الخلال النبوية
الخلال النبوية الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الخلال النبوية (1) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (أ) الحمدلله؛ رحم هذه الأمة الخاتمة فأكرمها بأفضل خلقه، وبعث فيها خاتم رسله، نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على تعدد مننه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له {كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه}، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ كان أرحم نبي لأمته، وأشدهم شفقة ونصحا، وأكثرهم عفوا وصفحا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فلا منجاة للعباد يوم القيامة إلا بها {وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون}. أيها الناس: رحمة الله تعالى بعباده عظيمة، ومنته عليهم كبيرة، وهو عز وجل ذو الرحمة الكاملة التي لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه، وليس العجز والضعف باعثا عليها بحال من الأحوال؛ وإنما هي رحمة الرحيم الرحمن، الذي وسع كل شيء رحمةً وعلمًا. وأعظم رحمة حظيت بها هذه الأمة من الرب جل جلاله: اختصاصها بنبي الرحمة، الذي ختم الله تعالى به النبوات، وأخرج العباد به من الظلمات، وأنزل ببركته أنواع الرحمات، فأهل الأرض يتراحمون بها إلى يوم القيامة، وصدق الله الكريم إذ يقول {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. فرسالته عليه الصلاة والسلام التي بلغها عن ربه جل في علاه قد أفاضت على العباد بأنواع الرحمات، وشملت الرحمة به عليه الصلاة والسلام الإنس والجن، والطير والحيوان، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، وما من أحد على الأرض منذ بعثته عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة إلا أصابه شيء من تلك الرحمة التي جعلها الله تعالى واصلة للعالمين كلهم؛ ولذلك جاء في حديث مرسل أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة))؛ رواه الدارمي وصححه الحاكم. وأخص العالمين بتلك الرحمة، وأكثرهم حظا منها: من آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، وفلاحهم يكون في الدنيا والآخرة، وكما جاء النص القرآني بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين جاء كذلك بالنص على أنه عليه الصلاة والسلام رحمة للمؤمنين في قوله تعالى: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم}. ومن رحمته عليه الصلاة والسلام لمن آمن به ، ودان بدينه : دعاؤه لهم؛ إذ كان يكثر من ذلك، ولا سيما إذا تذكر حال الأنبياء السابقين مع أممهم، فتغلبه رحمته لأمته فيدعو لهم؛ كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني}، وقال عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}، فرفع عليه الصلاة والسلام يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي))، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال - وهو أعلم - فقال الله تعالى: ((يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك))؛ رواه مسلم. وخطب عليه الصلاة والسلام يومًا فقال: ((أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبى، أو لعنته لعنة فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها صلاةً عليه يوم القيامة))؛ رواه أحمد. وبلغ من رحمته عليه الصلاة والسلام بأمته أنه قدمهم على نفسه في دعوة مجابة أعطاه الله تعالى إياها كما أعطى الأنبياء قبله، فلم يخصها لنفسه بل ادخرها لأمته؛ كما روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيب فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة))؛ رواه الشيخان، وفي رواية لهما - واللفظ لمسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)). صلوات ربي وسلامه عليه، ما أعظم رحمته بنا، وما أشد حرصه علينا!! أَيُلَامُ المؤمنون به أن أحبوه وعزروه ونصروه، وقد آثرهم على نفسه، وخصهم بدعوته، في موقف يا له من موقف؟! والله لا يلومهم على ذلك إلا كافر لم يؤمن به، أو منافق يخفي كفره، أو جاهل لم يعرف فضل الرسول صلى الله عليه وسلم. وما أخبر الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين إلا وقد شملت رحمته الكفار والمنافقين، وبيان ذلك أن المشركين دعوا على أنفسهم بالعذاب فقالوا {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فرفعه الله تعالى عنهم ببركة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، وأما بعد موته عليه الصلاة والسلام فبالاستغفار الذي شرعه لهم، ودلهم عليه {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}. ولما اشتد به أذى المشركين، وصدوا عن دعوته، وعذبوا أصحابه، ولحقه من الهم ما لحقه؛ استأذنه ملك الجبال أن يهلك المشركين، ويسحقهم بين جبلين عظيمين؛ فرحمهم عليه الصلاة والسلام رغم شدة أذاهم له، وأمهلهم مرة بعد مرة، ولم ينتصر لنفسه لما جاءه النصير، بل غلبت رحمته لقومه انتقامه لنفسه؛ فقال عليه الصلاة والسلام لملك الجبال عليه السلام : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))؛ متفق عليه. وسبب ذلك أنه ما أراد عذاب أمته، بل ابتغى أن يكون ذخرا لهم، وخيرا متقدما يجدونه أمامهم بعد وفاتهم؛ كما روى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره))؛ رواه مسلم. ولما دعا على المشركين بالجوع فأصابهم شكوا إليه ما وجدوا فرحمهم عليه الصلاة والسلام فعاد يدعو لهم بالغيث فسقوا؛ كما روى ابن مسعود رضي الله عنه: أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم أعنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله؛ رواه الشيخان، وفي رواية للبيهقي: فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث. ولما قال له أحد أصحابه رضي الله عنهم : يا رسول، الله ادع على المشركين، قال: ((إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة))؛ رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام شديد الأسى، كثير الحزن على من لم يؤمن من قومه، لا يهنأ بعيش وهو يراهم على الكفر؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم، فعاتبه الله تعالى في ذلك {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} أي: لعلك مهلك نفسك أو قاتلها أسفا عليهم إذ لم يؤمنوا، وفي الآية الأخرى {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}، واشتدت به الحسرة عليهم حتى خاطبه الله تعالى بقوله: {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون}، وسلَّاه ربه عز وجل في حزنه هذا بقوله تعالى {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. إنها - والله - لرحمة عجيبة منه عليه الصلاة والسلام لقومٍ كذبوه واستهزءوا به وبدينه، وآذوا أتباعه، واضطروه إلى الهجرة عن بلده، وقتلوا أصحابه، وحاولوا قتله غير مرة، وجمعوا الجموع لحربه، وجرحوه في أحد، وكسروا رباعيته، وهشموا البيضة على رأسه، ومع ذلك كله يرحمهم ويأسى عليهم، ويحزن لأجلهم، ويستغفر لهم قبل أن ينهى عن ذلك فيقول ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) ولم يكن أشدَّ فرحا بشيء فرحه بواحد منهم يدخل في الإسلام. روى أنس رضي الله عنه فقال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: ((أسلم))، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار))؛ رواه البخاري. إن الله تعالى قد رحم بالنبي صلى الله عليه وسلم المشركين فرفع عنهم العذاب بحلمه عليهم، وعفوه عنهم، وطلبه إمهالهم، واستسقائه لهم، ورحم به المنافقين بقبول معاذيرهم إذا اعتذروا، وتصديقهم إذا حلفوا، وحقن دمائهم، ومعاملتهم بظاهر حالهم، ورد سرائرهم إلى الله تعالى، واشتهر ذلك عنه عليه الصلاة والسلام حتى لمزه به المنافقون {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} أي: يستمع لنا، ويقبل أعذارنا، وسنقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا، فكان رد الله تعالى عليهم {قل أذن خير لكم} يعني: أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم. وفي قول الله عز وجل {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال ابن عباس رضي الله عنهما: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف. ومظاهر رحمته عليه الصلاة والسلام للناس أجمعين، بل حتى للحيوان لا يتسع هذا المقام لعدِّها كلها، فضلا عن عرضها بحوادثها وتفصيلاتها ... ومن المعجزات النبوية أن بعض الحيوان كان يحس برحمة النبي صلى الله عليه وسلم فيلجأ إليه يشتكي رهق مالكه، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال: ((من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إليَّ أنك تجيعه وتدئبه)) أي: ترهقه في العمل. رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ... الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه. أيها الناس: كما حفظت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة أظهرت رحمته بالعالمين؛ فإنها حفظت كذلك مواقف أخرى أوقع فيها العقوبة الشديدة على من يستحقها، وليس ذلك مما يتعارض مع صفة الرحمة التي امتلأ قلبه بها، بل إن وضع الرحمة في غير موضعها مما يذم ولا يحمد؛ وذلك كتعطيل الحدود والتعزيرات رحمة بالمجرمين، ولازم ذلك سلب الرحمة عن عموم الناس لحساب أهل الفساد والإجرام. وكما دعا النبي عليه الصلاة والسلام لبعض المشركين بالهداية، واستسقى لهم؛ دعا كذلك على آخرين بالعذاب والزلزلة والنار، فعلم أن الدعاء للمشركين بالهداية جائز كما أن الدعاء عليهم بالعذاب جائز كذلك. ولما عدا يهودي على جارية فأخذ ذهبها، ورضخ رأسها بالحجارة؛ رضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي بين حجرين. وأسلم ناس من العرنيين فألحقهم عليه الصلاة والسلام بإبل الصدقة ليشربوا من ألبانها، ويتداووا بأبوالها، فلما صحوا وتعافوا؛ ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. وفي رواية: فأمر عليه الصلاة والسلام بمسامير فأحميت فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة يستسقون فما سقوا حتى ماتوا. قال أنس رضي الله عنه: فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت، وفي رواية قال أنس رضي الله عنه: فلقد رأيت أحدهم فاغرًا فاه يعضُّ الأرض ليجد من بردها مما يجد من الحر والشدة. وقصتهم مخرجة في الصحيحين. ونقض يهود قريظة العهد، وحكّم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قضيت بحكم الله))، فخدت لهم خنادق في الأرض، وضربت أعناق رجالهم فيها، وكانوا يقاربون ست مئة رجل، وسبيت نساؤهم وذراريهم، وغنمت أموالهم. وكان هذا الجزاء العادل حكم الله تعالى فيمن نقضوا العهد، وأرادوا السوء بالمسلمين وقصتهم أيضا في الصحيحين. كل هذه الحوادث ومثيلاتها تشريع من رب العالمين، أوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حكم النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المجرمين بما سمعتم، وأقرَّ الله تعالى حكمه، فكان ذلك تشريعا، ورسولنا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فعلم أن هذه الأحكام منه صلى الله عليه وسلم - وإن بدت للبعض قاسية - حق لا باطل فيه أبدا. وإزاء هذه الحوادث ومثيلاتها في السيرة النبوية اختلفت مواقف الناس في هذا العصر. وضلَّ فيها طائفتان من الناس: فالكفار والمنافقون، ومن في قلوبهم حقد على الإسلام والمسلمين: أبرزوها كدليل على دموية المسلمين، والقدح بها في النبي صلى الله عليه وسلم، واختزلوا السيرة النبوية في ذلك، مع تعاميهم عن الجرم الذي ارتكبه من استحقوا تلك العقوبات، وإخفائهم للحوادث الكثيرة التي تدل على العفو والصفح والرحمة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. والطائفة الأخرى: قوم قابلوا هؤلاء، فجدَّوا واجتهدوا في الذب عن الإسلام، لكنهم أخطئوا الطريق، ولم يوفقوا في المعالجة؛ إذ حَرِجُوا من مثل تلك المواقف، فراح بعضهم ينكرها ولو كانت ثابتة، أو يتكلف في تأويلها بما يضعف حجته، وينقص عقله، وكثير ممن سلكوا تلك الطريق الوعرة هم ممن سلَّموا ببعض المبادئ الغربية الإلحادية، ويدعون إلى حرية الرأي وحرية التدين التي منها جواز تغيير الدين حسب المنهج الغربي، فيضطرون لأجل ذلك إلى إلغاء حدِّ الردة ... وإذا تحدثوا عن الإسلام اختزلوه في صور السماحة والعفو، ولا يعرضون العقوبات في الإسلام إلا على استحياء وبخفض صوت، ويعللونها بتعليلات سامجة باردة. وسبب ذلك: أن هؤلاء - هدانا الله وإياهم - قد بُهروا بما في القوانين الدولية من مواد حفظ حقوق الإنسان، وجعلوها حقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم حاكموا شريعة الإسلام إليها، فما وافقها رفعوا عقيرتهم مثبتين أن الإسلام سبق إليها، وما خالفها أخفوه أو سكتوا عنه، فإن جوبهوا به من قبل الأعداء أنكروه، أو تأولوه، أو استخرجوا له مذهبا شاذا، أو قولا مهجورا ليس له من الدليل إلا أنه موافق للقانون الطاغوتي الوضعي، فهم قاسوا شريعة الله تعالى المحكمة بشرائع البشر الفاسدة، وحاكموها إلى ما يعارضها ويناقضها وهي الحاكمة، وهذا أُسُّ الخطأ، وسبب الضلال والانحراف. وما علم هؤلاء المفتونون أننا لسنا ملزمين بإقناع أعدائنا بأحكام ديننا، فإن آمنوا فلهم، وإن كفروا فعليهم. لكننا ملزمون بتعظيم شريعة ربنا، والأخذ بجميع أحكامها، وعدم الحرج من شيء منها، ولو كان يزعج الأعداء، ويخالف قوانينهم الوضعية. وليعلم كل من يزور شريعة الله تعالى لأجلهم أنهم لن يرضوا عنه حتى يخرج من دينه، ويتبعهم في إلحادهم؛ فأولى له سلامة دينه من مراعاة أعدائه، وشريعة الله تعالى فوق نقد الناقدين، ويجب ألا تُضاهى بتخبطات القانونيين، وهي شريعة خالدة باقية على رغم أنوف الحاقدين والكارهين من الكفار والمنافقين؛ فمن رضيها وسلَّم بها فهو ينفع نفسه، ومن ردها أو عارضها فهو يضر نفسه، ولن يضر الله تعالى شيئا {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون}. وصلوا وسلموا على ربكم.... |
رد: الخلال النبوية
|
رد: الخلال النبوية
الخلال النبوية (3) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل واخفض جناحك للمؤمنين الحمدلله الكبير المتعال؛ أرسل رسوله بكمال الأخلاق ومحاسنها، ونهاه عن سفاسفها ورذائلها، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما اجتبانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن نازعه فيهما عذبه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [البقرة:223]. أيها الناس: تعرف أقدار الرجال بأعمالهم، ويقاس كبار الناس بأوصافهم، فقوة الجسد يعقبها المرض أو الهرم، وقوة المال والجاه يخلفها الموت، ولا يبقى للعبد عند ربه إلا عمله، ولا يذكره الناس إلا بوصفه، فإن كان ذا عمل جليل، ووصف نبيل؛ أثنى الناس عليه بما علموا من حاله، وإن كان غير ذلك ذكروه بما يستحق، والمؤمنون شهداء الله تعالى في الأرض؛ كما جاء في الحديث الصحيح. ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام قد كُلِّف من الأعمال أشقها وأشرفها، وحاز من الأخلاق أعلاها وأكملها، حُمِّل أعظم رسالة وكُلف بتبليغها، فحملها وبلغها، وأوذي في سبيلها فما وهنت عزيمته، ولا لانت عريكته. وأما الأخلاق فمن ذا الذي يقدر على وصف خلقه، وقد كان خلقه القرآن، ومهما تكلم المتكلمون، ووصف الواصفون في خلقه عليه الصلاة والسلام فلن يفوه حقه، ولن يدركوا وصفه. والتواضع، وخفض الجناح، ولين الجانب؛ كانت أوصافا له عليه الصلاة والسلام، تخلَّق بها امتثلا لأمر الله تعالى حين خاطبه بقوله سبحانه {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88] وفي الآية الأخرى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] وفي آية ثالثة {وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37] وأوصاه جبريل عليه السلام بالتواضع؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذُ يومِ خُلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد، أرسلني إليك ربك قال: أفملكًا نبيًّا يجعلك أو عبدًا رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد، قال: ((بل عبدًا رسولاً))؛ رواه أحمد وصححه ابن حبان. فكان عليه الصلاة والسلام أكثر الناس تواضعًا، وأخفضهم جناحًا، وألينهم جانبًا، وسيرته عليه الصلاة والسلام مليئة بالمواقف والعبر في هذا الخلق العظيم. لقد أنعم الله تعالى عليه بمنزلة ما بلغها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فكان سيد البشر، وأفضل الخلق، وخاتم الرسل، وكان إذا أخبر عن منزلته تلك يقرن إخباره بها بنفي الفخر؛ تواضعا لله تعالى، وإزراء بنفسه الشريفة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر))؛ رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام: أنه كره أن يُفضل على الأنبياء عليهم السلام مع أنه سيدهم وخاتمهم وأفضلهم، فقال عليه الصلاة والسلام ((لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى)) رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولما قال له رجل: يا خير البرية، قال عليه الصلاة والسلام: ((ذاك إبراهيم عليه السلام))؛ رواه مسلم. وما كان يقبل حمية أحد له في تفضيله على غيره من المرسلين عليهم السلام، روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم على العالمين في قَسَمٍ يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تخيروني على موسى))؛ متفق عليه. كان عليه الصلاة والسلام متواضعًا في لباسه ومركبه؛ فيلبس ما تيسر من اللباس، ولا يأنف من ركوب البغال والحمير، ولو شاء صلى الله عليه وسلم للبس الديباج والحرير، ولما ركب إلا أصيلات الخيل، كيف وأغنياء الصحابة رضي الله عنهم يفدونه بأنفسهم وأموالهم!! كيف وقد منَّ الله تعالى عليه بالفتوح وساق إليه أموال اليهود والمشركين!! ولكن تواضعه عليه الصلاة والسلام يأبى عليه أن يسير سيرة الملوك، أو يتخلق خلق الأغنياء، أو يتزيا بزي أهل الدنيا، وهو الذي اختار أن يكون عبدًا رسولا. روى أبو بردة رحمه الله تعالى فقال: دخلت على عائشة، فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من التي يسمونها الملبدة قال: فأقسمت بالله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في هذين الثوبين؛ رواه الشيخان. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: كان عليه الصلاة والسلام يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشملة، والكساء الخشن، والبرد الغليظ. وروى أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية؛ متفق عليه. وربما أردف بعض أزواجه أو أصحابه خلفه، وإذا تلقاه الصبيان أردفهم معه على دابته، وهذا من أبين الدلائل على تواضعه عليه الصلاة والسلام، روى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بصبيان أهل بيته، قال: وإنه قدم من سفر فَسُبق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه، قال: فأُدْخلنا المدينة ثلاثةً على دابة؛ رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام متواضعًا مع أسرته وفي داخل بيته، ويعمل أعمالاً يأنف منها كثير من الرجال، سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج. وروى عروة بن الزبير فقال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، أيُّ شيء كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: ما يفعل أحدكم في مهنة أهله، يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويرقع دلوه؛ رواه أحمد. وفي رواية قالت رضي الله عنها: كان بشرًا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وكان عليه الصلاة والسلام متواضعًا مع الناس، ومن شدة تواضعه أنه لا يعرف من بين أصحابه رضي الله عنهم، فلا يتميز عليهم بملبس أو مركب أو مجلس، كما هي عادة الكبراء والأغنياء، وإذا جاء الغريب ما عرفه من بينهم حتى يسأل عنه؛ كما روى أبو ذر وأبو هريرة رضي الله عنهما فقالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانًا من طين - أي: دكة من طين - فجلس عليه، وكنا نجلس بجنبتيه؛ رواه أبو داود. ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام: أنه يكره أن يقوم الناس له كما هو شأن أهل الدنيا، قال أنس رضي الله عنه: ما كان شخص أحب إليهم رؤيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك؛ رواه أحمد. ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام: أنه يجيب دعوة من دعاه ولو كان فقيرا، ويقبل من الطعام ما كان يسيرا، ولا يشترط في ذلك، أو يغضب من دعوة يراها أقل من حقه، كما هو حال كثير من الكبراء والأغنياء. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((لو دعيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كُرَاع لقبلت))؛ رواه البخاري. وكان عليه الصلاة والسلام يربي أصحابه رضي الله عنهم على ذلك، فيقول لهم: ((إذا دعيتم إلى كُراع فأجيبوا))؛ رواه مسلم. والكُراع من الدابة ما دون الكعب. وقال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب؛ رواه أبو يعلى. ولا يأنف عليه الصلاة والسلام من الضعفة والمساكين، ولا يتبرم من ذوي الحاجات، بل يستمع إليهم، ويقضي حاجاتهم، فيجيب السائل، ويعلم الجاهل، ويدل التائه، ويتصدق على الفقير، وما يرد أحدًا قصده في حاجة، وكان أصحابه رضي الله عنهم يتبركون بالماء يغمس يده الشريفة فيه، فما يردهم، ولا ينزعج من كثرة طلبهم. قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها؛ رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه: أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان، انظري أيَّ السكك شئت حتى أقضيَ لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها؛ رواه مسلم. وأخبار تواضعه عليه الصلاة والسلام كثيرة، وسيرته العطرة مليئة بها، وما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه تكبَّر على أحد، أو فاخر بنفسه أو مكانته، وقد نال أعلى المنازل، وحظي عند ربه بأكبر المقامات، فهو صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والمقام المحمود، وأُسري به إلى السموات العلى حتى بلغ سدرة المنتهى، وبلغ مقاما لم يبلغه مخلوق قبله ولا بعده، وكلمه الرب جل جلاله بلا واسطه، وأنعم عليه بالمعجزات، وأيده بالآيات. وما حكا شيئا من ذلك على وجه الفخر أو المدح لنفسه صلى الله عليه وسلم، ولا تعالى به على الناس، بل كان التواضع صفته، وخفض الجناح سمته، فصلوات ربي وسلامه عليه صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الليل والنهار. والحمد لله رب العالمين. وأقول ما تسمعون.... الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى ربكم، واعرفوا هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، وتخلقوا بأخلاقه؛ فإنه قدوتكم وأسوتكم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. أيها المسلمون: كان التواضع سجية للنبي صلى الله عليه وسلم، ما كان يتكلف التخلق به، أو يتصنعه أمام الناس، وإلا فإن كثيرا من ذوي الشرف والرياسة يظهرون التواضع وقلوبهم متكبرة، وفي القرآن العظيم {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]. وفي أكبر المجامع التي تستخف النفس البشرية، وقد تدفعها إلى نوع من الكبر والتميز على الناس كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يزداد فيها إلا تواضعا إلى تواضعه، وأعظم جمع حضره في حياته، وخطب الناس فيه كان يوم عرفة، ومع ذلك برز للناس على ناقته، وقد توجهت إليه جموع الحجيج!! وانظروا إلى زعماء الدنيا، وقادة الناس إذا وقفوا يخطبون في الجموع الكثيرة التي تهتف لهم أين يقفون؟ وكيف يقفون؟ وقارنوا ذلك مع وقوفه عليه الصلاة والسلام في عرفة على ناقته بكل تواضع وذل لله تبارك وتعالى. ومواقف النصر والفتوح تستبد بالقادة والفاتحين، وتستخف عقولهم،وتستولي على نفوسهم، فيكون فيها فخرهم وعلوهم، ولا يقدر على التواضع فيها إلا أقل الرجال، وما حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم -رغم كثرة فتوحه وانتصاراته- أنه تعالى بنصر، ولا استبد به فتح ، بل يزداد تواضعا إلى تواضعه. ويوم الفتح الأكبر حين دخل مكة منصورا مؤزرا دخلها وهو مطأطئ رأسه تواضعا لله تعالى، حتى إن رأسه ليمس رحله من شدة طأطأته، ولما هابته الرجال فارتعدوا أمامه هون عليهم، وسكن من روعهم، وأزال هيبته من قلوبهم، وأزرى بنفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام. روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه: (أن رجلا كلم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هوِّن عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد))، وفي رواية عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه، فقال له: ((هوِّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد))؛ رواه ابن ماجه وصححه الحاكم. هكذا كان تواضع نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يملك من يقرأ سيرته، ويطلع على صفاته إلا أن يمتلئ قلبه بمحبته؛ ولذلك أحبه كثير من الكفار وإن لم يؤمنوا به؛ لما رأوا من حسن أخلاقه، وجميل صفاته. والناس مفطورون على محبة المتواضعين، وعلى بغض المتكبرين، فإن تكبر عائل ضعيف ازداد الناس له بغضا واحتقارا وكراهية، كما أنه إذا تواضع سيد كبير؛ عظم في قلوب الناس وأحبوه. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد الخلق، وخاتم الرسل، وأعلى الناس مكانة في الدنيا والآخرة، وهو عليه الصلاة والسلام أشد الناس تواضعا لله تعالى، فحري أن يملك القلوب، وأن يحبه كل البشر إلا المستكبرين. وحري بأتباعه صلى الله عليه وسلم أن يكونوا من المتواضعين؛ اتباعا لهديه، وتمسكا بسنته، ولا سيما إذا كانوا من سراة الناس وسادتهم. وواجب على من أنعم الله تعالى عليهم بنعمة الجاه أو المال، فجعل حاجة الناس إليهم أن يقرئوا من السيرة النبوية ما يتعلق بجوانب التواضع، وخفض الجناح، ولين الجانب؛ ليتعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق، وكيفية التعامل مع الناس؛ فإن ذلك من واجبات الإيمان، ومن شكر الله تعالى على نعمه التي أنعم بها عليهم. ولا يحل لذي جاه أن يتكبر على الناس بجاهه وقد أعطاه الله تعالى إياه، ولا لذي مال أن يرى في نفسه ما لا يرى للناس وهو لا يرزق نفسه فضلا عن أن يرزق غيره، فإن تخلق بالكبر من آتاه الله تعالى علوم الشريعة فهو من أقبح الناس؛ إذ لم ينفعه علمه في ذلك، وكان كالحمار يحمل أسفارًا. ومن آتاه الله تعالى نعمة فترفع بها على الناس فقد أوبق نفسه، وكفر نعمة ربه، والله تعالى قادر على أن يسلبه ما أعطاه، فيصير بعد العز إلى الذل، وبعد الغنى إلى الفقر، مع ما ما يناله من فرح الناس عليه، وشماتتهم به، وسخريتهم منه، ويبقى له ما يستحق من عذاب الآخرة. فتواضعوا لله تعالى ربكم، واخفضوا لإخوانكم جناحكم، واحذروا الكبر والمتكبرين، واستعيذوا بالله تعالى من كبرهم {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ} [غافر:27]. |
رد: الخلال النبوية
|
رد: الخلال النبوية
الخلال النبوية (5) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل أمانة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين؛ اصطفى من عباده أنبياء ومرسلين، وأمرهم بتبليغ دينه الحنيف، وهداية الناس إلى صراطه المستقيم، نحمده على دينه وهدايته، ونشكره على رعايته وكفايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، فمن أدَّاها كان من المفلحين، ومن ضيعها كان من الخاسرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله تعالى حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأنيبوا إليه، واستمسكوا بدينه واثبتوا عليه؛ فقد وصاكم الخليلان إبراهيمُ ومحمدٌ عليهما الصلاة والسلام بذلك {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وجاءكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم بنداء الله تعالى لكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. أيها الناس: من فضل الله تعالى علينا، ورحمته بنا، وإحسانه إلينا أن اختصنا بأفضل رسله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم فأرسله إلينا نبيا ورسولاً وهاديًا ومعلمًا: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. لقد أدبه ربه فأحسن تأديبه فتخلق بأخلاق القرآن، وحاز صلى الله عليه وسلم أفضل الخلال، واتصف بأحسن الأوصاف، وبلغ الغاية في الكمال البشري؛ فسبق بأخلاقه من كانوا قبله، ولم يبلغه أحد ممن جاء بعده؛ حتى كُتبت الكتب الطوال في وصف أخلاقه وسجاياه.. كتبها عرب وعجم، ومسلمون وكفار من المؤرخين والمستشرقين وغيرهم بُهروا بما رأوا من جميل خلاله وصفاته. وشهد له بذلك إبَّان بعثته أعداؤه قبل أتباعه: منهم: النضر بن الحارث - وهو من ألد أعداء الدعوة - فقام في قريش في أول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمرٌ ما أشلتم له نَبْلَه بعد، لقد كان محمد فيكم غلاما حَدَثا: أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر! ولا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! ولا والله ما هو بكاهن، وقد رأينا الكهنة وحالهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! ولا والله ما هو بشاعر، ولقد روينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها... وقلتم: مجنون! ولا والله ما هو مجنون، ولقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، انظروا في شأنكم؛ فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم.اهـ فإذا كان هذا وصفُ ألدِّ أعدائه ومكذبيه، ومحاربي دعوته فكيف بوصفِ أتباعه له؟! فصلوات ربي وسلامه عليه صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الجديدان. لقد كانت الأمانة من أَخَصِّ الأوصاف التي اتصف بها منذ نشأته صلى الله عليه وسلم حتى لَصِقت به قبل بعثته، فنعتته قريش بالأمين، واشتُهِر بذلك عند أهل مكة فحكَّموه في خصوماتهم، واستودعوه أماناتهم، فما حُفظت عنه غدرة، ولا عُرفت له في أمانته زلة. وفي الجاهلية جدَّدت قريشٌ بناء البيت حتى بلغوا الحجر الأسود فاختلفوا فيه كلُ بطن منهم يريد أن يحظى بشرف وضعه دون غيرهم (فقال بَطْنٌ من قُرَيْشٍ: نَحْنُ نَضَعُهُ، وقال آخَرُونَ نَحْنُ نَضَعُهُ، فَقَالَوا: (اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَماً، قَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ فَجَاءَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الأَمِينُ، فَقَالُوا له، فَوَضَعَهُ في ثَوْبٍ ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ معه فَوَضَعَهُ هو صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد. واستأمنته خديجة رضي الله عنها على أموالها فاتجر بها، وأربحها ضِعْفَ ما كان يُربحُهَا غيرَه، فما كتمها شيئا، ولا أخفاه عنها -وكان ذلك قبل بعثته صلى الله عليه وسلم- فأرسلت إليه خديجة تعرض عليه الزواج، فَقَبِل وكانت هي زوجتَه الأولى، وأولَ من صدقه واتبعه من الناس. ولما بعثه الله تعالى إلى الناس رسولا عاداه أهل مكة، وآذوه وعذبوا أصحابه، وكانت ودائعهم عنده فما خانهم في شيء منها، ولا هدَّدهم بها، بل حفظها لهم مع عداوتهم له. ولما خرج مهاجرًا إلى المدينة فرارا بدينه من قريش وأذاها خلَّف وراءَه عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه ليردَّ الودائع إلى أهلها فأقام علي رضي الله عنه بمكة بعد مخرج رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أياما حتى أدى للناس ودائعهم التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلُ على كثرتها، وأن بيته عليه الصلاة والسلام كان مستودعَ ودائعهم. وكان من أوائلِ ما دعا الناسَ إليه إبَّان بعثته صلى الله عليه وسلم: أداءُ الأمانة، ودليل ذلك أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قابل النجاشي رحمه الله تعالى، وسأله النجاشي عن دينهم، أجابه جعفر رضي الله عنه فقال له: (أَيُّهَا الْمَلِكُ، كنا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ ونسيء الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِىُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا على ذلك حتى بَعَثَ الله إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إلى الله لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ ما كنا نَحْنُ نعبد وَآبَاؤُنَا من دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحديث وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ...)؛ رواه أحمد وصححه ابن خزيمة. فشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمينًا، وأنه يدعوهم إلى أداء الأمانة، بل شهد له أبو سفيان رضي الله عنه بذلك قبل أن يسلم لما سأله عظيم الروم هرقل عن ذلك ثم قال هرقلٌ: (وَسَأَلْتُكَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شيئا وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كان يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ والصدق وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، قال: وَهَذِهِ صِفَةُ النبي)؛ رواه البخاري. وكما لم يَسْلَم صلى الله عليه وسلم من طعن الطاعنين في دعوته وصدقه، فكذبوه ورَدُّوا ما دعاهم إليه فإنه لم يسلم من طعن بعضهم في أمانته، وتخوينهم له مع أن الناس قد شهدوا له بالأمانة بمن فيهم أعداؤه صلى الله عليه وسلم، ولكن أصحاب القلوب المريضة، والنفوس الضعيفة يفترون الكذب، ويرمون غيرهم بأدوائهم. ولم يستثنوا من ذلك الأمينُ في الأرض على دين الله تعالى ووحيه محمد صلى الله عليه وسلم فرماه بالخيانة بعض أهل الحقد والجهل؛ كما روت عَائِشَةُ رضي الله عنها قالت: (كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بُرْدَيْنِ قِطْرِيَّيْنِ وكان إذا جَلَسَ فَعَرِقَ فِيهِمَا ثَقُلَا عليه وَقَدِمَ لِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ بَزٌّ من الشام فقلت: لو أَرْسَلْتَ إليه فَاشْتَرَيْتَ منه ثَوْبَيْنِ إلى الْمَيْسَرَةِ فَأَرْسَلَ إليه فقال: قد عَلِمْتُ ما يُرِيدُ مُحَمَّدٌ، إنما يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِمَالِي أو يَذْهَبَ بِهِمَا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَذَبَ قد عَلِمَ أَنِّي من أَتْقَاهُمْ لله وَآدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ)؛ رواه النسائي. وذات مرة جاءه عليه الصلاة والسلام مال من اليمن فقسمه في بعض كبار نجد ليتألفهم على الإسلام فغضب بعض من لم يُعطوا (فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ ناتئ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فقال: اتَّقِ اللَّهَ يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ إن عَصَيْتُهُ؟! أَيَأْمَنُنِي على أَهْلِ الأرض ولا تَأْمَنُونِي؟!) وفي رواية فقالصلى الله عليه وسلم: (ألا تَأْمَنُونِي وأنا أَمِينُ من في السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً) متفق عليه. وما ضرَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تخوينُ الخائنين، ولا تكذيب المكذبين، ولا استهزاء المستهزئين، بل أعلى الله تعالى في العالمين ذكره، وأظهر دينه، وكثرَّ أتباعه، وعصم أمتَه من الإجماع على ضلالة {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. بارك الله لي ولكم في القرآن.... الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. أيها المسلمون: كانت أعظمَ أمانة تحملها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمانةُ دين الله تعالى وحمله وتبليغه والدعوة إليه والقتال عليه والهجرة لأجله؛ فأدَّى رسولنا صلى الله عليه وسلم هذه الأمانة العظيمة كما كُلِّف بها، وبلغها كما تحملَّها، وهانحن بعد ما يزيد على ألفٍ وأربعِ مئةٍ وأربعين سنة نتظلل فيء أمانته التي أداها، وننعم بشريعتها وأحكامها، ونفخر بالانتساب إليها، فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير ما جزى نبيا عن أمته، والحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله تعالى. لقد حمَّله الله تعالى أمانة هذا الدين وثقله وتبعاته {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] وأمره ببلاغه للناس {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] فكان أبو القاسم صلى الله عليه وسلم كفوا لما حُمِّل، فبلغه كما أُمِر، وصدع به جهارا أمام الناس حتى بَلَغَ القاصي والداني. ساومته قريش على التخلي عن هذه الأمانة العظيمة فما تخلى عن أدائها، ثم ساوموه على الإخلال بها حين دعوه ليعبد آلهتهم سنة ويعبدوا الله تعالى سنة، فما وافقهم ولا أخلَّ بما حُمِّل من الأمانة، وأرادوا من عمه أبي طالب أن يكفه عن دعوته أو يخليَ بينهم وبين ابن أخيه، فكلمه عمه نا فقال له : يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا، فلا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق، فقال:يَا عَمَّاهُ ، والله لَو وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِينِي وَالقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أنْ أَتْرُكَ هذا الأمْرُ مَا تَرَكْتُه حتَّى يُظْهِرَهُ الله أو أهْلَكَ فِيه. ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل إليَّ يا ابن أخي، فأقبل، فقال: اذهب فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً. وفي مقام آخر: قال صلى الله عليه وسلم: ((مَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، والله إني لاَ أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ على الذي بعثني الله له حتى يُظْهِرَهُ الله له أو تَنْفَرِدَ هذه السَّالِفَةُ)) يعني: رقبته الشريفة. رواه أحمد. وبسبب هذه الأمانة العظيمة التي تحملها أوذي في الله تعالى، وحُصِر أتباعُه وذووه في الشعب ثلاث سنوات جاعوا فيها جوعا شديدا، وهلك منهم من هلك. وبسبب هذه الأمانة خنقه بعض المشركين حتى كاد أن يموت، ووضعوا سلا الجزور على ظهره وهو يصلي. وبسببها تآمر الأعداء على قتله غير مرة، وأُخرجوه صلى الله عليه وسلم من بلده، وعذبوا أصحابه، وقُتلوا منهم من قتلوا رضي الله عنهم وأرضاهم. وبسببها حمل صلى الله عليه وسلم السلاح، ودافع عن أمانته حتى شُجَّ رأسُه، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه؛ فما لانت عريكته، ولا وهنت عزيمته، وما زادته المحن والبلايا إلا إصرارا على أداء الأمانة، وتبليغ الرسالة، حتى أكمل الله تعالى به الدين، وأتم النعمة، وانتشر الإسلام. وفي أكثر جمع في حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم، وأعظم نسكٍ في الحج، وأفضل يوم وقف صلى الله عليه وسلم في عرفة حاجا حجة الوداع يخطب في الجموع العظيمة التي حجت معه، ويسألهم فيقول: (أَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قد بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فقال بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى الناس اللهم اشْهَدْ اللهم اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة رضي الله عنه: (ألا إنَّ ربي عز وجل داعِيَّ وإنه سائلي: هل بَلَّغْتَ عِبَادَي؟ وأنا قَائِلٌ له: رَبِّ قد بَلَّغْتُهُمْ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ) رواه أحمد. ولا نقول إلا كما قال الصحابة رضي الله عنهم حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا حُمِّل من الأمانة، فنقول: إنا نُشْهِدُ الله تعالى وملائكته عليهم السلام والصالحين من عباده أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وما فرَّط في شيء من أمانته بل أداها كاملة كما حملها، اللهم فاشهد. أيها الإخوة: ومن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن نكون أُمناء فيما حُمِّلنا من أمانات، أعظمها وأجلها هذا الدين العظيم الذي ندين به، ويريد الكفار والمنافقون والمرتدون إخراجنا منه إلى أفكارهم الضالة، ومذاهبهم المنحرفة. ومن أداء الأمانة فيه: الثباتُ عليه مهما كانت التبعات؛ فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم تحمل في سبيله ألوان الأذى والعذاب. ومن أداء الأمانة فيه: الدعوة إليه، مع الصبر على الأذى فيه في زمن ضعف فيه دعاة الحق، وقوي دعاة الباطل، واستأسد المفسدون في الأرض على الناس. ومن أداء الأمانة فيه: الذبُّ عنه وعن مبلغه إلينا محمد صلى الله عليه وسلم وقد اعتدى الكفار والمنافقون عليه وعلى دينه وشريعته، يريدون طمسها وإخراج الناس منها، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو قوام هذا الدين، وسبب بقائه في الأرض. فكونوا - يا عباد الله - كما كان أسلافكم أمناء على دين الله تعالى تؤدنه كما بَلَغَكم عنهم، وتردون عنه اعتداءات الكفار والمنافقين، وتفخرون به ولو تنقصه أعداؤكم؛ فإن الدعوة إليه والفخر به من أحسن القول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت: 33]. |
رد: الخلال النبوية
الخلال النبوية (6) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم الحمدُ لله ربِّ العالمين، {يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]، نحمده على ما أعطى، ونشكره على ما أَوْلى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، خَلَقَ خلقه ليعبدوه، فبلغهم دِينَه، وأقام عليهم حُجته، فمنهم مَن آمن، ومنهم مَن كفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اصطفاه ربُّه للناس رسولاً، وأَمَرَهُ بالبلاغ، ولم يكلِّفه بالحساب، فبلَّغ - صلى الله عليه وسلم - دينَ الله - تعالى - وأمر أمَّته بالاتِّباع، ونهاهُمْ عن الابتداع؛ طاعةً لربهم، وإقامة لدينهم، وحذرًا من شياطينهم، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، أصدق هذه الأمة محبةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأشدها اتِّباعًا له، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعدُ: فاتَّقوا الله ربكم، وأقيموا له دينكم، واتَّبِعوا هدي نبيِّكم، فلقد كُفِيتم الاصطفاءَ والتشريع، وأُمِرتم بالامتثال والتطبيق؛ {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشُّورى: 13]. أيها الناس: اختار الله - تعالى - لتبليغ رسالتِه أكملَ الناس وأحسنَهم، فاصطفاهم لذلك، وجعلهم أمناء على وحْيِه، دعاةً لدِينه، هداةً لخَلْقه؛ {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، حباهُم ربُّهم - سبحانه - منَ الكمال البشري ما لم ينلْه غيرُهم، وفيهم من الصفات الحسنة ما لم يكن في سواهم؛ فهم - عليهم السلام - أرحم الناس وأشجعهم، وأصبرهم وأحلمهم، وأصدقهم وأكرمهم، وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أحسنَهم خُلقًا، وأكملهم وصفًا، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان خُلُقُهُ الْقُرْآن"؛ رواه أحمد. والشجاعةُ خُلُق عظيم، يدَّعيها أكثرُ الناس لأنفسهم، ولا تَثبُت إلاَّ في القليل منهم، عدَّها الحكماءُ عمادَ الفضائل، ورأسَ المكارم؛ إذ جعلوا أصلَ الخير كلِّه في ثبات القلب، ورباطة الجأش، حتى قال بعض العلماء: إن كل كريهة تُرفع، أو مكرمة تُكتسب، لا تتحقق إلا بالشجاعة. وأنبياء الله تعالى هم أشجعُ الناس، وإلاَّ فكيف واجهوا أقوامهم فيما أَلِفُوا، وقارعوهم بما أشركوا؟! ولم ينكلوا عن دعوتهم أو يَتَزَحْزَحُوا، مع ما نالهم منَ العذاب والأذى، فمنهم مَن ضُرب، ومنهم مَن جُرح، ومنهم مَن قُتل، وأُخرجوا من ديارهم وأموالهم بسبب دعوتهم. لقد واجه نوح - عليه السلام - قومَه ألفَ سنةٍ إلاَّ خمسين عامًا، يأمرهم بالتوحيد، ويَنْهاهُم عن الشِّرك، وكسر الخليل - عليه السلام - أصنامَ قومه، فأضرموا النار أمامه؛ ليقذفوه فيها، فما وهنتْ عزيمتُه، ولا رجع عنْ دعوته، ولا وافق قومَه، فقذفوه في نارهم، وهو ثابتُ القلب، رابط الجأش، قوي العزيمة. ووقف موسى - عليه السلام - أمام أَعْتَى طاغية في البَشَر، فلم يَتَلَجْلَجْ في كلامِه، ولا تَرَدَّدَ في دعوته؛ بل صدع بالحق أمامَه، وقذف إليه برهانَه، وأطال مناظرتَه، وخصمه في محاجته، ومَن يقدر على المثول أمام الطغاة إلا قلائل الرجال، وأفذاذ الشجعان؟! فصلوات الله - تعالى - وسلامه على نوح وإبراهيم وموسى، وسائر المرسلين والنبيين، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]. وأما نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أوتي من الشجاعة أعلاها، ومن النجدة أوفاها، وكان فيه من ثبات القلب ما لم يكن في غيره، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً، ولا كَذُوبًا، ولا جَبَانًا))؛ رواه البخاري. صعد - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، ونادى قريشًا بطنًا بطنًا، حتى اجتمعوا، فصدع بما أُمر أمامهم، وقذف بالحق باطلَهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - وحده، وأهل مكة ضده، ومَن آمن معه لا يقدرون على نصرته، فما أشجعَه! وما أشدَّ بأسَه! وما أعظمَ جرأتَه! ولما أسرى به ربُّه - عز وجل - وعرج به إلى السموات، لم يستر هذه الحادثةَ العظيمة عن الناس؛ بل قذف بها بينهم غيرَ هيَّابٍ منهم، ولا آبهٍ بتكذيبهم وسخريتهم، فارتدَّ أناس بسببها، ولكن أبا بكر صدَّقها، ومن يومها سُمِّي الصدِّيق - رضي الله عنه وأرضاه. لقد كان أنس بن مالك - رضي الله عنه - لصيقًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أعلم الصحابة بأوصافه وأحواله؛ لأنه لازَمَه في الخدمة عشرَ سنوات، فيصفه أنس - رضي الله عنه - بأنه - صلى الله عليه وسلم - أشجعُ الناس، ويَذكُر حادثةً غريبة تدلُّ على ذلك، فيقول - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ الناس، وكان أَجْوَدَ الناس، وكان أَشْجَعَ الناس، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَاجِعًا، وقد سَبَقَهُمْ إلى الصَّوْتِ وهو على فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ في عُنُقِهِ السَّيْفُ، وهو يقول: ((لم تُرَاعُوا، لم تُرَاعُوا))، وفي رواية: "فَزِعَ الناس فَرَكِبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ بَطِيئًا، ثُمَّ خَرَجَ يَرْكُضُ وَحْدَهُ، فَرَكِبَ الناس يَرْكُضُونَ خَلْفَهُ، فقال: ((لم تُرَاعُوا))؛ رواه الشيخان. وهذا أبلغ ما يكون شجاعة إذ سبق - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى مصدر الصوت وحده، شاهرًا سيفه، ولم ينتظر أحدًا يُرَافقه، بل لم يصبر حتى يُسرج له الفرس، وركبه عريًا بلا سرج. يقول القاضي عياض - رحمه الله تعالى -: "وأمَّا الشجاعة والنجدة، فكان - صلى الله عليه وسلم - منهما بالمكان الذي لا يُجهل، قد حضر المواقف الصَّعبة، وفرَّ الكماة والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة، وحفظت عنه جولة سواه - صلى الله عليه وسلم". اهـ. ودَلَّتِ المواقفُ الكثيرة في غزواته على شجاعته - صلى الله عليه وسلم - إذ كان الصحابةُ - رضي الله عنهم - إذا اشتَدَّ البأسُ يلوذون به، وهو تلقاء أعدائه، ثابتٌ في مكانه، قال عَليٌّ - رضي الله عنه -: "لقد رَأَيْتُنَا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا إلى العدو، وكان مِن أشدِّ الناس يومئذٍ بأسًا"، وفي رواية: "كنَّا إذا احمرَّ البأسُ، ولقي القومُ القومَ، اتَّقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يكون منَّا أحدٌ أدنى منَ القوم منه"؛ رواه أحمد. وفي أُحُد، لَمَّا انْهَزَم الناسُ ثَبَتَ - صلى الله عليه وسلم - في نفرٍ قليل من أصحابه - رضي الله عنهم - يقول سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: "لَمَّا جال الناسُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الجولة يوم أحد، تنحيت فقلت: أذود عن نفسي، فإمَّا أن أستشهد، وإما أن أنجوَ حتى ألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينا أنا كذلك إذا برجل مُخَمِّرٍ وجهَه ما أدري مَن هو، فأقبل المشركون حتى قلت: قد ركبوه، ملأ يده من الحصى، ثم رمى به في وجوههم، فنكبوا على أعقابهم القهقرى، حتى يأتوا الجبل، ففعل ذلك مرارًا، ولا أدري مَن هو، وبيني وبينه المقداد بن الأسود، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه، إذ قال المقداد: يا سعد، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوك، فقلت: وأين هو؟ فأشار لي المقداد إليه، فقمت ولكأنه لم يصبني شيء منَ الأذى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أين كنتَ اليوم يا سعد؟))، فقلتُ: حيث رأيت رسول الله، فأجلسني أمامه، فجعلت أرمي، وأقول: اللهم سهمك فارمِ به عدوك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اللهم استجبْ لسعد، اللهم سدد لسعد رميته، إيه سعد، فداك أبي وأمي))، فما من سهم أرمي به إلا وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم سدد رميته، وأجب دعوته))، قال الزُّهْري - رحمه الله تعالى -: "إنَّ السِّهام التي رمى بها سعد يومئذٍ، كانت ألف سهم"؛ رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. ولما جرح النبي - صلى الله عليه وسلم - وطمع في قتله أبيُّ بن خلف، وأقبل عليه مقسمًا أنه سيقتله، وأراد بعض الصحابة البروز إليه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه))، فلما دنا تناوَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحربة، قال الراوي: فانتفض بها انتفاضة تطايرنا بها تطاير الشَّعْرَاءِ - والشَّعْرَاءُ ذباب صغير له لدغ - عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها، وإنما تطاير الصحابة - رضي الله عنهم - مِن شدة شجاعته وجرأته - صلى الله عليه وسلم. وفي غزوة حُنين، حين انْهَزَمَ الناس وولوا، ثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكانه، وقابل المشركين وحده، سُئِل البراء - رضي الله عنه -: "أَوَلَّيْتُمْ يوم حُنَيْنٍ؟"، فقال: أَمَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُوَلِّ يَوْمَئِذٍ، كان أبو سفيان بن الحارث آخِذًا بعنان بغلته، فلما غَشِيَهُ المشركون نزل فجعل يقول: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب))، قال البراء - رضي الله عنه -: "فما رُئِيَ من الناس يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ منه"، وفي رواية قال: "كنا والله إذا احْمَرَّ الْبَأْسُ، نتَّقي به وإنَّ الشجاع منا للَّذِي يُحَاذِي بِهِ - يَعْنِي النبي - صلى الله عليه وسلم"؛ رواه الشيخان. وهذه غاية الشَّجاعة والإقدام؛ إذ كان - صلى الله عليه وسلم - في ساحة الوغى على بغلة لا تصلح للكرِّ ولا للفر، ويسيرها باتجاه المشركين وهو يرتجز، ويفصح عن نفسِه، مع علمه بأنه غاية المشركين وهدفهم، ومن عادة القادة إذا انهزمتْ جُيُوشهم الفرار أو الاختفاء، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه صاح بالناس حتى آبوا إليه، فكَتَبَ الله تعالى لهم النَّصر بعد الهزيمة، وكان - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه - رضي الله عنهم - من أولى الناس بوصف الله تعالى في قوله - سبحانه -: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. بارك الله لي ولكم.... الخطبة الثانية الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، ولا عُدوان إلاَّ على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له ولِيُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين. أما بعدُ: فاتقوا الله - عباد الله - وراقبوه، والزموا طاعته، ولا تعصوه؛ {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور: 52]. أيها المسلمون: إن هذه الأخلاق الحسنة، والصفات العالية، والشجاعة الفائقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تدعو إلى محبته وإكباره؛ ولذا أحبَّ أعداؤه صفاته - عليه الصلاة والسلام - وإن لم يؤمنوا به. وأما المؤمنون، فإنهم يحبونه - صلى الله عليه وسلم - أشد مِن مَحَبتهم لأنفسهم وأهلهم وأزواجهم وأموالهم؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - سبب هدايتهم وعبوديتهم لله تعالى، ليس لأحد منَ الفَضْل علينا بعد الله تعالى كما له - عليه الصلاة والسلام - إذ إنَّ أعظم خير حَصَّلْناه - وهو الإيمان - كان على يديه، وأعظم شرٍّ حذرناه - وهو الكفر - كان بسبب تحذيره، ومن نجا من النار، ودخل الجنة من هذه الأمة فإنما كان ذلك بتوفيق الله تعالى ورحمته، ثم بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدايته، ومن هنا كانت محبته - صلى الله عليه وسلم - تالية لمحبة الله تعالى، ومقدَّمة على كلِّ شيء سواها. ومَن قدَّم محبة الله تعالى ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل محبوب مهما كان، نال حلاوة الإيمان؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث مَن كنَّ فيه، وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مِمَّا سِوَاهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبُّهُ إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النَّار))؛ رواه الشيخان. ومِن أعظم البراهين على محبة الله تعالى: مَحَبّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ودليل هذه المحبَّة مخالفة الهوى؛ طاعة لأمره، واتباعًا لسنَّته؛ كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به))، وقد نهانا - صلى الله عليه وسلم - عن الابتداع في الدين، كما نهانا عن تقليد النصارى في إطرائهم للمسيح - عليه السلام - فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تطروني كما أطرت النَّصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله))؛ رواه البخاري. وإن الموالد التي تمالأ عليها المبتدِعة في كل عام، يحيونها بمناسبة ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمِن أعظم المخالفة لهديهِ - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه - رضي الله عنهم - وهدي التابعين لهم بإحسان؛ إذ أحدثها أهل البدعة منَ العُبيديين الباطنيين في القرن الرابع الهجري، ثم سار على سَنَنِهم أهلُ الجَهَالة والهوى، فأهل الهوى يتأكلون بتلك الموالد، ويحققون بها مكاسب سياسية واقتصادية، وأهل الجهالة يتبعونهم في ضلالهم على غير هدى، وصارت هذه الموالد موسمًا للمبتدعة في كل عام، يظهرون فيه من الشعائر والمراسم في أكثر ديار أهل الإسلام ما لا يظهرونه في العيدين الشرعيين، ويُنقل ذلك عبر وسائل الاتصال الحديثة؛ ليُخدع بزخرفته وبهرجته عامة الناس وجهالهم، فما أشدَّ غربةَ السنَّة بين المسلمين! وما أعظم تمكن البدعة في أوساطهم! وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء))؛ رواه مسلم. وصلوا وسلموا على نبيكم.... |
رد: الخلال النبوية
الخلال النبوية (7) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل صبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل الهجرة الحمد لله اللطيف الخبير، يُصيب أولياءه بالشدائد؛ ليبلو صبرَهم، ويستخرج ضراعتهم، ويرفع ذكرهم، ويُعلي في الجنة منازلَهم؛ نحمده على المنع والعطاء، والضراء والسراء، فهو - سبحانه - أعلمُ بما هو خير لنا، وأنصح لنا من أنفسنا، فالخيرُ بيديه، والشر ليس إليه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، يجزي على طاعته جزاءً غير منقوص، ويُعطي عطاء غير مجذوذ، وهو الجواد الكريم، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسلَه الله - تعالى - بالهُدى ودين الحق، فبلَّغ رسالاتِ ربه، ونصح لأمته، وصبر على أذى قومه، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واستقيموا على دينكم، واصبروا على أذى المؤذين فيه من الكُفَّار والمنافقين؛ فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين؛ ï´؟ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ï´¾ [السجدة: 24]. أيها الناس: كلُّ دعوة من الدعوات - سواء كانت دعوة حق أم كانت دعوة باطل - لها رجالها الذين يدعون إليها، ويُقنعون الناسَ بها، ويصبرون على الأذى فيها، ويُضحُّون بأموالهم وأنفسهم لأجلها، ولا يشتكون ما يصيبهم بسببها. والدعوة لعبادة الله - تعالى - وحدَه هي أعظم الدعوات وأجلُّها، وأكثرها استحقاقًا لبذل كل نفيس في سبيلها؛ لأنَّ ثَمنها رضا الله - تعالى - وجنته، وأيُّ فوز أعظم من رضا الله - تعالى - عن عبيده، ومكافأتهم بالقرب منه في جنات الخلد، والتنعم بالنظر إلى وجهه الكريم؟! جعلنا الله - تعالى - جميعًا ووالدينا والمسلمين من أهل هذا الفوز العظيم. وأعظم الصبر وأكمله وأفضله صبر الأنبياء - عليهم السلام - لأنَّه احتمال للمكاره في ذات الله - تعالى - دون ضَجَر ولا شكوى، وقد منحهم الله - تعالى - من الصبر أضعاف ما مُنح غيرهم؛ لأنَّهم يحملون أثقلَ ما يَحمله بشر، فيبلغونه للناس، ويصبرون على أذاهم؛ بسبب تبليغه، وقد قال الله - تعالى - لنبيه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ï´؟ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ï´¾ [المزمل: 5]. وقد حمل نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمانة هذا القول الثقيل من ربِّه - جل جلاله - فبلغه للناس، ودعاهم إليه، وصبر على أذاهم فيه: أذى القول، وأذى الفعل، ومن أذى القول أنَّهم كذَّبوه، واتَّهموه بالجنون والسحر؛ ï´؟ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُورًا ï´¾ [الفرقان: 8]، ï´؟ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ï´¾ [الصافات: 36]، ï´؟ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ï´¾ [الدخان: 14]، ï´؟ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ï´¾ [ص: 4]، وزعموا أنَّ ما يأتيهم به من كلام الله - تعالى - هو من الوساوس والأحلام، وأنَّه نظم شعر وسجع كهانة؛ ï´؟ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ï´¾ [الأنبياء: 5]، فصبر - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليهم رغم ما رَمَوه به من هذه الأوصاف البشعة زورًا وبُهتانًا؛ ليصرفوا الناس عن دعوته، ويؤلبوهم عليه. وإذا قَدِمَ غريبٌ يريد البيتَ تواصوا بينهم على تشويه سُمعة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والطعن في عقله، وتحذير الناس منه؛ حتى ينصرفوا عن دَعوته، ومن أعظم ما يواجهه داعيةُ الحق أن يفتريَ خصومه عليه الكذب، ويلصقوا به ما ليس فيه، فينصرفَ الناس عنه بسبب ذلك، وصَبَر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ذلك كله، ولم يتنازل عن دعوته، ولم يضعف في تبليغها، ولم يغيِّر منهجه إرضاء للناس، كما هو حال بعض المنتسبين للعلم والدَّعوة في هذا الزمن؛ إذ حرَّفوا دين الله - تعالى - وأضلوا الناس؛ إرضاء للبشر، ومسايرةً لأهوائهم، ولهثًا وراء الأضواء والشهرة، ولو بالباطل. وفي أول الدعوة جاء الحارِثُ بن الْحَارِثِ الْغَامِدِيُّ مع أبيه إلى مكة، ورأى الناس مُجتمعين على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "قلت لأَبِي: ما هذه الْجَمَاعَةُ؟ قال: هَؤُلاءِ الْقَوْمُ قَدِ اجْتَمَعُوا على صابئ لهم، قال: فَنَزَلْنَا، فإذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو الناس إلى تَوْحِيدِ الله - عزَّ وجلَّ - وَالإِيمَانِ بِهِ وَهُمْ يَرُدُّونَ عليه وَيُؤْذُونَهُ، حتى انْتَصَفَ النَّهَارُ وَانْصَدَعَ عنه الناس..."؛ رواه الطبراني، وصححه أبو زرعة الدمشقي. ولكنَّ أذى المشركين لم يقتصر على القول وحدَه، بل امتدَّ إلى الفعل، فكانوا يُعذبون أصحابه - رضي الله عنهم - أمامه، ويتآمرون عليه، ويتنافسون في إلحاقِ الضَّرر به، فصبر - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليهم صبرًا جميلاً، حدَّثَ ابن مسعود - رضي الله عنه –: "أَنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وأبو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ له جُلُوسٌ إِذْ قال بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلا جَزُورِ بَنِي فُلانٍ فَيَضَعُهُ على ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إذا سجد؟ فانبعث أَشْقَى الْقَوْمِ فجاء به فَنَظَرَ حتى سجد النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وَضَعَهُ على ظَهْرِهِ بين كَتِفَيْهِ وأنا أَنظُرُ لاَ أغيِّر شيئًا، لو كان لي مَنَعَةٌ، قال: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، ويُميل بعضهم على بَعْضٍ وَرَسُولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حتى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عن ظَهْرِهِ"؛ رواه الشيخان. وفي موقف آخر من الأذى والصبر عليه قال عُرْوَة بن الزُّبَيْرِ - رضي الله عنهما -: "سَأَلْتُ عَبْدَ الله بن عَمْرٍو - رضي الله عنهما - عن أَشَدِّ ما صنع المشْرِكُونَ برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: رأيت عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ جاء إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يُصَلِّي فَوَضَعَ رداءَه في عُنُقه، فَخَنَقَهُ به خَنْقًا شديدًا، فجاء أبو بَكْرٍ حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله وقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من رَبِّكُمْ"؛ رواه البخاري. وذات مرة اجتمعوا عليه يَضربونه - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى كادوا أن يقتلوه؛ كما روى أنس - رضي الله عنه - قال: "لقد ضربوا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرة حتى غُشي عليه، فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فجعل يُنادي: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! فقالوا: مَن هذا؟ قِيلَ: ابن أبي قحافة المجنون"؛ رواه أبو يعلى. ولما عزم صناديدُ قريش على قتله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عرض نفسه على قبائل العرب، وعلى أهل الطائف؛ ليمنعوه من القتل، لا لشيء إلا ليبلِّغ عن الله - تعالى - ما تحمل من دينه، فيَهدي به الناس؛ روى موسى بن عقبة عن الزهري - رحمه الله تعالى - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في تلك السِّنِينَ يعرض نفسه على قبائل العرب في كلِّ موسم، ويكلمُ كلَّ شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلاَّ أن يروه ويَمنعوه، ويقول: ((لا أكره أحدًا منكم على شيء، مَن رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يُراد بي من القتل؛ حتى أبلغ رسالات ربي، وحتى يقضيَ الله - عزَّ وجل - لي ولمن صحبني بما شاء الله))، فلم يقبله أحدٌ منهم، ولم يأتِ أحد من تلك القبائل إلاَّ قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أنَّ رجلاً يُصلحنا وقد أفسدَ قومه ولفظوه؟! فكان ذلك مما ذخر الله - عزَّ وجل - للأنصارِ وأكرمَهم به، فلما تُوفي أبو طالب ارتدَّ البلاءُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد ما كان، فعَمَدَ لثقيف بالطائف رجاء أن يأووه، فوجد ثلاثةَ نفر منهم سادة ثقيف يومئذ، فعرض عليهم نفسَه، وشكا إليهم البلاء وما انتهك منه قومه، فقال أحدهم: أنا أمرُق أستار الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قطُّ، وقال الآخر: أعجز الله أن يرسل غيرك؟! وقال الآخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا أبدًا، والله لئن كنت رسولَ الله، لأنت أعظم شرفًا وحقًّا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله، لأنت أشر من أن أكلمك، وتهزَّؤوا به، وأفشوا في قومِهم الذي راجعوه به، وقعدوا له صفين على طريقه، فلمَّا مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين صفيهم، جعلوا لا يرفع رجليه ولا يَضَعُهما إلا رضخوهما بالحجارة، حتى أدموا رجليه، فخلص منهم، وهما يسيلان الدِّماء، فعَمَد إلى حائطٍ من حوائطهم، واستظلَّ في ظل حَبَلَةٍ منه وهو مكروب موجع، تسيل رجلاه دمًا"؛ رواه أهل السير. وقد لخص النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما ناله من الأذى في سبيل دعوته بكلمات جامعة، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيها: ((لقد أُوذِيتُ في الله - عزَّ وجلَّ - ومَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ في الله ومَا يُخَافُ أَحَدٌ))؛ رواه أحمد وصححه ابن حبان. فلم يتنازل - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن شيء من دعوته، وصبر على أذى المشركين فيها؛ امتثالاً لأمر ربه - تبارك وتعالى - حين أمره بالصبْر، وحرصًا على إنقاذ أُمَّته بالإيمان من عذاب الله - تعالى - فجزاه الله - تعالى - عنَّا وعن المسلمين خيرَ ما يَجزي نبيًّا عن أمته، وصلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار. وأقول قولي هذا وأستغفر... الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مُباركًا فيه كما يُحب ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ï´¾ [آل عمران: 102]. أيها المسلمون، صَبَرَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أذى المشركين طاعةً لله - تعالى - إذ أمره بذلك في كثيرٍ من آي القرآن؛ ï´؟ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً ï´¾ [المعارج: 5]، ï´؟ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ï´¾ [المدثر: 7]، ï´؟ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ï´¾ [الإنسان: 24]، والملاحظ في آيات الصبر أنَّ كثيرًا منها قد ضُمِّن وعدًا بحسن العاقبة؛ ï´؟ فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ï´¾ [هود: 49]، ï´؟ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ï´¾ [الرُّوم: 60]، وفي كثير منها أمرٌ بلزوم ذكر الله - تعالى - وعبادته؛ لأنَّ الذكر والعبادة زاد قوة، ووقود صبر؛ ï´؟ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ ï´¾ [ق: 39]. إنَّه لا يمكن أن يقوم على دعوة الإسلام أحدٌ إلا والصبر زاده وعتاده، والصبر جُنَّته وسلاحه، والصبر ملجؤه وملاذه، فهذه الدعوة الربانية جهاد، جهادٌ مع النفس وشهواتها، وانحرافاتها، وضعفها، وشرودها، وعجلتها، وقنوطها، وجهاد مع أعداء الدعوة، ووسائلهم، وتدبيرهم، وكيدهم، وأذاهم، وجهاد مع النفوس عامَّة، وهي تتفصَّى من تكاليف هذه الدعوة وتتفلت، وتتخفى في أزياء كثيرة، وهي تخالف عنها، ولا تستقيم عليها، والداعية لا زادَ له إلا الصبرُ أمام هذا كله، والذِّكرُ وهو قرين الصبر في أكثر المواضع في القرآن. إنه حريٌّ بأهل الإسلام أن يتأسَّوا بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في التخلُّق بالصبر، فلا يحرفهم عن دين الحق وعدُ الكافرين ووعيدُهم، ولا ترغيب المنافقين وترهيبهم، فكلُّ ذلك يزول كما زالت قريشٌ وشِرْكها، وكما زال ابن سلول ونفاقه، وثبتت دعوة الإسلام شامخةَ البنيان، قوية الأركان، وإن رغمت أنوف أهل الكفر والنفاق. إنَّ الذين يضعفون أمامَ الحملات المنظمة التي يشنها الكُفَّار والمنافقون على الإسلام وشعائره ومناهجه ودعاته - يضرُّون أنفسهم ولن يضروا دين الله - تعالى - شيئًا، وإن الذين يُحرِّفون دين الله - تعالى - ليرضوا به الناس، ولينالوا به عَرَضًا من الدنيا سيرتد تحريفهم عليهم، وسيتحمَّلون أوزارَ من اتَّبعوهم في ضلالِهم، وسيبقى دينُ الله - تعالى - عزيزًا كما كان؛ لأنَّ الله - تعالى - هو من تولَّى حفظه، ولم يَكِلْ ذلك لأحد من خلقه؛ ï´؟ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ï´¾ [الحجر: 9]. وإنَّ من عظيم مجالات الصبرِ في الإسلام: الصبرَ عما أحدثه المبتدعة في دين الله - تعالى - وإن زخرفوا باطلَهم، ودعوا الناس إليه، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ومَحبة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هي في اتِّباعه وطاعته، والتزام سُنَّته، وليست في إحداث الموالد البدعية، والاحتفالات الموسمية بميلاده - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو إسرائه أو هجرته أو غير ذلك، كما أنَّ من الصبر في الدعوة بيانَ الحق في هذه البِدَع والضَّلالات، وعدم مُداهنة أحد فيها كائنًا من كان، مع الصبر على الأذى في ذلك، فإنَّ أهل البدعة في الدين لا بد أن يُلصقوا بالمتمسكين بالسنة تُهمَ التشدد والانغلاق والتطرف، وغير ذلك من الألفاظ التي يسكُّها الكفار، ويُسوِّقُها المبتدعة والمنافقون، ولا يصح إلا الصحيح، ولا يبقى إلا الحق وأهله؛ ï´؟ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ ï´¾ [آل عمران: 31 - 32]. وصلوا وسلموا... |
رد: الخلال النبوية
الخلال النبوية (8) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة الحمدُ لله ربِّ العالمين؛ وَفَّقَ مَن شاء مِن عباده للحقِّ المُبين، وأنالهم الإمامةَ بالصبر واليقين؛ ï´؟ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ï´¾ [السجدة: 24]. نحمَده على نِعَمه العظيمة، ونشكُره على آلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له؛ ابتلى عبادَه بالإيمان والكفر، والدنيا والآخِرة، والجنة والنار، وفَتَنَ بعضَهم ببعضٍ؛ ليُظْهِرَ أهلَ الصِّدقِ والصبر؛ ï´؟ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ï´¾ [الفرقان: 20]. وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ أُعْطِي فَشَكَرَ، وأُوذِي فَصَبَرَ، حتى قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لقَدْ أُوذِيتُ في الله، وما يُؤْذَى أَحَدٌ، ولقَدْ أُخِفْتُ في الله وما يُخَافُ أَحَدٌ))، صلَّى الله وسلَّم، وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه؛ عُذِّبوا في ذات الله - تعالى - وأُوذُوا في دِينِه، فثبتوا حتى لقوا ربَّهم - عزَّ وجلَّ - وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. أما بعد: فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واصْبروا على دِينكم، وصابروا الأعداءَ الذين يسعَوْن لفتنتِكم؛ فإنَّ الجنةَ جزاءُ ذلك، وهي سلعة الله - تعالى - الغالية؛ ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [آل عمران: 200]. قال الحسنُ البصري - رحمه الله تعالى -: "أُمِروا أن يصبروا على دِينِهم الذي ارْتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يَدَعُوه لسرَّاء ولا لضرَّاء، ولا لشدَّة ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداءَ الذين يكتمون دِينهم". أيُّها الناس: مَن طَالَعَ سِيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - واستعرضَ مراحلَ حياته، وَجَدَ أنَّه حُمِّل أعظمَ دعوة وأثقلَها، فأدَّاها وبلَّغها، وتحمَّل شدَّة الحياة وشظفها، وصَبَرَ على كَدرِها ومُرِّها، حتى لَقِيَ الله - تعالى - وذلك أنَّ الله - تعالى - أَمَرَه بالصبر الجميل الذي لا سَخَطَ فيه ولا شِكَاية؛ ï´؟ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً ï´¾ [المعارج: 5]. لقد أُوذِي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الله - تعالى - أشدَّ الأذى منذ أنْ أظهرَ دعوته حتى أَذِنَ الله - تعالى - له بالهجرة إلى دار الأنصار - رَضِي الله عنهم - وبالهجرة لم يَسْلَمْ من الأذى؛ إذ اجتمع عليه عَدُوَّانِ لَدُودانِ في المدينة؛ المنافقون واليهود، ومِن ورائهم المشركون في مكةَ، فصارَ يعالج بعد هجرته - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعداءً ثلاثة. إنَّ مَن قَرَأَ القرآنَ والسُّنَّة، وطَالعَ السيرةَ النبويَّة، سيظهر له كمْ صَبَرَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد هِجْرته على أعداء الإسلام الثلاثة، وعَامَلَ كلَّ عدوٍّ منهم بما تقتضيه مصلحةُ الإسلام، فكُفَّار مكَّةَ ما تركوه بعد هِجْرته، بل غزوه في المدينة؛ في بدرٍ وأُحُد والخنْدق، وفي أُحُد قَتلوا سبعين من أصحابه - رضي الله عنهم - وشجُّوا وجهَه الشريف، وكسروا رَبَاعِيَته، وهشَّموا البيضةَ على رأْسه، فصَبَرَ على ذلك، ولم يَزِدْ على أنْ دعا لهم. وأمَّا اليهود فمع تكذيبهم له، وصدِّهم عن دِينِه، وتحريضِ المشركين عليه، فإنَّهم نقضوا عهودَهم معه في أشدِّ الساعات ضِيقًا وحَرَجًا؛ رجاءَ القضاء عليه، وإبادة أتباعه، فصَبَرَ عليهم صَبْرًا لا يصبره أحدٌ غيره - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يكْفهم ذلك حتى حاولوا قتلَه غير مرَّة، وسحروه وسمُّوه، فقطع سُمُّهم نِياطَ قلبِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَهم قَتَلَتُه - عليه الصلاة والسلام - وعليهم لَعَنَاتُ الله - تعالى - المتتابِعة إلى يوم القيامة. لكنَّ المنافقين هم أكثرُ الطوائف الثلاث أذًى للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصَبَرَ عليهم ما لم يصبرْ على غيرهم، وعاملهم بظاهرِ حالهم، ووَكَلَ سرائرَهم إلى الله تعالى. وإنَّما كانَ المنافقون أشدَّ الطوائف الثلاث أذًى للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنهم يساكنونه، ويندسُّون في أصحابه - رضي الله عنهم - فيُخذِّلون ويُرجِفون ويَبثُّون الشائعات، ويُخبِرون اليهودَ والمشركين بعَوْرات المؤمنين، ومَن قَرَأَ آياتِ القرآن في المنافقين تَبَيَّنَ له شيءٌ مِن حَجْمِ الأذى الذي أصابَ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - منهم، وكيف صَبَرَ عليهم. لقد أظهروا الإيمانَ والطاعة للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكنَّهم أبطنوا الكفرَ ومحاربته، وهذا أشدُّ ما يكون من العداء؛ لخفاء أمرِهم على الناس، والعدوُّ الباطن يفعلُ أضعافَ ما يفعلُ العدوُّ الظاهر؛ لصعوبة التحرُّز منه، وهكذا كانَ حالُ المنافقين مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ ï´؟ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ï´¾ [النساء: 81]. وكان إظهارُهم للإيمان على وجه السُّخرية والاستهزاء والكيْد للمؤمنين، ليس غير ذلك؛ ولذا فَهُم يصفون المؤمنين بالسَّفَه؛ ï´؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ ï´¾ [البقرة: 13]، وفي آيةٍ أخرى: ï´؟ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ï´¾ [البقرة: 14]. وكانتْ لهم مجالس يسخرون فيها من دِينه الذي بلَّغه عن ربِّه - سبحانه - حِقْدًا في قلوبِهم، وصدًّا عن الدعْوة، ولا يحضرون الغزوَ مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلا للإرْجاف والتخذيل والسُّخرية، وإحداثِ الفِتنةِ؛ كما فعلوا في غزوة "تَبُوك" ففضحهم الله - تعالى - وبَيَّنَ كفرَهم؛ ï´؟ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ï´¾ [التوبة: 65 - 66]. وكم مِن فتنة حاولوا إشعالها بيْن المؤمنين؛ ï´؟ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ï´¾ [التوبة: 47 - 48]. وبَلَغَ أذاهم للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنهم يُضارُّونه في أماكنِ العبادة، وما ابتنوا مسجد الضِّرار إلا لذلك؛ ï´؟ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ï´¾ [التوبة: 107]. وكانوا يَصرِفون الناسَ عنِ الغزو مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ï´؟ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ï´¾ [التوبة: 81]، ويَصدُّونهم عن الإنفاق في سبيل الله - تعالى - تارة بالسُّخرية واللمْز؛ ï´؟ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ï´¾ [التوبة: 79]. وتارةً أخرى باستغلال ضوائقِ المؤمنين والتواصي على الإمساكِ؛ ليتفرَّقَ الناسُ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويتركوه؛ ï´؟ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ï´¾ [المنافقون: 7]. ويختلِقون المعاذير لتَخَلُّفِهم عن الغزو، وعن الإنفاقِ في سبيل الله تعالى؛ ï´؟ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ï´¾ [التوبة: 94]، ï´؟ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ï´¾ [الفتح: 11]. ويا ليْتَ أنَّهم حَفِظوا ذلك للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحمدوه به، حين لم يعاقبْهم، وعامَلَهم بظاهر حالِهم، ووَكَلَهم إلى أيْمانِهم، وصدَّقهم في أقوالهم، بل جعلوه موضعَ سُخريتهم وتندُّرِهم به - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ï´؟ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ï´¾ [التوبة: 61]؛ أي: يسمع منَّا، ويُصدِّقنا بما نقولُ، ولا يفرِّقُ بين صادقٍ وكاذب، فصَبَرَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على كلِّ هذا الأذى منهم. وكانوا يَشْمَتون به - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبأصحابه - رضي الله عنهم - إذا أصابتْهم مصيبةٌ؛ كما قالوا بعدَ أُحُد: ï´؟ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ï´¾ [آل عمران: 168]، وقالوا في الخندق: ï´؟ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ï´¾ [الأحزاب: 12]، وأخْبَرَ الله - تعالى - أنَّهم يفرحون بمصاب المؤمنين؛ ï´؟ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ï´¾ [التوبة: 50]، ومع ذلك كلِّه، فإنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - صَبَرَ عليهم؛ رجاءَ توبتهم، ولئلاَّ تقع فتنةٌ في المؤمنين بسببِهم. ومنهم مَن طعنوا في أمانة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعدلِه بسبب عَرَضٍ من الدنيا يطلبونه؛ ï´؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ï´¾ [التوبة: 58]، وكانَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقسمُ الغنائم بيْن الناس، فقال أَحدُهم: "اعْدِلْ"، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إذا لم أَعْدِلْ؟ قد خِبْتَ وخَسِرْتَ، إن لم أكُنْ أَعْدِلُ))، وقال آخَرُ: "اتَّقِ الله يا محمَّد، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فَمَنْ يُطِع الله إنْ عَصَيْتُهُ؟! أَيَأْمَنُنِي على أَهْلِ الأرض ولا تَأْمَنُونِي؟))؛ رواهما الشيخان. وتجاوزوا ذلك إلى الطَّعْنِ في عِرْضِه الشريف - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَرَمَوْا زوجَه بالزِّنا، وأشاعوا ذلك في الناس، واشتدَّ الكربُ بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أنْ فضحَهم الله - تعالى - في سورة النور، وبرَّأَ زوجَه مِنَ الخَنَا، وتحمَّل - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الأذى الشديد منهم، وصَبَرَ عليهم. ومِن عظيم أذاهم للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّهم وصفوه بالذِّلَّة، فصَبَرَ عليهم؛ {ï´؟ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ï´¾ [المنافقون: 8]، وحالفوا الكفَّار على المؤمنين؛ طَلَبًا للعِزَّة؛ ï´؟ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ï´¾ [النساء: 139]. وإنَّما كفَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن المنافقين، وصَبَرَ على أذاهم؛ امتثالاً لأمر الله تعالى: ï´؟ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ï´¾ [النساء: 63]، وفي آية أخرى: ï´؟ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ï´¾ [الأحزاب: 48]. نعوذ بالله - تعالى - من النِّفاق والمنافقين، ونسأله - سبحانه - الثَّباتَ على الإيمان واليقين، إنَّه سميعٌ مُجيب، وأقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله حَمْدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويَرْضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهْتَدَى بهُدَاهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ ï´؟ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ï´¾ [آل عمران: 131- 132]. أيُّها الناس: للصبرِ مَقامٌ عظيم في الدِّين، وجزاءٌ كبير عند ربِّ العالمين؛ ï´؟ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ï´¾ [الزمر: 10]، وبه تجمَّلَ الرُّسلُ - عليهم السلام؛ ï´؟ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ï´¾ [الأحقاف: 35]، وسببُ ذلك - والله أعلم - أنَّه لا ثباتَ على الدِّين إلا بالصبر؛ لأنَّ أذى الكفَّار والمنافقين شديدٌ لا يطيقه إلا الصابرون، ولأنَّ شهوات الدنيا وإغراءاتها تدعو النفوسَ إليها، ويَقتضي ذلك تنازلاً عن شيءٍ من الدِّين لأجْلِها، والنفس أمَّارة بالسوء، فلا يقهر نفسه عن الدنيا وزِينتها؛ ابتغاءَ رضوان الله - تعالى - إلاَّ الصابرون. وكمْ مِن نفوسٍ ضعيفة لم تُطِقْ أذى الكفَّار والمنافقين، ولم تصمدْ أمامَ تشكيكِهم في الدِّين، فتحوَّلتْ عن مناهجها إلى ما يُرْضيهم، وانتقلتْ من خِدْمة دِينِ الله - تعالى - إلى خِدمتهم، وتحقيق أهدافِهم؛ اتقاءً لضررِهم وأذاهم، أو طلبًا لِلُعَاعَةٍ من الدنيا يبذلونها لهم. ولمَّا وقعتْ حادثةُ الإسراء والمعراج، وحدَّثَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بها، لم يصدِّقْه إلا الصادقون في إيمانهم، الصِّدِّيقون في انتمائهم، الصابرون على دِينهم، المصابِرون في منابذةِ أعدائِهم. وأمَّا الضُّعفاءُ المذَبْذَبُون، فخارتْ عزائمُهم، ونَفَدَ صبرُهم، فارتدُّوا على أعقابهم؛ كما روتْ عائشةُ - رضي الله عنها - قالت: "لمَّا أُسْرِي بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المسجد الأقصى، أصبحَ يتحدَّثُ الناس بذلك، فارتدَّ ناسٌ ممَّن آمنوا به وصدَّقوه"؛ رواه الحاكم. وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما -: "أُسْرِي بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى بيْت المقْدِس، ثم جاء من ليلتِه فحدَّثهم بمسيرِه وبعلامة بيت المقْدِس وبعِيرِهم، قال أُنَاس: "نحن لا نصدِّق محمدًا، فارتدُّوا كفَّارًا، فضربَ الله أعناقَهم مع أبي جَهْل"؛ رواه أحمد. إنَّ الثباتَ على الدِّين لا يحقِّقه إلا أهلُ الصبر واليقين، ولهم الإمامةُ في الدِّين، كما تحقَّقَ ذلك للأنبياء والصِّدِّيقين، ومِن التخلُّق بأخلاق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - التأسِّي به في الصبرِ على أذى الكفَّار والمنافقين، والصبر عن الدنيا وملذَّاتها، والتمسُّك بسنَّتِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - والإعْرَاض عمَّا أحْدَثه المبتدِعةُ من أنواع البِدَع والضلالات، ومنها ما يفعلونه هذه الأيَّام؛ من الاحتفال بما يزعمونه ليلة الإسراء والمعراج، وما يفعلونه فيها مِن أنواع العبادات التي لا تَزيدهم مِن الله - تعالى - إلا بُعْدًا، مع أنَّ وقْتَ مِعْرَاجه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يُعْلَمُ على وجه التحديد ولا التقريب، لا في سَنَتِه ولا في شَهْرِه ولا في ليْلته، ولكنَّ أهلَ الأهواء أضلُّوا العامَّةَ بهذه المحْدَثات؛ لما أُشربوا في قلوبهم مِن الهوى والجهل، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أمَرَنا بالتمسُّك بسُنَّتِه، وحذَّرنا مِن الابتداع في الدِّين، وأخْبَرَنا أنَّ كل بدعةٍ ضلالة، وأنَّ كلَّ ضلالة في النار، وقدْ أَمَرَنا اللهُ - تعالى - بطاعة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لننال الفوزَ والفلاحَ: ï´؟ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾ [آل عمران: 31]، ï´؟ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ï´¾ [الحشر: 7]. وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم. |
رد: الخلال النبوية
|
رد: الخلال النبوية
الخلال النبوية (10) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله الغفور الشكور، العفوِّ الصبور؛ ما أحد أصبر على أذًى سَمِعه منه؛ يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقُهم، نحمده على عَطائه، ونشكره على نعمائه، ونسأله الصبرَ في بلائه؛ فإنَّه - سبحانه - يمنحُ المعونة على قَدْر المؤونة، ويُنزل الصبرَ على قَدْر البَلاء، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له؛ ï´؟ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ï´¾ [يس: 83]. وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله وخِيرته من خَلْقه، خطَب - صلَّى الله عليه وسلَّم - الناسَ فقال: ((إنَّ الله خيَّرَ عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبدُ ما عند الله))، فبكى أبو بكرٍ، قال أبو سعيد: فعجِبْنا لبُكائه أنْ يُخْبِرَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن عبدٍ خُيِّرَ، فكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمَنا - صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين. أمَّا بعدُ: فأُوصي نفسي وإيَّاكم - عباد الله - بتقوى الله - تعالى - فإنَّ التقوى مع الصبر من صفات ذوي العَزْم؛ ï´؟ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ï´¾ [آل عمران: 186]، وقال لقمان لابنه في موعظته له: ï´؟ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ï´¾ [لقمان: 17]. أيُّها الناس، الصبر من أعلى مَقامات اليقين، وبه مع التقوى تُنال الإمامة في الدِّين، وقد جمَّل الله - تعالى - به المرسَلِين، وأمَرَ به خاتم النبيِّين؛ ï´؟ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ï´¾ [النحل: 127]، ï´؟ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ï´¾ [الأحقاف: 35]، ï´؟ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ï´¾ [الطور: 48]. وأوَّل سورةٍ نزلتْ كان الأمر بالصبر حاضرًا فيها؛ ï´؟ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ï´¾ [المدثر: 7]. وآيات سواها كثيرة في كتاب الله - تعالى. والأخْذ بعزائم الشريعة - أمرًا ونَهْيًا - لا يُطِيقه إلا الصابرون، ومواجهة شرِّ الأقدار بالتسليم والرضا لا يَقْدِر عليه إلاَّ أهلُ الصبر، وكَدر الدنيا وكُرَبُها وهمومُها تحتاج إلى صبرٍ؛ ولذا أُمِر المؤمنون أنْ يستَعِينوا بالصبر على ذلك كلِّه؛ لينالوا معيَّة الله - تعالى - وعونه ومدده؛ ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ï´¾ [البقرة: 153]. وأنْ يتواصوا به فيما بينهم؛ ï´؟ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ï´¾ [العصر: 3]. وأمَّا الجزاءُ فعظيم جدًّا؛ ï´؟ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ï´¾ [الفرقان: 75]، ï´؟ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [النحل: 96]، ï´؟ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ï´¾ [المؤمنون: 111]، ï´؟ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ï´¾ [الإنسان: 12]. ويَكفي في جزائهم أنَّه بلا حساب؛ ï´؟ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ï´¾ [الزمر: 10]. وقَصَّ الله - تعالى - أخبارَ صبرِ الأنبياء - عليهم السلام - للتأسِّي بهم في ذلك؛ ففي صبر أيوب على مَرضه الشديد الطويل قال الله - تعالى - فيه: ï´؟ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ï´¾ [ص: 44]، وفي صبر إسماعيل وهو يُقَدَّم للذَّبْح؛ ï´؟ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ï´¾ [الصافات: 102]. وفي صبر يعقوب على فَقْدِ ولده قال: ï´؟ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ï´¾ [يوسف: 18]، وفي صبر يوسف على ما ناله من البلاء العظيم؛ ï´؟ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [يوسف: 90]. وقصَّ الله - تعالى - ذلك على نبيِّه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليثبتَ ويصبرَ؛ ï´؟ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ï´¾ [الأنعام: 34]. ï´؟ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ï´¾ [هود: 120]. فحقَّق - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعلى درجات الصبر، وتحمَّل في سبيل الله - تعالى - أنواعَ الأذى، وكلُّ ما قصَّ الله - تعالى - علينا من أنواع الابتلاءات التي ابتُلِيتْ بها الرُّسُل، فإنَّ نبيَّنا محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد ابْتُلِي بجميعها، وبما هو أشدُّ منها؛ فصَبَر صبرًا جميلاً، لا جزع فيه ولا سخطً ولا شكاية. لقد صبَر - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أذى المشركين في مكة، وعلى أذى اليهود والمنافقين في المدينة، وكلُّ هذه الطوائف الثلاث حاولتْ قتْلَه غير مرَّة، وصبرَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الابتلاءات العظيمة التي ابتُلِي بها في نفسه وأهْله وولده وقرابته، وصبرَ على شدَّة الفاقة، وإلحاح الحاجة، وكان ابتلاؤه منذ نشْأَته - صلَّى الله عليه وسلَّم. لقد لازمتْه الابتلاءات منذ صِغَره؛ فوُلِد يتيمًا، ونشأ فقيرًا، وفُجِع بوالدته طِفلاً لم يتجاوز ستَّ سنوات، فلم ينسَها قطُّ، والطفل لا يَنسى فَقْدَ أُمِّه؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "زار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبْرَ أُمِّه، فبكى وأبكى مَن حوله"؛ رواه مسلم. ثم فُجِع بجدِّه وهو ابن ثماني سنوات، فأعاله عمُّه الفقير أبو طالب فضمَّه إلى بَنِيه، فأعانه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو طفلٌ برعْي غنمِ أهْل مكةَ على قراريطَ، هذا اليتيم الفقير أرادَ الله - تعالى - أنْ يكونَ خاتَمَ المرسلين، وخيَّره بأنْ يكون مَلَكًا رسولاً، أو عبدًا رسولاً، فاختار الثاني. ولما بُعِث بالرسالة وآذاه المكذِّبون، فُجِع بموت المدافع عنه عمِّه أبي طالب، وبموت المواسية له زوجه خديجة - رضي الله عنها - في عامٍ واحدٍ سُمِّي: "عام الحُزن". لقد فُجِع - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قَرابته وأهْل بيته كأشدِّ ما يُفجع أحدٌ في أهْله، فتتابَع موتُهم عليه منذ صِغره - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورُزِق سبعةً من الولد: القاسم، وعبدالله، وإبراهيم، ورُقَيَّة، وأم كلثوم، وزينب، وفاطمة، ماتوا كلُّهم تباعًا أمامَه، إلاَّ فاطمة فماتتْ بعده، ودخل - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ابنه إبراهيم وهو في النَّزع، فأخذه، فقبَّله وشَمَّه - وإبراهيم يجود بنفسه - فجعلتْ عينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: "وأنت يا رسول الله!"، فقال: ((يا ابن عوف، إنها رحمة))، ثم أتْبعها بأخرى، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضِي ربَّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))؛ رواه الشيخان. وصبر - صلَّى الله عليه وسلَّم - على قلَّة ذات اليد، وعانَى شَظَف العيش، ووجَدَ ألَمَ الحِرمان، وأحسَّ بقَرْص الجوع، أخبر عنه بذلك ألْصقُ الناس به، فقالتْ عائشة - رضي الله عنها -: "إنَّ كنَّا لننظرُ إلى الهلال ثلاثة أهِلَّة في شهرين، وما أُوقِدتْ في أبيات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نارٌ"، وقالتْ: "ما أكل آلُ محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أكلتين في يوم إلا إحداهما تمرٌ"؛ رواهما البخاري. وقالتْ: "ما شَبِع آلُ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - منذ قَدِم المدينة من طعام بُرٍّ ثلاثَ ليالٍ تِباعًا، حتى قُبِض"؛ متفق عليه، وقالتْ: "وما شَبِع من خبز وزيتٍ في يوم واحد مرَّتين"؛ رواه مسلم. وقال خادِمُه أنس - رضي الله عنه -: "ما أعلم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى رغيفًا مُرقَّقًا حتى لَحِق بالله، ولا رأى شاة سَمِيطًا بعينه قطُّ - أي: شاة مشويَّة"؛ رواه البخاري. وأخبر ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "كان يَبِيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهْله لا يجدون عشاءً، قال: وكان عامَّة خُبزِهم خُبزَ الشَّعير"؛ رواه أحمد. وقال النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -: "لقد رأيتُ نبيَّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطْنَه"؛ رواه مسلم، وفي روايةٍ لأحمد: "لقد رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يظلُّ اليوم يلتوي ما يجدُ دَقَلاً يملأ به بطنَه". مع أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يحبُّ الطعام الطيِّب والشراب الطيِّب، لكنَّه لا يجده من قِلَّة ذات اليد؛ فقد ثبتَ أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يحبُّ الحَلْواء والعَسل، ويحب الذراع من اللحْم، ويتتبَّع الدُّبَّاء، وهي التي تسمَّى اليقطين أو القرع. وذات مرَّة أتتْه ابنته فاطمة - رضي الله عنها - بكِسرة فقال: ((ما هذه؟)) قالتْ: قرصٌ خبزتُه فلم تطبْ نفسي حتى آتيك بهذه الكِسرة، قال: ((أمَا إنَّه أوَّلُ طعامٍ دخَلَ فمَ أبيك منذ ثلاثة أيَّام))؛ رواه الطبراني. وكان مرضُه أشدَّ من مرض غيره، وحُمَّاه أحرَّ من حُمَّى سواه، وصداعه ليس كصداع الناس، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "دخلتُ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يُوعَك وعْكًا شديدًا، فمسَسْتُه بيدي، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّك لتوعك وعكًا شديدًا، فقال: ((أجَلْ، إني أُوعَكُ كما يُوعَك رجلان منكم))، فقلتُ: ذلك أنَّ لك أجرين"؛ مُتفق عليه. وسَمَّته اليهود في "خَيْبَر"، وسرى السمُّ في جسده الشريف، فعانى منه صداعًا شديدًا، وألَمًا فظيعًا وهو صابرٌ على ذلك، لا يزيد إذا اشتدَّ به الألَمُ على قوله: ((وا رأساه))، ومكَثَ وجَعُه أربعَ سنوات؛ حتى قطَعَ عِرْقَ قلبِه فمات - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما روتْ عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشة، ما أزال أجدُ ألَمَ الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاع أَبْهَري من ذلك السمِّ"؛ رواه البخاري. فعمل - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأمر الله - تعالى - له، وصبر كصبر أُولِي العَزْم من الرُّسل، حتى لَقِي الله - تعالى - وهو صابرٌ على أذى الناس له، راضٍ بما قضاه الله - تعالى - وقَدَّره عليه، فصلوات الله وسلامه عليه، صلاةً وسلامًا تامَّين دائمين ما تعاقَب الليل والنهار! الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، نحمده على ما أنعم وأوْلَى، ونشكُره على ما هدى وأسْدَى، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد: فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ ï´؟ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ï´¾ [الأنفال: 46]. أيُّها المسلمون، رغم ما يعيشه كثيرٌ من الناس من رَغَد العيش، وتتابُع النِّعم عليهم، وما رُزِقوا من وسائل الراحة والرفاهية، إلا أنَّ القلوب قَلِقَة، والنفوس ضيِّقة، والبركة تكاد تكون منزوعة من أوقات الناس وأعمالهم، وأعمارهم وأموالهم، ويزعجهم واقعُهم بتفصيلاته وتعقيداته، ويخافون المستقبل المجهول، ولا يدرون ما خُبِّئ لهم من الأقدار. كلُّ أولئك كان سببًا في أمراض القلق والاكتئاب التي قد تُودِي بأصحابها إلى الهلاك أو الجنون، ولا وقاية من ذلك كلِّه إلا بالصبر الذي أرشَدَ الله - تعالى - إليه، والصبر يُكْتَسب كما تُكْتَسب سائرُ الأخلاق، فمَن أراد النجاة، فليَتروَّض على الصبر، وقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ومَن يتصبَّر، يُصبِّره الله))؛ متفق عليه. إنَّ مَن عاش اليُتْمَ عليه أنْ يتذكَّر يُتْمَ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصبرَه، ومَن تألَّم لفراق أحبَّته وقرابته، فليتذكَّر فراقَ أحِبَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - له، وصبره على ذلك؛ فلقد فارَقَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُمُّه وجَدُّه وعمُّه، وزوجه وبنوه الثلاثة وثلاثة من بناته، ولم يبقَ له إلاَّ واحدة. ومَن عالج مرضًا مزمنًا فليتذكَّر مرضَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والسُّمَّ الذي كان يسري في جَسده حتى قتَلَه. ومَن عانَى قِلَّة ذات اليد واهتَمَّ لديون ركِبَتْه؛ فليتذكَّر جوعَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين كانتْ تمرُّ عليه ثلاث ليالٍ طاويًا، وليعْلَمْ أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - مات ودِرْعُه مرهونة في شيءٍ من شعير. ومَن أُوذِي في الله - تعالى - لدعوته، وصدعه بالحقِّ وأمره بالمعروف ونَهْيه عن المنكر، فليتذكَّر أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أُوذِي بما هو أشدُّ وأكثر، فقابَلَ الأذى بالحِلم والصَّفح والصبر؛ حتى أظهر الله - تعالى - دينَه، وأعلى شأنه، ورفَعَ ذِكْرَه، ودَحَر أعداءه، وما نال - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك إلا بالصبر والتقوى. إنَّ مقومات العيش الكريم ثلاث، جمعها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: ((مَن أصبح منكم آمنًا في سِرْبه، مُعافًى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنَّما حِيزتْ له الدنيا))؛ رواه الترمذي، وقال: حَسنٌ غريب. وكلُّ هذه الثلاثة افتَقدَها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كثيرٍ من أوقات حَياته؛ فكان لا يأمنُ غَدْرَ المشركين واليهود والمنافقين، وكانت الأمراض تُصِيبه حتى فتَكَ به السُّمُّ، وكان يجوع كثيرًا من قِلَّة ذات اليد، ولا يأتيه مالٌ إلاَّ أنفقَه ولم يدَّخِرْ لنفسه منه شيئًا، فمَن تذكَّر اجتماع ذلك على رسول الهدى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو خير خَلْق الله - تعالى - أجمعين، هانتْ مصائبُه ولو كانت عظيمة، وتأسَّى به في الصبر والرضا. والابتلاء لا بُدَّ منه للتمحيص والتطهير، ولا ينجو في أمواج الابتلاء ومحارق الفتن إلا مَن تسلَّح بالتقوى واستعان بالصبر والصلاة؛ ï´؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ï´¾ [آل عمران: 142]. وصلُّوا وسلِّموا. |
الساعة الآن : 02:40 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour