاة يُفتَن ويعمل العمل الفاسد، ويحبط العمل الأول، نسأل الله العافية، ونسأله الثبات على الدِّين.
نسأل الله أن يتوفانا مسلمين، ويلحقنا بالصالحين.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 02-04-2024 10:24 AM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (29)




قصة بناء الكعبة (27)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133).
هذه الآية الكريمة مِن أوضح ما يُبيِّن حقيقة دين إسرائيل -الذي هو يعقوب عليه السلام الذي ينتسب إليه اليهود-، وحقيقة الدين الإبراهيمي دون الضلالة المحدثة المعاصرة التي يحاول أصحابها أن يخدعوا الناس ويوهموهم أن دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- يشمل جميع الأديان الثلاثة التي يسمونها: "السماوية"، ويقصدون أن هذه الملل -وليس فقط الشرائع- على ما هي عليه اليوم مِن انحرافٍ عن دين الأنبياء، وشرك بالله، وتكذيب برسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ يزعمون أنها نزلت كلها من السماء مِن عند الله!
والحقيقة -التي لا شك فيها-: أنه لم ينزل دين من السماء إلا دين واحد هو الإسلام؛ بل نزلت شرائع متعددة لكل أمة في زمنهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، َأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) (متفق عليه)، يُشبههم -صلى الله عليه وسلم- بالإخوة من أبٍ واحدٍ وأمهاتٍ متعددةٍ، وهم الإخوة لعلات؛ لوحدة الدِّين الذي هو توحيد الله، وتصديق الرسل، والكتب المنزلة، مع تعدد الشرائع.
ولكن قد نسخ الله بشريعة الإسلام كل ما يخالفها مِن الشرائع السابقة، وألزم جميع الخلق اتباع محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:156-158).
وإذا كان مَن شهد للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالنبوة، لكن لم يتبعه كافرًا، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع حَبْري اليهود اللذين سألاه عن أسئلة لا يعلمها إلا نبي أو رجل أو رجلان، فلما أخبرهما، قالا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، قَالَ: "فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تُسْلِمَا"؟ قَالَا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا اللَّهَ، أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ أَسْلَمْنَا أَنْ تَقْتُلَنَا اليَهُودُ" (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح)، فلم يجعلهما -صلى الله عليه وسلم- مؤمنين ولا مسلمين؛ إذ زعما -كذبًا- أنه لا يلزمهما اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى ولو صدقوه! فكيف بمَن كذَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكذَّب القرآن -كلام الله-؟! بل كيف بمَن أشرك بالله، وادَّعى له الولد، واتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله؟! قال الله -عز وجل-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:30-31).
وهذا نص قاطع في أنهم مشركون؛ فكيف يظن ظانٌّ أن الدين الإبراهيمي يشمل هذه الأديان الثلاثة؟!
وكيف يجتمع الشرك والتوحيد؟!
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلّا كانَ مِن أصْحابِ النّارِ) (رواه مسلم).
وقد تضمنت الآية الكريمة وصية يعقوب -عليه السلام- لبنيه عند موته، وأبناؤه هم آباء جميع بني إسرائيل عبر الزمان، ومَن دان بدينهم وتهوَّد ولو لم يكن إسرائيليًّا نسبًا، فهو منهم بتوليه لهم، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51).
وقد استدل بهذه الآية الصحابة -رضي الله عنهم- في الرد على مَن زعم حِلَّ ذبائح الإسرائيليين نسبًا فقط، وحرَّم ذبائح مَن تهوَّد أو تنصَّر مِن العرب، فلما سُئِل علي -رضي الله عنه- عن نصارى بني تغلب وذبائحهم ونسائهم؛ تلا هذه الآية: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، وعن غير علي -رضي الله عنه- من الصحابة.
ووصية يعقوب -عليه السلام- لجميع أبنائه اختصرت في هذه الآية على الأمر بالتوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، والوصية بدين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وإسماعيل وإسحاق، قال الله -عز وجل-: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- مُحتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل -وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام- بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وَصَّى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال لهم: ما تعبدون مِن بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهذا من باب التغليب؛ لأن إسماعيل عمه.
قال النحاس: والعرب تسمي العم أبًا. نقله القرطبي، وقد استدل بهذه الآية الكريمة مَن جعل الجدَّ أبًا وحجب به الإخوة، كما هو قول الصديق. حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير، ثم قال البخاري: ولم يُختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف.
وقال مالك والشافعي وأحمد -في المشهور عنه-: إنه يقاسم الإخوة، وحُكي ذلك عن: عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وجماعة من السلف والخلف، واختاره صاحبا أبي حنيفة: القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ولتقريرها موضع آخر. (قلتُ: والراجح: أن الجدَّ أبٌ يحجب الإخوة كما دلت عليه الآية الكريمة، وقول الصديق -رضي الله عنه-).
وقوله: (إِلَهًا وَاحِدًا) أي: نُوحده بالألوهية، ولا نشرك به شيئًا غيره، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي: مطيعون خاضعون، كما قال -تعالى-: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران:83).
والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوَّعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25). والآيات في هذا كثيرة والأحاديث، فمنها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، َأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ).
وقوله -تعالى-: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي: مضت، (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم، (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة:134).
وقال أبو العالية، والربيع، وقتادة: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط؛ ولهذا جاء في الأثر: (مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) (رواه مسلم)" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرفٍ يسيرٍ).
وهذه الآية تدل على لزوم الوصية بالتوحيد، وأنها أعظم وصية يُوصِّي بها المؤمن الموحِّد أولاده مِن بعده؛ لأن بالالتزام بالتوحيد يغفر الله ما دون الشرك، وبعدم الالتزام به يُؤاخَذ الإنسان بكل ما عمل.
نسأل الله أن يتوفانا مؤمنين، وأن يلحقنا بالصالحين.


ابوالوليد المسلم 02-04-2024 10:26 AM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (30)




قصة بناء الكعبة (28)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:135-136).
إن الدعوة المعاصرة لاعتبار الأديان الثلاثة -اليهودية والنصرانية والإسلام- هم أتباع الدين الإبراهيمي؛ باعتبار انتساب كل أتباعهم إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- دون النظر إلى حقيقة دين إبراهيم وملته؛ من توحيد الله، وترك الشرك به، والبراءة منه ومن أهله، والإيمان برسل الله جميعًا الذين جعلهم الله مِن بعده مِن ذريته؛ هذه الدعوة دعوة مخالفة لصريح القرآن، وهي متضمنة لقبول تكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والقرآن العظيم.
بل أعظم مِن ذلك: قبول الشرك الذي أحدثه أتباع اليهودية والنصرانية بعد قرون من التوحيد بقي عليه أتباع الأنبياء موسى وعيسى -صلى الله عليهما وسلم- قبل أن يقع التبديل، كما قال -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 30-33).
وقال -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4).
وهذه الآية الكريمة -التي نتناولها اليوم بالحديث عنها- تنسف دعوة المساواة الباطلة بين الأديان الثلاثة نسفًا؛ فضلًا عن غيرها من الأديان، وقوله -تعالى-: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): يدل دلالة قاطعة أن ملة إبراهيم هي غير اليهودية والنصرانية؛ بل هي الحنيفية القائمة على إخلاص توجُّه القلب لله -تعالى-، والميل إليه والإعراض عن غيره، والاستقامة على ذلك بتوحيده واتباع رسله، والصلاة إلى البيت الذي بناه؛ الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام، والحج إليه، واتباع الشريعة التي خُتمت بها الرسالات والشرائع التي أنزلها الله على الأنبياء من ذرية إبراهيم من بعده.
وقد نسخ الله -عز وجل- بهذه الرسالة الإسلامية التي جاء بها محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- كل ما حدث من الشرائع قبلها، فلم يعد ممكنًا لأحدٍ أن ينتسِب إلى إبراهيم أو إلى موسى أو إلى عيسى -صلى الله عليهم وسلم- إلا باتباع هذه الشريعة الإسلامية التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان به وبالقرآن الذي أنزله الله عليه، والبراءة من الشرك، كما نصَّت عليه هذه الآية الكريمة بقوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وقد تضمنت أنه قد حدث في اليهودية والنصرانية من شرك عبادة الأحبار والرهبان، وشرك عبادة المسيح، والكفر بتكذيب الأنبياء وقتلهم؛ ما يجب التبرؤ منه، وتبرئة إبراهيم منه، بقوله: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:79).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "عن ابن عباس، قال: قال عَبْدُ اللهِ بنُ صُوريَّا الأعور لِرَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا الهُدَى إِلَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَاتَّبِعْنَا يَا مُحَمَّدُ تَهْتَدِ. وقالت النَّصارى مِثْلُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ -عزَّ وجَلَّ-: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)".
وقوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي: لا نريد ما دعوتمونا إليه من اليهودية والنصرانية؛ بل نتبع ملة إبراهيم حنيفًا؛ أي: مستقيمًا. قاله محمد بن كعب القرظي وعيسى بن جارية.
وقال خُصيف عن مجاهد: مُخلصًا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: حاجًّا. وكذا رُوي عن الحسن والضحاك وعطية والسُّدي. وقال أبو العالية: الحنيف: الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى أن حَجَّه عليه إن استطاع إليه سبيلًا.
وقال مجاهد، والربيع بن أنس: "حَنِيْفًا"، أي: مُتَّبِعًا. وقال أبو قِلَابة: الحنيف: الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم. وقال قتادة: الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله؛ يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات، والخالات والعمات، وما حرَّم الله -عز وجل-، والختان.
قوله -تعالى-: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136).
أرشد الله -تعالى- عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أُنزل إليهم بواسطة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- مُفصَّلًا، وما أُنزل على الأنبياء المتقدمين مُجملًا، ونصَّ على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يُفرقوا بين أحد منهم؛ بل يؤمنوا بهم كلهم، ولا يكونوا كمَن قال الله فيهم: (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء:150-151).
روى البخاري: عن أبي هريرة، قال: كانَ أَهلُ الكتابِ يقرءونَ التَّوراةَ بالعِبرانيَّةِ ويُفَسِّرُونها بِالعَرَبيَّةِ لأَهلِ الإسلامِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لا تصدِّقوا أَهلَ الْكتابِ ولا تُكذِّبوهم، وقولوا آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ).
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس، قال: كان أكثَرُ ما يُصَلِّي رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّكعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبلَ الفَجرِ: (آمَنّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) (البقرة: ???)، إلى آخِرِ الآيةِ، والأُخرى: (آمَنّا بِاللَّهِ واشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: ??).
وقال أبو العالية والربيع وقتادة: الأسباط: بنو يعقوب اثنا عشر رجلًا، وَلَدَ كلُّ رجل منهم أمة من الناس، فسمُّوا الأسباط.
وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل. وقال الزمخشري في الكشاف: الأسباط: حَفَدة يعقوب، ذراري أبنائه الاثني عشر. وقد نقله الرازي عنه، وقرره ولم يعارضه.
وقال البخاري: الأسباط: قبائل بني إسرائيل. وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله -تعالى- من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، كما قال موسى لهم: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا) (المائدة:20)، وقال -تعالى-: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) (الأعراف:160).
وقال القرطبي: وسموا الأسباط من السبط، وهو التتابع، فهم جماعة. وقيل: أصله من السَبَط، بالتحريك، وهو الشجر، أي: هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سَبْطَة.
قال الزجاج: ويبيِّن لك هذا: ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري، وساق السند عن ابن عباس، قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-. قال القرطبي: والسَبَط: الجماعة، والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد.
وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به، ويصدقوا بكتبه كلها ورسله.
وقال سليمان بن حبيب: إنما أُمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ولا نعمل بما فيهما.
روى ابن أبي حاتم: عن مَعْقِل بن يسار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "آمِنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ وليسَعْكمُ الْقُرْآنُ" (انتهى من تفسير ابن كثير).
والصواب في نبوة أبناء يعقوب: أن النبي منهم هو يوسف -صلى الله عليه وسلم-، وأما الأسباط الذين ذكرهم الله في هذه الآية: فهم الأنبياء مِن ذريتهم، فكل أنبياء بني إسرائيل الذين مِن ذرية أبناء يعقوب -صلى الله عليه وسلم- هم المقصودون في هذه الآية، وليس أن كل أبناء يعقوب الأحد عشر -غير يوسف- أنبياء؛ لأن الله -عز وجل- لم يجعل فيما سلف من صفاتهم قبل التوبة ما يتناسب مع أخلاق الأنبياء -صلى الله عليهم وسلم-.
ومعنى قوله: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ) أي: في الإيمان، وليس معنى ذلك عدم التفضيل؛ فبالإجماع محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل رسل الله؛ بل أفضل خلق الله، ثم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَن قال له: يا خير البرية، قال: (ذَاكَ إِبْرَاهِيْمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-) (رواه مسلم)، وذلك قبل أن يُوحى إليه أنه سيد الناس يوم القيامة، أو قال ذلك تواضعًا مع أبيه الخليل -صلى الله عليه وسلم-؛ وإلا فإبراهيم قال -كما ثبت في الصحيحين-: (إِنَّما كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءِ وَرَاءِ)، فَخُلَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مُقَدَّمة، وبعد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- موسى -صلى الله عليه وسلم-، كما نقل ذلك الإمام أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة، وهو الظاهر من أحاديث المعراج الكثيرة التي فيها أن موسى -صلى الله عليه وسلم- بعد إبراهيم في المنزلة، والله أعلى وأعلم.
وهذه الآية الكريمة التي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها كثيرًا في سنة الصبح؛ مع قوله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)، كما ورد ذلك في صحيح مسلم، أو الآية الأخرى -على اختلاف الروايات-: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:52)؛ لَيَدُلُّنا على أن دين الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-، ورزقنا الله -عز وجل- رفقتهم في الآخرة، وألحقنا بهم صالحين.


