إنهاء عقد الإيجار
إنهاء عقد الإيجار إذا أَكراهُ كل شهرٍ بدرهم فهل يكون الفسخ قبل دخول الشهر الثاني أو لا يكون إلا بعد فراغ الشهر؟ أ. د. عبدالله بن مبارك آل سيف صورة المسألة: أن يقول: أجرتك داري كل شهر بدرهم فاستأجر الشهر الأول، فمتى يجوز له فسخ الشهر الثاني، أو بعبارة أخرى متى يلزمه الشهر الثاني. هل له الفسخ عند تقضي الثاني، أو ليس له الفسخ إلا قبل دخوله؟ قولان للعلماء. اختيار ابن تيمية: اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن له الفسخ قبل دخول الشهر الثاني، فإذا دخل لزمه الثاني، خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة [1]. تحرير محل النزاع: أ - إذا قال: آجرتك داري عشرين شهراً أو سنة كل شهر بدرهم جاز بالإجماع، لأن الأجر والمدة معلومان [2]. ب - لم يقل أحد من العلماء هنا أنه يلزم في كل الشهور، وإنما يلزم في الأول فقط عند من قال بصحة العقد، ولا يلزم في الثاني إلا بشروطه. ج - ومحل الخلاف إذا قال: أجرتك داري كل شهر بدرهم، ولم يحدد مدة معينة كسنة ونحوها. أقوال العلماء في المسألة: القول الأول: أن الإجارة فاسدة ولا تصح. وهذا مذهب الشافعية [3]، ورواية عند الحنابلة [4]. القول الثاني: أن العقد صحيح لكنه غير لازم، فله إخراجه متى شاء. وهذا مذهب مالك في المشهور عنه [5]. القول الثالث: أن الشهر الأول لازم، ولا يلزم الثاني، ولكل منهما فسخه في أول الشهر أو في آخره.وهذا قول ثانٍ للإمام مالك [6]. القول الرابع: أن العقد صحيح مطلقاً، ولكل منهما فسخه عند تقضي الشهر، فإذا انقضى ولم يفسخ لزم الشهر الثاني، وهذا مذهب الحنفية في المشهور [7]، ومذهب الحنابلة [8]، وقول عند الشافعية[9]. واختلف أصحاب هذا القول في تحديد تقضِّي الشهر فقال بعضهم:: ضابط ذلك عند إهلال الهلال، وقيل: عند رأس الشهر، وقيل:له الخيار في اليوم الأول إلى غروب الشمس [10]. القول الخامس: أن العقد صحيح، ولهما الفسخ قبل انقضاء الشهر فإذا تم لزمهما. وهذا وجه في مذهب الحنفية [11]، والحنابلة [12]، واختاره ابن تيمية. أدلة القول الأول: قالوا:لأن المدة مجهولة فلم يحدد مدة معينة، فلا يدري أيبدأ بالشهر الأول أو بالثاني، وهل يستمر سنة أو أكثر؟ [13]. ونوقش: لا نسلم الجهالة، فالمدة محددة بالشهر، فإن شاءا أبدءا هذا الشهر أو ما بعده، ثم لهما الفسخ قبل انقضاء الشهر ولا ضرر من ذلك. أدلة القول الثاني: قالوا: إن "كل شهر" إنما يقع على شهر غير معين بعينه من الشهور والأيام والسنين، ولا أمد له ينتهي إليه، فهذا يدلك على أنه لم يقع الكراء على أيام بأعيانها، ولا على شهور، ولا على سنين بأعيانها، فإذا لم يقع الكراء على شيء كان للمكاري إخراجه متى أحب، ويلزمه من الكراء قدر ما سكن [14]. ونوقش: أن الشهر إذا سكنه من أوله فقد التزم الطرفان بالعقد فلزمهما إلى نهاية الشهر ولهما الفسخ في آخره، والوفاء بالعقود واجب لازم، ويترتب على إخراجه قبل الشهر ضرر، والضرر يزال. أدلة القول الثالث: 1- قالوا إن ما قدر به أقل ما يجب لزومه بالعقد؛ لأن العقد مقتضاه اللزوم، وما زاد على ذلك فلم يتناوله اللزوم، لأنه زائد على ما قدر به الكراء [15]. وإذا لم يلزم الثاني كان له فسخه أي وقت شاء، في أول الشهر أو في آخره. ونوقش: أنه إذا شرع في الثاني لزم أن يكون حكمه كالأول في اللزوم. 2- أن كلمة (كل) إذا دخلت على مجهول وأفراده معلومة، انصرف إلى واحد لكونه معلوماً، وفسد الباقي للجهالة [16]. أدلة القول الرابع: 1- قالوا: إذا دخل الثاني ولم يترك أحدهما العقد فقد تراضيا على انعقاده في الثاني فصار كأنهما جددا العقد، وكذا عند مضي كل شهر [17]. 2- قالوا: قبل انقضاء الشهر الأول لم يدخل في الشهر الثاني فلا عبرة بالفسخ لأنه قبل وقته[18]. 3- القياس على استئجار الأجير كل دلو بتمرة، وقد ورد النص بجوازه كما في قصة علي بن أبي طالب حينما أجر نفسه كل دلو بتمرة. وفيه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حسن غريب[19]. أدلة القول الخامس: 1- أن الأصل في العقود أن لا تحسب مدتها إلا بعدها، فإذا اعتبرنا الفسخ في أثناء المدة كان ذلك وضعاً للعقد في أثناء المدة؛ لأنه إن لم يفسخ كأنه جدد العقد بعد بداية المدة، فإذا اعتبرنا التجديد قبل المدة كان ذلك موافقاً للأصل أن العقد قبل بداية مدة الإجارة. 