خداع الدنيا
[خداع الدنيا]:
قال (عليه السلام): «دار بالبلاء محفوفة» أي حُفّت بالمكاره والبليّات، وأحاطت بها من كلّ جانب الآلام والآفات، وفي نسبة «محفوفة» إلى الدار توسّع، والمراد كون أهلها محفوفة بها. «وبالغدر معروفة» قال الشارح البحراني: استعار لفظ الغدر عمّا يتوهم الإنسان دوامها عليه من أحوالها المعجبة له، كالمال والصحّة والشباب، فكأنّه في مدّة بقاء تلك الأحوال قد أخذ منها عهداً، فكأنّ التغيّر العارض لها المستلزم لزوال تلك الأحوال أشبه شيء بالغدر. قال الميرزا الخوئي صاحب منهاج البراعة: مراده (عليه السلام) أنّها مشهورة بالغدر والخداع، معروفة بالمكر والغرور، غير مختفية حيلتها ومكيدتها على أهل البصيرة، لأنّها بكونها حلوة خضرة محفوفة بالشهوات ومهيّأة للآمال والأمنيات، أعجبت الناس بشهوتها العاجلة، وتحبّبت اليهم بلذّاتها الحاضرة، وتزّينت بالغرور، فاغترّ بها كلّ من كان غافلاً عن مكيدتها، وافتتن بحبّها كلّ من كان جاهلاً بحقيقتها، حتّى إذا أوقعتهم في حبائل محبّتها أبدت كلّ ما كان مضمراً في باطنها من مكرها وحيلتها، فلم يكن امرؤ منها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرّائها بطناً إلا منحته من ضرّائها ظهراً، ولم ينل أحد من غضارتها رغباً إلاّ أرهقته من نوائبها تعباً، فكم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة قد صرعته، وذي أُبهّة قد جعلته حقيراً، وذي نخوة قد ردّته ذليلاً. وكفى في إيضاح غدرها ما قاله بعض قدماء أهل الحقيقة والبصيرة: من أنّها الآخذة ما تُعطي والمورثة بعد ذلك التبعة، السلاّبة لمن تكسو والمورثة بعد ذلك العري، الواضعة لمن ترفع والمورثة بعد ذلك الجزع، التاركة لمن يعشقها والمورثة بعد ذلك الشقوة، المغوية لمن أطاعها، الغدّارة بمن ائتمنها، هي المحبوبة التي لا تحبّ أحداً، الملزومة التي لا تلزم أحداً، يوف إليها وتغدر، ويصدق لها وتكذب، وينجز لها فتختلف، هي المعوجّة لمن استقام بها، والمتلاعبة بمن استمكنت منه. بينا هي تُطعمه إذ حوّلته مأكولاً، وبينا هي تخدمه إذ جعلته خادماً، وبينا هي تُضحكه إذ ضحكت منه، وبينا هي تشمّه إذ شمّت منه، وبينا هي تبكيه إذ بكت عليه، وبينا هي قد بسطت يده بالعطية إذ بسطتها بالمسألة، وبينا هو فيها عزيز إذ أذلّته، وبينا هو فيها مكرم إذ أهانته، وبينا هو فيها معظّم إذ حقّرته، وبينا هو فيها شبعان إذ أجاعته، وبينا هو فيها حيّ إذ أماتته. فأفٍّ لها من دار هذه صفتها، تضع التاج على رأسه غدوة وتعفّر خدّه بالتراب عشيّة، وتحلّي الأيدي بالأسورة عشيّة، وتجعلها في الأغلال غدوة، تعقد الرجل على السرير غدوة، وترمي به في السجن عشيّة، تفرش له الديباج عشيّة، وتفرش له التراب غدوة، وتجمع له الملاهي والمعازف غدوة، وتجمع عليه النوائح والنوادب عشيّة، تحبّب إلى أهله قُربه عشيّة، وتحبّب إليهم بُعده غدوة، تطيّب ريحه غدوة، وتنتن ريحه عشيّة. فهو في كلّ ساعة متوقّع لسطوتها، غير آمن غدرها وخديعتها، غير ناجٍ من بلائها وفتنتها، تمتّع نفسه من أحاديثها وعينه من أعاجيبها ويده مملوءة من جمعها، ثمّ تصبح الكفّ صفراً والعين هامدة ذهب ما ذهب، وهوى ما هوى...(4) ومن ذلك كلّه علم أنّها (لا تدوم أحوالها) بل تصير حياتها موتاً، وغناؤها فقراً، وفرحها ترحاً، وصحّتها سقماً، وقوّتها ضعفاً، وعزّها ذلاًّ، إلى غير هذه من حالاتها المتبدّلة المتغيّرة. قوله (عليه السلام): «ولا تسلم نزّالها» أي لا يسلم النازل في تلك الدار من آلامها وآفاتها وصدماتها، بل هو في كلّ آن مترقّب لاصابة مكروه، وَجِلٌ من كل بلاء. فإن كلّ ذي جسد فيها لا ينفكّ جسده من أنّ الحرّ يذيبه، والبرد يجمده، والسموم يتخلّله، والماء يغرقه، والشمس تحرقه، والهواء يُسقمه، والسباع تفترسه، والطير تنقره، والحديد يقطعه، والصدم يحطمه. ثمّ هو معجون بطينة من ألوان الأسقام والأوجاع والأمراض، فهو مرتهن بها مترصّد لها دائماً، لكونه مخلوقاً من الأخلاط الأربعة التي لو غلب أحدها على الآخر أحدث أنواعاً من المرض، ألا ترى أنّ أصحّ الأخلاط وأقربها إلى الحياة هو الدم، فإذا خرج عن حدّ الاعتدال يموت صاحبه بموت الفجأة والطاعون والأكلة والسرسام. هذه كلّه مع ما له من مقارنة الآفات السبع التي لا يتخلّص منها ذو جسد، وهي الجوع، والظمأ، والحرّ، والبرد، والخوف، والجوع، والمرض، والموت. أحوالها (أحوال مختلفة) إن اعذوذب منها جانب واحلولى أمرّ منها جانب فأوبى، لم تطل على أحد فيها ديمة رخاء إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء، ولم يُمسِ امرؤ منها في جناح أمن إلاّ أصبح على قوادم خوف. (وتارات متصرّفة) يعني أنّ حالاتها تتغيّر بأهلها تارة بعد أخرى، ومرّة بعد مرّة، فإنّها تنقل أقواماً من الجدب إلى الخصب، ومن الرجلة إلى الركب، ومن البؤس إلى النعمة، ومن الشدّة إلى الرخاء، ومن الشقاء إلى الراحة، ثم تنقلب بهم فتسلبهم الخصب، وتنـزع منهم النعمة والراحة. ومحصّله أنّها دار تصرّف وانتقال وتقلّب من حال إلى حال، صحّتها تتبدّل بالسقم، وشبابها بالهرم، وغناها بالفقر، وفرحها بالترح، وسرورها بالحزن، وعزّها بالذّل، وأمنها بالخوف. بينا يرى المرء فيها مغتبطاً محبوراً وملكاً مسروراً في خفض ودعة ونعمة ولذّة وأمن وسعة، في بهجة من شبابه وحداثة من سنّه، وبهاء من سلطانه، وصحّة من بدنه، إذ انقلبت به الدنيا أشرّ ما كان فيها قلباً، وأطيب ما كان فيها نفساً، وأقرّ ما كان فيها عيناً، وألذّ ما كان فيها عيشاً، فأخرجته من ملكها وغبطتها وخفضها ودعتها وبهجتها، فأبدلته بالعزّ ذلاًّ، وبالسرور حزناً، وبالنعمة نقمة، وبالغنى فقراً، وبالسعة ضيقاً، وبالشباب هرماً، وبالشرف ضعة، وبالحياة موتاً. ففارق الأحبّة وفارقوه، وخذله إخوانه وتركوه، وصار ما جمع فيها مفرّقاً، وما عمل فيها متبرّءاً، وما شيّد فيها خراباً، وصار اسمه مجهولاً، وذِكره منسيّاً، وحسبه خاملاً، وجسده بالياً، وشرفه وضيعاً، ونعمته وبالاً، وكسبه خساراً، وورث أعداؤه سلطانه، واستذلّوا عقبه، واستباحوا حريمه، وتملّكوا أمواله، ونقضوا عهده، وملكوا جنوده، فأفٍّ لدار حالها هذا وشأن ساكنها ذلك، وفّقنا الله تعالى للزهد فيها والاعراض عنها. وبما ذكرنا ظهر أنّ (العيش فيها مذموم) وأراد بالعيش الترفّه فيها والتنعّم بلذّاتها والالتذاذ بشهواتها، وإنّما كان هذا مذموماً لكونه شاغلاً عن التوجّه إلى الحقّ وعن الالتفات إلى الآخرة، ومعقباً للندم والحسرة الطويلة والعذاب الشديد يوم القيامة. وقد وقع ذمّ هذا في كتاب الله تعالى وعلى ألسنة الأنبياء والرسل متجاوزاً عن حدّ الاحصاء، قال تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأَْمْوالِ وَالأَْوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الآْخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ».(5) وقال أيضاً: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».(6) [مثال الدنيا]: وقد وقع تشبيه المتنعّم باللذّات الدنيويّة والمتلذّذ بشهوتها، الملهية له عن التوجّه إلى عاقبة أمره والالتفات إلى مآل حاله في كلام الحكماء، برجل حمل عليه فيلٌ مغتلم، فانطلق مولّياً هارباً، فاتبعه الفيل فغشيه حتّى اضطّره إلى بئر، فتدلّى فيها وتعلّق بغصنَين نابتَين على شفير البئر، فإذا في أصلها جرذان يقرضان الغصنين، أحدهما أبيض والآخر أسود، فلمّا نظر إلى تحت قدميه فإذا رؤوس أربع أفاعٍ قد طلعن من حجرهنّ، فلمّا نظر إلى قعر البئر إذا تنين فاغر فاه نحوه يريد التقامه، فلمّا رفع رأسه إلى الغصنين إذا عليهما شيء من عسل النحل، فألهاه ما طعم منه وما نال من لذّة العسل وحلاوته عن الفكر في أمر الأفاعي اللواتي لا يدري متى يبادرنه، وألهاه عن التنين الذي لا يدري كيف مصيره بعد وقوعه في لهواته. أمّا الفيل فهو الأجل، وأمّا البئر فالدنيا المملوءة من الآفات والبلايا والشرور، وأمّا الغصنان فالعمر، وأمّا الجرذان فالليل والنهار يسرعان في قطع العمر، وأمّا الأفاعي الأربعة فالأخلاط الأربعة التي هي السموم القاتلة من المرّة والبلغم والريح والدم التي لا يدري صاحبها متى تهيج به، وأمّا التنين الفاغر فاه ليلتقمه فالموت الراصد الطالب، وأمّا العسل الذي اغترّ بأكله فما ينال الناس من عيش الدنيا ولذّتها وشهواتها ونعيمها ودعتها، من لذّة الطعام والشراب واللباس والشمّ واللمس والبصر، هذا هو العيش المذموم. [العيش الممدوح]: ويقابله العيش الممدوح: وهو العيش الهنيء الذي أشير إليه في الحديث القدسيّ المرويّ في البحار من إرشاد القلوب للديلميّ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ الله تعالى شأنه قال للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ليلة المعراج في جملة مخاطباته: «يا أحمد هل تدري أيّ عيش أهنى وأيّ حياة أبقى؟ قال: اللهمّ لا، قال: أمّا العيش الهنيء فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذِكري، ولا ينسى نعمتي، ولا يجهل حقّي، يطلب رضائي في ليله ونهاره، وأمّا الحياة الباقية فهي التي تعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه، وتعظم الآخرة عنده، ويؤثر هواي على هواه، ويبتغي مرضاتي، ويعظم حقّ عظمتي، ويذكر عملي به، ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيئة أو معصية، وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره، ويبغض الشيطان ووسواسه، ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً ولا سبيلاً، فإذا فعل ذلك أسكنتُ قلبه حبّاً، حتّى أجعل قلبه لي وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي، وأفتح عين قلبه وسمعه، حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي، وأضيّق عليه الدنيا وأبغّض إليه ما فيها من اللذّات، وأحذّره من الدنيا وما فيها كما يحذر الراعي على غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفرّ من الناس فراراً، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن. يا أحمد لأزيّننّه بالهيبة والعظمة، فهذا هو العيش الهنيء والحياة الباقية، وهذا مقام الراضين... الحديث.(7) [عدم الأمان في الدنيا]: (والأمان فيها معدوم) لأنّها إذا كانت بالبلاء محفوفة وبالخديعة موصوفة، مختلفة الحالات ـ متصرّفة التارات ـ حسبما عرفت تفصيلاً وتوضيحاً ـ فكيف يُؤمن من بوائقها ويطمئنّ من طوارقها؟ وكيف يسلم من فجعتها ويستراح من خدعتها، ويتخلّص من غيلتها؟! فهي غرّارة ضرّارة حائلة زائلة نافذة بائدة أكّالة غوّالة، حيُّها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، مُلكها مسلوب، ومالها منهوب، وعزيزها مغلوب، وموقورها منكوب، كيف لا وقد رأينا تنكّرها لمن أمن بها ودان لها واطمئنّ إليها حتّى ظعنوا عنها فراق الأبد، هل زوّدتهم إلاّ السغب، أو أحلّتهم إلا الضنك، أو تورث لهم الظلمة، أو أعقبتهم إلاّ الحسرة والندامة، فبئست الدار لمن لم يتّهمها ولم يكن فيها على وجل. قوله (عليه السلام) «وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها، وتُفنيهم بحمامها، واعلموا عباد الله أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا» من متاعها وحطامها وزبرجها وزخارفها (على سبيل مَن قد مضى قبلكم) من أهل الديار الخالية والربوع الخاوية. |
رد: خداع الدنيا
مشكووووور ويعطيك الف عاااافية
وتقبل مرووووري اخووي |
رد: خداع الدنيا
جزاكم الله خير
|
الساعة الآن : 11:41 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour