ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى اللغة العربية و آدابها (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=111)
-   -   المقامة العِيدية (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=234219)

ابوالوليد المسلم 04-06-2020 10:08 PM

المقامة العِيدية
 
المقامة العِيدية













عبدالله بن عبده نعمان العواضي





روى مسلم بن عبدالله قال: غربتْ شمسُ الثلاثين من رمضان، وملأ النفوسَ الفرحُ بإتمام عبادة الرحمن، فهلَّ علينا هلالُ العيد، وأشرق لنا ثغرُ اليوم السعيد، فألبسَ جسدَ الحياة بهجةً وألقا، وكسا الوجوهَ سروراً ورونقا، فبدا الزمانُ تَبرقُ أساريرُ مبسمه، وتلمع على جوانبه جِدّةُ موسمه، وكأنه غسلَ عنه غبار الدهر السالف، ونزعَ عنه أسمالَ الأحزان والمخاوف. فرأى أهلَه قد ألقوا عنهم الثيابَ العتيقة، وارتدوا الألبسة الجديدة الأنيقة، وأهدوا فلذاتِ الأكباد وسائل الفرح والإسعاد، وتوسعوا في المباحات، وأخذوا في الاستزادة من الملذات المشروعات، وتبادل الأقارب والأصدقاء، عبارات التهاني والدعاء.







هكذا كنا نعهد يوم العيد، قبل هجوم البلاء الجديد.



وبينا أنا في عصر هذا اليوم أقرأ رسائل الأحباب، وأحبِّر في الرد عليها لطيف الجواب، إذ سمعت طرق الباب بلا إيذان، فقلت: من زائرنا في هذا الأوان؟!







فمضيت إلى باب الدار والعَجَب يملكني، واليقين بتعيين زائري لا يسعفني، فقلت مَنِ الطارقُ الكريم، في هذا اليوم العظيم؟ فقال: السلام عليك ورحمة الله، هذا صديقك الذي تحب رؤياه.







ففتحت الباب فإذا هو شيخنا أبو الحارث العالم، صاحب الفضائل والمكارم.



فقلت: هذا عيدٌ توِّج بعيد، ويوم سعيد أَتم سعدَه ضيفٌ مجيد، فأهلاً بزائر لا يُمَل، ونازلٍ لا يُستثقل.







ففرشتُ لضيفي العزيز على وجهي المحبةَ والابتسام، وعلى صدري الإجلال والإعظام، ثم شرعنا في نشر طيِّ الحديث المحبوب، وفضِّ ختام القول المرغوب.







فقال: إن هذا اليوم هو بسمة الأيام، وغيثُ السعادة من جدب العام، وعطية لمن أجادوا العبادة في رمضان، وتسابقوا إلى رياض الثواب والغفران، فليس لمن أساء في شهر الصوم عيد على الحقيقة، ولا فرحةٌ كفرحة من أحسنوا فيه الطريقة.







في هذا اليوم شرع الله عباداتٍ تزيد الحسنات، وتمحو السيئات، وتعقد عُرى المحبة بين المسلمين، وتحلّ عقد البغض بين المتشاحنين، وتنزلهم منازل السرور، وتلقي على قلوبهم مباهج الحبور؛ فأمر بصدقة الفطر قبل الذهاب إلى الصلاة، إسعاداً للفقير وإطفاء لجذوة بلواه، ودعا عباده للخروج إلى المصليات الفِساح، لأداء صلاة العيد في تلك البطاح، فيلتقي المسلم بأخيه، فيصافحه ويحييّه، ويهدي إليه ابتسامة الوداد، ويفارقه على عهد التواد.







وفي هذا اليوم تُوصل الأرحام، ويَفيض الكريم بعطائه على الأرامل والأيتام، ويتزاور الأقارب والجيران، والأصدقاء والخلان.







فقلت: لكننا في هذا العام لم نجد للعيد حسن ما ذكرت، ولا ألفينا شواهد مما تحدثت، فلم نذق في رمضان لذةَ الصيام، ولا حلاوة الاجتماع في المساجد للقيام، وعلى إثر ذلك جاء هذا اليوم وبساطُ السعادة مطوي عنا، وطائر الراحة قد أجفلَ منا.







فقال: صدقت، فوباءُ كورونا قد كرَّ بخيلِه ورَجِلِه، فنشر في المجتمعات طلائع عِلله ووجَلِه، فبدَّد جمع الارتياح، وسلبَ من الناس حقوقَ الأفراح، فصاروا في عزلة اجتماعية، وإقامة بيتية؛ خشية العدوى، وتفشي هذه البلوى، فلم تعد المساجد تجمعهم، ولا المجالس تلمُّ فرحتهم، ولا الحدائق تنفِّس كربتهم، ولا لقاءات الأصحاب تخفِّف غُربتهم، فصارت مجامع حياتهم أوحشَ من طللٍ مُقفر، وأوجلَ من بيت مُصفِر، وأضحى هذا العيد أرخصَ من قاضي مِنَى[1]، بعدما كان أغلى أيامِ الهناء، وأمسى أمرَّ من الحنظل، بعدما كان أحلى من المُنى وأفضل.







فغدا الناس وحوشًا بعد الاستئناس، متنافرين بعد الإيناس، سجناء ولكن في الدور، ينتظرون في تلك القبور، تباشير النشور، بذهاب المحذور.







فقد والله" جَرَى الْوَادِي فَطَمَّ عَلَى القَرِيِّ"[2]، ولا تكاد تسمع في الناس إلا شجيًا يشكو إلى شجي.







فأي عيد أتى عليهم وهم في تلك الحال، وأي فرحة ستغمرهم وقد صاروا إلى ذلك المآل؟







فكأنهم يقولون اليوم:






[عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجْديدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


أمّا الأحِبّةُ (فالأدواءُ) دونَهُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


لم يترك المرض المُعدي لنا فرحًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إلا وكدّره ضيقٌ وتنكيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ونلتقي وظِلالُ الحبِّ تُبرِدنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

والسعدُ يغمرنا والأُنسُ موجود https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ونمتطي بهلال العيد أجنحةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إلى السرور ونهرُ السعد مورود https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


واليوم لا فرحٌ يبدو ولا شغَفٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بالعيد حين بدا في الناس كوفيد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif










ثم قال: لكننا نطمع بفضل الرب الكريم، ورحمة الرحمن الرحيم، ليزيل عنا هذا البلاء، ويكشف عن ساحنا هذا الوباء، وحينئذ ستأتي الأفراح بعد الأتراح، ويشرق صبح العافية، برحيل ليالي الداء الداجية، ويعود علينا العيد كما عهدناه سعيدا، ويضحي الغم عن زمنه بعيدا.







فقلت: ما أحسن ما وصفت، وأجمل ما به وعظت، فقد جلوت الأمر على حقيقته، وحكيت عن حاله وسليقته، ووضحت المسألة وضوحا، وتركت باب الرجاء مفتوحا، فكم لله من فضل في كشف البلايا، وبَسْط يده بالعطايا، وطيِّ بُسُط الرزايا، وحينئذ يعود وجه الحياة براق الثنايا.







ثم ودعني وهو ينشد:






يا ربّ إنَّا سائلوكَ المخرجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مما دهانا من بَلا وأزعجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وكدَّر اليومَ الجميل المبهجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حتى دجا وكان قبلُ أبلجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


والقلبُ من جمر العنا توهّجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حتى اكتسى في عيده لونَ الدجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وحارَ في هذي البلية الحجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حتى غدت على الورى مثلَ الشجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فيا إلهي أنتَ نِعم الملتجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وفيك يا ربَّ البرية الرجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


أرسل إلينا بعد هذا فرجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يطوي بساطَ ليلنا الذي سجا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif










[1] وذلك أنه كان يصلي بهم، ويَقْضي لهم، ويَغْرَمُ زيتَ مسجدهم من عنده!!. مجمع الأمثال (1/ 317).




[2] يضرب عند تجاوز الشر حده.













الساعة الآن : 12:53 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 16.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 16.18 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.58%)]