2- أن من قال خلاف ذلك فقد اضطرب ووقع في التناقض، إذ قال بعضهم: يكون عند تقضيه، وقال بعضهم: في أول يوم وقال بعضهم: إلى نهاية الشهر. وليس مع كل منهم حجة على ما قال، وهذا يوجب اضطراب هذا القول وتناقضه. 3- أنه لا محذور في ذلك ولا جهالة، والأصل في المعاملات الإباحة. قال ابن القيم: ولا محذور في هذا أصلاً، ولا يفضي إلى تنازع ولا تشاحن، بل عمل الناس في أكثر بياعتهم عليه، ولا يضره جهالة كمية المعقود عليه عند البيع؛ لأن الجهالة المانعة من صحة العقد هي التي تؤدي إلى القمار والغرر، ولا يدري العاقد على أي شيء يدخل، وهذه لا تؤدي إلى شيء من ذلك ا.هـ. [20] قاله ابن القيم في بيع كل أوقية بدرهم، وجعله مقيساً على إجارة كل شهر بدرهم. الترجيح: والراجح - والله أعلم - هو القول الخامس لأمور: 1- قوة حجته وظهورها. 2- ضعف أدلة المخالفين ومناقشتها. 3- سلامته من الاضطراب والتناقض. 4- موافقته للأصل في العقود من تقدم الإيجاب والقبول على بداية مدة الإجارة. وسبب الخلاف هو الخلاف في الإجارة على مدة تلي العقد. وتظهر ثمرة الخلاف في مسائل الضمان في الإجارة، ونحوها من المسائل المترتبة على عقد الإجارة، كما يترتب على ذلك صحة العقد وفساده فهل يأخذ حكم العقد الصحيح أو الفاسد، ينبني على الخلاف في المسألة؟. والله أعلم. [1] انظر: الإنصاف: (5/ 21، 30)، المستدرك: (4/ 53). [2] انظر: بدائع الصنائع: (4/ 182)، المبدع: (5/ 73)، كشاف القناع: (3/ 557)، مطالب أولي النهى: (3/ 599-600). [3] انظر: أسنى المطالب: (2/ 414)، فتاوى السبكي: (1/ 443)، حاشية قليوبي: (3/ 73)، تحفة المحتاج: (6/ 143)، مغني المحتاج: (2/ 459)، تحفة الحبيب: (3/ 208)، التجريد لنفع العبيد: (3/ 180)، نهاية المحتاج: (5/ 281)، حاشية الجمل: (3/ 552). [4] انظر: المغني: (8/ 21)، شرح الزركشي: (4/ 225)، المبدع: (5/ 73)، الإنصاف: (6/ 21، 30)، تصحيح الفروع: (4/ 424). [5] انظر: المدونة: (3/ 519)، منح الجليل: (8/ 25)، المنتقى: (5/ 144). [6] انظر: المصادر السابقة. [7] انظر: المبسوط: (15/ 147)، بدائع الصنائع: (4/ 182)، تبيين الحقائق: (4/ 5)، شرح العناية: (9/ 93)، الجوهرة النيرة: (1/ 269)، شرح فتح القدير: (9/ 93)، البحر الرائق: (8/ 20)، مجمع الأنهر: (2/ 283). [8] انظر: المغني: (8/ 21)، الفتاوى الكبرى: (5/ 103)، الفروع: (4/ 31)، شرح الزركشي: (4/ 225)، المبدع: (5/ 72)، تصحيح الفروع: (4/ 424)، الإنصاف: (6/ 21، 30)، كشاف القناع: (4/ 7،11)، مطالب أولي النهى: (3/ 600). [9] انظر: المنثور في القواعد: (1/ 385)، الأشباه والنظائر: (109). [10] انظر: بدائع الصنائع: (4/ 182). [11] انظر: بدائع الصنائع: (4/ 182)، تبيين الحقائق: (4/ 5). [12] انظر: الإنصاف: (6/ 21، 30). [13] انظر: أسنى المطالب: (2/ 414)، حاشية قليوبي: (3/ 73)، المبدع: (5/ 73)، المغني: (8/ 21). [14] انظر: المدونة: (3/ 519). [15] انظر: المنتقى: (5/ 144)، منح الجليل: (8/ 25). [16] انظر: تبيين الحقائق: (4/ 5). [17] انظر: بدائع الصنائع: (4/ 182). [18] انظر: المغني: (8/ 22)، المبدع: (5/ 72). [19] انظر: مسند أحمد: (1/ 135)سنن ابن ماجه: (2/ 818)، كتاب الرهون (16 )، باب (6)، حديث رقم (2446)، سنن الترمذي: (4/ 645)، كتاب صفة القيامة (38) باب(34) برقم (2473)، والحديث صححه ابن السكن وابن القيم: إعلام الموقعين: (3/ 94)،وذكر ابن حجر أن سند أحمد جيد، وأعله البوصيري بحسين بن قيس حيث ضعفه أحمد وغيره، وأعل سند أحمد بأن مجاهداً لم يسمع من علي. انظر: حاشية سنن ابن ماجه: (2/ 818)، التلخيص الحبير: (3/ 61)، نصب الراية: (4/ 132). [20] انظر: إعلام الموقعين: (3/ 353-354). |
الساعة الآن : 02:32 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour