ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   فتاوى وأحكام منوعة (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=109)
-   -   القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=307158)

ابوالوليد المسلم 08-09-2024 08:18 PM

القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية



اجتهد علماء الأمة وفقهاؤها في تدوين القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية الوقفية وتصنيفها منذ القرن الثاني، ففي كتاب المدونة للإمام مالك بن أنس (ت179هـ) ذكر ضوابط فقهية عدة، ونما هذا التأصيل في العهود الإسلامية، وخصصت له مصنفات مستقلة.
ولما كانت تلك القواعد والضوابط منثورة بين طيات الكتب المطولة؛ مما لا يسع كل متتبع البحث عنها ومراجعتها والأخذ منها في كتب المصنفين من العلماء في هذا الباب الواسع؛ تملكني الدافع لجمع ما تفرق من كل ذلك، ونظمه وتصنيفه بحلة ميسرة، لتضبط ما يطرأ من مسائل ووقائع في مجال العمل، وليسهل على من جند نفسه لخدمة العمل الوقفي والخيري، الأخذ فيها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
وعملت على نقل شروحها من أقوال أهل الاختصاص، وأضفت إليها من الأمثلة المعاصرة لتكون دليلا عمليا ومنهجا تطبيقيا، مبنيا على قواعد وضوابط شرعية، وأحكام مرعية، خدمة للعاملين في القطاع الخيري والوقفي، وسأخص في كل مقال قاعدة أو ضابط شرعي خيري أو وقفي، وأبدؤها بالقاعدة الآتية:
لا ثواب إلا بنية
الصدقة والوقف عبادة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، ولا يترتب عليها ثواب إلا على حسب نية الفاعل وقصده، وقاعدة (لا ثواب إلا بنية) تنبني على قاعدة كلية جامعة هى قاعدة: (الأمور بمقاصدها).
لا ثواب إلا بنية(1)، قاعدة أدلتها وفيرة، وأشهرها ما روي بالسند إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله [ يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (2) ودلالة هذا الحديث أن الأعمال لا تصح شرعًا ولا تعد إلا بالنية، وأنها الفاصلة فى صحة العمل وعدم صحته.
فمن أراد أن يتطوع، بأن يقدم أضحية للفقراء فعليه أن ينوي عند الشراء أنها أضحية(3). ومن أراد بالوصية والوقف التقرب إلى الله، فإنه يثاب على ذلك(4)، وإن قصد غير ذلك كأن يقال عنه كريم، فلا ثواب له. فإنفاق المال بنية السمعة والرياء لا يثاب عليه(5). والوقف يصح دون نية، لكن ليس له ثواب إلا إذا نوى التقرب إلى الله تعالى (6).
قال ابن القيم- رحمه الله- «فأما النيَّة فهي رأس الأمر وعموده، وأساسه وأصله الذي عليه يبنى، فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يبنى عليها، ويصح بصحتها، ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة»(7).
الهوامش:
1- الأشباه والنظائر لابن نجيم 19.
2- رواه البخارى في صحيحه برقم ( ا ). ومسلم في صحيحه برقم (5036).
3- ابن نجيم: الأشباه والنظائر: 34.
4- ابن نجيم: الأشباه والنظائر: 34-35.
5- القواعد الفقهية ودورها في إثراء التشريعات الحديثة للسرحان، ص 36.
6- الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 23.
7- أعلام الموقعين 4/255.


اعداد: عيسى القدومي







ابوالوليد المسلم 10-09-2024 10:07 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – نوازل العمل الخيري



  • إبراء ذمم المُزَكِّين بوضع الزكاة المفروضة في أهلها فقط واجب وهو مقتضى الوكالة التي يجب على المؤسسة الخيرية أداؤها على الوجه الأكمل
تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن -فضلا عن ذلك- سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها، وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية.
1- الأصل في الأشياء الإباحة
  • التوضيح: هذه قاعدة استصحاب البراءة الأصلية في كلّ ما لم يرد دليلٌ على منعه، وأنّه حلالٌ مباح، وذلك على السّواء في الأعيان والتصرّفات، ويتفرّع عليها: مشروعيّة كلّ ما تتّخذه المؤسّسات الخيريّة من التنظيمات الإداريّة، والهيكليّات، وتقسيم المؤسّسة إلى دوائر واختصاصات وإدارات محليّة وإقليميّة، وكذلك جدولة الصّرف والإنفاق، وكذا الشروط التي تشترطها في عقود العمل والتوظيف، وعقود المشاريع من إنشاءات وتوريد وغيرها، كلّها إجراءاتٌ مشروعةٌ على الأصل، إلّا إذا اصطدمت بدليلٍ يدلّ على المنع منها، فيُرجع فيها إلى حكم الدّليل.
2- ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب
  • التوضيح: هذه قاعد أصوليّة، فكلُّ ما كان مُباحًا في ذاته، ولم يرد نصٌّ شرعيٌّ يدلُّ على وجوبه، وكان لا يُمكن التوصُّل إلى أداء واجب شرعيٍّ إلّا به، فالأخذ به واجبٌ، فنظام البحث الاجتماعيّ ومعاييرُه المدروسة في المؤسسات الخيرية وضعُها واجب، ومراجعتها المستمرّة واجبة، لأنّ إبراء ذمم المُزَكِّين بوضع الزكاة المفروضة في أهلها فقط واجب، وهو مقتضى الوكالة التي يجب على المؤسسة الخيرية أداؤها على الوجه الأكم، ومن ضمن النّشاط الخيريّ الواجب، إقامة مراكز الإغاثة الطبيّة، وتوفير الأطبّاء والأدوية اللّازمة فيها، لأنّ واجب الحفاظ على صحّة المتضرّرين من النوازل المختلفة لا يتمّ إلّا بذلك.
3- للوسائل أحكام المقاصد
  • التوضيح: المقاصد والأغراض، لا يُتوصّل إليها إلّا بوسائل وأسباب، فهذه الأسباب والوسائل تُسوّى في الحكم بالمقاصد والأغراض التي يُتوصّل إليها من طريقها، فتكون الوسيلة إلى الواجب واجبة، والوسيلة إلى الحرام محرّمة، والوسيلة إلى المستحبّ مستحبّة، وإلى المكروه مكروهة، وكذلك ما يُتوسّل به إلى المباح مباحٌ، وعلى هذا المعنى فالقاعدة السابقة تكون فرعاً من هذه القاعدة، وهذه أصلٌ عامٌّ يتعلّق بما لا يتمّ به المقصود والغرض عموماً، وليس الواجب فقط.
وممّا يتخرّج عليها: دفع المال لدفع الخطر عن الأموال الخيريّة والتبرّعات، ولتفادي إتلافها والاعتداء عليها ومصادرتها لبعض الجهات المتنفّذة في أماكن الاضطرابات وبقاع الانفلاتات الأمنيّة، مشروعٌ لأجل أنّه موصلٌ إلى غايةٍ مشروعة، ومحقّقٌ لمصلحةٍ راجحة، مع أنّ الأصل أنّ دفع المال لمثل تلك الجهات لا يُشرع، وليس قانونيًّا.
4- النفل أوسع من الفرض
  • التوضيح: الشارع يتسامح في النوافل والتطوّع أكثر ممّا يتسامح في الفُروض، في شروطها وأحكامها، مع كون الجميع يشهد بأنّ الدّين يُسرٌ، فالنافلة من عبادةٍ ما، يصحّ فيها بعضُ ما لا يصحّ في الفريضةِ التي من جنسها، فلا يجوز إعطاء الزكاة المفروضة إلّا في حدود مصارفها الثمانية، بينما يجوز صرف صدقة التطوُّع حيثما يراه العبد مناسبًا، حتى إنّ إعطاءها للكافر لا حرج فيه، بل تكون مقبولة يُؤجر عليها صاحبها. كما يجوز إدخال غير المسلمين من أهل الذمّة في الموقوف عليهم، فيشملهم رَيْع الوقف، بشرط أن لا يكون ذلك في عبادتهم، فتؤول الطّاعة إلى أن يكون سبيلها الإعانة على الشرك، فإنّ هذا لا يجوز بحال.
5- الترك فعلٌ
  • التوضيح: هذه القاعدة ذكرها العلّامة الزركشي -رحمه الله- بلفظ: «الترك فعلٌ إذا قُصد»، وهي قاعدة أصوليّة فقهية، فالتركُ، وإن كان -في الظاهر- حالةً عدميّةً وليس فعلاً قائمًا بالمكلّف، إلّا أنّه شرعًا يأخذ حكم الفعل الوجوديّ، ويُؤاخذ به المكلّف إن كان تركاً على خلاف الشّرع، كما يُؤاخَذ بالفعل، ويُؤجَر عليه إن كان موافقاً للشرّع، كما يُؤجَر على الفعل، فتركُ إطعام الجائع حتى يموت؛ أو ترك إنقاذ الغريق حتى يغرق، أو ترك الأسير في يد الكفّار مع القدرة على افتكاكه، كلُّ ذلك يأثم القادرون عليه إذا لم يفعلوه.
وممّا يتخرّج على هذه القاعدة: التلكُّؤ والتباطؤ -فضلاً عن الترك التامّ- في تنفيذ البرامج الإغاثيّة، حتى يفوت وقت الإمكان ويتحقّق الضّرر الذي كان من الممكن أن يُدفع بالتنفيذ، إثمٌ يؤاخذ به التاركون المكلّفون بالتنفيذ، إن كان تركهم من غير عذر مقبولٍ شرعاً.
6- ما حُرّم سدًّا للذّريعة أُبيح للمصلحة الرّاجحة
  • التوضيح: الذّريعة هي الوسيلة أو السبب إلى الشيء، وغلب عليها عند الفقهاء الاستعمال فيما أفضى إلى المحرّم خاصّة، وكان في نفسه جائزاً أو ظاهر الجواز، فالذريعة على هذا المعنى هي التي يدور الكلام حول سدّها بين الأصوليّين.
وعلى هذا يكون المعنى: التصرّفات التي ليست هي مفسدةً في ذاتها، ولا المفسدة غالبةٌ عليها، إذا تحقّق -أو غلب على الظنّ- أنّها تحقّق مصلحةً شرعيّةً غالبة، كأن تندفع بها ضرورة، أو تحصّل بها حاجة، فإنّ إيقاع تلك التصرّفات تحصيلاً لتلك المصلحة الراجحة مباحٌ، ولا تُمنع حسماً لما قد تفضي إليه من مفاسد في أحوالٍ أخرى. وممّا يتخرّج على ذلك: التعاملات الماليّة للمؤسّسات الخيريّة مع البنوك الرّبويّة، تحت عناوين شرعيّة صحيحة، كالحسابات المفتوحة لاستقبال التبرّعات في الأزمات، تجوز لما يترتّب عليها من مصالح عظيمة، ومنافع لا تقدّر بمقابل، مع كون الأصل أنّ الإيداع في البنوك الربويّة أو التحويل عن طريقها لا يخلو من استغلالها لتلك الأموال في معاملاتٍ ربويّة محرّمة.
7- كل اسم ليس له حدٌّ في اللّغة ولا في الشّرع فالمرجع فيه إلى العرف
  • التوضيح: كلّ لفظٍ استُعمل في كلام الشّارع ليدلّ به على حُكمه ومراده في أمرٍ ما، فالأصل أن يُفهم معناه من كلام الشارع نفسه، فإن لم يكن له فيه حدٌّ فالمرجع فيه إلى لغة العرب، فإن خلا الشّرع واللّغة عن تحديدِ معنىً ثابتٍ لذلك الاسم، رُجع فيه إلى العُرف، والعُرف هو: «عادة جمهورِ قومٍ في قول أو فعل».
وممّا يتخرّج على هذه القاعدة: الولاية على الأموال، والنّيابة في التصرّفات عن المتبرّعين والموكّلين، فإنّه لا حدّ في الشّرع للولاية ولا للنّيابة، وإنّما يتغيّر حدّها بتغيّر الأعراف وتقلُّب الأزمان، وكذلك كفاية الفقير من أموال الزكاة والصدقات، بل إنّ أوصاف الفقر والمسكنة والحاجة والعوز في ذاتها، هي في الحقيقة خاضعة للعُرف.
8- الأصل براءة الذمّة
  • التوضيح: الذّمّة: وصفٌ يصير الشخص به أهلاً للإيجاب له وعليه، فيكون معنى القاعدة: الحكم المستمرّ الثابت المعمول به، أنّ ذمّة الإنسان خاليةٌ من وجوب الحقوق فيها، على السواء في ذلك حقوق الله تعالى وحقوق المخلوقين، ولا تُشغل بشيء من ذلك إلّا بدليل، فإنّ المرء يولد ويخرج إلى حيّز الوجود خالياً عن كلّ التزامٍ أو دَيْن أو مسؤوليّة.
وممّا يتخرّج على هذه القاعدة: أنّ ذمّة المؤسّسة الخيريّة بريئةٌ من ضمان أيّ شيءٍ لأيّ جهةٍ بناءً على ما يقع بينها وبين المتبرّعين من النّيابة والتوكيل، في حال حدوث أيّ خللٍ أو نقصٍ قدريٍّ في تنفيذ المشروعات الخيريّة وإيصال الأموال النقديّة أو المساعدات العينيّة إلى المستحقّين، إلّا في حال ثبوت التقصير والتفريط، وذلك لأنّ الأصل في يد المؤسّسات الخيريّة أنّه يد أمانةٍ لا ضمان عليها إلّا إذا ثبت التقصير.


اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 18-09-2024 06:06 AM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – نوازل العمل الخيري ( 2 )



  • ما يصدر عن الحاكم أو من يتولّى أمرًا من الأمور التي تتعلّق بتدبير أمور النّاس وسياستهم ينبغي أن يكون متعلِّقاً بتحقيق المصلحة لهم ودفع المفسدة عنهم
  • مقتضى الخطاب الشرعيّ في ذمّة المكلّف لا يثبت إلا بعد علمه به وبلوغه إيّاه وقدرته على إنفاذه والامتثال له والمراد بمقتضى الخطاب هنا هو الأحكام التكليفيّة الخمسة
تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن -فضلا عن ذلك- سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها، وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية.
الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد
هذه قاعدة أصوليّة متفقٌ عليها، وتوضيحها: أنّ «اجتهاد المجتهد في المسائل الظنيّة التي لم يرد فيها دليلٌ قاطعٌ، لا يُنقض باجتهاد مثله إجماعاً، أي في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ لأنه لو نُقض الأوّل بالثاني لجاز أن يُنقض الثاني بالثالث؛ لأنّه ما من اجتهاد إلا ويجوز أن يتغير، وذلك يؤدّي إلى عدم الاستقرار، ويلزم التسلسل»، وهذه القاعدة ليست قاصرةً على حُكم الفقيه المجتهد والقاضي فقط، بل يدخل فيها كلّ مكلّف، سواءً كان شخصاً حقيقيًّا أم اعتباريًّا كالشّركة والجمعيّة والمؤسّسة، وذلك فيما يسوغ فيه الاجتهاد من غير المجتهد.
ممّا يتخرّج على القاعدة
القرارات الإداريّة التي تُتّخذ في مرحلةٍ ما من عمر المؤسّسة، التي قد يكون ترتّب عليها بعض النّفقات والإجراءات التنفيذيّة، لا يلزم الرجوع عنها بإبطال آثارها إذا تبيّن أنّها كانت خطأ، وإنما يُتحوّل عنها لاتخاذ المسلك الصحيح في المرحلة المستقبليّة. وكذا المجتهد في تقييم استحقاق جهةٍ ما من مال الزكاة، أو في انطباق شروط بعض الواقفين عليها، ثم يتبيّن له خطأ الاجتهاد الذي عمل به مدّةً، يلزمه تصحيحه ولا يلزمه تصحيح آثاره، ولا يضمن شيئاً بسببه، إذا كان ممّا يسوغ منه ويُقبل.
التكليفُ مشروطٌ بالتمكُّن من العلم والقدرة على الفعل
التكليف: هو إلزامُ مقتضى خطاب الشارع، فيكون المعنى أنّ مقتضى الخطاب الشرعيّ في ذمّة المكلّف لا يثبت إلا بعد علمه به، وبلوغه إيّاه، وقدرته على إنفاذه والامتثال له، والمراد بمقتضى الخطاب هنا هو الأحكام التكليفيّة الخمسة من وجوبٍ واستحبابٍ وكراهةٍ وتحريمٍ، وكذا الإباحة، لأنّها مقتضى الخطاب إذا كان الخطابُ خطابَ تخيير. ونحن إذا نظرنا في مسألة القدرة المشروطة في القاعدة وجدنا أنّها أصلاً تؤول إلى العلم، لأنّ ما تعذّر العلمُ به لم تكن ثمّة قدرةٌ على الامتثال له.
ميدان هذه القاعدة
لذلك فالكلام في هذه القاعدة ليس هو الكلام المشهور للأصوليّين عند تحريرهم لشروط التكليف، إذ يجمعون على اشتراط العلم عند تعدادهم لشروط المكلَّف، أو شروط المكلَّف به، وإنّما ميدان هذه القاعدة هو الجواب على السؤال الآتي: هل يثبت أثرُ الخطابِ الشرعيّ في ذمّة المكلّف قبل بلوغه إيّاه؟ بمعنى أنْ يُطالَبَ بقضاءِ ما يكلّفه به الخطابُ عن الفترةِ التي كانت قبل بلوغه؟ أم لا أثر للخطابِ مطلقاً قبل بلوغه، ولا يمكن أن تترتّب عليه مطالبةٌ إلّا بعد بلوغه المكلَّفَ؟ الرّاجح الثاني، وهو ما تنصّ عليه القاعدة.
من ثمرات القاعدة
ومن ثمراتها مثلاً: من لم يبلغه الخطابُ بالصّلاةِ، هل يُؤمَر بقضاء ما فاته من الصّلوات التي كانت بين يوم بلوغه إلى اليوم الذي بلغه فيه الخطاب لأنّه مطالبٌ منذ أن صحّ خطابُه وإن لم يبلغه الخطاب؟ أم لا حكم ولا أثر للخطاب الشرعيّ إلّا بعد بلوغه وسماعه والعلم به؟ الراجح الثاني.
ما يتخرج عن هذه القاعدة
ويتخرّج على هذه القاعدة كثيرٌ من الفروع والأنواع: إذا تعامل المسلم -شخصاً حقيقيًّا أو اعتباريًّا- بمعاملةٍ كان يراها صحيحةً باجتهادٍ ممّن يسوغ منه، أو استفتاء، ثمّ ظهر له أنّ الصحيح بطلانها، لم يحرم عليه الانتفاع بآثارها والالتزام بحكمها. وكذا ناظر الوقف، أو الوصيّ على المال، إذا تصرّف تصرُّفاً من مضاربةٍ أو مزارعةٍ أو تأجيرٍ، ثمّ تبيّن له خطأ اجتهاده أو بطلانه، لم يكن ضامناً لآثاره إذا كان محتاطاً بما يكفي لإبراء ذمّته.
الإنفاق لا يحتمل التأخير
هذه القاعدة من القواعد الحاكمة على زمن التصرُّف، فالواجب على المُنْفق إعطاء ما وجب عليه من النفقة في وقتها المحدد المعتاد، ففي حالات النكبات والنوازل العامّة والكوارث، فإن تقديم المساعدات الفورية من طعام وشراب وأغطية وأماكن الإيواء مقَدَّم على ما دونه من الأعمال الخيرية؛ لأن في ذلك حفظ النفس، والإنفاق على مثل هذه الأساسيات واجب لا يحتمل أدنى تأخير. ولا يجوز تأخير صرف مستحقات أهل العوز والحاجة، الذين يُصرف لهم مخصصات شهرية من المؤسسات الخيرية؛ لأن في ذلك ضررا وتضييقا عليهم، فلا بدّ من تلافيه طالما كان ذلك ممكنًا، وكذلك صرف مستحقات العاملين في المؤسسات الخيرية، أمر لا يحتمل التأخير، لكون تأثيره على مسيرة المؤسسة الخيريّة يكاد يكون سريعاً ومباشراً.
إنّما يُؤمر بالانتظار إذا كان مفيداً
قد يُشرع ويجوز تأخير إيصال الحقّ، وأداء الواجب، إذا كانت تتحقّق بذلك الانتظار منفعةُ أن يلاقي الواجب محلّه الصحيح الكامل شرعاً، أمّا إذا لم يكن في التأخير مصلحةٌ راجحةٌ كهذه، فإنّه لا يجوز. ومن التطبيقات على ذلك: مستحقّو الزكاة، فإنّ الزكاة تُدفع من صاحب المال في وقتٍ مخصوصٍ لا يجوز أن يؤخّرها عنه، وهو اكتمالُ الحول القمريّ، لكن المؤسّسة الخيريّة التي تستلم هذا المال وتنوب عن دافعه في إيصاله إلى المستحقّ، لها أن تنتظر وتتربّص مدةً لتجد من هو متصفٌ بصفات الاستحقاق الكاملة، وهذا الانتظار والتأخير إنّما يُتصوّر أن يكون مفيداً في ظروفٍ دون ظروف، كأن يُنتظر وصول موجاتٍ جديدةٍ من النازحين والمنكوبين إلى بلدٍ ما، من بلدٍ يُتوقّع مجيئهم منها لاضطرابٍ فيها، أمّا في الأحوال الاعتياديّة فلا معنى لهذا الانتظار؛ لأنّ مجيء المستحقّ توهّم، وقد سبق أنّ التوهّم لا عبرة به.
كلُّ متصرف على الآخر فعليه أن يتصرّف بالمصلحة
نفاذ ما يصدر عن الحاكم أو من يتولّى أمرًا من الأمور التي تتعلّق بتدبير أمور النّاس وسياستهم، ينبغي أن يكون متعلِّقاً بتحقيق المصلحة لهم، ودفع المفسدة عنهم، وهذا يشمل الوالي، والقاضي، ووليَّ البنت، ومتولِّي الوقْف، والوصيَّ، وغيرهم. فتصرُّف القُضاة في أموال الأيتام، والأوقاف، وكذا قُضاة الاختصاص الذين يتولَّوْن إصدار الأحكام في قضايا المؤسّسات الخيريّة نفسها، سواءً كان ذلك في فترة نشاطها وعطائها، أم عند مرحلة حلِّها، إما على إثر الخلافات، أو لغير ذلك من الأسباب، هم أيضاً مُطالبون بمراعاة المصلحة الشرعيّة في ذلك، والمطالبة نفسها تتعدّى أيضاً إلى مشرِّعي القوانين الخاصة بالجمعيّات الخيريّة.


اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 27-09-2024 11:25 AM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – نوازل العمل الخيري ( 3 )



  • الأجدر بالمسلم أنْ يبتعد عن مواضع التُّهَم التي تسبب الشك في حاله أو تفضي إلى اتهامه
  • والعامل في المؤسسات الخيرية، بحُكم ما يمنحه العمل من الصلاحية والثقة على المستوى الاجتماعي
  • العدل ضدّ الظّلم وأصل الظّلم نقص الحقّ ووضع الشيء في غير موضعه وهو أداء الحقوق على وجه الكمال، وتوفية الحاجات للمحتاجين وإيتاء الحقوق للمستحقّين من غير نقصٍ ولا شطط
تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن -فضلا عن ذلك- سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها، وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية.
التنـزه عن مواطن الريبة أولى
التوضيح: الأجدر بالمسلم أنْ يبتعد عن مواضع التُّهَم التي تسبب الشك في حاله، أو تفضي إلى اتهامه بما لا يليق به؛ ولا شكّ أنّ العامل في المؤسسات الخيرية، بحُكم ما يمنحه العمل من الصلاحية والثقة على المستوى الاجتماعي، بما يتوفّر له من الاطّلاع على الحاجات المستورة للفقراء، وما يحتاجه هو من التحقُّق من صدق تلك الاحتياجات، وما يتبع ذلك من العلاقات المباشرة مع أهلها، كلُّ ذلك يجعله عُرضة للرِّيبَةِ والشكوك، إذا لم يلتزم بما وُضع له من قواعد وأصول شرعية ومهنيّة، ولوائح وتعليماتٍ إداريّة. فإطالة الكلام مع النِّساء من أهل العَوَز والحاجة، في كلِّ ما زاد عن حاجة العمل من مواطن الرِّيبة التي يجتنبها العامل الموفّق، كذلك التساهل في الاختلاط بالنِّساء من غير حاجة، وفي مواطن يمكن تجنُّبُه فيها، والأمر ذاته في سؤالهنّ عمّا لا منفعة فيه ولا حاجة للاطّلاع عليه، فكلّ ذلك باب مفسدةٍ عظيمةٍ يجعل من ولجه عرضةً للتهمة، فيتعيّن اجتنابه وإغلاقه والابتعاد عنه.
لكلِّ مجتهدٍ نصيب
التوضيح: كلُّ من كان أهلاً للاجتهاد وتقدير الصواب في مجالٍ ما، فإنّ له نصيبًا من الثواب والأجر ولا بدّ، إذا صلحت نيّته لله -تعالى-؛ لأنّه لا يكون ثوابٌ إلا بنيّة، هذه إحدى قواعد باب الاجتهاد الأصوليّة، وأصلها قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكمَ الحاكمُ، فاجتهدَ فأصابَ، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأَ، فله أجرٌ».
فقد تُنتقد المؤسسات الخيريّة في باب تقديراتها للأنصبة والحصص التي تفرضها شهريًّا للأسر المتعفِّفة وأهل الحاجات، ولن تعدم دوماً داعياً إلى الزيادة أو النُّقصان، ولا شكّ أن الانتقاد بهدف التصويب جيّد ومطلوب، أما الإهدار والانتقاص فلا يجوز؛ لأنّ التقديرات تُقرّر بناء على البحث والتفتيش والتنقيب من مؤهَّلين ومتخصِّصين، وهؤلاء يجوز لهم إبداء الرأي وتقرير ما يرونه مناسباً، وهم مأجورون في خطئهم وصوابهم، لذا لابدّ من الحفاظ عند محاولات النّقد والتصويب، على الحدّ الأعلى من الأخلاقيّات الأخويّة؛ لأنّ المؤهَّل إذا أخطأ، فغاية أمره أنّه سُلب الأجرَيْن واستقرّ له الأجر، ومثل هذا لتصويب عمله سبيلٌ غير سبيل علاج تصرُّفات المعتدين والمقصّرين والمهملين.
المعتدي في الصدقة كمانعها
التوضيح: هذا نصُّ حديثٍ شريفٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي بيان من هو المعتدي في الصدقة، وكيفيّة اعتدائه، أقوال:
  • الأوّل: هو الذي يعطيها غير مستحقِّها.
  • الثاني: هو المُصدِّق أو الجابي، الذي يأخذ من الصدقة فوق الحدّ الواجب شرعاً، فيعتدي على أموال النّاس بالباطل، ويستبيح منها ما لا يبيحه الله ولا رسولُه.
  • الثالث: هو الذي يجاوز الحدّ المُحتمل في الصدقة، فلا يُبقي لعياله شيئًا.
  • الرابع: هو الذي يَمُنُّ بصدقته ويؤذي بها.
لذا فالتساهُل في توزيع الزّكاة الواجبة على أُناس لا تملك المؤسسة الخيريّة معلوماتٍ كافيةً عنهم، من أنواع الاعتداء في الصدقة أيضاً، بل هذا ظاهرٌ في الاعتداء؛ لما فيه من التفريط والاستهانة بالأمانة، بصرف النّظر عن كون هذه الصورة هي المقصودة بالحديث أم لا؛ لأنّ جنس الاعتداء ممنوعٌ شرعاً.
الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود
التوضيح: هذه قاعدةٌ كبيرةُ المعنى تتعلّق بخُلُق الالتزام بالمطلوب، والاستقامة عليه، والحذر من الشواغل والجواذب التي تجذب المكلَّف بعيداً عن خطِّ الصواب، وتشغله عن واجب الوقت، فـ «إنّ الأعمال والأحكام المطلوبةَ شرعاً لها مقاصد محدّدة، وأوقاتٌ خاصة أحياناً، فإن اشتغل الشخص بشيء غير مقصودٍ شرعاً من الفعل، فهذا يدلُّ على إعراضه عن المقصود المطلوب، ويتحمل نتائج تصرفه»، فإذا كلَّفت المؤسسة الخيرية أحد موظّفيها بعملٍ، على أنّ له أجراً معيّناً عليه، فلم يقم به، أو تساهل فيه بما أفضى إلى تضييعه وتفويت المصلحة المقصودة منه، استحقّ بذلك حرمانَه ممّا وُعد به، وترتيب كلِّ ما يستحقُّه من العقوبات الإداريّة على تصرُّفه.
لا عبرة للتوهم
التوضيح: التوهُّم لا يصلح مستنداً لبناء الأحكام الشرعيّة، كما لا يصلح مستنداً لتأخير الأحكام الثابتة شرعاً وقضاءً عن وقت تنفيذها، والتوهُّم هو: إدراكُ الشيءِ مع احتمالِ ضدٍّ راجحٍ، أو هو: إدراك الطّرف المرجوح من طرَفَيْ أمر مترَدَّدٍ فيه، فكلُّ مُدْرَكٍ على هذا النّحو موهومٌ أو متوهّمٌ، وحكمُه في الشّرع ألا عبرةَ به، بمعنى لا اعتدادَ ولا اعتبار، فلا يمنع حكماً، ولا يعطّل حقًّا، ولا يؤخّر قضاءً، ولا يشوّش على استحقاق. فإذا رأت المؤسسة الخيريّة أن تتصرّف ببعض التبرعات المادّيّة بالبيع، وعُرضت عليها الأسعار المعتادة في السوق لتلك السِّلَع، لا تُؤخَّر المصلحة الخيريّة بناء على توهُّم أن يأتي عرضٌ آخر بسعر أفضل، لأنّ الخروج الفاحش عن المعتاد نادرٌ موهوم، ولا سيما بعد التحرّي والتوقّي واتخاذ التدابير اللّازمة، فإنّ الاعتماد على التوهّم على الرغم من ذلك سيؤول إلى تعطيل المصلحة وتأخير الإجراء النافع، ومن ثم الإضرار بالصالح العام.
تبدُّل سبب الملك قائمٌ مقام تبدُّل الذّات
التوضيح: هذه قاعدةٌ عريقةٌ تحتها فروعٌ كثيرةٌ مهمّةٌ، وهي تنتمي إلى قواعد نظريّة الملك في الفقه الإسلامي، مؤدّاها أنّ السبب أو العلّة التي يُملَك بها المال، إذا تغيّر، فهو في قوّة ومنزلةِ وحُكم وتأثيرِ تغيُّر عين المال، فكأنّه صار مالاً آخر غير الأوّل، ولا يخفى عند النّظر في نصّ هذه القاعدة ومعناها أنّ ميدان تطبيقها هو الحكم على مشروعيّة تملُّك المال عند تنقُّله بين أيدي النّاس بأسبابٍ مختلفةٍ في الحكم بين المشروعيّة وعدمها. فمن تطبيقاتها: من كان ذا مالٍ حرامٍ، كسبه من الاتّجار في المحرّمات كالخمر والمخدّرات، أو من مهنةٍ يغلب عليها الحرام غلبةً بيّنةً كتعاطي المعازف والتمثيل ونحو ذلك، فإنّ كسبَه محكومٌ عليه بالحُرمة والخُبث، لكنّه إذا تبرّع به لمستحقٍّ للصّدقة، أو لمؤسّسةٍ خيريّة، فلا تثريب على الآخذ في قبولها والتصرّف فيها؛ لأنّ المتكسّب كسبَ بسببٍ محرّم، فقد كسبَها الآخذ بسببٍ مباحٍ صحيحٍ وهو التبرّع أو الهبة، فلمّا اختلف سبب التملُّك وعلّة الانتقال، انتقل حكم المال من الحرمة إلى الحلّ، فصار كما لو أصبح مالاً آخر تماماً، وذلك بحسب ما تقتضيه القاعدة وتدلّ عليه.
العدلُ مأمورٌ به في جميع الأمور
التوضيح: العدل ضدّ الظّلم، وأصل الظّلم نقص الحقّ، ووضع الشيء في غير موضعه تعدّياً، فيكون المعنى: المأمور به شرعاً في كلّ حالٍ ووقتٍ وحينٍ هو أداء الحقوق على وجه الكمال، وتوفية الحاجات للمحتاجين، وإيتاء الحقوق للمستحقّين، من غير نقصٍ ولا شطط، وهذه القاعدة على هذا المعنى من أصول الشريعة وقطعيّاتها وأركانها؛ إذ يدلّ على وجوب العدل في كل الأمور ما لا يحصى من النّصوص، وقد طوّر بعض أهل العلم صياغتها على نحوٍ أوسع فقال: «العدلُ واجبٌ والفضل مسنون».


اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 01-10-2024 11:22 AM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – قواعد التفاضل في برامج العمل الخيري



  • الخير مراتب والمعروف مَرَاقٍ وكلّها يتدرّج العاملُ فيها ويتقلّب بحسب قدرته ووُسعه وعلمه بين أعلاها وأدناها والأصلُ في كلّ سالكٍ إلى الله قاصدٍ لخدمة الإسلام والمسلمين، وساعٍ في رفعة الأمّة الإسلاميّة
  • الواجب إسناد كلِّ عملٍ إلى من يُحسنه أكثر من غيره ومراعاة التخصصات واعتبار المؤهّلات العلميّة والعمليّة عند إسناد الوظائف والمهمّات إلى أهلها وتوجيه الأفراد إلى المجالات التي تناسبهم بناءً عليها
تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية، واليوم نتحدث عن قواعد التفاضل في برامج العمل الخيري.
الخير مراتب، والمعروف مَرَاقٍ، وكلّها يتدرّج العاملُ فيها ويتقلّب بحسب قدرته ووُسعه وعلمه بين أعلاها وأدناها، والأصلُ في كلّ سالكٍ إلى الله وقاصدٍ لخدمة الإسلام والمسلمين، وساعٍ في رفعة الأمّة الإسلاميّة، أن يعتني بمعالي الأمور ويترفّع عن دناياها وسفاسفها، ويتطلّب من الخير أعلاه، ومن المعروف أرقاه، ويعتني بتمييز الفاضل عن المفضول، فيلزم الأعمال الفاضلة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولمّا كانت الأعمال الخيريّة ذات تأثيرٍ اجتماعيٍّ عام، فإنّ التزامَ القائمين على الأعمال الخيريّة باختيار الفاضل دومًا، من شأنه أن يزيد في بصمة المؤسّسات الخيريّة في الحياة العامّة، ويضاعف من قدرتها على النّفع والإصلاح والتأثير الإيجابيّ، ومن القواعد التي يُستعان بها على معرفة الوجوه الفاضلة من المفضولة في عمل الخير:
1- النّفع المتعدِّي أفضل من القاصر
  • التوضيح: يتناسب الثواب مع شيُوع الخير وانتشاره وكثرة المستفيدين منه، فإذا كان أثر الفعل يتعدَّى صاحبَه إلى غيره، فإنّ ثوابه يكون أكثر من ثواب الفعل الذي يقتصر أثرُه على فاعله فقط، فكلُّ مكلَّفٍ قادرٍ على بذل المال لحلّ أزمات المسلمين، واستنقاذهم من الخطر المحيط بهم في الحروب والنّكبات، فبذلُ ماله في هذا الوجه خيرٌ له من إنفاقه على نوافل عباداته، كالحجِّ والعمرة ونحوهما.
2- خير الأمور أوساطها
  • التوضيح: إنّ الخير في الاعتدال في كلّ شيء، واختيار أواسط الأمور في أعمالنا الخيرية، ووجوهها المقترحة، ومجالاتنا التنمويّة، يحافظ على ثقة المتبرعين في المؤسسة الخيريّة طالما ثبتت واقعيّتها ومصداقيّتها باختيار المتوسّط من الأعمال التي يمكن الحفاظ عليها والاستمرار فيها، وترك تحميل المؤسّسة ما يفوق قدرتها الماليّة وطاقاتها البشريّة، الأمر الذي يفضي إلى خلل محتومٍ في العمل ونقصٍ في الأداء.
فالمؤسسات الخيرية مؤتمنة على الأموال التي بأيديها، ويتوقع المتبرعون أن نقدم لأهل الحاجات ما يفي بمتطلباتهم من غير تقتير ولا إسراف، وما يصرف للعاملين في المؤسسات الخيرية مقابل أدائهم يحدّد بأواسط الأمور وما جرى عليه العُرف وأجرة المثل، فلا ينبغي للمؤسسة أن تُعطي رواتب عالية إلى حدّ الترف والرفاهية، ولا تقتّر على مستخدميها تقتيراً يفضي إلى تقصيرهم وشعورهم بالمظلوميّة، فإنّ التوسّط في هذا الأمر يحقّق الثقة، كما يحقّق الثبات في الأداء، والاستقرار في الإخلاص للعمل. وممّا يتفرّع عن هذه القاعدة أصل: أنّ المتخصّصين في تقدير النّفقات المستحقّة في وجهٍ ما في المؤسّسة الخيريّة، لو اختلفوا اختلافًا لا يمكن حسمُه بالدّليل العلميّ المحسوس، فمن المستحسن أن يتفقوا على العمل برأيٍ يتوسّط الآراء.
3- يقدَّم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها
  • التوضيح: هذه قاعدة تكشف المعيار الأهمّ الذي لابدّ من مراعاته عند اختيار من يراد توليته أو إسناد عمل إليه، وهذا يختلف باختلاف المهامّ والأعمال؛ إذ كلّ عمل يحتاج لمهارة معينة، فيقدَّم في كل عمل من كان أدرى وأقوم بمصالحه.
فينبغي على المؤسسات الوقفية والخيرية، حين تختار العاملين والمتولّين لأعمالها أن تراعي هذا المعيار، فتُسند الوظائف لمن تتوفّر فيه صفاتٌ تؤهّله تأهيلاً مخصوصاً لأداء تلك الوظيفة المخصوصة على أكمل وجه، وإن كانت فيه نقائصُ بالنسبة لوظيفةٍ أخرى، ومن الواجب ألا تتشوّش أذهان القائمين على هذه المؤسّسات بخلط المعايير، فليس كلّ تقيٍّ دقيقاً في الحساب، وليس كلّ عابدٍ نبيهاً، ولا كلّ متقنٍ لحرفةٍ أمينًا تقيًا، وهكذا؛ إذ اجتماع القوّة والأمانة في النّاس قليل، فيُنظر في المواصفات الأقرب إلى تحقيق المصلحة المخصوصة فالأقرب.
4- لكلّ عمل رجال
  • التوضيح: لكلّ وظيفة رجل مناسب يقوم بها، ولكل مهمّة رجل مناسب ينفّذها، ولكلّ صنعة صانعٌ يتقنها، فالواجب إسناد كلِّ عملٍ إلى من يُحسنه أكثر من غيره، ومراعاة التخصصات، واعتبار المؤهّلات العلميّة والعمليّة والذهنيّة عند إسناد الوظائف والمهمّات إلى أهلها، وتوجيه الأفراد إلى المجالات التي تناسبهم بناءً عليها.
لذا يُقدَّم لدراسة الحالات المحتاجة وكشف أحوالها من هو مختص بهذا الشأن، وله دراية علمية بالشؤون الاجتماعية وأحوال المجتمع، ممّن تخصّصوا في ذلك واتّسعت فيه خبراتهم، ولا يُجزئ أن يُزجَّ في هذا الميدان بمن تنطلي عليه الأمور، أو ينظر إليها بعاطفته، وكذا يُكلَّف بحساب الزكاة من له اختصاصٌ شرعيٌّ.
5- الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة
  • التوضيح: الأصل في جميع صلاحيّات الوليّ الخاصّ أن تنتقل إلى السلطان بمقتضى ولايته العامّة عند غياب الأوّل، لكن إذا وُجدت الولاية الخاصّة، فتُقدَّم على ولاية السلطان أو نائبه؛ لأنّها ولايةٌ لمُختصٍّ بها، بينما ولاية السلطان تشملُ ذلك بطريق العموم، وما كان أقلّ اشتراكاً، كان أقوى تأثيراً وامتلاكاً، أي تمكُّنًا.
فلا يملك القاضي عزل القيّم على الوَقْف، ولو كان هو الذي ولَّاه نَظارةَ الوَقْف، إلّا إذا ثبتت خيانة ذلك النّاظر، ولا يملك القاضي التصرُّف في مال اليتيم مع وجود وصيٍّ على اليتيم، ولو كان ذلك الوصيُّ منصوباً من قِبَل القاضي، إلّا إنْ ثبتت خيانة الوصيّ.
6- الأصل عند اجتماع الحقوق أن يُبدَأ بالأهم
  • التوضيح: عند تزاحم الحقوق لا يقدَّم فيها أحد على أحد إلا بمرجّح ومقتضٍ يقتضي تقديمه، ويبرهن على أنّه أولى ممّا تمّ تأخيره عنه وتأجيله إلى ما بعده، فإنّه لا يجوز تقديم ما أخّره الله، ولا تأخير ما قدّمه، لا سيما عند ازدحام الحقوق، وتضاؤل القدرة عن الوفاء بها جميعاً، أو ضيق الإمكانات عن الوفاء بكلّ الحقوق في وقتٍ واحدٍ، وإن كانت تسع الجميع في الواقع.
ومن تطبيقات هذه القاعدة: تقديم ما قدّمه الواقف في شرطِه، وتأخير ما أخّره، فإذا كان قد اشترط أنّ وقفه على طلبة العلم، فإن فضَلَ عنهم شيءٌ فإلى الجُنْد، لم يجُزْ للنّاظر تقديم الجُنْد على طلبة العلم. ومن موجبات التقديم في الاستحقاق من الزكاة: شدة الحاجة، والإنفاق على المسلمين المنكوبين بأمراض وبائيّة توشك على إبادتهم واستئصالهم أهمّ من الإنفاق على حالاتٍ مرضيّة فرديّة يضرّ تأخيرها ويمكن أن يتعايش المريض معها، أو لا يتأذّى بتأخير علاجها إلّا أذىً يسيراً محتملاً، وهكذا.


اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 07-10-2024 11:04 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية





نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع، الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.

«الإحسان إلى الأبرار أولى من الإحسان إلى الفجار» (1)، ضابط من ضوابط الصرف في المؤسسات الخيرية والأعمال الخيرية، فالإحسان إلى الغير مطلب شرعي وصفة من صفات المؤمنين، وقد يكون هذا الغير مسلمًا برًا أو مسلمًا فاجرًا، فالإحسان إلى المسلم البر أولى على العموم من الإحسان إلى المسلم الفاجر، إلا إذا كان الإحسان إلى هذا الأخير فيه مظنة التأثير عليه ورجوعه عن فجوره.
سئل ابن تيمية - رحمه الله - عن إعطاء الزكاة للمبتدع، فقال: «المزكِّي عليه أن يتحرى بزكاته أهل الدين الملتزمين بالشريعة، أما أهل الفجور فلا ينبغي أن يعانوا على فجورهم بالزكاة» (2).
ففي صدقة الفرض يقدم المسلم التقي الورع على المسلم الفاسق الفاجر، وفي صدقة التطوع يقدم المسلم عموما على الكافر.
وصاحب الحاجة أولى بالتقديم من ممن لا حاجة له: فالعطية كما تكون بحسب التقوى والصلاح، تكون أيضا بحسب الحاجة، فيقدم المسلم التقي ذي الحاجة على المسلم التقي ذي الحاجة الأقل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يأكل طعامك إلا تقي» (3).
فالصدقة والإحسان وإن كانا يجوزان للبَر والفاجر، والمسلم والكافر، إلا أن المسلم مقدَّم على الكافر، والمسلم البَر أولى من الفاجر.
فمن كان من المسلمين مسرفاً على نفسه في المعاصي مرتكباً للكبائر فإنه لا يعان على ذلك لا بصدقة ولا بغيرها، بل يحرم على المرء الدفع إليه منها، إذا كان سيستعين بها على معصية الله.
جاء في أسنى المطالب من كتب الشافعية، في باب صدقة التطوع: يحرم دفع صدقة التطوع إلى العاصي بسفره أو إقامته إذا كان فيه إعانة له على ذلك، وكذا يحرم دفعها إلى الفاسق الذي يستعين بها على المعصية وإن كان عاجزاً عن الكسب(4).
فالإنسان ينبغي له أن يتحرى بصدقته المستحقين من أهل الدين والصلاح، وأما من أظهر فجوراً فإنه يستحق العقوبة والهجر فكيف يعان على فجوره ومعصيته!.
وتَصرف من تولى أمر الصدقة منوط بالمصلحة، جاء في الأشباه والنظائر: «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، وهذه القاعدة نص عليها الشافعي، وقال: «منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي في اليتيم»، فالإمام إذا قسم الزكاة على الأصناف يحرم عليه التفضيل، مع تساوي الحاجات.. ومن فروع ذلك أنه لا يجوز له - أي الإمام - أن يقدم في مال بيت المال غير الأحوج على الأحوج»(5).
وأضاف السيوطي: «وإنما وظيفة الإمام القسمة، والقسمة لا بد أن تكون بالعدل، ومن العدل: تقديم الأحوج والتسوية بين متساوي الحاجات» (7).
ولا شك أن الإحسان إلى عباد الله الواجب منه هو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجَّه عليك مِن الحقوق. قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } (النساء:36)، فأمر بالإحْسَان إلى جميع هؤلاء.
فعلى العاملين في المؤسسات الخيرية والتطوعية أن يتقوا الله فيما ائتمنوا عليه، وأن يحسنوا للناس، وأن يكونوا منصفين في توزيع مساعداتهم، فالمتبرعون قد أمنوهم على أموالهم لتوضع في أيدي أصحاب الحاجة ومن يستعين بها على أمر دينه ودنياه، وأن يقدم الأحوج ذو الدين والخلق والتعفف.
الهوامش:
1- فقه الأولويات، دراسة في الضوابط، محمد الوكيلي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي – ط1، 1997، ص 261.
2- مجموع الفتاوى: (25/87)
3- سنن أبي داود: (4832)، سنن الترمذي: (2395)، مسند أحمد: (3/38) عن أبي سعيد الخدري، - رضي الله عنه.
4- أسنى المطالب، باب صدقة التطوع ( 1/406 ).
5- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه الشافعي، جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، لبنان ط1، (1413-1983م)، ص 121.
6- الأشباه والنظائر، ص 122.
7- سورة النِّساء: الآية 36.



اعداد: عيسى القدومي







ابوالوليد المسلم 19-10-2024 09:02 AM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – قواعد التفاضل في برامج العمل الخيري



تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها، وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية، واليوم نتحدث عن قواعد التفاضل في برامج العمل الخيري.
7- إذا تعارض الإعطاء والحرمان قُدِّم الإعطاء
  • إذا وُجِد سبب يقتضي الإعطاء وآخر يقتضي المنع، ولم يوجد مرجِّح بينهما، قُدِّم الإعطاء على الحرمان.
ومن أنواع العمل بهذه القاعدة: لفظ الواقف أو المتبرّع تبرّعاً مشروطاً، إذا وُجد في كلامه ما يُعارضُ بعضُه بعضاً، وظهر فيه ما يقتضي منعَ إنسانٍ وما يقتضي إعطاءَه في آنٍ، ولم يمكّن التحقُّق من إرادته والوقوف على مقصده بمرجّح يصلح للعمل، فالإعطاء مقدّمٌ على المنع حينها. ووجه تقديم الإعطاء على المنع هو أنّ الواقف أو المتبرّع نجزمُ بقصدٍ عامٍّ له، وهو أنّه يقصد تكثير الخير، وتعميم الإعطاء، وتوسيع دائرة البذل، فإذا عمي علينا الوقوف على قصده المخصوص في صورةٍ مخصوصة، طرحنا الدّليلين المتعارضين في خصوص تلك الصورة، وأعملنا مقصده العامّ المعروف الظاهر لكلّ أحد.
8- الإحسان إلى الأبرار أفضل من الإحسان إلى الفجار
  • هذا عند استواء البَرِّ والفاجر في الحاجة؛ لأن الحاجة المُعبَّرَ عنها في القرآن بالفقر والمسكنة هي علّة الاستحقاق أصلاً، فإذا استويا فيها، فالأصل تقديم أهل الدِّين والاستقامة والالتزام على غيرهم، لئلّا تكون سببًا في أن يتقوّى بها العُصاة على معصية الله -تعالى.
فالمزكِّي عليه أن يتحرّى بزكاته أهل الدِّين الملتزمين بالشريعة، أما أهل الفجور فلا ينبغي أن يُعانوا على فجورهم بالزكاة، ويحرُم دفع صدقة التطوع إلى العاصي بسفره أو إقامته إذا كان فيه إعانة له على ذلك، وكذا يحرُم دفعها إلى الفاسق الذي يستعين بها على المعصية، وإن كان عاجزاً عن الكسب، على أنّه لا مانع من أن يعتري الصورة المفضولة ما يجعلها فاضلةً في بعض الظروف، وهذا محكومٌ بالزمان والمكان والأعيان.
9- ما يُخشى فواته أولى بالتقديم على ما لا يخشى فواته
  • أهل الحاجات متفاوتون في حاجاتهم؛ فمنهم الفقير، ومنهم الأفقر، ومنهم المحتاج، ومنهم الأحوج، ومنهم من حالته ملحّة حالّة، ومنهم من حالته متوقّعةٌ قريبة، ومنهم المحتاج إلى الضروريات، ومنهم المحتاج إلى الكماليات. والوجه في كلّ ذلك أن تُقدّم إغاثة المنكوبين في النوازل والكوارث؛ لأنّ المصالح الذي شُرِعَ العَوْن لحفظها، والضروريّات التي نزلت الشرائع أصلاً وخُلق المال أساساً لصيانتها، تفوت في حال تأخّر مدّ يد العون إليهم. في حين أنّنا نجد أمورًا تحتمل التأخير؛ فالإغاثة العاجلة أولى بالتقديم من إقامة الأوقاف والمشاريع وتنمية الخطط المستقبليّة للأجيال القادمة، وكذلك حفظ الأنفس والأعراض من الضروريّات، وهي أولى بالحفظ من الحاجيّات، كإقامة المشاريع التعليمية والتثقيفية، وعلى مستوى التعليم والإرشاد: العناية بتصحيح العقيدة، وتحقيق التوحيد، في الأوساط التي يُستهان فيها بذلك، أولى من الاشتغال بتحقيق مفصّل الاتّباع ونشر السّنن ومحاربة المكروهات والحضّ على الكمالات التعبّديّة.



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 25-10-2024 02:52 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – قواعد الضرورة والحاجة في العمل الخيري



  • الإتيانُ بالعملِ وإيقاعُه طلبًا في الأجر والثواب وابتغاء مرضاةِ الله لا يتعارض ولا يكون مانعًا من أن يترتّب على ذلك العمل كسبٌ ورزقٌ للعامل
  • إنّ كلّ تصرُّف محرّمٍ استُبيح بالضّرورة إنّما يجوز بالقدر الذي يحصل به إزالة تلك الضرورة ورفعها ولا تجوز الزيادة عن هذا الحدّ
تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن مع ذلك سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها وتكثر الصور المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية، واليوم نتحدث عن قواعد الضرورة والحاجة في العمل الخيري.
والحديث هنا خاصٌّ بالقواعد التي تندفع بها الضّرورات، والأمور التي يمكن أن تستباح ويُتسامح فيها في العمل الخيريّ تماشيًا مع المضايق، وكذا بعض القواعد التي تتحقّق بها المصالح وتُستجلب بها المنافع وتُحفظ بها الحاجيّات، فمن هذه القواعد:
  1. الضرورات تبيحُ المحظورات
  • التوضيح: هذه قاعدة من قواعد التيسير الكبرى، مفادها أن المحظور شرعاً، إذا كان لا يُتوصّل إلى صَوْن ضروريّات الإنسان إلى من خلال تقحُّمه وارتكابه، فإنّه يُباح إذا انحصرت طرائق دفع الضرورة فيه، ويُباح لدفع الضرورة ورفعها ولو كان محظوراً، والضرورات هي ما يضرّ بالإنسان في مصالحه الضروريّة التي اتفق عليها أهل الإسلام، وهي الدّين والنّفس والعقل والمال والنّسل، وهذه القاعدة في الواقع هي أهمّ القواعد المتفرّعة عن القاعدة الكليّة الكبرى: «المشقّة تجلب التيسير»؛ إذ «الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع».
فإذا لم نجد من يعمل في وظيفة متخصصة تحتاجها المؤسسة الخيرية من المسلمين، فإنه يمكن الاستعانة بغير المسلم، إبقاءً على المصلحة، وحفاظًا على المنفعة العامّة التي تترتب على عمله، وكذلك المؤسسة الخيرية التي لم تجد بنوكاً إسلامية لإيداع أموالها فيها، فقد تُلجِئها الضرورة إلى فتح حسابات جارية في بنوك ربوية، تبعًا للضرورة النازلة بالمستفيدين في النوازل والكوارث، فإذا ارتفعت الضرورة بحيث وجد بنك إسلامي يمكنه الإيداع فيه والتعامل معه، فيجب سحب الودائع من البنك الربوي، لأن الضرورة تقدر بقدرها، وما جاز لعذر بطل بزواله.
  1. الضرورة تقدّر بقدرها
  • التوضيح: إنّ كلّ تصرُّف محرّمٍ استُبيح بالضّرورة، إنّما يجوز بالقدر الذي يحصل به إزالة تلك الضرورة ورفعها، ولا تجوز الزيادة عن هذا الحدّ، وإلا صار إيقاع ذلك التصرُّف عدوانًا.
ومن صور ذلك: فتح حسابات في البنوك الربوية لاستقبال التبرّعات، أو تسهيل التحويلات لمناطق بعيدة، أو اختلاط الرجال بالنساء، أو الانصياع لبعض القوانين الغربيّة التي تنصّ على مضامين مخالفةٍ للشرع من أجل تسهيل بعض الأعمال الخيرية في البلاد غير المسلمة، ونحو ذلك.
  1. الضَّرَرُ يُزَال
  • التوضيح: تقتضي القاعدة تحريم سائر أنواع الضرر في الشرع؛ لأنه نوع من الظلم، ونفي الضرر يفيد دفعه قبل وقوعه بطريق الوقاية الممكنة، ورفعه بعد وقوعه بما يمكن من التدابير التي تزيله، وتمنع تكراره، لا سيما وهذه القاعدة معبَّرٌ عنها عند كثيرين بنصّ الحديث الشريف: «لا ضرر ولا ضرار»، الذي يقتضي تحريمَ ابتداء الضّرر، وتحريمَ إيقاعه على وجه الجزاء والمقابلة، إذا لم يكن في ذلك حقٌّ ولا مصلحةٌ راجحة.
فلا يسوغ إيذاء أية مؤسسة مسلمة أو الإضرار بها، سواء بالفعل أو بالقول بنشــر الشائعــات، أو الغيبة، أو بانتقاصها، أو بالتخبيب والتحريش والتحريض عليها، أو التشكيك فيها، أو الإضرار بهيكلها ودوائرها، بإفساد الموظّفين وتحريضهم على الانتقال أو إغرائهم بالتقصير ونحو ذلك. وكذلك لا مانع من بيع التبرعات العينية إذا كانت سريعة العطب، كالمواد الغذائية التي تنتهي صلاحيتها سريعًا، أو تكون تبرعات لا تنتفع المؤسسة الخيرية بها في مجال نشاطها، أو لكونها غير صالحة لانتفاع الفئات المستهدفة بالمساعدة بها، ثم يُستبدَل بقيمتها غيرها، ما دام هذا يحقق المصلحة للفئات المستفيدة، وذلك دفعاً لضرر تَلَفِها وضياعها هدرًا.
  1. الميسور لا يسقط بالمعسور
  • التوضيح: ما لم يكن مقدورًا على تحقيقه كلِّه، وإنجازه بتمامه، لم يُجعل ذلك ذريعة إلى تركه بالكلّيّة، مع كون تحقيق مُعظمه وأكثره ممكنًا.
فلا يُجعل العجز عن إغاثة جميع المنكوبين مسوِّغًا لترك إغاثة الممكن منهم، فإنّ المقدور عليه لا تبرأ الذمّة منه بسبب العجز عن القَدْر الباقي لتكميله، وإذا قُدّمت للمؤسّسة الخيريّة مساعدات موجّهةٌ لوجهٍ معيّن، كإغاثة اللاجئين في مكانٍ بعيد، ثمّ لم تتمكّن المؤسّسة من نقل كلّ المال إلى هناك لتعثُّر عمليّات التحويل والنّقل، لكنّها تستطيع نقل بعض المال بطرائق ممكنة، فإنّ نقل القَدْر الممكن متعيّنٌ لا يجوز تركُه لعُسر إلحاق الجزء الباقي به. ولا يجوز أن تتوقّف النشاطات العلميّة والدعويّة في مكان ما، بحجّة أن آثارها ومردودها ليس كما ينبغي، وأن الناس في تلك المنطقة مُعرضون عن العلم والدعوة، بل لا بدّ من الحفاظ على المردود والأثر الذي تم تحصيله، ولا يُعطّل الخير بحجّة عدم اكتماله.
  1. الاحتساب لا يمنع الاكتساب
  • التوضيح: الإتيانُ بالعملِ وإيقاعُه طلبًا في الأجر والثواب، وابتغاء مرضاةِ الله، لا يتعارض ولا يكون مانعًا من أن يترتّب على ذلك العمل كسبٌ ورزقٌ للعامل.
فالموظّف في المؤسّسة الخيريّة، إذا دخلَها ناوياً وجه الله، والتعبُّدَ بالعمل في وجوه الخير وميادين الحسنات، فأتقن عملَه واهتمّ به والتزمَ بما هو مطلوب، ثم خالجَه مع ذلك الرغباتُ الإنسانيّة في أن ينتفع بالتزامِه في تحسين وضعه الوظيفيّ، أو زيادة راتبه، أو حصولِه على مكافأة، فإنّ ذلك لا يؤثِّر في أجره إن شاء الله. وليس من الصّواب أن يُبخَسَ العاملون في المؤسّسات الخيريّة حقوقَهم، بحجّة أنّ عملَهم عبادة، فإنّ إرضاءَهم والعناية بهم وتعديل رواتبهم حتى يكونوا كأمثالهم في المؤسسات ذات الطابع المشابه، مقصدٌ شريفٌ، ومراعاتُه حسنةٌ جدًّا، ومصلحةٌ شرعيّة، وغايةٌ مهنيّة.
  1. ما كان لله استُعين ببعضه على بعض
  • التوضيح: ما كان حقًّا لله -تعالى- من الحقوق المالية، كالصّدقات والكفّارات والنذور والأوقاف على جهات البرّ، فإنّه يُعمل في هذا المال بمقتضى المصلحة والنفع، فالكلّ لله -تعالى-، وما دام غير مخصّص ولا مشروطٍ، وإنّما أخرجه من أخرجه لله، فيُستعان ببعضه للصّرف على بعضه، إذا لم يخالف ذلك المصرف الذي اشترطه الواقف أو المتبرع.
وهذه القاعدة توجه طريقة الصرف في الأعمال الخيرية والوقفية وضوابط نقل المال من مصرف إلى آخر، وأنّ التصرف في المال الخيري والوقفي، الغالب أنّه مقيد بشروط ينبغي أن يراعيها متولّي هذا المال، لكن إذا كان التبرُّع أو الوقف على جهاتٍ عامّة مثل: سبيل الله، ووجوه الخير، ووجوه البرّ، فإنّ هذا المال يُستعانُ ببعضِه على نقل بعضِه، ويستعان ببعضِه على تنمية بعضه الآخر، ونحو ذلك، فإنّ ما أضافه الله -تعالى- إلى نفسه، فجهته جهة المصلحة.


اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 30-10-2024 04:18 AM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – فقه المآلات وأثره في العمل الخيري



  • من أتلف شيئًا من ممتلكات المؤسسة الخيريّة وهو مفرِّط في ذلك فعليه ضمانُه وكذلك التفريط في حفظ الأموال التي تصل إلى المؤسسة عن طريق التبرُّعات
  • إثقال كاهل الفقراء بطلبات تعجيزيّة من أجل إثبات فقرهم وتكليفهم بتوفير ما يجعلهم أذلَّاء من الوثائق يضع فاعلَ ذلك تحت وعيد أن يعسِّر الله تعالى عليه أمرَه
تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن مع ذلك سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها وتكثر الصور المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية، واليوم نتحدث عن قواعد الضرورة والحاجة في العمل الخيري.
اعتبار المآلات، ومراعاة نتائج التصرّفات، من أدقّ أبواب الفقه؛ إذ لا يُحسن استشرافَ ما تكون عليه الأمور في المستقبل إلّا ذو نظر نافذٍ وبصيرة، وهذه مجموعةٌ من القواعد التي تُنبئ عن آثار التصرّفات التي قد تترتّب على ما يقوم به العاملون في المجال الخيريّ، مع دلالتها على أحكام تلك الآثار وما يرتبط بها في حال حدوثها.
1- الدفع أسهل من الرفع
التوضيح: القاعدة تدور على تقرير أنّ الوقاية من الشرّ قبل وقوعه أيسر وأسهل من رفعه وعلاج آثاره بعد وقوعه وتمكُّنه، وهذا المعنى مشهور في الطبّ بلفظ (الوقاية خير من العلاج)، فدفع المنتفعين والمغرضين وأصحاب الكفاءات المتدنّية والقدرات المنقوصة عن إدارة المؤسسات الخيرية، وإبعادهم عن المسؤولية المباشرة عن المشاريع، أسهل وأيسر من الانشغال بعلاج وترقيع آثار إساءاتهم والخراب الناشئ عن فشلهم في المؤسسة ومشاريعها، لأن الدفع أسهل من الرفع، وكذلك التنبُّه للشُّبُهات، والدعوات المشبوهة، والنزعات المنحرفة بالإفراط أو التفريط، لا بدّ أن يكون أولاً بأوّل؛ إذ إنّ منعها من التمكُّن من القلوب والعقول أيسر من مكابدة إخراجها منها.
2- المفرِّط ضامن
التوضيح: من أتلف مال غيره عمداً فإنه يضمنه بأن يؤدي مثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قِيَمِياً، أمّا إن ضاع منه ذلك قهراً، أو غَلَبَةً، أو بجائحةٍ قضاءً وقدراً، ومن غير تفريط ولا إهمال منه، فإنه لا يضمنه، إلا إذا كان معتدِّياً في وضع اليد أصلاً، فإنه يضمن، كالغاصب. فمن أتلف من ممتلكات المؤسسة الخيريّة شيئًا ممّا يستعمله الموظّفون، كالسيّارات والأدوات المكتبيّة، وهو مفرِّط في ذلك، فعليه ضمانُه، وكذلك التفريط في حفظ الأموال التي تصل إلى المؤسسة على شكل تبرُّعات، سواء منها ما كان نقديًّا أو عينيًّا، كلُّه تجري عليه هذه القاعدة بوجوب ضمانه في حال تلفه نتيجة التفريط في حفظه.
3- {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
التوضيح: هذه القاعدة نصّ آيةٍ كريمة، ومعناها العامّ أنّ من أحسن لغيره بنفسه أو ماله، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، فهو غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، فلا تجوز مخاطبة المتبرِّع خطاباً يشبه خطاب من عليه حقٌّ واجب، لأنّ المتبرِّع في كلّ أشكال التبرّعات محسنٌ، لا سبيل إلى إلزامه أو إيجاب شيء عليه. والمؤسسة الخيرية عند قبولها نقل التبرُّع من صاحبه إلى مستحقِّه بلا مقابل، فهي وكيل متبرِّع بهذه الوكالة، فإذا تلف في يدها شيء من ذلك من غير تفريط أو إفراط فلا ضمان عليها.
4- الخطأ لا يُستدام ولكن يُرجَع عنه
التوضيح : الخطأ إذا اكتُشف يجب الرجوع عنه، ولا يجوز الاستمرار عليه، لأن المخطئ مرفوع عنه الإثم، ولكنه إذا عرف خطأه وأصرّ عليه، واستمرّ ولم يرجع عنه، فلا يبقى حينئذ خطأ، بل يكون قد تعمَّدَ الوقوع في الخطأ، فهو مأخوذ بما أخطأ فيه، وهو آثم في ذلك. وعليه: فكلُّ القرارات الإداريّة التي يتبيّن للمسئول في المؤسسة الخيريّة أنّه جانب فيها الصواب، فالواجب الرجوع عنها وتصويب مسارها ومعالجة آثارها ما أمكن، وكذلك إذا خُصص مشروع خيري لمنفعة ما، ولم يحقق المشروع تلك المنفعة، لخطأ في دراسة الجدوى أو في تقديرات الرّيع، أو لتغير الظروف المحيطة به، فيعمل على تحويل المشروع إلى ما هو أنفع، تصحيحاً للخطأ ومعالجةً لأثره.
5- إذا تبيّن عدم إفضاء الوسيلة إلى المقصود بطل اعتبارها
التوضيح: الوسائل والأسباب المفضيةُ إلى أمورٍ مقصودةٍ للشّارع، وليست مقصودةً في ذاتها، إنّما تُتّخذ وتُتّبع إذا تحقّق المكلّف من إيصالها إذا المقصود، فإذا تبيّن عدم إيصالها إلى المقصود وإسهامها في تحقيقه، فالأخذ بها ليس مطلوباً في الشّرع، واعتبارها ساقطٌ، وكذلك إذا تبيّن في ظرفٍ ما أنّ اعتبار المقصود نفسه قد سقط، فإنّ الوسيلةَ تسقط تبعاً له، فـ «لا شكّ بأنّ الوسائل تسقط بسقوط المقاصد». فإذا كان السعيُ إلى صلاة الجمعة مثلاً -وهو وسيلةٌ مشروعةٌ في ذاتها- يسقط إذا فاتت الصلاة، مع أنّ السعي في ذاته لا مفسدة فيه، فبقياس الأولى تسقط كلّ الوسائل التي تتّخذها المؤسّسات الخيريّة مع كونها تشوبُها في ذاتها شوائبُ من شُبهة أو شكّ أو تعلُّق بأحوال الاضطرار والحاجة دون الأحوال الاعتياديّة. فلا داعي لاستمرار حسابات في بنوك تمّ فتحها لإنجاز مهمّة محدودةٍ في بعض الأماكن، وإذا كان التنقّل والسّفر مشكوكاً في إفادته للمؤسّسة أو مقطوعاً بعدم منفعته، فإنّه يكون عبئاً على ميزانيّات المؤسسات الخيرية وسوءَ تصرُّف من إدارتها.
6- من التَزَمَ معرُوفاً لَزِمَه
التوضيح: من صدرت منه إرادةٌ منفردةٌ، عبَّرَ عنها بطريقةٍ مُعتبرَةٍ شرعاً، تعهّد فيها بفعل ما فيه نفعٌ لغيره لم يُطالبه به الشرع ولم يكن أثراً لتصرُّفٍ آخر، فقد أصبح مُطالباً به بموجب تلك الإرادة. فمن وعدَ طالبَ علمٍ بأن يرصُد له مبلغاً من المال يشتري به كتبًا، فتعجَّلَ طالبُ العلم لنهمته شراءَها بدَيْن في ذمّته معوِّلاً على الوعد، فقد أصبح إنفاذُ الوعد لازماً ما لم يفلس الواعد، وكذلك من وعد بكفالةٍ مريحةٍ تكفي للتوسعةٍ على يتيمٍ وأمِّه، فغَرِمَت الأمُّ في ذمّتها ثمن ضروريَّاتٍ كانت مؤجَّلةً لولدها اتكاءً منها على الوعد، فقد لَزِمَ الوعدُ صاحبَه، ومن قال لآخر: تزوَّجْ وعَلَيَّ صداق امرأتك، ففعلَ الموعودُ، لَزِمَ الواعدَ الوفاءُ. والحقّ أنّ نصّ هذه القاعدةِ يعبّر عن قول المالكيّة، ولفظها ممّا اشتهر عن الإمام مالك نفسِه، والإلزامُ بالوعد بالمعروف عندهم يكون فيما إذا دخل الموعودُ في سببٍ بناءً على الوعد فقط، وليس إلزاماً مطلقاً، أمّا الجمهور فيخالفونهم أصلاً وفرعاً، إلّا أنّ لقول المالكيّة حظًّا قويًّا من النّظر.
7- ما قارب الشيء يُعطى حكمه
التوضيح: من قام بأكثر أو معظم ما كُلِّف به، برئت ذمّته بذلك، واكتُفي منه بما قام به، ما لم يكن ذلك مُعارَضًا بنصٍّ صريح، كما في الأمر بصيام رمضان، فإنّه لا يتمّ الامتثال إلا بصيامه كلِّه. فإذا وُجد في الأضحيّة عيبٌ يسيرٌ، كقطعٍ صغير في الأُذُن، أو الذَّنَب، أو عَرَجٍ خفيف، فكلُّ ذلك معفوٌّ عنه، لأنّها في حالها مُقاربة للحالة الكاملة، وإذا لم يستقرّ العُرف عند المسلمين في بلدٍ ما على قُوت معيّن، لزمهم في صدقة الفطر قُوت أقرب البلاد إليهم، كما أنّ من نقصَ محصولُه عن خمسةِ الأوسُقِ الحبّةَ والحبّتين، فالوجه الذي تقتضيه هذه القاعدة أن الزكاة تجب عليه، لأنّه لو استوفاها من أحدٍ أو أدّاها لأحدٍ لجرى التسامح في مثل هذا القَدْر، إذ «التافه في حكم العدم».
8- الجزاء من جنس العمل
التوضيح: هذه قاعدةٌ فقهيّة، أخلاقيّة، سلوكيّة، قانونيّة، ومعنىً ملحوظٌ في جملة التشريعات الإسلاميّة، وحقيقةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسّنّة والإجماع، تقضي بأنّ الثواب أو العقاب الذي يتلقّاه الإنسان على فعلٍ ما، يكون من جنس ذلك الفعل عادةً، لأن هذا هو مقتضى العدل الإلهيّ. فتأخير مستحقَّات أهل الحاجات بلا داعٍ ولا مسوّغ، يُدخل من يفعل ذلك تحت الوعيد الإلهيّ بأن يُؤخِّر الله عنه ما يحبّ، كما أن إثقال كاهل الفقراء بطلبات تعجيزيّة من أجل إثبات فقرهم، وتكليفهم بتوفير ما يجعلهم أذلَّاء من الوثائق، والتمحُّل في اتّهام من صرّح بحاجته، يضع فاعلَ ذلك تحت وعيد أن يعسِّر الله -تعالى- عليه أمرَه، ويبتليه بمن يمنعه حقَّه، فالتنبُّه لهذا الملحظ الشرعيّ سياسةٌ أخلاقيّةٌ ضروريّة لنجاح الأعمال الخيريّة ونهضة مؤسّساتها.


اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-11-2024 12:23 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية
- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
9- اليقين لا يزول بالشك




نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع؛ الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية .
اليقين لا يزول بالشك من القواعد الخمس الكبرى، تدخل في جميع أبواب الفقه والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه أو تزيد(1)، وهي قاعدة مهمة في حياة المسلمين، ومعناها: إنَّ الشيء المتيقَن ثبوته لا يرتفع إلا بدليل قاطع ولا يُحكَم بزواله لمجرد الشك .
ومن أدلة هذه القاعدة قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا}، قال المفسرون: يعني أن الشك لا يغني عن اليقين شيئاً ولا يقوم مقامه(2).
ومن الأدلة من حديث النبي قوله صلى الله عليه وسلم : «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا»(3).
قال الإمام النووي رحمه الله: «وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه ، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها»(4).
ذكر بعضهم أن لهذه القاعدة ركنان، هما: اليقين السابق والشك اللاحق، فلابد أن يكون لدى المكلف يقين مستقر، ثم يطرأ عليه بعده شك، عندها نقول تحققت القاعدة، فيكون الحكم: “اليقين لايزول بالشك».
فاليقين أقوى من الشك؛ لأن في اليقين حكماً قطعياً جازماً فلا ينهدم بالشك؛ لأن الشك ليس هو الأصل بل اليقين هو الأصل .
ومن التطبيقات الخيرية لهذه القاعدة:
وجوب التثبت عند الحكم على الأشخاص والهيئات والمؤسسات؛ فلا يصح أن تتهم المؤسسات الخيرية والعاملون بها بمجرد الشك في إيصال التبرعات؛ لأن اليقين أن المؤسسات والعاملون فيها الأصلُ فيهم البراءة والسلامة، فلا يخرج عن هذا الحد إلا بيقين.
ومن ثبت احتياجه واستحقاقه للزكاة فالأصل جواز إعطائه حتى يُتَيقَّن زوالُ هذا الوصف عنه، ومن القواعد الفقهية الدالة على هذا الحكم: «الأصل بقاء ما كان على ما كان»(5) .
ولا بد من اعتماد منهجية الحقائق الموثقة في دراسة أي قرار، أو إجراءِ أي تصرُّف، فالحقائق الموثقة بالدلائل والإحصائيات والأرقام تساعد في اتخاذ أي قرار أو تصرف، بعيدا عن الانفعالات العاطفية، وردود الأفعال الغير موزونة .
وإذا صرَّح المتبرع أو الواقف بمصرف معيَّن، أو اشترط شروطاً خاصة، فلا تسوغ مخالفته استناداً إلى دلالة الحال، أو عادة المتبرعين؛ لأن اليقين لا يزول بالشك، وللقاعدة الفقهية: لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح(6).
ومن ثبت أنه من أهل الحاجة والعوز، ويستحق من مصرف الزكاة أو ريع الوقف المخصص للفقراء، فيعطى من تلك المصارف ما لم يتبدل حاله ويتحسن دخله، فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين.
ومن شك أنه أخرج الزكاة أم لم يخرجها فالأصل أنه لم يخرجها؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
الهوامش:
1- انظر :الأشباه والنظائر ، للسيوطي ص 51، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية،للدكتور محمد صدقي البورنو،ص169 .
2 - انظر: جامع البيان ، للطبري ، 11/153 .
3 - أخرجه مسلم في صحيحه مسلم، برقم (362) .
4 - شرح النووي على صحيح مسلم 4/49
5- الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 251، وابن نجيم: ص 75
6- الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 339.



اعداد: عيسى القدومي

ابوالوليد المسلم 28-12-2024 03:51 AM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية
- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
10- الإنفاق لا يحتمل التأخير





نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية .

الإنفاق لا يحتمل التأخير(1)، أي أن بَذْل المال ونحوِه لمن تجب النفقة عليهم من الأولاد والزوجة والوالدين، أو مما اؤتمن عليه من المال لصرفه إلى أهل الحاجة والعوز، لا يحتمل ولا ينبغي فيه التأخير .

فالحاجة لا تحتمل التأخير في سدها، ولا يسوَغ التقاعس في أدائها بأعذار واهية، وما لا يحتمل التأخير يقدم، والنفقة الواجبة لا يحل تأخيرها عن وقت استحقاقها، والصرف على المحتاجين وقت النوازل والنكبات أولى من الأمور الثانوية التي يحتمل فيها التأخير، كإقامة المشاريع الخيرية؛ لأن الإنفاق في مثل ذلك الزمن لا يحتمل التأخير، فقد تهلك الأنفس وتسفك الدماء من الجوع، وتنتهك الأعراض .

وكذلك النفقات الواجبة على الشخص نحو زوجته وأولاده الصغار؛ فإنه يجب عليه أن يعطيهم نفقتهم في موعد محدد وبمقدار يفي بالغرض، وليس له أن يؤخرها لتجدُّد الحاجات .

وكذلك الوقف، فعلى ناظره أن لا يؤخر أداء حقوق المستحقين في الوقف، وعدم تأخيرها مطلقاً، إلا لضرورة تقتضي تأخير إعطائهم لحقوقهم: كحاجة الوقف إلى العمارة والإصلاح أو الوفاء بدين على الوقف؛ لأن هذا مقدم على الإعطاء للمستحقين(2).

ولا يجوز كذلك للواقف أو للناظر أو المتولي للوقف أن يؤخر حق الانتفاع من عين الوقف للموقوف عليهم بلا ضرورة تقتضي ذلك، وعلى الناظر أن يتأكد من أداء حقوق المستحقين في الوقف، ويتأكد كذلك من أداء المتولين أمر صرف المستحقات.

وعلى العاملين في المؤسسات الخيرية أن يتقوا الله فيما اؤتمنوا عليه من أعمال، فلا يؤخروها ويهملوها ويضيعوا بتقاعسهم أعداد الكشوفات ومتابعة صرف مستلزماتها .

ومن التطبيقات الخيرية لهذه القاعدة:

في حال النكبات والنوازل، فإن تقديم المساعدات الفورية من ماء وطعام ومكان لإيواء مقدم على ما دونه من الأعمال الخيرية؛ لأن في ذلك حفظ النفس .

وكذلك الصرف على ما يحفظ دين الخلق لا يحتمل التأخير، وكذلك الإنفاق لحفظ الأعراض لا يحتمل التأخير، ومقدم على ما يحتمل التأخير.

وفي حالة تفشي مرض ما، فإن الإنفاق لا يحتمل التأخير في العلاج وتوفير الدواء والتعقيم وأخذ الاحتياطات لحصر العدوى.

ولا يؤخَّر صرف مستحقات أهل العوز والحاجة ، الذين يُصرف لهم مخصصات شهرية من المؤسسات الخيرية؛ لأن في ذلك ضرر عليهم .

وكذلك صرف مستحقات العاملين في المؤسسات الخيرية، أمر لا يحتمل التأخير؛ لأنه يضر بنفسية الموظف، مما يؤثر على أداؤه وانجازه والذي يؤدي أحياناً إلى إهماله في إيصال المستحقات لأهل الحاجة والعوز.

وإذا كفل الكافل اليتيم، فإن الإنفاق عليه كما هو متبع عرفاً - شهرياً - لا يحتمل التأخير .

وجمع المال في المؤسسات الخيرية وتأخير أنفاقه لسنوات، ضرر لأصحاب الحاجة، بل وإثم إن كان من الزكاة أو ما حدده المتبرع وأوصى في سرعة إيصاله لمستحقيه.

الهوامش:

1 - 1- المبسوط للسرخسي: (5/223).

2 - أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية، د.محمد الكبيسي، ( 2/198).







اعداد: عيسى القدومي









ابوالوليد المسلم 31-01-2025 09:05 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 17- لكــل عمل رجــال


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية .
لكل عمل رجال(1)، فيقدم في كل ولاية الأقوم بمصالحها؛ كالفقيه على القارئ في الإمامة، والنساء على الرجال في الحضانة، والرجال على النساء في الوصول لأصحاب الحاجات في النوازل والكوارث في الأماكن التي يقل فيها الأمن وتمثل خطورة على النساء.
فأعمالنا حتى تكون متقنة لا بد لها من إخلاص نية، وموافقة للشرع، وأن تؤدى من أصحاب الاختصاص، فلا المرأة تصلح لكل عمل ولا كذلك الرجل .
والله تعالى لم يرسل رسلاً من النساء، وهذا يعني أن المرأة لا تصلح أن تكون نبيًا أو رسولاً، ومع ذلك فهنالك أعمال تصلح لها المرأة ولا يصلح لها الرجل، كبعض الأعمال النسائية النبيلة التي تخص المرأة وتقوى عليها، ولا يقوى عليها الرجال.
وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الخازنَ المسلمَ الأمينَ، الذي يُنْفِذُ «وربما قال يُعطي» ما أُمرَ به، فيعطيه كاملاً مُوَفَّراً، طيبةً به نفسُهُ، فيدفعُه إلى الذي أُمر له به؛ أحدُ المتصدقين»(2).
يخبرنا ويبشرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأن الخازن المسلم المؤتمن، الذي عمل على حفظ الأمانة ورعاها، وأداها كما أَمر بذلك صاحبها، مع طيب نفس منه، فهو بهذا يكون أحد المتصدقين.
والمؤتمن هو أحد المتصدقين، فالمتصدق طرف والمؤتمن على تلك الصدقة طرف آخر، وكلاهما ينالون من الله -تعالى- الأجر بهذا العمل، فالذي يرعى الصدقة ويحفظها ويوصلها إلى مستحقيها، ويصرفها في الوجه الصحيح الذي اشترطه صاحب الصدقة، وكان أميناً على ذلك المال فلا يحابي ولا يداهن، ولا يمنُ على أحد، فيعطيه كاملاً من دون أن يقتطع لنفسه منه، وهو في الوقت نفسه فرح مسرور بهذا العمل؛ لأنه نقل الأمانة من صاحبها إلى مستحقها .
وكل من يعمل في المجال الخيري والوقفي والتطوعي هو مؤتمن، وناظر للوقف، مؤتمن على أصل ذلك الوقف وريعه، وكل من يعمل في المشروع الوقفي هو مؤتمن لذلك الأصل المحبوس.
فالناظر للوقف هو خازن مؤتمن، مكلف برعاية ما اؤتمن به، فإن أدى هذه الأمانة موفرة كاملة، غير منقوصة أو مستغلة، مع طيب نفس ورضا وسرور منه، بهذا يكون هو أحد المتصدقين، أي له ثواب كالمتصدق؛ لأنه أعان صاحب المال على إيصال المال والصدقة إلى مستحقيها.
ومن التطبيقات الخيرية لهذه القاعدة:
لا يجوز إعطاء تنفيذ المشاريع الخيرية وبالأخص الإنشائية لمن ليس لديه أي خبرة بهذا الأمر، فإن ذلك سيضيع الأموال والأوقات، فالداعية يهتم بشؤون الدعوة، والمقاول يهتم بالإنشاء، والطبيب يعالج المرضى، والتقني ينجز الأمور الفنية والبرامج التي تساعد على سرعة تنفيذ الأعمال .
ويقدم في دراسة الحالات وكشف أحوالها لمن هو مختص بهذا الشأن ولدية دراية شرعية واجتماعية في أحوال الناس .
ويُكلف بحساب زكاة الأموال والذهب والشركات من أسهم غيرها لأصحاب الاختصاص، حتى يتم معرفة مقدار الزكاة، من الحصر والتقدير للقيمة في عروض التجارة واستيعاب جميع ما هو معد للتجارة وحساب الزكاة في ذلك عند تمام الحول.
وكذلك السعي بصدقة الفطر إلى الفقراء والمساكين قبل صلاة العيد، هذا من الأعمال التي يكلف بها من هم أهل دراية وحرص؛ فلكل عمل رجال .
وكذلك لا يصلح للكثير من الأعمال الوقفية إلا القوي الأمين، فناظر الوقف عليه بذلُ النفيس في تنفِيذ شروطِ الواقف وتحقيقها، وإقامة ضوابط الوقفِ وتعمير أصوله واستثمارِ محصولِه والسلوك بالمستفيدين ما يوجِب لهم الإكرام والإنعامَ، وأخذهم بطرائق الرحمة وسجيحِ الأخلاق وسُبُل الشفقة والإرفاق(3). ولا يوضع على خزانة مال الصدقة من هو ضعيف لا يقدر على مواجهة مطالبات الناس، ويُعطي بذلك من لا يستحق، ويمنعها عن أهل الحاجة والعوز .
الهوامش:
1 - القواعد للمقري (الصلاة) 2/427، والفروق 2/157، 3/206.
2 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم (1438). ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب أجر الخازن الأمين برقم (1023) ، واللفظ لمسلم .
3- خطبة للشيخ ابن عثيمين بعنوان: الوصية والوقف. .ibnothaimeen.com .


اعداد: عيسى القدومي





ابوالوليد المسلم 13-02-2025 01:55 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 11- الجزاء من جنس العمل


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع؛ الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية .
«الجزاء من جنس العمل»(1) قاعدة شرعية فقهية عدلية، مستقاةٌ من النصوص الشرعية؛ تدل على حكمة الله تعالى وعدله وإنصافه في أقضيته وأقداره؛ فالجزاء مماثل للعمل ومن جنسه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وكما تُجازِي تُجازَى، فهي سُنةٌ إلهيةٌ، قال ابن القيم - رحمه الله -: «الجزاء من جِنس العمل قاعدة مستقرَّة في الشريعة»(2). ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي عن تلك القاعدة إنها أصل من أصول الدين(3).
والقاعدة مُرغِّبة مُرهِّبة، دافعة للأعمال الصالحة، ناهية عن الظلم، وأولى الناس بمعرفة هذه القاعدة وتطبيقاتها العاملون في المؤسسات الخيرية والأعمال التطوعية والدعوة إلى الله تعالى؛ فهم بحاجةٍ ماسةٍ إلى فهم هذه القاعدة وإلى اليقظة والحذر من التغافل عن عواقبها.
فهي دافع للبذل والعطاء في أعمالهم، والسداد في تصرفاتهم، والصبر على ما يلاقوه من أصحاب الحاجة من شدة أو أذى، فلا بد من استحضار النية الصادقة الخالصة لله تعالى في كل عمل يعملوه، وأن تكون تلك القاعدة ماثلة أمامهم للمزيد من التضحية والاحتساب، والرضى بما يلقوه في سبيل الله تعالى، قال بعض السلف: إنَّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، وإن من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها.
وقال الإمام ابن القيِّم - رحمه الله -: «ولذلك كان الجزاء مُماثلاً للعمل من جنسه في الخير والشر، فمن ستر مسلمًا ستره الله، ومن يسَّر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفَّس عن مؤمنٍ كُرْبة من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أقال نادمًا أقال الله عثرتَه يوم القيامة، ومن تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورتَه، ومن ضارَّ مسلمًا ضارَّ الله به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه، ومن خذَل مسلمًا في موضع يجب نصرتُه فيه خذَله الله في موضِع يجب نصرتُه فيه، ومَن سمَح سمَح الله له، والراحمون يرحَمهم الرحمن، وإنما يرحَم الله من عباده الرحماء، ومن أنفَق أنفَق الله عليه، ومن أوعى أوعى عليه، ومن عفا عن حقِّه عفا الله له عن حقِّه، ومن تجاوَز تجاوَز الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه»(4).
ومن أدلة هذه القاعدة قوله تعالى قوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا}(النبأ: 26). وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(الشورى: 40).
ومن أدلة القاعدة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم : «اعمل ما شئت فإنك مجزي به»(5). وقوله صلى الله عليه وسلم : «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه»(6).
وقوله صلى الله عليه وسلم : «من ضار ضار الله به. ومن شاق شق الله عليه»(7). وقوله صلى الله عليه وسلم : «ولا يفتح عبد باب مسألةٍ إلا فتح الله له باب فقرٍ»(8). فالجزاء من جنس العمل.
ولا شك أن اليقين بهذه القاعدة يمنح العاملين في المؤسسات الخيرية والوقفية والتطوعية وقودا إيمانيا مستمراً لمن سلك سبيل الله تعالى فوجد عقبات أو منغصات أو اضطهادات أو ظلما واستضعافا فيؤزه هذا اليقين بتلكم القاعدة على الصبر والثبات وثوقا بموعود الله الذي يمهل ولا يهمل، فجزاء العامل من جنس عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ومن التطبيقات الخيرية لهذه القاعدة:
الذي يشق على أهل الحاجة بالطلبات حتى يساعدهم، ويعمد إلى إذلالهم فإنه ينال جزاؤه من جنس عمله .
وكذلك الذي يضيق في الصرف على أهل الحاجة ويؤخر مستحقاتهم بلا مبرر، فإن الله تعالى يضيق عليه، فالجزاء من جنس العمل .
ومن تتبّع عورات المسلمين وفضح المستور من عيوبهم فصحاً لهم، تتبّع الله عورته وأظهر عيوبه، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في قعر داره، ومن ستر عليهم ستره الله وأخفى عيوبه؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
وأن من تواضع للخلْق رفعه الله، ومن تكبّر عليهم وضعه الله؛ ومن لبس ثوب شُهرةٍ ألبسه الله يوم القيامة ثَوب مهانة؛ ومن تركَ شيئًا لله عوَّضَه الله خيرًا منه؛ ومن يسر على معسر يسر الله عليه، ومن فرَّج عن مسلم كُربة فرّج الله عنه كربة من كُرَبِ يوم القيامة، والله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه، ومن سلك طريق يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة، ومن هدى الناسَ وعلّمهم هداه اللهُ.
ومن أخذ من أموال الصدقات كقرض حسن ويريد أداءها أدّاها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله، ومن ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقَهُ من سبع أرضين يوم القيامة.
المقابلة بالمثل عدل، وسنة يعامل الله بها خلقه، وشرع نتعامل به بيننا، فمن أحب أن يقابل الله إساءته بالإحسان فليقابل هو إساءة أهل الحاجة وسوء أخلاق بعضهم إليه بالإحسان والكلمة الطيبة .
وكذلك الذي يسيء لأهل العوز من الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والمرضي، بأن يشيع عنهم الشائعات بأنهم لا يستحقون تلك المساعدة بلا أدلة، فإن كذلك الجزاء من جنس العمل.
منع الضرر والمضارة، وأنه «لا ضرر ولا ضرار»، فلا تفوت مصلحة لأصحاب الحاجة ، ولا تحصل مضرة للمستفيد بسبب إعانته، أو إذلال له أو إهانة. فمن ضار وشاق ضره الله وشق عليه، ومن أزال الضرر والمشقة عن المسلم فإن الله يجلب له الخير، ويدفع عنه الضرر والمشاق، جزاء وفاقا، سواء كان متعلقا بنفسه أو بغيره .
الهوامش:
1- بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار، للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، الطبعة الأولى مكتبة جرير 1424هـ-2003م ، ص 42.
2 - جَلاء الأفهام، ص (87- 88).
3- انظر : بهجة قلوب الأبرار ، للسعدي، ص 42.
4 - إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/214)
5 - صحيح الترغيب للألباني، برقم 824، وهو حسن لغيره .
6 - أخرجه مسلم في صحيحه، برقم 1828 .
7 - رواه الترمذي وابن ماجة ، وهو في صحيح الجامع برقم ( 6372) .
8 - صحيح الجامع، للألباني، برقم 3024.



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 01:56 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 12- التنـزه عن مواطن الريبة أولى


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع، الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
التنـزه عن مواطن الريبة أولى(1)، والتنـزه: هو البعد والتطهُّر، والريبة: هي التهمة.
والمعنى: أن الجدير بالمسلم أن يبتعد عن مواضع التهم التي تسبب الشك فيه أو اتهامه.
ويُسـتشـهَد على القـاعدة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(2). والحديث يرشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى اجتناب كل ما فيه شبهة وريبة، والتزام الحلال الواضح المتيقن منه.
ولا شك أن الذي يعمل في العمل الخيري فإنه معرض للشك والاتهام، فمن باب أولى أن يتجنب مواطن الشبهة والريبة، وأن يكون ورعاً بعيداً عمّا قد يظن الناس فيه شراً؛ فالشك قد يدخله الموظف أو المتطوع في المؤسسات الخيرية في قلب غيره إن لم يحسن التصرف والتلفظ.
ومن التطبيقات الخيرية لهذه القاعدة:
من مواطن الريبة إطالة الحديث مع النساء من أصحاب العوز والحاجة، والدخول إلى بيوت أصحاب الحاجة منفرداً، أو استخدام ممتلكات الجمعية الخيرية في الاستخدامات الخاصة، أو شراء التبرعات العينية لنفسه، أو أن يدخل المساعدات الخاصة للمؤسسة الخيرية إلى بيته أو إلى سيارته، أو أن يخصص يوماً لإعطاء معارفه وأقاربه من المساعدات، وباقي المحتاجين في يوم آخر.
وكذلك من مواطن الريبة التي ينبغي الحذر منها، عدم وضوح الدائرة المالية لحسابات المؤسسة، أو أن يمسك المسؤول عن المؤسسة الخيرية الدفاتر المالية بنفسه، أو أن يتجنب القائم على المشروع الخيري أن يشاركه أحد في معرفة المدخلات والمخرجات للمشروع.
فالتنزه عن مواطن الريبة أولى، فهناك مواطن وأعمال وأوقات تكون مبعثاً للريبة والشك في الذي يعمل في المجال الخيري، كأن يوجد وسط النساء حين توزيع المساعدات، وكالذي يكثر الجلوس بين النساء، ويسمح بالاختلاط، ويتساهل في الأنشطة المختلطة. أو كالذي ينفذ بعض الأعمال الخاصة في مكتبه الذي خصص للأعمال الخيرية.
أو أن يُرى عليه أثر النعمة المفاجئ بعد عمله في المؤسسة الخيرية، بلا توضيح من أين له هذا، أكان من تجارة أم ميراث ورثه أم غير ذلك.
فالتنزه عن مواطن الريبة له أثر على راحة النفس وطمأنينة الروح، وحفظ العرض والسمعة.

الهوامش:

1- المبسوط: (10/171).
2- سنن النسائي: (2/234)، سنن الترمذي: (2/48)، وقال حديث حسن.



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 01:56 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية – القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 13 – لا ضرر ولا ضرار


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية .
لا ضرر ولا ضرار ، قاعدة من القواعد الخمس الكبرى، وهي ذات الصلة بالأعمال الخيرية والوقفية ؛ ومعناها: أنه لا يجوز الإضرار ابتداءً؛ لأنَّ الضـرر ظلـم والظلـم ممنـوع، كمـا لا يجـوز مقـابلة الضـرر بمثلـه؛ فليـس لأحد أن يُلـحِق ضـرراً بغيـره، وإذا وقـع الضـرر فـلا بـد أن يـُزال(1).
ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم : «لا ضرر ولا ضرار»(2). ولفظ الحديث نفى الضرر أولاً ، ثم نفى الضرار ثانياً ، ونفي الضرر قُصد به عدم وجود الضرر فيما شرعه الله لعباده من الأحكام، وأما نفي الضرار: فأُريد به نهي المؤمنين عن إحداث الضرر أو فعله .
وبعض أهل العلم قال في معنى: «لا ضرر ولا ضِرار»، أن الإنسان لا يجوز له أن يضرّ بنفسه ولا بغيره.
وقيل إنهما بمعنى واحد، وقيل: الضرر هو الذي يحصل بدون قصد أي إلحاق الضرر بالآخرين من دون قصد وإذا كان من قصد يسمى ضراراً.
فقد حرّم الإسلام الضرار بكل أنواعه، حتى حرّم الإضرار بالآخرين منذ ولادتهم إلى حين وفاتهم، بل وبعد موتهم ، فحرّم إضرار الأم بولدها، كما قال الله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}(البقرة: 233)، وحرّم تغيير الوصية بعد سماعها، وحرّم إضرار الموصي في وصيّته، وحفظ للأموات حقوقهم حتى حرّم سب الأموات؛ فما أعظمها من شريعة، وما أحسنه من دين .
والضرر يدفع بقدر الإمكان(3).قال علي حيدر: يعني: لو دخل عليك سارق مثلاً فادفعه عنك بقدر إمكانك، فإذا كان ممن يندفع بالعصا فلا تدفعه بالسيف(4).
ومن التطبيقات المتعلقة بهذه القاعدة:
لا يسوغ إيذاء أو إضرار أي جهة مسلمة، سواء بالفعل أم بالقول، بنشــر الشائعــات، أو الغيبة، أو انتقاص جهة مَّا، أو منافستها على موظفيها؛ ولو كان ذلك من باب مقابلة ما فَعَل، قال صلى الله عليه وسلم : «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»(5).
لا يسوغ لأي جهة أن تعمل عملاً خيرياً يُلحِق بها أو بغيرها الضرر، فالضرر والضرار يجب رفعهما ويعاقب قاصد الإضرار.
لا يجوز إعطاء أصحاب الحاجة والعوز طعاماً منتهي الصلاحية أو فيه ضرر على الصحة لإصابتها بإشعاعات خطرة، وغيرها من المواد العينية التي تضر بالصحة .
كذلك لا يجوز للمؤسسة الخيرية مقابلة الضرر بمثله وهو الضرار، كما لو أضر شخص وأخذ من طعام الصدقة أو أضر بمبنى من مباني الوقف لا يجوز للمؤسسة الخيرية المتضررة أن تقابل ذلك الشخص بضرر، بل يجب عليها أن تراجع الحاكم ويطلب إزالة ضرره بالطريقة المشروعة.
يجوز أخذ التبرعات من غير المسلمين إذا كان جانبهم مأموناً، ولم يكن في أخذها ضرر بالمسلمين بأن ينفذوا لهم أغراضاً في غير صالح المسلمين، أو يستذلوهم بها(6).
على المؤسسات الخيرية أن تكلِّف بالعمل لديها من يحصل بهم مقصود المؤسسة بما لا يُلحِق ضرراً بعملها .
لا مانع من بيع التبرعات العينية إذا كانت سريعة العطب، أو لعدم انتفاع المؤسسة الخيرية بها، أو لكونها غير صالحة لمن يُتَبَرع لهم ثم يُستبدَل بقيمتها غيرها؛ ما دام هذا يحقق المصلحة للمتبرَّع لهم؛ وذلك دفعاً لضرر تَلَفِها وعدم الانتفاع بها(7).
يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، أي إن الضرر العام الذي يصيب عموم الناس يزول، وإن حدث ضرر خاص، وهو الذي يصيب الفرد أو الفئة القليلة، كحالات الكوارث العامة يجوز تقديم الطعام والمأوى لمن يفتقد ذلك، ويتحمل الضرر الخاص، من أجل دفع ضرر عام، وكذلك يجوز التطوع بهدم البيوت والأشجار إذا حدث حريق، وأراد هذا الحريق أن يلتهم البلدة بأكملها(8).
الهوامش:
1 - جامع العلوم والحكم لابن رجب: ص 267. وانظر» مجلة الأحكام العدلية، المادة (19)، وشرحها لعلي حيدر 1/32، 33.
2 - سنن الدار قطني: (85)، السنن الكبرى للبيهقي: (6/69)، المستدرك للحاكم: (2345)، وصححه ووافقه الذهبي، عن أبي سعيد الخدري. ورواه مالك في الموطأ: (2/571) مرسلاً. وابن ماجه في سننه: (2362) عن عبادة بن الصامت وعن ابن عباس. قال النووي له طرق يقوي بعضها بعضاً، وقال ابن الصلاح: مجموعها يقوي الحديث، ويحسنه وقد احتج به جماهير أهل العلم.
3 - مجامع الحقائق 323، ومجلة الأحكام العدلية، المادة (31).
4 - شرح المجلة لعلي حيدر 1/37.
5 - سنن أبي داود: (2/108)، سنن الترمذي: (1/238)، الدارمي: (2/264) عن أبي هريرة بسند حسن .
6- قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة، صفر عام 1408هـ.
7 - قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة وصفر عام 1408هـ .
8 - مدخل إلى الفقه الإسلامي ، د.عزت العزيزي، ص 229.



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 01:57 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية -القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 14- العادة محكَّمة


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
العادة محكمَّة، قاعدة من القواعد الخمس الكبرى، وهي ذات الصلة بالأعمال الخيرية والوقفية، والفقهاء يوردون لفظ العادة، وأحياناً يوردون العرف، وقولهم: «العادة محكمة» والمراد والعرف أيضاً؛ لأن بعض العلماء لا يرى التفريق بينهما.
ومعنى محكَّمة: اسم مفعول بمعنى فاعل أي حاكمة فالمراد أن تكون العادة حَكَماً يرجع إليها عند الاختلاف، ويقضى لمن وافقها.
ودليلها: قوله-تعالى-: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:233)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (1).
والقاعدة أفادت أنه إذا جرت عادة الناس على أمر من الأمور فإن هذه العادة حجة معتبرة، بشرط ألا يخالف العرف أو العادة أصلاً أو نصاً شرعياً، أو قاعدة متفقاً عليها، أو إجماعاً.
وهذه القاعدة من قواعد الفقه الكبرى التي سهلت أمور الناس ويسرت حاجاتهم، ومن الأدلة الناصعة على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، والحكم بالعرف من أقدم مصادر القانون، كما يذكر ذلك المؤرخون، فكان هو حاكم حياتهم ومنظم شؤونهم.
ولقاعدة العادة محكمة معنى آخر ذكره أهل العلم وهو: استعمال الناس حجة يجب العمل بها(2).
ويدخل تحت هذه القاعدة قواعد كثيرة منها: الثابت بالعرف كالثابت بالنص، والثابت بالعرف كالثابت بدليل شرعي، والعرف كالشرط.
وللقاعدة أهمية كبيرة في مجالات القضاء والإفتاء، وتخريج الأحكام، وتطبيق النصوص على جزئياتها، وأنها طريق صالحة لحل طائفة من المشكلات، وحسم ما يقع في بعضها من الخلاف والنزاع.
ومن التطبيقات المتعلقة بهذه القاعدة:
أن ألفاظ الواقفين المتبرعين تبنى على عرفهم(3).
أن أنشطة العمل الخيري وترتيبه إذا لم تَستَقِم إلا بإجراءات معيَّنة مراعاةً لنظام عامٍّ؛ فلابد من مراعاتها، ولا يُنكَر التزامها.
لو تبرع متبرع بوقود للتدفئة الخاصة بالمسجد، وزاد عن حاجة المسجد في الفصل الشتوي، فإن العرف يقتضي أن يبقى ما زاد للدورة الشتوية القادمة.
وقف مدرسة لدرس الحديث، فمقصود درس الحديث يعرف من العرف(4).
وجواز وقف المنقول مستقلا عن العقار إن جرى العرف بوقفه.
الوعاء الذي يقدم فيه الطعام للفقراء، إن جرت العادة بإعادته أعاده، وإلا فهو صدقة معه.
حرز المال المتصدق به يكون بما جرت العادة بحفظه، وكذلك الطعام يحفظ بما جرت فيه العادة في حفظ الطعام، ويلزم حفظ الوديعة فيما تحفظ فيه عادة.
أن مقدار ما يُصرَف للمحتاج يختلف باختلاف الأحوال والبلدان، وإنما يُضبَط بمراعاة العرف والعادة.
مقدار ما يعطى للعامل في المؤسسة الخيرية مما يُقتَطَع من الدخل، إنما يحدَّد بحسب أجرة المثل أو أقل، ويجري تحديده استناداً للعرف من قِبَل القائمين على المؤسسات كمجالس إدارتها أو جمعياتها العمومية، مثلاً (5).
ومن أعطى لمؤسسة خيرية مالا فهو صدقة؛ لأن ذلك ما جرت عليه العادة، ويسقط إدعاؤه أن هذا المال قرض مرتجع.
سن البلوغ لكفالة اليتيم يثبت بحكم العادة، أي ما جرت العادة على عده بالغاً.
الهوامش:
1- أخرجه البخاري في صحيحه برقم2211.
2- مجامع الدقائق 308، ومجلة الأحكام العدلية، المادة (37).
3- ابن نجيم: الأشباه والنظائر، 117، حمزة: الفوائد البهية: 156- 158.
4- ابن نجيم: الأشباه: 119.
5- قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، صفر عام 1408هـ.



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 01:58 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال 15 الخيرية والوقفية -المشقّة تجلب التيسير


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
قاعدة: المشقة تجلب التيسير ، عدها الفقهاء من القواعد الكلية الخمس، وهي بمعنى: أن الأحكام التي ينشأ عن تطبيقها حرج على المكلَّف ومشقةٌ في نفسه أو ماله، فالشريعة تخففها(1).
ودليلها: قوله - تعالى -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}(البقرة: 185)، وقوله - تعالى - {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج: 87). وقوله جل جلاله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .}(البقرة: 286)، ووجه الدلالة في تلك الآيات: أن الشريعة الإسلامية تتوخى دائما رفع الحرج عن الناس، وليس في أحكامها ما يجاوز قوى الإنسان الضعيفة، وهذه النصوص دلت على ذلك لعموم معناها، وانطلاقا منها استنبط الفقهاء تلك القاعدة، وجعلوها بمثابة نبراس يستضيئون به عند النوازل والوقائع، ويعالجون كثيرا من المسائل والقضايا على أساسها(2).
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه مرفوعا: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»(3). وأيضا – عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم، أمرهم من الأعمال بما يُطيقون»(4).
فدلت هذه الآيات والأحاديث على أن التيسير ركن من أركان الدين، وقاعدة أساسية تلازم كافة الأحكام الشرعية، فمتى وجدت المشقة وجد معها التيسير، غير أن المشقة يجب أن تكون حقيقية لا ظنية، مشقة مقبولة شرعا، لا مشقة دلال واستهتار وركون إلى الدعة.
وفقه التيسير عند الفقهاء هو منهج علمي، ومدرسة فقهية، وطريق فُتيا وحياةٍ أمثل للمسلمين، فالتيسير ورفع الحرج عن المكلفين إذا لم يُصادم نصاً صريحاً أو إجماعاً معتَبَراً، وكان متفقاً مع أصول الشرع الكلية، ومقاصده العامة مراعياً تبدّل الأزمان والأماكن وتغيّر الظروف والأحوال؛ فهذا مما ينبغي العمل به، وجريان الفُتْيا عليه؛ فأزمان المحن والشدائد ليست كأزمان السعة والاستقرار وأحوال الخائفين ليست كأحوال الآمنين، ومن وقع في ضرورةٍ أو حاجةٍ ليس حاله كحال من هو في السّعة والطمأنينة.
ومن التطبيقات المتعلقة بهذه القاعدة:
لا مانع من استحداث نظم وآليات عمل في المؤسسات الخيرية تحقق التيسير لكل من يتعامل معها.
وفي حال النوازل والكوارث ييسر على الناس استلام إغاثاتهم، وتخفف شروط المساعدة المتفق عليها عند الجهات الخيرية، فالوقت لا يسع لدراسة الحالات والكشف عن حاجاتها بدقة.
وإذا تعذر على صاحب الصدقة إيصالها إلى مستحقيها، فإن ذلك ييسر بتسليمها لأصحاب المعرفة والدراية في أحوال الناس وحاجاتهم لإيصالها إليهم، أو التبرع بها لجهة خيرية لتقوم بإيصالها، وكذلك زكاة المال وزكاة الفطر والكفارات، وغيرها من الأموال المتبرع بها . وجواز استعانة الإنسان المكلَّف بعملٍ خيري بغيره؛ إذا تعذر عليه أن يقوم بذلك بنفسه، وجواز أن يكون هذا المكلَّف غير مسلم إذا شق وجود مسلم.
ويجوز صرف تبرُّعٍ عُيِّن لجهة لغيره استثناءً؛ إذا حدثت ضرورة قصوى لا يمكن تلافيها دون ذلك؛ فيكون هذا خاصاً بحال الضرورة؛ لأن المشقة تجلب التيسير، ويتعيَّن أن يتولى تحديدَ الضرورة شخصيةٌ أو جهة مؤهَّلة لذلك(5).
نظراً لأن الإسلام محارَب بالغزو الفكري والعقدي من جهات لها من يدعمها، وفي الغالب لا يوجد من يساعد في مواجهة هذا المد، فإن الدعوة إلى الله وما يعين على إعلاء كلمة الله وشريعة الإسلام يدخل في معنى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 06)، في الآية الكريمة المحدِّدة لمصارف الزكاة(6).
الهوامش:
1- الوجيز في إيضاح القواعد الكلية: ص 157.
2- «القواعد الفقهية» ص303.
3- أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم 69.
4 - أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم 20
5 - قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، صفر عام 1408هـ.
6- قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، ربيع الآخر عام 1405هـ.



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 01:59 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 16- «ما يخشى فواته أولى بالتقديم على ما لا يخشى فواته»


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية .
فقه الأولويات في العمل الخيري والوقفي يحتاجه كل من جند نفسه لهذا الخير العظيم، فالأهم مقدم على المهم، والأكبر مصلحة والأعم نفعاً والأبعد أثراً أولى من غيره، وكما قيل أفضل الصدقة ما كانت أكثر نفعاً في زمنها .
فما يخشى فواته أولى بالتقديم على ما لا يخشى فواته، ولاشك أن فقه الأولويات ضابط أساس في الأعمال الخيرية والوقفية والتطوعية، وحتى تؤدي المؤسسات الخيرية دورها ورسالتها على الوجه الصحيح الذي يرقى بالمجتمع, وينهض بالأمة, لابد من أن تكون على بينة وبصيرة بفقه الأولويات الذي يجعلها تضع كلَّ شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم دون زيادة أو نقصان؛ فالمحتاجون متفاوتون في حاجتهم, فمنهم الفقير, ومنهم الأفقر, ومنهم المحتاج, ومنهم الأحوج, ومنهم من حالته ملحة, ومنهم من حالته أكثر إلحاحا, ومنهم المحتاج إلى الضروريات, ومنهم المحتاج إلى الكماليات(1).
ومن القواعد المهمة في هذا المجال: أن (تُقدّم المصلحة الدائمة على المصحلة العارضة أو المتقطعة)، وأن: (درء المفسدة مُقدّم على جلب المصلحة)، وتكملّها قاعدة مهمة وهي أن : (المفسدة الصغيرة تُغتفر من أجل المصلحة الكبيرة)، و(تغتفر المفسدة العارضة من أجل المصلحة الدائمة)، (ولا ُتترك مصلحة محققة من أجل مفسدة متوهمة).
والعلم مقدم على العمل في المؤسسات الخيرية وغيرها، فلابد أن يخطط للأعمال الخيرية، وأن يبنى العمل وفق نظم ومنهجية تضمن رعاية الأصول الخيرية والوقفية، وتحقق الإدارة الرشيدة للأعمال والمشاريع المجتمعية، واستمرارية العطاء؛ فلا بعد لأي عمل خيري ووقفي التفكير قبل التنفيذ، ودراسة جدوى تلك المشاريع وتكاليفها ومخرجاتها، واستشارة أهل الإخلاص والاختصاص قبل المضي في صرف الأموال المؤتمنين عليها.
ومن التطبيقات الخيرية لهذه القاعدة:
تقديم إغاثة المنكوبين في النوازل، على الأمور التي يحتمل تأخيرها؛ فالإغاثة العاجلة أولى بالتقديم من إقامة الأوقاف والمشاريع، وكذلك حفظ الأنفس والأعراض من الضرورات، الأولى في الحفظ من الحاجيات كإقامة المشاريع التعليمية والتثقيفية.
التنبيه على الأمور الشركية أولى من التنبيه على الأمور المكروهة، فكل فعل يخشى فواته يقدم على غيره من الأفعال التي يتسع مداها الزمني ولا يخشى فواتها.
تقديم العمل الأطول نفعاً والأبقى أثراً، ومن ذلك الوقف، والوقف من الصدقة الجارية التي قال في محاسنه (شاه ولي الدهلوي): «وفيه من المصالح التي لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً ثم يفنى، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، ويجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه، ويبقى أصله(2).
تقديم العمل الأكثر نفعا من غيره؛ وعلى قدر نفعه للآخرين يكون فضله وأجره عند الله، والعمل الدائم مقدم على العمل المنقطع لحديث: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»(3).
قال عبد الرحمن السعدي : الوقف من أفضل القرب وأنفعها إذا كان على جهة بر، وسلم من الظلم، وأفضله: أنفعه للمسلمين(4).
الهوامش:
1- انظر مقال فقه الأولويات في العمل الخيري، موقع مداد www.medadcenter.com .
2 - حجة الله البالغة 2/116 .
3 - أخرجه البخاري في صحيحه برقم 6465.
4 - منهاج السالكين، وتوضيح الفقه في الدين، باب الوقف، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، ص 62-63.



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 02:00 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 17- لكــل عمل رجــال


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية .
لكل عمل رجال(1)، فيقدم في كل ولاية الأقوم بمصالحها؛ كالفقيه على القارئ في الإمامة، والنساء على الرجال في الحضانة، والرجال على النساء في الوصول لأصحاب الحاجات في النوازل والكوارث في الأماكن التي يقل فيها الأمن وتمثل خطورة على النساء.
فأعمالنا حتى تكون متقنة لا بد لها من إخلاص نية، وموافقة للشرع، وأن تؤدى من أصحاب الاختصاص، فلا المرأة تصلح لكل عمل ولا كذلك الرجل .
والله تعالى لم يرسل رسلاً من النساء، وهذا يعني أن المرأة لا تصلح أن تكون نبيًا أو رسولاً، ومع ذلك فهنالك أعمال تصلح لها المرأة ولا يصلح لها الرجل، كبعض الأعمال النسائية النبيلة التي تخص المرأة وتقوى عليها، ولا يقوى عليها الرجال.
وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الخازنَ المسلمَ الأمينَ، الذي يُنْفِذُ «وربما قال يُعطي» ما أُمرَ به، فيعطيه كاملاً مُوَفَّراً، طيبةً به نفسُهُ، فيدفعُه إلى الذي أُمر له به؛ أحدُ المتصدقين»(2).
يخبرنا ويبشرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأن الخازن المسلم المؤتمن، الذي عمل على حفظ الأمانة ورعاها، وأداها كما أَمر بذلك صاحبها، مع طيب نفس منه، فهو بهذا يكون أحد المتصدقين.
والمؤتمن هو أحد المتصدقين، فالمتصدق طرف والمؤتمن على تلك الصدقة طرف آخر، وكلاهما ينالون من الله -تعالى- الأجر بهذا العمل، فالذي يرعى الصدقة ويحفظها ويوصلها إلى مستحقيها، ويصرفها في الوجه الصحيح الذي اشترطه صاحب الصدقة، وكان أميناً على ذلك المال فلا يحابي ولا يداهن، ولا يمنُ على أحد، فيعطيه كاملاً من دون أن يقتطع لنفسه منه، وهو في الوقت نفسه فرح مسرور بهذا العمل؛ لأنه نقل الأمانة من صاحبها إلى مستحقها .
وكل من يعمل في المجال الخيري والوقفي والتطوعي هو مؤتمن، وناظر للوقف، مؤتمن على أصل ذلك الوقف وريعه، وكل من يعمل في المشروع الوقفي هو مؤتمن لذلك الأصل المحبوس.
فالناظر للوقف هو خازن مؤتمن، مكلف برعاية ما اؤتمن به، فإن أدى هذه الأمانة موفرة كاملة، غير منقوصة أو مستغلة، مع طيب نفس ورضا وسرور منه، بهذا يكون هو أحد المتصدقين، أي له ثواب كالمتصدق؛ لأنه أعان صاحب المال على إيصال المال والصدقة إلى مستحقيها.
ومن التطبيقات الخيرية لهذه القاعدة:
لا يجوز إعطاء تنفيذ المشاريع الخيرية وبالأخص الإنشائية لمن ليس لديه أي خبرة بهذا الأمر، فإن ذلك سيضيع الأموال والأوقات، فالداعية يهتم بشؤون الدعوة، والمقاول يهتم بالإنشاء، والطبيب يعالج المرضى، والتقني ينجز الأمور الفنية والبرامج التي تساعد على سرعة تنفيذ الأعمال .
ويقدم في دراسة الحالات وكشف أحوالها لمن هو مختص بهذا الشأن ولدية دراية شرعية واجتماعية في أحوال الناس .
ويُكلف بحساب زكاة الأموال والذهب والشركات من أسهم غيرها لأصحاب الاختصاص، حتى يتم معرفة مقدار الزكاة، من الحصر والتقدير للقيمة في عروض التجارة واستيعاب جميع ما هو معد للتجارة وحساب الزكاة في ذلك عند تمام الحول.
وكذلك السعي بصدقة الفطر إلى الفقراء والمساكين قبل صلاة العيد، هذا من الأعمال التي يكلف بها من هم أهل دراية وحرص؛ فلكل عمل رجال .
وكذلك لا يصلح للكثير من الأعمال الوقفية إلا القوي الأمين، فناظر الوقف عليه بذلُ النفيس في تنفِيذ شروطِ الواقف وتحقيقها، وإقامة ضوابط الوقفِ وتعمير أصوله واستثمارِ محصولِه والسلوك بالمستفيدين ما يوجِب لهم الإكرام والإنعامَ، وأخذهم بطرائق الرحمة وسجيحِ الأخلاق وسُبُل الشفقة والإرفاق(3). ولا يوضع على خزانة مال الصدقة من هو ضعيف لا يقدر على مواجهة مطالبات الناس، ويُعطي بذلك من لا يستحق، ويمنعها عن أهل الحاجة والعوز .
الهوامش:
1 - القواعد للمقري (الصلاة) 2/427، والفروق 2/157، 3/206.
2 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم (1438). ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب أجر الخازن الأمين برقم (1023) ، واللفظ لمسلم .
3- خطبة للشيخ ابن عثيمين بعنوان: الوصية والوقف. .ibnothaimeen.com .



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 02:02 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
الوقف.. منطلقات إصلاحية


يمتاز الوقف الإسلامي بأنه زاخر بحقائق مدادها نظام رباني، وتطبيق نبوي، وسنة متبعة في العهود الإسلامية، كثر خيرها وتوافرت دررها منذ القرن الأول، وإلى يومنا الحاضر.
وقد شُرع الوقف لتحقيق غايات ومقاصد من شأنها حفظ ضرورات الحياة بما يُصلح الدين والدنيا، وبما يوفر الحياة الكريمة ومتطلباتها وضروراتها، وأخرج بمؤسساته ومشاريعه وتطبيقاته على مر العهود الإسلامية نماذج وروائع يقف أمامها القارئ وقفة تقدير وإعجاب.
حقائق الوقف الإسلامي حقائق مضيئة وإشراقات منيرة، ننتقيها لنحيي بها سنة الوقف التي سنها رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وندفع بها الهمم والنفوس للبذل والعطاء، لاستئناف مسيرة الوقف الإسلامي من جديد، جمعناها وغايتنا نشر ثقافة الوقف، وإحياء سنتة، وترغيب المسلمين للإسهام في كل مجالاته ومساراته.
حقائق شهد بها أهل العلم والاختصاص، ووثقها الرحالة والمؤرخون من المسلمين وغيرهم، لتحفظ لنا الذاكرة والتاريخ، لتبقى مفعمة بالخير والعطاء، وتثير الفخر في النفوس لاستمرار المشاريع الوقفية .
في هذه الحلقات نظمنا بعضاّ منها في عقد درّته (الوقف الإسلامي ودوره الحضاري)، لحفظ كنوز الوقف وروائعه وإشراقاته وإبداعاته، ليبقى الوقف الإسلامي بتشريعاته وأحكامه وخصائصه ومخرجاته لبنة أساس في نهضة المجتمعات والأمم.
وهذه الحلقة سنخصصها للحديث عن الوقف ودوره الإصلاحي:
الوقف الإسلامي، من مآثر الإسلام ومفاخره؛ لما يحققه من إصلاح الفرد والمجتمع، فهو مصدر خير للمجتمع المسلم، وقد حرص الواقفون على تتبع مواضع الحاجات مهما دقت، فوقفوا لها الأوقاف التي من وفرتها وتنوعها – في العهود السابقة - خرجت عن حاجة الإنسان إلى حاجة ما دونه من حيوان ونبات وبيئة .
الوقف الإسلامي كان له الدور الأكبر في الإصلاح السياسي والاقتصادي، والإداري، والتعليمي، والاجتماعي، والتنموي، وكان من نتاج مؤسساته إسهاماتها في مراحل الإصلاح في الأمة، وقد ترك الوقف بمؤسساته، ومخرجاته بصمات لا تُمحى في صفحات التاريخ الإسلامي، وكان له الدور الأكبر في المجالات التي تُصلح حياة العباد وحفظ البلاد.
الوقف الإسلامي شمل في إصلاحه، وتغييره معظم شرائح المجتمع، وضم تحت جناحيه مختلف الطبقات من كل المستويات، وانضوى تحت لوائه المسلمون، وغير المسلمين، رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، فقراء وأغنياء، إلى جانب العلماء وطلاب العلم ، وصولًا إلى الأمراء والسلاطين، والولاة.
الوقف الإسلامي عزز الجانب الأخلاقي والسلوكي في المجتمع، فصد منابع الانحراف، وعالج السلوكيات، والممارسات الخطأ، والمشكلات الاجتماعية الطارئة، ونشر الفضيلة، وحافظ على الأسرة – نواة المجتمع - وأعان الشباب على الزواج .
الوقف الإسلامي له دور فاعل اقتصاديًا واجتماعيًا وعلميًا، وحقق في العهود الإسلامية إنجازات وخدمات لمئات السنين، وأسهم في توفير الحاجيات الأساسية، فقد عاشت الأمة المسلمة بنعمة الأمن الغذائي؛ بسبب كثرة الأوقاف وبركتها.
الوقف الإسلامي يمتاز بخصائص تجعله قادرًا على تحمل أعباء توفير الخدمات للمجتمع، بأكفأ الطرق؛ فهو يخفف الأعباء على الدولة ويحقق التنمية الشاملة، التي لا تتحقق إذا لم يتماسك المجتمع؛ فللوقف مقاصد سامية ومصالح ملموسة في الحفاظ على المجتمع وإصلاحه.
الوقف الإسلامي؛ بمؤسساته، ومخرجاته رصد، وعالج التغيرات السلبية في الأسرة والمجتمع، وأوجد الحلول، وعمل على توعية الأسرة من خلال برامج مختلفة لحل المشكلات الناتجة عن تلك التغيرات، وقد عالج المشكلات بما لا تستطيعه مؤسسات الدولة، فهو يسد الثغرات في نواحي الحياة التي لا تنفق عليها الدولة .
الوقف الإسلامي قدم عبر العهود الممتدة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإلى عهد قريب نماذج رائعة لمؤسسات وقفية كان لها الدور الأكبر في الإصلاح والتغيير، وإصلاح ما أفسد الناس من أمور دينهم ودنياهم، فكان لخطب الجمعة، وحلِق العلم في المساجد، ودروس العلم العامة، دورٌ في تصحيح عقائد المسلمين وأفكارهم.
الوقف الإسلامي بنجاحاته في الإصلاح والتغيير من خلال المؤسسات الوقفية – في فترات النهضة، والحضارة الإسلامية – كان حافزًا للعمل والاستمرار في وقف الأوقاف، والعمل من أجل إنجاحها، وإيجاد الجديد ليحقق المصالح التي من أجلها شرع نظام الوقف الإسلامي.
الوقف الإسلامي نظام يدفع للإصلاح الديني والاجتماعي والاقتصادي، والسياسي، والعلمي، ليكون واقعًا متحققًا في الحياة طبقًا لما أمر الله به أو ندب إليه في الكتاب والسنة، فالشريعة الإسلامية جاءت لجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها .



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 02:02 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 19- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية .
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب(1)، قاعدة فقهية ذات صلة بالأعمال الخيرية والوقفية، وتعني: ما كان وسيلة إلى واجب ولا يمكن إيقاع هذا الواجب إلا بهذه الوسيلة فحكم هذه الوسيلة أنها واجبة.
وهذه القاعدة من القواعد العظيمة التي تبين أنَّ كل أسباب تحقيق الواجب والوصول إليه واجبة كوجوب الفرض الذي تؤدي إلى تحقيقه. ويشترط في هذا الواجب الذي جعلت الوسيلة واجبة له أن يكون هذا الواجب مقدورًا عليه، فلا واجب مع العجز. فما لا يتم الواجب المقدور إلا به فهو واجب، وكذلك ما لا يتم اجتناب المنهي عنه إلا به فهو منهي عنه .
ومن التطبيقات الخيرية والوقفية المتعلقة بهذه القاعدة:
ما لا يتم إيصال الزكاة إلى مستحقيها أو بعضهم إلا به فهو واجب من التعرف على الفقراء والمساكين ودعوتهم إلى أخذها أو نقلها وإيصالها إليهم، أو إعطائها لمن يوصلها إليهم مباشرة، وتوزيع زكاته بنفسه أفضل؛ لأنه يؤدي ركن دينه.
ما لا يتم معرفة مقدار الزكاة إلا به فهو واجب، من الحصر والتقدير للقيمة في عروض التجارة واستيعاب جميع ما هو معد للتجارة وحساب الزكاة في ذلك عند تمام الحول، وكل ذلك قد يحتاج إلى مدة وإلى موظفين ولاسيما في الشركات والمؤسسات الكبيرة. فهذا واجب لا تتم الزكاة إلا به.
إذا كان المسلم في بلد كافر أو بلد لا تباشر فيه الدولة أخذ زكاة الأموال الظاهرة وجب عليه جميع الجهود اللازمة لإيصال الزكاة إلى الفقراء والمساكين، ويجب على الدولة المسلمة الاهتمام بالزكاة أخذاً وصرفاً على الضوابط والآداب الشرعية في ذلك.
الأدوية النافعة التي ينبني عليها شفاء مرضى المسلمين بإذن الله تعالى يجب توفيرها؛ لأن ما لا يتم الحفاظ على الأرواح والأعضاء إلى به فهو واجب. وكذا توفير الأطباء الماهرين في التخصصات المتعددة؛ لأن في ذلك صحة الأبدان بإذن الله -تعالى- فهو الشافي لا شفاء إلا شفاؤه وبذل الأسباب مطلوب شرعاً مع التوكل على الله سبحانه وتعالى(2).

وكذلك تجهيز الموتى بالتغسيل، والتكفين، والصلاة، والحمل، والدفن، وتوابع ذلك، كلها واجبة؛ لأن دفن الميت واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهو فرض كفاية إن قام به بعضنا سقط الإثم عن الآخرين.
وترك الوقف بلا ناظر إضاعة له، وكذلك جعل التنازع بين الأبناء أو غيرهم من غير حسم أمر النظارة تكون سبباً في إضاعة الوقف الذي سيؤدي حتماً إلى إضاعة المال. وإذا ظهر نزاع ودعوى في أحقية تولية الوقف بين الأبناء فنص أهل العلم على أن يولي القاضي ناظراً على الوقف لحين قطع النزاع وتوجيه توليه؛ لأن التولية على الوقف واجبة إذا لم تتم مصلحة قبض المال وصرفه إلا به، فإنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب(3).
ولا يتم إدارة الأموال المتصدق بها والمودعة في المؤسسات الخيرية، إلا بترتيب هيكلية إدارية تحفظ المال، وتُحسن توزيعه لأصحاب الحاجات التي حددها أهل الصدقة، فيكون الترتيب الإداري واجباً حتى لا تضيع الحقوق والواجبات.
والجمعيات الخيرية لا تكون قوية إلا إذا كانت ذات رصيد، ومال وفير، وهذا لايتأتى إلا باستثمار المال المتوفر لديها في مشاريع إنتاجية، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب(4).
الهوامش:
1 - الأشباه والنظائر للسبكي (2/88)
2 - انظر: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، للدكتور عبد المحسن الصويغ، موقع الألوكة، www.alukah.net/web/sowayegh/0/19191
3 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/86.
4- انظر هذه المعاني في تيسير التحرير ج 2/ 213، مغني المحتاج ج4 / 213، طرق استثمار الأموال – بحث للدكتور محمد عبد الله عربي – مجمع البحوث ص 130 وما بعدها .



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 02:03 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 20- التقديرات بابها التوقيف


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع؛ الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
التقديرات بابها التوقيف(1)؛ وهذه القاعدة في مقادير العبادات كالزكاة والكفارات ونحوها؛ فما دام قد وُجِد لها تقدير شرعي فلا يجوز تغيير هذا التقدير، وقد يعبَّر عن القاعدة بلفظ: (الشيء) إذا ثبت مقدَّراً في الشرع؛ فلا يُعد أي تقدير آخر.
وقد يسوغ الزيادة أحياناً إذا زيدت بِعدها نفلاً.
ومن التطبيقات الخيرية المتعلقة بهذه القاعدة:
التقديرات في حساب كالزكاة، وتحديد الأنصبة في الزكاة توقيفي ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لأحد مهما كان حاكماً أو محكوماً أن يغيره بزيادة أو نقص.
وكذلك الصاع في زكاة الفطر(2)، لا مجال للاجتهاد في تحديده، فهو ثابت شرعاً، ومعروف عرفاً.
تعيين الفقير، والفصل بين الغني والفقير، ليس بمقدر نصاً، ويرجع فيه إلى العادة والعرف، فمن عده الناس غنيا في العادة فهو غني، أو فقيراً في عرف مجتمعه فهو فقير؛ لأن التقديرات بابها التوقيف، ولا توقيف في هذا.
مقدار ما يعطى للفقير فيما لم يحدد الشرع مقداره، فذلك التقدير غير واجب، ويرجع فيه إلى اجتهاد أهل الشأن والاختصاص من النظار والمتولين لأمر توزيع الصدقة في الزيادة والنقصان.
مقدار الإطعام في الكفارة تقريبي، وليس حدّاً معروفاً، ولهذا قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: ما دام الشرع لم يقدر لنا، فإن ما يسمى إطعاماً يكون مجزئاً، حتى الغداء أو العشاء.
قال العلامة العثيمين في الشرح الممتع على زاد المستقنع والإطعام له كيفيتان:
الأولى: أن يصنع طعاماً يكفي عشرة مساكين غداء أو عشاءً ثم يدعوهم؛ وذلك لأن الله -تعالى -
أطلق فقال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}(المائدة: 89)، فإذا صنع طعاماً وتغدّوا، أو تعشوا فقد أطعمهم(3).
الثانية: التقدير، وقد قدَّرناه بنحو كيلو من الأرز لكل واحد، فيكون عشرة كيلوات للجميع، ويحسن في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدِّمه من لحم أو نحوه، ليتم الإطعام؛ لأن الله تعالى يقول: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}.
الهوامش:
1- المغني: (1/580)، وانظر القواعد الفقهية في المغني: ص651.
2- مقدارها: صاع عن كل مسلم،والصاع المقصود هو صاع أهل المدينة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ضابط ما يكال، بمكيال أهل المدينة كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المكيال على مكيال أهل المدينة والوزن، على وزن أهل مكة» أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح. والصاع من المكيال، فوجب أن يكون بصاع أهل المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
3- الواجب إذا أخرجها طعاما، أن تكون من وسط طعامه، فلا يلزمه أن يخرجها من أفضل ما يأكل، ولا يجوز له أن يخرجها من الأقل بل من الوسط.
الـــوقــــف... أدوار وظـيفـيــة
يمتاز الوقف الإسلامي بأنه زاخر بحقائق مدادها نظام رباني، وتطبيق نبوي، وسنة متبعة في العهود الإسلامية؛ كثر خيرها، وتوافرت دررها منذ القرن الأول، وإلى يومنا الحاضر.
وقد شُرع الوقف لتحقيق غايات ومقاصد من شأنها حفظ ضرورات الحياة بما يُصلح الدين والدنيا، وبما يوفر الحياة الكريمة ومتطلباتها وضروراتها، وأخرج بمؤسساته ومشاريعه وتطبيقاته على مر العهود الإسلامية نماذج وروائع يقف أمامها القارئ وقفة تقدير وإعجاب.
حقائق الوقف الإسلامي حقائق مضيئة وإشراقات منيرة، ننتقيها لنحيي بها سنة الوقف التي سنها رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وندفع بها الهمم والنفوس للبذل والعطاء، لاستئناف مسيرة الوقف الإسلامي من جديد، جمعناها وغايتنا نشر ثقافة الوقف، وإحياء سنتة، وترغيب المسلمين للإسهام في كل مجالاته ومساراته.
حقائق شهد بها أهل العلم والاختصاص، ووثقها الرحالة والمؤرخون من المسلمين وغيرهم، لتحفظ لنا الذاكرة والتاريخ، لتبقى مفعمة بالخير والعطاء، وتثير الفخر في النفوس لاستمرار المشاريع الوقفية.
في هذه الحلقات نظمنا بعضاّ منها في عقد درّته (الوقف الإسلامي ودوره الحضاري)، لحفظ كنوز الوقف وروائعه وإشراقاته وإبداعاته، ليبقى الوقف الإسلامي بتشريعاته وأحكامه وخصائصه ومخرجاته لبنة أساس في نهضة المجتمعات والأمم. وهذه الحلقة سنخصصها للحديث عن الوقف وأدواره الوظيفية:
1- الوقف الإسلامي نظام تقتضيه المصلحة؛ لما فيه من المنفعة للواقف باستمرار وصول الثواب إليه، ومن المنفعة للموقوف عليه بانتفاعه بالوقف، مع حفظه وعدم تمكينه من استهلاكه، أو امتلاكه لتنتفع منه الأجيال القادمة.
2- الوقف الإسلامي؛ لا تقتصر منفعته على الفقراء وحدهم، وإنما يمتد نفعه ليشمل كثيرًا من فئات المجتمع، وتتعدد مجالاته التي تخدم البشرية، لتحقيق التكافل والتعاضد بين الأمة، وليتوازن المجتمع ليهنأ الجميع بحياة هنيئة تحفظ كرامتهم، وترعى مصالحهم.
3- الوقف الإسلامي يوسع الآفاق في التفكير بحاجات الناس، وتوفير ما يساعد في تخفيف الأعباء، وتسهيل الحياة، وأوجد أركانًا جديدة تقدم حاجات أساسية للمجتمع في زمنهم.
4- الوقف الإسلامي بات يشكو من إهمال وجمود، وتعطيل كثير من خيراته ومنافعه، فكثرة المعتدين على أصوله، وضعف القوانين الكفيلة بحماية الوقف، ومؤسساته، وصرف إيراداته، وتسجيل مؤسساته وترميم عقاراته أدت إلى ضعفه.
5- الوقف الإسلامي في أمس الحاجة لتنشيط إعلامه، ورفع درجة الوعي المجتمعية بأهمية الوقف، ومؤسساته بما يتناسب مع المتطلبات المجتمعية الحديثة، وتنقية مفهوم الوقف من الشبهات، والمعوقات التي أدت إلى العزوف عنه.
6- الوقف الإسلامي تشريع إسلامي، بمؤسساته أتاح للجميع في المجتمع للمشاركة فيه، وفي تحديثه، والعمل على استمراره، ولا تكفي الدعوة إلى البذل والعطاء للمشاريع الوقفية إذا لم توفر للأموال الموقوفة الإطار المؤسسي المناسب الذي يعمل بإخلاص وإتقان على تنميتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة.
7- الوقف الإسلامي قوة للمجتمع، يوفر الحاجات الأساسية إن عجزت الدولة عنها، ويرعى مجالات تصعب رعايتها من قبل أي قطاع آخر في الدولة، فهو يرفع من مكانة الفقير، ويقوي الضعيف، ويرعى الصغير، ويدرب ويؤهل اليتيم، ويعالج المريض، ويكفل الأرملة، ويحفظ المطلقة، ويخفف على الضرير، ويريح الشيخ الكبير، ويرعى ذوي العاهات.
8- الوقف الإسلامي يقدم فرصًا سانحة – كقطاع مستقل - للخصوصية التي تولد الإبداع والابتكار، وتطلق العقول وتنمي المشاريع التي تخدم المجتمع من مستشفيات غير ربحية وجامعات ومراكز أبحاث غير ربحية، واستثمارات ومجمعات ربحية يصرف من ريعها لقضاء حاجات تتطلبها المرحلة التي نعيش.
9- الوقف الإسلامي- بمؤسساته الفاعلة - قادر على ترشيد الصحوة الدينية والسياسية وتوجيههما، فمؤسساته ترى حاجات الناس، وتقدم العلاجات للناس، والدراسات لأصحاب القرار، وتقارير تكشف حالات الفساد في مؤسساتنا الحكومية، والتجارية.
10- الوقف الإسلامي وعى الاستعمار دوره فحاربه، وأضعفه في دولنا، وسن التشريعات، والقوانين لرعايته وتنميته في دولهم، حتى أضحى قطاعًا رئيسًا من قطاعات الدولة المعاصرة وفق المفهوم الإداري الحديث.



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 13-02-2025 05:52 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 21



كل أمين ادعى إيصال الأمانة إلى مستحقها قبل قوله

نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
كل أمين ادعى إيصال الأمانة إلى مستحقها قبل قوله(1)؛ وكل أمين فالقول قوله في الرد على من ائتمنه، يصدق فيما يدعيه، والوكيل المؤتمن على المال لا يلزمه الإشهاد عند دفع ما وكل في قبضه إلى موكله، فلو أنكر الموكل القبض فالقول قول الوكيل، وقد نص الفقهاء أيضا على أن الوكيل أمين ويده يد أمانة وأنه يقبل قوله في تسليم المال إلى موكله، فإن أنكر موكله التسليم فالقول قول الوكيل مع يمينه.
وقالوا : كل أمين ادعى إيصال الأمانة إلى مستحقها قبل قوله بيمينه، كالمودع إذا ادعى الرد والوكيل والناظر، وسواء كان ذلك في حياة مستحقها أم بعد موته، إلا في الوكيل بقبض الدين، إذا ادعى بعد موت الموكل أنه قبضه ودفعه له في حياته لم يقبل قوله، إلا ببينة (2).
يصدق قول الناظر فيما يدعيه من الصرف والإنفاق بلا بينة ولا يمين(3)، فيصدق قول الناظر ولا يكذب في صرف غلة الوقف على مستحقيها، إلا إذا ادعى عليه أحد المستحقين أو جلهم ومعهم بينة على ذلك، وللقاضي أن يستبين الأمر بطلب كشوفات الحساب الإجمالية والتفصيلية.
وإذا ادعى الناظر أمرا يكذبه الظاهر تزول أمانته وتظهر خيانته، كإدعائه بصرف غلة الوقف على عمارته، ولم يعمر، وهذا ظاهر للعيان.
وناظر الوقف مؤتمن على أصل ذلك الوقف وريعه، وكل من يعمل في المشروع الوقفي هو مؤتمن لذلك الأصل المحبوس. فالناظر للوقف هو خازن مؤتمن، مكلف برعاية ما أؤتمن به، فإن أدى هذه الأمانة موفرة كاملة، غير منقوصة أو مستغلة، مع طيب نفس ورضا وسرور منه، بهذا يكون هو أحد المتصدقين، أي له ثواب كالمتصدق؛ لأنه أعان صاحب المال على إيصال المال والصدقة إلى مستحقيها.
وتخوين الأمين من علامات الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: «سَيأتي على الناسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فيها الكَاذِبُ، ويُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ، ويُؤْتَمَنُ فيها الخَائِنُ، ويُخَوَّنُ فيها الأَمِينُ، ويَنْطِقُ فيها الرُّوَيْبِضَةُ. قيل: وما الرُّوَيْبِضَةُ؟ قال: الرجلُ التَّافِهُ، يتكلَّمُ في أَمْرِ العَامَّةِ» (4).
ومن التطبيقات الخيرية والوقفية المتعلقة بهذه القاعدة:
يقبل قول القائمين على المؤسسات الخيرية، ولا يخونون جزافاً، إذا أقروا بأنهم أوصلوا المساعدات إلى مستحقيها.
والناظر للوقف يقبل قوله في توزيع ريع الوقف، واليمين على من ادعى عدم إيصالها وتوزيعها. يصدق الناظر الأمين إذا ادعى صرف ما في يده من غلة الوقف.
للقاضي أن يحاسب الناظر عن غلة السنة التي قبضها من أجور عقاراته ومحصول مزروعاته، وعما أنفقه منها في صالح الوقف ومهملته وعماراته وما صرفه على أصحاب الوظائف وعلى المستحقين؛ ولا يتصدر لمحاسبته من ليس أهلاً لذلك.
الأمين في الأمة والذي يعمل على حفظ الحقوق وقضاء حوائج الناس مُصان العرض، حتى لا يمتنع الخزنة الأمناء في حفظ الأمانة وأدائها .
والجابي الأمين كذلك يقبل قوله باليمين - إن اضطر إلى ذلك – فيما لا يكذبه الظاهر.
على العاملين في المؤسسات الخيرية والمكلفين بصرف المستحقات على أهل الحاجة أن يتبعوا النظم المحاسبية في إثبات الصرف براءة لذمتهم.
الهوامش:
1- الأشباه والنظائر لابن نجيم 275، المنثور في القواعد 3/111، والأشباه والنظائر لابن السبكي 1/361.
2- حاشية ابن عابدين 4/506، 507، والمبسوط 11/143 ط دار المعرفة.
3- انظر: قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف، ص 66 مادة 218، محمد قدري باشا، نقلا عن ( الدر المحتار ورد المحتار 558 ).
4- سلسلة الصحيحة للألباني،برقم 1887.



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 14-02-2025 11:40 AM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 22- الخطأ لا يستدام ولكن يُرجَع عنه


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
الخطأ لا يستدام ولكن يُرجَع عنه(1)، قاعدة مفادها أن الخطأ إذا اكتُشف يجب الرجوع عنه ولا يجوز الاستمرار عليه؛ لأن المخطئ مرفوع عنه الإثم، ولكنه إذا عَرَف خطأه وأصر عليه واستمر ولم يرجع عنه، فلا يكون خطأً، بل يكون عمداً يؤاخذ عليه.
وأدلة هذه القاعدة قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} (الأحزاب:5)، وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (البقرة:286). ومن الأحاديث المشهورة في العذر بالخطأ قوله- صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (2).
قال الحافظ ابن رجب في شرحه لهذا الحديث : «الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما؛ لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصد لهما فلا إثم عليهما، وأما رفع الأحكام عنهما فليس مراداً من هذه النصوص فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر »(3).
من أخطأ فحكم أو أفتى بغير علم واجتهاد فهو آثم عاص، يقول شيخ الإسلام – رحمه الله – «.. فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطناً وظاهراً الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله فهذا مغفور له خطؤه...»(4).
ومن التطبيقات الخيرية المتعلقة بهذه القاعدة:
بناءً على القاعدة أعلاه، فإذا تصرَّف القائم على الجمعية الخيرية باجتهاد ثم تبيَّن خطؤه فعليه الرجوع.
وإذا أخطأ العاملون في المؤسسة الخيرية في صرف المستحقات ، خلاف ما أمر المتبرع ، فعليهم الرجوع والتقيد برغبة المتبرع.
وإذا خُصص مشروع خيري لمنفعة ما، ولم يحقق المشروع تلك المنفعة لخطأ في دراسة الجدوى والتقديرات أو لتغير الظروف المحيطة به، فيعمل على تشغيل المشروع بما هو أنفع.
فعلى المؤسسات الخيرية أن تتدارك الخطأ إن وقع وتعمل على تصحيحه، وعمل الصواب حتى لا تضيع الأموال والحقوق للمستحقين.
الهوامش:
1- موسوعة القواعد الفقهية: (5/287).
2- صحيح ابن ماجة ، للألباني ، برقم 1677.
3 - جامع العلوم والحكم، حديث ( 39).
4- مجموع الفتاوى (35/103).



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 22-05-2025 09:23 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 23- خير الأمور أوساطها


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
خير الأمور أوساطها، وفي لفظ أوسطها(1)، ومعنى القاعدة أن الخير في الاعتدال في كل شيء؛ فالفضيلـة وسط بين رذيلتين، وهـذا مرجع تقـدير القيمة، وما يبذل لكل محتاج، وغيرها(2).
فالوسط في كل شيء هو نقطة التوازن والاعتدال وبه يكون الثبوت، وبه يجتنب السقوط، وهو محمود إن كان بين خطأين أو فاسدين شرعا أو عقلا، وقد جاء نص القرآن بمثال واضح في هذا في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}(الإسراء: 29)، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(الفرقان: 67).
وأنشد بعضهم:
عليك بأوساط الأمور فإنها
نجاة ولا تركب ذلولاً ولا صعباً
فالإسراف ممقوت، والتقتير ممقوت؛ لذا وجب البحث عن الفضيلة بينهما، وهكذا في جميع الأمور.
واختيار أواسط الأمور في الأعمال الخيرية أمر مطلوب، فعلى المؤسسات الخيرية أن تختار أواسط الطعام في وجبات إفطار الصائمين، فلا تضع أدني أنواع الطعام، ولا تسرف بوجبات باهظة الثمن، ولعلها لا تكون من مأكول من تُعد لهم وجبات الإفطار.
وكذلك في تحديد ما يفي باحتياجات الأسر المتعففة ، وطلاب العلم ، والدعاة، والأيتام والأرامل، وغيرهم، علينا أن نختار أواسط الأمور، فالمؤسسات الخيرية مؤتمنة على الأموال التي بأيديها، ويتوقع المتبرعون أن نقدم لأهل الحاجات ما يفي بمتطلباتهم من غير تقتير ولا إسراف .
فاختيار أواسط الأمور في أعمالنا الخيرية، يحافظ على ثقة المتبرعين في مؤسساتنا الخيرية، وكذلك نظرة المستفيدين والمجتمع في صرفنا لما بأيدينا من أموال مخصصة لنفع أهل الحاجات .
ومن التطبيقات العملية لتلك القاعدة:
- في حال الإغاثة لمن أصابتهم نازلة على المؤسسات الخيرية والإغاثية أن توفر لهم احتياجاتهم، وأن يبذل لهم المعروف من غير إسراف ولا تقتير؛ فخير الأمور أواسطها .
- ما يصرف للعاملين في المؤسسات الخيرية مقابل أدائهم يحدد بأواسط الأمور ، فلا ينبغي للمؤسسة أن تُعطي رواتب عالية، وعليها أن تُعطي الأجور كأجور المثل، ويختار أواسطها ، وحسب طاقة المؤسسة .
- تحدد قيمة كفالة اليتيم ورعايته بأواسط ما يصرف أمثاله من الأولاد، ولهذا ينبغي أن تكون كفالة الأيتام بقيمة تحددها البيئة التي يعيش فيها اليتيم، فتكاليف الحياة تتفاوت من بلد إلى آخر؛ وكذلك مخصصات الأرامل والأسر المتعففة وغيرهم .
- المصاريف التشغيلية في المؤسسات الخيرية لا تتجاوز العرف، فعلى المؤسسات الخيرية التزام الاعتدال في الصرف، وأن تختار أواسط ما يفي بتشغيل المؤسسة، فلا تسرف في توفير التجهيزات من أثاث وأجهزة وغيرها، إلا إذا كان هنالك متبرع وداعم لتلك التجهيزات، ويوضع ما يوضح ذلك للمتبرعين وللمستفيدين .
- وفي التقارير التي ترسل للمتبرعين وإعلاميات المؤسسات الخيرية وإقامة الاحتفالات في المناسبات، علينا أن نلتزم بأواسط الأمور، والاعتدال في الصرف، فخير الأمور أواسطها.
الهوامش:
1- تنبيه: الحديث الذي يُروى: خير الأمور أوسطها لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من أقوال الحكماء، كما قال ابن عبد البر في الاستذكار، وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من رواية مطرف بن عبد الله معضلا. اهـ.
وقال السخاوي في المقاصد الحسنة: رواه السمعاني في ذيل تاريخ بغداد بسند مجهول عن علي مرفوعا وهو عن ابن جرير في التفسير من قول مطرف بن عبد الله ويزيد بن مرة الجعفي. وكذا أخرجه مطرف والديلمي بلا سند عن ابن عباس مرفوعا. اهـ
2 - موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (5/302).



اعداد: عيسى القدومي






ابوالوليد المسلم 28-05-2025 09:36 PM

رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية
 
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

24 – قاعدة : الترك فعل


نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي؛ ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع، الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
الترك والكف فعل(1)، قاعدة مفادها أن الله – سبحانه وتعالى – جعل الثواب والعقاب مرتبًا على الفعل، فالعمل يترتب عليه إن كان صالحًا دخول الجنة والنجاة من النار، ودليل القاعدة، قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(النازعات 40-41).
فوعد الجنة لمن وقع منه فعلٌ وتركٌ، فخاف مقام ربه، وترك هوى النفس، وهذا يدل على أن العبد مطالب بإيجاد الترك كما هو مطالب بإيجاد الفعل، وأنه يثاب على فعل ما أمر به، وترك ما نهي عنه، كما أنه يعاقب على ترك ما أمر به، وفعل ما نهي عنه .
ودليل آخر {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }(المائدة: 79)، فالمسلم كما هو مخاطب بالفعل، مخاطب بالترك؛ فالترك فعل؛ لأنه صرف النفس عن النواهي وكفها عن المحرمات .
وقد جعل الله تعالى الثواب والعقاب والمدح والذم مرتباً على الفعل، وجعل دخول الجنة والنجاة من النار بسبب العمل، قال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(النحل: 32) وقال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ ۖ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}(فصلت:28)، وهذا يوجب أن يكون الترك عملاً؛ لأنه داخلٌ في الثواب والعقاب والحسنات والسيئات كما دلت عليه النصوص الشرعية . وهذا ما قرره أهل العلم من الأصوليين وغيرهم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وتارك المأمور إنما يعاقب على ترك يقوم بنفسه وهو أن يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل فيمتنع، فهذا الامتناع أمر وجودي، ولذلك فهو يشتغل عما أمر به بفعل ضده، كما يشتغل عن عبادة الله وحده بعبادة غيره، فيعاقب على ذلك»(2).
وقد ترك صلى الله عليه وسلم الشَّيءَ المطلوبَ دفعًا للمفسدَةِ الأكبرِ ، كتركه لبناء الكعبة على قواعد إبراهيم وعلل لذلك؛ حيث قال لعائشة رضي الله عنها: «يا عائشة، لولاَ أنَّ قومَكِ حديثُ عهدٍ بجاهليَّةٍ، لأمرتُ بالبيتِ فهُدِمَ، فأدْخلتُ فيه ما أُخرِجَ منهُ وألزَقْتُه بالأرضِ، وجعلتُ لهُ بابينِ بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، فبَلَغْتُ بهِ أساسَ إبراهيم» (3).
ومن تطبيقات قاعدة (الترك فعل):
- ترك إطعام الجائع حتى مات؛ أو ترك إنقاذ الغريق حتى غرق ، فترك الإنقاذ والإطعام «فعل» لجريمة تلزم الضمان.
- كذلك ترك من أصابتهم الكارثة والنازلة بلا إغاثة ولا رعاية يعد تركاً لواجب، يؤثم عليه، فالكف عن فعل شيء، بعد وجود الداعي إلى فعله، يدل على تَرْكِه عمدًا.
- وترك الأموال المتصدق بها من المتبرعين في حسابات المؤسسة الخيرية أو الوقفية، وإهمال صرفها وحبسها من غير علة محدودة، يعد من الفساد، {والله لا يحب المفسدين}.
- وترك الفعل بعدم صرف الأموال على المستحقين أو الموقوف عليهم، وهذا تعدٍّ في الصدقة، والمعتدي في الصدقة كمانعها، فعلى من ولي أمر الوقف عليه ألا يؤخر أداء حقوق المستحقين في الوقف، إلا لضرورة تقتضي تأخير إعطائهم لحقوقهم: كحاجة الوقف إلى العمارة والإصلاح أو الوفاء بدين على الوقف؛ لأن هذا مقدم على الإعطاء للمستحقين(4).
- وإعطاء المستحقين حقوقهم من غلة الوقف، يجب أن يكون بحسب ما اشترطه الواقف؛ لأن شروطه معتبرة، ولا يجوز كذلك للناظر وإدارة الوقف أن تؤخر حق الانتفاع من عين الوقف للموقوف عليهم بلا ضرورة تقتضي ذلك.
- وإذا ترك ناظر الوقف إيجار دور الوقف وقت الإيجار، وفوت الفرصة لمصلحة الوقف والموقوف عليهم، فإنه ضامن؛ لأنه ترك الفعل وأهمل في أداء واجباته، وكذلك من أهمل عمارة الوقف حتى تهالكت أصوله فتركه فعل يؤاخذ عليه .
- والامتناع وترك الشهادة بما يكون في مصلحة الوقف أو الموقوف عليهم، إذا دُعي للشهادة وهو قادر عليها ولا مانع يمنعه من ذلك فهو آثم؛ لأن بتركه يضيع حقوق لا بد من إثباتها .
- وكذلك ترك الإنكار على المعتدي على الوقف ونهيه عن ذلك، يعد فعلاً؛ لأنه ترك واجب الدفاع ورد عين الوقف المغصوبة .
الهوامش:
1- انظر: شرح الكوكب المنير1/492، شرح طلعة الشمس لابن حميد الساعدي 1/35 الاعتصام للشاطبي 1/30، أضواء البيان للشنقيطي6/49 دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت 1995 م، وانظر أدلة القواعد الأصولية من السنة النبوية د.فخرالدين الزبير ص100-102، الدار الأثرية عمّان، الطبعة الأولى 2009م.
2- الفتاوى (14/281-282).
3- متفق عليه ، أخرجه البخاري برقم 1585، ومسلم برقم 1333
4- أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية، د.محمد الكبيسي، ( 2/198).



اعداد: عيسى القدومي







الساعة الآن : 01:19 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 169.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 168.66 كيلو بايت... تم توفير 1.14 كيلو بايت...بمعدل (0.67%)]