ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=81)
-   -   من أخبار الشباب (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=217993)

ابوالوليد المسلم 28-11-2019 02:57 AM

من أخبار الشباب
 
من أخبار الشباب (1) زيد بن ثابت رضي الله عنه




الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل








﴿ الحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ ﴾ {سبأ:1-2} نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا؛ هدانا لدينه، وعلمنا شريعته، وأتم علينا نعمته؛ فله الحمد كما ينبغي له أن يحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، بيده سبحانه قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، فإن شاء أقامها، وإن شاء أزاغها ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ {الأنفال:24} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ربى جيلا من الشباب فجعلهم لربهم قانتين، وبفرائضه قائمين، ولدينه داعين، وبشريعته حاكمين، وفي سبيله مجاهدين، يسترخصون كل غال لأجل دينهم، ويبذلون النفس والنفيس لمرضاة الله تعالى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.










أما بعد:


فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن الأيام تسرع بكم إلى لقاء ربكم، فتقرب كل بعيد، وتفني كل جديد.. ولا يبتدئ عام إلا وينتهي، وهاهو ذا رمضان مر في لمح البصر، ويعقبه الحج ثم يمضي وينتهي به العام الهجري فيخلفه عام جديد، وبالأمس أغلقت المدارس وغدا تفتح.. وهكذا تمضي الأيام بالعمر حتى يبلغ الأجل.. والحازم من استودع في أيامه ولياليه عملا صالحا ينفعه، وادخر في عمره ما تكون به نجاته، والمخذول من يأكل ويشرب ويلهو ولا يفرق بين يومه وأمسه، ولا يعتبر بما مضى من عمره ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾ {الشعراء:205-207}.





أيها الناس:


تحرص الدول والأمم الواعية على الشباب، وتنفق في تربيتهم وتعليمهم وتحصينهم طائل الأموال؛ لأن الاستثمار فيهم أربح استثمار؛ ولأن فشلهم وضياعهم يمثل أثقل عبء وأشد خسارة على أمتهم.





ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أن الشباب هم الذين نصروه، وبهم قامت دولة الإسلام، وفتحت البلدان، وانتشر دين الله تعالى في الأرض؛ ففي الشباب طاقة وعزيمة وقوة وإقدام.. وسير الشباب من الصحابة رضي الله عنهم من أعجب السير، ودراسة أخبارهم تنهض بالهمم، وتشحذ العزائم، وتحيي في شباب الأمة سنن الاقتفاء والتأسي بخيار هذه الأمة وأفاضلها.





وهذه سيرة أحد شباب الأنصار، تربى على عين النبي صلى الله عليه وسلم، ونهل من معين الوحي حتى ارتوى علما وفقها وحكمة، وكان له في الإسلام شأن عظيم، وفي الفقه والعلم باع كبير.. يرجع إلى علمه أكابر الصحابة، ويأخذ عنه صغارهم وجلة التابعين.. ذلكم هو زيد بن ثابت الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه..





لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان لزيد إحدى عشرة سنة، فجيء به إلى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: ((يَا رَسُوْلَ اللهِ! هَذَا غُلاَمٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَقَدْ قَرَأَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكَ سَبْعَ عَشْرَةَ سُوْرَةً، قال: فَقَرَأْتُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ))، وتوسم النبي صلى الله عليه وسلم فيه النجابة وحدة العقل، وقوة الذاكرة، واتساع الذكاء، فكلفه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم لغة اليهود وَقَالَ: ((يَا زَيْدُ! تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُوْدٍ، فَإِنِّي وَالله مَا آمَنُهُمْ عَلَى كِتَابِي)). فشرع زيد يتعلم لغة اليهود حتى أتقنها تحدثا وقراءة وكتابة، فبالله عليكم ما الزمن الذي تظنون أن زيدا أتقن فيه لغة اليهود؟! سنة أو سنتين أو أكثر؟!





لقد حذقها في سبع عشرة ليلة فقط.. وهذا يدل على ذكائه، واستغلاله لعقله فيما ينفعه من العلم وخدمة الإسلام، وفي شباب الأمة اليوم من يمتلكون ذكاء كذكاء زيد لكن عقولهم معطلة، لم تجد أمثال أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ليعملها ويوجهها وجهتها الصحيحة..





واستصغر زيد يوم بدر وأحد، وأول مشاهده الخندق وهو ابن أربعة عشر ربيعا..





وترقى زيد في العلم والعمل، واشتهر بضبط القرآن مع الفقه، حتى كان من مشاهير قراء الصحابة وفقهائهم وهو شاب يافع دون العشرين، يدل على شهرته بالقرآن والفقه أنه حضر غزوة تبوك وهو في التاسعة عشر من عمره، وكانت راية بني النّجار مع عمارة بن حزم، فأخذها النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم منه فدفعها لزيد بن ثابت، فقال عمارة رضي الله عنه: ((يا رسول اللَّه، بلغك عني شيء؟ قال: لا، ولكنّ القرآن مقدّم)) ولأجل ضبطه وكتابته كان زيد من كتاب الوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واشتهر في المدينة بكاتب الوحي.





وأما فقهه فقد ضبط الفرائض وقسمة المواريث وهي أعسر أبواب الفقه حتى قال النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفْرَضُ أُمَّتِي: زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ))رواه الحاكم وصححه.





وقال الزُّهْرِيَّ رحمه الله تعالى: ((لَوْلاَ أَنَّ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ كَتَبَ الفَرَائِضَ لَرَأَيْتُ أَنَّهَا سَتَذْهَبُ مِنَ النَّاسِ)).





هذا العلم العزيز النادر الذي به تقسم المواريث قسمة شرعية صار بعض المتزلفين من طلاب الدنيا يمسخونه من المناهج الشرعية لإرضاء المنافقين والحظوة عندهم، في سياسة تغريب المناهج وتخريبها، فالله حسيبهم..





قَالَ الإمام مَالِكٌ رحمه الله تعالى: ((كَانَ إِمَامَ النَّاسِ عِنْدَنَا بَعْدَ عُمَرَ، زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ)).





وفي ضبطه للقرآن والفقه يقول التابعي الجليل عامر الشَّعْبِي رحمه الله تعالى: ((غَلَبَ زَيْدٌ النَّاسَ عَلَى اثْنَتَيْنِ: الفَرَائِضِ، وَالقُرْآنِ)). وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ قَالَ: ((مَا كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ يُقَدِّمَانِ عَلَى زَيْدٍ أَحَداً فِي الفَرَائِضِ وَالفَتْوَى وَالقِرَاءةِ وَالقَضَاءِ)). وبلغ بزيد فقهه مبلغ الفتوى، فكان سادس ستة يفتون من الصحابة كلهم كبار إلا زيدا فشاب في العشرين، وصار فقهه يحفظ ويطلب.





كل هذا العلم والفقه حازه زيد وعمره لما مات النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز ثنتين وعشرين سنة.





ولما اجتمع الصحابة رضي الله عنهم في السقيفة لتنصيب خليفة حسم زيد رضي الله عنه خلاف المهاجرين والأنصار بكلام نفيس يدل على فهم في السياسة مع فقه في الشريعة، فَقَامَ زَيْدٌ في الناس خطيبا وقال: ((إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ كَانَ منَ المُهَاجِرِيْنَ وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ، وَإِنَّمَا يَكُوْنُ الإِمَامُ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: جَزَاكُمُ اللهُ خَيْراً يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُم...)).





وفي خلافة الصديق رضي الله عنه كُلف زيد بأكبر مهمة يكلف بها رجل من هذه الأمة، وهي مهمة جمع القرآن بعد أن استحرَّ القتل في القراء أثناء حروب الردة، وذلك أن عمر أشار على أبي بكر بإسناد هذه المهمة الكبيرة لزيد لحفظه وإتقانه وذكائه، وكان زيد في بحر العشرين ويعلم ضخامة ما حمل؛ ولذا قال: ((فَوَالله لو كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ من الْجِبَالِ ما كان أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ من جَمْعِ الْقُرْآنِ)).





يا له من قول يدل على استشعاره للمسئولية، وإدراكه لثقلها، ولكن زيدا كفو لها بإيمانه وحفظه وإتقانه وفقهه وورعه، فمضى يجمع القرآن من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى تم له ذلك على أحسن حال، فحُفظت الصحف عند أبي بكر ثم عمر ثم حفصة، ولما أراد عثمان في خلافته أن يجمع الناس على مصحف واحد؛ ليقطع النزاع والاختلاف في القراءة كان زيد رضي الله عنه عضوا فاعلا في اللجنة التي انتدبها عثمان لذلك، حتى كتبوا المصحف العثماني الذي توارثته الأمة منذ ذلك الحين إلى اليوم، ويقرأ به المسلمون القرآن في مشارق الأرض ومغاربها، فكم لزيد رضي الله عنه من الأجور العظيمة الدائمة على هذا العمل الجليل؟!





ولما حصر الخوارج عثمان رضي الله عنه في الدار ما تخلت عنه الأنصار فجاءوا يقدمهم فقيههم زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال لعثمان: ((هَذِهِ الأَنْصَارُ بِالْبَابِ يَقُولُونَ: إِنْ شِئْتَ كُنَّا أَنْصَارًا لله مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: أَمَّا الْقِتَالُ فَلا)).





وبقي زيد رضي الله عنه إلى الخلافة الأموية، ولم تتلطخ يداه بدم مسلم، ولم يشارك في فتنة، وإنما يقرئ الناس القرآن، ويعلمهم العلم، ويفقههم في الدين إلى أن توفاه الله عز وجل، ومن أشهر طلابه ابن عباس الذي قال فيه: ((لَقَدْ عَلِمَ الْمُحَفِّظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ))





وقال سَعِيدِ بْنُ الْمُسَيِّبِ رحمه الله تعالى: ((شَهِدْتُ جِنَازَةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَمَّا دُلِّيَ فِي قَبْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ كَيْفَ ذَهَابُ الْعِلْمِ، فَهَكَذَا ذَهَابُ الْعِلْمِ، وَالله لَقَدْ دُفِنَ الْيَوْمَ عِلْمٌ كَثِيرٌ))





وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَ مَاتَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: ((الْيَوْمَ مَاتَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَعَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْهُ خَلَفًا))





فرضي الله تعالى عن زيد وأرضاه، وجعل جنة الفردوس مأواه، وجمعنا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر..








الخطبة الثانية


الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين..





أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ {البقرة:281}





أيها المسلمون: في بداية هذا العام الدراسي الجديد ما أجمل أن يستحضر أبناء المسلمين وبناتهم سير شباب الصحابة وفتياتهم، وأن تقرأ عليهم أخبارهم، وأن يدرسوا اهتماماتهم. ذلك الجيل المبارك من الشباب الذي تربى على عين النبوة، وعاش فترة الوحي، وحقق للإسلام في سنوات قلائل من التقدم والازدهار وفتح البلدان ما عجزت عنه أقوى الدول وأشهر الفاتحين والمحاربين في القديم والحديث..





كان زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي حفظ في صباه القرآن، وطلب العلم، وفقه الفقه، كان لما كبر يدرب الشباب على العلم والفقه والفتيا؛ ليحملوا العلم من بعده ويبلغوه الناس، ويفتوهم في دينهم، ومن ذلك ما روى حَجَّاجُ بْنُ عَمْرِو بْنِ غَزِيَّةَ: ((أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، إِنَّ عِنْدِي جَوَارِيَ لَيْسَ نِسَائِي اللَّائِي أُكِنُّ بِأَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْهُنَّ، وَلَيْسَ كُلُّهُنَّ يُعْجِبْنِي أَنْ تَحْمِلَ مِنِّي أَفَأَعْزِلُ؟ فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: أَفْتِهِ يَا حَجَّاجُ قَالَ: قُلْتُ: غَفَرَ الله لَكَ إِنَّمَا نَجْلِسُ إِلَيْكَ لِنَتَعَلَّمَ مِنْكَ فَقَالَ: أَفْتِهِ قَالَ: قُلْتُ: هُوَ حَرْثُكَ إِنْ شِئْتَ سَقَيْتَهُ وَإِنْ شِئْتَ أَعْطَشْتَهُ وَكُنْتُ أَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالَ زَيْدٌ: صَدَقْتَ)).





فأولوا الشباب عنايتكم، وخصوهم برعايتكم، ووجهوهم لما ينفعهم، وحملوهم من المسئولية ما يليق بهم؛ فإنهم إن لم يشتغلوا بما ينفعهم شغلوا أنفسهم بما يضرهم، ولحق ضررهم أسرهم ومدارسهم ومجتمعهم والأمة كلها.










ابوالوليد المسلم 28-11-2019 02:58 AM

رد: من أخبار الشباب
 
من أخبار الشباب (2) ابن عباس رضي الله عنهما










الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل









الحمد لله الخلاق العليم ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ ﴾ [الرُّوم:54] نحمده على وافر نعمه، ونشكره على جزيل عطاياه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ اختص قوما من خلقه للفضائل، فصانهم عن اللهو والرذائل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه بالنور والهدى، فاستضاء به من اهتدى، وعمي عنه من ضل وردى، ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشُّورى:52] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.













أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأسلموا له وجوهكم، وأخلصوا في أعمالكم، واستقيموا على دينكم ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود:112]







أيها الناس: فترة الشباب من عمر الإنسان هي مرحلة البأس والشدة، والبناء والعطاء، ومن أضاع شبابه فيما لا نفع فيه ندم في شيخوخته على ما ضاع، وتمنى عودة الزمن إلى الوراء؛ ولذا كان الإسلام حفيا بهذه المرحلة من عمر الإنسان، فمن السبعة الذين يظلهم الله تعالى يوم القيامة: شاب نشأ في عبادة الله تعالى، ولن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، منها شبابه فيما أبلاه، ولم يقل: عن طفولته أو كهولته أو شيخوخته، وما ذاك إلا لأن الشباب قوة وفتوة، وهو السنوات الذهبية للإنسان، فالعناية به مهمة، وتذكير الشباب وآبائهم بأهميته مطلب ملح، في زمن تكالبت فيه الملهيات والصوارف على الشباب؛ لتحرفهم عن مهمتهم؛ ولتسرق منهم شبابهم؛ ولتضيع أعمارهم فيما لا ينفعهم.







وهذا حديث عن شاب عطرت سيرته الكتب، وملأت أخباره مجالس العلم والذكر، استثمر شبابه فيما ينفعه فعاد نفعه عليه بالذكر الطيب، والرفعة والمجد، وعلى أمته بما خلف من علم غزير تنهل الأمة منه منذ قرون ولم ينفد.







ذلكم هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ولد في الشعب أثناء حصار قريش بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنوات، ولم يهاجر هو وأمه للمدينة إلا بعد فتح مكة وعمره عشر سنوات، وقال: ((كنت أنا وَأُمِّي من الْمُسْتَضْعَفِينَ، أنا من الْوِلْدَانِ وَأُمِّي من النِّسَاءِ)) رواه البخاري. وفي حجة الوداع كان قريبا من البلوغ، يقول رضي الله عنه: ((أَقْبَلْتُ وقد نَاهَزْتُ الْحُلُمَ أَسِيرُ على أَتَانٍ لي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى)) رواه البخاري. وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وعمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة فقط.







هذا الغلام كان له شأن عظيم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلامات النبوغ والنجابة بدت عليه منذ صغره، في سرعة بديهته، وحضور ذهنه، مع قوة في المناقشة والمناظرة، يزين ذلك أدب جم يأسر القلوب، ويستولي على النفوس، صلى مرة آخر الليل خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بيده وجره وجعله حذاءه، فلما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على صلاته تراجع ابن عباس، فلما سلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما شأني أَجْعَلُكَ حذائي فَتَخْنُسَ؟ فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ ينبغي لأَحَدٍ أَنْ يصلي حِذَاءَكَ وَأَنْتَ رسول اللَّهِ الذي أَعْطَاكَ الله؟ قال: فَأَعْجَبْتُهُ فَدَعَا اللَّهَ لي أن يزيدني عِلْماً وَفَهْماً)) رواه أحمد. هذا الجواب وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو أقل.







ومن عادة الشباب غفلتهم عن المستقبل، ورؤيتهم للحاضر، ومحبتهم للهو مع أقرانهم، وشعارهم: عش وقتك، ولا تنظر أمامك. ومن خرج عن هذه العادة فنظر بعين وقته للمستقبل، واشتغل بما ينفعه؛ نبغ من بين أقرانه، واستقامت له أحواله، وكان ذا شأن في الناس، وهكذا كان الفتى ابن عباس رضي الله عنهما؛ فإنه نظر بعين وقته لمستقبله، ولم يغتر بواقع حاضره، فصان نفسه عن البطالة والعبث، وأقبل على الجد في الطلب، بنفس لا تعرف السأم، وهمة لا يخلطها الملل، قال رضي الله عنه يحكي قصة طريفة له: ((لَمَّا تُوُفِّيَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قلت لِرَجُلٍ من الْأَنْصَارِ: يا فُلَانُ، هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النبي صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، فقال: واعجبا لك يا بن عَبَّاسٍ! أَتَرَى الناس يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وفي الناس من أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم من تَرَى؟ فَتَرَكَ ذلك وَأَقْبَلْتُ على الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كان لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عن الرَّجُلِ فَآتِيهِ وهو قَائِلٌ فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي على بَابِهِ فَتَسْفِي الرِّيحُ على وَجْهِي التُّرَابَ فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي فيقول: يا بن عَمِّ رسول اللَّهِ ما جاء بِكَ؟ ألا أَرْسَلْتَ إلي فَآتِيَكَ؟ فَأَقُولُ: أنا أَحَقُّ أن آتِيَكَ، فأسأله عن الحديث قال: فَبَقِيَ الرَّجُلُ حتى رَآنِي وقد اجْتَمَعَ الناس عَلَيَّ فقال كان هذا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّي)) رواه الدارمي وصححه الحاكم وقال: على شرط البخاري.







وكان له منهج في طلب العلم يدل على الحرص والتوثيق، وتنويع مصادر العلم، والإكثار من الشيوخ؛ ولذا أخذ عن كثير من كبار الصحابة علمهم، فاجتمع له من العلم ما لم يجتمع لغيره، يقول رضي الله عنه: ((إِنْ كُنْتُ لأَسْأَلُ عَنِ الأَمرِ الوَاحِدِ ثَلاَثِيْنَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).







وقِيلَ له: ((كَيْفَ أَصَبْتَ هَذَا الْعِلْمَ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَؤُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ)). وقال: ((كُنْتُ أَلْزَمُ الْأَكَابِرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ)).







كبر الغلام وكبر معه عقله، واتسع علمه، حتى أدرك في العلم من سبقوه من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وعجبوا من علمه، وأقروا له به وهو شاب في العشرين أو دونها، حتى قال له عمر رضي الله عنه: ((لقد علمت علماً ما علمناه)). وقال ابنِ مَسْعُوْدٍ رضي الله عنه: ((لَوْ أَدْركَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْنَانَنَا مَا عَشَرهُ مِنَّا أَحَدٌ)).







وكان من سياسة عمر رضي الله عنه في إدارة الدولة اهتمامه بذوي العلم والرأي دون السن والنسب، فيولي الأكفاء ويقربهم ويدنيهم، فلما رأى كمال عقل ابن عباس، وسداد رأيه، وغزارة علمه؛ جعله من خاصته، واتخذه بطانة له، وقدمه على الشيوخ الكبار في الرأي والمشورة وهو شاب صغير، قال يَعْقُوْبُ بنُ زَيْدٍ: ((كَانَ عُمَرُ يَسْتَشِيرُ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الأَمْرِ إِذَا أهمَّه)).







ويبدو أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جعل ابن عباس يلازمه للمشورة؛ ولذا لما مرض ابن عباس زاره عمر وقال: ((أَخَلَّ بِنَا مَرَضُكَ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ)).







ولأجل هذه الحظوة لابن عباس عند عمر، وكثرة مشاورته له وهو شاب صغير اعترض بعض كبار الصحابة؛ لأنهم قارنوا سنهم بسن ابن عباس، وخبرتهم في الحياة بخبرته، فأراد عمر أن يثبت لهم عمليا لم قدمه وجعله في مجلس الكبار دون غيره من أقرانه، قال ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ((كان عُمَرُ يُدْخِلُنِي مع أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فقال بَعْضُهُمْ: لِمَ تُدْخِلُ هذا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فقال: إنه مِمَّنْ قد عَلِمْتُمْ، قال: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ، قال: وما رُئِيتُه دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إلا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي، فقال: ما تَقُولُونَ في ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ﴾ [النَّصر:1-2] حتى خَتَمَ السُّورَةَ فقال بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إذا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وقال بَعْضُهُمْ: لَا نَدْرِي، أو لم يَقُلْ بَعْضُهُمْ شيئا، فقال لي: يا بن عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قلت: لَا، قال: فما تَقُولُ؟ قلت: هو أَجَلُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ الله له ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ ﴾ فَتْحُ مَكَّةَ فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النَّصر:3] قال عُمَرُ: ما أَعْلَمُ منها إلا ما تَعْلَمُ))رواه البخاري.







وكان بعض جلة التابعين يلازم ابن عباس وهو غلام دون كبار الصحابة، وما ذاك إلا لعلمه، قُيل لِطَاوُسٍ: ((لَزِمْتَ هَذَا الْغُلَامَ، يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ، وَتَرَكْتَ الْأَكَابِرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((إِنِّي رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم إِذَا تَدَارَءُوا فِي شَيْءٍ صَارُوا إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ)) وعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ((مَا سَمِعْتُ فُتْيَا أَحْسَنَ مِنْ فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ، إلَّا أَنْ يَقُوْلَ قَائِلٌ: قَالَ رَسُوْلُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).







وما حاز ابن عباس هذا العلم الغزير، ولا نال هذه الحظوة الكبيرة عند سادة الأمة من الصحابة والتابعين إلا لأنه حفظ وقته من الضياع، وصان شبابه عن اللهو والغفلة، واستثمر ما أعطاه الله تعالى من قدرات عقلية فيما ينفعه، فعاد نفعه على نفسه بعلم هو أنفس علم وأجله، وهو العلم بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأورثه خشية وخشوعا، ورقة لقلبه وصلاحا حتى قال أَبِو رَجَاءٍ العطاردي رحمه الله تعالى: ((رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَسفَلَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّرَاكِ البَالِي مِنَ البُكَاءِ)). وقال ابْنُ أَبِي مليكة رحمه الله تعالى: ((صحبت ابن عباس من مكة إلى المَدِيْنَةِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ...وقَرَأَ: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق:19]، فَجَعَلَ يُرَتِّلُ وَيُكْثِرُ فِي ذَلِكَ النَّشِيْجَ)).







ونفع الله تعالى بعلمه الأمة فهي من عصره إلى يومنا تقتات على علمه، وتستنير بفقهه، فهو قدوة لكل شاب مسلم، ونعم القدوة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاللهم ارض عنهم، واجمعنا بهم في الآخرة ﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر:55].











الخطبة الثانية



الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.







أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة:48].







أيها المسلمون: ما أحوج شباب الإسلام إلى استحضار سير العظماء من الشباب، واستبدالها بسير العابثين من الرياضيين والممثلين والمغنين وأضرابهم؛ فإن من أسباب تأخر المسلمين إهدار طاقات الشباب، وإفسادها بالشهوات، وإبراز القدوات السيئة للشباب عبر الإعلام.







وما أحوج الآباء والمربين إلى إبراز هذه النماذج الوضيئة من الشباب لتكون قدوة لشباب اليوم.







إن من الفطنة والكياسة الانتباه للنابهين والمميزين من نشء المسلمين، واختصاصهم بالرعاية والتشجيع، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس رضي الله عنهما فإنه تفرس فيه النجابة والفطنة، ورأى فيه ذكاء متوقدا، فأعطاه مزيدا من الاهتمام، وخصه بالدعاء، يقول ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ((ضَمَّنِي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم عَلِّمْهُ الْكِتَابَ)) رواه البخاري.







وذات مرة جهّز ابن عباس للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه، فَقَالَ: ((مَنْ وَضَعَ هَذَا? قَالُوا: عَبْدُ الله، فَقَالَ: اللهمَّ عَلِّمْهُ تأويل القرآن)). فكان من نتيجة هذه الدعوة المباركة ما ذكره شقيق بن أَبي وَائِلٍ قَالَ: ((خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَمِيْرٌ عَلَى المَوْسِمِ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ النُّوْرَ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَيُفَسِّرُ، فَجَعَلْتُ أَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْتُ كَلاَمَ رَجُلٍ مِثْلَ هَذَا، لَوْ سَمِعَتْهُ فَارِسُ وَالرُّوْمُ وَالتُّرْكُ لأَسْلَمَتْ)).







وكم من دعوة لشاب نابه استجيب لها، فتغير حاله بها، وعاد نفعها بالخير على الشاب وأسرته والأمة جمعاء، ولصاحبها أجرها وهو لا يظن أنها بلغت هذا المبلغ.







وكم من كلمة تشجيع قيلت في حدث صغير صيرته من كبار الأئمة والمحدثين، قال الحافظ المحدث الذهبي عن شيخه القاسم بن محمد البِرْزَالى: ((هو الذي حبب إليَّ طلب الحديث؛ فإنه رأى خطي فقال: خطك يشبه خط المحدثين، فأثر قوله في وسمعت منه وتخرجت به)).







فأولوا الشباب عنايتكم، وأعطوهم حقهم من الجهد والوقت، وخصوا النابهين منهم بالرعاية والتشجيع؛ فمن صنع علما من أعلام الأمة في أي مجال ينفعها فله أجره وأجر من انتفع به إلى يوم القيامة لأن من دَعَا إلى هُدًى كان له من الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ من تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذلك من أُجُورِهِمْ شيئا.







وأي هداية أعظم من هداية شاب نابه إلى ما ينفعه، فيتعدى نفعه إلى الناس جميعا؟!



ابوالوليد المسلم 28-11-2019 02:59 AM

رد: من أخبار الشباب
 
من أخبار الشباب (3)

مصعب بن عمير رضي الله عنه


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



الحمد لله الحميد المجيد؛ يبدئ ويعيد، وهو فعال لما يريد، نحمده على نعمه ومعافاته، ونشكره على حكمه ومجازاته، يجزي بالسيئة سيئة مثلها، ويضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ هدى قلوب أناس فشروا الآخرة بالدنيا، وضل عن هدايته أقوام فخلدوا إلى الفانية وضيعوا الباقية ï´؟ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ï´¾ [ٌالكهف: 17] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ دعا إلى الهدى فاتبعه ثلة من السابقين فدوه بأنفسهم وأهلهم وأموالهم، وانخلعوا من آبائهم وأمهاتهم، وعادوا عشائرهم وقبائلهم؛ فسخرهم الله تعالى نصرة لنبيه، واختارهم حملة لدينه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم، وعلى الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه، وأقيموا دينكم، وتعاهدوا إيمانكم، وتفقدوا قلوبكم؛ فإن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم، ï´؟ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ï´¾ [الشعراء: 88-89].أيها الناس:في العلم والتعليم تبليغ الدين، ونشر رسالة الله تعالى في العالمين.. وفيه نفع البشر أجمعين، سواء كان علم دين أم علم دنيا، وعلم الدين أعلى وأجل؛ لأنه علم الرسل عليهم السلام، وهو علم متعلق بالآخرة، وهي الدار الأشرف والأبقى، وفي علم الدنيا نفع الناس، وخير الناس أنفعهم للناس، وإذا صحت النوايا فالعلم كله خير ولا يأتي إلا بخير..وفترة الشباب هي الفترة الذهبية لتحصيل العلوم والمعارف وتخزينها والحذق فيها؛ حيث توقد الذهن، وحدة الذكاء، وقوة الحافظة، وفتوة العقل، ونشاط الحركة، والقدرة على التحمل، وقلة الشواغل والصوارف.ومن طالع سير الصحابة - رضي الله عنهم - وجد أن حملة العلم ومبلغيه كان أكثرهم من الشباب، وبهم بلغ دين الله تعالى أقاصي البلدان، وحفظت السنة والقرآن.وكان أول شاب حمل العلم إلى غيره، واستشهد في ريعان شبابه مصعب بن عمير القرشي - رضي الله عنه -، وسيرته سيرة تحكي حياة شاب مترف مستقر في أسرته، منعم في بيته، هجر ذلك كله في سبيل إيمانه وتعلمه وتعليمه حتى لقي الله تعالى على ذلك، وأنعم به من مثال للشباب المسلم، وأكرم به أنموذجا للتعلم والتعليم، والقراءة والإقراء.أسلم ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، وَكَانَ يختلف إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرا، فعلم أهله وأمه، فأخذوه فحبسوه، فلم يزل محبوسا إِلَى أن هرب فهاجر إِلَى أرض الحبشة، وعاد من الحبشة إِلَى مكة، ثُمَّ هاجر إِلَى المدينة بعد العقبة الأولى؛ ليقرئ القرآن القلة المؤمنة في المدينة، وليصلي بهم. فكان أول من رحل من هذه الأمة ليقرئ القرآن، وليبلغ العلم خارج بلده، وأول من هاجر ليؤم الناس، وهذا شرف عظيم جدا؛ إذ الرحلة في تعليم القرآن، وتبليغ العلم، وإمامة الناس من أعظم القربات، وكان الشاب مصعب بن عمير أول من قام بذلك من هذه الأمة الخاتمة المباركة.ترك الشاب مصعب - رضي الله عنه - حياة الترف، وهجر كنف أبويه الكافرين، وكانا غنيين يعتنيان برفاهيته، وقبل شظف العيش مع ثلة الشباب المؤمن في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فعانى معاناة شديدة بعد هذا الانقلاب الكلي في حياته؛ فبعد الجدة فقر، وبعد الترف والنعومة حرمان وخشونة، وبعد الشبع جوع، وبعد الأمن خوف، ولكن مصعبا وهب جسده لقلبه، وضحى بدنياه لآخرته، وتحمل في ذات الله تعالى ما يلقى، عن سعد بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا قبل الهجرة يصيبنا ظلف العيش وشدته، فلا نصبر عليه، فما هو إلا أن هاجرنا، فأصابنا الجوع والشدة، فاستضلعنا بهما، وقوينا عليهما. فأما مصعب بن عمير، فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا.لما هاجر مصعب إلى المدينة مقرئًا ومعلمًا لمن أسلم من الأنصار بعد بيعة العقبة الأولى، وكانوا قلة كرس وقته وجهده لتحفيظ الأنصار القرآن، وتعليمهم العلم؛ حتى اشتهر بمقرئ المدينة، فكان أول مقرئ فيها في الإسلام، وأسلم على يديه كبيرا الأنصار سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، فأسلم بإسلامهما من تحتهما وهم جم غفير من سادة الأنصار، فكان للشاب مصعب أجرهم جميعا، وكان إذ ذاك في عنفوان شبابه، لم يبلغ الأربعين من عمره.ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم كان مصعب في جيشه، يستميت في الدفاع عنه حتى قتل في أحد وهو يرد المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسقط - رضي الله عنه - شابا لم يشب رأسه في دنياه، معدما إلا من لباسه، لا يملك شيئا من الدنيا وقد كان من قبل الشاب الغني الأعطر الأجمل في مكة، حتى لم يجدوا له كفنًا يسعه، فغطوا رجليه بشجر الإذخر..لقد علم كبار الصحابة وأغنياؤهم فضل هذا الشاب الذي لقي الله تعالى في أحد وهو لا يملك شيئا من الدنيا، فكانوا يعتبرون بسيرته، ويذكرون أنفسهم بها.. فهذا عبد الرحمن بن عوف وهو هو إنفاقا في الإسلام، ومن العشرة المبشرين بالجنة يذكر نفسه بسيرة الشاب مصعب بن عمير؛ وذلك أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: " قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ، بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي - ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ - أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا- وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ " رواه البخاري.ولم ينس سيرته من عذبوا في ذات الله تعالى كخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ الذي قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبِيلِ اللهِ، نَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةٌ، فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ، خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ، خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ" وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهْوَ يَهْدِبُهَا؛ رواه الشيخان.لم يدون لمصعب - رضي الله عنه - سيرة طويلة كحال مشاهير الصحابة - رضي الله عنهم - مع أنه كان من مشاهيرهم، ومن السابقين للإسلام، وأول المهاجرين، وأول من تصدر للإقراء خارج مكة، وأول من نشر القرآن في المدينة، وأول من علم العلم بها، وعلى يديه أسلم كبار الأنصار فأسلم أتباعهم، وسبب قلة المنقول في سيرة مصعب - رضي الله عنه - أنه تقدم استشهاده، فقتل في أحد وهو ابن أربعين سنة، فلم يعش في الإسلام إلا بضع سنوات، ولكنه فعل فيها ما يعجز عنه فئام من البشر في أضعافها من السنوات.إنه الإيمان حين خالط قلبه، فازداد رسوخا باليقين، فترك الدنيا وزينتها -مع أن سن الشباب تهفو إلى الدنيا وتحبها- وأقبل على الله تعالى، فأحب لقاء الله تعالى فأحب الله تعالى لقاءه.. ï´؟ مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ï´¾ [الأحزاب: 23].بارك الله لي ولكم...الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ï´¾ [الحشر: 18].أيها المسلمون: سيرة مصعب بن عمير - رضي الله عنه - مثال حسن لكل شاب يريد مفارقة حياة الترف والكسل والعبث واللهو إلى حياة الجد والعمل والتفاني في العلم والتعليم..وما ضر الشباب اليوم شيء هو أشد عليهم من الترف والفراغ، حتى ضجروا وملوا، ورأوا أنهم أرقام زائدة في مجتمعاتهم، لا يأبه الناس بهم، ولا يعاملونهم بما يليق بهم، ولا يعطونهم من الأعمال ما يستحقون.وكما يتحمل المجتمع مسئولية ذلك فإن الشباب يجب عليهم أن يضعوا أنفسهم في المكان الذي يليق بهم، ولا يستسلموا لأمواج الترف التي أغرقوا فيها.. ولو أن مصعب بن عمير عاش عيشة أقرانه آنذاك لما كان ما كان؛ ولما علا ذكره في الإسلام، واشتهر بين الأنام؛ فمئات الشباب في مكة عاشوا أقرانا لمصعب فما عرفوا وما ذكروا؛ لأنهم لم يحملوا همة كهمة مصعب، ولم يطيقوا من العمل والحرمان ما طاق.إن الإنسان يكون حيث يضع نفسه، ومن جلس وهو شاب حيث يكره في مقاعد العلم والمعرفة جلس وهو كبير حيث يحب في مقاعد العز والنفع وحاجة الناس إليه، ومن جلس وهو شاب حيث يحب في مراتع اللهو والعبث جلس في كبره حيث يكره حين يرى سفوله وعلو غيره.إن على الشباب أن يعوا أنهم الرقم الأهم في البشر، وأن الأمم لا تتقدم إلا بهم، ولا تزهو إلا على أكتافهم، وأن أمة بلا شباب فمصيرها إلى التحلل والاندثار، وأن ضياع الشباب فيه ضياع الأمة كلها.. ولما وعى شباب الصحابة - رضي الله عنهم - ذلك حملوا الإسلام إلى الناس، فانتشر في الآفاق، فحفظت سيرهم، وذكرت مآثرهم، وها نحن نتذاكرها بعد أربعة عشر قرنًا، ولو أنهم عاشوا حياة الترف واللهو كما عاش غيرهم من الشباب لما كان لهم ذكر في الأمة كما لم يذكر غيرهم. فليكن شباب الصحابة - رضي الله عنهم - قدوة شبابنا اليوم؛ ليصبحوا قرة أعين لوالديهم وأمتهم، ونعيذهم بالله تعالى أن يقتدوا بالتافهين من أهل اللهو واللعب والغفلة، فيصبحوا رقما بشريا لا قيمة له، ويكونوا عالة على أهلهم وأمتهم...
وصلوا وسلموا..







ابوالوليد المسلم 28-11-2019 02:59 AM

رد: من أخبار الشباب
 
من أخبار الشباب (4)














عبدالله بن عمر رضي الله عنهما





الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل






الحمد لله الولي الحميد، العليم المجيد ï´؟ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ï´¾ [البقرة: 142] نحمده على وافر نعمه، ونشكره على سابغ عطائه، فله الحمد لا نحصي ثناء عليه كما أثنى هو على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قسم بين عباده دينهم كما قسم بينهم أرزاقهم، فكما أن فيهم غنيا وفقيرا فإن فيهم مؤمنا وكافرا، وبرا وفاجرا، وطائعا وعاصيا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وهداية للناس أجمعين؛ فهدى الله تعالى به من كتبت سعادتهم، وعمي عنه من كتبت شقوتهم، فمن اتبعه فلن يضل ولن يشقى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.









أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا من شبابكم لهرمكم، ومن صحتكم لسقمكم، ومن فراغكم لشغلكم، ومن حياتكم لموتكم؛ فإن ورائكم موتا وقبرا وبعثا وحسابا وجزاء ï´؟ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ï´¾ [الزَّلزلة: 7-8].









أيها الناس:




في الشباب عزم وإصرار، وقوة وإقدام، والأمم الهرمة معرضة للزوال. وفي الحروب الطويلة أكثر ما يستهدف الشباب، وحروب المخدرات لا تستهدف إلا من كانوا في مرحلة الشباب؛ فبهم تبنى الأمم وتحمى، وفي ضياعهم واستنزافهم موت الحضارة واضمحلال الأمة.. وأعظم مجال يستثمر فيه الشباب هو مجال العلم والتعليم؛ فالأمة التي يتعلم شبابها ويتفننون في المعارف والعلوم أمة تنهض وتتقدم، وتمتلك القوة، والأمة التي يضعف تعليم شبابها تضعف تبعا لضعفهم. ولما هرمت الدول الغربية بسبب الفردية، والعزوف عن الزواج وتكوين الأسرة، وضياع الشباب؛ صار الغربيون يستوردون النابهين من شباب الدول المتخلفة فيغرونهم بالمال والجاه، ويضعونهم في أماكنهم اللائقة بهم لاستثمارهم في بقاء التفوق الغربي على سائر الدول والأمم.









وفي تاريخنا المجيد سير لشباب كرسوا حياتهم لمرضاة ربهم، وخدمة أمتهم، ونفع أنفسهم، فخلدت سيرهم، وقرئت أخبارهم، وتأسى بهم غيرهم، واهتدى كثير من الخلق بذكرهم. وما ذاك إلا لأنهم قاموا بحق الله تعالى عليهم، وأدوا للأمة حقوقها، وأعطوا كل ذي حق حقه.









كان منهم عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه، ولد بعد البعثة بسنتين، وأسلم مع أبيه في مكة ولم يبلغ بعد، وهاجر إلى المدينة، وكان عمره يوم بدر ثلاث عشرة سنة فلم يجزه النبي عليه الصلاة والسلام للقتال في بدر ولا أحد لصغره، فلما بلغ خمس عشرة سنة أجازه في الخندق. وتوفي النبي عليه الصلاة والسلام وعمره ثنتان وعشرون سنة..









عاش هذا الشاب لله تعالى منذ عرف الإسلام، وجاءته الدنيا من كل جانب فعزف عنها يرجو رضوان الله تعالى والدار الآخرة، حتى عجب الصحابة من سلوكه وسيرته، واتخذه التابعون لهم أسوة وقدوة.. كان قبل زواجه ملازما للمسجد، يقرأ ويتعلم، ويسمع من النبي عليه الصلاة والسلام حديثه فلا يفوته شيء، حتى إنه كان ينام في المسجد فهو بيته ومدرسته ومحل عبادته، وذات مرة رأى رؤيا غيرت مجرى حياته، يقول رضي الله عنه: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا، فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكُنْتُ غُلاَمًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي المَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي، فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَكَانَ بَعْدُ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا» رواه الشيخان.









والظاهر أن رؤياه تلك وتأثره بها كانت وعمره دون العشرين، فتأملوا صلاحه واستقامته منذ حداثته، وانظروا إلى سرعة امتثاله لتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام في المحافظة على قيام الليل. وأعظم شيء يثبت العلم وينميه ويزكيه هو العمل به.









أثر علم هذا الشاب بالله تعالى وبما يجب له على حياته كلها، فكان لا يعجبه شيء إلا قدمه لله تعالى لعلمه أن الله تعالى طيب يحب إذا تصدق عبده أن يتصدق بأحب ماله إليه؛ فركب ناقة أعجبته فنزل عنها وأشعرها وأدخلها في البدن المهداة إلى الحرم، وأعجبته جارية من جواريه فأعتقها وزوجها غلاما له، وكَانَ إِذَا رَأَى مِنْ رَقِيقِهِ أمْرًا يُعْجِبُهُ أَعْتَقَهُ. ولا يأكل طعاما لوحده حتى يدعو المساكين، وأُتِيَ بِعَشْرَةِ آلاَفٍ فَفرَّقهَا، وَأَصْبَحَ يَطلُبُ لرَاحِلَتِهِ عَلَفاً بِدِرْهَمٍ نَسِيْئَةً، فكان يقدم غيره على نفسه، ولا يستأثر بالشيء لوحده.









وبتوفيق الله تعالى له، ثم بسبب تربيته على العلم والعمل في شبابه لم يأبه بالدنيا حين تنافس الناس عليها، وكانت همته أعلى من أقرانه من الشباب، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: إِنَّ أَمْلَكَ شَبَابِ قُرَيْشٍ لِنَفْسِهِ عَنِ الدُّنْيَا ابْنُ عُمَرَ.









كان ابن عمر رضي الله عنهما معظما للأثر، مقتفيا للسنن، وقد اشتهر رضي الله عنه بأنه أشد أهل زمانه اتباعا للنبي عليه الصلاة والسلام، والعلم يورث الخشية والمحبة، وكثرة العبادة، قال مُحَمَّدٌ العُمَرِيُّ: مَا سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ ذَكرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلاَّ بَكَى. ولما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ» لَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ.









ولما ثارت الفتنة تطلع الناس للإمارة والشرف، وعزف عنها ابن عمر، ورُشح للخلافة في وجود كبار الصحابة فأحجم عنها، وزهد فيها. وفي عهد بني أمية حاول الناس فيه أن يتولى الخلافة؛ لأن الأمة تجتمع عليه لإمامته ففر من الناس.









وذات مرة جلس شباب قريش يتمنون عند الكعبة، فكل منهم تمنى ما تمنى من أمور الدنيا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى المَغْفِرَةَ.









ومن طلب العلم في شبابه كان عالما في شيخوخته، وهكذا كان ابن عمر، قَالَ الإمام مَالِكٌ رحمه الله تعالى: كَانَ إِمَامَ النَّاسِ عِنْدَنَا بَعْدَ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ عَبْدُاللهِ بنُ عُمَرَ، مَكثَ سِتِّيْنَ سَنَةً يُفْتِي النَّاسَ. وكان من فقهه رضي الله عنه أنه يصلي مع الطوائف المتقاتلة، ويقول: مَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى قَتْلِ أَخِيكَ وَأَخْذِ مَالِهِ قُلْتُ: لَا.









بعلمه وتقواه عصم من الفتن؛ فلم تتلطخ يداه بالدماء، ولم يَلُكْ بلسانه أعراض الناس، وعاش في معامع الفتن قوالا بالحق، ثابت الرأي، فلم ينحز إلى طائفة دون أخرى، ولم يقدروا عليه لا رغبا ولا رهبا، وتجلى ذلك في مقولاته التي كانت من جوامع الكلم في الفتن وأحوالها وأهلها، فقد كَتبَ رَجُلٌ إِلَيه أَنِ اكتُبْ إِلَيَّ بِالعِلمِ كُلِّهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ العِلمَ كَثِيْرٌ، وَلَكِنْ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلقَى اللهَ خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيْصَ البَطنِ مِنْ أَمْوَالِهِم، كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِم، لاَزماً لأَمرِ جَمَاعَتِهِم، فَافعَلْ. وقَالَ: إِنَّمَا مَثَلُنَا فِي هَذِهِ الفِتْنَةِ، كَمَثَلِ قَوْمٍ يَسيرُوْنَ عَلَى جَادَّةٍ يَعرفُوْنَهَا، فَبيْنَا هُم كَذَلِكَ، إِذْ غَشِيتْهُم سَحَابَةٌ وَظُلمَةٌ، فَأَخَذَ بَعضُهُم يَمِيْناً وَشِمَالاً، فَأَخْطَأَ الطَّرِيْقَ، وَأَقَمْنَا حَيْثُ أَدْرَكَنَا ذَلِكَ، حَتَّى جَلاَ اللهُ ذَلِكَ عَنَّا، فَأَبْصَرْنَا طرِيقَنَا الأَوَّلَ، فَعَرفْنَاهُ، فَأَخَذْنَا فِيْهِ.









رضي الله عن ابن عمر وأرضاه، وعن الصحابة أجمعين، ونظمنا في سلكهم متبعين، وحشرنا في زمرتهم يوم الدين، وجمعنا بهم في دار النعيم، إنه سميع مجيب.









وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم...









الخطبة الثانية




الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.









أما بعد:




فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ï´؟ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ï´¾ [البقرة: 281].









أيها الناس: ما بلغ ابن عمر ما بلغ من قوة الديانة، وشدة الاتباع، وغزارة العلم، والعزوف عن الدنيا، والإمامة في الدين إلا باستثماره فترة شبابه، وترويض نفسه منذ الصغر على العلم والعمل، وتملس رضوان الله تعالى في مظانه، فكان همه غير همِّ أقرانه، وكانت همته أعلى من همة أصحابه حتى قال فيه الذهبي رحمه الله تعالى: وَأَيْنَ مِثْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي دِيْنِهِ وَوَرَعِهِ، وَعِلمِهِ وَتَأَلُّهِهِ وَخَوْفِهِ، مِنْ رَجُلٍ تُعرَضُ عَلَيْهِ الخِلاَفَةُ فَيَأبَاهَا، وَالقَضَاءُ مِنْ مِثْلِ عُثْمَانَ فَيردُّهُ، وَنِيَابَةُ الشَّامِ لِعَلِيٍّ فِيْهربُ مِنْهُ! فَاللهُ يَجْتبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ.









وكل علم لا ينفع صاحبه في دينه ودنياه فليس علما نافعا، وكل علم لا يظهر أثر صاحبه عليه في عبادته ومعاملته فهو مجرد حفظ معلومات لا غير، وآلات التسجيل الصماء تحفظ أكثر مما يحفظ.









إن على المعلم في مدرسته، وعلى الطالب في فصله أن يحرصا على التخلق بالعلم، فلا يجاوزا معلومة إلى غيرها حتى يظهر أثرها على المعلم والطالب سواء، فهذا هو العلم الذي يبقى ببقاء أثره، وهو العلم الذي ينفع المعلم والمتعلم، وينتقل نفعه إلى غيرهما.









وإن في سير شباب الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين وسلف هذه الأمة الصالح عجبا عجابا من محبة العلم، والتفاني فيه، والحرص عليه ونفع الناس به، وإتباع العلم العمل ليظهر أثره على صاحبه فيكون قدوة لغيره، وهي خير سير يجب أن يربى عليها شباب المسلمين؛ لأنها لقوم سادت بهم الأمة في وقتهم أمم الأرض كلها، وجمعوا الدين والدنيا، وهي خير من سير العابثين اللاهين التي يبرزها الإعلام المنحرف للشباب ليغرقهم في الشهوات، ويصرفهم عن واجباتهم ومسئولياتهم، ويجعل فئة الشباب من الفتيان والفتيات مجرد أرقام بشرية، تكون عبئا على أسرها ومجتمعها وأمتها..









ولا ينتظرن شاب من مجتمع أن ينتشله مما هو فيه من الفشل أو الكسل أو ضعف الهمة، بل عليه أن يبادر لانتشال نفسه بنفسه، ورفعها عن الدنايا إلى المعالي، وحجزها عما يضرها من اللهو، وحجرها على ما ينفعها من العلم والعمل؛ فإن عاقبة ذلك خير في الدنيا والآخرة، أصلح الله تعالى شباب المسلمين وفتياتهم، ودلهم على ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، ووقاهم شر الأشرار، وكيد الفجار، ومكرهم بالليل والنهار.









وصلوا وسلموا على نبيكم...







الساعة الآن : 08:48 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 57.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 57.55 كيلو بايت... تم توفير 0.22 كيلو بايت...بمعدل (0.38%)]