ابوالوليد المسلم 04-04-2024 01:40 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (31)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:136-138).
بعد أن بيَّن الله -تعالى- حقيقة الإيمان الواجب بجميع الرسل والأنبياء، وجميع الكتب المنزلة، وأنها جميعًا من عند الله لا تختلف في الملة والعقيدة والإيمان، وإن اختلفت الشرائع التي خُتمت بشريعة الإسلام التي نسخت كل ما يخالفها؛ بيَّن -عز وجل- وجوب الإيمان كإيمان الصحابة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ شهد لهم بالهداية، فقال: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)، فالهداية في الإيمان مثل إيمانهم، والتصديق مثل تصديقهم، وأما مَن أعرض عن طريقتهم فهو مَن تولى عن الحق وضل عنه، وسيظل مُشَاققًا؛ أي: يكون في شق، والحق في شق آخر، يظل مفارقًا له، معاندًا محاربًا له، كما أنهم في أنفسهم في شقاق مع أنفسهم ومع بعضهم البعض، فلا يزالون مختلفين مقتتلين، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة:253)، فالله يكفي المؤمنين كيدهم وشقاقهم ومكرهم، ويحفظ نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأولياءه المؤمنين.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: (فَإِنْ آمَنُوا) أي: الكفار مِن أهل الكتاب وغيرهم. (بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ): أيها المؤمنون، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله، ولم يفرِّقوا بين أحدٍ منهم. (فَقَدِ اهْتَدَوا): فقد أصابوا الحق، وأُرشدوا إليه. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم، (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) أي: فسينصرك عليهم ويُظْفِرك بهم، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
روى ابن أبي حاتم عن نافع بن أبي نعيم، قال: أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحف عثمان بن عفان ليصلحه. قال زياد بن يونس: فقلت له: إن الناس يقولون: إن مصحفه كان في حجره حين قُتل، فوقع الدم على (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فقال نافع: بصرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم (أي: صار قديمًا).
وقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ): قال الضحاك عن ابن عباس: دين الله. وكذا رُوي عن مجاهد، وأبي العالية، وعكرمة، وإبراهيم، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعبد الله بن كثير، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، والسدي نحو ذلك.
وانتصاب (صِبْغَةَ)؛ إما على الإغراء كقوله: (فِطْرةَ اللهِ) أي: الزموا ذلك عليكموه. وقال بعضهم: بدل من قوله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيْمَ). وقال سيبويه: هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ)؛ كقوله: (وَعْدَ اللهِ).
وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن بني إسرائيل قالوا: يا موسى، هل يصبغ ربك؟ فقال: اتقوا الله. فناداه ربه: يا موسى، سألوك هل يصبغ ربك؟ فقل: نعم، أنا أصبغ الألوان: الأحمر والأبيض والأسود، والألوان كلها من صبغي. وأنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)". وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف، وهو أشبه -إن صح إسناده-" (انتهى من تفسير ابن كثير).
قلتُ: وقول جماهير السلف في معنى الصبغة: أنه الدِّين، وهو الصواب بلا شك، كما يدل عليه السياق، وهو -عز وجل- مقلب القلوب، وهو -سبحانه وتعالى- يصرفها كيف يشاء -شقيها وسعيدها-، فليس الصبغ في الآية من الألوان، ولكن هو في أحوال القلوب، ولا يُنسَب إلى دين الله -عز وجل- إلا ما وافق الحق.
وقال الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا): "يعني -تعالى ذكره- بقوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ) فإن صدّق اليهودُ والنصارى بالله، ومَا أنـزل إليكم، وما أنـزل إلى إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، ومَا أوتي مُوسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، وأقروا بذلك، مثلَ ما صدَّقتم أنتم به أيها المؤمنون وأقررتم؛ فقد وُفِّقوا ورَشِدوا، ولزموا طريق الحق، واهتدوا، وهم حينئذٍ منكم وأنتم منهم بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك؛ فدلَّ -تعالى ذكره- بهذه الآية على أنه لم يقبل من أحدٍ عملًا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدَّها قبلها.
عن ابن عباس قوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا) ونحو هذا، قال: أخبر الله -سبحانه- أنَّ الإيمان هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملًا إلا به، ولا تحرُم الجنة إلا على مَن تركه.
ثم قال -رحمه الله- في تأويل قوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ): يعنى -تعالى ذكره- بقوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا) وإن تولى هؤلاء الذين قالوا لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى)، فأعرضوا فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيّها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الأنبياءُ، وابتُعِثت به الرسل، وفرَّقوا بين رُسُل الله وبين الله ورسله، فصدَّقوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ، فاعلموا أيها المؤمنون أنهم إنما هُمْ في عصيانٍ وفِرَاق، وحَربٍ لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولكم.
وعن قتادة: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي: في فراق.
وعن الربيع: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) يعني فراق.
ابن زيد: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) قال: الشقاق: الفراقُ والمحاربة. إذا شَاقَّ فقد حارب، وإذا حَارب فقد شاقَّ، وهما واحدٌ في كلام العرب، وقرأ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ).
قال أبو جعفر: وأصل "الشقاق" عندنا -والله أعلم- مأخوذٌ من قول القائل: شَقَّ عليه هذا الأمر، إذا كرَبه وآذاه. ثم قيل: شاقَّ فلانٌ فلانًا، بمعنى: نال كلُّ واحد منهما مِن صاحبه ما كرَبه وآذاه، وأثقلته مَساءَته. ومنه قول الله -تعالى ذكره-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) يعنى: فراق بينهما.
يعني -تعالى ذكره- بقوله: (فَسَيَكْفِيْكَهُمُ اللهُ) فسيكفيكَ الله يا محمد، هؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) من اليهود والنصارى؛ إنْ هم تولوْا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله، وبما أُنـزل إليك، وما أُنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وسائر الأنبياء غيرهم، وفرَّقوا بين الله ورُسُله -إما بقتل السيف (أي: يكفيكهم بأن تقتلهم)، وإما بجلاء عن جوارك، وغير ذلك من العقوبات؛ فإن الله هو (السَّمِيع) لما يقولون لك بألسنتهم، ويبدون لك بأفواههم من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضَّالة، (العَلِيم) بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء، ففعل الله بهم ذلك عاجلًا وأنجزَ وَعْده؛ فكفى نبيّه -صلى الله عليه وسلم- بتسليطه إيَّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا، وأذلَّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار" (انتهى من تفسير ابن جرير).
وتضمنت هذه الآية الكريمة تصويب طريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في الإيمان، وأن ما خالفها ليس من الهدى وإنما مِن الشقاق؛ ففيها دليل على وجوب اتباع طريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في العقيدة والعمل والسلوك دون ما اخترعه الناس بعد ذلك؛ كعلم الكلام الذي اختُرع بعد القرون الثلاثة الخيرية، بل أكثر من ذلك، وما تكلَّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحرفٍ مِن علم الكلام؛ لا بعرض ولا بجوهر، ولا بتعريفات المتكلمين، ولا تكلَّم الصحابة -رضي الله عنهم- بذلك، ولا التابعون ولا تابعوهم، ولا الأئمة الأربعة، ولا أهل الحديث، ولا أصحاب السنن، ما حدث ذلك إلا بعد اختراع علم الكلام.
وكذا لم يكن من طريقة الصحابة -رضي الله عنهم-: التعصب المذهبي، أو الانتقاء بين الأقوال بالتشهي والاختيار وتتبع الرخص؛ ما كان أحد منهم يفعل ذلك، ولا فيمَن بعدهم مِن الأئمة، وإنما حدث ذلك بعد المائة الثالثة أو أكثر من ذلك.
ولم يكن مِن هدي الصحابة أيضًا: ما ابتدعه المتصوفة من مقامات الفناء والدهش، والهيمان والسكر، والجمع والفرق، وغير ذلك مما جعلوه الغاية المقصودة؛ فضلًا عما وقعوا فيه من القول بوحدة الوجود والحلول، والكفر بدين الله ومساواة الأديان والملل؛ بزعم أن هذا السلوك يقربهم إلى الله -عز وجل-.
ولا وُجد في حياة الصحابة -رضي الله عنهم- ولا التابعين ولا تابعيهم أحدٌ اتخذ قبر بعض الصالحين مسجدًا، وتقرَّب إلى الله بذلك، وذهب يدعوهم من دون الله، أو حتى وقف يدعو الله عند قبورهم؛ فإن ذلك ما وقع منه شيء قط، وقد علم الصحابة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وما فعلوا ما يفعله الناس اليوم حول قبور الصالحين؛ فدل ذلك على أن هذا من الشقاق.
فعلم الكلام في الاعتقاد، والتقليد الأعمى والتعصب المذموم، والانتقاء بين المذاهب بالترخص دون دليل، والتصوف الفلسفي والتصوف الخرافي؛ كل ذلك من الشقاق؛ لأنهم تولوا عما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤمنوا بمثل ما آمن به الصحابة -رضي الله عنهم-، فارزقنا اللهم صحبتهم، وأن نكون معهم في الدار الآخرة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 04-04-2024 01:41 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (32)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ . أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة:139-141).
لم تزل الخصومة والمجادلة -ولن تزال- بين أهل الملل الثلاثة: (الإسلام واليهودية والنصرانية) الباقية إلى قُرب يوم القيامة، إلى زمن نزول المسيح -صلى الله عليه وسلم-؛ ليبطل جميع الملل إلا ملة الإسلام.
وتكون الملة على عهده واحدة، وأما قبل ذلك فلا تزال الخصومة والمحاججة كما أثبتها القرآن في هذه الآية الكريمة وفي غيرها؛ فمَن زعم مِن أهل زماننا مساواة هذه الملل الثلاثة، وأنها كلها حق، وأنها بمنزلة المذاهب داخل الدين الواحد؛ فقد خالف صريح القرآن، بل في الحقيقة نقض أصل الشهادتين عنده؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لأن أهل الديانتين: اليهودية والنصرانية -بعد التحريف- يعبدون غير الله، ولا يتبرؤون من عبادة غير الله، قال الله -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:30-33).
فوصفهم الله -عز وجل- بأنهم يشركون، ووصفهم بالكافرين والمشركين، وأنهم عبدوا غير الله -سبحانه وتعالى-، كما أن الفريقين يكذِّبان محمدًا -صلى الله عليه وسلم- والقرآن العظيم، ومَن صدقه منهم فيقول: هو رسول إلى العرب فقط، ولا يلزمنا اتباعه! وهذا من أعظم التناقض؛ فلو كان رسولًا فقد صدق فيما قال عن رسالة ربه إليه، قال -عز وجل-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:158)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ في قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً) (متفق عليه).
فلم تزل الخصومة قائمة باختلاف هذه الملل عن بعضها البعض في الأصلين العظيمين -الإلهية والنبوة-؛ فكيف يزعم البعض أن لا خلاف، أو يزعم أن الخلاف بينها دينامكي وليس في الأصول؟! إلى الله المشتكى.
وأما معنى قوله -تعالى-: (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) أي: أنه المستحِق للعبادة، والواجب علينا وعليكم الإيمان بربوبيته وحده، وعبادته وحده، لا أنهم يفعلون ذلك في حقيقة الأمر، كما سبق بيان الآية الكريمة (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (التوبة:31).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ... ) الآية. يقول الله -تعالى- مرشدًا نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- إلى درء مجادلة المشركين: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) أي: أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد، واتباع أوامره وترك زواجره، (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) المتصرف فينا وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له! (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) أي: نحن برآء منكم ومما تعبدون، وأنتم برآء منا، كما قال في الآية الأخرى: (وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس:41)، وقال -تعالى-: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران:20)، وقال -تعالى- إخبارًا عن إبراهيم: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ? قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ... ) (الأنعام:80)، إلى آخر الآية. وقال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) (البقرة:258)، وقال في هذه الآية الكريمة: (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي: نحن برآء منكم كما أنتم برآء منا، (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي: في العبادة والتوجه" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وقوله -رحمه الله-: "درء مجادلة المشركين": يعني بذلك مشركي أهل الكتاب الذين وصف الله صفتهم، ومما يوضِّح ذلك: قول ابن جرير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية.
قال أبو جعفر -رحمه الله-: " يعني -تعالى ذكره- بقوله: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) قل يا محمد لمعاشر اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا، وزعموا أن دينهم خيرٌ من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم؛ لأنه كان قبل كتابكم، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم، (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) بيده الخيرات، وإليه الثواب والعقابُ، والجزاءُ على الأعمال؛ الحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم بالله أولى منا من أجل أن نبيكم قبل نبينا، وكتابكم قبل كتابنا، وربكم وربنا واحدٌ، وأن لكلِّ فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها، يجازَى عليها فيُثَابُ أو يُعَاقَبُ؛ لا على الأنساب، وقِدمَ الدِّين والكتاب. ويعني بقوله: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا) قل أتخاصموننا وتجادلوننا؟ ونقل ذلك عن مجاهد وابن زيد وابن عباس.
ثم قال: فأما قوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) فإنه يعني: ونحن لله مخلصو العبادةِ والطاعة، لا نشرك به شيئًا، ولا نعبد غيره أحدًا، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثانَ، وأصحاب العِجل معه العجلَ.
وهذا من الله -تعالى ذكره- توبيخٌ لليهود، واحتجاج لأهل الإيمان، بقوله -تعالى ذكره- للمؤمنين من أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: قولوا -أيها المؤمنون لليهود والنصارى الذين قالوا لكم: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا -: (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ)؟ يعني بقوله: (فِي اللَّهِ)، في دين الله الذي أمَرَنا أن نَدين به، وربنا وربكم واحدٌ عدلٌ لا يجور، وإنما يجازي العبادَ على ما اكتسبوا. وتزعمون أنّكم أولى بالله منا؛ لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم، ونحنُ مُخلصون له العبادة، لم نشرك به شَيئًا، وقد أشركتم في عبادتكم إياه، فعبد بعضكم العجلَ، وبعضكم المسيحَ، فأنَّى تكونون خيرًا منا وأولى بالله؟! (انتهى من تفسير ابن جرير).
قوله -تعالى-: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:140).
تأكيدٌ على ما سبق بيانه من أن دين إبراهيم ويعقوب وإسحاق والأسباط كان هو الإسلام لا اليهودية ولا النصرانية، وأن الله هو الذي حكم بذلك؛ ولأن اليهودية والنصرانية كانت بعد نبوة هؤلاء ورسالتهم؛ فكيف يكونون هودًا أو نصارى؟! إنما كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له، واليهود والنصارى عندهم من الأخبار عن الله -عز وجل- في كتبهم من أن هؤلاء الأنبياء كانوا قبل موسى وقبل عيسى؛ فلابد أن يشهدوا بأن دينهم هو الإسلام دون اليهودية والنصرانية.
قال ابن كثير -رحمه الله- في الآية: "ثم أنكر -تعالى- عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومَن ذُكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية فقال: (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) يعني: بل الله أعلم، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودًا ولا نصارى، كما قال -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... ) (آل عمران:67)، الآية والتي بعدها.
وقال -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ)، قال الحسن البصري: كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم: إن الدين الإسلام، وإن محمدًا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك، وأقروا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.
وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تهديد ووعيد شديد، أي: أن علمه محيط بعملكم، وسيجزيكم عليه.
ثم قال -تعالى-: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي: قد مضت، (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) أي: لهم أعمالهم ولكم أعمالكم، (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم؛ حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله؛ الذين بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه مَن كفر بنبي واحدٍ فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما بسيد الأنبياء، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين" (انتهى من تفسير ابن كثير).


ابوالوليد المسلم 04-04-2024 01:42 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (33)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله -تعالى-: (‌أَمْ ‌تَقُولُونَ ‌إِنَّ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌وَإِسْمَاعِيلَ ‌وَإِسْحَاقَ ‌وَيَعْقُوبَ ‌وَالْأَسْبَاطَ ‌كَانُوا ‌هُودًا ‌أَوْ ‌نَصَارَى ‌قُلْ ‌أَأَنْتُمْ ‌أَعْلَمُ ‌أَمِ ‌اللَّهُ ‌وَمَنْ ‌أَظْلَمُ ‌مِمَّنْ ‌كَتَمَ ‌شَهَادَةً ‌عِنْدَهُ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌وَمَا ‌اللَّهُ ‌بِغَافِلٍ ‌عَمَّا ‌تَعْمَلُونَ) (البقرة:140).
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله-: "في قراءة ذلك وجهان: أحدهما: (‌أَمْ ‌تَقُولُونَ) بالتاء، فمَن قرأ كذلك فتأويله: قل يا محمد للقائلين لك من اليهود والنصارى (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا): أتجادلوننا في الله، أم تقولون: إن إبراهيم ... ؟ فيكون ذلك معطوفًا على قوله: (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ).
والوجه الآخر منهما: (أَمْ يَقُولُونَ) بالياء، ومَن قرأ ذلك كذلك وجَّه قوله: (أَمْ يَقُولُونَ) إلى أنه استفهام مُستأنَف؛ كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، كما يقال: إنها لإبل أم شَاءٌ. وإنما جعله استفهامًا مستأنَفًا لمجيء خبر مستأنف.
ثم رجَّح مَن قرأ بالتاء دون الياء. بمعنى: أيُّ هذين الأمرين تفعلون؟ أتجادلوننا في دين الله؛ فتزعمون أنكم أولى منا وأهدى منا سبيلًا، وأمْرُنا وأمركم ما وصفنا، على ما قد بيناه آنفًا؟! أمْ تزعمون أنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ، ومَن سَمَّى الله، كانوا هُودًا أو نصارَى على ملتكم؟! فيصحّ للناس بَهتكم وكذبكم؛ لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سمَّاهم الله مِن أنبيائه.
وهذه الآية أيضًا احتجاجٌ مِن الله -تعالى ذكره- لنبيّه -صلى الله عليه وسلم- على اليهود والنصارى؛ الذين ذكر الله قَصَصهم.
يقول الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: قُلْ يا محمد -لهؤلاء اليهود والنصارى-: أتحاجُّوننا في الله، وتزعمون أن دينكم أفضلُ من ديننا، وأنكم على هدى ونحنُ على ضَلالة، ببرهان مِن الله -تعالى ذكره-، فتدعوننا إلى دينكم؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه، أم تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباط كانوا هودًا أو نَصَارَى على دينكم؟ فهاتُوا -على دعواكم ما ادّعيتم من ذلك- برهانًا فنصدِّقكم، فإن الله قد جَعلهم أئمة يُقتدى بهم.
ثم قال -تعالى ذكره- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: قُل لهم يا محمد -إن ادَّعوا أن إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصَارَى-: أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان، أم الله؟
وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ): قال أبو جعفر: يعني: فإنْ زَعمتْ يا محمد اليهودُ والنصَارى -الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى- أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودًا أو نصارى؛ فمن أظلمُ منهم؟ وأيُّ امرئ أظلم منهم، وقد كتموا شهادةً عندهم من الله؟ بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا مسلمين، فكتموا ذلك، ونحلُوهم اليهوديةَ والنصرانية.
عن مجاهد في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) قال: في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومَن ذكر معهما: إنهم كانوا يهودَ أو نصارَى. فيقول الله: لا تكتموا منّي شهادةً إن كانت عندكم فيهم. وقد علم أنهم كاذبون.
عن الحسن أنه تلا هذه الآية: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) إلى قوله: (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ)، قال الحسن: والله لقد كان عند القوم من الله شهادةُ أنَّ أنبياءَه بُرَآء من اليهودية والنصرانية، كما أن عند القوم من الله شهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام؛ فبِمَ استحلُّوها؟!
عن الربيع في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ)، أهلُ الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: أنّهم لم يكونوا يهودَ ولا نصارَى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان.
وإنما عنى -تعالى ذكره- بذلك أن اليهود والنصارَى إن ادَّعوْا أنَّ إبراهيم ومَن سمِّي مَعه في هذه الآية، كانوا هودًا أو نصارى؛ تبيَّن لأهل الشرك الذين هم نصراؤهم، كذبُهم وادّعاؤهم على أنبياء الله الباطلَ؛ لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم؛ وإن هم نَفوْا عنهم اليهودية والنصرانية، قيل لهم: فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدِّين، فإنا وأنتم مقرُّون جميعًا بأنهم كانوا على حق، ونحن مختلفون فيما خالف الدّين الذي كانوا عليه.
وقال آخرون: بل عَنى -تعالى ذكره- بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) اليهودَ في كتمانهم أمرَ محمد -صلى الله عليه وسلم- ونبوَّتَه، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم.
عن قتادة: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) أولئك أهل الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، واتخذوا اليهودية والنصرانيةَ، وكتموا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وهم يعلمون أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
عن قتادة قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) الشهادةُ: النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مكتوبٌ عندهم، وهو الذي كتموا.
قال ابن زيد في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) قال: هم يهودُ، يُسألون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن صفته في كتاب الله عندهم؛ فيكتمون الصفة".
ثم ذكر ابن جرير -رحمه الله-: لماذا اختار ترجيح القول الذي رجَّحه من القولين في أن ذلك كتمان دين إبراهيم وإسماعيل ويعقوب الأسباط، أو كتمان نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أنه رجح الأول، وإن كان المتأمل يجد القولين متلازمين؛ لأن مَن كتم نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد كتم دين الأنبياء السابقين، وأنكر دين الإسلام الذي بعث به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم قال -رحمه الله-: "فإن قال قائل: وأية شهادة عندَ اليهود والنصارى مِن الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط؟ قيل: الشهادةُ التي عندهم مِن الله في أمرهم، ما أنـزل الله إليهم في التوراة والإنجيل، وأمرهم فيها بالاستنان بسُنَّتهم واتباع ملتهم، وأنهم كانوا حُنفاء مسلمين. وهي الشهادةُ التي عندهم من الله التي كتموها، حين دعاهم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام، فقالوا له: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، وقالوا له ولأصحابه: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، فأنـزلَ الله فيهم هذه الآيات في تكذيبهم وكتمانهم الحق، وافترائهم على أنبياء الله الباطلَ والزُّورَ" (انتهى من تفسير الطبري).
وهذه المسألة في غاية الوضوح والبيان في نصوص القرآن والسنة، وباتفاق السلف الصالح -رضوان الله عليهم-.
ودعوة الداعين في زماننا إلى ما سمَّوه بالدِّين الإبراهيمي؛ يدعون فيه إلى المساواة بين الأديان الثلاثة على ما هي عليه؛ دون أن يرجع أحدٌ عن عقيدته الباطلة، ويتبع محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، دعوة مِن أبطل الباطل، بل هي أبطل مما كان يدعيه اليهود والنصارى في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- من دعوة كل فريق منهم إلى يهوديته أو نصرانيته؛ فهذا القول الباطل -الذي لا يجوز لمسلم أن يعتقده، أو يظن أن هذا هو الدين الإبراهيمي- أن كل مَن انتسب إلى إبراهيم فهو على حق؛ لا بد من التحذير منه، والبراءة منه، وإبطاله عند الناس، فإنه في الحقيقة هدم لدين الإسلام.
وأما قوله -تعالى-: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهذا تهديد ووعيد من الله -عز وجل- لليهود والنصارى.
قال ابن جرير -رحمه الله-: "يعني -تعالى ذكره- بذلك: وقل -لهؤلاء اليهود والنصارَى، الذين يحاجُّونك- يا محمد: وما اللهُ بغافل عما تعملون، مِن كتمانكم الحق فيما ألزَمكم في كتابه بيانَه للناس من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطِ في أمر الإسلام، وأنهم كانوا مسلمين، وأن الحنيفية المسلمة دينُ الله الذي على جميع الخلق الدينُونةُ به؛ دون اليهودية والنصرانية، وغيرهما من الملل، ولا هُو سَاهٍ عن عقابكم على فعلكم ذلك، بل هو مُحْصٍ عليكم حتى يُجازيكم به مِن الجزاء ما أنتم له أهلٌ في عاجل الدنيا، وآجل الآخرة. فجازاهم عاجلًا في الدنيا بقتل بعضهم، وإجلائه عن وطنه وداره، وهو مُجازيهم في الآخرة العذابَ المهين) (انتهى من تفسير الطبري).


ابوالوليد المسلم 05-04-2024 02:34 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (34)



دعوة إبراهيم -عليه السلام- لمَلِك زمانه إلى التوحيد (1)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ? قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ? وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
هذا الموضع الثاني في سورة البقرة في ذِكْر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ذُكر اسمه مرات في قصة بناء الكعبة التي كانت مقدَّمة لفرض القِبْلة على المسلمين إليها، تضمنت قصة بناء الكعبة بناء ملته -صلى الله عليه وسلم-، وبراءته من الشرك والمشركين، واليهود والنصارى، وجميع أهل الملل، وإثبات صحة انتسابه إلى الإسلام لا غيره.
وهذا الموضع الثاني يبيِّن دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إلى توحيد الله والإقرار بربوبيته، ووجوب عبادته، ومحاجة الملك الكافر الظالم المجادل بالباطل المدعي الربوبية، ولقد حاجَّه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، فحاجه وغلبه وأذله في الحجة؛ حتى بُهت، وأظهر دين الإسلام القائم على توحيد الله -عز وجل-.
والملاحظ: أن إبراهيم -عليه السلام- لم يقتصِر في دعوته إلى الله على أبيه وقومه والعامة فقط، وإنما دعا الملوك والكبراء والسادة، كما دعا أباه وقومه.
والملاحظ أيضًا في هذه المحاجة: أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يستعمل الحجج الكلامية، ولا الطرق الفلسفية، التي ظن الكثيرون عبر الزمان أنها معنى الحجة العقلية، مع أنها لا تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، وإنما تصرف الناس عن الحجج العقلية الحقيقية والنقلية الصحيحة؛ التي تضمنتها النصوص المنزلة في الوحي على أنبياء الله -عز وجل- ورسله.
بل واضح جدًّا أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- استعمل الحجة العقلية الصحيحة المبنية على إيقاظ الفطرة الإنسانية المستقرة في نفوس البشر؛ كل البشر في إثبات وجود الله -عز وجل- ووحدانيته، وإثبات صفات كماله؛ مِن مشاهدة آثار علمه وملكه، وقدرته وحكمته، وإتقانه وخبرته، وقهره وعزته، وسائر أسمائه وصفاته.
فمشاهدة ملكوت السماوات والأرض -الذي لا يستطيع أحدٌ ادعاءه لنفسه ولا لغيره من المخلوقين- توصل العبد إلى حقيقة يقينية؛ أن هذا الملكوت ثابت لله، وهذا هو طريق اليقين، كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75)، وقال -تعالى- عن موسى -صلى الله عليه وسلم- في جوابه لفرعون لما سأله: (وَمَا رَبُّ العَالمَيْنَ) (الشعراء:23)، مستعملًا نفس الحجة التي استعملها إبراهيم، قال -تعالى-: (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ? إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء:24-28)، وقال -تعالى- في كتابه العزيز مُخبرًا عما يفعله في دعوة مشركي قريش وغيرهم من إظهار الحجج والآيات: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53).
فالآيات الأفقية والآيات النفسية هي الحجج العقلية التي لا يستطيع أحدٌ ردها دون المجادلة الكلامية والمنطقية الفلسفية، وفي الصحيح من حديث جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: "سَمِعْتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمّا بَلَغَ هذِه الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَواتِ والْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور:?? - ??)، قالَ: "كادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ" (متفق عليه)، أي: كاد أن يخرج من مكانه؛ لظهور الحجة العظيمة له التي تضمنتها هذه الآيات، وقد كان جبير -إذ ذاك- مشركًا، أتي في السنة الثانية بعد وقعة بدر ليكلِّم النبي -صلى الله عليه وسلم- في فداء أسرى بدر؛ لما عَلِم الناس قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَ المُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًا ثُمَّ كَلَمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَي لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) (رواه البخاري)، يعني: أسرى بدر، فأرسلت قريش ابنه جبير بن مطعم للرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو إذ ذاك مشرك، فسمع هذه الآيات التي كانت سببًا في إسلامه بعد ذلك.
فليتأمل الداعون اليوم إلى إحياء علم الكلام والفلسفة بعد اندثاره مدة، وهم يزعمون أن مذاهب المتكلمين هي مذاهب أهل السنة والجماعة، وكذبوا في ذلك؛ فليتأملوا الحجج القرآنية والنبوية، وما احتج به الأنبياء قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أقوامهم كهذه الآية التي نحن بصددها في محاجة النمرود لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في ربِّه، وإجابة إبراهيم له، هل استعمل الأنبياء قط طريقة الفلسفة وعلم الكلام؟! وهل استعملوا المنطق اليوناني لإثبات وجود الله وخلقه للعالم؟! أو إثبات أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله التي أخبر -سبحانه وتعالى- عنها أنه فعَّال لما يريد؟! هل استعملوا ذلك ولو مرة واحدة؟! يجزم كل عاقل وعالم بكلام الأنبياء والوحي المنزل عليهم أنه لم يستعملوه قط، بل استعملوا الحجج الفطرية التي هي الحجج العقلية الصحيحة؛ إضافة إلى الحجج النقلية التي قصَّها الله علينا عن الأمم السابقة وأحوالهم مع أنبيائهم، ومآلهم ومصيرهم لما كذبوهم.
فهذه الحجج النقلية العقلية هي التي تؤدي إلى حصول اليقين دون علم المنطق اليوناني والفلسفة وعلم الكلام، وليعلم الذين يجادلون الملحدين في زماننا أنهم لا حاجة لهم للفلسفة، ولا لعلم الكلام، ولا لحجج المعتزلة ولا الأشاعرة، ولا غيرهم؛ لإثبات حقيقة الربوبية؛ بل إنما تتم الحجة بتأمل ما تضمنه القرآن من الحجج العقلية وأخبار الأنبياء التي تظهر الحقيقة الجلية كالشمس، في وحدانية الله -سبحانه وتعالى- وخلقه لهذا العالم، وصِدْق رسله الكرام -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-.
وهذه القصة العظيمة -قصة إبراهيم- مع هذا الملك المتجبر الذي لم يَرِد اسمه في القرآن ولا في السنة الصحيحة، ولكن نقل كثيرٌ من أهل العلم من المفسرين أن اسمه: "النمرود" -وكان ملك زمانه- = قصةٌ تبين لنا وجوب دعوة الكبار كما يُدعى الصغار، يُدعى الملأ والسادة والملوك والأمراء، كما يُدعى عامة الناس، لا نقتصر في الدعوة إلى الله على عوام الناس دون كبرائهم، والله -عز وجل- يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وهذه القصة العظيمة ذكرها الله في كتابه؛ ليبين لنا وجوب الدعوة إليه، وليبين لنا طريقة الدعوة الصحيحة؛ حتى لا نبتعد عن طريقة الأنبياء ولا منهجهم في بيان الحق للناس، واستعمال الحجج الصحيحة في إثبات دعوة التوحيد.
هذا وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 05-04-2024 02:36 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (35)

دعوة إبراهيم -عليه السلام- لملك زمانه إلى التوحيد (2)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -عز وجل-: (‌أَلَمْ ‌تَرَ ‌إِلَى ‌الَّذِي ‌حَاجَّ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌فِي ‌رَبِّهِ ‌أَنْ ‌آتَاهُ ‌اللَّهُ ‌الْمُلْكَ ‌إِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ ‌رَبِّيَ ‌الَّذِي ‌يُحْيِي ‌وَيُمِيتُ ‌قَالَ ‌أَنَا ‌أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "هذا الذي حاجَّ إبراهيم في ربه هو ملك بابل: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، والأول قول مجاهد وغيره -(قلتُ: وهذه السلسلة مِن النَّسَب مما لا يعلمه إلا الله، قال الله -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) (إبراهيم:9)؛ ولذلك كان هدي الأئمة -من أهل الحديث وغيرهم- الإعراض عن مثل هذه الروايات التي لا تفيد شيئًا)-. قال مجاهد: ومَلَك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعةٌ: مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: نمرود وبُخْتَنصر. فالله أعلم -(قلتُ: وهذا مما لا دليل عليه إلا في ذي القرنين؛ لما قص الله -عز وجل- علينا في كتابه مِن أنه بلغ مغرب الشمس، أي: أقصى مكان جهة الغرب في زمانه، وبلغ مطلع الشمس، أي: بلغ أبعد مكان جهة الشرق في زمانه، وبلغ بين السدين، وأما غيره ممَّن ذُكر -حتى داود وسليمان- فلم يثبت أنهما مَلَكا جميع الأرض؛ بل ظل سليمان -عليه السلام- زمنًا لا يعرف بوجود مملكة سبأ، حتى أبلغه الهدهد بأحوالهم؛ فلذلك لا فائدة من هذا الكلام، ولا دليل عليه)-.
ومعنى قوله: (أَلَمْ تَرَ) أي: بقلبك يا محمد إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، أي: في وجود ربه. وذلك أنه أنكر أن يكون ثَمَّ إلهٌ غيره، كما قال بعده فرعون لملئه: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص:38)، وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ، والمعاندة الشديدة؛ إلا تجبُّره، وطول مدته في الملك؛ وذلك أنه يُقَال: إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه -(قلتُ: هذه المجازفة في الأرقام لا يعلمها إلا الله، وقد تجنبت الروايات الصحيحة في السنة الثابتة مثل هذه المبالغات في عدد السنوات، وإن كان لا يُستبعد؛ فقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- عن نوح أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، لكن لا بد من دليل صحيح من الكتاب والسنة، وقد عُدم في مدة ملك النمرود، وكذا في مدة ملك فرعون، وغيرهما)-.
ولهذا قال: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، وكان طلب مِن إبراهيم دليلًا على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، أي: الدليل على وجوده، حدوثُ هذه الأشياء المشاهَدَة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها.
وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورةً؛ لأنها لم تحدث بنفسها، فلا بد لها من مُوجد أوجدها؛ وهو الربُّ الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له، فعند ذلك قال المُحاجُّ -وهو النمرود-: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).
قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد: وذلك أني أُوتي بالرجلين قد استحقَّا القتل؛ فآمر بقتل أحدهما فيُقتَل، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل؛ فذلك معنى الإحياء والإماتة.
والظاهر -والله أعلم- أنه ما أراد هذا؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرةً، ويُوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي)؛ ولهذا قال له إبراهيم لما ادَّعى هذه المكابرة: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)؛ أي: إذا كُنتَ كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته، وتسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق؛ فإن كُنتَ إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت؛ فأتِ بها من المغرب. فلما عَلِم عجزَه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بُهت؛ أي: أُخْرِس فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة.
قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)؛ أي: لا يلهمهم حجة ولا برهانًا؛ بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين: أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى دليل أوضح منه، ومنهم مَن قد يُطلق عبارة رَدِيَّة (أي: قبيحة)، وليس كما قالوه؛ بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني، ويبيِّن بطلان ما ادَّعاه نمرود في الأول والثاني، ولله الحمد والمنة.
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم، فجرت بينهما هذه المناظرة.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم: أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس يغدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة مَن وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يُعطِ إبراهيمَ من الطعام كما أعطى الناس؛ بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب، فملأ منه عَدْلَيْه، وقال: أَشغل أهلي عني إذا قدمتُ عليهم، فلما قَدِم وضع رحاله وجاء فاتَّكأ فنام. فقامت امرأته سارة إلى العَدْلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا فعملت منه طعامًا. فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه، فقال: أنَّى لكم هذا؟ قالت: مِن الذي جئت به. فعلم أنه رزقٌ رزقهم الله -(قلتُ: هذه القصة لا تثبت، فهي موقوفة على زيد بن أسلم، فإما أن تكون مأخوذة عن أهل الكتاب ولا حجة في كلامهم، وإما أن تكون في معنى المرسل فهي ضعيفة. والظاهر: أنها من أخبار أهل الكتاب التي لا تُصَدَّق ولا تُكَذَّب)-.
قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكًا يأمره بالإيمان بالله، فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى، ثم الثالثة فأبى، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي. فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم بابًا من البعوض؛ بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة؛ عذبه الله بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها؛ حتى أهلكه الله بها" (انتهى من تفسير ابن كثير).
قلتُ: وهذه القصة أيضًا ليست ثابتة، وإنما هي مِن أخبار أهل الكتاب، ولم يَرِد في شيءٍ مِن الآيات والأحاديث أن هناك ملكًا مؤمنًا في ذلك الزمن؛ إلا ما زعمه البعض مِن أنه ذو القرنين؛ كان في زمن إبراهيم -عليه السلام-، ولا يثبت شيء من ذلك، وفي كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما يغنينا عن مثل هذه الأخبار.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 05-04-2024 02:37 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (36)

دعوة إبراهيم لملك زمانه إلى التوحيد (3)




كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى ‌الَّذِي ‌حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
في هذه الآية من الفوائد:
الأولى: أن دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم تقتصِر على أبيه وقومه من العامة، بل دعا ملك زمانه إلى توحيد الله وعبادته، ومشاهدة آياته في الكون، فالدعوة إلى الله لا بد أن تشمل الجميع؛ لا تقتصر على دعوة العامة دون الملوك والكبراء، ولا على الكبراء دون العامة.
الثانية: أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له من المُلك شيء يومئذٍ، ولم يكن على رأس الدولة، بل سنة الله في غالب أنبيائه ورسله أن يجعلهم من غير الملوك؛ امتحانًا وابتلاءً، وليقوموا بالحق في وجه كل أحد لا يخافون في الله لومة لائم.
وهذا فيه من العظة والقدوة للدعاة في كل زمان أن لا يكون هدف دعوتهم الملك والسلطان، بل يدعون إلى الله -عز وجل- ليهتدي الخلق إلى ربهم، وليقيموا الحجة على مَن أبى، وقد يؤتي الله الملك للأنبياء بعد ذلك، كما فعل -سبحانه- مع داود -عليه السلام-؛ فبعد جهاده وكونه جنديًّا في جيش طالوت مكَّنه الله مِن قتل جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، فعند ذلك يكون الملك سببًا لمزيد من العبودية والدعوة والتمكين للدين، وليس للاستمتاع بزينة الحياة الدنيا وترفها، بل لإقامة الدِّين بالملك والسلطان بعد إقامته بالحجة والبيان.
الثالثة: أن الملك يكون غالبًا سببًا -في أكثر الأحيان- إلى الكبر والجبروت والعدوان، كما قال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، قال ابن جرير: "يعني -تعالى ذكره- في قوله: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) يعني: حاجَّه فخاصمه في ربه؛ لأن الله آتاه الملك" (انتهى من تفسير ابن جرير).
فقد ظن هذا الجاهل الضعيف أن الملك -الذي هو فيه- من عنده وبيده، وهو ليس كذلك، بل الله الذي آتاه إياه، وهو في يد الله -عز وجل-: (‌قُلِ ‌اللَّهُمَّ ‌مَالِكَ ‌الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:26-27).
ولو تأمل الملوك والأغنياء والملأ، والسادة والكبراء: أن ما هم فيه من الملك والغنى لم يصل إليهم إلا وقد زال عن غيرهم، ولن يكون معهم على الدوام؛ بل سيزول عنهم إلى غيرهم، كما حدث مع مَن قبلهم؛ لو تأملوا ذلك لما حصل لهم هذا الكبر الذي به هلاك الأمم والشعوب؛ فإن هلاك الأمم والشعوب بتجبر المترفين وإجرامهم وفسقهم وظلمهم، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء:16)، وقال -تعالى-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ? وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود:116).
وعلى الدعاة إلى الله في دعوتهم الملوك والكبراء والأغنياء أن يستشعروا فقرهم وضعفهم؛ لا ملكهم وغناهم، وفي أثر وهب بن منبه -رحمه الله- قال الله -تعالى- لموسى -عليه السلام-: "انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، وإنك معك أيدي ونصري، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمن مكري، وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي، لبطشت به بطشة جبار، يغضب لغضبه السماوات والأرض، والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان علي وسقط من عيني، ووسعه حلمي، واستغنيت بما عندي، وحقي إني أنا الغني لا غني غيري، فبلِّغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكره أيامي، وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، ليس ينطق ولا يطرف، ولا يتنفس إلا بإذني، وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة، وقد أمهلك أربعمائة سنة، في كلها أنت مبارزه بالمحاربة، تسبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله، وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، ولم تسقم ولم تهرم، ولم تفتقر ولم تغلب، ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم.
وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قِبَل له بها لفعلت، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة -ولا قليل مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذني، ولا تعجبنكما زينته، ولا ما متع به، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما، فإنها زهرة الحياة الدنيا، وزينة المترفين.
ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت، ولكني أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديمًا ما جرت عادتي في ذلك، فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغِرَّة، وما ذاك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدنيا (أي: لم تجرحه وتنقصه الدنيا).
واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا، فإنها زينة المتقين، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائي حقًا حقًا، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل قلبك ولسانك، واعلم أنه مَن أهان لي وليًّا أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة، وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي؟! أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني؟! أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؟! وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة؟ لا أَكِل نصرتهم إلى غيري" (رواه ابن أبي حاتم).
فمَن ابتلاه الله بالملك والغنى والجاه؛ فليحذر على نفسه مِن الجبروت والكبر والطغيان؛ لأنه أسرع الأدواء والأمراض إليهم، لا ينجو منها إلا القليل، وَلْيُعْلَم أن مِن أعظم أسباب الجبروت قتل النفوس بغير حق، روى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: "لا يكون الرجل جبارًا حتى يقتل نَفْسين"، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني قال: "آية الجبابرة القتل بغير حق".
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 06-04-2024 06:20 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (37)

دعوة إبراهيم لملك زمانه إلى التوحيد (4)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى ‌الَّذِي ‌حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
الفائدة الرابعة:
احتجاج إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) هو احتجاج على وجود فاعلٍ واحدٍ لما يُرى من مظاهر الموت والحياة بملايين المرات، بل ملايين الملايين كل يوم، بل كل ساعة، بل كل لحظة بنفس النظام الواحد مِن ولادة ملايين البشر والحيوانات، والحشرات والأسماك، والكائنات الدقيقة؛ التي تحيا أمامنا بلا فعل منا ولا من أنفسها، ولا من غيرها من الخلق؛ إلا الله وحده، ثم موت الملايين من كل نوع كل يوم، بل كل ساعة، بل كل دقيقة في أرجاء العالم، وما وراءه مما لا نعلمه ليس بإرادة هذه المخلوقات، بل بكراهيتها للموت ومقاومتها له، وأخذها بأسباب الحياة.
وأعظمُهم أخذًا بها الإنسان: الذي أعطاه الله العقل الذي يحافِظ به على حياته، فوق الفطرة الطبيعية التي تستعملها الحيوانات الأخرى بالفرار من الضرر وطلب الخير، بل عقل الإنسان -الذي هو هبة من الله قطعًا- لم يهبه لنفسه، ولا وهبه له أبوه ولا أمه، ولا أحد مِن الناس، ولا أحد مِن الخلق؛ فضلًا عن الكائنات الأخرى؛ فضلًا عن الجمادات التي يسميها الكفار: "الطبيعة".
هذا العقل به اخترع الإنسان طرق وقايته مِن الموت، وعلاج الأمراض، وبه صنع الأدوية والأدوات العلاجية المختلفة؛ فرارًا من الموت وحفظًا للحياة، ثم بعد ذلك يأتي الموت قهرًا عليه، وعلى أحبابه وعلى أقربائه في سلسلة عجيبة مستمرة من آلاف السنين، بل مئات الآلاف، بل أكثر من ذلك مما لا ندريه.
وهذه السلسلة بين الحياة والموت -عند التأمل- هي سبب استمرار الحياة والمصلحة الكلية العامة للكائنات كلها، التي لا تتم إلا بها، ففاعلها على النمط الواحد من الانفلاق، (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) (الأنعام:95)، ثم اختلال نظام جسم الكائن الحي قبل الموت يدل على وحدانية الخالق، والمصالح المترتبة على هذه السلسلة تدل على حكمة فاعلها، والإتقان البالغ الذي تتم به الحياة ثم الموت، يدل على العلم والخبرة والقدرة، ووجود الأوامر بالموت والحياة دليل على الربوبية، وكل هذا دليل على الانفراد واستحقاق الإلهية، وحق العبودية على كل الخلق، (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم:93-95)، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ ‌لَا ‌تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (الإسراء:44)، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56).
ووالله إن حجة إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- لَحُجة باهرة قاطعة لمَن تفكر فيها؛ ولكن الإعراض المتعمد عن الفهم، ثم عن الاستجابة بعد الفهم حتى يستحق صاحبه الطبع والختم على السمع والبصر والفؤاد -نسأل الله العافية-؛ هو الذي أدَّى بصاحبه إلى هذا المصير.
الفائدة الخامسة:
من أعجب المكابرة أن يحتج عاقلٌ على هذه الحجة الواضحة بأن الله يحيي ويميت؛ فيأتي بإنسان أو دابة أو أي شيء حي فيقتله ويترك غيره؛ فهو -أولًا- لم يهب الحياة لهذا الحي الذي تركه حيًّا، وزعم أنه أحياه، بل يقينًا لم يهب الحياة لنفسه، فكيف يقابل حجة إبراهيم (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) بأنه ترك هذا الإنسان حيًّا، وقتل الآخر؟!
فلو سلمنا له أنه بذلك قد أحيا وأمات -وهو ليس كذلك-: هل يستطيع أن ينسب لنفسه الملايين من عمليات الإحياء وهبة الحياة لكل الكائنات الحية؟! بالقطع لا يستطيع أن ينسب هذا لنفسه.
وكذلك في قوله عن نفسه: (وَأُمِيتُ) في مواجهة حجة إبراهيم أن ربَّه -رب العالمين- هو الذي يميت؛ فبالقطع لا ينسب لنفسه ملايين الملايين من عمليات الإماتة في هذا الكون وما وراءه مما لا نعلمه، فبالتأكيد والقطع واليقين كانت مجادلته مجرد مشاغبة، وانتقال عن موطن الاستدلال إلى التلاعب بالألفاظ، مما ينشغل به أكثر مَن حوله، بل كل مَن حوله إلا ثلاثة أنفس "إبراهيم وسارة ولوطًا"؛ ولذا آثر إبراهيم عدم الاستمرار في الدفاع عن حجته البيِّنة القاطعة إلى حجة أخرى لا يستطيع معها التلاعب بالألفاظ، وليس انقطاعًا عن الحجة الأولى، أو تسليمًا لصحة حجة مجادله التي لا يشك عاقلٌ في بطلانها.
الفائدة السادسة:
احتجاج إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) انتقال من حجةٍ إلى حجةٍ أوضح وأبعد عن الجدال؛ فإن مجيء الشمس مِن المشرق كل يوم في هذا النظام المحكم المتقن غاية الإتقان، الذي إتقانه يفوق إدراك البشر، وبما يحقق المصلحة للكائنات بوجود الليل والنهار، اللذين بدونهما لا تستمر الحياة، وفي خلق هذه الأجرام التي هي أكبر أضعافًا مضاعفة من خلق الناس (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (غافر:57) - أعظم الدليل على وجود الفاعل المدبِّر، العليم الحكيم الخبير، القدير، الآمر الناهي المطاع؛ فهذه الأجرام تطيع أمر ربها -سبحانه وتعالى- دون اعتراضٍ ولو لحظة؛ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب:72).
وقال -سبحانه وتعالى-: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ‌فِي ‌يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ . ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:9-11).
وهذا مِن أوضح الأدلة على وحدانيته في ربوبيته وألوهيته، وأمر إبراهيم للملِك أن يأتي بها من المغرب أمر تعجيز وإفحام وإرشاد لمَن يعقل أن التدبير للعالم ليس لأحدٍ مِن الخلق، لا مَلِك ولا مملوك، ولا غني ولا فقير، ولا قادر ولا عاجز إلا الله وحده، لا شريك له.
وهذه هي نفس حجة موسى -صلى الله عليه وسلم- على فرعون؛ حين قال: (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء:24-28)، وهي حجة مسكتة مخرسة للخصم المجادل؛ ولذا ليس أمامه إلا أن يسكت ويبهت ويعجز.
الفائدة السابعة:
في قوله -تعالى- عن الملك الجبار المجادل: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ): دليل على أنه استمر على كفره وعناده؛ رغم ظهور الحجة التي قامت عليه وبُهِت لها، فسبحان الله! كيف يستمر المجادل على عناده وكفره بعد أن بهت؟! لا سبب لذلك؛ إلا أن الله لم يهده، بل كتب عليه الضلال؛ بسبب ظلمه لنفسه الظلم الأكبر بالشرك، وادِّعاء الربوبية والإلهية، وظلمه لغيره بالعدوان والجبروت، والقتل، واغتصاب الحقوق.
(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ): بعدله وحكمته -سبحانه-، فإنه لا يضع بذر الإيمان الطيب إلا في الأرض الطيبة والقلوب الطيبة، ولا يجعل بذر الكفر والظلم الخبيث إلا في الأرض الخبيثة والقلوب الخبيثة، وهو -سبحانه- أعلم بالشاكرين، وهو أعلم بالظالمين.



ابوالوليد المسلم 06-04-2024 06:22 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (38)‏ دعوة إبراهيم لملك زمانه للتوحيد (5)‏



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
الفائدة الثامنة: قوله -تعالى-: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أوضح دليل على الإيمان بالقدر، وأن الهداية والإضلال بيد الله وحده، قال -تعالى-: (مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأنعام:39)، وقال الله -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ‌يَشْرَحْ ‌صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:125).
هو -سبحانه- وحده الذي جعل (لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112).
وهو -سبحانه- الذي جعل (لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان:31).
وهو الذي جعل إبراهيم -عليه السلام- مقيمًا للصلاة ومن ذريته، وتقبَّل دعاءه.
وهو -سبحانه وتعالى- الذي وهب لإبراهيم إسحاق ويعقوب -عليهما السلام- نافلة، وجعلهم أئمة يهدون بأمره، كما قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء:73).
وقال -عز وجل- عن المشركين: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ? وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (الأنعام:107).
وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ ‌مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام:123).
وقال -سبحانه- آمرًا المؤمنين أن يقولوا في فاتحة الكتاب: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:6-7).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ قَلْبٍ إلّا وهو بينَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أصابِعِ رَبِّ العالَمينَ، إنْ شاءَ أنْ يُقيمَه أقامَه، وإنْ شاءَ أنْ يُزيغَه أزاغَه، وكان يقولُ: يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثبِّتْ قُلوبَنا على دِينِكَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وقد بيَّن -سبحانه- في هذه الآية: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أن مَنْعَه الهداية عن القوم الظالمين المستلزم لإضلالهم وضلالهم، إنما يقع على مَن يناسبه، وبسببٍ منه وهو: "الظلم".
وإن كان زيغ العباد بين إزاغتين من الله:
إزاغة أولى: قدَّرها الله عليهم؛ لأنه أعلم بهم وبما يناسبهم، وقد وقعت من خلال إرادتهم وقدرتهم التي بها فعلوا أفعالهم الخبيثة، لم تقع إكراهًا عليهم، ولا وقعت أفعالًا اضطرارية: كخلقهم، وإحيائهم وإماتتهم، ومرضهم، ودق قلوبهم، بل هم قد عملوا أفعالهم الاختيارية بمشيئتهم وقدرتهم (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) (فصلت:40)، وإن كان ذلك بمشيئة الله -عز وجل- وقدرته، وقضائه وقَدَره.
وأما الإزاغة الثانية: فهي بسبب زيغهم الأول، قال -تعالى-: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصف:5)، فهذه الإزاغة الثانية عقوبة فسقهم وظلمهم الذي أصروا عليه بعد بلوغ الحجة الرسالية لهم؛ رغم ما أعطاهم الله -سبحانه- من العقول والأسماع والأبصار، قال -تعالى-: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأحقاف:26).
أما الإزاغة الأولى فهي بعلم الله بمَن يناسبه الشكر، وبمَن يناسبه الظلم، فهو أعلم بالشاكرين، وهو أعلم بالظالمين.
فاحذر -أيها المؤمن- أن تقع فيما وقع فيه كثير مِن الناس مِن جعلهم إرادة الله تابعة لإرادة العباد، كمَن يقول: قد علم الله أنهم سيختارون أو سيريدون الكفر؛ فلذلك أراد لهم الكفر، وهذا خلاف نص القرآن، قال الله -تعالى-: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 28-29)، وقال -تعالى-: (فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ . وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر:55-56).
فالله هو الأول الذي ليس قبله شيء، كان الله ولم يكن شيء غيره، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الخالق البارئ المصور؛ هو الذي قدَّر وجود المخلوقات قبل خلقها على الصورة التي يريد أن يخلقها عليها، ثم أوجدها من العدم إلى الوجود فهو بارئها، ثم أعطى كلَّ واحد منهم شكله وصورته فهو المصور، وقد دخل في المخلوقات التي كانت عدمًا أفعال العباد وقدراتهم وإراداتهم؛ فيستحيل شرعًا وعقلًا أن يكون الخالق تابعًا للمخلوق.
وفي هذا الأمر يضل أقوامٌ وتزل أقدام؛ فبعضهم يتهم الله بالظلم، وكثيرًا ما يوسوس شياطين الإنس والجن بذلك، والمفزع دائمًا في رد الشبهة أن الله لم يظلمهم، كما قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (النساء:40).
وهو -عز وجل- مالك كل شيء، وهو لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون؛ لأنه يضع الأشياء في مواضعها، لا لأنه يتصرف خلاف الحكمة أو خلاف العدل؛ بل لأنه -سبحانه وتعالى- وضع كل شيء في موضعه، ولم تقع أفعالهم القبيحة إلا بإرادتهم وقدرتهم، وكونها مخلوقة لا يعني أنها عديمة الأثر؛ ولذا كان مذهب الأشاعرة في الكسب -مِن اقتران الإرادة الإنسانية الحادثة المخلوقة بالفعل البشري من غير أثر- من أكبر أسباب انتصار حجة الملاحدة عليهم، أو اللجوء إلى عقيدة نفي القدر، وكلاهما -والله- باطل شرعًا وعقلًا، وفطرة وضرورة.
كما أن كسب الأشعري الذي رجع عنه -إن شاء الله- باطل حسًّا وعقلًا وشرعًا، فالفرق بين الأفعال الاختيارية الواقعة بالقدرة والإرادة أمر محسوس؛ فضلًا عن نصوص القرآن في إثباته، فقد ذكر الله عن العباد أنهم يفعلون ويعملون، ويكسبون ويصنعون، ونسبة أفعالهم إليهم أكثر من أن تحصر بيُسْر.
وكما ذكرنا فالرد الواضح البيِّن أنه -سبحانه- هو أراد أن تكون أفعالهم بقدرة وإرادة منهم، ولو شاء لجعلهم كالسماوات والأرض والجبال؛ أرادت مرة واحدة ثم انقادت، ولو شاء لجعل كل أفعالهم اضطرارية: كوجودهم وموتهم، وحركة قلوبهم، وأجزاء أجسامهم، لكنه شاء أن تكون أفعالهم بمشيئتهم وقدرتهم، وعلى قدر ما أعطاهم من القدرة والإرادة، وسلامة الحواس وبلوغ دعوة الرسل يحاسبهم، كما جعل الله الأب والأم سببًا في وجود الولد، وهما لم يخلقانه قطعًا، لكنهما سبب وجوده؛ ولذا قَبِل كل العقلاء في العالم مسؤوليتهم عن طفلهم الذي أنجبوه ولم يخلقوه، وكذلك أفعالهم نتجت عن إرادتهم وقدراتهم وحواسهم، ولم تخلقها هذه الإرادات والحواس، بل الله خالق الأب والأم والولد منهما، وهو كذلك خالق القدرة الإنسانية والإرادة الإنسانية والفعل الإنساني منهما.
ثم تأتي شبهة أخرى في هذا المقام للملاحدة والمبتدعين، وهي: فلماذا هدى الله فريقًا وأضل فريقًا؟ وهو طعن في الحكمة، واقتراح أن يكون العالم كله على نمطٍ واحدٍ.
والجواب: أن هذا التنويع في الخلق مقتضى الربوبية، كما قال -تعالى-: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى . وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى . إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (الليل:1-4).
فورود الليل والنهار مختلفان وأحوالهما مختلفة من الغشي والتجلي، والذكر والأنثى مختلفان، وذلك كله من تمام الحكمة والمصلحة، والمقاصد المحمودة، وبدون هذا الاختلاف لا تستمر الحياة.
فكذلك السعي الشتى والأعمال المختلفة، فإن مقتضى وجود الحياة البشرية هي الامتحان بالطاعة وسط الفساد في الأرض وسفك الدماء، وليس الطاعة وسط الطائعين كعالم الملائكة، أو دون إرادة كطاعة السماوات والأرض والجبال، أجابت طائعة مرة واحدة ثم هي مُسيَّرة بأمر الله وإرادته، قال الله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَ?لِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ . ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ... ) (فصلت:9-12).
وقال: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا . لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب:72-73).
ثم تأتي شبهة أخرى مردها أيضًا إلى الطعن في الحكمة، وهي: لماذا جعل الله المهتدي مهتديًا والضال ضالًّا، ولم يجعل أحدهما مكان الآخر، مثل قول كفار قريش: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف:31)، ومثل قولهم عن المؤمنين: (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا) (الأنعام:53)، ومثل قولهم: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) (الأحقاف:11)؟
فنقول: أولًا: هو لم يظلم الضال والظالم والكافر؛ لأنه أعطاه العقل والسمع والبصر، والقدرة والإرادة، وبلَّغه دعوة الرُّسُل -كما سبق أن بيِّنَّا-.
ثم ثانيًا: هو وضع الأشياء في موضعها، وهذا هو العدل؛ فليس العدل المساواة بين المختلفات، ولا التفرقة بين المتساويات، بل العدل وضع كل شيء في موضعه، فلو أن رجلًا عنده أرض طيبة وأرض خبيثة، وعنده بذر طيب وبذر خبيث، أو زبالة وحشائش وفضلات تضر الزراعة، فلو وضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، والبذر الخبيث أو الزبالة والفضلات الضارة في الأرض الخبيثة؛ كان حكيمًا عادلًا، يُثنَى عليه ويُمدَح تصرفه، ولو فعل العكس لكان طائشًا سفيهًا، فمَن طالبه بخلاف الحكمة أو استنكر خلاف العدل الحقيقي بزعم المساواة وأنه كان ينبغي أن يعطي كل أرض البذر الطيب، ويضع الفضلات الضارة والبذر الخبيث في كلا الأرضين؛ كان جوابه الانصراف عنه لجهله، وضعف عقله، بل انعدامه.
ونسأل الله الهداية والتوفيق لذكره، وشكره، وحسن عبادته.


ابوالوليد المسلم 06-04-2024 06:23 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (39)

قصة إحياء الطيور الأربعة (1)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).
هذه قصة عظيمة ذكرها الله -سبحانه وتعالى- عن إبراهيم -عليه السلام- لبيان عظيم قدرته -عز وجل-، فهي تدل على وحدانيته لا شريك له، وعلى إحياء الموتى؛ الذي هو أوضح دليل على البعث والقيامة، والجزاء والحساب.
وهذه القصة وقعتْ من إبراهيم -عليه السلام- ليست على سبيل الشك بنصِّ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نَحْنُ أحقُّ بالشكِّ مِنْ إبراهيمَ إِذْ قَالَ: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)" (متفق عليه)؛ فهذا دليل على أنه لم يشك؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يشك، وإنما قال: (نَحْنُ أحقُّ بالشكِّ مِنْ إبراهيمَ) أي: فكما توقنون أني لا أشك، فكذلك أيقنوا أن إبراهيم لم يشك في قدرة الله -كما سيأتي بيانه-.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ذكروا لسؤال إبراهيم -عليه السلام- أسبابًا؛ منها: أنه لما قال لنمرود: ربي الذي يحيي ويميت؛ أحبَّ أن يترقَّى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدةً فقال: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، ثم ذكر حديث أبي هريرة عن النبي -صلى لله عليه وسلم- (نَحْنُ أحقُّ بالشكِّ مِنْ إبراهيمَ)، ثم قال: فليس المراد ها هنا بالشك ما قد يفهمه مَن لا علم عنده بلا خلاف. وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة، ثم لم يذكرها -رحمه الله-.
قال أبو سليمان الخطابي: ليس في قوله: (نَحْنُ أحقُّ بالشكِّ مِنْ إبراهيمَ) اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم؛ لكن فيه نفي الشك عنهما، يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله -تعالى- على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس، وكذلك قوله: (لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ ما لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمَّ أتانِي الدّاعِي لَأَجَبْتُهُ) (متفق عليه) (قلتُ: أي داعي المَلِك؛ الذي قال: ائتوني به).
وفيه الإعلام: أن المسألة مِن إبراهيم -عليه السلام- لم تعرض من جهة الشك؛ ولكن من قِبَل زيادة العلم بالعيان؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال، وقيل: لما نزلت هذه الآية، قال قوم: شك إبراهيم، ولم يشك نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا القول تواضعًا منه وتقديمًا لإبراهيم على نفسه. انتهى كلام الخطابي.
قال ابن كثير -رحمه الله-: وقوله: (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ): اختلف المفسِّرون في هذه الأربعة: ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها؛ إذ لو كان في ذلك مهم لنصَّ عليه القرآن، فروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: هي الغُرْنُوق، والطاوس، والديك، والحمامة. وعنه أيضًا: أنه أخذ وزًا، ورَأْلًا -وهو فرخ النعام- وديكًا، وطاوسًا. وقال مجاهد وعكرمة: كانت حمامة، وديكًا، وطاوسًا، وغرابًا.
وقوله: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي: قطعهن. قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو مالك، وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، والحسن، والسدي، وغيرهم.
وقال العوفي، عن ابن عباس: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ): أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزقهن وخلط بعضهن في بعض، ثم جزأهن أجزاء، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل: أربعة أجبل. وقيل: سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله -عز وجل- أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله -عز وجل-، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء مِن كل طائر يتصل بعضها إلى بعض؛ حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيًا؛ ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم -عليه السلام-، فإذا قدَّم له غير رأسه يأباه، فإذا قدَّم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته؛ ولهذا قال: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي: عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع مِن شيء، وما شاء كان بلا ممانع؛ لأنه القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب في قوله: (وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها.
وروى ابن جرير بسنده عن سعيد بن المسيب قال: اتفق عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا ونحن شبيبة، فقال أحدهما لصاحبه: أيُّ آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ‌لَا ‌تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53). فقال ابن عباس: أما إن كنت تقول هذا، فانا أقول: أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن المنكدر أنه قال: التقى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص: أيُّ آية في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله -عز وجل-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ‌لَا ‌تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فقال ابن عباس: لكني أنا أقول: قول الله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فرضي مِن إبراهيم قوله: (بَلَى)، قال: فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان. وهكذا رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه" (انتهى من تفسير ابن كثير).
فهذه الآية جعلها ابن عباس -رضي الله عنهما- أرجي آية؛ لأن الله تجاوز بهذه الأمة عما حدَّثَت به أنفسها؛ ما لم تعمل به أو تكلَّم، كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقصة إبراهيم -عليه السلام- تؤكِّد هذا المعنى؛ فالله لا يؤاخذ بخواطر النفوس، ويرضى من عباده باليقين، ولا يقدح فيه الوساوس التي لم تصل إلى درجة الشك، فالله -سبحانه وتعالى- لا يؤاخذ العباد بوساوس النفوس، ولكن يؤاخذهم بالشك أو بالتكذيب، والشك هو استواء الطرفين، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسولُ اللهِ، لا يَلْقى اللَّهَ بهِمَا عَبْدٌ غيرَ شاكٍّ، فيُحْجَبَ عَنِ الجَنَّةِ) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أحَدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِن قَلْبِهِ، إلّا حَرَّمَهُ اللَّهُ على النّارِ) (متفق عليه).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 07-04-2024 03:06 PM

رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
 
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (40)

قصة إحياء الطيور (2)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).
قال ابن جرير -رحمه الله-: "يعني -تعالى ذكره- بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي)، وإنما صلح أن يعطف بقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ) على قوله: (أَوْ كَالذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلى الذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)؛ لأن قوله: (أَلَمْ تَرَ) ليس معناه: ألم تر بعينيك، وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتَذكُر، فهو وإن كان لفظه لفظ الرؤية فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانًا بما يوافق معناه.
واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموت؛ فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربه، أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباع والطير، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانًا، فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا، فأراه الله ذلك مثلًا بما أخبر أنه أمره به.
عن قتادة: ذُكر لنا أن خليل الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع، فقال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).
عن الضحاك قال: مرَّ إبراهيم على دابةٍ مَيْتٍ قد بلي وتقسمته الرياح والسباع، فقام ينظر، فقال: سبحان الله! كيف يحيي الله هذا؟ وقد علم أن الله قادر على ذلك، فذلك قوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى).
عن ابن جريج: بلغني أن إبراهيم بيْنا هو يسير على الطريق، إذ هو بجيفة حمار، عليها السباع والطير قد تمزعت لحمها وبقي عظامها، فلما ذهبت السباع، وطارت الطير على الجبال والآكام، فوقف وتعجب ثم قال: ربِّ قد علمتُ لَتجمعنَّها من بطون هذه السباع والطير، (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، ولكن ليس الخبر كالمعاينة.
عن ابن زيد، قال: مرَّ إبراهيم بحوت نصفه في البر، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان منه في البر فالسباع ودواب البر تأكله، فقال له الخبيث: يا إبراهيم متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)".
(قلتُ: ورغم أن هذه الآثار لم تصح مرفوعة للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا أن فيها فائدة عظيمة توافِق ما وَرَد في الكتاب والسنة مِن تأمُّل معنى الموت والحياة؛ لنتذكر كيف يجمع الله -عز وجل- الخلائق بعد تمزقهم، والتفكير في ذلك مما يزيد الإيمان، ويقوي العقيدة، ويشرح الصدر، ويهون على الإنسان مصائب الدنيا، فهذه هي الطريقة التي عليها الرُّسُل في التفكير فيما يرونه من أحداثٍ في الكون أمام أعينهم، وإرشاد عباد الله المؤمنين للتفكير الصحيح لمثل هذا المنظر العجيب، وليس مجرد التفكه بالغرائب والعجائب -كما هي عادة الغربيين في مثل هذه الأشياء-؛ بل المؤمنون يتفكرون في الموت والحياة، والقدرة على البعث، ويأخذون من ذلك الحذر من الجزاء والحساب يوم القيامة).
قال ابن جرير -رحمه الله-: "وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربه ذلك، المناظرة والمحاجة التي جَرَت بينه وبين نمرود في ذلك.
عن محمد بن إسحاق قال: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصَّه الله في سورة الأنبياء، قال نمرود -فيما يذكرون- لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: أنا أحيي وأميت. فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ ثم ذكر ما قصَّ الله من مُحاجته إياه. (أي: من إحضاره رجلين قتل أحدهما وأطلق الآخر!)، قال: فقال إبراهيم عند ذلك: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) من غير شكٍّ في الله -تعالى ذكره- ولا في قدرته، ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه، فقال: (لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، أي: ما تاق إليه إذا هو علمه. وهذان القولان -أعني: الأول وهذا الآخر- متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانًا ما كان عنده مِن علم ذلك خبرًا.
وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلًا، فسأل ربه أن يريه عاجلًا من العلامة له على ذلك؛ ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلًا، ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدًا.
وعن السدي قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلًا سأل ملكُ الموت ربَّه أن يأذن له أن يبشِّر إبراهيم بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس في البيت، فدخل داره، وكان إبراهيم أغير الناس إن خرج أغلق الباب؛ فلما جاء وجد في داره رجلًا، فثار إليه ليأخذه، قال: مَن أذن لك أن تدخل داري؟ قال ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار، قال إبراهيم: صدقت! وعرف أنه ملك الموت، قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلًا، فحمد الله، وقال: يا ملك الموت أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار، قال: يا إبراهيم لا تطيق ذلك. قال: بلى. قال: فأَعْرِضْ! فأَعْرَضَ إبراهيم ثم نظر إليه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار؛ فغُشي على إبراهيم، ثم أفاق وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى، فقال: يا ملك الموت لو لم يلقَ الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين! قال: فأَعْرِضْ! فأَعْرَضَ إبراهيم ثم التفت، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجهًا وأطيبه ريحًا، في ثياب بيض، فقال: يا ملك الموت لو لم يكن للمؤمن عند ربه من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفيه.
فانطلق ملك الموت، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) حتى أعلم أني خليلك، (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن) بأني خليلك؟ يقول: تُصَدِّق، (قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بِخُلُولتك. عن سعيد بن جبير: (وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: بالخُلة".
(قلتُ: هذا القول مِن الأخبار الإسرائيلية خلاف ظاهر القرآن، وظاهر ما صَحَّ في السُّنَّة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله: (نَحْنُ أحَقُّ بالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ) (متفق عليه)، فهو يدل على تفسير الآية على ظاهرها بأنه سؤال المعاينة ونفي الشك عنه، وليس أن ذلك في التصديق بالخُلة أو عدم التصديق بها، فإن هذا خلاف ظاهر الكتاب والسنة).
قال ابن جرير -رحمه الله-: "وقال آخرون: قال ذلك لربه؛ لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى.
عن أيوب قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها.
عن سعيد بن المسيب، قال: اتَّعَدَ عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا، قال: ونحن يومئذٍ شبيبة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ ‌أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (الزمر: 53)، حتى ختم الآية، فقال ابن عباس: أما إن كنت تقول إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).
عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس، فقال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى) (البقرة:260)، (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) (البقرة:260)، لِيُرِيَهُ.
وعن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (نَحْنُ أحَقُّ بالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ، إذْ قالَ: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)" (انتهى من تفسير ابن جرير الطبري).
قلتُ: هذا الذي ذكر ابن جرير -رحمه الله- أنه قول لبعض السلف أنه سأل ربَّه شاكًا ليس في لفظ مَن نقل عنهم هذا على الإطلاق؛ فلم يقل أحدٌ منهم: إن إبراهيم شكَّ في قدرة الله على إحياء الموتى، وإنما الآثار التي ذكرها عمَّن ذكرها، إنما هي في وقوع شيء من الوسوسة والسؤال، وهذا ليس بشك؛ فالشك هو استواء الطرفين -كما تقدم-.
وقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إنها أرجى آية" يدل على المعنى الذي ذكرنا؛ ليس أنه يشك، وإنما يقع في قلبه بعض الخواطر، وهذه الخواطر لا يؤاخَذ بها الناس؛ فكيف يذكر ابن جرير أن قول البعض: إن إبراهيم شك في قدرة الله؟! هذا قول باطل، وليس في كلام السلف أبدًا ما يدل على ذلك.
والحديث الصحيح الصريح: "(نَحْنُ أحَقُّ بالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ، إذْ قالَ: (رَبِّ أرِنِي كيفَ تُحْيِي المَوْتى قالَ أوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)" الذي ذكره، يدل على أنه لم يشك؛ إذ أنتم توقنون أني لم أشك فأيقنوا أن إبراهيم لم يشك؛ لأني أولى بالشك من إبراهيم لو حدث ذلك، وإنما هي خواطر؛ ولذلك قد قال الله -عز وجل-: (أوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) والشك منافٍ للإيمان، أما الوسوسة والخواطر فإنها لا تنافي الإيمان الواجب، فضلًا عن أن تكون نقصًا؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد قال لمَن سألوه عن أشياء يجدونها في أنفسهم، فقالوا له: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ -وفي رواية لأحمد وابن حبان: إِنَّا لَنَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا أَشْيَاءَ مَا نُحِبُّ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَا، وَإِنَّ لَنَا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ ‌الشَّمْسُ-، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (‌ذَاكَ ‌صَرِيحُ ‌الْإِيمَانِ) (رواه مسلم)، فكيف يُنسَب إلى إبراهيم -عليه السلام- الشك؟! هذا مما لا يجوز، ولا هو قول أحدٍ مِن السَّلَف -رضوان الله تعالى عليهم-، وإنما ذكروا الخواطر، والخواطر لا يُعصَم منها الأنبياء.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



الساعة الآن : 01:34 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 442.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 441.00 كيلو بايت... تم توفير 1.77 كيلو بايت...بمعدل (0.40%)]